المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ١

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 167

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 167
المشاهدات: 68669
تحميل: 3823


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 167 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68669 / تحميل: 3823
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 1

مؤلف:
العربية

السبي.

وجاء شيخ فدنا من نساء الحسين (عليه‌السلام ) وعياله ، وقال : الحمد لله الذي أهلككم وقتلكم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم. فقال له علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) : (( يا شيخ ، هل قرأت القرآن ؟ )). قال : نعم. قال : (( فهل عرفت هذه الآية :( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١) ؟ )). قال : قد قرأت ذلك. فقال له علي (عليه‌السلام ) : (( فنحن القربى يا شيخ. فهل قرأت في سورة بني إسرائيل :( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى‏ حَقّهُ ) (٢) ؟ )). فقال: قد قرأت ذلك. فقال علي (عليه‌السلام ) : (( فنحن القربى يا شيخ. فهل قرأت الآية :( واعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ءٍ فَأَنّ للّهِ‏ِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٣) ؟ )). قال : نعم. فقال علي (عليه‌السلام ) (( فنحن القربى يا شيخ. ولكن هل قرأت :( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٤) ؟ )). قال : قد قرأت ذلك. فقال علي (عليه‌السلام ) : (( فنحن أهل البيت الذين خصّنا الله بآية الطهارة يا شيخ )).

قال : فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به ، وقال : بالله إنّكم هم ؟ فقال علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) : (( تالله ، إنّا لنحن هم من غير شكّ وحقّ جدِّنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إنّا لنحن هم )). فبكى الشيخ ورمى عمامته ثمّ رفع رأسه إلى السّماء وقال : اللهمَّ ، إنّي أبرأ إليك من عدوّ آل محمّد. ثمّ قال : هل لي من توبة ؟ فقال (عليه‌السلام ) له : (( نعم ، إنْ تبتَ تاب الله عليك وأنت معنا )). فقال : إنّي تائب. فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ فأمر به فقُتل.

وأجلُّ يومٍ بعد يومِكَ حلَّ في الْـ

إسلامِ منهُ يشيبُ كلُّ جَنينِ

يومٌ سَرتْ أسرَى كما شاءَ العِدى

فيهِ الفواطمُ من بني ياسينِ

لا طابَ عيشُكَ يا زمانُ ولا جَرتْ

أنهارُ مائِكَ للورَى بمعينِ

المجلس الثاني والثمانون

عن سهل بن سعد أنّه قال : خرجت إلى بيت المقدس حتّى توسطت الشام ، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار كثيرة الأشجار وقد علّقوا السّتور والحُجب والديباج

______________________

(١) سورة الشورى / ٢٣.

(٢) سورة الإسراء / ٢٦.

(٣) سورة الأنفال / ٤١.

(٤) سورة الأحزاب / ٣٣.

١٤١

وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول ، فقلت في نفسي : ترى لأهل الشام عيد لا نعرفه نحن ! فرأيت قوماً يتحدّثون فقلت : يا قوم ، ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن ؟ قالوا : يا شيخ ، نراك غريباً. فقلت: أنا سهل بن سعد قد رأيت محمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). قالوا : يا سهل ، ما أعجب السّماء لا تمطر دماً والأرض لا تنخسف بأهلها ! قلت : ولِم ذاك ؟ قالوا : هذا رأس الحسين عترة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يُهدى من أرض العراق. فقلت : وآ عجباً يُهدى رأس الحسين (عليه‌السلام ) والنّاس يفرحون ! وقلت : من أيّ باب يدخل ؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب السّاعات ، فبينا أنا كذلك حتّى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً ، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السّنان عليه رأس من أشبه النّاس وجهاً برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فإذا من ورائه نسوة على جمال بغير وطاء ، فدنوت من اُولاهن فقلت : يا جارية ، مَن أنت ؟ فقالت : أنا سكينة بنت الحسين. فقلت لها : ألك حاجة إليّ فأنا سهل بن سعد ممَّن رأى جدّك وسمعت حديثه ؟ قالت : يا سهل ، قُل لصاحب هذا الرأس أنْ يُقدّم الرأس أمامنا حتّى يشتغل النّاس بالنظر إليه ، ولا ينظروا إلى حرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). قال سهل : فدنوت من صاحب الرأس فقلت له : هل لك أنْ تقضي حاجتي وتأخذ منّي أربعمئة دينار ؟ قال : ما هي ؟ قلت : تقدّم الرأس أمام الحرم. ففعل ذلك ودفعت إليه ما وعدته.

وروي أنّ بعض فضلاء التابعين ، وهو خالد بن معدان ، لـمّا شاهد رأس الحسين (عليه‌السلام ) بالشام ، أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه ، فلمّا وجدوه بعد إذ فقدوه وسألوه عن سبب ذلك ، فقال : ألا ترون ما نزل بنا ؟! ثمّ أنشأ يقول :

جاؤوا برأسِكَ يابنَ بنتِ محمّد

مترمّلاً بدمائِهِ تَرمِيلا

وكأنّما بكَ يابنَ بنتِ محمّد

قَتلوا جَهاراً عامِدينَ رَسُولا

قتلُوكَ عطشاناً ولـمّا يَرقُبوا

في قتلِكَ التّأويلَ والتّنْزيلا

ويكبّرونَ بأنْ قُتلتَ وإنّما

قتلوا بكَ التّكبيرَ والتّهليلا

* * *

١٤٢

المجلس الثالث والثمانون

لـمّا اُدخل ثقل الحسين (عليه‌السلام ) ونساؤه ومَن تخلّف من أهله على يزيد ، وهم مقرونون في الحبال وزين العابدين (عليه‌السلام ) مغلول ، ووقفوا بين يدَيه وهم على تلك الحال ، قال له علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) : (( اُنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لو رآنا على هذه الصفة ؟ )). فلم يبقَ في القوم أحد إلاّ وبكى ، فأمر يزيد بالحبال فقُطعت وأمر بفكّ الغلّ عن زين العابدين (عليه‌السلام ) ، ثم وضع رأس الحسين (عليه‌السلام ) بين يدَيه وأجلس النّساء خلفه ؛ لئلاّ ينظرن إليه ، فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لينظرا إلى الرأس ، وجعل يزيد يتطاول ليستر عنهما الرأس ، فلما رأينَ الرأس صِحن فصاحت نساء يزيد وولولت بنات معاوية ، فقالت فاطمة بنت الحسين (عليه‌السلام ) : أبنات رسول الله سبايا يا يزيد ؟ فبكى النّاس وبكى أهل داره حتّى علت الأصوات.

