المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ١

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 167

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 167
المشاهدات: 68650
تحميل: 3823


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 167 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68650 / تحميل: 3823
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 1

مؤلف:
العربية

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي

ما أقربَ الوعدَ من الرحيلِ

وإنَّما الأمرُ إلى الجليلِ

فسمعت اُخته زينب بنت فاطمة (عليهما‌السلام ) ذلك ، فقالت : يا أخي ، هذا كلام مَن أيقن بالقتل ! فقال (عليه‌السلام ) : (( نعم يا اُختاه )). فقالت زينب : وآ ثكلاه ! ينعى الحسين إليَّ نفسه! وبكت النّسوة ، وجعلت اُمّ كلثوم تنادي : وآ محمّداه ! وآ عليّاه ! وآ اُمّاه ! وآ أخاه ! وآ حسيناه ! وآضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله ! فعزّاها الحسين (عليه‌السلام ) ، ثمّ قال : (( يا اُختاه يا اُمّ كلثوم ، وأنت يا زينب ، وأنت يا فاطمة ، وأنت يا رباب ، انظرن إذا أنا قُتلت ، فلا تشققن عليّ جيباً ، ولا تخمشن عليّ وجهاً ، ولا تقلن هجراً )).

وفي رواية عن زين العابدين (عليه‌السلام ) : أنّ الحسين (عليه‌السلام ) قال هذه الأبيات عشيّة اليوم التاسع من المحرّم.

قال علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) : (( إنّي جالس في تلك الليلة التي قُتل أبي في صبيحتها ، وعندي عمّتي زينب تمرّضني ، إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جون مولى أبي ذر الغفاري ، وهو يعالج سيفه ويصلحه ، وأبي ينشد تلك الأبيات ، فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتّى فهمتها وعرفت ما أراد ، فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت أنّ البلاء قد نزل. وأمّا عمّتي ، فإنّها لـمّا سمعتْ ما سمعتُ - وهي امرأة ، ومن شأن النّساء الرقّة والجزع - لم تملك نفسها أنْ وثبتْ تجرّ ثوبها حتّى انتهت إليه ، و نادت : وآ ثكلاه ! ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت اُمّي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي ! فنظر إليها الحسين (عليه‌السلام ) ، وقال : يا اُخيّه ، لا يذهبنّ حلمك الشيطان. فقالت : بأبي واُمّي ! أتستقل ؟! نفسي لك الفداء. فردت عليه غصّته ، وترقرقت عيناه بالدموع ، ثمّ قال : لو تُرك القطا ليلاً لنام. فقالت : يا ويلتاه ! أفتغتصب نفسك اغتصاباً ، فذلك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي ؟! وخرّت مغشيّة عليها ، فقام إليها الحسين (عليه‌السلام ) فصبّ على وجهها الماء حتّى أفاقت ، فقال لها الحسين (عليه‌السلام ) : يا اُختاه ، تعزَّي بعزاء الله ؛ فإنّ سكّان السّماوات يفنون ، وأهل الأرض كلّهم يموتون ، وجميع البريّة يهلكون ، وكلّ شيء هالكٌ إلّا وجهه الذي خلق بقدرته ، ويبعث

٨١

الخلق ويعيدهم وهو فرد وحده. جدّي خيرٌ منّي ، وأبي خيرٌ منّي ، واُمّي خيرٌ منّي ، وأخي خيرٌ منّي ، و لي ولكلّ مسلم برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) اُسوة. ثمّ قال لها : يا اُختاه ، إنّي أقسمت عليك فأبرّي قسمي ، لا تشقّي عليّ جيباً ، ولا تخمشي عليّ وجهاً ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت )).

اُختُ يا زينبُ اُوْ

صيكِ وصايَا فاسمعي

إنّنيْ في هذهِ الْـ

أرضِ مُلاقٍ مصرعي

فانظُمي حالَ اليتامَى

بعد فقْدي واجمَعي

واصْبري فالصَّبرُ منْ

خيمِ كرامِ الـمَنزعِ

كلُّ حيٍّ سيُنَحْـ

ـحِيهِ عن الأحياءِ حَينْ

واجمَعي شملَ اليتامَى

بعدَ فقدي وانظُمِي

أطْعمِي مَن جاعَ منهُمْ

ثمّ روِّي مَن ظَمِي

واعلَمِي أنيَ فيْ

حفظِهمُ طُلَّ دمِي

ليتَني بينهُمُ

كالأنفِ بين الحاجبَينْ

المجلس الرابع والأربعون

لـمّا بلغ عبيد الله بن زياد نزول الحسين (عليه‌السلام ) بكربلاء ، ندب عمر بن سعد بن أبي وقّاص لقتاله ، وكان قد ولاّه الرَّي ، فاستعفاه من قتال الحسين (عليه‌السلام ) ، فقال : نعم ، على أنْ تردَّ علينا عهدنا بولاية الرَّي. فشاور عمر نُصحاءه فنهوه عن ذلك ، فلمْ يقبل واختار الدّنيا على الآخرة.

وسار ابن سعد لقتال الحسين (عليه‌السلام ) ومعه أربعة آلاف ، وما زال ابن زياد يمدّه بالعساكر حتّى تكمّل عنده عشرون ألف فارس لستِّ ليال خلون من المحرّم ، وأتبعه ببقيّة العسكر فكمُل عنده ثلاثون ألفاً ، وأرسل ابن سعد إلى الحسين (عليه‌السلام ) رسولاً يسأله ما الذي جاء به ، فقال

٨٢

له الحسين (عليه‌السلام ) : (( كتب إليّ أهل مصركم هذا أنْ اقدم ، فأمّا إذا كرهتموني ، فإنّي أنصرف عنكم )). فانصرف إلى ابن سعد فأخبره ، فقال : أرجو أنْ يعافيني الله من أمره. وكتب إلى ابن زياد بذلك ، فلمّا قرأ الكتاب قال :

الآنَ إذْ عَلَقتْ مخالبُنا بهِ

يرجُو النَّجاةَ ولاتَ حينَ مناصِ

ثم كتب إلى ابن سعد : أنْ أعرض على الحسين أنْ يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا هو فعل ذلك رأينا رأْينا. فقال ابن سعد : قد خشيتُ أنْ لا يقبل ابن زياد العافية.

