المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ٢

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)0%

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 272

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف: الإمام الكبير والـمُصنّف الشّهير الشّيخ فخر الدّين الطريحي النّجفي
تصنيف:

الصفحات: 272
المشاهدات: 32060
تحميل: 4352


توضيحات:

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 272 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32060 / تحميل: 4352
الحجم الحجم الحجم
المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء 2

مؤلف:
العربية

يسكن بعدهم إلى الطّمأنينة والدّعة وقد ضيّقوا عليهم الأرحبة والسّعة ، أو يقلّ من النّوح والأحزان وقد لاقوا الهوان من أبناء الزّمان ؟ ولِمَ لا نموت صبابة في هواهم ؛ طلباً لرّضى الله ورضاهم ؟ :

الموت مر ولكني إذا ظمئت

نفسي إلى المجد مستحل لمشربه

رئاسة ماض في رأسي وساوسها

تدور فيه وأخشى أن تدور به

حُكي عن زيد النّساج , قال : كان لي جار وهو شيخ كبير عليه آثار النّسك والصّلاح ، وكان يدخل إلى بيته ويعتزل عن النّاس ولا يخرج إلّا يوم الجُمُعة.

قال زيد النّساج : فمضيت يوم الجُمُعة إلى زيارة زين العابدين (عليه‌السلام ) , فدخلت إلى مشهده , وإذا أنا بالشّيخ الذي هو جاري قد أخذ من البئر ماء وهو يريد أن يغتسل الجُمُعة والزّيارة ، فلمّا نزع ثيابه , وإذا في ظهره ضربة عظيمة فتحتها أكثر من شبر وهي تسيل قيحاً ودماً , فاشمأزّ قلبي منها ، فحانت منه التفاتة فرآني فخجل , فقال لي : أنت زيد النّساج ؟ فقلت: نعم. فقال لي : يا بني , عاونّي على غسلي. فقلت : لا والله لا أعاونك حتّى تخبرني بقصّة هذه الضّربة التي بين كتفيك , ومن كفّ مَن خَرجت , وأيّ شيء كان سببها ؟ فقال لي : يا زيد , أخبرك بها بشرط أن لا تحدّث بها أحداً من النّاس إلّا بعد موتي. فقلت : لك ذلك. فقال : عاونّي على غسلي فإذا لبست أطماري حدّثتك بقصّتي.

قال زيد : فساعدته , فاغتسل ولبس ثيابه وجلس في الشّمس وجلست إلى جانبه وقلت له : حدّثني. فقال لي : اعلم إنّا كنّا عشرة أنفس قد تواخينا على الباطل وتوافقنا على قطع الطّريق وارتكاب الآثام , وكانت بيننا نوبة نديرها في كلّ ليلة على واحد منّا ؛ ليصنع لنا طعاماً نفيساً وخمراً عتيقاً وغير ذلك ، فلمّا كانت الليلة التّاسعة وكنّا قد تعشّينا عند واحد من أصحابنا وشربنا الخمر ، ثمّ تفرّقنا وجئت إلى منزلي وهدوت ونمت ، أيقظتني زوجتي وقالت لي : إنّ الليلة الآتية نوبتها عليك ولا في البيت عندنا حبّة من الحنطة. قال : فانتبهت وقد طار السّكر من رأسي وقلت : كيف أعمل وما الحيلة وإلى أين أتوجّه ؟ فقالت لي زوجتي : الليلة ليلة الجُمُعة ولا يخلو مشهد مولانا عليّ بن أبي طالب من زوّار يأتون إليه يزورونه , فقم وامض وأكمن على الطّريق , فلا بدّ أن ترى أحداً فتأخذ ثيابه فتبيعها وتشتري شيئاً من

١٨١

الطّعام ؛ لتتم مروتك عند أصحابك وتكافيهم على صنيعهم. قال : فقمت وأخذت سيفي وجحفتي ومضيت مبادراً , وكمنت في الخندق الذي في ظهر الكوفة , وكانت ليلة مُظلمة ذات رعد وبرق ، فأبرقت برقة فإذا أنا بشخصين مقبلين من ناحية الكوفة , فلمّا قربا منّي , برقت برقة اُخرى فإذا هُما امرأتان ، فقلت في نفسي : في مثل هذه السّاعة تأتي امرأتان ! ففرحت ووثبت إليهما وقلت لهما : اطرحا ثيابكما سريعاً. ففزعتا منّي ونزعتا ثيابهما ، فحسست عليهما حلياً , فقلت لهما: وانزعا الحلي التي عليكما سريعاً. فطرحتاه ، فأبرقت السّماء برقة اُخرى , فإذا إحداهما عجوز والاُخرى شابّة من أحسن النّساء وجهاً كأنّها ظبية قنّاص أو درّة غوّاص , فوسوس لي الشّيطان على أن أفعل بها القبيح , وقلت في نفسي : مثل هذه الشّابة التي لا يوجد مثلها حصلت عندي في هذا الموضع وأخلّيها ! فراودتها عن نفسها ، فقالت العجوز : يا هذا , أنت في حلّ ممّا أخذته منّا من الثّياب والحلي , فخلنا نمضي إلى أهلنا , فوالله أنّها بنت يتيمة من اُمّها وأبيها وأنا خالتها , وفي هذه الليلة القابلة تُزفّ إلى بعلها ، وإنّها قالت لي : يا خالة , إنّ الليلة القابلة اُزفّ إلى ابن عمّي , وأنا والله راغبة في زيارة سيّدي عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) , وإنّي إذا مضيت إلى بعلي رُبّما لا يأذن لي بزيارته. فلمّا كانت هذه الليلة الجُمُعة , خرجت بها لأزوّرها مولاها وسيّدها أمير المؤمنين ، فبالله عليك , لا تهتك سترها ولا تفض ختمها ولا تفضحها بين قومها.

فقلت لها : إليك عنّي. وضربتها وجعلت أدور حول الصّبيّة وهي تلوذ بالعجوز , وهي عريانة ما عليها غير السّروال , وهي في تلك الحال تعقد تكّتها وتوثّقها عقداً ، فدفعت العجوز عن الجارية وصرعتها إلى الأرض , وجلست على صدرها ومسكت يديها بيد واحدة , وجعلت أحلّ عقد التكّة باليد الاُخرى وهي تضطرب تحتي كالسّمكة في يد الصّياد , وهي تقول : الـمُستغاث بك يا الله ! المستغاث بك يا عليّ بن أبي طالب , خلّصني من يد هذا الظّالم ! قال : فوالله , ما استتم كلامها إلا وأحسّ حافر فرس خلفي , فقلت في نفسي : هذا فارس واحد وأنا أقوى منه. وكانت لي قوّة زائدة وكنت لا أهاب الرّجال قليلاً أو كثيراً , فلمّا دنى منّي , فإذا عليه ثياب بيض وتحته فرس أشهب تفوح منه رائحة المسك ، فقال لي : (( يا ويلك خلّ المرأة ! )). فقلت له : اذهب لشأنك , فأنت نجوت بنفسك وتريد تنجي

١٨٢

غيرك. قال : فغضب من قولي ونفحني بذبال سيفه بشيء قليل , فوقعت مغشيّاً عليّ لا أدري أنا في الأرض أو في غيرها , وانعقد لساني وذهبت قوّتي لكنّي أسمع الصّوت وأعي الكلام ، فقال لهما : (( قوما البسا ثيابكما وخذا حليكما وانصرفا لشأنكما )). فقالت العجوز : فمَن أنت يرحمك الله وقد مَنّ الله علينا بك ؟ وإنّي أريد أن توصلنا إلى زيارة سيّدنا عليّ بن أبي طالب.