وأمّا زينب (عليها‌السلام ) ، فإنّها لـمّا رأته أهوت إلى جيبها فشقّته ، ثمّ نادت بصوت حزين يُقرح القلوب : يا حسيناه ! يا حبيب رسول الله ! يابن مكّة ومِنى ! يابن فاطمة الزهراء سيّدة النّساء ! يابن بنت المصطفى !

قال الراوي : فأبكت والله كلّ مَن كان حاضراً في المجلس ويزيد ساكت ، ثمّ جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسين(عليه‌السلام ) وتنادي : يا حبيباه ! يا سيّد أهل بيتاه ! يابن محمّداه ! يا ربيع الأرامل واليتامى ! يا قتيل أولاد الأدعياء ! فأبكت كلّ مَن سمعها.

وكان في السّبايا الرباب بنت امرئ القيس زوجة الحسين (عليه‌السلام ) ، وهي اُمّ سكينة بنت الحسين (عليه‌السلام ) واُمّ عبد الله الرضيع المقتول بكربلاء ، وهي التي يقول فيها الحسين (عليه‌السلام ).

لعَمرُكَ إنّني لاُحبُّ داراً

تحلُّ بها سَكينَةُ والرَّبابُ

اُحِبُّهُما وأبذلُ فوقَ جهدي

وليس لعاذلٍ عندي عِتابُ

ولستُ لهمْ وإنْ عَتبوا مُطيعاً

حَياتي أو يُغيّبُني التُّرابُ

١٤٣

فقيل : إنّ الرّباب أخذت الرأس ووضعته في حجرها وقبّلته ، وقالت :

وآ حُسينا فلا نَسيتُ حُسيناً

أقصَدتْهُ أسنَّةُ الأعداءِ

غادَرُوهُ بكربَلاءَ صَريعاً

لا سقَى اللهُ جانِبي كربلاءِ

المجلس الرابع والثمانون

لـمّا وُضعت الرؤوس بين يدي يزيد وفيها رأس الحسين (عليه‌السلام ) ، جعل يتمثل بقول الحُصين بن الحمام الـمُرّي :

صَبرْنا وكان الصّبرُ منّا سَجيّةً

بأسيافِنا تَفرينَ هاماً ومِعصَمَا

أبَى قومُنا أنْ يُنصفونا فأنصَفتْ

قواضِبُ في أَيمانِنا تَقطرُ الدِّمَا

نفلّقُ هَاماً منْ رجالٍ أعزّةٍ

علينا وهُمْ كانوا أعقَّ وأظلمَا

ودعا بقضيب خيزران وجعل ينكت به ثنايا الحسين (عليه‌السلام ) ، ثمّ قال : يوم بيوم بدر. وكان عنده أبو برزة الأسلمي فقال : ويحك يا يزيد ، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين بن فاطمة ؟! أشهد لقد رأيت النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول : (( أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة ، فقتل الله قاتلكما ولعنه وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً )). فغضب يزيد وأمر بإخراجه فاُخرج سحباً.

وفي رواية : أنّ يزيد دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله ، ثمّ دعا بعلي بن الحسين (عليهما‌السلام ) وصبيان الحسين (عليه‌السلام ) ونسائه فاُدخلوا عليه والنّاس ينظرون ، ثمّ قال يزيد لعلي بن الحسين (عليهما‌السلام ) : يابن الحسين ، أبوك قطع رحِمي وجهل حقّي ونازعني سُلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت. فقال علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) :( مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلّا فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنّ ذلِكَ عَلَى‏ اللّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى‏ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّهُ لَا يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (١) .

وقال علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) :

______________________

(١) سورة الحديد / ٢٢ - ٢٣.

١٤٤

(( يابن معاوية وهند وصخر ، لقد كان جدّي عليُّ بن أبي طالب في يوم بدر واُحُد والأحزاب في يده راية رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار )). ثمّ قال علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) : (( ويلك يا يزيد ! إنّك لو تدري ماذا صنعت ، وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعموتي ، إذاً لهربت في الجبال ، وافترشت الرماد(١) ، ودعوتَ بالويل والثبور ، أنْ يكون رأس أبي الحسين بن فاطمة وعلي منصوباً على باب مدينتكم ، وهو وديعة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فيكم ؟! )).

وما رأتْ أنبياءُ اللهِ منْ مِحنٍ

وأوصياؤهُمُ في سالفِ الحُقَبِ

كمِحنةِ السيّدِ السجّادِ حينَ أتتْ

يزيدَ نِسوتُهُ أسْرى على النُّجبِ

أمامَها رُفِعتْ فوقَ الأسنَّةِ منْ

حُماتِها أرؤسٌ فاقتْ سَنا الشُّهبِ

المجلس الخامس والثمانون

لـمّا جيء برأس الحسين (عليه‌السلام ) إلى يزيد بالشام ، دعا بقضيب خيزران وجعل ينكت به ثنايا الحسين (عليه‌السلام ) ويقول :

ليتَ أشياخي ببدرٍ شَهدوا

جَزعَ الخزْرجِ منْ وقْعِ الأسلْ

لأهلّوا واسْتهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تشلْ

قد قتلنا القَرمَ منْ ساداتهمْ

وعدلناه ببدرٍ فاعتَدلْ

لعبتْ هاشمُ بالـمُلكِ فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزلْ

لستُ من خِندفَ إنْ لم أنتقمْ

مِن بني أحمدَ ما كانَ فعلْ

______________________

(١) وردت المفردة في مصادر اُخرى ( الرّمال ) ، ولعلها الأقرب ؛ تساوقاً مع المعنى ووحدة السياق ، وكذلك مفردتي ( أنْ يكون ) فقد وردتا ( أيكون ) وهو الأقرب أيضاً. (موقع معهد الإمامين الحسنين)

