المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٢

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 139

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 139
المشاهدات: 39409
تحميل: 3608


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 139 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39409 / تحميل: 3608
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 2

مؤلف:
العربية

إنْ تنْكروني فأنا ابنُ الكلْبي

سوفَ ترَوني وترَون ضرْبي

وحملَتي وصولَتي في الحربِ

أدركُ ثأري بعد ثأرِ صحْبي

وأدفعُ الكرْبَ أمام الكرْبِ

ليس جهادي في الوغى باللعبِ

ثُمّ حمل ولم يزل يُقاتل حتّى قَتل جماعة , ثُمّ رجع إلى امرأته واُمّه , وقال : يا اُمّاه , أرضيت ؟ فقالت : ما رضيت حتّى تُقتل بين يدي الحسين (عليه‌السلام ). فقالت امرأته : بالله عليك لا تفجعني بنفسك ! فقالت له اُمّه : يا بُني ، اعزب عن قولها وارجع وقاتل بين يدي ابن بنت نبيك ؛ تنل شفاعة جده يوم القيامة.

فرجع فلم يزل يُقاتل حتّى قُطعت يداه , واخذت امرأته عموداً واقبلت نحوه , وهي تقول : فداك أبي واُمّي ! قاتل دون الطّيبين , حرم رسول الله. فأقبل كي يردّها إلى النّساء , فأخذت بجانب ثوبه وقالت : لن أعود دون أنْ أموت معك. فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( جزيتم من أهل بيتي خيراً , ارجعي إلى النّساء رحمك الله )). فانصرفت إليهن , ولم يزل الكلبي يُقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه.

نصروا ابنَ بنتِ نبيّهمْ طُوبى لهمْ

نالوا بنُصرتهِ مراتبَ ساميهْ

قد جاوَروه ها هُنا بقبورِهمْ

وقصورُهمْ يوم الجزا مُتحاذيهْ

المجلس الأربعون بعد المئة

لـمّا كانت حرب الجمل ، وهي من الحروب العظيمة , ثبت فيها الفريقان واشرعوا الرّماح بعضهم في صدور بعض كأنّها آجام القصب , ولو شاءت الرّجال أنْ تمشي عليها لمشت. كان يُسمع لوقع السّيف أصوات كأصوات القصارين, وخرج رجل من

١٠١

أهل البصرة يُقال له عبد الله بن أبزى , فتناول خُطام الجمل وشدّ على عسكر علي (عليه‌السلام ) , وقال :

أضربُهمْ ولا أرى أبا حسنْ

ها إنّ هذا حزنٌ من الحَزنْ

فشدّ عليه أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) بالرّمح فطعنه فقتله , وقال : (( رأيت أبا حسن ؟ فكيف رأيته ؟ )) وترك الرّمح فيّه. وبرز عبد الله بن خلف الخزاعي ، وكان رئيس أهل البصرة , وطلب أنْ لا يخرج إليه إلّا علي (عليه‌السلام ) , وقال :

أبا تُرابٍ ادنُ منّي فِترا

فإنّني دانٍ إليك شِبرا

وإنّ في صدري عليك غَمرا(١)

فخرج إليه (عليه‌السلام ) ، فلم يمهله أنْ ضربه ففلق هامته.

ولـمّا اشتد القتال وقامت الحرب على ساقها , زحف علي (عليه‌السلام ) نحو الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار , وحوله بنوه ؛ حسن وحسين (عليهما‌السلام ) ومحمّد بن الحنفيّة (رض) , ودفع الرّاية إلى محمّد ، وقال : (( إقدم بها حتّى تركزها في عين الجمل )).

فتقدّم محمّد فرشقته السّهام , فقال لأصحابه : رويداً حتّى تنفذ سهامهم. فأنفذ علي (عليه‌السلام ) يستحثّه , فلمّا أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه ، فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن , وقال له : (( إقدم لا اُمّ لك )).

فكان محمّد (رض) إذا ذكر ذلك يبكي , ويقول : لكأنّي أجد ريح نفسه في قفاي ، والله ، لا أنسى ذلك أبداً.

ثُمّ أدركت عليّاً (عليه‌السلام ) رقّة على ولده , فتناول الرّاية بيده اليسرى ، وذو الفقار مشهور في يده اليمنى ، وهو يقول :

إطعنْ بها طعنَ أبيك تُحمدِ

لا خيرَ في الحربِ إذا لمْ تُوقَدِ

بالمشرَفيِّ والقنا الـمُسدّدِ

____________________

(١) كحقد , وزناً ومعنى.

١٠٢

ثُمّ حمل (عليه‌السلام ) فغاص في عسكر الجمل حتّى طحن العسكر , ثُمّ رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته , فقال له أصحابه وبنوه والأشتر وعمّار : نحن نكفيك يا أمير المؤمنين. فلم يجب أحداً منهم ولا ردّ إليهم بصره , وظل ينحط ويزأر زئير الأسد ثُمّ دفع الرّاية إلى محمّد , ثُمّ حمل حملة ثانية وحده ، فدخل وسطهم فضربهم بالسّيف قدماً قدماً , والرّجال تفرّ من بين يديه وتنحاز عنه يمنة ويسرى حتّى خضب الأرض بدماء القتلى , ثُمّ رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته , فاجتمع عليه أصحابه وناشدوه الله في نفسه وفي الإسلام , فقال : (( والله , ما اُريد بما ترون إلّا وجه الله والدّار الآخرة )). ثُمّ قال لمحمّد : (( هكذا تصنع يابن الحنفيّة )). فقال النّاس : مَن الذي يستطيع ما تستطيعه يا أمير المؤمنين؟!

وكان علي (عليه‌السلام ) يقذف محمّداً في مهالك الحرب ويكفّ حسناً وحسيناً , وقال (عليه‌السلام ) يوم صفّين : (( املكوا عنّي هذين الفتيين - يعني الحسن والحسين (عليهما‌السلام ) - فإنّي أخاف أنْ ينقطع بهما نسل رسول الله )).

وقال محمّد لأبيه أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في تقديمه في الحرب وكفّ أخويه الحسن والحسين (عليهما‌السلام ) , فقال : (( أنت ابني وهذان ولدا رسول الله , فأنا أفديهما بولدي )).

