المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٢

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 139

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 139
المشاهدات: 39367
تحميل: 3608


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 139 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39367 / تحميل: 3608
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 2

مؤلف:
العربية

المجالسُ السَّنيّة

في

مناقب ومصائب العترة النبويّة

تأليف :

الـمُجتهِد الأكبر السيّد محسن الأمين رضوان الله عليه

الجزء الثّاني

الطّبعة الخامسة

١٣٩٤هـ - ١٩٧٤م

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربِّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطّاهرين.

وبعد : فهذا هو الجزء الثّاني من كتاب المجالس السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة , تأليف أفقر العباد إلى عفو ربّه الغني محسن ابن المرحوم السيّد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي , نزيل دمشق الشّام ، عفا الله تعالى عن سيئاته وحشره مع محمّد وآله الطّاهرين صلوات الله عليهم.

وحيث قد نفدت الطّبعة الأولى من هذا الجزء , فها نحن نُمثله للطبع ثانياً مع زيادات في هذه الطّبعة ، وتغيير في التّرتيب إلى ما هو أحسن وأنسب , والله المسؤول أنْ يكون عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم , وعليه نتوكل وبه نستعين.

* * *

٢

المجلس السّادس والتّسعون

قال الله تعالى في سورة الشّورى :( قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١) : أي قُل لهم يا محمّد , لا أسألكُم على تبليغ الرّسالة وتعليم الشّريعة أجراً ، إلّا أنْ تودّوا قرابتي وعترتي ، وتحفظوني فيهم.

وعن ابن عباس قال : لـمّا نزلت :( قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) , قال النّاس : يا رسول الله, مَنْ هؤلاء الذّين أمرنا الله بمودّتهم ؟ قال : (( عليّ وفاطمة وولدهما )). قال علي (عليه‌السلام ) : (( فينا في آلِ حم آية لا يحفظ مودّتنا إلّا كُلّ مؤمن )). ثُمّ قرأ هذه الآية.

وإلى هذا أشار الكُميت رحمه الله في قوله.

وجدنا لكمْ في آل حمَ آيةً

تأوّلها منّا تقيٌ ومعربُ

وقال الأعسم رحمه الله :

لهفي لـمَن ودّهم أجر الرّسالة لمْ

يروا سرى علم الشّحناء منشورا

وقال المؤلّف :

أنتمْ ولاة الورى حقّاً وحُبُكمْ

فرضٌ أكيدٌ بنص الذّكر قد وجبا

وقال بعض الشّعراء :

أيها المؤمن الذي طاب فرعاً

وزكا منه أصلُهُ وتمسكْ

طبْ بدين النّبي نفساً وإنْ خفـ

ـتَ من النّار في غدٍ أنْ تمسكْ

فاستجر من لظى بعليٍّ

وبنيهِ وبالبتول تمسكْ

خطب النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يوماً فقال : (( أيّها النّاس , إنّي خلّفتُ فيكم الثّقلين ؛ كتابَ الله وعترتي أهل بيتي واُرومتي ، ومزاجَ مائي وثمرتي , لن يفترقا حتّى يَرِدا عليّ

____________________

(١) سورة الشّورى / ٢٣.

٣

الحوض , وإنّي لا أسألُكم في ذلك إلّا ما أمرني ربّي أنْ أسألُكم المودّة في القُربى , فانظروا أنْ لا تلقوني غداً على الحوض , وقد أبغضتم عترتي وظلمتموهم )).

فليتك يا رسول الله تنظر إلى آلك وعترتك الذين جعل الله ودّهُم أجر رسالتك ما جرى عليهم من بعدك ؛ أمّا أخوك وابن عمِّك أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) فقد نازعوه حقّه وحاربوه , وكانت خاتمة عملهم أنْ قتلوه وهو يُصلّي في محرابه ؛ وأمّا بضعتُك الزّهراء (عليها‌السلام ) فقد خرجت من الدُنيا وهي ناحلة الجسم مُعصبة الرأس حزينة باكية ؛ وأمّا ولدك الحسن (عليه‌السلام ) فقد جرّعوه الغصص ونازعوه حقّه كما نازعوا أباه من قبله وتتبّعوا شيعته ومحبيه ، تارة يقتلونهم ، وتارة ينفونهم من الأرض ، وتارة ينهبون أموالهم ويهدمون دورهم حتّى قتلوه مسموماً ومنعوا من دفنه عندك.

وأمّا ولدك الحسين (عليه‌السلام ) فقد دعاه أهل الكوفة لينصروه ، ثمّ خذلوه وحاربوه بأمر يزيد وابن زياد حتّى قتلوه ، ومن شرب الماء منعوه , وبجرد الخيل داسوا جسمه ورضّوه ، وعلى سنان الرّمح رفعوا رأسه وحملوه , وأصبحَ جميع أهل بيتك يا رسول الله , الذّين أكدت الوصاية بهم ، مقهورين، مغصوبة حقوقهم مقتولين ، مُشردين عن أوطانِهم.

تركوهم شتّى مصا

ئبهمْ وأجمعهم فظيعهْ

فمغيّبٌ كالبدرِ تر

تقبُ الورى شوقاً طلوعهْ

ومكابدٌ للسمّ قد

سُقيتْ حشاشته نقيعهْ

ومُضرّجٌ بالسّيفِ آ

ثر عزّه وأبى خضوعهْ

فقضى كما اشتهت الحميـ

ـة تشكر الهيجا صنيعهْ

ومُصفّدٌ لله سلـ

ـم أمر ما قاسى جميعهْ

وسبيةٌ باتت بأفـ

ـعى الهمّ مهجتها لسيعهْ

سُلبت وما سُلبت محا

مد عِزّها الغُرّ البديعهْ

وتركوهم يا رسول الله شتّى مصارعهم :