قال : فتبسّم في وجوههما وقال لهما : (( أنا عليّ بن أبي طالب , ارجعا إلى أهلكما فقد قبلت زيارتكما )). قال : فقامت العجوز والصّبيّة وقبّلا يديه ورجليه وانصرفا في سرور وعافية.

قال الرّجل : فأفقت من غشوتي وانطلق لساني , فقلت له : يا سيّدي , أنا تائب إلى الله على يدك , وإنّي لاعدت أدخل معصية أبداً. فقال : (( إن تبت تاب الله عليك )). فقلت له : تبت والله على ما أقول شهيد. ثمّ قلت له : يا سيّدي , إن تركتني في هذه الضّربة هلكت بلا شكّ. قال : (( فرجع إليّ )). وأخذ بيده قبضة من تراب ، ثمّ وضعها على الضّربة ومسح بيده الشّريفة عليها , فالتحمت بقدرة الله تعالى.

قال زيد النّساج : فقلت له : كيف التحمت وهذا حالها ؟ فقال لي : والله , إنّها كانت ضربة مهولة أعظم مما تراه الآن, ولكنّها بقيت موعظة لمن يسمع ويرى.

ولا شكّ أنّ عليّاً والأئمة (عليهم‌السلام ) أحياء عند ربّهم يُرزقون :

بني الوحي والآيات يا من مديحهم

علوت به قدراً وطبت به ذكرا

مهابط سر الله خزان علمه

وأعلى الورى فخراً وأرفعهم قدرا

ركائب آمالي إليكم حثثتها

فلا أرتجي في النّاس زيداً ولا عمرا

ومن ذا الذي أضحى بربع نداكم

نزيلاً فما أبدلتم عسره يسرا

عن ابن عبّاس وأبي رافع , قالا : كنّا جلوساً عند النّبي , إذ هبط جبرائيل ومعه جام من البلّور الأحمر مملوء مسكاً وعنبراً، فقال له : السّلام عليك ، الرّبّ يقرؤك السّلام ويحيّيك بهذه التّحية ويأمرك أن تحيّي بها عليّاً وولديه. فلمّا صارت في كفّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , هلّلت ثلاثاً وكبّرت ثلاثاً ، ثمّ قالت بلسان ذرب :( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) (١) . فشمّها النّبي ثمّ حيّى بها عليّاً , فلمّا صارت في كفّ عليّ , قالت :( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٢) . فاشتمّها عليّ (عليه‌السلام ) وحيّى بها

____________________

(١) سورة طه / ١ - ٢.

(٢) سورة المائدة / ٥٥.

١٨٣

الحسن ، فلمّا صارت في كفّ الحسن , قالت :( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) (١) . فاشتمّها الحسن وحيّى بها الحُسين (عليه‌السلام ) , فلمّا صارت في كفّ الحُسين , قالت :( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٢) . ثمّ رجعت إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فقالت :( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) . فلم ندري صعدت في السّماء أم نزلت في الأرض بقدرة الله تعالى.

وهل هذا يا إخواني إلّا من بعض كراماتهم وفضائلهم ونكاتهم , الآيات الباهرة والمعجزات بيّنة ظاهرة ، وساداتنا هُم والله شفعاء المذنبين في الآخرة ، فيحقّ لمثلهم أن يبكي الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ حسن النّجفي (رحمه‌الله )

لمصاب الكريم زاد شجوني

فاعذلوني أو شئتموا فاعذروني

كيف لا أندب الكريم بجفن

مقرح بالبكاء وقلب حنيني

وقليل أن سح من غير عين

دمع عيني من ذاريات جفوني

يا لها من محاجر هاميات

بخلت وابل الغمام الهتوني

وجفون أن أصبح الماء غوراً

من بكاها جاءت بماء معين

لقتيل بكت له الجن والإنس

وسكان سهلها والحزون

لهف قلبي عليه وهو جديل

فوق وجه الصعيد امي الجبين

يتلظى من الصدى وعلى الخد

جواري عيونه كالعيون

لهف قلبي لثغره وهو يفتر

نظاماً كاللؤلؤ المكنون

قد علاه قضيب كف يزيد

الباغي الطاغي الظلوم الخؤون

لست أنساه بالطفوف فريداً

منشداً من لواعج وشجون

ليت شعري لأي ذنب ويا ليت

على أي بدعة يقتلوني

إن يكن قد جهلتموا الفضل منا

فاسألوا محكم الكتاب المبين

والدي أشرف الورى بعد جدّي

وأخي أصل كلّ فضل ودين

والبتول الزّهراء أمي وعمي

ذو الجناحين صاحب التمكين

____________________

(١) سورة النّبأ / ٢.

(٢) سورة الشّورى / ٢٣.

١٨٤

وينادي يا أم كلثوم قومي

قبل تفريق شملنا ودّعيني

واذرفي دمعك المصون على الخد

ونوحي عليّ ثمّ اندبيني

وإذا ما رأيت مقتول ظلم

منعوه عن حقه فاذكروني

لهف قلبي لزينب وهي تبكي

وتنادي من قلبها المحزون

يا أخي يا مؤملي يا رجائي

يا منائي يا مسعدي يا معيني

كنت أمناً للخائفين ويمناً

للبرايا في كلّ وقت وحين

بم تشدي من خاطري مستهام

موثق بالأسى وقلب رهين

يا هلالاً لـمّا استتم ضياءاً

غيبته بالطف أيدي المنون

ليت عينيك يا شقيقي ترانا

حاسرات من بعد خدر وصون

سافرات الوجوه متهتكات

بين عبد باغ ووغد لعين

آل طه يا من بهم يغفر الله

ذنوبي وما جنته يميني

وأماني في يوم بعثي وأمني

عند خوفي من كلّ خطب وضيني

أنتم قبلتي وحجتي وفرضي

وصلاتي وأصل نسكي وديني

من تمسك بكم وأمّ إليكم

قد نجا والتجا بحصن حصين

لا أبالي وإن تعاظم ذنبي

يوم بعثي لكن يقيني يقيني

كل عزي بين الأنام وفخري

يوم حشري بأنكم تقبلوني

بعتكم مهجتي بعد صحيح

عن تراض ولست بالمغبون

أنا منكم لكم بكم وإليكم

فرط وجدي وذا حنين أنيني

قد بذلت المجهود بالمدح منّي

حسب جهدي ولم أكن بضنين

ذركم لم يزل جليسي أنيسي

مسعفي عند حركتي وسكوني

أنتم لا سواكم وإليكم

لا إلى غيركم تساق ظعوني

لا أبالي إذا حضيت لديكم

قربوني الأنام أو أبعدوني

سوف أصفيكم الوداد بقلب

ولسان كالصارم المسنوني

وإذا ما قضيت بحبي ستبقى

بعد مودتي مدائحي وفنوني

وإليكم من عبدكم حسن النجفي

قصيداً تزهو كدر ثمين

بكر نظم لها القبول صداق

فاقبلوها يا سادتي وارحموني

وعليكم من الإله صلاة

كلما ناح طائر في الغصون

١٨٥

المجلس التّاسع

من الجزء الثّاني في الليلة العاشرة من الـمُحرّم

وفي ابتداء مصرع الحُسين (عليه‌السلام )