فليتك يا أمير المؤمنين لا غبت عن ولديك وقرّتي عينك الحسن والحسين (عليهما‌السلام ) ، اللذين كنت تكفّهما عن الحرب ؛ خوفاً عليهما ، وتفديهما بولدك محمّد ، لتنظر ما جرى عليهما من بعدك ! أمّا ولدك الحسن (عليه‌السلام ) فقد جرّعوه الغصص , ونازعوه حقّه حتّى دسّوا إليه السّم وقتلوه مسموماً , ومنعوا من دفنه عند جدّه ؛ وأمّا ولدك الحسين (عليه‌السلام ) فغصبوه حقّه وقتلوه عطشان غريباً مظلوماً , وهو يستغيث فلا يُغاث ، ويستجير فلا يُجار ، ويطلب شربة من الماء فلا يُجاب :

يا أيّها النّبأُ العظيمُ إليك في

أبناكَ منّي أعظم الأنباءِ

إنّ اللَذين تسرّعا يقيانَك الـ

أرماحَ ف-ي صفّين بالهيجاءِ

فأخذتَ في عَضديهما تُثنيهما

عمّا أمامك من عظيمِ بلاءِ

١٠٣

ذا قاذفٌ كبداً له قِطعاً وذا

في كربلاءَ مقطّع الأعضاءِ

مُلقىً على وجه الصّعيد مجرّداً

في فتيةٍ بيض الوجوه وضاءِ

المجلس الواحد والأربعون بعد المئة

لـمّا كان يوم الجمل , لم يكن يأخذ أحد بخطام الجمل إلّا سالت نفسه أو قُطعت يده , وأخذ بخطامه سبعون من قريش فقتلوا كُلّهم.

ولـمّا رأى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) أنّ الموت عند الجمل ، وأنّه ما دام قائماً لا تطفأ الحرب , وضع سيفه على عاتقه وعطف نحو الجمل وأمر أصحابه بذلك , ووصل (عليه‌السلام ) في جماعة من النّخع وهمدان إلى الجمل , فقال لرجل يُسمّى بحيرا : (( دونك الجمل )). فضرب عجز الجمل بسيفه ، فوقع لجنبه وضرب بجرانه الأرض وعجّ عجيجاً لم يُسمع بأشد منه.

فلمّا صُرع الجمل , فرّت الرّجال كما يطير الجراد في الرّيح الشّديدة , وأمر علي (عليه‌السلام ) أنْ يُحرق الجمل ثُمّ يذرّى في الرّيح , وقال : (( لعنه الله من دابّة , فما أشبهه بعجل بني اسرائيل )). ثُمّ قرأ :( وَانظُرْ إلى‏ إِلهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً ) (١) .

وأمر علي (عليه‌السلام ) بعائشة فحُملت في هودجها إلى دار عبد الله بن خلف , وقال لأخيها محمّد بن أبي بكر : (( دونك اختك , لا يتولاها غيرك )).

وقالت عائشة لأخيها محمّد : أقسمت عليك أنْ تطلب عبد الله بن الزّبير قتيلاً أو جريحاً. فذهب محمّد فأتاها به ، فصاحت وبكت ثُمّ قالت : يا أخي , استأمن له من علي. فاستأمن له , فقال علي (عليه‌السلام ) : (( آمنته وآمنت جميع النّاس )).

وما أحسن ما قال القائل :

ملَكنا فكان العفوُ منّا سجيةً

فلمّا ملكتمْ سال بالدّمِ أبطحُ

____________________

(١) سورة طه / ٩٧.

١٠٤

وحللتمُ قتلَ الاُسارَى وطالما

غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ

وحسبُكمُ هذا التفاوتُ بينَنا

وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ

ثُمّ إنّه (عليه‌السلام ) جهّز عائشة وأرسلها إلى الحجاز , وأرسل معها أربعين امرأة من عبد القيس.

وهكذا كانت عادة أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) في الصّفح والعفو عن عدوه إذا ظفر به , فقد سمعت عفوه عن ابن الزّبير مع شدّة انحرافه عنه وعداوته له حتّى قال علي (عليه‌السلام ) : (( ما زال الزّبير منّا أهل البيت حتّى نشأ ابنه عبد الله )).

وانظر كيف عفا عن عائشة لـمّا ظفر بها ، وأمر أنْ تُحمل في هودجها إلى أعظم دار في البصرة , وأرسل معها أربعين امرأة , وهذا من أعظم الصّفح وأكبر الحلم !

ألا لعن الله ابن زياد ، فما كان أبعده من الحلم والصّفح , وأقربه من اللؤم والخبث والانتقام ! فإنّه لـمّا نزل الحسين (عليه‌السلام ) بكربلاء , كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد : انظر فإنْ نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا , فابعث بهم إليّ سلماً ، وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم فإنّهم لذلك مستحقّون ! فإنْ قتلت حسيناً , فأوطئ الخيل صدره وظهره ، فإنّه عاقّ شاقّ قاطع ظلوم ! ولست أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً , ولكن - على قول قد قلته - لو قد قتلته لفعلت هذا به.

تطأُ الصّواهلُ جسمَهُ وعلى القنا

من رأسهِ المرفوعِ بدرُ سماءِ

المجلس الثّاني والأربعون بعد المئة

لـمّا كان يوم الجمل , دفع أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) الرّاية إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة , وقال له : (( تزول الجبّال ولا تزل ، عضّ على ناجذك ، أعر الله جمجمتك , تِد في الأرض قدمك ،

١٠٥

إرمِ ببصرك أقصى القوم وغضّ بصرك , واعلم إنّ النّصر من عند الله سبحانه )). ثُمّ قال له : (( احمل )). فتوقّف قليلاً, فقال له : (( احمل )). فقال : يا أمير المؤمنين ، أما ترى السّهام كأنّها شئابيب المطر ! فدفع في صدره , وقال : (( أدركك عرق من اُمّك ! )).