وورد كتاب ابن زياد في الأثر إلى ابن سعد : أنْ حِل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، فلا يذوقوا منه قطرة كما صُنع بالتقي الزكي عثمان بن عفّان. فبعث عمر في الوقت عمرو بن الحجّاج الزبيدي في خمسمئة فارس فنزلوا على الشريعة ، وحالوا بين الحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه وبين الماء ، فمنعوهم أنْ يستقوا منه قطرة ، وذلك قبل قتل الحسين (عليه‌السلام ) بثلاثة أيام.

وجاء تميم بن الحُصين الفزاري ، فنادى : يا حسين ، ويا أصحاب الحسين ، أما ترون ماء الفرات يلوح كأنّه بطون الحيّات ؟ والله ، لا ذقتم منه قطرة حتّى تذوقوا الموت جرعاً.

منعوهُ منْ ماءِ الفراتِ ووردِهِ

وأبوهُ ساقِي الحوْضِ يومَ جزاءِ

حتّى قضَى عَطشاً كما اشتَهتْ العِدى

بأكفِّ لا صِيدٍ ولا أكفاءِ

المجلس الخامس والأربعون

لـمّا ضيّق القوم على الحسين (عليه‌السلام ) حتّى نال منه العطش ومن أصحابه ، قال له برير بن خضير الهمداني : يابن رسول الله ، أتأذن لي أنْ أخرج إلى القوم ؟ فأذن له فخرج إليهم ، فقال : يا معشر النّاس ، إنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّداً بالحقّ بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السّواد وكلابه ، وقد حيل بينه وبين ابنه. فقالوا : يا برير ، قد أكثرت الكلام فاكفف ، والله ،

٨٣

ليعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله. فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( اقعد يا برير )). ثمّ وثب الحسين (عليه‌السلام ) متوكّئاً على قائم سيفه ، ونادى بأعلى صوته فقال : (( اُنشدكم الله ، هل تعرفونني ؟ )). قالوا : نعم ، أنت ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وسبطه. قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ جدّي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؟ )). قالوا : اللهمَّ نعم. قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ اُمّي فاطمة بنت محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؟ )). قالوا : اللهمَّ نعم. قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ أبي علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) ؟ )). قالوا : اللهمَّ نعم. قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ جدّتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الاُمّة إسلاماً ؟ )). قالوا : اللهمَّ نعم. قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ سيّد الشهداء حمزة عمّ أبي ؟ )). قالوا : اللهمَّ نعم. قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ الطيّار في الجنّة عمّي ؟ )). قالوا : اللهمَّ نعم. قال : (( فاُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنا متقلّده ؟ )). قالوا : اللهمَّ نعم. قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله أنا لابسها ؟ )). قالوا : اللهمَّ نعم. قال : (( اُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ عليّاً أول القوم إسلاماً وأعلمهم علماً وأعظمهم حلماً ، وأنّه وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة ؟ )). قالوا : اللهمَّ نعم. قال : (( فبِمَ تستحلّون دمي وأبي الذائد عن الحوض ، يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصاد(١) عن الماء ، ولواء الحمد في يد أبي

______________________

(١) قال الزمخشري في الفائق : قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لعلي (عليه‌السلام ) : (( أنت الذائد عن حوضي يوم القيامة ، تذود عنه الرجال كما يُذاد البعير الصاد )).

الصاد ( بلفظ حرف الهجاء ) : أصله الصَّيد ( بكسر الياء ) فقُلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها : وهو الذي به داء الصَّيد ، وهو داءٌ يأخذ في رأس البعير لا يقدر منه أنْ يلوي عُنقه وبه شُبّه المتكبّر ، فقيل : أصيد - كذا يُفهَم من الفائق -. قال : ويجوز أنْ يروى بكسر الدال ويكون فاعلاً من الصدى ، وهو العطش – اهـ -.

وفيه : أنّ الصَّادي لا يُذاد عن الماء عادة بل يُسقى ، وفي القاموس : الصاد والصَّيد ( بالكسر ويحرّك ) : داء يصيب الإبل فتسيل اُنوفها فتسمو برأسها. وبعير صاد : أي ذو صاد ، والصَّاد : عرق بين عينَي البعير ومنه يصيبه الصَّيد – اهـ - وإنّما يُذاد لئلاّ يعدي غيره ، أو لأنّ الماء يضرّه. وبعض يقولها : الصادر ، وهو خطأ مخالف للرواية مع أنّ الصادر لا يحتاج إلى الذياد. - المؤلّف -

٨٤

يوم القيامة ؟! )). قالوا : علمنا ذلك كلّه ، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً.

فلمّا خطب هذه الخطبة وسمعت بناته واُخته زينب كلامه ، بكين وارتفعت أصواتهن ، فوجّه إليهنّ أخاه العبّاس وعليّاً ابنه ، وقال لهما : (( سكّتاهن ، فلعمري ليكثرن بكاؤهن )).

يرى الفُراتَ ولا يحْظَى بموردِهِ

ليتَ الفراتَ غدا منْ بعدهِ يَبسَا

تحوطُهُ من بني عدنانَ أغلمةٌ

بيضُ الوجوهِ كرامٌ سادةٌ رُؤسا

المجلس السّادس والأربعون

لـمّا رأى الحسين (عليه‌السلام ) نزول العسكر مع عمر بن سعد بنينوى ومددهم لقتاله ، أنفذ إلى عمر بن سعد : (( إنّي اُريد أنْ ألقاك ليلاً )). فاجتمعا ليلاً بين العسكرين وتناجيا طويلاً ، ثمّ كتب عمر إلى ابن زياد : أمّا بعد ، فإنّ الله تعالى قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الاُمّة ؛ هذا الحسين قد أعطاني أنْ يرجع إلى المكان الذي منه أتى ، أو أنْ يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلاً من المسلمين ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، أو أنْ يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه ، وفي هذا لك رضىً وللاُمّة صلاح.

وعن عقبة بن سمعان أنّه قال : والله ، ما أعطاهم الحسين (عليه‌السلام ) أنْ يضع يده في يد يزيد ، ولا أنْ يسير إلى ثغر من الثغور ، ولكنّه قال : (( دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، أو أذهب في هذه الأرض العريضة )).

