المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٢

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 139

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 139
المشاهدات: 39438
تحميل: 3620


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 139 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39438 / تحميل: 3620
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 2

مؤلف:
العربية

المجلس الواحد والثّلاثون بعد المئة

قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : إنّ عثمان لـمّا أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال ، واختصّ زيد بن ثابت بشيء منها , جعل أبو ذر يقول بين النّاس وفي الطّرقات والشّوارع : بشّر الكافرين بعذاب أليم. ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى :( وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (١) . فرُفع ذلك إلى عثمان مراراً وهو ساكت , ثُمّ إنّه أرسل إليه : أنْ انتهِ عمّا بلغني عنك. فقال أبو ذر : أينهاني عن قراءة كتاب الله تعالى وعيب مَن ترك أمر الله ؟! فوالله ، لإنْ اُرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أنْ أسخط الله برضى عثمان. فاغضب عثمان ذلك , فتصابر إلى أنْ قال عثمان يوماً والنّاس حوله : أيجوز للامام أنْ يأخذ من المال شيئاً قرضاً , فاذا أيسر قضى ؟ فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك. فقال أبو ذر : يابن اليهوديين ، أتعلّمنا ديننا ؟! فقال عثمان : قد كثر أذاك لي وتولّعك بأصحابي , الحقْ بالشّام. فأخرجه إليها.

وكان معاوية يومئذٍ بالشّام والياً عليها من قِبل عثمان , فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها , فبعث إليه معاوية يوماً ثلاثمئة دينار , فقال أبو ذر لرسوله : إنْ كانت من عطائي الذي حرمتمونيه من عامي هذا ، أقبلها ، وإنْ كانت صلة , لا حاجة لي فيها وردّها عليه.

ثُمّ بنى معاوية الخضراء بدمشق , فقال أبو ذر : يا معاوية , إنْ كانت هذه من مال الله فهي الخيانة ، وإنْ كانت من مالك فهي الإسراف.

وكان أبو ذر يقول بالشّام : والله , لقد حدثت أعمال ما أعرفها. والله , ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). والله , إنّي لأرى حقّاً يُطفأ ، وباطلاً يحيا ، وصادقاً مكذَّباً , واثرة بغير تقىً ، وصالحاً مستأثَراً عليه.

وروي عن ابن جندل الغفاري قال : جئت يوماً إلى معاوية فسمعت صارخاً على باب داره يقول : أتتكم القطار بحمل النّار. اللهمّ , إلعن الآمرين بالمعروف التاركين

____________________

(١) سورة التوبة / ٣٤.

٨١

له. اللهمّ , إلعن النّاهضين عن المنكر المرتكبين له. فازبأرّ معاوية وتغيّر لونه , وقال لي : أتعرف الصّارخ ؟ فقلت : لا. قال : من عذيري من جندب بن جنادة , يأتينا كلّ يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت. ثُمّ قال : ادخلوه عليّ. فجيء بأبي ذر بين قوم يقودونه حتّى وقف بين يديه , فقال له معاوية : يا عدو الله وعدو رسوله , تأتينا في كلّ يوم فتصنع ما تصنع ! أما إنّي لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمّد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك , ولكنّي أستأذن فيك. فقال أبو ذر : ما أنا بعدو لله ولا لرسوله , بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله ؛ أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر , ولقد لعنك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ودعا عليك مرّات أنْ لا تشبع.

فأمر معاوية بحبسه وكتب إلى عثمان فيه , فكتب عثمان إلى معاوية : احمل جندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره. فوجّه به مع مَن سار به الليل والنّهار ، وحمله على شارف - أي ناقة صغيرة صعبة ليس عليها إلّا قتب - حتّى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد. ولـمّا اُدخل أبو ذر على عثمان , قال له : أنت الذي فعلت وفعلت ؟ فقال أبو ذر : نصحتك فاستغششتني , ونصحت صاحبك فاستغشّني. قال عثمان : كذبت , ولكنّك تريد الفتنة وتحبّها. قال أبو ذر : والله , ما وجدت لي عذراً إلّا الأمر بالمعروف والنّهي عن الـمُنكر. فغضب عثمان وقال : أشيروا عليّ في هذا الشّيخ الكذّاب , إمّا أنْ أضربه أو أحبسه أو أقتله أو أنفيه من أرض الإسلام ؟ فتكلّم علي (عليه‌السلام ) ، وكان حاضراً، فقال : (( أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون :( وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّاب ) (١) )). فغضب عثمان.