بعضٌ بطيبة مدفونٌ وبعضُهمُ

بكربلاءَ وبعضٌ بالغريينِ

وأرضُ طوسٍ وسامرا وقد ضَمنتْ

بغدادُ بدرين حلاّ وسط قبرينِ

٤

ولله درّ القائل :

حُفَرٌ بطيبة والغري وكربلا

وبطوس والزّورا وسامراءِ

ما جئتهمْ في حاجة إلّا انقضتْ

وتبدّل الضّراءُ بالسّرّاءِ

وقال دعبل الخُراعي رحمه الله تعالى :

قبورٌ بكوفانٍ وأُخرى بطيبة وأُخرى

بفخٍ نالها صلواتي

قبورٌ بجنبِ النّهر من أرض كربلا

معرّسهُمْ فيها بشطِّ فُراتِ

توفّوا عُطاشى بالفُراتِ فليتني

توفيت فيهم قَبل حين وفاتي

وقبرٌ ببغداد لنفسٍ زكيّةٍ

تضمّنها الرّحمنُ في الغُرفاتِ

المؤلّف :

لئِن تَكُن أصبَحت شتّى قبورهمُ

فكلّها في سواد القلب مجموعُ

كمْ حاولت طمسها الأعداءُ جاهدةً

وقدرها فوق هام النّجمِ مرفوعُ

المجلس السّابع والتّسعون

كان نوح (عليه‌السلام ) أوّل اُولي العزم من الرُسل , وهم خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد. ومعنى اُولي العزم : اُولو القّوة ؛ لأنّهم أمروا باظهار دعوتهم وأعلانها للناس كافّة , قال الله تعالى :( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ ) (١) .

وروى المسعودي في كتاب إثبات الوصية , أنّ نوح لبث في قومه يدعوهم إلى الله فلا يزيدهم دعاؤه إلّا فراراً منه وطغياناً , وأوحى الله إلى نوحٍ أنْ أحمل في السّفينة( مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) : أي من كُلّ جنس من الحيوانات زوجين ذكراً واُنثى.( وَأَهْلَكَ إِلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) : وهي امرأته.( ومَن آمن ) (٢) بك من غير أهلك.

____________________

(١) سورة الأحقاف / ٣٥.

(٢) سورة هود / ٤٠.

٥

( وَمَا آمَنَ مَعَهُ الّا قَلِيلٌ ) . قيل كانوا ثمانين , وقيل ثمانية وسبعين , وقيل ثمانية , وقيل سبعة من رجال ونساء , وفيهم أبناؤه الثّلاثة سام وحام ويافث ، وثلاث زوجات لهم.( وَنَادَى‏ نوحٌ ابْنَهُ ) كنعان( وكان في معزلٍ ) عن السّفينة( يَا بُنَيّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تُكُن مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إلى‏ جَبَلٍ يَعْصِمُني مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ الّا مَن رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ... وَنَادَى‏ نُوحٌ رَبّهُ فَقَالَ رَبّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنّ وَعْدَكَ الْحَقّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَانُوحُ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) الذّين وعدتك بنجاتهم ؛ لكونه على غير دينك( إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) (١) : أي صاحب عمل غير صالح.

قال أبو فراس :

كانت مودّةُ سلمانٍ لهمْ رحماً

ولم يكُن بين نوحٍ وابنه رحمُ

وشرف مقام النّبوة يوجب تنزيه نساء الأنبياء عن الزِّنا , فيجوز في زوجة النّبي أنْ تكون كافرة كزوجة نوح وزوجة لوط , ولا يجوز أنْ تكون زانية. وأمّا قوله تعالى :( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ) (٢) . فخيانة امرأة نوح أنّها كانت تنسبه إلى الجنون , وخيانة امرأة لوط أنّها كانت تدّل على أضيافه.

وبقي نوح ومن معه في السّفينة سبعة أيام واستوت على الجودي في اليوم السّابع , وأغرق الله كُلّ حيٍّ غير نوح وأصحاب السّفينة ؛ ولذلك سُمّي نوح (عليه‌السلام ) آدم الثّاني. ولولا أنْ رفع الله أنواع العذاب في الدّنيا عن الاُمّة المحمّديّة كرامة لرسوله محمّد , لما كانت اُمّة نوح (عليه‌السلام ) أحقّ بالعذاب منها بما فعلته بعترة رسول الله ؛ من تسليطه عليها يزيد شارب الخمور ، والـمُعلن بالُكفر والفجور ، واللاعب بالقرود والفهود , فأخاف ريحانة رسول الله و أحد سِبطيه حتّى اضطرّه إلى الخروج من حرم رسول الله إلى حرم الله خائفاً يترقّب , ومن حرم الله - الذي يأمن فيه كُلّ خائفٍ حتّى الطّير والوحش - وأنزله الدّعي بن الدّعي عُبيد الله بن زياد بأمر يزيد مع عياله وأطفاله بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء , ومنعه من ماء الفُرات الـمُباح ، [ الذي ] يشربه البر والفاجر ، وتتمرّغ فيه خنازير السّواد وكلابه ، وآل بيت رسول الله عُطاشى ظمايا

____________________

(١) سورة هود / ٤٢ - ٤٦.

(٢) سورة التّحريم / ٩.

٦

لا يُسمح لهم منه بقطرة واحدة , وسبط رسول الله وريحانته يتلظّى عطشاً ، ويطلب شربة من الماء فيُجاب : يا حُسين , أما تنظر إلى ماء الفُرات كأنّه بطون الحيّات ؟ والله ، لا تذوق منه قطرة حتّى تذوق الموت عطشاً ! هذا واُمّة جدّه رسول الله ما بين خاذل ومُحارب له ومساعد عليه , غير فئة قليلة لا تتجاوز النّيف والسّبعين إنساناً , ولم يكفهم ذلك حتّى داسوا جسده الشّريف بحوافر الخيل , وداروا برأسه ورؤوس أصحابه في البُلدان , وحملوا نساءه وأطفاله على أقتاب الجِمال كالسّبي المجلوب ! أفلا تستحق هذه الاُمّة بفعلها هذا أنْ ينزل بها من العذاب أكثر ممّا نزل بقوم نوح ؟ بلى والله.