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأوّل

أمّا بعد ، أيّها المؤمنون , فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة ، فتحه الله لخاصّته وأوليائه وأحبّائه وخُلصائه ، وهو لباس التّقوى ودرع الله الحصينة وجنّته الوثيقة ، فمَن تركه رغبة عنه , ألبسه الله ثوب الذّل وشمله البلاء , وديث بالصّغار وضرب على قلبه بالإسهاب , وأديل الحقّ بتضييع الجهاد , وسيم الخسف ومُنع النّصف. ألا وإنّ مَن أهَّله الله لذلك الشّهداء من الأنصار والأقرباء , فإنّهم لمّا علموا أنّهم لا ينالون لبس الخلعة السّنية , إلّا بخلع الحياة وركوب المنيّة , وإنّهم لا يعلون إلى مطلوبهم , إلّا ببذل النّفوس في طاعة محبوبهم ، وتيقّنوا أنّها المرتبة العالية والبيعة الرّاجحة الغالية , وبذلوا الأرواح يوم الكفاح , واتلفوا الأجساد يوم الجلاد والأبدان يوم الطّعان ، فلو شاهدت كلّ واحد منهم يوم الطّفوف وهو يبادر إلى طعن الرّماح وضرب السّيوف ، لرأيت الأمر العظيم والخطب الجسيم ، ولمثل هذا فليعمل العاملون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون :

يلقى الرماح بنحره فكأنها

في قلبه عود من الريحان

ويرى السيوف وصوت وقع حديدها

عرساً يجليها عليه غواني

فيا لها من منيّة حصلوها وفضيلة أحرزوها , فاقوا بها الأوّلين والآخرين في رضى مولاهم الحُسين بن أمير المؤمنين. ولعمري , أنّه جهاد أعظم من جهاد

١٨٦

أنصار الإمام أبي عبد الله (عليه‌السلام ) , أَذِن لهم في ترك القتال وقال : (( اذهبوا في هذا الليل بمن معي من الآل , فأنا بغية هؤلاء الأرجاس وقتلى مرادهم دون النّاس )). فأبوا واختاروا الموت على الحياة في طاعته والفناء لإجابته , ولله درّ مَن قال فيهم :

جادوا بأنفسهم في حُبّ سيدهم

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

فلو رأيتهم وقد أقبلوا على القتال يجالدون بالسّيوف في حومة النّزال , يستبشرون بذهاب الأعمار لـمّا كشف عن أبصارهم فشاهدوا الجنّة والنّار. ولله درّ بعض مادحيهم حيث نظم وقال فيهم :

قوم إذا نودوا لدفع ملمة

والقوم بين مدعس ومكردس

لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا

يتهافتون على ذهاب الأنفس

وقوا بنفوسهم نفوس الطّاهرين البررة , حتّى اُبيدوا عن آخرهم بأيدي الطُغاة الفجرة ، فكم يومئذ من كبد مقروحة ودمعة مسفوحة , ومن لاطمة خدّها ونادبة جدّها ومنشور شعرها ومهتوك سترها , وكم من مريض يئنّ وثاكلة تحنّ , وكم من كريم على رأس السّنان وشريف يسام الخسف والهوان , وكم من طفل مذبوح ودم لآل رسول الله مسفوح , وكم من أكباد محترقة من الظّماء وأجساد مرمّلة بالدّماء , وربّات خدر بارزات ومغلولات حاسرات ! فوا عجباه بما حلّ بالآل من اللئام الكفرة الأنذال ! :

وجرع كأس الموت بالطف أنفس

كرام وكانوا للرسول ودائعا

وبدل سعد التم من آل هاشم

بنحس وكانوا كالبدور طوالعا

وقال آخر :

أديرت كؤوس للمنايا عليهم

فأعفوا عن الدُنيا كاعفاء ذي السكر

فأجسامهم في الأرض قتلى بحبه

وأرواحهم في الحجب نحو العلى تسري

فما عرسوا إلّا بقرب حبيبهم

وما عرجوا من مس بؤس ولا ضر

روي عن سعيد بن جبير , عن ابن عبّاس , قال : كنت عند رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) جالساً إذ أقبل الحسن (عليه‌السلام ) , فلمّا رآه بكى وقال : (( إليّ إليّ )). فأجلسه على فخذه

١٨٧

اليمنى ، ثمّ أقبل الحُسين (عليه‌السلام ) , فلمّا رآه بكى وقال : مثل ذلك. وأجلسه على فخذه اليسرى ، ثمّ أقبلت فاطمة (عليها‌السلام ) , فلمّا رآها بكى وقال : مثل ذلك. وأجلسها بين يديه ، ثمّ أقبل عليّ (عليه‌السلام ) , فرآه فبكى وقال : مثل ذلك. فأجلسه إلى جانبه الأيمن , فقال له أصحابه : يا رسول الله , ما ترى واحداً من هؤلاء إلّا وبكيت له وما فيهم إلّا من تسرّ برؤيته ؟ فقال : (( والذي بعثني بالنّبوة واصطفاني بالرّسالة على جميع البرية , ما على وجه الأرض نسمة أحبّ إليّ منهم , وإنّما بكيت لما يحلّ بهم بعدي , وذكرت ما يُصنع بولدي هذا الحُسين , فكأنّي به وقد استجار بحرمي وقبري فلا يُجار , فيرتحل إلى أرض مقتله ومصرعه أرض كربلاء , تنصره عصابة من المُسلمين , أولئك سادات شهداء اُمّتي يوم القيامة , كأنّي أنظر إليه وقد رُمي بسهم فخرّ عن سرجه طريحاً(١) ، ثمّ يُذبح كما يُذبح الكبش مظلوماً )). ثمّ انتحب وبكى وأبكى مَن كان حوله , وارتفعت أصواتهم بالضّجيج , ثمّ قام وهو يقول : (( اللّهمّ , إنّي أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي من بعدي )).

وفي بعض الأخبار : أنّ الحُسين دخل على أخيه الحسن , فلمّا نظر إليه بكى , فقال : (( ما يبكيك يا أبا عبد الله الحُسين ؟ )). فقال : (( بلى , لِما يُصنع بك )). فقال الحسن : (( إنّ الذي يؤتى إليّ بالسّم فاُقتل به(٢) , ولكن لا يوم كيومك ! يزدلف إليك ثلاثون ألف رجُل يدّعون أنّهم من اُمّة جدّنا , فيجتمعون على قتلك وسفك دمك , وانتهاك حُرمتك وسبي ذراريك ونسائك , وانتهاك رحلك وثقلك , فعندها تحلّ على اُميّة اللعنة وتمطر السّماء دماً , ويبكي عليك كلّ شيء حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار )).

فيا إخواني , تساعدوا على النّياحة والعويل واسكبوا عبراتكم على الغريب القتيل الذي اهتزّ لمصابه عرش الجليل ، ولئن حجبتكم عن نصرتهم الأقدار على ما يشاء القادر المُختار , فلا عذر لكم عن لبس جلابيب العزاء وإظهار شعار الحزن والبكاء , وهو من أقلّ القليل في هذا القبيل :

يا سادة شرف الكتاب بما حوى

فيهم من الإجلال والإعظام

يا من إذا ذكر اللبيب مصابهم

هانت عليه مصائب الأيام

قسماً بمن فرض الولاء على الورى

لكم وذلك أعظم الإقسام

ما أطمع الارجاس فيما أبدعوا

فيكم وجرّأهم على الإقدام

____________________

(١) في المصادر الاُخرى : صريعاً. (معهد الإمامين الحسنين).

(٢) ورد في آمالي الشّيخ الصّدوق /١٧٧, هكذا : إنّ الذي يؤتى إليّ سمّ يدسّ إليّ فاُقتل به. (معهد الإمامين الحسنين).

١٨٨

إلّا الذين تعاقدوا أن ينقضوا

ما أحكم الهادي من الإبرام

روي : أنّه لـمّا قُبض الحسن (عليه‌السلام ) , اجتمع نفر من أهل الكوفة في دار رجل منهم , وكتبوا إلى الحُسين كتاباً يعزّونه على أخيه الحسن , ويذكرون فيه : إنّا شيعتك والمصابون لمصيبتك والمحزونون لحزنك والمنتظرون لأمرك , شرح الله صدرك وغفر ذنبك ورفع ذكرك وعلا قدرك وردّ عليك حقّك , والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته.