١٤٥

فقامت زينب بنت علي (عليهما‌السلام ) فقالت : الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله كذلك حيث يقول :( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون ) (١) . أظننتَ يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ، فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء ، أنّ بنا هواناً على الله وبك كرامة ؟ وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده ؟ فشمخت بأنفك ونظرت في عِطفك جذلان مسروراً ؛ حيث رأيت الدّنيا لك مستوسقة والاُمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله تعالى :( ولَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (٢) ؟

أمِن العدل يابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك ، وسوقك بنات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) سبايا قد هتكت ستورهنَّ وأبديت وجوههنَّ ، تحدوا بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنَّ أهل المناهل والمناقل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والدّنيء والشريف ، ليس معهنَّ من حماتهنَّ حمي ولا من رجالهنّ وَلي ؟! وكيف ترتجى مراقبة ابن مَن لفط فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه بدماء الشهداء ؟! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت مَن نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان ؟! ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم :

لأهلُّوا واستهلُّوا فَرحاً

ثُمّ قالوا يا يزيدُ لا تشَلْ

منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك ! وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرّيّة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ؟! وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم ! فلتردنّ وشيكاً موردَهم ، ولتودنّ أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت.

اللهمَّ ، خُذ لنا بحقّنا وانتقم ممَّن ظلمنا ، وأحلل غضبك بمَن سفك دماءنا وقتل حماتنا. فوالله ، ما فريتَ إلّا جلدك ولا حززت إلّا لحمك ، ولتردنّ على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيّته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولُحمته ،

______________________

(١) سورة الروم / ١٠.

(٢) سورة آل عمران / ١٧٨.

١٤٦

( ولَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) . وحسبُك بالله حاكماً وبمحمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) خصيماً ، وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلاً وأنّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً ! ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك أنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكبر توبيخك ، لكن العيون عَبرى والصدور حَرّى.

ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النّجباء بحزب الشيطان الطلقاء ! فهذه الأيدي تنظف من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل ، وتعقرها اُمّهات الفراعل(٢) ، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنّنا وشيكاً مغرماً حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلاّم للعبيد ، فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل.

فكد كيدك واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله ، لا تمحو ذكرنا ولا تُميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ولا تدحض عنك عارها ، وهل رأيك إلاّ فَنَد ، وأيّامك إلّا عدد ، وجمعك إلّا بدد ، يوم يُنادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أنْ يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فقال يزيد مجيباً لها :

يا صيحةً تحمَدُ منْ صَوائحِ

ما أهونَ النَّوحِ على النَّوائحِ

* * *

فقُلْ لسرايا شَيبةِ الحَمدِ ما لكمْ

قعدتُمْ وقدْ ساروا بنسوتِكُمْ أسرَى

وأعظمُ ما يُشجي الغيورَ دخولُها

إلى مجلسٍ ما بارحَ اللهوَ والخمْرا

يقارضُها فيهِ يزيدُ مَسبَّةً

ويَصرفُ عنها وجهَهُ مُعرضاً كِبرا

المجلس السّادس والثمانون

لـمّا اُدخل عيال الحسين (عليه‌السلام ) وبناته على يزيد بالشام ، نظر رجل من أهل الشام

______________________

(١) سورة آل عمران / ١٦٩.

(٢) العواسل ، جمع عاسل ، يقال عسل الذئب : إذا اضطرب في عدوه وهزّ رأسه. والفرعل كـ ( قنفذ ) : وَلد الضبع ، جمعه فراعل. واُمّهات الفراعل : الضباع. - المؤلّف -

١٤٧

أحمر إلى فاطمة بنت الحسين (عليهما‌السلام ) فقال : يا أمير المؤمنين ، هب لي هذه الجارية. قالت فاطمة : فارتعدت وظننت أنّ ذلك جائز عندهم ، فأخذت بثياب عمّتي زينب وقلت : يا عمّتاه ! أوتمت واُستخدم ؟! وكانت عمّتي تعلم أنّ ذلك لا يكون ، فقالت عمّتي : لا حبّاً ولا كرامة لهذا الفاسق. وقالت للشامي : كذبت والله ولؤمت ، والله ما ذاك لك ولا له. فغضب يزيد وقال : كذبت ، إنّ ذلك لي ولو شئت أنْ أفعل لفعلت. قالت زينب : كلاّ والله ، ما جعل الله لك ذلك إلّا أنْ تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها. فاستطار يزيد غضباً وقال : إيّاي تستقبلين بهذا ! إنّما خرج من الدّين أبوك وأخوك. قالت زينب : بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وجدّك وأبوك إنْ كنت مسلماً. قال : كذبتِ يا عدوّة الله. قالت له : أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك. فكأنّه استحيا وسكت. فعاد الشامي فقال : هب لي هذه الجارية. فقال له يزيد : اعزب ، وهب الله لك حتفاً قاضياً.

وفي رواية : فقال الشامي : مَن هذه الجارية ؟ فقال : هذه فاطمة بنت الحسين ، وتلك زينب بنت علي. فقال الشامي : الحسين بن فاطمة وعلي بن أبي طالب ؟! فقال : نعم. فقال الشامي : لعنك الله يا يزيد ، تقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته ! والله ، ما توهّمت إلّا أنّهم من سبي الروم. فقال يزيد : والله لألحقنّك بهم. ثمّ أمر به فضُربت عنقه.