فلمّا قرأ ابن زياد الكتاب ، قال : هذا كتاب ناصح لأميره ، مشفق على قومه. فقام شمر(١) بن ذي الجوشن وقال : أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك ؟! والله ، لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في

______________________

(١) شَمِرْ كـ ( كَتِفْ ) ، والعامّة تلفظ بالكسر فالسكون ، والظاهر أنّه غلط. - المؤلّف -

٨٥

يدك ، ليكوننّ أولى بالقوّة والعزّة ولتكوننّ أولى بالضعف والعجز ، ولكن لينزل على حُكمك هو وأصحابه ، فإنْ عاقبت فأنت أولى بالعقوبة ، وإنْ عفوت كان ذلك لك. فقال له ابن زياد : نِعم ما رأيت ! الرأي رأيك ، اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النّزول على حكمي ، فإذا فعلوا فليبعث بهم إليّ سلماً ، وإنْ أبوا فليقاتلهم ، فإنْ فعل فاسمع له وأطع ، وإنْ أبى فأنت أمير الجيش ، فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه.

وكتب إلى ابن سعد : إنّي لم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا لتطاوله ، ولا لتمنّيه السّلامة والبقاء ، ولا لتعتذر عنه ، ولا لتكون له عندي شافعاً ، انظر فإنْ نزل الحسين وأصحابه على حُكمي واستسلموا فابعث بهم إليّ سِلماً ، وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتُمثّل بهم ؛ فإنّهم لذلك مُستحقّون. فإنْ قتلت الحسين فأوطئ بالخيل صدره وظهره ؛ فإنّه عاقّ شاقّ ظلوم ، ولستُ أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً ، ولكن عليّ قولٌ قد قلتُه : لو قد قتلتُه لفعلتُ هذا به. فإنْ أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السّامع المطيع ، وإنْ أبيت فاعتزل عملنا وجُندنا ، وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ، فإنّا قد أمّرناه بأمرنا ، والسّلام.

فلمّا قرأ ابن سعد الكتاب ، قال له : ما لك ويلك ! لا قرّب الله دارك ، وقبّح الله ما قدمت به عليّ. والله ، إنّي لأظنّك أنت الذي نهيته أنْ يقبل ما كتبتُ به إليه ، وأفسدت علينا أمراً كنّا قد رجونا أنْ يصلح. لا يستسلم والله ، حسين ؛ إنّ نفس أبيه لَبين جنبيه. فقال له شمر : أخبرني بما أنت صانع ، أتمضي لأمر أميرك وتُقاتل عدوّه ، وإلّا فخلّ بيني وبين الجند والعسكر ؟ قال : لا ، ولا كرامة لك ، ولكن أنا أتولّى ذلك دونك ، فكُنْ أنت على الرجّالة.

سامَوهُ أنْ يردَ الهوانَ أو المنيـ

ـيَة والمسوَّدُ لا يكون مَسودَا

فانصاعَ لا يعْبَأ بهمْ عن عدّةٍ

كثُرتْ عليه ولا يخافُ عديدَا

* * *

٨٦

المجلس السّابع والأربعون

لـمّا كان اليوم التاسع من المحرّم ، جاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين (عليه‌السلام ) فقال : أين بنو اُختنا ؟ يعني العبّاس وجعفر وعبد الله وعثمان أبناء علي (عليه‌السلام ). فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( أجيبوه وإنْ كان فاسقاً ؛ فإنّه بعضُ أخوالكم )) : وذلك إنّ اُمّهم كانت من عشيرته. فقالوا له : ما تريد ؟ فقال لهم : أنتم يا بني اُختي آمنون ، فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين ، والزموا طاعة يزيد. فقالوا له : لعنك الله ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ؟!

وفي رواية : فناداه العبّاس بن أمير المؤمنين (عليهما‌السلام ) : تبّت يداك ولُعن ما جئتنا به من أمانك يا عدوّ الله ، أتأمرنا أنْ نترك أخانا وسيّدنا الحسين بن فاطمة ، وندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء ؟! فرجع شمر إلى عسكره مغضباً.

ثم نادى عمر بن سعد : يا خيل الله اركبي وبالجنّة أبشري. فركب النّاس خيولهم ، ثمّ زحف نحوهم بعد العصر ، والحسين (عليه‌السلام ) جالس أمام بيته محتب بسيفه إذ خفق برأسه على ركبته ، فسمعت اُخته زينب الضجّة ، فدنت من أخيها ، فقالت : يا أخي ، أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت ؟ فرفع الحسين (عليه‌السلام ) رأسه ، فقال : (( إنّي رأيت السّاعة جدّي محمّداً وأبي علياً واُمّي فاطمة وأخي الحسن ، وهم يقولون : يا حسين إنّك رائح إلينا عن قريب )).

وقال له العبّاس : يا أخي ، أتاك القوم. فنهض ثمّ قال (عليه‌السلام ) : (( يا عبّاس ، اركب بنفسك أنت حتّى تلقاهم وتقول لهم : ما بالكم ؟ وما بدا لكم ؟ )). فأتاهم في نحو عشرين فارساً فيهم زهير بن القَين وحبيب بن مظاهر ، فسألهم فقالوا : قد جاء أمر الأمير أنْ نعرض عليكم أنْ تنزلوا على حكمه أو نناجزكم. قال : فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. فلمّا أخبره العبّاس بقولهم ، قال له : (( ارجع إليهم ، فإنْ استطعت أنْ تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره ؛ فهو يعلم أنّي كنت اُحبّ الصّلاة له ، وتلاوة كتابه ، وكثرة

٨٧

الدعاء والإستغفار )). فسألهم العبّاس ذلك ، فتوقّف ابن سعد ، فقال له عمر بن الحجّاج الزبيدي : سبحان الله ! والله ، لو أنّهم من التُرك أو الدّيلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم آل محمّد ! فأجابوهم لذلك.