وصار النّاس يقولون : إن هلك معاوية , يكن الأمر للحُسين (عليه‌السلام ). فبلغ ذلك معاوية , فبعث يستعتب الحُسين بكلام يذكر فيه : أمّا بعد , فقد بلغني عنك اُمور وأسباب وأظنّها باطلة , فلا تُسمعني إلى قطيعتك يا أبا عبد الله ، فمتى أكرمتني أكرمتك ومتى أهنتني أهنتك ، فلا تشق عصا هذه الاُمّة , فقد جرّبتهم وبلوتهم , وأبوك من قبلك كان أفضل منك وقد أفسدوا عليه رأيه ، وإيّاك تسمع كلام السّفهاء الذين لا يعلمون بعواقب الاُمور.

فكتب الحُسين (عليه‌السلام ) كتاباً إليه يعتذر فيه , إلى أن دنا من معاوية الموت , أوصى إلى ابنه يزيد وكان غائباً , وكتب له كتاباً يذكر فيه : اعلم يابني , إنّي قد وطّأت لك البلاد وذللت لك الرّقاب الشّداد ، ولست أخشى عليك إلّا من أربعة أنفر , فإنّهم لا يبايعونك على هذا الأمر. وذكر منهم الحُسين , ودفع الكتاب إلى الضّحاك بن قيس وأمره أن يوصله إلى يزيد عند قدومه من غيبته ، ثمّ إنّ معاوية قضى نحبه , فأرسل الضّحاك إلى يزيد رسولاً يخبره بموت أبيه , فجزع جزعاً عظيماً وبقي أيّاماً لا يخرج من داره , فلمّا خرج بعد ذلك , جاء النّاس يعزّونه ويهنونه , وكان من جملتهم الضّحاك بن قيس , فدفع إليه الوصية , فلمّا فضّها وقرأها , بكى حتّى غُشي عليه , فلمّا أفاق , خرج فرقى المنبر وخطبهم خطبة يذكر فيها موت أبيه وأنّه ولاه الأمر من بعده ، ثمّ نزل عن المنبر وكتب إلى الوليد بن عتبة - وكان يومئذ والياً على المدينة - كتاباً يأمره أن يأخذ البيعة على أهلها , وبعث إلى عمر بن سعد بالرّي وأمره أن يأخذ البيعة على أهلها , ونفذ إلى جميع الأمصار بذلك , فبايعوه إلّا أهل الكوفة والمدينة.

وكان فيما بعث إلى الوليد يقول : خُذ لنا البيعة على من قبلك عامة وعلى هؤلاء الأربعة أنفر خاصّة وهُم ؛ عبد الرّحمن بن بكر , وعبد الله بن عمر بن الخطاب , وعبد الله بن الزّبير , والحُسين بن عليّ , فمَن لم يبايعك منهم , فانفذ إليّ برأسه.

فلمّا قرأ الكتاب , بعث

١٨٩

إلى مروان بن الحكم - وكان قد جفاه من أجل الإمارة , لأنّه كان والياً من قبله على المدينة - فلمّا دخل عليه , قرّبه وأدناه وقرأ عليه الكتاب , فقال له مروان : الرّأي , أن ترسل إلى هؤلاء الأربعة وتدعوهم إلى البيعة والدّخول في الطّاعة , فإن أبوا , فاضرب أعناقهم. فأرسل في طلبهم , فقالوا للرسول : انصرف.

أقبل عبد الله بن الزّبير على الحُسين (عليه‌السلام ) , وقال : يابن رسول الله , أتدري ما يُريد الوليد منّا ؟ قال : (( نعم ، اعلموا أنّه قد مات معاوية وتولّى الأمر من بعده ابنه يزيد , وقد وجّه الوليد في طلبكم ؛ ليأخذ البيعة عليكم , فما أنتم قائلون ؟ )). فقال عبد الرّحمن : أمّا أنا , فأدخل بيتي وأغلق بابي ولا أبايعه. وقال عبد الله بن عمر : أمّا أنا , فعليّ بقراءة القُرآن ولزوم المحراب. وقال عبد الله بن الزّبير : أمّا أنا , فما كنت بالذي أبايع يزيد.

وقال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( أمّا أنا , فأجمع فتياني وأتركهم بفناء الدّار وأدخل على الوليد وأناظره وأطالب بحقّي )). فقال له عبد الله بن الزّبير : إنّي أخاف عليك منه. قال : (( لست آتيه إلّا وأنا قادر على الامتناع منه إن شاء الله تعالى )). ثمّ إنّه (عليه‌السلام ) نهض إلى منزله , فأرسل إلى أهله وشيعته ومواليه فاقبلوا إليه , فأتى إلى دار الوليد وقال لهم : (( إنّي داخل على هذا الرّجل , فإن سمعتم صوتي فاهجموا عليه , وإلّا فلا تبرحوا حتّى أخرج إليكم )). ثمّ دخل على الوليد , فقرّبه وأدناه وأراه الكتاب ودعاه إلى البيعة ، فقال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( إنّ مثلي لا يبايع خلف الأبواب سرّاً دون الجهر , ولكن إذا خرجت ودعوت النّاس , كنت أوّل من بايع )). فقال : انصرف يا أبا عبد الله واتنا غداً مع النّاس. فقال مروان : فإنّك الثّعلب فلا ترى إلا غباره(١) , واحذر أن يخرج حتّى يبايعك أو تضرب عنقه. فلما سمع الحُسين , وثب قائماً وقال : (( يابن الزّرقاء , أنت تقتلني أم هؤلاء لا أمّ لك ؟! يابن اللخناء , والله لقد أهجت عليك وعلى صاحبك منّي حرباً طويلاً )). ثمّ خرج , فقال مروان للوليد : عصيتني , والله لا قدرت على مثلها أبداً. فقال له الوليد : ويحك لقد اخترت لي ما فيه هلاكي وهلاك ذرّيّتي ! فوالله ما أحبّ أن يكون لي ملك الدُنيا وأنا مُطالب بدم الحُسين , وإنّ كلّ أمريء يكون مطالباً بدمه , لخفيف الميزان يوم القيامة. فقال له مروان : مثلك ينبغي أن يكون سائحاً في البراري والقفار ولا

____________________

(١) هكذا هو الموجود في هذا الكتاب , والظّاهر إنّ الصّحيح هو : فإن فاتك الثّعلب فلا ترى إلا غباره. (معهد الإمامين الحسنين).

١٩٠

يكون أميراً. ثمّ إنّ الوليد أرسل إلى الحُسين (عليه‌السلام ) رُسلاً بالليل وقال لهم : لا ترجعوا إلّا به. فساروا إليه مستعدّين لذلك , فوجدوه قد طلع يُريد مكّة بأهله وبني عمّه إلّا مُحمّد بن الحنفيّة.

فيا حرّ قلبي تزايدي , ويا نار وجدي توقّدي , ويا فؤادي القريح من الحزن والكآبة لا تستريح ! ولله درّ مَن قال من الرّجال :

ويل لمن شفعاؤه خصماؤه

والصور في نشر الخلائق ينفخ

لا بد أن ترد القيامة فاطم

وقميصها بدم الحُسين ملطخ

روي عن بعض نقلة الآثار : أنّه لـمّا أراد الحُسين (عليه‌السلام ) الخروج إلى مكّة , قال له مُحمّد بن الحنفيّة : يا أخي , إنّي خائف عليك أن تأتي مصراً من هذه الأمصار فيختلفون عليك , فتكون قتيلاً بينهم ويذهب دمك وتهتك حرمك. قال له الحُسين : (( إنّي أقصد مكّة , فإن اطمأنّت بي البلاد , أقمت بها , وإن كان الاُخرى , لحقت بالرّمال والشّعاب حتّى ننظر ما يكون )).