أفَتدَّعي الإسلامَ قومٌ حاربَتْ

آلَ النَّبيِّ ولمْ تراعِ وصاتَا

وسَبتْ ذَراري أحمدٍ ونساءَهُ

أسرَى تجوبُ بها رُبىً وفلاتَا

المجلس السّابع والثمانون

لـمّا جيء بسبايا أهل البيت (عليه‌السلام ) إلى يزيد بالشام ، أمر يزيد بمنبر وخطيب ، وأمر الخطيب أنْ يصعد المنبر فيذمّ الحسين وأباه صلوات الله عليهما ، فصعد

١٤٨

الخطيب المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ بالغ في ذمّ أمير المؤمنين والحسين الشهيد ، وأطنب في مدح معاوية ويزيد فذكرهما بكلّ جميل ، فصاح به علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) : (( ويلك أيّها الخاطب ! اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوّأ مقعدك من النار )). ثم قال علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) : (( يا يزيد ، أتأذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات لله فيهنّ رضىً ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجر وثواب ؟ )). فأبى يزيد عليه ذلك ، فقال النّاس: يا أمير المؤمنين ، ائذن له فليصعد المنبر فلعلّنا نسمع منه شيئاً. فقال : إنّه إنْ صعد لم ينزل إلّا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان. فقيل له : وما قدر ما يُحسن هذا ؟ فقال : إنّه من أهل بيت زقّوا العلم زقّاً. فلم يزالوا به حتّى أذِن له ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ خطب خطبة أبكى فيها العيون وأوجل منها القلوب ، ثمّ قال : (( أيّها النّاس ، اُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع ؛ اُعطينا العلم والحلم ، والسّماحة والفصاحة ، والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفُضلّنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ومنّا الصدّيق ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ، ومنّا سيّدة نساء العالمين ، ومنّا سبطا هذه الاُمّة.

مَن عرفني فقد عرفني ومَن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي... )) فلم يزل يقول : (( أنا... أنا )) حتّى ضجّ النّاس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أنْ تكون فتنة ، فأمر المؤذّن فقطع عليه الكلام ، فلمّا قال المؤذّن : الله أكبر ، الله أكبر. قال علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) : (( لا شيء أكبر من الله )). فلمّا قال : أشهد أنْ لا إله إلّا الله ، قال علي بن الحسين (عليه‌السلام ) : (( شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي )). فلمّا قال المؤذّن : أشهد أنّ محمّداً رسول الله. التفت (عليه‌السلام ) من فوق المنبر إلى يزيد فقال : (( محمّد هذا جدّي أم جدّك يا يزيد ؟ فإنْ زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت ، وإنْ زعمت أنّه جدّي فلِم قتلت عترته ؟ )).

ولقد أحسن ابن سنان الخفاجي حيث يقول :

يا اُمّةً كفرتْ وفي أفواهِها القُر

آنُ فيهِ ضَلالُها ورشَادُها

أعَلَى المنابرِ تُعلِنونَ بسبِّهِ

وبسيفِهِ نُصبتْ لكُمْ أعوادُها

تلكَ الضَّغائنُ لمْ تَزلْ بدريةً

قتِل الحُسينُ وما خبتْ أحقادُها

* * *

يُصلّى على المبعوثِ منْ آلِ هاشمٍ

ويغزَى بنوهُ إنّ ذا لعجيبُ

١٤٩

المجلس الثامن والثمانون

دعا يزيد يوماً بعلي بن الحسين (عليهما‌السلام ) وعمرو بن الحسن (عليه‌السلام ) ، وكان عمرو غلاماً صغيراً يقال أنّ عمره إحدى عشرة سنة ، فقال له : أتصارع هذا ؟ يعني ابنه خالداً. فقال له عمرو : لا ، ولكن أعطني سكّيناً وأعطه سكّيناً ، ثمّ اُقاتله. فقال يزيد :

شَنْشنةٌ أعرفُها من أخزمِ

هلْ تلدُ الحيَّةُ إلّا الحيَّهْ

وخرج زين العابدين (عليه‌السلام ) يوماً يمشي في أسواق دمشق فاستقبله المنهال بن عمرو ، فقال له : كيف أمسيت يابن رسول الله ؟ قال : (( أمسينا كمَثل بني إسرائيل في آل فرعون ؛ يُذبِّحون أبناءهم ويَستحيون نساءهم. يا منهال، أمستْ العرب تفتخر على العجم بأنّ محمّداً عربي ، وأمستْ قريش تفتخر على سائر العرب بأنّ محمّداً منها، وأمسينا معشر أهل بيته ونحن مغصوبون مقتولون مشرّدون ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ممّا أمسينا فيه يا منهال )).

يُعظّمونَ لهُ أعوادَ مِنبرهِ

وتحتَ أرجُلهِمْ أولادُهُ وُضِعوا

بأيِّ حكمٍ بَنوهُ يتْبعونكُمُ

وفخركُمُ أنّكمْ صحبٌ لهُ تَبعُ

وكان يزيد وعد علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) يوم دخولهم عليه أنْ يقضي له ثلاث حاجات ، فقال له : اذكر حاجاتك الثلاث اللاتي وعدتك بقضائهن. فقال له (عليه‌السلام ) : (( الاُولى : أنْ تُريني وجه سيّدي ومولاي وأبي الحسين (عليه‌السلام ) ، فأتزوّد منه وأنظر إليه واُودّعه ، والثانية : أنْ تردّ علينا ما اُخذ منّا ، والثالثة : إنْ كنتَ عزمتَ على قتلي ، أنّ توجّه مع هؤلاء النّساء مَن يردّهنّ إلى حرم جدّهنّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) )). فقال : أمّا وجه أبيك فلن تراه أبداً ؛ وأمّا قتلك فقد عفوت عنك ؛ وأمّا النّساء فما يردّهنّ غيرك إلى المدينة ؛ وأمّا ما اُخذ منكم فأنا اُعوّضكم عنه أضعاف قيمته. فقال (عليه‌السلام ) : (( أمّا مالَك فلا نُريده وهو موفّر عليك ، وإنّما طلبتُ ما اُخذ منّا ؛ لأنّ فيه مغزل فاطمة بنت محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ومقنعتها وقلادتها وقميصها )).

١٥٠

لقدْ تحمّلَ مِن أرزائِها مِحناً

لمْ يحْتَملْها نَبيٌّ ووصيُّ نَبي

وإنّ أعظَمَ ما لاقاهُ مُحتَسباً

عندَ الإلهِ فسَامَى كلَّ مُحتَسبِ

حملُ الفواطِمِ أسرَى للشآمِ على

عُجفِ النِّياقِ تُقاسي نَهسةَ القَتَبِ

المجلس التاسع والثمانون

لـمّا رجع أهل البيت (عليهم‌السلام ) من الشام إلى المدينة ، قالوا للدليل : مُر بنا على طريق كربلاء. فلمّا وصلوا إلى موضع المصرع ، وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وجماعة من بني هاشم ، ورجالاً من آل الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد وردوا لزيارة قبر الحسين (عليه‌السلام ) ، فتوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم واجتمع عليهم أهل ذلك السّواد ، وأقاموا على ذلك أياماً.