قال : ومنع عثمان النّاس أنْ يُجالسوا أبا ذر ويكلّموه , فمكث كذلك أياماً , ثُمّ اُتي به فوقف بين يديه , فقال عثمان : اخرج عنّا من بلادنا. فقال أبو ذر : ما أبغض إليّ جوارك , فإلى أين أخرج ؟ قال : إلى البادية. قال : أصير بعد الهجرة إعرابياً ؟! قال أبو ذر : فأخرج إلى بادية نجد. قال عثمان : بل إلى الشّرق الأبعد ، أقصى فأقصى , امضِ على وجهك هذا , فلا تعدون الرّبذة. فخرج إليها.

فلمّا حضرته الوفاة , قال لامرأته أو ابنته : إذبحي شاة من غنمك واصنعيها , فإذا نضجت فاقعدي على قارعة الطّريق ، فأوّل ركب ترينهم

____________________

(١) سورة غافر / ٢٨.

٨٢

قولي : يا عباد الله الصالحين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد قضى نحبه ولقي ربّه ، فأعينوني فأجنوه(١) .

قال محمّد بن علقمة : خرجت في رهط اُريد الحجّ منهم مالك بن الحارث الأشتر حتّى قدمنا الرّبذة ، فإذا امرأة على قارعة الطّريق , تقول : عباد الله الـمُسلمين ! هذا أبو ذر صاحب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد هلك غريباً ، وليس لي أحد يعينني عليه. قال : فنظر بعضنا إلى بعض , فحمدنا الله على ما ساق إلينا واسترجعنا لعظيم المصيبة , ثُمّ أقبلنا معها فجهّزناه وتنافسنا في كفنه حتّى اُخرج من بيننا بالسّواء , ثُمّ تعاونّا على غسله حتّى فرغنا منه , ثُمّ قدمنا مالك الأشتر فصلّى بنا عليه , ثُمّ دفنّاه. فقام الأشتر على قبره , ثُمّ قال : اللهمّ , إنّ هذا أبو ذر صاحب رسولك , عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين , لم يُغيّر ولم يُبدّل ، لكنّه رأى مُنكراً فغيّره بلسانه وقلبه حتّى جفي ونفي ، وحرم واحتقر , ثُمّ مات وحيداً غريباً. اللهمّ , فاقصم مَن حرمه ونفاه من مهاجره وحرم رسولك.

قال : فرفعنا أيدينا جميعاً وقلنا آمين. ثم قدّمت الشّاة التّي صنعت , فقالت : أيها الصّالحون ، قد اقسم عليكم أنْ لا تبرحوا حتّى تتغدّوا ، فتغدّينا وارتحلنا.

أفما كان يوجد يوم عاشوراء مَن يقف على قارعة طريق كربلاء , لـمّا بقي الحسين (عليه‌السلام ) ثلاثة أيام بلا دفن فيُنادي: أيّها المسلمون , هذا إمامكم وابن بنت نبيّكم الحسين , قد قُتل غريباً ، وتُرك على وجه الصّعيد عرياناً سليباً , لم يصلَّ عليه ، ولم يُدفن فهلمّوا إلى مواراته ودفنه ؟!

لقد تعس اُولئك المسلمون وخسروا وخابوا وما ظفروا , خذلوا ابن بنت نبيّهم وقتلوه ، وأطاعوا ابن مرجانة ونصروه.

لله ملقىً على الرّمضاء غصَّ بهِ

فمُ الرّدى بعد إقدامٍ وتشميرِ

تحنو عليه الرّبى ظلاً وتسترهُ

عن النّواظر أذيالُ الأعاصيرِ

تهابه الوحشُ أنْ تدنو لمصرعهِ

وقد أقام ثلاثاً غير مقبورِ

____________________

(١) أي واروه في التّراب.