فلأيهمْ تنعى الملائكُ مَن لهُ

عقدُ الآله ولاءهم وولاءهَا

ألآدم تنعى وأينَ خليفةُ الرّ

حمنِ آدمُ كي يُقيم عزاءهَا

أم هل إلى نوحٍ وأين نبيهُ

نوحٌ فيسعد نوحها وبكاءهَا

ولقد ثوى بثراك والسّبب الذي

عصم السّفينةَ مغرقاً أعداءهَا

المجلس الثّامن والتّسعون

قال الله تعالى :( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً وَاتّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى وَعَهِدْنَا إلى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ أَضْطَرّهُ إلى‏ عَذَابِ النّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (١) .

فبنى إبراهيم (عليه‌السلام ) البيت ونقل إسماعيل (عليه‌السلام ) الحجر من ذي طوى , فقال إبراهيم (عليه‌السلام ) لـمّا فَرِغَ من بناء البيت :( رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً ) .

____________________

(١) سورة البّقرة / ١٢٥ - ١٢٧.

٧

روي عن الامام الصّادق (عليه‌السلام ) : (( مَن دخل الحرم مستجيراً به فهو آمن من سخط الله عزّ وجل ، ومَن دخله من الوحش والطّير كان آمناً من أنْ يُهاج أو يؤذى حتّى يخرج من الحرم ؛ وذلك قوله تعالى :( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً ) )). بأنْ حكم أنّ مَن عاذ به والتجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه. وكان العرب لا يتعرّضون لمن فيه فهو آمن على نفسه وماله , وإنْ كانوا يخطفون النّاس من حوله ، وكان قبل الإسلام يرى الرّجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرض له.

ألا قاتل الله بني اُميّة فإنّهم ما راعوا حُرمة الله , فأخافوا سبط رسول الله وريحانته الحسين وهو في الحرم ؛ وذلك لـمّا أنفذ يزيد عمرو بن سعيد بن العاص من المدينة إلى مكّة في عسكرٍ عظيم , وولاه أمر الموسم وأمره على الحاج كلهم , وأوصاه بقبض الحسين (عليه‌السلام ) سرّاً وإنْ لم يتمكن منه يقتله غيلة.

ثُمّ إنّ يزيد دسّ له مع الحاج في تلك السّنة ثلاثين رَجُلاً من شياطين بني اُميّة , وأمرهم بقتل الحسين (عليه‌السلام ) على أيّ حال اتّفق , فلمّا علم الحسين (عليه‌السلام ) بذلك , عزم على التّوجه إلى العِراق ، وكان قد أحرم بالحجّ , فطاف بالبيت وسعى بين الصّفى والمروة وقصّر من شعره وأحلّ من إحرام الحجّ وجعلها عُمرة مُفردة ؛ لأنّه لم يتمكّن من إتمام الحجّ مخافة أنْ يُقبض عليه , وجاءهُ محمّد بن الحنفيّة في الليلة التّي أراد الحسين (عليه‌السلام ) الخروج في صبيحتها عن مكّة , فقال له : يا أخي ، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك , وقد خفت أنْ يكون حالك كحال مَن مضى , فإنْ رأيت أنْ تُقيم فإنّك أعزّ مَن بالحرم وأمنعه. فقال : (( يا أخي ، قد خفتُ أنْ يغتالني يزيد بن مُعاوية في الحرم , فأكون الذي يُستباح به حُرمة هذا البيت )). فقال له ابن الحنفيّة : فإنْ خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البر ؛ فإنّك أمنع النّاس به ولا يقدر عليك أحد. فقال : (( أنظر فيما قُلت )).

فلمّا كان السّحر ارتحل الحسين (عليه‌السلام ) , فبلغ ذلك ابن الحنفيّة فأخذ بزمام ناقته ، وقد ركبها , فقال : يا أخي ، ألم تعدني النّظر فيما سألتُك ؟ قال : (( بلى )). قال : فما حداك على الخروج عاجلاً ؟ قال : (( أتاني رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بعد ما فارقتُك , فقال : يا حُسين اخرج ، فإنّ الله شاء أنْ يراك قتيلاً )). فقال محمّد بن الحنفيّة : إنّا لله وإنّا

٨

إليه راجعون , فما معنى حملُك هؤلاء النّسوة معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال ؟ فقال : (( إنّ الله شاء أنْ يراهُن سبايا )) ؛ ولذلك كتب ابن عباس إلى يزيد بعد قتل الحسين (عليه‌السلام ) : وما أنسَ من الأشياء فلست بناسٍ اطرداك حُسيناً من حرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى حرم الله , وتسييرك إليه الرّجال لقتله في الحرم , فما زلت بذلك وعلى ذلك حتّى أشخصته من مكّة إلى العراق , فخرج خائفاً يترقّب , فزلزلت به خيلك ؛ عداوة منك لله ولرسوله ولأهل بيته الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.

وقد انجلى عن مكّة وهو ابنها

وبه تشرّفت الحطيمُ وزمزمُ

لم يدرِ أين يريح بدن ركابهِ

فكأنّما المأوى عليه مُحرّمُ

وما اكتفى يزيد بهذا كُلّه , بل إنّه هتك حرمة الله تعالى في الحرم , وهدم الكعبة المشرّفة أيام حربه مع ابن الزّبير على يد الحُصين بن نمير , فنصب على الكعبة العرادات والمجانيق , وفرض على أصحابه عشرة آلاف صخرة كُلّ يوم يرمون بها الكعبة حتّى هدمها ؛ بغياً منه وعتوّاً على الله تعالى حتّى أخذه الله أخذ عزيز مُقتدر.