وفتيةٍ منْ رجالِ اللهِ قدْ صَبَروا

على الجلادِ وعانَوا كلَّ محذورِ

حتّى تراءتْ لهُمْ عدنٌ بزينتِها

مآتماً كُنَّ عُرْسَ الخُرَّدِ الحُورِ

المجلس الثامن والأربعون

لـمّا كانت ليلة العاشر من المحرّم ، جمع الحسين أصحابه عند قرب المساء ، قال علي بن الحسين (عليهما‌السلام ) : (( فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم - وأنا إذ ذاك مريض - فسمعت أبي يقول لأصحابه : أثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء. اللهمَّ ، إنّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنبوّة ، وعلّمتنا القرآن ، وفقّهتنا في الدّين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ، فاجعلنا لك من الشاكرين. أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عنّي خيراً ، ألا وإنّي لأظنّ يوماً لنا من هؤلاء القوم ، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ واحدٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي وتفرّقوا في سواد هذا الليل ، وذروني وهؤلاء القوم ؛ فإنّهم لا يريدون غيري )).

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر : ولِم نفعل ذلك ؟! لنبقى بعدك ! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العبّاس بن أمير المؤمنين وأتبعه الجماعة عليه فتكلّموا بمثله ونحوه.

ثم نظر إلى بني عقيل ، فقال : (( حسبُكم من القتل بصاحبكم مسلم ، اذهبوا فقد أذنتُ لكم )). قالوا : سبحان الله ! فما يقول النّاس لنا وماذا نقول لهم ؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولمْ نرمِ معهم بسهم ، ولمْ نطعن

٨٨

معهم برُمح ، ولمْ نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا ! لا والله ، ما نفعل ، ولكنّا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونُقاتل معك حتّى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك.

وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي ، فقال : أنحن نخلّي عنك وقد أحاط بك هذا العدوّ ؟! وبِم نعتذر إلى الله في أداء حقّك ؟! لا والله ، لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، واُضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لمْ يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، ولمْ اُفارقك أو أموت معك. وقام سعيد بن عبد الله الحنفي ، فقال : لا والله يابن رسول الله ، لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله أنّا حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). والله ، لو علمت أنّي اُقتل فيك ثمّ اُحيا ، ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرّى ، يُفعل فيَّ ذلك سبعين مرّة ، ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ، ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً ؟! وقام زهير بن القَين ، وقال : والله يابن رسول الله ، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ألف مرّة وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هولاء الفتيان من إخوانك وولدك وأهل بيتك. وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً ، وقالوا : أنفسنا لك الفداء ! نقيك بأيدينا ووجوهنا ، فإذا نحن قُتلنا بين يديك ، نكون قد وفّينا لربّنا وقضينا ما علينا.

ووصل خبر إلى محمّد بن بشير الحضرمي في تلك الحال بأنّ ابنه قد اُسر بثغر الرّي ، فقال : عند الله أحتسبه ونفسي ، ما كنتُ اُحبّ أنْ يُؤسر وأبقى بعده. فسمع الحسين (عليه‌السلام ) قوله ، فقال : (( رحمك الله ، أنت في حلّ من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك )). فقال : أكلتني السّباع حيّاً إنْ فارقتك. قال : (( فأعطِ ابنك هذا هذه الأثواب البُرود يستعين بها في فداء أخيه )). فأعطاه خمسة أثواب بُرود قيمتها ألف دينار ، فحملها مع ولده.

أبتْ الحميّةُ أنْ تُفارقَ أهلَهَا

وأبَى العزيزُ بأنْ يعيشَ ذليلا

وأقام الحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه الليل كلّه وهم يصلّون ويستغفرون ، ويدعون ويتضرّعون ، وباتوا ولهم دويّ كدويّ النّحل ما بين راكع وساجد ، وقائم وقاعد.

٨٩

سمةُ العبيدِ من الخشوعِ عليهمُ

لله إنْ ضمّتْهُمُ الأسحارُ

فإذا ترجّلتِ الضُّحى شَهدتْ لهُمْ

بيضُ القواضبِ أنّهمْ أحرارُ

فعبر إليهم في تلك الليلة من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً ، فلمّا كان وقت السّحر خفق الحسين (عليه‌السلام ) برأسه خفقة ثمّ استيقظ ، فقال : (( رأيت كأنّ كلاباً قد شهدت لتنهشني، وفيها كلب أبقع رأيته أشدّها عليّ ، وأظنّ أنّ الذي يتولّى قَتلي رجل أبرص. ثمّ إنّي رأيت جدّي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول : يا بُني ، أنت شهيد آل محمّد ، وقد استبشر بك أهل السّماوات وأهل الصفيح الأعلى... ))(١) .

إيهٍ مصارعَ كربلا كَمْ غصّةٍ

جرّعتِ آلَ محمّد كُرُباتها

وافتْكِ رايةُ سِبطهِ منشورةً

فطويتِها وحَطَمتِ صدرَ قناتِها

المجلس التاسع والأربعون

لـمّا أصبح الحسين (عليه‌السلام ) يوم عاشوراء ، عبّأ أصحابه للقتال ، وكانوا اثنين وثلاثين فارساً وأربعين راجلاً ، فجعل زهير بن القَين في الميمنة ، وحبيب بن مظاهر في الميسرة ، وأعطى الراية العبّاس أخاه ، وأمر الحسين (عليه‌السلام ) بفسطاط فضُرب ، وأمر بجفنة فيها مسك كثير وجعل عندها نورة ، ثمّ دخل ليطلي.

فروي أنّ بُرير بن خضير الهمداني وعبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاري وقفا على باب

______________________

(١) اذا وجد القارئ المجال متّسعاً ، وأراد أنْ يضمّ إلى هذا المجلس ما تقدّم في المجلس الثالث والأربعين من قوله : ( قال علي بن الحسين (عليه‌السلام ) : إنّي لجالس... إلى آخره ) فلا مانع. وإذا وصل إلى قوله : ( وأبي ينشد تلك الأبيات ) ، فليقل بَدَله : ( وأبي يقول : يا دهرُ أفٍّ لك منْ خليلِ ) إلى آخر الأبيات والحديث. - المؤلّف -

٩٠

الفسطاط ليطليا بعده ، فجعل بُرير يُضاحك عبد الرحمن ، فقال له عبد الرحمن : يا بُرير ، ما هذه ساعة باطل ! فقال بُرير : لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شابّا ، وإنّما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه.