٨٣

المجلس الثّاني والثّلاثون بعد المئة

روى ابن أبي الحديد عن ابن عباس قال : لـمّا اُخرج أبو ذر إلى الرّبذة , أمر عثمان فنودي في النّاس أنْ لا يُكلِّم أحد أبا ذر ولا يشيّعه , وأمر مروان بن الحكم أنْ يخرج به ، فخرج به وتحاماه النّاس : أي اجتنبوه. إلّا عليّاً (عليه‌السلام ) وعقيلاً أخا علي ، وحسناً وحسيناً (عليه‌السلام ) وعمّاراً , فإنّهم خرجوا معه يشيّعونه , فجعل الحسن (عليه‌السلام ) يُكلّم أبا ذر , فقال له مروان بن الحكم : ايهاً يا حسن ، ألا تعلم إنّ أمير المؤمنين عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل ؟ فإنْ كُنت لا تعلم فاعلم ذلك. فحمل علي (عليه‌السلام ) على مروان ، فضرب بالسّوط بين اذني راحلته , وقال : (( تنحَّ لحاك الله إلى النّار )).

فرجع مروان مُغضباً إلى عثمان فاخبره الخبر ، فتلظّى على علي (عليه‌السلام ). ووقف أبو ذر فودّعه القوم ، ومعه ذكوان مولى اُمّ هاني بنت أبي طالب , قال ذكوان : فَحفِظتُ كلام القوم - وكان حافظاً - فقال علي (عليه‌السلام ) : (( يا أبا ذر ، إنّك غضبت لله فارجُ مَن غضبت له. إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك , فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب بما خفتهم عليه , فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عمّا منعوك , وستعلم مَن الرّابح غداً والأكثر حسداً. ولو أنّ السّماوات والأرض كانتا على عبد رتقاً ثُمّ اتقى الله ، لجعل الله له منها مخرجاً. لا يؤنسنك إلّا الحقّ ولا يوحشنّك إلّا الباطل. فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضت منها لأمنوك )).

ثُمّ قال لأصحابه : (( ودّعوا عمّكم )). وقال لعقيل : (( ودّع أخاك )). فتكلم عقيل , فقال : ما عسى أنْ نقول يا أبا ذر , وأنت تعلم إنّا نحبك وأنت تحبنا , فاتّقِ فإنّ التقوى نجاة ، واصبر فإنّ الصّبر كرم. واعلم إنّ استثقالك الصّبر من الجزع ، واستبطاءك العافية من اليأس , فدع اليأس والجزع.

ثُمّ تكلم الحسن (عليه‌السلام ) فقال : (( يا عمّاه , لولا أنّه لا ينبغي للمودّع أنْ يسكت , وللمشيّع إلّا أنْ ينصرف , لقصُر الكلام وإنْ طال الأسف. وقد أتى القوم إليك ما ترى ، فضع

٨٤

عنك الدّنيا بتذكّر فراغها ، وشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها , واصبر حتّى تلقى نبيك (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وهو عنك راضٍ )).

ثُمّ تكلم الحسين (عليه‌السلام ) , فقال : (( يا عمّاه , إنّ الله تعالى قادر أنْ يُغيّر ما قد ترى , والله كلّ يوم هو في شأن , وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك , فما أغناك عمّا منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم , فاسأل الله الصّبر والنّصر ، واستعذ به من الجشع والجزع , فإنّ الصّبر من الدّين والكرم , وإنّ الجشع لا يُقدّم رزقاً ، والجزع لا يؤخّر أجلاً )).

ثُمّ تكلم عمّار رحمه الله مُغضباً , فقال : لا آنس الله مَن أوحشك ، ولا آمن مَن أخافك. أما والله , لو أردّت دنياهم لأمّنوك ، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك ، وما منع النّاس أنْ يقولوا بقولك إلّا الرّضا بالدّنيا والجزع من الموت , ومالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه ، والملك لـمَن غلب , فوهبوا لهم دينهم ومنحهم القوم دنياهم , فخسروا الدّنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخُسران المبين.

فبكى أبو ذر رحمه الله وكان شيخاً كبيراً , وقال : رحمكم الله يا أهل بيت الرّحمة , إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , مالي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم. إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشّام , فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله. والله , ما اُريد إلاّ الله صاحباً وما أخشى مع الله وحشة.

ولـمّا نُفي أبو ذر إلى الرّبذة حضره الموت , قيل له : يا ابا ذر ، ما مالك ؟ قال : عملي. قالوا : إنّما نسألك عن الذّهب والفضة. قال : ما أصبح فلا اُمسى وما اُمسى فلا أصبح ، لنا كندوج فيه حرّ متاعنا. سمعت خليلي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول : (( كندوج المرء قبره )) : والكندوج ، شبه المخزن.