ثمّ أتى قبر جدّه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) والتزمه وبكى بكاءاً شديداً , وقال : (( بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ! لقد خرجت من جوارك كُرهاً وقد فُرّق بيني وبينك ؛ حيث إنّي لم اُبايع ليزيد بن معاوية شارب الخمور وراكب الفجور , وها أنا خارج من جوارك على الكراهة , فعليك منّي السّلام )). ثمّ أخذته النّعسة , فرأى في منامه رسول الله وإذا هو قد ضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه , وقال : (( حبيبي يا حُسين , كأنّي أراك عن قليل مُرمّلاً بدمائك مذبوحاً بأرض كرب وبلاء بين عصابة من اُمّتي , وأنت في ذلك عطشان ولا تُسقى وظمآن لا تُروى , وهم في ذلك يرجون شفاعتي , ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة , فما لهم عند الله من خلاف. حبيبي يا حُسين , إنّ أباك واُمّك وأخاك قد قدموا عليّ وهم إليك مشتاقون , إنّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلّا بالشّهادة )).

قال : فجعل الحُسين (عليه‌السلام ) في منامه ينظر إلى جدّه ويسمع كلامه وهو يقول : (( يا جدّاه ! لا حجّة لي في الرّجوع إلى الدُنيا , فخذني إليك وادخلني معك إلى قبرك )). فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( يا حُسين , إنّه لا بدّ لك من الرّجوع إلى الدُنيا ؛ حتّى تُرزق الشّهادة وما قد كتب الله لك فيها من الثّواب العظيم , فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعم أبيك , تُحشرون في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنّة )).

قال : فانتبه الحُسين (عليه‌السلام ) من نومه فزعاً مرعوباً , فقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد الـمُطلب , فلم يكن في ذلك اليوم

١٩١

في شرق ولا غرب قوم أشدّ غمّاً من أهل البيت ولا أكثر باكية ولا باك.

قال : وتهيّأ الحُسين وعزم على الخروج ودعا بمُحمّد بن الحنفيّة وقال له : (( يا أخي , إنّي عازم على الخروج إلى مكّة , وقد تهيأت لذلك أنا وأخوتي وبنو أخي وشيعتي , وأمرهم أمري ورأيهم رأيي , وأمّا أنت يا أخي , فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم , ولا تخف عليّ شيئاً من أمورهم )).

قال : ثمّ دعا الحُسين (عليه‌السلام ) لأخيه بدواة وبياض فكتب : (( هذه وصية الحُسين لأخيه مُحمّد : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , هذا ما أوصى به الحُسين بن عليّ بن أبي طالب إلى أخيه مُحمّد بن عليّ , المعروف بابن الحنفيّة : إنّ الحُسين بن عليّ يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له , وأنّ مُحمّداً عبده ورسوله جاء بالحقّ من عند الحقّ , وأنّ الجنّة والنّار حقّ , وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها , وأنّ الله يبعث مَن في القبور ، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مُفسداً ولا ظالماً , وإنّما خرجت أطلب(١) الإصلاح في اُمّة جدّي مُحمّد , أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر , وأسير بسيرة جدّي مُحمّد وسيرة عليّ بن أبي طالب وسيرة الخُلفاء الرّاشدين المهديين , فمَن قبلني بقول الحقّ , فالله أولى بالحقّ , ومَن ردّ عليّ هذا , أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ , ويحكم بيني وبينهم وهو خير الحاكمين. هذه وصيتي إليك يا أخي , وما توفيقي إلّا بالله العليّ العظيم )).

ثمّ طوى الحُسين كتابه وختمه بخاتمه ودفعه إلى أخيه مُحمّد بن الحنفيّة ، ثمّ ودّعه وخرج في جوف الليل يُريد مكّة في جمع من أهل بيته , وذلك لثلاث ليال مضين من شعبان سنة ستّين من الهجرة. فلزم الطّريق الأعظم , فجعل يسير وهو يتلو هذه الآية :( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (٢) .

وعن سكينة بنت الحُسين (عليهما‌السلام ) , قالت : لـمّا خرجنا من المدينة , ما كان أحد أشدّ خوفاً منّا أهل البيت ، ثمّ إنّ الحُسين ركب الجادّة , فقال له ابن عمّه مُسلم بن عقيل : يابن رسول الله , لو عدلنا عن الطّريق وسلكنا غير الجادّة كما فعل عبد الله بن الزّبير , كان عندي الرّأي , فإنّا نخاف أن يلحقنا الطّلب. فقال له الحُسين (عليه‌السلام ) : (( لا والله يابن العم , لا فارقت هذا الطّريق أبداً , أو أنظر إلى أبيات مكّة , أو يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى )).

قال : فسار الحُسين (عليه‌السلام ) وهو يقول :

إذا المرء لم يحم بنيه وعرسه

ونسوته كان اللئيم المسببا

____________________

(١) الموجود في المصادر المعتبرة هو : لطلب. (معهد الإمامين الحسنين).

(٢) سورة القصص / ٢١.

١٩٢

وفي دون ما يبغي بنا غداً

نخوض حياض الموت شرقاً ومغرباً

ويضرب ضرباً كالحريق مقدماً

إذا ما رآه ضيغم راح هاربا

قال : فبينما الحُسين كذلك بين مكّة والمدينة , إذ استقبله عبد الله بن مطيع العدوي ، فقال له : أين تريد يا أبا عبد الله جعلني الله فداك ؟! فقال : (( أمّا في وقتي هذا , فإنّي أريد مكّة , فإذا سرت فيها , استخرت الله في أمري )). فقال له عبد الله : خار الله لك يابن رسول الله فيما قد عزمت عليه ، غير إنّي أشير عليك مشورة فاقبلها منّي. فقال الحُسين : (( وما هي يابن مطيع ؟ )). فقال : إذا أتيت مكّة فاحذر أن يغرّك أهل الكوفة ، فيها قُتل أبوك , وأخوك بطعنة طعنوه كادت أن تأتي على نفسه فيها , فالزم الحرم فأنت سيّد العرب في دهرك هذا , فوالله لئن هلكت , ليهلكنّ أهل بيتك بهلاكك , والسّلام. فودّعه الحُسين ودعا له بالخير وسار حتّى وافى مكّة , فلمّا نظر إلى جبالها من بعيد , جعل يتلو هذه الآية :( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل ) (١) .

قال : فلمّا قدم الحُسين إلى مكّة , قال : (( اللّهمّ , خر لي وقرّ عيني واهدني سواء السّبيل )). ثمّ دخل مكّة وجعل النّاس يترددون إليه ولا ينقطعون عنه , فلمّا بلغ أهل الكوفة وفاة معاوية , امتنعوا من البيعة ليزيد , فاجتمعوا وكتبوا إلى الحُسين كتاباً يقولون فيه : أقدم إلينا يكون ذلك ما لنا وعليك ما علينا , فلعلّ الله يجمع بيننا وبينك على الهُدى ودين الحقّ(٢) . ورغّبوه في القدوم إليهم إلى أن قالوا : فإن لم تقدر على الوصول إلينا , فأنفذ إلينا برجل يحكم فينا بحكم الله ورسوله. وكتبوا بهذا المعنى كُتباً كثيرة ، فلمّا وقف الحُسين على الكتب وقرأ ما فيها , سألهم عن أمور النّاس , وكتب إليهم كتاباً يذكر فيه : (( إنّي قد أنفذت إليكم أخي وابن عمّي والمفضّل عندي مُسلم بن عقيل بن أبي طالب , فاسمعوا له وأطيعوا رأيه , وقد أمرته باللطف فيكم وان ينفذ إلي بحسن رأيكم وما أنتم عليه , وأنا أقدم عليكم إن شاء الله )). ثمّ دعا بمُسلم فأنفذه مع دليلين يدلانه على الطّريق , فلمّا صار أثناء الطّريق , ضلّ الدّليلان عن الطّريق ومات أحدهما عطشاً ، فنظر مُسلم ممّا هو متوجّه إليه , فبعث إلى الحُسين يخبره بذلك ويستعفيه عن المسير إلى الكوفة , فبعث إليه الحُسين يأمره بالمسير إلى ما أمره به ، فسار من وقته وساعته إلى أن قدم الكوفة فدخلها ليلاً , فنزل في دار

____________________

(١) سورة القصص / ٢٢.