قال علي بن الحسين (عليه‌السلام ) : (( لـمّا صبحت الخيل الحسين (عليه‌السلام ) ، رفع يديه وقال : اللهمَّ ، أنت ثقتي في كلّ كرب ، وأنت رجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزلَ بي ثقة وعدّة. كم من كرب يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصّديق ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك وشكوتُه إليك ؛ رغبةً منّي إليك عمّن سواك ، ففرّجتَه عنّي و كشفتَه ، فأنت وليّ كلّ نعمة وصاحب كلّ حسَنَة ومُنتهى كلّ رغبة )).

وقُرّب إلى الحسين (عليه‌السلام ) فرسه ، فاستوى عليه وتقدّم نحو القوم في نفر من أصحابه ، وبين يديه بُرير بن خضير ، فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( كلّم القوم )). فتقدّم بُرير فقال : يا قوم ، اتّقوا الله فإنّ ثقل محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد أصبح بين أظهركم ، هؤلاء ذرّيّته وعترته وبناته وحرمه ، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أنْ تصنعوه بهم ؟ فقالوا : نريد أنْ نمكّن منهم الأمير ابن زياد فيرى رأيه فيهم. فقال لهم برير : أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها ؟ يا ويلكم ! أدعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم ، حتّى إذا أتَوكم أسلمتموهم وحلأتموهم عن ماء الفرات ، بئس ما خلّفتم نبيّكم في ذرّيّته ! ما لكم لا سقاكم الله يوم القيامة ، فبئس القوم أنتم ! فقال له نفر منهم : يا هذا ، ما ندري ما تقول.

وقال بُرير : الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة. اللهمَّ ، إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم. اللهمَّ ، ألقِ بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان. فجعل القوم يرمونه بالسّهام ، فرجع إلى ورائه.

قسَتْ القلوبُ فلمْ تَملْ لهدايةٍ

تبّاً لهاتيكَ القُلوبِ القاسيَهْ

* * *

٩١

المجلس الخمسون

لـمّا كان يوم عاشوراء وزحف أهل الكوفة لقتال الحسين (عليه‌السلام ) ، تقدّم الحسين (عليه‌السلام ) حتّى وقف بإزاء القوم فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّهم السّيل ، ونظر إلى ابن سعد واقفاً في صناديد الكوفة ، فحمد الله وأثنى عليه وذكَره بما هو أهله ، وصلّى على النّبي محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وعلى الملائكته والأنبياء والرُّسل ، وقال ما لا يحصى كثرة ، فلم يُسمع متكلّم قط قبلَه ولا بعدَه أبلغ في المنطق منه.

لهُ منْ عليٍّ في الحُروبِ شَجاعةٌ

ومنْ أحمدٍ عندَ الخِطابةِ قِيلُ

فكان ممّا قال : (( الحمد لله الذي خلق الدّنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور مَنْ غرّته والشقيّ مَنْ فتنته ، فلا تغرّنكم هذه الدّنيا ؛ فإنّها تقطع رجاء مَنْ ركن إليها وتخيب طمع مَنْ طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمتة وجنّبكم رحمته ، فنعم الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم ! أقررتم بالطّاعة وآمنتم بالرسول محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبّاً لكم ولِما تريدون. إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبُعداً للقوم الظالمين )). فقال ابن سعد : ويلكم ! كلّموه فإنّه ابن أبيه. والله ، لَو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً ، لما انقطع ولما حصر.

فتقدّم شمر فقال : يا حسين ، ما هذا الذي تقول ؟ أفهمنا حتّى نفهم. فقال : (( أقول : اتّقوا الله ربّكم ولا تقتلوني ؛ فإنّه لا يحلّ لكم قتلي ولا انتهاك حرمتي ؛ فإنّي ابن بنت نبيّكم ، وجدّتي خديجة زوجة نبيّكم ، ولعلّه بلغكم قول نبيّكم : الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة )). ثمّ قال : (( أمّا بعد ، فانسبوني وانظروا مَن أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هل يصلح ويحلّ لكم قتلي وانتهاك

٩٢

حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأول المؤمنين بالله والمصدّق برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وبما جاء من عند ربّه ؟! أوَليس حمزة سيّد الشّهداء عمّ أبي ؟! أوَليس جعفر الطيّار في الجنّة بجناحين عمّي ؟! أوَلمْ يبلغكم ما قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنّة ؟! فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ ، والله ما تعمّدتُ كذباً مُذْ علمت أنّ الله يمقتُ عليه أهلَه ، وإنْ كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إذا سألتموه عن ذلك أخبركم ؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبا سعيد الخدري ، وسهل بن سعد السّاعدي ، والبرّاء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لي ولأخي ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟ )).

فقال له شِمر بن ذي الجوشن : هو يعبد الله على حرف إنْ كان يدري ما تقول. فقال له حبيب بن مظاهر : والله ، إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك.

ثم قال لهم الحسين (عليه‌السلام ) : (( فإنْ كنتم في شكّ من هذا ، أفتشكّون في أنّي ابن بنت نبيّكم ؟ فوالله ، ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم ! أتطلبونني بقتيل منكم قتلتُه أو مال لكم استهلكتُه أو بقصاص من جراحة ؟! )). فأخذوا لا يكلّمونه ، فنادى : (( يا شبث بن ربعي ، ويا حجّار بن أبجر ، ويا قيس بن الأشعث ، ويا يزيد بن الحارث ، ألم تكتبوا إليّ : أنْ قد أينعت الثّمار واخضرّت الجنان وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة ؟ )). فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ، ولكن انزل على حكم بني عمّك فإنّهم لنْ يروك إلّا ما تُحب. فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( لا والله ، لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذّليل ، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد )).