ثُمّ أخذ الرّاية منه فحمل بها ، ثُمّ دفعها إليه وقال : (( امحُ الاُولى بالاُخرى , وهذه الأنصار معك )). وضمّ إليه خزيمة ذا الشّهادتين في جمع من الأنصار - كثير منهم من أهل بدر - فحمل حملات كثيرة أزال بها القوم عن مواقفهم وأبلى بلاء حسناً , فقال خزيمة لعلي (عليه‌السلام ) : أما إنّه لو كان غير محمّد اليوم لافتضح ! ولئن كنت خفت عليه الجبن وهو بينك وبين حمزة وجعفر لما خفناه عليه ، وإنْ كنت أردت أنْ تُعلّمه الطّعان , فطالما علّمته الرّجال.

وقالت الأنصار : يا أمير المؤمنين , لولا ما جعل الله للحسن والحسين , لما قدّمنا على محمّد أحداً من العرب. فقال علي (عليه‌السلام ) : (( أين الأنجم من الشّمس والقمر ! )). وقال خزيمة يمدح محمّد بن الحنفيّة :

محمّد ما في عودِك اليومَ وصمةٌ

ولا كُنتَ في الحرب الضّروسِ مُعردا

أبوكَ الذي لمْ يركب الخيلَ مثلُهُ

عليٌ وسمّاك النّبيُّ محمّدا

وأنت بحمدِ الله أطولُ غالبٍ

لساناً وأنداها بما ملكتْ يدا

وأطعنُهُمْ صدرَ الكميِّ برمحهِ

وأكساهُمُ للهامِ عَضباً مهنّدا

سوى أخويكَ السيّدينِ كلاهُما

إمامُ الورى والدّاعيان إلى الهُدى

وقيل لمحمّد بن الحنفيّة : لِمَ يغرر بك أبوك في الحرب ولا يغرر بالحسن والحسين ؟ فقال : إنّهما عيناه وأنا يمينه , فهو يدفع عن عينيه بيمينه.

وما زال أولاد أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يعرفون فضل الحسنين (عليهما‌السلام ) , ويرعون حقّهما ويفدونهما بأنفسهم. ولـمّا كان يوم كربلاء , كان مع الحسين (عليه‌السلام ) تسعة من إخوته - أولاد علي (عليه‌السلام ) لصلبه - فقاتلوا دونه قتال الأبطال , وفدوه بأنفسهم ومهجهم حتّى قُتلوا عن آخرهم ، منهم : أخوه وصاحب رايته أبو الفضل العبّاس (عليه‌السلام ) , وثلاثة إخوة للعباس من اُمّه وأبيه , وكان

١٠٦

آخر من قُتل منهم العبّاس ابن أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، فلمّا قُتل بكى الحسين (عليه‌السلام ) لقتله بكاءً شديداً. وحقّ له ذلك ؛ فإنّ موت الأخ يقصم الظّهر ولا سيّما إذا كان مثل أبي الفضل العبّاس (عليه‌السلام ) , ولنعم ما قال القائل :

أحقُّ النّاس أنْ يُبكى عليهِ

فتىً أبكى الحسينَ بكربلاءِ

أخوه وابنُ والده عليٍّ

أبو الفضلِ المضرَّجُ بالدّماءِ

ومَن واساه لا يُثنيه شيءٌ

وجاد له على عطشٍ بماءِ

المجلس الثّالثّ والأربعون بعد المئة

كان مالك بن الحارث الأشتر من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , ومن ثناء أمير المؤمنين عليه ما كتبه يوم صفّين إلى أميرين من اُمراء جيشه , من جملة كتاب يقول فيه : (( وقد أمّرت عليكما وعلى مَن في حيزكما مالك بن الحارث الأشتر , فاسمعا له وأطيعا واجعلاه درعاً ومجناً(١) ؛ فإنّه ممّن لا يخاف وهنه(٢) ولا سقطته(٣) , ولا بطؤه عمّا الإسراع إليه أحزم ، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل(٤) )).

ولقد بلغ ثناء أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) على مالك الأشتر في هذه الكلمات ، مع إختصارها , ما لا يبلغ بالكلام الطّويل , ولقد جمع (عليه‌السلام ) أصنافاً كثيرة من الثّناء والمدح بكلمة واحدة من هذا الكلام ، وهي قوله : (( لا يخاف بطؤه عمّا الإسراع إليه أحزم , ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل )). ولقد كان الأشتر رحمه الله أهلاً لذلك , كان شديد البأس جواداً ، رئيساً حليماً ، فصيحاً شاعراً , ومن شعره قوله :

____________________

(١) المجن : التّرس.

(٢) ضعفه.

(٣) غلطه وخطأه.

(٤) أفضل.

١٠٧

بقَّيتُ وفري وانحرفتُ عن العُلا

ولقيتُ أضيافي بوجهِ عبوسِ

إنْ لمْ أشنّ على ابن هندٍ غارةً

لمْ تخلُ يوماً من ذهابِ نفوسِ

خيلاً كأمثالِ السّعالى شُزّباً

تعدو ببيضٍ في الكريهة شوسِ

حُميَ الحديدُ عليهمُ فكأنَّهُ

وَمضانُ برقٍ أو شعاعُ شموسِ

وكان يجمع بين اللين والعنف , فيسطو في موضع السّطوة ويرفق في موضع الرّفق , وكان فارساً شجاعاً من أكابر الشّيعة وعظمائها , شديد التحقّق لولاء أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ونصره. ولـمّا قنَتَ أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) على خمسة : معاوية وعمرو بن العاص وأبي الأعور السّلمي وحبيب بن مسلمة وبسر بن أرطاة , قنَتَ معاوية على خمسة : علي والحسن والحسين (عليهم‌السلام ) ، وعبد الله بن العبّاس ومالك الأشتر رحمهما الله.