ألا يا بن هندٍ لا سقى الله تربةً

ثويت بمثواها ولا اخضرّ عودُها

أتسلبُ أثوابَ الخلافة هاشماً

وتطردُها عنها وأنت طريدُها

وما أنْ أرى يشفي الجرى غير دولةٍ

تُدين لها في الشّرق والغرب صيدُها

المجلس التّاسع والتّسعون

روي أنّه كان السّبب في ابتلاء الله يعقوب (عليه‌السلام ) بفراق ولده يوسف (عليه‌السلام ) : أنّ يعقوب (عليه‌السلام ) ذبح كبشاً ، وأنّ سائلاً مؤمناً صوّاماً غريباً اجتاز على

٩

بابه عشيّة جمعة , فاستطعمهم وهم يسمعون فلم يُصدّقوا قوله , فلمّا يئس أنْ يُطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه إلى الله تعالى , وبات طاوياً وبات يعقوب وآله بطاناً , فكان يعقوب - بعد ذلك - إذا أراد الغداء أمر مُناديا فنادى : ألا مَن أراد الغداء من المساكين فليتغدّ مع يعقوب. وإذا كان صائماً أمر منادياً فنادى ألا مَن كان صائماً فليفطر مع يعقوب.

ولـمّا كان مقام النّبوة أعلى المقامات عند الله تعالى , فقد يبتلي الله الأنبياء بالشّدائد في الدّنيا؛ لأجل تركهم للأولى ويعاتبهم على ذلك.

ولكن انظر لترى الفرق بين ما جرى ليعقوب وولده , وما جرى لأمير المؤمنين علي وزوجته البضعة الزّهراء وولديه الحسنين (عليهم‌السلام ) حين تصدّقوا بزادهم على المسكين واليتيم والأسير ، وطووا ثلاثة أيام صائمين.

روى صاحب الكشّاف في تفسير قوله تعالى :( يُوفُونَ بِالنّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرّهُ مُسْتَطِير * وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى‏ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِير * إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ) (١) . عن ابن عباس رضي الله عنه : أنّ الحسن والحسين (عليهما‌السلام ) مرضا فعادهما رسول الله في ناس معه , فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك. فنذر عليٌ وفاطمة وفضّة جارية لهُما , إنْ برءا ممّا بهما أنْ يصوموا ثلاثة أيام. فشفيا وما معهم شيء , فاستقرض علي (عليه‌السلام ) من شمعون الخيبري ثلاثة أصوع من شعير , فطحنت فاطمة (سلام الله عليها) صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم , فوضعوها بين أيديهم ليفطروا , فوقف عليهم سائل فقال : السّلام عليكم أهل بيت محمّد , مسكين من مساكين الـمُسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجّنة. فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّا الماء ، وأصبحوا صياماً ، فلمّا أمسوا ووضعوا الطّعام بين أيديهم , وقف عليهم يتيم فآثروه , ووقف عليهم أسير في الثّالثة ففعلوا مثل ذلك.

فليت أمير المؤمنين والزّهراء (عليهما‌السلام ) اللَذين تصدّقا بقوتهما وقوت ولديهما على المسكين واليتيم والأسير , لا غابا عن يتامى ولدهما الحسين (عليه‌السلام ) يوم كربلاء وقد

____________________

(١) سورة الإِنسان / ٧ - ٩.

١٠

باتوا ليلة الحادي عشر من الـمُحرّم وهم جياعى عُطاشى , بلا مُحامٍ ولا كفيل غير زينب والعليل.

ليت الاُولى اطعموا المسكين قوتَهمُ

وتالييه وهم في غاية السّغبِ

يرون بالطّف أبناءً لهم أُسرتْ

يستصرخون من الآباء كلّ أبي

المجلس المئة

قال الله تعالى :( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِاَبِيهِ يَا أبَتِ إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَابُنَيّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى‏ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنّ الشّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّ مُبِينٌ... لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبّ إلى‏ أَبِينَا مِنّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّ أَبَانَا لَفي ضَلالٍ مبِينٍ ) (١) .

روي : أنّه لـمّا ولد يوسف أحبّه يعقوب حُبّاً شديداً , فلمّا رأى إخوة يوسف محبّة أبيهم له وإقباله عليه حسدوه ، ثُمّ إنّ يوسف رأى في منامه أحد عشر كوكباً والشّمس والقمر تسجد له , فقصّها على أبيه , فقال له أبوه :( يَا بُنَيّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى‏ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً ) (٢) . فسمعت امرأة يعقوب ذلك , فلمّا أقبل أولاد يعقوب , أخبرتهم بالرؤيا فازدادوا حسداً , وقالوا : ما عني بالشّمس غير أبينا ولا بالقمر غيرك ولا بالكواكب غيرنا , إنّ ابن راحيل يريد أنْ يتملّك علينا. فتآمروا بينهم أنْ يفرّقوا بينه وبين أبيه , وقالوا :( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً ) : أي في أرض بعيدة عن أبيه فلا يهتدي إليه( يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ) : تنصرف محبته لكم ويحنّ عليكم( وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ) : وهو يهوذا ، وكان أفضلهم وأعقلهم :( لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبّ ) : أي في قعر البئر( يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ ) : يأخذه بعض مارّة الطّريق

____________________

(١) سورة يوسف / ٤ - ٨.

(٢) سورة يوسف / ٥.