بأبي أبيّ الضّيمِ لا يُعطيْ العِدى

حذَرَ المنيّةِ منه فضلَ قيادِ

بأبي فريداً أسلمتْهُ يَدُ الرَّدى

في دارِ غُربتهِ لجمعِ أعادي

* * *

٩٣

المجلس الواحد والخمسون

لـمّا كان يوم عاشوراء ركب الحسين (عليه‌السلام ) ناقته - وقيل فرسه - وخرج إلى النّاس فاستنصتهم، فأبوا أنْ ينصتوا له حتّى قال لهم : (( ويلكم ! ما عليكم أنْ تنصتوا لي فتسمعوا قولي، وإنّما أدعوكم الى سبيل الرّشاد ، فمَن أطاعني كان من المرشدين ، ومَن عصاني كان من المهلكين ، وكلّكم عاصٍ لأمري غير مستمع قولي ، فقد مُلئتْ بطونُكم من الحرام وطُبع على قلوبكم. ويلكم ! ألا تنصتون ألا تسمعون )). فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم وقالوا : انصتوا له.

فحمد الله وأثنى عليه وذكَرَه بما هو أهله ، وصلّى على محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وعلى الملائكة والأنبياء والرُّسل وأبلغ في المقال ، ثمّ قال : (( تبّاً لكم أيّتها الجماعة وتَرْحاً ! أحين استصرختُمونا وَالهين ، فأصرخناكُم مُوجِفين مُؤدِّين مُستعدِّين ، سللتُمْ علينا سيفاً لنا في أيمانِكم ، وحششتم علينا ناراً قَدحْناها على عدوِّكم وعدوِّنا ، فأصبحتم إلْباً على أوليائكُم ويداً عليهم لأعدائِكم ، بغير عدلٍ أفشَوه فيكمْ ، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم ، إلّا الحرامَ من الدّنيا أنالوكُمْ ، وخسيسُ عيشٍ طمعتُم فيه ، من غيرِ حَدثٍ كان مِنّا ، ولا رأيٍ تفيَّل(١) لنا.

فهلاّ - لكم الويلات - إذ كرهتمُونا وتركتمُونا ، تجهّزتُمُوها والسّيف مِشيَمٌ(٢) ، والجأش(٣) طامنٌ(٤) ، والرأي لـمّا يُستَحصَف(٥) ، ولكن أسرعتُم إليها كطَيرة الدِّبا(٦) ، وتداعيتُم إليها كتداعي الفراش. فسُحقاً لكم يا عبيد طواغيت الاُمّة ، وشِذاذَ الأحزابِ ونَبَذةَ الكتاب ، ونفَثةَ الشّيطانِ وعُصبةَ الآثامِ ، ومُحرّفي الكتاب ومُطفئي السُّنّة ، وقَتَلةَ أولاد الأنبياءِ ومبيدي عترة الأوصياء ، ومُلحقي العِهار بالنَّسب ومؤذي المؤمنين ، وصُراخ أئمَّةِ المستهزئين الذين جعلوا

______________________

(١) تفيل الرأي : أخطأ وأضعف.

(٢) مغمد.

(٣) الجأش : القلب والفكر.

(٤) ساكن مطمئن.

(٥) يستحكم.

(٦) الدَبا ( بفتح الدال وتخفيف الباء ) : الجراد الصغير. - المؤلّف -

٩٤

القُرآن عضين ! ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون ! وأنتم ، ابن حرب وأشياعه تعضدون ، وعنّا تخاذلون ! أجل والله ، الخَذلُ فيكم معروفٌ ، وشجتْ عليه اُصولكم وتأزّرت عليه فروعُكم ، ونبتتْ عليه قلوبكم وغشيَتْ صدوركم ، فكنتُم أخبث ثمر شَجي للناظر وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على النّاكثين الذين ينقضُون الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً فأنتم والله هم.

ألا إنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد رَكزَ بين اثنتين ؛ بين السّلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ! يأبى الله ذلك لنا ورسولُه والمؤمنون ، وجدود طابت وحجور طهُرت ، واُنوف حميّة ونفوس أبيّة لا تُؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام ، ألا قد أعذَرتُ وأنذرتُ. ألا وإنّي زاحفٌ بهذه الاُسرة مع قلّة العدد وكثرة العدوّ وخذلان النّاصر )).

ثمّ وصل (عليه‌السلام ) كلامه بأبيات فروة بن مسيك المرادي ، فقال :

فإنْ نهزَمْ فهزّامونَ قِدماً

وإنْ نغلَبْ فغيرُ مغلّبينَا

وما إنْ طبُّنا جُبنٌ ولكنْ

منايانَا ودولةُ آخَرينَا

إذا ما الموتُ رفّعَ عن اُناسٍ

كلا كِلَهُ أناخَ بآخَرينا

فأفنَى ذلكُمْ سَرواتِ قَومِي

كمَا أفنَى القرونَ الأوّلينَا

فلو خَلُد الملوكُ إذنْ خَلُدنا

ولو بقيَ الكرامُ إذنْ بَقينا

فقُلْ للشّامتينَ بنَا أفيقُوا

سَيلقَى الشامتونَ كمَا لقينَا

ثم قال : (( أما والله ، لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يركب الفرس حتّى تدور بكم دور الرّحى ، وتُقلق بكم قلق المحور ،( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُون ) (١) .( إِنّي تَوَكّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبّي وَرَبّكُم مَا مِن دَابّةٍ إِلّا هُوَ آخِذُ بِنَاصِيَتِهَا إِنّ رَبّي عَلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٢) )).

ثم قال : (( ادعوا لي عمر بن سعد )). فدُعي له ، وكان كارهاً لا يحبّ أن يأتيه ، فقال (عليه‌السلام ) : (( يا عمر ، أنت تقتلني وتزعم أنْ يولّيك الدّعي ابن الدّعي بلاد الرّي وجُرجان ؟! والله، لا تتهنّأ بذلك أبداً ، فاصنع ما أنت صانع فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة )). فاغتاظ ابن سعد من كلامه ، ثمّ صرف بوجهه عنه ، ونادى بأصحابه : ما

______________________

(١) سورة يونس / ٧١.

(٢) سورة هود / ٥٦.

٩٥

تنظرون به ؟ احملوا بأجمعكم ، إنّما هي أكلة واحدة. ثمّ وضعَ سهماً في كَبَد قوسه فرمى به نحو عسكر الحسين (عليه‌السلام ) ، وقال : اشهدوا لي عند الأمير أنّي أول مَن رمى.