ولـمّا برز عبد الله بن الزّبير يوم الجمل ودعا إلى المبارزة , برز إليه الأشتر , فقالت عائشة : مَن برز إلى عبد الله ؟ قالوا : الأشتر. فقالت : وا ثكل اسماء ! وهي اُمّ عبد الله بن الزّبير ، اُخت عائشة. فضرب كلّ منهما صاحبه فجرحه , ثُمّ اعتنقا فصرع الأشتر عبد الله وقعد على صدره , واختلط الفريقان هؤلاء لينقذوا عبد الله وهؤلاء ليعينوا الأشتر ، وكان الأشتر طاوياً ثلاثة أيام لم يأكُل - وكانت هذه عادته في الحرب , وكان أيضاً شيخاً كبير السّن - فجعل عبد الله يُنادي من تحته : اقتلوني ومالكاً ، واقتلوا مالكاً معي ! فلم يدرِ النّاس مَن مالك ، وإنّما كان يُعرف بالأشتر , فلو قال : اقتلوني والأشتر لقتلوهما. فأفلت ابن الزّبير من تحته ولم يكد , فقال الأشتر في ذلك :

أعائشُ لولا أنّني كنتُ طاوياً

ثلاثاً لألقيتِ ابنَ اختكِ هالكا

غداةَ ينادي والرّجالُ تحوزُهُ

بأضعفِ صوتٍ اقتلوني ومالكا

فلمْ يعرفوه إذْ دعاهمْ وغمُهُ

خِدبٌ(١) عليه في العجاجةِ باركا

فنجّاه منّي أكلُهُ وشبابُهُ

وأنّيَ شيخٌ لم أكُنْ متماسكا

____________________

(١) شيخ أو عظيم.

١٠٨

ودخل الأشتر على عائشة بعد انقضاء حرب الجمل , فقالت : أنت الذي صنعت بابن اُختي - أي عبد الله بن الزّبير - ما صنعت ؟ قال : نعم , ولولا أنّي كنت طاوياً ثلاثة أيام لأرحت اُمّة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) منه. قالت : أما علمت أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , قال : (( لا يحلّ دم مسلم إلّا بأحد اُمور ثلاثة : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير حق )) ؟ فقال : على بعض هذه الثّلاثة قاتلناه يا اُمّ المؤمنين. والله ، ما خابني سيفي قبلها ، ولقد أقسمت أنْ لا يصحبني بعدها.

وفي ذلك يقول الأشتر من جملة هذا الشّعر.

وقالتْ على أيِّ الخصالِ صرعتهُ

بقتلٍ أتى أمْ ردّةٍ لا أبا لكا

أمْ الـمُحصَنِ الزّاني الذي حلّ قتلُهُ

فقلتُ لها لا بدّ من بعض ذلكا

ومات الأشتر رحمه الله شهيداً ، دسّ إليه معاوية السمّ في شربة من عسل , فلمّا بلغه موته , قال : إنّ لله جنوداً من عسل. ولـمّا بلغ موته إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , حزن عليه حزناً شديداً ، وقال : (( مالك ، وما أدراك ما مالك ! وهل تلد النّساء مثل مالك ؟! لو كان حجراً لكان صلداً ، ولو كان جبلاً لكان فنداً(١) . رحم الله مالكاً ، فقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) )).

ويشبه مالك في نصحه لأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) وحزن أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) عليه , حبيب بن مُظاهر وزُهير بن القين في نصحهما لولده الحسين (عليه‌السلام ) وحزنه عليهما ؛ أمّا حبيب فإنّه لـمّا قُتل , هدّ مقتله الحسين (عليه‌السلام ) ، وقال : (( عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي )) ؛ وأمّا زهير فلمّا صرع قال الحسين (عليه‌السلام ) : (( زُهير ، لا يبعدك الله يا زهير ، ولعن قاتلك لَعْنَ الذين مُسخوا قردة وخنازير )).

وشدّ كثير بن عبد الله الشّعبي ومهاجر بن أوس على زهير , فقتلاه بعدما قتل مقتلة عظيمة.

نصروا ابنَ بنتِ نبيِّهمْ طوبى لهمْ

نالوا بنُصرتِهِ مراتبَ ساميهْ

____________________

(١) الفند ، بالكسر : الجبل العظيم.

١٠٩

المجلس الرّابع والأربعون بعد المئة

لـمّا كان يوم الجمل , برز عمرو بن يثربي الضبّي - وكان فارس أهل الجمل وشجاعهم - فخرج إليه علباء بن الهيثم من أصحاب أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) فقتله عمرو , ثُمّ دعا إلى البراز فخرج إليه هند الجملي فقتله عمرو , ثُمّ دعا إلى البراز , فقال زيد بن صوحان العبدي لعلي (عليه‌السلام ) : يا أمير المؤمنين , إنّي رأيت يداً أشرفت عليّ من السّماء وهي تقول : هلمّ إلينا. وأنا خارج إلى ابن يثربي ، فإذا قتلني فادفني بدمي ولا تغسلني , فإنّي مخاصم عند ربّي. ثُمّ خرج فقتله عمرو.

ثُمّ طلب المبارزة ، فقيل : برز إليه عمّار بن ياسر والنّاس يسترجعون ؛ لأنّه كان أضعف مَن برز إليه , فضربه عمرو فنشب سيفه في درقة عمّار ، وضربه عمّار فصرعه , ثُمّ جرّه برجله حتّى أتى به عليّاً (عليه‌السلام ) , فقال : يا أمير المؤمنين ، استبقني اجاهد بين يديك. فقال : (( أَبعد زيد وهند وعلباء استبقيك ؟! لاها الله )). قال : فادن منّي اسارّك. فاعرض عنه أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , فقال : أما والله , لو وصلت إليك لعضضت أنفك عضّة أبنته منك. فأمر أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) فضربت عنقه.

وقيل : لـمّا برز قال للأزد : إنّي قد وترت القوم وهم قاتلي , ولست أخشى أنْ اُقتل حتّى اُصرع , فإنْ صُرعت فاستنقذوني. فقالوا له : ما نخاف عليك إلّا الأشتر. قال : فإيّاه أخاف.