(٢) الوارد في ينابيع المودّة للقندوزي ٣/٥٥ , وغيره , هكذا :... يقولون فيه : لك مالنا وعليك ما علينا ، فلعلّ الله أن يجمع بيننا وبينك على الهُدى ودين الحقّ. (معهد الإمامين الحسنين).

١٩٣

المختار بن أبي عُبيدة ، ثمّ صار النّاس يختلفون إليه , فأقرأهم كتاب الحُسين (عليه‌السلام ) , فمنهم من تداخل السّرور عليه ، فاجتمعوا عليه وبايعوه حتّى نُقل أنّه بايعه في ذلك اليوم ثمانية عشر ألف رجل.

فكتب مُسلم إلى الحُسين كتاباً بمبايعة أهل الكوفة وإنّك تعجّل بالإقبال إلينا. فبلغ الخبر إلى النّعمان بن بشير - وكان هو خليفة يزيد بن معاوية - , فصعد المنبر خطيباً , فقال في خطبته : احذروا مخالفة الخليفة يزيد , وأيّ رجل أصبح مخالفاً لقولي لأضربنّ عُنقه.

ثمّ إنّ رجُلاً من القوم يُقال له عبد الله الحضرمي , استضعف رأي النّعمان وبعث كتاباً إلى يزيد يذكر فيه اجتماع النّاس على مُسلم بن عقيل , وأنّه يبعث إلى الكوفة رجُلاً أقوى رأياً من النّعمان ، فلمّا قرأ يزيد الكتاب , أنفذ إلى الكوفة عمر بن سعد لعنه الله , وكتب إلى عُبيد الله بن زياد - وكان في البصرة - كتاباً يستنهضه على الرّحيل إلى الكوفة , ولا يدع من نسل عليّ إلّا قتله , فلمّا قرأ الكتاب , تجهّز للمسير إلى الكوفة مجدّاً في مسيره , فلمّا وصل الكوفة , دخلها وهو ملتثم(١) وبيده قضيب خيزران وأصحابه من حوله , فجعل لا يمرّ بملأ إلّا وسلّم عليهم بالقضيب , والنّاس يردّونعليه‌السلام ويزعمون أنّه الحُسين ؛ لأنّهم كانوا يتوقّعون قدومه , فلمّا قرب من قصر الإمارة , قال لهم مُسلم الباهلي : يا ويلكم ! هذا الأمير ابن زياد ليس هو طلبتكم. فأسفر ابن زياد عن لثامه وقال للنعمان وهو في أعلى القصر : يا نعمان , حفظت نفسك وضيّعت مصرك. ثمّ نادى بالنّاس , فرقى المنبر فخطب خطبة ذكر فيها : إنّ الخليفة يزيد قد ولاني مصركم هذا , وقد أوصاني بالإحسان إلى محسنكم والتّجاوز عن مسيئكم وأنا مطيع أمره فيكم , فلمّا نزل من المنبر , جعل النّاس ينظر بعضهم إلى بعض ويقولون : ما لنا والدّخول بين السّلاطين. فنقضوا بيعة الحُسين وبايعوا عبيد الله بن زياد. قيل : وكان يوم الجُمُعة وكان مُسلم بن عقيل موعوكاً لم يقدر على الحضور للاجتماع , فلمّا كان وقت صلاة العصر , خرج إلى الجامع , فأذّن وأقام الصّلاة وصلّى وحده ولم يصل معه أحد من أهل الكوفة , فخرج فرأى رجل , فقال له : ماذا فعل أهل مصركم ؟ قال: يا سيّدي , نقضوا بيعة الحُسين وبايعوا يزيد. فصفق بيده وجعل يخترق السّكك والمحال هارباً حتّى بلغ إلى محلّة بني خزيمة , فرأى باباً شاهقة في الهواء وجعل ينظر إليها , فخرجت جارية

____________________

(١) الظّاهر الأصح هو : متلثّم. المقوّم.

١٩٤

فقال لها : يا جارية لِمَن هذه الدّار ؟ قالت : لهاني بن عروة. فقال لها : ادخلي فقولي : إنّ رجلاً من أهل البيت واقف بالباب. فإن قال : ما اسمه. فقولي : مُسلم بن عقيل. فدخلت الجارية ثمّ خرجت إليه , وقالت له : ادخل. وكان هانئ يومئذ عليلاً , فنهض ليعتنقه فلم يطق , وجعلا يتحادثان إلى أن وصلا إلى ذكر عُبيد الله بن زياد , فقال هانئ : يا أخي , إنّه صديقي وسيبلغه مرضي , فإذا أقبل إليّ يعودني , خُذ هذا السّيف واحذر أن يفوتك , والعلامة بيني وبينك أن أقلع عمامتي عن رأسي , فإذا رأيت ذلك , فاخرج لقتله. قال مُسلم : أفعل إن شاء الله. ثمّ إنّ هانئ أرسل إلى ابن زياد يستجفيه , فبعث إليه معتذراً إنّي رائح العشية , فلمّا صلّى ابن زياد العشاء يعود هانياً أقبل , فلمّا وصل استأذن للدخول , قال هانئ : يا جارية , ادفعي هذا السّيف إلى مُسلم بن عقيل. فدفعته إليه , ودخل عُبيد الله بن زياد ومعه حاجبه , وجعل يحادثه ويسأله عن حاله وهو يشكو إليه ألمه ويستبطي مُسلماً في خروجه , فقلع عمامته عن رأسه وتركها على الأرض ثمّ رفعها ثلاث مرّات ، ثمّ رفع صوته بشعر أنشده ؛ كلّ ذلك يريد به إشعار مُسلم وإعلامه. فلمّا كثرت الحركات والإشارات من هانئ , أنكر عليه ابن زياد , فنهض هارباً وركب جواده وانصرف , لـمّا خرج مُسلم من المخدع , فقال له هانئ : يا سبحان الله ! ما منعك من قتله ؟ قال : منعني كلام سمعته من أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , أنّه قال : (( لا إيمان لمن قتل مسلماً )). فقال له هانئ : والله , لو قتلته لقتلت فاجراً كافراً.