وأقلّت السّهام من القوم كأنّها القطر ، فلم يبق من أصحاب الحسين (عليه‌السلام ) أحد إلّا أصابه من سهامهم ، فقال الحسين (عليه‌السلام ) لأصحابه : (( قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه ، فإنّ السّهام رُسُل القوم إليكم )). فاقتتلوا ساعة من النّهار حملة وحملة حتّى قُتل من أصحاب الحسين (عليه‌السلام ) جماعة.

فأبَى أنْ يعيشَ إلّا عَزيزاً

أو تَجلَّى الكِفاحُ وهو صَريعُ

المجلس الثاني والخمسون

لـمّا رأى الحُرّ بن يزيد أنّ القوم قد صمّموا على قتال الحسين (عليه‌السلام ) ، قال لعمر بن سعد : أمقاتلٌ أنت هذا الرجل ؟ قال : إي والله ، قتالاً أيسرُه أنْ تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي. قال : فما لكم فيما عرضه عليكم رضى ؟ قال : أما لو كان الأمر إليّ لفعلتُ ، ولكنّ أميرك قد أبى.

فأقبل الحُرّ حتّى وقف من النّاس موقفاً ومعه رجل من قومه يقال له قرّة بن قيس ، فقال له : يا قرة ، هل سقيت فرسك اليوم ؟ قال : لا. قال : فما تريد أنْ تسقيه ؟ قال قرة : فظننتُ والله أنّه يريد أنْ يتنحّى فلا يشهد القتال ، فكره أنْ أراه حين يصنع ذلك ، فقلتُ له : لمْ أسقه وأنا منطلق فأسقيه. فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه ، فوالله لو أطلعني على الذي يُريد لخرجتُ معه إلى الحسين (عليه‌السلام ).

فأخذ الحُرّ يدنو من الحسين (عليه‌السلام ) قليلاً قليلاً ، فقال له المهاجر بن أوس : ما تريد يابن يزيد؟ أتريد أنْ تحمل ؟ فلم يُجبه وأخذه مثل الأفكل ( وهي الرعدة ) ، فقال له المهاجر : إنّ أمرك لـمُريب ! والله ، ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا ، ولو قيل لي مَن أشجع أهل الكوفة ؟ ما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك ؟ فقال الحُرّ : إنّي والله ، اُخيّر نفسي بين الجنّة والنّار ، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعت

٩٦

وحُرّقت. ثمّ ضرب فرسه قاصداً إلى الحسين (عليه‌السلام ) ويده على رأسه وهو يقول : اللهمَّ ، إليك اُنيب فتُبْ عليّ ، فقد أرعبتُ قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيك. وقال للحسين (عليه‌السلام ) : جُعلتُ فداك يابن رسول الله ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتُك في الطريق وجعجعتُ بك في هذا المكان ، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضتَه عليهم ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة. والله ، لو علمتُ أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ، ما ركبتُ مثل الذي ركبت ، وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي ، مواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك ، فهل ترى لي من توبة ؟ فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( نعم يتوب الله عليك فانزل )). قال : أنا فارساً خيرٌ منّي راجلاً ، اُقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النّزول يصير آخر أمري. فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( فاصنع يرحمك الله ما بدا لك )).

فاستقدم أمام الحسين (عليه‌السلام ) ، فقال : يا أهل الكوفة , لاُمّكم الهبل والعِبَر(١) ! أدعوتم هذا العبد الصالح حتّى إذا جاءكم أسلمتموه ! وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! وأمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه التوجّه في بلاد الله العريضة ، فصار كالأسير في أيديكم ، لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرّاً ، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري ، فهاهم قد صرعهم العطش ، بئسما خلّفتم محمّداً في ذرّيّته! لا سقاكم الله يوم الظمأ.

فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل ، فرجع حتّى وقف أمام الحسين (عليه‌السلام ) وقال له : فإذا كنتُ أول مَن خرج عليك ، فاذَنْ لي أنْ أكون أول قتيل بين يديك ، لعلّي أكون ممَّن يُصافح جدّك محمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) غداً في يوم القيامة. فحمل على أصحاب عمر بن سعد وهو يتمثّل بقول عنترة :

ما زِلتُ أرميْهمْ بغرّةِ وجْههِ

ولبانهِ حتّى تَسرْبلَ بالدَّمِ

ثم جعل يرتجز ويقول :

إنّي أنا الحُرّ ومأوَى الضَّيفِ

أضربُ في أعناقِكُمْ بالسَّيفِ

______________________

(١) العِبَر ، بكسر العين وفتح الباء : جمع عَبْرة ، بفتح العين وسكون الباء ، وهي الحزن قبل خروج الدّمع. - المؤلّف -

٩٧

عنْ خيرِ مَنْ حلَّ بأرضِ الخيّفِ

أضربُكُمْ ولا أرَى منْ حَيفِ

وقاتل قتالاً شديداً ، وهو يرتجز ويقول :

إنّي أنا الحُرّ ونجلُ الحُرِّ

أشجعُ منْ ذي لَبَدٍ هزبرِ

ولستُ بالجبانِ عندَ الكرِّ

لكنّني الوقّافُ عند الفرِّ

حتّى قتل ثمانية عشر رجلاً ، وفي رواية : نيفاً وأربعين رجلاً ، وكان يحمل هو وزهير بن القَين ، فإذا حمل أحدهما وغاص فيهم حمل الآخر حتّى يخلّصه ، ثمّ حملت الرجّالة على الحُرّ وتكاثروا عليه حتّى قتلوه ، فاحتمله أصحاب الحسين (عليه‌السلام ) حتّى وضعوه بين يدَي الحسين (عليه‌السلام ) وبه رَمَق ، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول : (( أنت الحُرّ كما سمّتك اُمّك ، حُرّ في الدّنيا والآخرة )).

وروي أنّه أتاه الحسين (عليه‌السلام ) ودمُه يشخب ، فقال : (( بخ بخ لك يا حُرّ ، أنت حُرّ كما سُمّيت في الدّنيا والآخرة )).