وعن الأعمش عن عطيّة العوفي قال : خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي‌الله‌عنه ) زائراً قبر الحسين (عليه‌السلام ) ، فلمّا وردنا كربلاء ، دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ثمّ ائتزر بإزار وارتدى بآخر ، ثمّ فتح صرّة فيها سعد فنثرها على بدنه ، ثمّ لمْ يخطُ خطوة إلّا ذكر الله تعالى ، حتّى إذا دنا من القبر قال : المسنيه يا عطيّة. فألمسته إيّاه ، فخرّ على القبر مغشيّاً عليه ، فرششت عليه شيئاً من الماء ، فلمّا أفاق قال : يا حسين ! ( ثلاثاً ) ثمّ قال : حبيب لا يُجيب حبيبه. ثمّ قال : وأنّى لك بالجواب وقد شُخبت أوداجك على أثباجك وفُرّق بين بدنك ورأسك ، أشهد أنّك ابن خير النبيّين وابن سيّد المؤمنين ، وابن حليف التّقوى وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكسا وابن سيّد النّقبا وابن فاطمة سيّدة النّساء ، وما لك لا تكون هكذا وقد غذّتك كفّ سيّد المرسلين ، وربيت في حجر المتّقين ، ورضعت من ثدي الإيمان وفطمت بالإسلام ، فطبت حيّاً وطبت ميتاً ، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة بفراقك ، ولا شاكّة في حياتك ، فعليك سلام الله ورضوانه ، وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريّا (عليه‌السلام ).

ثمّ جال ببصره

١٥١

حول القبر وقال : السّلام عليكم أيّتها الأرواح التي حلّت بفِناء الحسين (عليه‌السلام ) وأناختْ برحله ، أشهد أنّكم أقمتم الصّلاة وآتيتم الزكاة ، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم الملحدين وعبدتم الله حتّى أتاكم اليقين. والذي بعث محمّداً بالحقّ لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه.

قال عطيّة : فقلت لجابر : فكيف ولمْ نهبط وادياً ولمْ نعلُ جبلاً ولمْ نضرب بسيف ، والقوم قد فُرّق بين رؤوسهم وأبدانهم ، واُوتمت أولادهم ، واُرملت الأزواج ؟! فقال لي : يا عطيّة ، سمعت حبيبي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول : (( مَن أحبّ قوماً حُشر معهم ، ومَن أحبّ عمل قوم اُشرك في عملهم )). والذي بعث محمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بالحقّ ، إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه.

قال عطيّة : فبينما نحن كذلك وإذا بسواد قد طلع من ناحية الشام ، فقلت : يا جابر ، هذا سواد قد طلع من ناحية الشام. فقال جابر لعبده : انطلق إلى هذا السّواد واتنا بخبره ؛ فإنْ كانوا من أصحاب عمر بن سعد فارجع إلينا لعلّنا نلجأ إلى ملجأ ، وإنْ كان زين العابدين فأنت حُرّ لوجه الله تعالى.

قال : فمضى العبد فما كان بأسرع من أنْ رجع وهو يقول : يا جابر ، قُم واستقبل حرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، هذا زين العابدين (عليه‌السلام ) قد جاء بعمّاته وأخواته. فقام جابر يمشي حافي الأقدام مكشوف الرأس إلى أنْ دنا من زين العابدين (عليه‌السلام ) ، فقال الإمام : (( أنت جابر ؟ )). قال : نعم يابن رسول الله. فقال : (( يا جابر ، هاهنا والله قُتلت رجالنا وذُبِحت أطفالنا ، وسُبيت نساؤنا وحُرقت خيامنا )).

ولكَمْ مَررتُ بكربلا مُتمَثلاً

شُهداءَها صَرعى على رَبواتِها

فوقفْتُ واسْتوقَفتُ فيها عُصبةً

وقَفوا نواظرَهُمْ على عبَراتِها

المجلس التسعون

لـمّا رجع علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) بعمّاته وأخواته من الشام ، مرّوا على كربلاء ثمّ انفصلوا عنها طالبين المدينة.

قال بشير بن جذلم : فلمّا قربنا منها ، نزل علي بن

١٥٢

الحسين (عليهما‌السلام ) فحطّ رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه ، وقال : (( يا بشير ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه ؟ )). قلت : بلى يابن رسول الله ، إنّي لشاعر. قال : (( فادخل المدينة وانعَ أبا عبد الله )).

قال بشير : فركبت فرسي وركضت حتّى دخلت المدينة ، فلمّا بلغت مسجد النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، رفعت صَوتي بالبكاء وأنشأت أقول :

يا أهلَ يثربَ لا مُقامَ لكُمْ بها

قُتل الحُسينُ فأدمُعي مِدرارُ

الجسمُ منهُ بكربلاءَ مُضرّجٌ

والرأسُ منهُ على القناةِ يُدارُ

ثم قلت : يا أهل المدينة ، هذا علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم اُعرّفكم مكانه. قال : فما بقيت بالمدينة مخدّرة ولا محجّبة إلّا برزن من خدورهن ، مكشوفة شعورهن ، مخمشة وجوههن ، ضاربات خدودهن يدعين بالويل والثبور ، ولمْ يبقَ بالمدينة أحد إلّا خرج وهم يضجّون بالبكاء ، فلم أرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وسمعتُ جارية تنوح على الحسين (عليه‌السلام ) وتقول :