١١

الـمُسافرين( إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) . وأخذ عليهم العهود أنّهم لا يقتلونه , فأجمعوا عند ذلك أنْ يدخلوا على يعقوب ويُكلّموه في إرسال يوسف معهم إلى البرية :( قَالُوا يَا أَبَانَا مَالَكَ لَا تَأْمَنّا عَلَى‏ يُوسُفَ وَإِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدَاً ) إلى الصّحراء( يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنّي لَيَحْزُنُنِي أنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أنْ يَأْكُلَهُ الذّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ) : جماعة( إِنّا إِذاً لَخَاسِرُونَ ) (١) . فاطمأنّ يعقوب إليهم ، فأرسله معهم فأخرجوه وهم يكرمونه. فلمّا وصلوا إلى الصّحراء أظهروا له العداوة , وجعل يضربه بعض إخوته فيستغيث بالآخر فيضربه , فضربوه حتّى كادوا يقتلونه ، وجعل يصيح : يا أبتاه يا يعقوب ! لو تعلم ما يُصنع بابنك بنو الإماء. فقال لهم يهوذا : أليس قد أعطيتموني موثقاً أنْ لا تقتلوه ؟ فانطلقوا به إلى الجُبّ ,( فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبّ ) : أدنوه من رأس الجُبّ ، فقالوا له : انزع قميصك. فبكى وقال : يا إخوتي لا تجردوني. فسلّ واحدٌ منهم عليه السّكين ، وقال : لئن لم تنزعه لأقتُلنّك. فنزعه , فجعلوا يدلونه في البئر وهو يتعلّق بشفير البئر , فربطوا يديه وهو يقول : يا إخوتاه لا تفعلوا ! ردّوا عليّ قميصي أتوارى به في الجُبّ. فيقولون : ادعُ الشّمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك. فدلّوه في الجُبّ , فلمّا بلغ نصفه ، ألقوه إرادة أنْ يموت.

وكان في البئر ماء فسقط فيه , ثمّ آوى إلى صخرة فقام عليها ، فنادوه ، فظنّ أنّهم رحموه فأجابهم , فأرادوا أنْ يرضخوه بالحجارة , فمنعهم يهوذا ،( وأوحينا إليه لَتُنَبّئَنّهُم بِأَمْرِهِمْ هذَا ) : لتخبرنّهم بفعلهم بعد هذا الوقت ، وهو قوله :( هَلْ عَلِمْتُم مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ) ؟( وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) إنّك يوسف.

( وَجَاءُوا أَبَاهُمْ ) : عادوا إلى أبيهم عشاء يبكون ، فلمّا سمع بكاءهم فزع وقال : ما بالكم ؟( قَالُوا يَا أَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ) : نتراكض ونترامى بالسّهام لنعرف أيُّنا السّابق( وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ) : بمصدق لنا( وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى‏ قَميِصهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى‏ مَا تَصِفُونَ ) (٢) . قيل : إنّهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميصه ولم

____________________

(١) سورة يوسف / ٩ - ١٤.

(٢) سورة يوسف / ١٥ - ١٨.

١٢

يُمزّقوه , ولم يخطر ببالهم أنّ الذّئب إذا أكل إنساناً مزّق ثوبه. فقال لهم : أروني القميص. فلمّا رأى القميص صحيحاً , قال : يا بَنيَّ ، والله , ما عهدت كاليوم ذئباً أحلم من هذا , أكل ابني ولم يُمزّق ثوبه ! ثمّ بكى بُكاءً طويلاً , ثمّ أخذ القميص يُقبّله ويشمّه.

هذا يعقوب مع أنّه نبيّ ابن أنبياء ، بكى لـمّا رأى قميص ولده حتّى غُشي عليه ، وهو لم يتحقق موته. ساعد الله قلب أبي عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) الذي رأى ولده عليّاً الأكبر , شبيه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بخلقه وخُلقه , مُقطّعاً بالسّيوف , مُجرّحاً بالرّماح والسّهام , نادى : (( قتل الله قوماً قتلوك يا بُني , ما أجرأهم على الرّحمن وعلى انتهاك حُرمة الرّسول ! على الدّنيا بعدك العفا )) :

كنتَ السّوادَ لناظري

فعليك يبكي النّاظرُ

مَن شاءِ بعدَك فليمُتْ

فعليك كنتُ اُحاذرُ

المجلس الواحد بعد المئة

لـمّا أذن الله تعالى بخروج يوسف (عليه‌السلام ) من السّجن , رأى الملك رؤيا هالته ؛ وذلك أنّه رأى( سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنّ سَبْعٌ ) بقرات( عجاف ) : مهازيل ، فدخلت السّمان في بطون المهازيل , ورأى( سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ ) قد انعقد حَبّها ,( و ) سبعاً( أُخَرَ يابسَاتٍ ) فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبت عليها. فقصّ الملك رؤياه على قومه ، فأشكل عليهم تعبيرها , وتذكّر الذي كان على شراب الملك رؤياه الّتي رآها في السّجن وعبّرها له يوسف , فأخبرهم بها وطلب أنْ يرسلوه إلى يوسف , فأرسلوه فسأله عن الرؤيا , فقال : أمّا البقرات السّبع العِجاف والسّنابل السّبع اليابسات ، فالسّنون المُجدبة ؛ وأمّا السّبع السّمان والسّنابل السّبع الخضر ، فإنّهنّ سبع

١٣

سنين مخصبات. فرجع الرّجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف ,( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ) : أجعله خالصاً لنفسي فأرجع إليه في تدبير مملكتي. فلمّا أخرجوه من السّجن , كتب على بابه : هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان , وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء.

ثمّ إنّ يوسف اغتسل ولبس ثيابه وقصد الملك , فلمّا دخل عليه وكلّمه , عرف الملك فضله وأمانته وعقله ,( قَالَ إِنّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ ) : ذو مكانة وقدر عظيم( أمين ) : مأمون ثقة. فقال الملك : فما ترى من رؤياي أيّها الصدّيق ؟ فقال : أرى أنْ تزرع زرعاً كثيراً في السّنين المخصبة , وتخزن الطّعام بقصبه وسنبله ؛ لئلا يفسد , وليكون قصبه وسنبله علفاً للدواب , فتدفع إلى كلّ إنسان حصّته وتترك الباقي. فقال الملك : سل حاجتك.( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى‏ خَزَائِنِ الأَرْضِ ) : يعني على الأنابير التي فيها الطّعام( إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) : كاتب حاسب.