وقيل : كانت لأبي ذر غُنيمات يعيش بها فأصابها داء فماتت , فأصاب أبا ذر وابنته الجوع وماتت أهله , قالت ابنته : أصابنا الجوع وبقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئاً , فقال لي أبي : يا بنية ، قومي بنا إلى الرّمل نطلب القتّ : وهو نبت له حب. فصرنا إلى الرّمل فلم نجد شيئاً , فجمع أبي رملاً ووضع رأسه عليه ، ورأيت عينيه قد انقلبتا , فبكيت وقلت له : يا ابتِ , كيف أصنع بك وأنا وحيدة.

وفي رواية , أنّ التّي كانت معه هي زوجته فبكت , فقال لها : وما يبكيك ؟ فقالت : ومالي لا أبكي ، وأنت تموت بفلاة من الأرض وليس عندي ثوب

٨٥

يسعك كفناً ! فقال لها : لا تخافي ، فإنّي إذا متّ جاءك من أهل العراق مَن يكفيك أمري , فإذا أنا متّ فمدّي الكساء على وجهي , ثُمّ اقعدي على طريق العراق , فإذا أقبل ركب فقومي إليهم وقولي : هذا أبو ذر صاحب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد توفّي.

قالت ابنته : فلمّا مات مددت الكساء على وجهه , ثُمّ قعدت على طريق العراق ، فجاء نفر فيهم مالك الأشتر , فقلت لهم : يا معشر المسلمين , هذا أبو ذر صاحب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد توفّي. فنزلوا ومشوا يبكون فجاؤوا فغسّلوه , وكفّنه الأشتر في حلّة قيمتها أربعة آلاف درهم , وصلّوا عليه ودفنوه.

أقول : لِمَ لا وقفت سُكينة يوم العاشر من الـمُحرّم على قارعة طريق كربلاء حين بقي الحسين (عليه‌السلام ) ثلاثة أيام بلا دفن , ونادت : يا معشر المسلمين , هذا إمامكم وابن بنت نبيكم الحسين سيّد شباب أهل الجنّة , قد قُتل غريباً وتُرك على وجه الأرض عرياناً سليباً لم يُصلَّ عليه ولم يُدفن , فهلمّوا إلى مواراته ودفنه ؟!

بلى , لـمّا طعنه صالح بن وهب على خاصرته فسقط إلى الأرض على خدّه الأيمن , خرجت اُخته زينب بدل سُكينة، ونادت : وا أخاه ! وا سيّداه ! وا أهل بيتاه ! ليت السّماء اطبقت على الأرض , وليت الجبال تدكدكت على السّهل.

ثُمّ قالت لعمر بن سعد : أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟! فدمعت عيناه حتّى سالت دموعه على خدّيه ولحيته المشومة , وصرف وجهه عنها ولم يجبها بشيء , فنادت : ويلكم ! أما فيكم مسلم ؟! فلم يجبها أحد.

لقد تعس اُولئك المسلمون وما ينفعهم إسلامهم , وقد فعلوا بذرّيّة نبيِّهم ما فعلوا !

لم أنسَ زينب وهي تدعو بينهمْ

يا قومُ ما في جمعكم من مسلمِ

إنّا بنات الـمُصطفى ووصيِّهِ

ومخدّراتِ بني الحطيم وزمزمِ

* * *

٨٦

المجلس الثّالث والثّلاثون بعد المئة

ذكر المفيد عليه الرّحمة في إرشاده , من جملة غزوات أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام ) غزاة ذات السّلاسل.

قال : وإنّما سُمّيت بذلك ؛ لأنّه اُتي بالأسرى مُكتّفين بالحبال كأنّهم في السّلاسل , وكان السّبب في هذه الغزاة : إنّ إعرابياً أتى إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فقال : يا رسول الله , إنّ جماعة من العرب اجتمعوا بوادي الرّمل على أنْ يبيّتوك في المدينة.

فأمر بالصّلاة جماعة فاجتمعوا وعرّفهم ذلك , وقال : (( مَن لهم ؟ )). فابتدرت جماعة من أهل الصّفة(١) وغيرهم ، وعدّتهم ثمانون رجلاً , وقالوا : نحن , فولِّ علينا مَن شئت.