نعَى سيّدي ناعٍ نعاهُ فأوجَعا

وأمرَضَني ناعٍ نعاهُ فأفجَعا

فعينَيَّ جودا بالدموعِ وأسكبا

وجودا بدمعٍ بعدَ دمْعِكُما مَعا

على مَنْ دهَى عرشَ الجليلِ فزَعْزعا

فأصبحَ هذا المجدُ والدّينُ أجدَعا

على ابن نبيِّ اللهِ وابنِ وصيِّهِ

وإنْ كان عنَّا شاحطَ الدّارِ أشْسَعا

ثم قالت : أيّها الناعي ، جدّدت حزننا بأبي عبد الله (عليه‌السلام ) ، وخدشت منّا قروحاً لـمّا تندمل ، فمَن أنت رحمك الله ؟ فقلت : أنا بشير بن جذلم ، وجّهني مولاي علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) وهو نازل بموضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) و نسائه. قال : فتركوني مكاني وبادروني ، فضربت فرسي حتّى رجعت إليهم ، فوجدت النّاس قد أخذوا الطريق والمواضع ، فنزلت عن فرسي وتخطّأت رقاب النّاس حتّى قربت من باب الفسطاط ، وكان علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) داخلاً

١٥٣

فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه وخلفه خادم معه كرسي ، فوضعه له وجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة ، وارتفعت أصوات النّاس بالبكاء من كلّ ناحية يعزّونه ، فضجّت تلك البقعة ضجّة شديدة ، فأومأ بيده أنْ اسكتوا ، فسكنت فورتهم ، فقال : (( الحمد لله ربّ العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدّين بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بعُد فارتفع في السّماوات العُلا وقَرُب فشهد النّجوى ، نحمده على عظائم الاُمور وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة.

أيّها القوم ، إنّ الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة ؛ قُتل أبو عبد الله وعترته ، وسُبي نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السّنان ، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة.

أيّها النّاس ، فأيّ رجالات منكم يُسرّون بعد قتله ؟! أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ؟! أم أيّ عين منكم تحبس دمعها وتضنّ عن انهمالها ؟! فلقد بكتْ السّبع الشّداد لقتله ، وبكتْ البحار بأمواجها ، والسّماوات بأركانها والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها والحيتان في لُجج البحار ، والملائكة المقرّبون وأهل السّماوات أجمعون.

أيّها النّاس ، أيّ قلب لا ينصدع لقتله ؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه ؟! أم أيّ سمع يسمع هذه الثّلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم ؟!

أيّها النّاس ، أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين شاسعين عن الأمصار من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إنْ هذا إلّا اختلاق ! والله ، لو أنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا ، لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها ، وأكظّها وأفظعها ، وأمرّها وأفدحها ، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وما بلغ بنا ، إنّه عزيز ذو انتقام )).

ثم دخل زين العابدين (عليه‌السلام ) المدينة فرآها مُوحشة باكية ، ووجد ديار أهله خالية تنعى أهلها وتندب سكّانها.

١٥٤

مَررتُ على أبياتِ آلِ محمّدٍ

فلَمْ أرَها أمثالها يوم حُلَّتِ

فلا يُبعدُ الله الدّيارَ وأهلَها

وإنْ أصبحتْ منهم برغم تخَلَّتِ

المجلس الواحد والتسعون

قال الصادق (عليه‌السلام ) : (( البكّاؤون خمسة : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وفاطمة بنت محمّد ، وعلي بن الحسين (عليه‌السلام ) ؛ فأمّا آدم (عليه‌السلام ) فبكى على الجنّة ؛ أمّا يعقوب فبكى على يوسف (عليه‌السلام ) حتّى ذهب بصره ، وحتّى قيل له :( تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ ) ؛ وأمّا يوسف فبكى على يعقوب (عليه‌السلام ) حتّى تأذّى به أهل السّجن فقالوا : إمّا أنْ تبكي بالنّهار وتسكت بالليل ، وإمّا أنْ تبكي بالليل وتسكت بالنّهار ، فصالحهم على واحد منهما ؛ وأمّا فاطمة بنت محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فبكت على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حتّى تأذّى بها أهل المدينة ، وقالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك ، فكانت تخرج إلى مقابر الشهداء فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف ؛ وأمّا علي بن الحسين (عليه‌السلام ) فبكى على أبيه الحسين أربعين سنة ، وما وُضع بين يدَيه طعام إلّا بكى حتّى قال له مولىً له : جُعلت فداك يابن رسول الله إنّي أخاف عليك أنْ تكون من الهالكين. قال : إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني العبرة )).

وعن الصادق (عليه‌السلام ) أنّه بكى على أبيه الحسين (عليه‌السلام ) أربعين سنة صائماً نهاره قائماً ليله ، فإذا حضره الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يدَيه ، فيقول : (( قُتل ابن رسول الله جائعاً ، قُتل ابن رسول الله عطشان )). فلا يزال يكرّر ذلك ويبكي حتّى يبل طعامه من دموعه ثمّ يمزج شرابه بدموعه ، فلم يزل كذلك حتّى لحق بالله عزّ وجل.

١٥٥

وفي رواية : أنّه كان إذا حضر الطعام لإفطاره ، ذكر قتلاه وقال : (( وآ كربلاء ! )) يُكرّر ذلك ويقول : (( قُتل ابن رسول الله جائعاً ، قُتل ابن رسول الله عطشان )) حتّى يبل بالدموع ثيابه.

وحدّث مولى له : أنّه برز يوماً إلى الصحراء ، قال : فتبعته فوجدته قد سجد على حجارة خشنة ، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه ، وأحصيت عليه ألف مرّة وهو يقول : (( لا إله إلّا الله حقّاً حقّاً ، لا إله إلّا الله تعبّداً ورقّاً ، لا إله إلّا الله إيماناً وصدقاً )). ثمّ رفع رأسه من سجوده وإذا لحيته ووجهه قد غمرا بالماء من دموع عينيه ، فقلت : يا سيّدي ، أما آن لحزنك أنْ ينقضي ولبكائك أنْ يقل ؟ فقال لي : (( ويحك ! إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيّاً ابن نبي ، له اثنا عشر ابناً ، فغيّب الله واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن ، واحدودب ظهره من الغمّ ، وذهب بصره من البكاء ، وابنه حيّ في دار الدّنيا ! وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين ، فكيف ينقضي حزني ويقلّ بكائي ؟! )).