نَصرُوا ابنَ بنتِ نبيِّهمْ طُوبى لهُمْ

نالُوا بنُصرتِهِ مراتبَ ساميهْ

قدْ جاورُوهُ هاهُنا بقبورِهمْ

وقصورُهمْ يومَ الجزا مُتحاذيهْ

المجلس الثالث والخمسون

لـمّا كان اليوم العاشر من المحرّم ، جعل أصحاب الحسين (عليه‌السلام ) يبرز الواحد منهم بعد الواحد، فكانوا كما قيل فيهم :

قومٌ إذا نودوا لدفعِ مُلمَّةٍ

والخيلُ بين مدعَّسٍ ومُكردسِ

لبسُوا القلوبَ على الدّروعِ وأقبَلُوا

يتهافتُونَ على ذهابِ الأنفسِ

فممَّن برز وهب بن حبّاب الكلبي ، وكانت معه اُمّه وزوجته ، فقالت اُمّه : قُم يا بُني فانصر ابن بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). فقال : أفعل يا اُمّاه ولا اُقصّر. فَبرزَ وهو يقول :

٩٨

سوفَ تَرَوني وتَرَونَ ضَرْبي

وحملَتي وصولَتي في الحربِ

أدركُ ثاري بعدَ ثارِ صحْبي

وأدفعُ الكربَ أمامَ الكربِ

ليس جهادِي في الوغَى باللعْبِ

ثم حمل ولم يزل يُقاتل حتّى قتل جماعة ، ثمّ رجع إلى امرأته واُمّه وقال : يا اُمّاه ، أرضيت ؟ قالت : ما رضيت حتّى تُقتل بين يدَي الحسين (عليه‌السلام ). فقالت امرأته : بالله عليك ، لا تفجعني بنفسك. فقالت اُمّه : يا بُني ، اعزُب عن قولها ، وارجع فقاتل بين يدَي ابن بنت نبيّك تنلْ شفاعة جدّه يوم القيامة. فرجع فلمْ يزل يُقاتل حتّى قُطعت يداه ، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول : فداك أبي واُمّي ! قاتل دون الطيّبين حرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). فأقبل كي يردّها إلى النّساء فأخذت بجانب ثوبه وقالت : لنْ أعود دون أنْ أموت معك. فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( جُزيتم من أهل بيت خيراً ، ارجعي إلى النّساء رحمك الله )). فانصرفت إليهنّ ، ولم يزل الكلبي يقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه.

وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري - وكان له أخ اسمه علي مع عمر بن سعد في غاية العناد والشّقاق ، عكس أخيه هذا - فاستأذن عمرو الحسين (عليه‌السلام ) ، فأذن له ، فبرز وهو يرتجز ويقول:

قدْ عَلمتْ كَتيبةُ الأنصارِ

أنّيْ سأحمِي حوزةَ الذمّارِ

ضربَ غُلامٍ غيرِ نكسٍ شاري

دونَ حُسينٍ مُهجتي ودارِي

فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء ، وبالغ في خدمة سلطان السّماء حتّى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد ، وجمع بين سداد وجهاد ، وكان لا يأتي إلى الحسين (عليه‌السلام ) سهم إلّا اتّقاه بيده ، ولا سيف إلّا تلقّاه بمُهجته ، فلم يكن يصل إلى الحسين (عليه‌السلام ) سوء حتّى اُثِخن بالجراح ، فالتفت إلى الحسين (عليه‌السلام ) وقال : يابن رسول الله ، أوفيت ؟ قال : (( نعم ، أنت أمامي في الجنّة ، فأقرئ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عنّي السّلام ، واعلمه أنّي في الأثر )). فقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه :

سَطَوا وأنابيبُ الرّماحِ كأنَّها

إجامٌ وهُمْ تحتَ الرِّماحِ اُسودُ

ترَى لهُمُ عندَ القِراعِ تباشُراً

كأنَّ لهُمْ يومَ الكرِيهةِ عيدُ

٩٩

المجلس الرابع والخمسون

لـمّا كان اليوم العاشر من المحرّم ، برز جون مولى أبي ذَر الغفاري - وكان بعد موت أبي ذَر عند الحسن (عليه‌السلام ) ثمّ صار عند الحسين (عليه‌السلام ) ، فصحبه في سفره من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق ، وكان عبداً أسود - ، فقال له الحسين (عليه‌السلام ) : (( أنت في إذْنٍ منّي ؛ فإنّما تبعتنا للعافية فلا تبتلِ بطريقتنا )). فقال : يابن رسول الله ، أنا في الرّخاء ألحسُ قصاعكم ، وفي الشدّة أخذلكم ! لا والله ، لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدّم الأسود مع دمائكم. ثمّ برز وهو يقول :

كيفَ ترَى الكفّارُ ضرْبَ الأسودِ

بالسّيفِ ضرْباً عنْ بَني محمّد

أذبُّ عنهُمْ باللسَانِ واليدِ

أرجو بهِ الجنّةَ يومَ المَوْردِ

ثم قاتل حتّى قُتل ، فوقف عليه الحسين (عليه‌السلام ) فقال : (( اللهمَّ ، بيّض وجهه وطيّب ريحه واحشره مع الأبرار ، وعرّف بينه وبين محمّد وآل محمّد )).

وخرج شاب قُتل أبوه في المعركة وكانت اُمّه معه ، فقالت له : اخرج يا بُني وقاتلْ بين يدَي ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). فخرج ، فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( هذا شاب قُتل أبوه في المعركة ، ولعلّ اُمّه تكره خروجَه )). فقال الشاب : اُمّي أمرتني بذلك. فبرز وهو يقول :

أميرِي حُسينٌ ونِعمَ الأميرْ

سرورُ فؤادِ البَشيرِ النَّذيرْ

عليٌّ وفاطمةٌ والداهْ

فهلْ تعْلمونَ لهُ منْ نَظيرْ

لهُ طلعةٌ مثلُ شمْسِ الضُّحَى

لهُ غرّةٌ مثلُ بدرٍ مُنيرْ

وقاتل حتّى قُتل وحُزّ رأسُه ورُمي به إلى عسكر الحسين (عليه‌السلام ) ، فحملت اُمّه رأسه وقالت : أحسنتَ يا بُني ، يا سرور قلبي ويا قرّة عيني. ثمّ رمت برأس ابنها

١٠٠