فخرج الأشتر وهو يقول :

إنّي إذا ما الحربُ أبدتْ نابَها

وغلّقتْ يومَ الوغى أبوابَها

ومزّقتْ من حَنقٍ أثوابَها

كُنّا قداماها ولا أذنابَها

ليس العدوُّ دونَنا أحابَها

من هابَها اليومَ فلنْ أهابَها

لا طعنَها أخشى ولا ضرابَها

١١٠

ثُمّ حمل عليه الأشتر فطعنه فصرعه ، وحامت عنه الأزد فاستنقذوه , فوثب وهو مشرف على الموت ، فلم يستطع أنْ يدفع عن نفسه , فطعنه رجل فصرعه ثانية ، وسحبه آخر برجله حتّى أتى به عليّاً (عليه‌السلام ) , فناشده الله ، وقال : يا أمير المؤمنين , اعفُ عنّي فإنّ العرب لم تزل قائلة عنك : إنّك لم تجهز على جريح قط. فعفا عنه واطلقه , فجاء إلى أصحابه ، وحضره الموت , فقيل له : دمك عند أي النّاس ؟ فقال : ضربني فلان وفلان وصاحبي الأشتر. فقالت ابنته ترثيه :

يا ضبُّ إنّك قد فُجعتَ بفارسٍ

حامي الحقيقة قاتلِ الأقرانِ

عمرو بن يثربي الذي فُجعتْ بهِ

كلُّ القبائلِ من بني عدنانِ

لو غيرُ الاشترِ نالَهُ لندبتُهُ

وبكيتهُ ما دام هضب أبانِ(١)

لكنّه مَنْ لا يُعاب بقتلهِ

أسدُ الاُسود وفارسُ الفرسانِ

وكانت العرب إذا قُتل منها قتيل ، وكان قاتله رجلاً جليلاً ، تسلّت عنه ولم تحزن عليه , وإذا كان قاتله من الأنذال ، عظم ذلك عليها وزاد في حزنها ؛ ولذلك لـمّا قتل علي (عليه‌السلام ) عمرو بن عبد ود ، وسألت اُخته عن قاتل أخيها , فقيل لها : علي بن أبي طالب , قالت : قتلة شريفة بيد شريف. والله , لا أبكي على أخي. وأنشأت تقول :

لو كان قاتلُ عمروٍ غيرَ قاتلِهِ

لكنتُ أبكي عليه آخرَ الأبدِ

لكنّ قاتلَهُ من لا يُعاب بهِ

مَن كان يُدعى أبوه بيضةَ البلدِ

ولهذا أيضاً عظُم حزن زينب بنت أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) على أخيها الحسين (عليه‌السلام ) لـمّا علمت أنّ قاتله الأنذل الرّذل، شمر بن ذي الجوشن.

وكان مما ندبت به أخاها الحسين (عليه‌السلام ) أنْ قالت مُخاطبة لجدّها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : يا محمّداه ! هذا حسين بالعرا، تسفي عليه ريح الصّبا , قَتيل أولاد البغايا. وآحزناه ! وأكرباه عليك يا أبا عبد الله !

أمثلَ شمرٍ أذلّ اللهُ جبهتَهُ

يلقى حُسيناً بذاك الـمُلتقى الخشنِ

يا حسرةَ الدّينِ والدّنيا على قمرٍ

يشكو الخسوفَ من العسّالة اللدنِ

____________________

(١) هَضْب ، بفتح الهاء وسكون الضّاد : جمع هضبة. وأبان : جبل.

١١١

المجلس الخامس والأربعون بعد المئة(١)

كرم محمّد بن عبد الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الإنسانيّة كلّها , فالغى الإضطهاد العنصري إلغاءً عمليّاً حين اختار لأقدس مهمّة زنجيّاً أسود اللون , وجعل منه مؤذّنه الذي يُنادي المؤمنين للصلوات في أوقاتها الخمس !

هذا الأسود هو بلال الحبشي الذي كان عبداً من عبيد قُريش , فلم تكد تبلغه الدّعوة الإسلاميّة حتّى كان أوّل الملبّين لها , وتعلم به قُريش ويعلم به سيّده اُميّة بن خلف , فينصحونه بالعدول عن الطّريق الذي مشى فيه فلا يقبل النّصيحة ، ويستمر مُسلماً مُخلصاً , فيأخذون في تعذيبه العذاب الأليم ، ولكنّه لا يزداد إلّا إيماناً ، ثُمّ يفرّ بنفسه إلى المدينة مع مَن هاجر إليها ، وهُناك صار مؤذّن الرّسول.

ولقد كانت في صوته لَكْنة , فلا يستطيع أنْ يلفظ الشّين لفظاً صحيحاً ، بل تخرُج من فمه وكأنّها سين ، فيقول الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إنّ سينه عند الله شين )).

وعلى صوت بلال الحبشي كان يهرع شيوخ الـمُسلمين وشُبّانهم إلى المسجد , ملبّين نداء الله ، يبعثه هذا الإنسان الأسود اللون. ولم يكُن تكريم لعنصر بلال أعظم من هذا التّكريم الذي خصّه به رسول الله ؛ ولذلك فإنّه لـمّا مات النّبي, انقطع إلى أهل البيت (عليهم‌السلام ) مُخلصاً لهم ، وفيّاً لذكرى أبيهم الرّسول.

وتدور الأيام ، ويلقى أهل البيت (عليهم‌السلام ) محناً وأرزاءً ، ويبرز الأوفياء مُلتفّين حول الاسرة النبويّة , عازمين على الموت دونها ؛ إخلاصاً لمحمّد ورسالته. ويقف الحسين (عليه‌السلام ) في كربلاء في أقلّ من مئة من الرّجال كانوا يُمثّلون في تلك السّاعة أنبل ما في الكون من سجايا ، وهل في الكون أنبل من أنْ يبذل الإنسان دمه طواعية ؛ وفاء لرجل وثباتاً على مبدأ وإخلاصاً لعقيدة ؟

____________________

(١) من المجالس التّي أضفناها على الطّبعة السّابقة.

١١٢

وتبارى الرّجال في التّضحية ، ومضوا يسقطون واحداً بعد الآخر. وكان في الرّكب الحسيني رجل بسيط ، لا يُحسب إذا حُسبت البطولات ، ولا يُذكر إذا ذُكرت التّضحيات ، لا يؤبه لرأيه ولا يُعد لـمُهمّة من مُهمّات الاُمور. كان يؤمر فيُلبّي الأمر ، ويُستخدم فيخدم مُسرعاً ، كان أقصى ما يعرفه الرّفاق عنه أنّه خادم أمين وتابع مُخلص ، وما فوق ذلك فليس مما يرد اسمه على البال. كان رقيقاً من اُولئك الأرقّاء السّود الذين امتلأت بهم قصور العُتاة وبيوت الطُغاة ، وكانت أيّة حشرة تلقى عناية أكثر ممّا يلقاه أيّ واحد منهم ! وكان نصيبه أنْ وصل إلى يد أبي ذر الغفاري صاحب محمّد الـمُخلص ، وسمع أبو ذر النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يوصي بالأرقّاء خيراً ويحضّ النّاس على تحريرهم ، ومَن أولى من أبي ذر بتنفيذ وصايا النّبي ؟ فاعتق أبو ذر العبد جون وأرسله حرّاً.