فأقبل يوسف على جمع الطّعام فكبسه في الخزائن , فلمّا مضت السّنون الـمُخصبة وأقبلت الـمُجدبة , أقبل يوسف على بيع الطّعام , فباعهم في السّنة الأولى بالدّنانير والدّراهم حتّى لم يبقَ معهم شيء منها , ثمّ في السّنة الثّانية بالحُليّ والجواهر ، ثمّ في السّنة الثّالثة بالدّواب والمواشي , ثمّ في السّنة الرّابعة بالعبيد والإماء , ثمّ في السّنة الخامسة بالدّور والعِقار , ثمّ في السّنة السّادسة بالمزارع والأنهار , ثمّ في السّنة السّابعة برقابهم حتّى استرقّهم جميعاً.

وكان الملك قد فوّض إليه أمر الـمُلك , فقال للملك : كيف رأيت صنع الله بي فيما خوّلني ، فما ترى ؟ قال : الرأي رأيك. قال : إنّي اُشهد الله واُشهدك أنّي اعتقتهم عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم. وكان لا يبيع لأحدهم أكثر من حمل بعير ؛ عدلاً بين النّاس , وكان لا يمتلي شبعاً من الطّعام في تلك الأيام المجدبة , فقيل له : تجوع وبيدك خزائن الأرض ؟ فقال : أخاف أنْ أشبع فأنسى الجياع , وهذا نظير قول أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام ) : (( ولو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفى هذا العسل , ولباب هذا القمح , ونسائج هذا القزّ , ولعلّ بالحجاز أو اليمامة مَن لا طمع له في القرص , ولا عهد له بالشّبع , أوَ أبيت مُبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى ؟! أوَ أكون كما قال القائل :

١٤

وحسبُك داءً أنْ تبيت ببطنةٍ

وحولك أكبادٌ تحنّ إلى القدِّ

أأقنع من نفسي بأنْ يُقال أمير المؤمنين ولا اُشاركهم في مكاره الدّهر ، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش ؟ )). واقتدى به في ذلك ولده الحسين (عليه‌السلام ) , فقد وجُد على ظهره يوم الطفّ أثر , فسُئل علي بن الحسين (عليه‌السلام ) عن ذلك , فقال : (( هذا ممّا كان يحمل الجراب على ظهره إلى بيوت الأرامل واليتامى )). ووجد على ظهر الحسين (عليه‌السلام ) يوم الطفّ أثر آخر , هو أوجع القلوب من هذا الأثر , وهو أثر حوافر الخيل التي داست بحوافرها صدره الشّريف وظهره ؛ وذلك حين أمر ابن سعد عشرة فوارس أنْ يدوسوا بحوافر خيولهم صدره وظهره ؛ تنفيذاً لما أمر به ابن زياد , وهم يقولون :

نحن رضضنا الصّدر بعد الظّهرِ

بكلّ يعبوبٍ شديدِ الأسرِ

فقال ابن زياد : مَن أنتم ؟ قالوا : نحن الذين وطأنا بخيولنا جسد الحسين حتّى طحنّا جناجن صدره.

تطأ الصّواهلُ صدرَه وجبينَهُ

والأرضُ ترجفُ خيفةً وتضعضعُ

المجلس الثّاني بعد المئة

لـمّا تمكّن يوسف بمصر وأصاب النّاس ما أصابهم من القحط , نزل بآل يعقوب ما نزل بالنّاس , فقال يعقوب لبنيه : بلغني أنّه يُباع الطّعام بمصر , وأنّ صاحبه رجل صالح فاذهبوا إليه فإنّه سيحسن إليكم إنْ شاء الله. فجهّزهم وأمسك عنده بنيامين أخا يوسف لاُمّه , فساروا حتّى وردوا مصر , فدخلوا على يوسف فعرفهم ولم يعرفوه ؛ لتغيّر لبسه وبُعد عهدهم منه ؛ لأنّه كان بين قذفهم له في الجُبّ ودخولهم عليه أربعون

١٥

سنة ، فكلّمهم بالعبرانية , فقال لهم : مَن أنتم ؟ فقالوا : نحن من أرض الشّام , أصابنا الجهد فجئنا نمتار. فقال : لعلّكم جواسيس ؟ فقالوا : لا والله , وإنّما نحن إخوة بنو أب واحد , وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرّحمن , ولو تعلم بأبينا لكرمنا عليك , فإنّه نبي الله وابن أنبيائه وأنّه لمحزون. قال وما الذي أحزنه ؟ قالوا : كان له ابن ، كان أصغرنا سنّاً , خرج معنا إلى الصّيد فأكله الذّئب. فقال يوسف : كُلّكم من أبٍ واُمٍّ ؟ قالوا : أبونا واحد واُمهاتنا شتّى. قال: فما حمل أباكم على أنْ حبس منكم واحداً ؟ قالوا : لأنّه أخو الذي هلك من اُمّه ؛ فأبونا يتسلّى به. قال : فمَن يعلم أنّ قولُكم حقّ ؟ قالوا : إنّا ببلاد لا يعرفنا أحد. قال : فائتوني بأخيكم الذي من أبيكم وأنا أرضى بذلك. قالوا : إنّ أبانا يحزن على فراقه وسنُراوده عنه. قال: فدعوا عندي رهينة. فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون فتركوه عنده , وقال لفتيانه : إجعلوا بضاعتهم التي جاؤوا بها ثمن الطّعام في أوعيتهم ؛ وإنّما فعل ذلك إكراماً لهم ليرجعوا إليه.