ثمّ إنّ ابن زياد بعث في طلب مُسلم وبذل على ذلك الجوائز والعطايا الخطيرة , وكان ممّن رغب في ذلك العطاء مولى لابن زياد يُقال له معقل , فخرج يدور الكوفة ويتحيّل للاستطلاع على خبر مُسلم إلى أن وقع على خبره أنّه عند هانئ ، أرشده عليه رجل يُقال له مُسلم بن عوسجة , قال له : إنّي ثقة من ثقاته وعندي كتمان أمره , وقد أحببت أن ألقاه ؛ لأبايعه. وحلف لذلك الرّجل بالأيمان المؤكّدة على ذلك ، فلمّا أدخله على مُسلم وهانئ , أخذ أخبارهما على الحقيقة وأوصلهما إلى ابن زياد ، فبعث ابن زياد في طلب هانئ ، فلمّا وصل إليه وسلّم عليه , أعرض عنه ولم يرد عليه جواباً , فأنكر هانئ أمره , فقال : لماذا أصلح الله الأمير ؟ فقال : يا هانئ , أخبيت مُسلماً وأدخلته دارك وجمعت له الرّجال والسّلاح , وظننت أنّ ذلك

١٩٥

يخفى عليّ. فقال هانئ : معاذ الله أيّها الأمير ما فعلت ذلك. فقال : بلى قد فعلته. فقال هانئ : الذي بلغك عنّي باطل. فقال ابن زياد : يا معقل , أخرج إليه وكذّبه. فخرج معقل وقال : يا هانئ أما تعرفني ؟ فقال : نعم أعرفك فأجراً غادراً. ثمّ إنّه علم كان عيناً لابن زياد , فقال له ابن زياد : يا هانئ , آتني بمُسلم وإلّا فرّقت بين رأسك وجسدك. فغضب من قوله وقال : إنّك لا تقدر على ذلك أو تهرق بنو مذحج دمك. فغضب ابن زياد فضرب وجهه بقضيب كان عنده , فضربه هانئ بسيف كان عنده فقطع أطماره وجرحه جرحاً منكراً , فاعترضه معقل لعنه الله فقطع وجهه بالسّيف , فجعل هانئ يضرب بهم يميناً وشمالاً حتّى قتل من القوم رجالاً , وهو يقول : والله , لو كانت رجلي على طفل من أطفال أهل البيت , ما رفعتها حتّى تُقطع. حتّى تكاثر عليه الرّجال فأخذوه وأوثقوه كتافاً وأوقفوه بين يدي ابن زياد , وكان بيده عمود من حديد , فضربه به فقتله رحمة الله عليه وعذّب قاتله وأصلاه جهنّم وبئس المصير , ولله درّ مَن قال :

سأصبر حتّى تنجلي كلّ غمة

وتأتي بما تختار نفسي من البشائر

وإني لبئس العبد إن كنت آيساً

من الله إن دارت عليّ الدوائر

قال النّاقلون : لـمّا وصل خبر هانئ إلى مُسلم , خرج من الدّار هارباً حتّى انتهى إلى الحيرة , فأضافته امرأة هُناك بعد ما سألته عن حاله وقصّته ، فلمّا أدخلته الدّار , أكرمته وقدّمت إليه المأكول فأبى عن ذلك ؛ لما به من الوجل والألم , فلمّا أمسى المساء , أقبل ولد المرأة إلى الدّار - وكان من أتباع ابن زياد - فنظر إلى اُمّه رآها تكثر الدّخول والخروج إلى المكان , فأنكر شأنها وسألها عن ذلك فنهرته , فألحّ عليها في المسألة , فأخذت عليه العهد فأخبرته , فأمسك عنها وأسرّ ذلك في نفسه إلى أن طلع الفجر , وإذا بالمرأة قد جاءت إلى مُسلم بماء ليتوضّأ وقالت له : يا مولاي , ما رأيتك رقدت في هذه الليلة ؟ فقال لها : اعلمي إنّي رقدت رقدة فرأيت في منامي عمّي أمير المؤمنين وهو يقول : الوحاء الوحاء , العجل العجل. وما أظنّ إلّا أنّه آخر أيامي من الدُنيا :

يا طالب الصفوة في الدُنيا بلا كدر

طلبت معسرة فآيس من الظفر

واعلم بأنك ما عمرت ممتحن

بالخير والشر والإيسار والعسر

في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة

ومن يفرّ فلا ينجو من القدر

١٩٦

ثمّ إنّ ولد تلك المرأة لـمّا حقّق الخبر عن مُسلم , مضى إلى اللعين ابن زياد فأخبره بخبر مُسلم ، ثمّ إنّ ابن زياد دعا بمُحمّد بن الأشعث الكندي وضمّ إليه ألف فارس وخمسمائة راجل , وأمرهم بالانطلاق إلى مُسلم , فسار ابن الأشعث حتّى وصل الدّار , ولـمّا سمعت المرأة صهيل الخيل وقعقعة اللجم , أقبلت إلى مُسلم وأخبرته بذلك , فلبس درعه وشدّ وسطه وجعل يدير عينيه ، فقالت المرأة : ما لي أراك تهيأت للموت ؟ فقال : ما طلبه القوم غيري , وأنا أخاف أن يهجموا عليّ في الدّار ولا يكون لي فسحة ولا مجال. ثمّ إنّه عمد إلى الباب وخرج إلى القوم , فقاتلهم قتالاً عظيماً حتّى قتل منهم خلقاً كثيراً , فلمّا نظر ابن الأشعث إلى ذلك , أنفذ إلى ابن زياد يستمدّه بالخيل والرّجال , فانفذ إليه ابن زياد يقول : ثكلتك اُمّك ! رجل واحد يقتل منكم هذه المقتلة العظيمة , فكيف لو أرسلتك إلى مَن هو أشدّ منه قوّة وبأساً ؟! ( يعني الحُسين ) فبعث إليه الجواب : عساك أرسلتني إلى بقّال من بقاقيل الكوفة أو إلى جرمقان من جرامقة الكوفة , وإنّما أرسلتني إلى سيف من أسياف مُحمّد بن عبد الله. فلمّا بلغ ذلك ابن زياد , أمدّه بالعسكر الكثير , فلمّا رأى مُسلم ذلك , رجع إلى الدّار وتهيّأ وحمل عليهم حتّى قتل كثيراً منهم , وصار جلده كالقنفذ من كثرة النّبل ,

فبعث [ابن الأشعث](١) إلى ابن زياد يستمدّه بالجند والرّجال , فأرسل إليه بذلك وقال لهم : يا ويلكم ! أعطوه الأمان وإلّا أفناكم عن آخركم. فنادوه بالأمان ، فقال لهم : لا أمان لكم يا أعداء الله وأعداء رسوله. ثمّ حمل عليهم فقاتلهم , ثمّ إنّهم احتالوا عليه وحفروا له حفرة عميقة في وسط الطّريق , وأخفوا رأسها بالدّغل والتّراب , ثمّ انطردوا بين يديه , فوقع بتلك الحفرة وأحاطوا به , فضربه ابن الأشعث على محاسن وجهه , فلعب السّيف في عرنين أنفه ومحاجر عينيه , حتّى بقيت أضراسه تلعب في فمه , فأوثقوه وأخذوه إلى ابن زياد , فنظر مُسلم إلى برادة هُناك فيها ماء وكان له يومان ما شرب الماء , فقال لِمَن يليها : اسقني ماء والجزاء على الله تعالى وعلى رسوله. فرفع إليه البرادة , فلمّا تناولها منه , ردّها إليه وقال : خذها لا حاجة لي فيها. ثمّ أدخلوه إلى ابن زياد , فقال له القوم : سلّم على الأمير. فقال : السّلام على مَن اتبع الهُدى وخشي عواقب الرّدى وأطاع الملك الأعلى. فضحك ابن زياد , فقال له بعض الحجبة : أما ترى الأمير يضحك في وجهك , فلِمَ لا تسلّم عليه

____________________

(١) من إضافات المقوم. (معهد الإمامين الحسنين).