وأصابت المحنة أبا ذر وطورد واضطُهد ومات منفيّاً في الرّبذة ، وظلّ جون فقيراً مُعدماً ، فتلقّاه أهل البيت (عليهم‌السلام ) بالحنان والعطف ؛ فقد كانت فيه ذكريات من صاحب جدّهم رأوها جديرة بالوفاء , فاحتضنوه وألحقوه بشؤونهم ؛ يقوم على رعاية بيتهم والعناية بأطفالهم ، وقضاء حاجات رجالهم.

ومشى الحسين (عليه‌السلام ) إلى كربلاء ، وهذه حال جون لا شأن له أكثر من هذا الشّأن , ولا مَن يُفكّر بإنْ يكون لجون دور فوق هذا الدّور ، وكان في حسبان الجميع أنّه سيغتنم أوّل فرصة للسلامة , فينجو وينشد الخدمة من جديد في بيت جديد. ولكن جون بقي في ركب الحسين (عليه‌السلام ) لم يُفارقه مع المفارقين ، وثبت مع الرّجال المئة الذين ثبتوا حتّى وصلوا إلى كربلاء , وظنّ النّاس أنّ جون سينتظر السّاعة الحاسمة ثُمّ ينطلق بعدها في طريق النّجاة ، ولكن الأيام مضت وجون في مكانه لم يبرحه ، وجاء اليوم التّاسع من الـمُحرّم وجون قائم على خدمة الحسين (عليه‌السلام ) ، فها هو

١١٣

يصلح له سيفه ، والحسين (عليه‌السلام ) يُردد تلك الأبيات الشّهيرة التّي لم تستطع معها اُخته زينب إلّا أنْ تذرف دموعها.

أمّا جون فلم يذكر أحد أنّه انفعل أو تأثّر أو بكى ، أتراه لم يفهم ما كانت تعنيه تلك الأبيات ؟ أتراه صلب العاطفة مُتحجّر القلب إلى حدّ لا يهزّه صوت الحسين (عليه‌السلام ) ينعي نفسه ؟ أتراه في تلك السّاعة في شاغل عن كلّ شيء إلّا عن نفسه ، يُفكّر كيف يُدبّر وسيلة الخلاص عصر اليوم أو صباح الغد ؟ الحقيقة كانت فوق كلّ تصوّر ، ولم يبكِ جون ولم ينفلّ ولم يتأثّر ؛ لأنّ ما كان فيه كان فوق البُكاء والإنفعال والتأثّر. كان جون وهو يصلح سيف الحسين (عليه‌السلام ) ، والحسين ينشد أبياته ، كان جون يستعرض في ذهنه كلّ ذلك الماضي الحافل ، كان يتذكّر النّبي محمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وهو يرفع الإنسان الأسود إلى أعلى مراتب الكرامة حين عهد إلى واحد منهم بوظيفة مؤذّن النّبي الخاص , وكان يتذكّر تلك الاُلوف من السّود التّي انطلقت حرّة تنفيذاً لوصايا محمّد ، وكان كلّ ذلك يجول في ذهن جون مولى أبي ذر الغفاري.

وها هو سيف الحسين (عليه‌السلام ) الآن في يده لآخر مرّة يصلحه له ليقف به الحسين غداً على أعلى قمّة في التّاريخ فيهزّ الدّنيا كلّها ؛ لتشهد كيف تكون حماية الهُدى والحقِّ والخير ، وكيف تكون البطولات التي لا تبغي إلّا الاستشهاد ذوداً عمّا تؤمن به وتعتنقه ، وكيف يرفض الاُباة الحياة إذا لم تكن كما يريدون ؛ حياة الحرّية والسّعادة للاُمّة ، وحياة الكرامة والحقّ لهم. غداً سيلمع هذا السّيف الحديدي في كفّ الحسين (عليه‌السلام ) ثُمّ ينثلم إلى الأبد ، ولكن سيف الحقّ الذي جرّده الحسين (عليه‌السلام ) سيلمع إلى الأبد دون أنْ ينثلم. وغداً سيعلوا صوت الحسين (عليه‌السلام ) بنداء الحرّية ثُمّ يصمت إلى الأبد ، ولكن صوت الحرّية الذي انطلق من فم الحسين (عليه‌السلام ) سيظلّ مدويّاً إلى الأبد.

كان جون يلجأ إلى صمت رهيب ، وظلّ صامتاً حتّى دنا الليل ، وأصغى

١١٤

بكلّ جوارحه إلى الحوار البطولي الخارق الذي جرى بين الحسين (عليه‌السلام ) وأنصاره ، وهو يحرّضهم على تركه وحده والإنطلاق في سواد الليل ، وهم يردّون عليه واحداً بعد واحد رافضين لأوّل مرّة في حياتهم أوامره ، ويصرّون على أنْ يلقوا المصير نفسه الذي سيُلاقيه هو.

كان جون في تلك السّاعة يجلس في زاوية دون أنْ يأبه له أحد ، وكان يودّ من كلّ قلبه لو كان لصوت الزّنوج صوت بين هذه الأصوات ، ولكنّه فضّل الصّمت الـمُطبق. وفي الصّباح عندما تبارى الأبطال المئة متسابقين إلى الموت ، ومسى كلّ منهم يستأذن الحسين (عليه‌السلام ) ويودّعه ماضياً إلى مصيره ، تقدّم جون وهو في كلّ خطوة من خطواته لا ينفكّ مُصغياً إلى صوت زميله بلال الحبشي مُتعالياً فوق كلّ أصوات البيض ؛ تكريماً من محمّد واعزازاً. وربّما خطر له في تلك اللحظات منظر بلال وهو واقف على أشرف مكان وأقدس بُقعة على ظهر الكعبة حين أمره محمّد ساعة فتح مكّة أنْ يصعد فيُنادي بالأذان ؛ الأسود الذي كان عبداً ذليلاً قبل رسالة محمّد يصعد على الكعبة ، وهو في نظر النّاس أعزّ إنسان.