فاستدعى رجلاً من المهاجرين , وقال له : (( امضِ )). فمضى فاتبعهم القوم فهزموهم وقتلوا جماعة كثيرة من المسلمين , وانهزم ذلك الرّجل وجاء إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فبعث آخر من الـمُهاجرين فهزموه , فساء ذلك النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فقال عمرو بن العاص : ابعثني يا رسول الله , فإنّ الحرب خدعة ولعلّي أخدعهم. فانفذه مع جماعة ، فلمّا صاروا إلى الوادي , خرجوا إليه فهزموه وقتلوا من أصحابه جماعة.

ثُمّ دعا أميرَ المؤمنين (عليه‌السلام ) وبعثه , وقال : (( أرسلته كرّاراً غير فرّار )). ودعا له وخرج معه مشيّعاً إلى مسجد الأحزاب , وعلي (عليه‌السلام ) على فرس أشقر عليه بُردان يمانيان وفي يده قناة خطيّة , فانفذ معه جماعة منهم المرسلان أولاً وعمرو بن العاص , فسار بهم نحو العراق متنكّباً للطريق حتّى ظنّوا أنّه يُريد غير ذلك الوجه , ثُمّ أخذ بهم على طريق غامضة واستقبل الوادي من فمه , وكان يسير الليل ويكمن النّهار , فلمّا قرب من الوادي , أمر أصحابه

____________________

(١) الصّفة : سقيفة في مسجد النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كانت مسكن الغُرباء والفُقراء. وأهل الصّفة من المُهاجرين لم يكن لهم منازل ولا أموال فكانوا يسكنونها.

٨٧

أنْ يخفوا أصواتهم , وأوقفهم في مكان وتقدّم أمامهم ناحية , فلمّا رأى عمرو بن العاص فعله , لم يشكّ في كون الفتح له , فقال للمرسل أولاً : إنّ هذه أرض ذات سباع ، كثيرة الحجارة , وهي أشدّ علينا من بني سليم ، والمصلحة أنْ نعلو الوادي ، وأراد فساد الحال على أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , فأمره أنْ يقول ذلك لأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) فقال له ذلك , فلم يجبه أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) بحرف , فرجع إلى عمرو وقال : لم يجبني.

فقال عمرو بن العاص للمرسل ثانياً : امضِ أنت فخاطبه بذلك. ففعل فلم يجبه أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) بشيء , فقال عمرو : أنضيّع أنفسنا ؟ إنطلقوا بنا نعلو الوادي. فقال المسلمون : إنّ النّبي أمرنا أنْ نُطيع عليّاً ولا نخالفه , فكيف تُريد منّا أنْ نُخالفه ؟! وما زالوا حتّى طلع الفجر فكبس المسلمون القوم وهم غافلون فامكنهم الله منهم , ونزلت على النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) سورة( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً... ) قسماً بخيل أمير المؤمنين (عليه‌السلام ).

وعرف النّبي الحال ففرح وبشرّ أصحابه بالفتح وأمرهم بالاستقبال لأمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , فخرجوا والنّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يتقدّمهم , فلمّا رأى أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) النبيَّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ترجّل عن فرسه فوقف بين يديه , فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( لولا أنّي أشفق أنْ تقول فيك طوائف من اُمتّي ما قالت النصارى في المسيح , لقلتُ فيك اليوم مقالاً لا تمرّ بملأ إلّا أخذوا التُراب من تحت قدميك , فإنّ الله ورسوله راضيان عنك )).

فياليت أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) كان حاضراً يوم عاشوراء , وقد أحاطت الأعداء بولده الحسين (عليه‌السلام ) وأهل بيته من كلّ جانب ومكان , وهو بينهم وحيد فريد لا ناصر له ولا معين , يستغيث فلا يُغاث إلّا بضرب السّيوف وطعن الرّماح ورشق السّهام , وهو يطلب جرعة من الماء فلا يجد إلى ذلك سبيلاً.