لله أعباءُ صبرٍ قدْ تَحمَّلهَا

لمْ يحْتملْها نبيٌّ ووصيُّ نبي

هذي المصائِبُ لا ما كان في قِدمٍ

لآلِ يعقوبَ منْ حُزنٍ ومن كُربِ(١)

المجلس الثاني والتسعون

لـمّا قُتل الحسين (عليه‌السلام ) ، أتى عبد الله بن الزّبير فدعا ابن عبّاس إلى بيعته فامتنع ابن عبّاس ، وظنّ يزيد أنّ امتناع ابن عبّاس تمسّك منه ببيعته ، فكتب إليه : أمّا بعد ، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزّبير دعاك إلى بيعته والدخول في طاعته لتكون له على الباطل ظهيراً وفي المآثم شريكاً ، وأنّك اعتصمت ببيعتنا وفاءً منك لنا وطاعة لله لما عرَّفك من حقِّنا ، فجزاك الله عن ذي رحم خير ما يجزي الواصلين لأرحامهم ، الموفين بعهودهم ، فما أنسَ من الأشياء فلست بناسٍ بِرّك وتعجيل صلتك بالذي

______________________

(١) ورد البيتان في المجالس بهذا النحو :

هذي المصائبُ لا مصائب آلِ يَعـ

ـقوبَ وإنْ صدعَ الهوى إلمامَها

لقدْ تحمّلَ منْ أرزائها مِحناً

لمْ يحْتملْها نبيٌّ ووصيُّ نبيْ

وفيهما من الخلل العروضي ما لا يخفى ، وقد اعتمدنا تثبيتهما على مصدرهما الأساس بعد أن وجدناهما ضمن قصيدة للمرحوم عبد الحسين شكر متألفة من ٣٧ بيتاً. (موقع معهد الإمامين الحسنين)

١٥٦

أنت له أهل من القرابة من الرّسول ، فانظر مَن طلع عليك من الآفاق ممَّن سحرهم ابن الزّبير بلسانه وزُخرف قوله ، فأعلمهم برأيك ؛ فإنّهم منك أسمع ولك أطوع ، والسّلام.

فكتب إليه ابن عبّاس : أمّا بعد ، فقد جاءني كتابك تذكر فيه دعاء ابن الزّبير إيّاي إلى بيعته والدخول في طاعته، فإنْ يكن ذلك كذلك ، فإنّي والله ما أرجو بذلك برّك ولا حمدك ، ولكنّ الله بالذي أنوي به عليم. وزعمت أنّك غير ناسٍ برّي وتعجيل صلتي ، فاحبس أيّها الإنسان برّك وتعجيل صلتك فإنّي حابس عنك ودّي ، فلَعمري ما تؤتينا ممّا لنا قِبلك من حقِّنا إلّا اليسير ، وأنّك لتحبس عنّا منه العريض الطويل. وسألت أنْ أحثّ النّاس إليك وأنْ اُخذّلهم عن ابن الزّبير ، فلا ولاء و لا سرور ولا حباء ، إنّك تسألني نصرتك وتحثّني على ودّك وقد قتلت حسيناً (عليه‌السلام ) وفتيان عبد المطّلب مصابيح الهدى ونجوم الأعلام ، غادرتْهم خيولك بأمرك في صعيد واحد مرمّلين بالدّماء ، مسلوبين بالعراء ، لا مكفّنين ولا موسّدين ، تسفي عليهم الرياح وتنتابهم عرج الضّباع حتّى أتاح الله بقوم لم يشركوا في دمائهم كفّنوهم وأجنوهم ، وجلست مجلسك الذي جلست ! فما أنسى من الأشياء فلستُ بناسٍ طرادك حسيناً (عليه‌السلام ) من حرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى حرم الله وتسييرك إليه الرجال لتقتله في الحرم ، فما زلتَ بذلك وعلى ذلك حتّى أشخصته من مكّة إلى العراق ، فخرج خائفاً يترقّب ، فزلزلت به خيلك ؛ عداوةً منك لله ولرسوله ولأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، اُولئك لا كآبائك الجلاّف الجفاة أشباه الحمير. فطلب إليكم الحسين (عليه‌السلام ) الموادعة وسألكم الرّجعة ، فاغتنمتم قلّة أنصاره واستئصال أهل بيته ، فتعاونتم عليه كأنّكم قتلتم أهل بيت من الترك ، فلا شيء أعجب عندي من طلبتك وُدّي وقد قتلتَ ولد أبي وسيفك يقطر من دمي ، وأنت أحد ثأري ! وإنشاء الله لا يبطل لديك دمي ولا تسبقني بثأري ، وإنْ سبقتني في الدّنيا فقبل ذلك ما قُتل النبيّون وآل النبيّين فيطلب الله بدمائهم ، فكفى بالله للمظلومين ناصراً ومن الظالمين منتقماً.

ألا وإنّ من أعجب الأعاجيب ، وما عسى أنْ أعجب ، حملك بنات عبد المطّلب وأطفالاً صغاراً من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب ، تُري النّاس أنّك

١٥٧

قهرتنا ، وأنت تمنّ علينا وبنا مَنّ الله عليك ! ولعمر الله ، فلئن كنت تصبح آمناً من جراحة يدي إنّي لأرجو أنْ يعظّم الله جرحك من لساني ونقضي وإبرامي. والله ، ما أنا بآيس من بعد قتلك ولد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنْ يأخذك أخذاً أليماً ، ويُخرجك من الدّنيا مذموماً مدحوراً ، فعش لا أباً لك ما استطعت ، فقد والله أرداك ما اقترفت ، والسّلام على من اتّبع الهدى.

فلمّا وصل الكتاب إلى يزيد ، غضب غضباً شديداً وهمّ أنْ يقتل ابن عبّاس ، ولكن شغلته عنه قضيّة ابن الزّبير ، ثمّ أخذه الله أخذ عزيز مقتدر.