دنت ساعة الوفاء لمحمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، دنت السّاعة التّي يردّ فيها هذا الزّنجي - جون - بعض الجميل لمحمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وهل أعظم في الوفاء لمحمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من أنْ يموت ذوداً عن أبنائه ونسائه وتعاليمه ؟! وتقدّم جون من الحسين (عليه‌السلام ) ، وقد انقلب بطلاً مغواراً ، وقد تجمّعت فيه كلّ فضائل بني جنسه ؛ تقدّم يستأذن الحسين (عليه‌السلام ) في أنْ يكون كغيره من رفاق الحسين (عليه‌السلام ).

والتفت الحسين (عليه‌السلام ) إليه وقد أخذته الرّقة له والحنان عليه ، ولم يشأ أنْ يورطه فيما لا شأن له به ، فقال له : (( أنت إنّما تبعتنا للعافية ، فلا تبتلِ بطريقتنا )). ولكن جون البطل أجاب الحسين (عليه‌السلام ) : أنا في الرّخاء ألحس قصاعكم، وفي الشّدة أخذلكم ! ثُمّ أردف هذا الجواب بكلمات لم يقصد بها الحسين (عليه‌السلام ) ، بل أراد أنْ

١١٥

يوجهها للأجيال الماضية والأجيال الحاضرة والأجيال الآتية ؛ تلك الأجيال التّي لم ترَ للزنوج الكرامة التّي لهم ، فقال : إنّ ريحي لنتن ، وإنّ حسبي للئيم ، وإنّ لوني لأسود ، فتنفّس عليّ بالجنّة ؛ فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيضّ وجهي. لا والله , لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدّم الأسود بدمائكم.

لقد كان جون يعلم أنّه أكرم على الحسين (عليه‌السلام ) من اُلوف البيض ، وإنّ الحسين (عليه‌السلام ) أكرم من أنْ يراه لئيم الحسب نتن الرّيح. لم يكُن جون في الواقع يخاطب الحسين (عليه‌السلام ) سبط محمّد مكرم الزّنوج ، بل كان يقف على ذروة من ذروات التّاريخ ليقول للادعياء المفاخرين بألوانهم وأطيابهم : إليكم هذا الذي ترونه في نظركم لئيم الحسب نتن الرّيح، إليكم به اليوم يطاولكم شرفاً وحميّة وشجاعة ووفاء فلا تصلون إلى أخمص قدميه ؛ منكم يزيد الأبيض اللون المتحدّر من عبد مناف المضمّخ بالأطياب ، ومنكم عبيد الله بن زياد ، ومنكم شمر بن ذي الجوشن وحجّار بن أبجر وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج ، منكم قبل هؤلاء وبعد هؤلاء كثيرون وكلّهم يشعّ بياضاً ويعبق طيباً ، وكلّهم يجرّ وراءه حلقات آباء وأجداد !

اُولئك غدروا بمحمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الذي أخرجهم من الظُلمات ، فداسوا تعاليمه وحشّدوا على بنيه ، اُولئك يتهيؤون الآن ليرفعوا رؤوس أبناء محمّد على رماحهم ، وهذا الزّنجي وفيٌ لمحمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الذي حرّره وأكرم جنسه ، فتقدّم ليذودكم عن بنيه وبناته وتعاليمه ، وهو يتهيّأ الآن ليسفك دمه دون ذلك ، فأيّكم اللئيم الحسب ؟ النّتن الرّيح ؟ الأسود الوجه ؟ أأنتم أم هو ؟

وحقّق الحسين (عليه‌السلام ) رجاء جون فأذنَ له ، ومشى جون مزهوّاً ببطولته ، معتزّاً بوفائه ، يودّ لو أنّ عينَي بلال الحبشي تراه في خطواته هذه ، وأنّ زنوج الدّنيا يطلّون عليه ليروا كيف مثلّهم في موكب البطولات ، وتكلّم باسمهم على منبر التّضحيات ، وكيف شرّفهم ساعة لا شرف إلّا للنفوس العظيمة.

١١٦

لقد ضارب جون الحرّ اُولئك العبيد باعمالهم ، السّود بقلوبهم ، وكان له ما أراد ، فامتزج دمه الأسود مع أشرف دم؛ مع دم الحسين (عليه‌السلام ) سبط محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ومع دماء أهل بيته (عليهم‌السلام ). ووفّى الزّنوج لمحمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) الذي رفع من شأنهم وأعلى أمرهم ، وتحقّق ما أراده جون ، فلم يُنفّس عليه الحسين (عليه‌السلام ) بالجنّة ، ولم يبخل عليه بأنْ يثبت بإنّه كريم الحسب ، طيب الرّيح.

المجلس السّادس والأربعون بعد المئة(١)

مُنذ ولدت هذه المأساة ، وهي تموّن الفكر العالمي بأرفع ما وصلت إليه البطولة ، وأقصى ما بلغه الاستشهاد ، ثُمّ تموّن العاطفة بأشجى ما وصل إليه الحزن النّبيل. وبرغم القرون المتتابعة على ولادتها بقيت معانيها تتجدد في كلّ لحظة ، وبقيت مصدراً عجيباً من مصادر الوحي الغنيِّ للأقلام السّائرة في دروب الحياة إلى مُنتهى القمم الشّوامخ. من ذلك الزّمن الذي وقعت فيه إلى هذا اليوم الذي تنفصل بينه وبين يومها الأول أربعة عشر قرناً ، وهي تبدو وكأنّها على موعد مع التّجديد الرّائع في سمو المعاني وسمو الأقلام التّي يسيل في لعابها نشيد الخلود.

عظمة هذه المأساة لم تكن في اختيار الموت على الحياة ، أو مواجهة العدد القليل للعدد الهائل الكبير ، أو في الصّبر الـمُذهل أمام وحوش الغابات وإنْ كانت

____________________

(١) من المجالس التّي أضفناها على الطّبعة السّابقة وهو بقلم الاستاذ محمّد شرارة.

١١٧

هذه المعاني فصولاً خالدة من فصولها الكثيرة ، وإنّما كانت في شيء آخر... كانت في ذلك التّحدي الـمُخيف للطغيان الأحمق والظّلم البليد والجبروت الغبي... نعم كانت في هذا المعنى الذي ينتصب في تاريخ الشّعوب كما ينتصب المارد الجبّار ، ويلوح كما يلوح العملاق أمام الزّرازير الجبانة.