فلمّا دخلوا على يعقوب , قال : مالي لا أسمع فيكم صوت شمعون ؟ فقالوا : يا أبانا جئناك من عند أعظم النّاس ملكاً , ولم يرَ النّاس مثله حَكماً وعلماً وخشوعاً وسكينة ووقاراً , ولئن كان لك شبيه فإنّه يشبهك , ولقد أكرمنا كرامة لو أنّه بعض أولاد يعقوب ما زاد على كرامته , ولكنّا أهلُ بيتٍ خُلقنا للبلاء , إنّه اتهمنا وزعم أنّه لا يُصدّقنا حتّى ترسل معنا بنيامين , وأنّه ارتهن شمعون , وقال : ائتوني بأخيكم( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ... فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ ءَأَمَنُكُمْ عَلَيْهِ الّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى‏ أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ... قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّى‏ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنّنِي بِهِ الّا أنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمّا ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى‏ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) (١) .

فأرسله معهم وفعلوا كما قال , فلمّا دخلوا على يوسف , قالوا : هذا أخونا الّذي أمرتنا أنْ نأتيك به. فأكرمهم وأضافهم , وقال : ليجلس كلّ بني اُمّ على مائدة. فجلسوا وبقي بنيامين قائماً وحده فبكى , فقال له يوسف : ما لك لا تجلس ؟ قال : إنّك قُلت ليجلس كلّ بني اُمّ على مائدة , وليس لي فيهم ابن اُم. قال يوسف : فما كان لك ابن اُم ؟ قال : بلى. قال : فما فعل ؟ قال : زعم هؤلاء أنّ الذّئب

____________________

(١) سورة يوسف / ٦٠ - ٦٦.

١٦

أكله. قال : فما بلغ من حزنك عليه ؟ قال : ولد لي أحد عشر إبناً ، كُلُهم اشتققت له إسماً من اسمه. فقال له يوسف: تعال فاجلس معي على مائدتي. فقال إخوته : لقد فضّل الله يوسف وأخاه حتّى أنّ الملك قد أجلسه معه على مائدته.

فلمّا كان الليل جاؤوهم بالفرش , وقال : لينم كلّ أخوين منكم على فراش ، وبقي بنيامين وحده , فقال يوسف : هذا ينام معي. فبات معه على فراشه وذكر له بنيامين حزنه على يوسف , فقال له : أتحب أنْ أكون أخاك عوض أخيك الذّاهب ؟ فقال بنيامين : ومَن يجد أخاً مثلك , ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ؟ فبكى يوسف وقام إليه فعانقه , وقال :( إِنّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (١) أي : فلا تحزن لشيء سلف منهم.

هذا يوسف بكى لـمّا جمع الله شمله بأخيه بنيامين , وكان المقام مقام فرح وسرور لا مقام حزن وبُكاء , لكن غلبت الرّقة من يوسف (عليه‌السلام ) فتذكّر ما سلف من فراق أبيه وأخيه فبكى , ولا أحد أعزّ على المرء بعد أبويه من الأخ لا سيّما إذا كان الأخ من أعاظم الرّجال , ولكن أين مقام يوسف الصدّيق من مقام أبي عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) حين وقف على أخيه أبي الفضل العباس , فرآه مقطوع اليدين ، مطروحاً على وجه الأرض ، مرضوخ الجبين ، مشكوك العين بسهم ، مُقطّعاً بسيوف الأعداء ؟! فوقف عليه مُنحنياً وبكى بكاءً شديداً , وجلس عند رأسه يبكي حتّى فاضت نفسه الزّكية.

ثمّ حمل على القوم فجعل يضرب فيهم يميناً وشمالاً , فيفرّون من بين يديه كما تفرّ المعزى إذا شدّ فيها الذّئب , وهو يقول : (( أين تفرّون وقد قتلتم أخي ؟ أين تفرون وقد فتتم عَضدي ؟ )).

إني لأذكر للعباسِ موقفَهُ

بكربلاءَ وهام القوم تختطفُ

ولا أرى مشهداً يوماً كمشهدهِ

مع الحسين عليه الفضلُ والشّرفُ

* * *

____________________

(١) سورة يوسف / ٦٩.

١٧

المجلس الثّالث بعد المئة

لـمّا جاء إخوة يوسف بأخيهم بنيامين إلى يوسف , قال له يوسف : أنا اُحب أنْ تكون عندي. فقال : لا يدعني إخوتي ؛ فإنّ أباهم قد أخذ عليهم عهد الله وميثاقه أنْ يردّوني إليه. قال : فأنا أحتال بحيلة فلا تنكر إذا رأيت شيئاً ولا تخبرهم.

( فَلَمّا جَهّزَهُم بِجَهَازِهِمْ ) أي : أعطاهم ما جاؤوا لطلبه من الميرة , أمر فجعل الصّاع في متاع أخيه وكان من ذهب , وقيل من فضة. فلمّا ارتحلوا , بعث إليهم وحبسهم , ثمّ أمر مُنادياً يُنادي :( أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ ) . فقال : أصحاب العير :( ماذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ ) . وقال الـمُنادي : مَن جاء بالصّاع فله حمل بعير من الطّعام( وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) : كفيل ضامن. فقال إخوة يوسف :( تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنّا سَارِقِينَ ) وكان حين دخلوا مصر وجدهم قد شدّوا أفواه دوابهم ؛ لئلا تأكل من الزّرع( قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إنْ كُنتُم كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ) وكان جزاء السّارق عند آل يعقوب أنْ يُستخدم ويُسترق( فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دينِ الْمَلِكِ الّا أنْ يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نّشَاءُ وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لّهُ مِن قَبْلُ ) (١) .