١٩٧

بالإمارة ؟ فقال مُسلم : والله , ما لي أمير غير الحُسين بن عليّ (عليه‌السلام ) , وإنّما يُسلّم عليه بالإمارة مَن يخاف منه الموت. ولله درّ من قال من الرّجال :

أصبر لكل مصيبة وتجلد

واعلم بأن المرء غير مخلد

وإذا ذكرت مصيبة تشجى بها

فاذكر مصيبة آل بيت محمّد

واصبر كما صبر الكرام فإنها

نوب تنوب اليوم تكشف في غد

ثمّ إنّ ابن زياد قال له : سواء عليك سلّمت أم لم تسلّم فإنّك مقتول. فقال : إذا كان لا بدّ من قتلي , فلي إليكم حاجة. قالوا : وما هي ؟ قال : أريد رجُلاً قرشياً أوصيه. فنهض عمر بن سعد لعنه الله , فقال له : ما وصيتك ؟ فقال له: ادن منّي. فدنى منه.

فقال له : أوّل وصيتي , فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ مُحمّداً رسول الله , وأنّ عليّاً وليّ الله ووصي رسوله وخليفته في اُمّته. وثانياً : تأخذ درعي تبيعه وتقضي عنّي سبعمائة درهم ؛ استقرضتها منذ دخلت إلى مصركم هذا. [و](١) ثالثاً : أن تكتب إلى سيّدي الحُسين يرجع ولا يأتي إلى بلدكم ؛ فيصيبه ما أصابني , فقد بلغني أنّه توجّه بأهله وأولاده إلى الكوفة.

فقال عمر بن سعد : أمّا ما ذكرت من الشّهادة فكلّنا نشهدها ، وأمّا ما ذكرت من بيع الدّرع وقضاء الدّين , فذلك إلينا إن شئنا قضيناه وإن شئنا لم نقض ، وأمّا ما ذكرت من أمر الحُسين , فلا بدّ أن يقدم علينا ونذيقه الموت غصّة بعد غصّة. ثمّ إنّ ابن زياد سمع بذلك , فقال : قبّحك الله من مستودع سرّاً , وحيث أنّك أفشيت سرّه , فلا يخرج إلى حرب الحُسين غيرك.

ثمّ أمر بمُسلم أن يُصعد به إلى أعلى القصر ويُرمى منه منكساً على رأسه , فعند ذلك بكى مُسلم على فراق الحُسين (عليه‌السلام ) , وقال :

جزى الله عنا قومنا شر ما جزى

شرار الموالي بل أعق وأظلم

هم منعونا حقنا وتظاهروا

علينا ورامونا نذل ونرغم

وغاروا علينا يسفكون دماءنا

فحسبهم الله العظيم المعظم

ونحن بنو المختار لا شيء مثلنا

نبي صدوق مكرم ومكرم

قال ثمّ اُلقي من أعلى القصر وعجّل الله بروحه إلى الجنّة. ثمّ إنّهم أخذوا مُسلماً وهانئاً يسحبونهما في الأسواق , فبلغ خبرهما إلى مذحج , فركبوا خيولهم

____________________

(١) من إضافات المقوم. (معهد الإمامين الحسنين).

١٩٨

وقاتلوا القوم , وأخذوهما ودفنوهما رحمة الله عليهما وعذّب قاتليهما بالعذاب الشّديد يوم الوعيد. ولله درّ من قال من الرّجال :

فإن كنت لا تدرين بالموت فانظري

إلى هانئ في السوق وابن عقيل

إلى بطل قد هشم السيف وجهه

وآخر يهوي من طمار قتيل

أصابهما أمر الأمير فأصبحا

أحاديث من يسري بكل سبيل

ترى جسداً قد غير الموت لونه

ونضيح دم قد سال كلّ مسيل

فتى كان أحيى من فتاة حيية

وأقطع من ذي شفرتين صقيل

وأشج من ليث ببطن مسبل

وأجرأ من ليث بغابة غيل

ثمّ إنّ ابن زياد لعنه الله بعث كتاباً إلى يزيد لعنه الله يخبره بقصّتهما , فكتب إليه الجواب يقول : كنت كما أردت وفعلت ما أحببت وصدقت ظنّي فيك , وقد بلغني أنّ الحُسين متوجه إلى العراق , فضع عليه المراصيد واكتب إليّ بما يحدث من الأمور , والسّلام.

فانظروا يا إخواني إلى ما صُنع بأهل الفضل والمعاني , جرّعوهم الكؤوس وأذاقوهم الحتوف , واستأصلوهم طعناً بالرّماح وضرباً بالسّيوف , فيا ويحهم ! كأنّهم لم يخافوا الانتقام في يوم الحشر والقيامة , ولم يراقبوا الملك العلام ولا برسوله المظلل بالغمام.

وبالله عليكم يا إخواني , لـمّا ترحّمتم على مُسلم بن عقيل وتفكّرتم فيما امتحن الله فيه هذا الجيل , فليس ذلك على سبيل الهوان وإنّما هو على سبيل التّبجيل والتّفضيل , فلو ذابت نفوسكم من الأحزان بذلتم أرواحكم في النّوح والأشجان , لكان ذلك من أقلّ القليل لهذا الخطب الجليل , فيحقّ على مثل هؤلاء الكرام أن يبكي الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الدّرمكي (رحمه‌الله )

قلب المتيم بالأحزان موغور

وطرفه عن لذيذ النوم محجور

ودمعه فوق صحن الخد منحدر

وجسمه بقيود السقم مقهور

وودي الصير منه مقفر خرب

وعمره بالبكاء والنوح معمور

١٩٩

قد عاهد الله إيماناً مغلظة

لا يترك الحزن حتّى ينفخ الصور

حزناً مقيماً مديماً لا على ولد

ولا حبيب ولا أبكاء مخدور

ولا لحسن رياض قد زهت ونمت

وقت الربيع بالزهر تزهير

ولا لنوح حمام الايك إذ سجعت

فوق الغصون لها في النوح تجهير

ولا لطيب الصبا واللهو إذ ذهبا

غداة ذيل حلى البال مجدور

لكن تصرم شهر الحج فاحترقت

أحشاه بالحزن لـمّا هل عاشور

أمثل الأتقياء الأصفياء ومن

لولاهم مارجاً القرآن مأزور

غداة سار ابن سعد بالجيوش إلى

حرب الحُسين له في السير تكبير

من بعد ما وردت بالأمس كتبهم

أقدم فأنت بعون الله منصور

فحين لـمّا دنا من قرب دارهم

مبلغاً ما به بالنص مأمور

ثاروا عليه وحالوا دون مشربه

وأظهروا رشك في الصدر مذخور

فقال يا قوم كفوا عن ضلالتكم

فالكل منا بتقوى الله مأمور

فلا تغركم الدُنيا وزينته

فالخير والشر للإنسان مسطور

إني أحذركم بطش الإله بكم

ومن تقدم بالإنذار معذور

عذرتموني وجددتم عهودكم

فجئت أسعى لـمّا في الكتب مسطور

قالوا له كفّ عن هذا الكلام فما

ينجيك من كيدنا ذا اليوم تعذير

فإن أردت النجا بايع يزيد وإن

تأبى فدمك بالأسياف مهدور

فقال يا قوم إن الله أمرّنا

وما لصاحبكم في الحكم قطمير

وقسمة النّار والجنات في يدنا

وما علينا لخلق الله قط تأمير

قالوا له حكمكم ظلم وطاعتكم سقم

وخذلانكم ما فيه تخسير

فإن أطعت على هونٍ نجوت وإن

تأبى فأنت بحد السيف مقهور

فقال خلوا سبيلي إن لي فكراً

باقي نهاري ولي في الليل تفكير

فامّ منزله والدمع يسبقه

كأنه درر في الخد منثور

فحين لـمّا دجى الليل البهيم وقد

أمسى على وجل والطرف مسهور

دعا بأصحابه جميعاً فاحضرهم

وقال يا قوم ما في الأمر تأخير

إن النواصب قد نامت عيونهم

والبر خال وجنح الليل مستور

٢٠٠