وفي عقيدتي إنّ طُغاة الحُكم الاُموي كانوا أجهل النّاس بالأخلاق العربية العامّة ، كما كانوا أغبى النّاس في معرفة النّفس العربية البسيطة ووعي أسرارها. وقد ظنّ اُولئك الأغبياء الحمقى أنّ المال وحده كافٍ في اماتة كلّ نبل وابادة كلّ شرف ، وأنّ شراء عدد من زعماء العرب في ذلك الوقت كان في القضاء على الجوهر النّبيل الذي يشعّ في قلوب البسطاء من الجماهير الكبيرة الواسعة ؛ وبالتّالي كافٍ في القضاء على الحسين (عليه‌السلام ) ومدرسته القائمة على تحدّي الطُغيان والوقوف في وجهه مهما ارتفع عبابه.

وفي ظُلمة هذه الغباوة اشتروا عمر بن سعد - الطّامع بإمارة الرّي - وأماثله من الزّعماء الأذلاّء الذين تهاووا على بريق الذّهب ، كما يتهاوى الفراش على لهيب النّار ؛ وبالتّالي استطاعوا أنْ يقتلوا الحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه بذلك الشّكل الذي أخرج كلّ ما في نفوس الطُغاة من نذالة وحقد وجبن ، وإسفاف وازدراء بالقيم. ولكن هل استطاعوا أنْ يقضوا على تلك المدرسة النّبيلة التّي أنشأها الحسين (عليه‌السلام ) ، وخلق لها بتضحيته وتضحيات أصحابه وأهله الـمُثل العملية العُليا ؟ الجواب معروف عند كلّ مُلمّ بالتّأريخ وحركته.

لقد ووجه الحكم الاُموي بكثير من الغضب ، وكثير من الصّفعات ، كما ووجه في كثير من الأحيان بكثير من الاحتقار ؛ وفي ذلك الحوار الـمُذهل الذي دار بين يزيد وزينب بنت علي (عليها‌السلام ) ما أشعر يزيد - إنْ كان عنده شعور - بإنّ الدّنيا مُقبلة على عاصفة , وإنّ قتل الحسين (عليه‌السلام ) لم يكن سوى نذير يكاد يزعزع الأرض تحته.

لقد شمت الطّاغية الأحمق بقتل الحسين (عليه‌السلام ) أمام اُخته ، وظنّ أنّ زينب امرأة ذليلة هانت عليها الكرامة بعد قتل مَن قُتل من أهلها وذويها ، فراح يتحدّاها

١١٨

ويتحدّى الكرامة الشّامخة في تلك النّفس العظيمة التّي يجب أنْ تكون مُثلاً لكلّ امرأة كريمة. فماذا كان موقف زينب (عليها‌السلام ) ؟ وكيف كان ردّها على شماتة الشّامت الخسيس ؟ : وإنْ جرت عليّ الدّواهي مخاطبتك ، فإنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك ، وأستكبر توبيخك.

بهذه الكلمات القليلة أجابت زينب ، ولكن أيّة كلمات هذه الكلمات ؟ وأي عوالم من التّحدي تحمل في كلّ حرف من حروفها ؟ لو عضّ يزيد الحديد في تلك اللحظة لكان ذلك أهون عليه من أنْ يسمع حرفاً واحداً منها إنْ كان عنده إحساس ؛ مهما يكن شعوره فقد أدرك بالتأكيد أنّ مدرسة الحسين (عليه‌السلام ) باقية وأنّها ستبقى ، وأنّ السّعادة التّي تخيّلها حائمة عليه ، أو ستحوم عليه بقتل الحسين (عليه‌السلام ) وأصحابه لن تكون سوى نعش له ولدولته.

وقبل زينب وقف رجل في الكوفة(١) أمامَ عبيد الله بن زياد موقفاً لا يقلّ عن موقف زينب ، ودفع حياته ثمناً لموقفه ، ثُمّ تتابع الزّمن وتتابعت المواقف الخالدة ، ومعنى ذلك أنّ يزيد فشل ، وأنّ الدّرس الذي ألقاه الحسين (عليه‌السلام ) على الأجيال بقي ينتقل من جيل إلى جيل ، وسيبقى على تنقُّله ما دام للكرامة قيم ، وللأخلاق مُثل عُليا.

* * *

____________________

(١) هو عبد الله بن عفيف الزّدي.

١١٩

المجلس السّابع والأربعون بعد المئة(١)

خلا الجوُّ لمعاوية بعد مقتل الحسن (عليه‌السلام ) بالسمّ ، أمّا زياد بن أبيه فقد تكفّل بالقضاء على كلّ العناصر القيادية في العراق ، مستعملاً في ذلك أبشع الوسائل.

وفي المدينة عاشت الإرستقراطية العربية في بحبوحة من العيش , عاشت في قصور ناعمة يُجلب إليها من كلّ الأقطار وسائل التّرفيه , ويعيش في غُرفاتها القيان والعبيد ، ويجلس الأمير في حاشية من صحبه وخدمه والمتزلّفين إليه.

وكانت إرستقراطية المدينة تتكوّن أساساً من الولاة السّابقين الذين فرّوا بمال بيت المال ، أو أغدق عليهم معاوية ما شاءت له سياسته ؛ ليتقاعدوا ويكفّوا يدهم عن السّياسة ، ومن كبار المحاربين ذوي الاُعطيات الضّخمة وأصحاب الثّروات الطّائلة ، ومن أبناء هؤلاء جميعاً وأتباعهم. وستصبح المدينة بعد ذلك مكانا شاعريّاً يظهر فيها الغناء والشّعر ، والموسيقى والرّقص كأزهى ما كانت عليه مدينة في عصور الازدهار القديمة.

ومن الـمُمكن تصوّر كيف كانت تفكّر هذه الإرستقراطية ؛ كانت أحاديث السّياسة هي الغالبة ، وكان البحث عن مواقع القُرى ومراكز التّجمع والأنصار شغلهم الشّاغل في المدينة , كذلك كان الحسين (عليه‌السلام ) ظاهراً كأكثر الرّجال

____________________

(١) من المجالس التّي أضفناها إلى الطّبعة السّابقة. وهذا المجلس مع المجالس الثّلاثة التّي تليه ، بقلم الاستاذ أحمد عباس صالح.

١٢٠