نصرتَ ابنُ عبّاسٍ حسينَ بنَ فاطمٍ

بحدِّ لسانٍ ما عنْ السّيفِ يَنقصُ

دعتْكَ إليه شِيمةٌ هاشميّةٌ

فحقّاً لأنتَ الهاشميُّ الـمُخلَصُ

المجلس الثالث والتسعون

روى الشيخ الطوسيرحمه‌الله في الأمالي قال : بلغ المتوكّل جعفر بن المعتصم أنّ أهل السّواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين (عليه‌السلام ) ، فيصير إلى قبره منهم خلق كثير ، فأنفذ قائداً من قوّاده وضمّ إليه جنداً كثيفاً ليحرث قبر الحسين (عليه‌السلام ) ويمنع النّاس من زيارته والاجتماع إلى قبره. فخرج القائد إلى الطفّ وعمل بما أمر ، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومئتين ، فثار أهل السّواد به واجتمعوا عليه وقالوا : لو قُتلنا عن آخرنا لما أمسك مَن بقي منّا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا ، فكتب بالأمر إلى الحضرة ، فورد كتاب المتوكّل إلى القائد بالكفّ عنهم والمسير إلى الكوفة مظهراً أنّ ذلك في مصالح أهلها.

فمضى الأمر على ذلك حتّى كانت سنة مئتين وسبع وأربعين ، فبلغ المتوكّل أيضاً مصير النّاس من أهل السّواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين (عليه‌السلام ) ، وأنّه قد كثر جمعهم

١٥٨

لذلك وصار لهم شوق كثير ، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند ، وأمر منادياً ينادي : أنْ برئت الذمّة ممَّن زار قبر الحسين (عليه‌السلام ) ، وأمر بنبش القبر وحرث أرضه ، وانقطع النّاس عن الزيارة.

ما كفى ما فعلته بنو اُميّة من قتل الحسين (عليه‌السلام ) وأهل بيته وأنصاره ، ورضّ جسده الشريف ، وسبي نسائه وذراريه من بلد إلى بلد ، وحمل رأسه ورؤوس أصحابه فوق الرماح حتّى جاءت بنو العبّاس فبنت على ما أسّسته بنو اُميّة وزادت عليه ، ورامت أنْ تدرس قبر الحسين (عليه‌السلام ) وتعفي أثره ، وتمنع النّاس من زيارته !( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَن يُتِمّ نُورَهُ ) (١) .

بنَى لهمُ الماضُونَ آساسَ هذهِ

فعلَوا على آساسِ تلك القواعدِ

ألا ليسَ فعلُ الأولينَ وإنْ عَلا

على قُبحِ فعلِ الآخرينَ بزائدِ

وكان بعض المحبّين قد حضر لزيارة الحسين (عليه‌السلام ) حين أمر المتوكّل بحرث القبر الشريف ، فلم تمكنه الزيارة ، فتوجّه نحو بغداد وهو يقول :

تاللهِ إنْ كانت اُميّةُ قدْ أتتْ

قَتلَ ابنِ بنتِ نبيِّها مظلُوما

فلقدْ أتاكَ بنو أبيهِ بمثلِها

هذا لَعمركَ قبرُهُ مهدُوما

أسِفوا على أنْ لا يكونوا شايَعوا

في قتلِهِ فتتبَّعُوهُ رَميْما

* * *

تتبَّعوكُمْ ورامُوا محوَ فضلِكُمُ

وخيَّبَ اللهُ من في ذلكُمْ طَمعا

أنَّى وفي الصلواتِ الخمسِ ذكركُمُ

لدَى التَّشهدِ للتوحيدِ قدْ شفَعا

المجلس الرابع والتسعون

روي عن الصادق (عليه‌السلام ) أنّه قال : (( ما اكتحلت هاشميّة ولا اختضبت ، ولا رئي في دار هاشمي دخان خمس سنين حتّى قُتل عبيد الله بن زياد )).

وعن فاطمة بنت

______________________

(١) سورة التوبة / ٣١.

١٥٩

علي أمير المؤمنين عليها وعلى أبيها السّلام أنّها قالت : ما تحنّأت امرأة منّا ، ولا أجالت في عينها مروداً ، ولا امتشطت حتّى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد.

ولـمّا قتل ابراهيمُ بن مالك الأشتر عبيد الله بن زياد ، بعث برأسه ورؤوس قوّاده - وفيها رأس الحُصين بن تميم - إلى المختار بالكوفة ، فقدموا عليه وهو يتغدّى فحمد الله على الظفر ، فلمّا فرغ من الغداء قام فوطئ وجه ابن زياد بنعله ، ثمّ رمى بها إلى غلامه وقال : اغسلها ، فإنّي وضعتها على وجه بَحسٍ كافر. ووُضعت الرؤوس في المكان الذي وضع فيه رأس الحسين (عليه‌السلام ) ورؤوس أصحابه ، ونصب المختار رأس ابن زياد في المكان الذي نصب فيه رأس الحسين (عليه‌السلام ).

وروى ابن الأثير في الكامل عن الترمذي في جامعه : أنّه لـمّا وُضع رأس ابن زياد أمام المختار ، جاءت حيّة دقيقة فتخلّلت الرؤوس حتّى دخلت في فم عبيد الله بن زياد ثمّ خرجت من منخره ، ودخلت في منخره وخرجت من فيه ، فعلت هذا مراراً ، ثمّ بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد إلى علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) وكان يومئذ بمكّة ، فاُدخل عليه وهو يتغدّى ، فسجد شكراً لله ، وقال : (( الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من عدوّي ، وجزى الله المختار خيراً. اُدخلت على ابن زياد وهو يتغدّى ، ورأس أبي بين يدَيه ، فقلتُ : اللهمَّ ، لا تُمتني حتّى تريني رأس ابن زياد )).

وكان قتل ابن زياد وأشياعه في يوم عاشوراء ، في اليوم الذي قُتل فيه الحسين (عليه‌السلام ) ، ولمْ يُقتل من أهل الشام بعد وقعة صفين مثلما قُتل في هذه الوقعة ؛ قُتل منهم سبعون ألفاً.

أيا ابنَ زيادٍ بؤ بما قدْ جنيتهُ

وذُقْ حدَّ ماضي الشّفرتينِ صَقيلِ

جزى اللهُ خيراً شرطةَ اللهِ إنّهُمْ

شفوا بعبيدِ اللهِ كلَّ غليلِ

المجلس الخامس والتسعون

روى الشيخ الطوسي في الأمالي بإسناده عن المنهال بن عمرو ، قال : دخلت على

١٦٠