وكانت سرقة يوسف أنّ عمّته كانت تحضنه بعد وفاة اُمّه وتحبه حُبّاً شديداً , فلمّا كبر أراد يعقوب أنْ يأخذه منها - وكانت أكبر ولد إسحاق وكانت عندها منطقة إسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر - فاحتالت وشدّت المنطقة على وسط يوسف وأدّعت أنّه سرقها , وكان من سنّتهم استرقاق السّارق ، فحبسته عندها بذلك السّبب. قالوا : يا أيّها العزيز ، إنّ له أباً شيخاً كبيراً فَخُذ أحدنا مكانه ، إنّا نراك من الـمُحسنين. قال : معاذ الله أنْ نأخذ إلّا مَن وجدنا متاعنا عنده ؛ إنّا إذاً لظالمون.

فرجع إخوة يوسف إلى أبيهم فأخبروه بحبس بنيامين , فهاج ذلك وجده بيوسف ؛ لأنّه كان يتسلّى به( وَقَالَ يَا أَسَفَى‏ عَلَى‏ يُوسُفَ وَابْيَضّتْ عَينَاهُ مِنَ

____________________

(١) سورة يوسف / ٧٠ - ٧٧.

١٨

الحزن ) والبُكاء( فهو كظيم ) : مملوء من الهمّ والحزن , فقال له أولاده :( تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى‏ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنّمَا أَشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي إلى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) .

هذا يعقوب (عليه‌السلام ) ، وهو نبيّ ابن نبي , قد بكى على فراق ولده يوسف وهو حيّ في دار الدّنيا حتّى ابيضّت عيناه وذهب بصره , وحتّى قيل له :( تَاللّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى‏ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) .

ساعد الله قلب أبي عبد الله الحسين (عليه‌السلام ) الذي نظر إلى ولده وقرّة عينه علي الأكبر , شبيه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في خلقه وخُلقه , مُقطّعاً بالسّيوف إرباً إرباً.

وكان علي بن الحسين زين العابدين (عليه‌السلام ) شديد الحزن والبُكاء على مصيبة أبيه الحسين (عليه‌السلام ) , فقال له بعض مواليه : يا سيّدي ، أما آن لحزنك أنْ ينقضي ولبكائك أنْ يقلّ ؟ فقال له : (( ويحك , إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيّاً ابن نبيّ ، له أثنا عشر إبناً ، فغيّب الله واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغمّ وذهب بصره من البُكاء ، وابنه حيٌّ في دار الدّنيا. وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين , فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي ؟! )).

هذي المصائب لا ما كان من قدمٍ

لآل يعقوبَ من حزنٍ ومن كربِ

أنّى يضاهي ابنَ طه أو يُماثله

في الحزن يعقوبُ في نسلٍ وفي عقبِ

المجلس الرّابع بعد المئة

كان هاشم بن عبد مُناف جدّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) جواداً كريماً عظيماً في قومه ، وأسمه عمرو , وإنّما سُمّي هاشماً ؛ لأنّه أول من هشم الثّريد وأطعمه النّاس , وفيه يقول الشّاعر :

يا أيّها الرّجلُ المحوّلُ رحلَهُ

هلاّ نزلت بآل عبد منافِ

١٩

هبلتك اُمّك لو نزلت بحيّهمْ

أمنوك من جوعٍ ومن أقرافِ

الخالطون غنيَّهم بفقيرهمْ

والقائلون هلُمّ للأضيافِ

عمرو العُلا هشم الثّريد لقومهِ

ورجالُ مكّة مسنتونَ عجاف!

بسطوا إليه الرّحلتين كليهما

عند الشّتاء ورحلة الأصيافِ

وكان قد تزوج سلمى بنت عمرو من بني النجّار من أهل المدينة , فلمّا حملت بعبد المطّلب , سافر هاشم تاجراً إلى غزّة من بلاد الشّام واستخلف عنه أخاه المطّلب , ومات هاشم في سفره ذلك ودُفن بغزّة , فولدت سلمى عبد المطّلب ، واسمه شيبةُ الحمد , وإنّما سُمّي عبد المطّلب ؛ لأنّ عمّه المطّلب لـمّا كبر أراد أخذه إلى مكّة , فامتنعت اُمّه وأخواله من تسليمه , فواعده مكاناً وأخذه خفية وأركبه خلفه , فكان إذا سُئل عنه يقول : هذا عبدي ، فسُمّي عبد المطّلب.

ولـمّا حضرت هاشماً الوفاة , قال لعبيده : سنّدوني وائتوني بدواة وقُرطاس. فأتوه بما طلب وجعل يكتب وأصابعه ترتعد , فقال : باسمك اللهمّ , هذا كتاب كتبه عبد ذليل جاءه أمر مولاه بالرّحيل.

أمّا بعد , فإنّي كتبت إليكم هذا الكتاب وروحي بالموت تجاذب ؛ لأنّه ما لأحد من الموت مهرب ، وإنّي قد انفذت إليكم أموالي فتقاسموها بينكم بالسويّة , ولا تنسوا البعيدة عنكم التي أخذت نوركم وحوت عزّكم سلمى ، واُوصيكم بولدي الذي منها. وقولوا لخلادة وصفية ورقية يبكين عليّ ويندبنّني ندب الثّاكلات ، ثمّ بلّغوا سلمى عنّي السّلام , والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته إلى يوم النّشور.

ثمّ لـمّا مات , جهّزوه ودفنوه في غزّة , وفيه يقول الشّاعر :

وهاشمٌ في فلاةٍ وسط بلقعةٍ

تسفي عليه الرّياح عند غزّات

ثمّ عزم عبيد هاشم وغُلمانه على الرّحيل بامواله , فلمّا أشرفوا على يثرب , بكوا بُكاء شديداً ونادوا : وا هاشماه ! وا عزّاه ! وخرج النّاس ، وخرجت سلمى وأبوها وعشيرتها , وإذا بخيل هاشم قد جزّوا نواصيها وشعورها ، وعبيد هاشم يبكون , فلمّا سمعت سلمى بموت هاشم ، مزّقت أثوابها ولطمت خدّها , وقالت : وا هاشماه ! مات

٢٠