أبا حسنٍ أبناؤك اليوم حلّقتْ

بقادمةِ الأسياف عن خطّة الخسفِ

سلْ الطّفَّ عنهم أين بالأمس طنّبوا

وأين استقلّوا اليومَ عن عرصة الطّفِّ

* * *

٨٨

المجلس الرّابع والثّلاثون بعد المئة

قال الله تعالى في سورة آل عمران :( إِنّ مَثَلَ عِيسَى‏ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقّ مِن رَبّكَ فَلاَ تَكُن مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١) . نزلت في وفد نجران ، ونجران : بلد بنواحي اليمن كان أهله نصارى ، فارسلوا وفداً منهم إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فلمّا وفدوا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وحضر وقت صلاتهم , أقبلوا يضربون بالنّاقوس وصلّوا إلى المشرق , فقال أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : يا رسول الله , هذا في مسجدك ! فقال : (( دعوهم )). فلمّا فرغوا قالوا : يا محمّد ، إلى ما تدعو ؟ قال : (( إلى شهادة أنْ لا إله إلّا الله , وأنّي رسول الله , وأنّ عيسى عبدٌ مخلوق )). فقالوا : هل رأيت ولداً من غير ذكر ؟ فنزلت هذه الآيات , فردّ الله عليهم قولهم في المسيح أنّه ابن الله , فقال : إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم في خلقه إيّاه من غير أب ولا اُمّ. فقرأها عليهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ودعاهم إلى الـمُباهلة فاستنظروه إلى صبيحة غد , فقال لهم الأسقف : انظروا محمّداً في غد , فإنْ جاء بولده وأهله فاحذروا مباهلته , وإنْ غدا باصحابه فباهلوه ؛ فإنّه على غير شيء.

فلمّا كان الغد - وهو الرّابع والعشرون من ذي الحجّة - جاء النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) آخذاً بيد علي بن أبي طالب ، والحسن والحسين بين يديه ، وفاطمة خلفه. وخرج النّصارى يقدمهم أسقفهم ولم يباهلوه , وصالحوه على ألفَي حلّة وعلى أنْ يضيّفوا رسله , وعلى عارية ثلاثين درعاً وثلاثين رمحاً وثلاثين فرساً عند الحرب , وأنْ لا يأكلوا الرّبا. ثُمّ إنّ السيّد والعاقب رجعا فاسلما.

والـمُراد بـ( أَبْنَاءَنَا ) في هذه الآية : الحسن والحسين (عليهما‌السلام ) ، وبـ( نِسَاءَنَا ) : فاطمة (عليها‌السلام ) ، وبـ( أَنْفُسَنَا ) : علي (عليه‌السلام ). ولا يجوز أنْ يُراد بـ( أَنْفُسَنَا )

____________________

(١) سورة آل عمران / ٥٩ - ٦١.

٨٩

النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؛ لأنّه هو الدّاعي ولا يجوز أنْ يدعو الإنسان نفسه بل يدعو غيره , فيدلّ على أنّ عليّاً (عليه‌السلام ) أفضل النّاس بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؛ حيث جعله نفس الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

وصحّ عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) - كما في البحار - أنّه سُئل عن بعض أصحابه , فقال له قائل : فعليّ ؟ قال : (( إنّما سألتني عن النّاس ولم تسألني عن نفسي )).

وروى مسلم في صحيحه عن عائشة : إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) خرج غداة وعليه مِرط(١) مُرجل(٢) من شعر أسود , فجاء الحسن بن علي (عليه‌السلام ) فأدخله ، ثُمّ جاء الحسين (عليه‌السلام ) فدخل معه , ثُمّ جاءت فاطمة (عليها‌السلام ) فأدخلها ، ثُمّ جاء علي (عليه‌السلام ) فأدخله , ثُمّ قال :( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣) . ورواه الزّمخشري وغيره.

أعلمت يا رسول الله ما جرى على هذه الوجوه التّي أردت المباهلة بها ، والتّي لو دعت الله على جبل لأزاله ؟! أمّا أخوك ونفسك علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) , فقد ضربوه - وهو في محرابه يُصلّي - بسيف مسموم فلق هامته إلى محل سجوده حتّى قضى شهيداً ؛ وأمّا ابنتك الزّهراء (عليها‌السلام ) فما برحت بعدك مُعصبة الرأس ناحلة الجسم باكية حزينة حتّى اُلحقت بربّها ودُفنت سرّاً لم يشهد أحد جنازتها ؛ وأمّا ولدك الحسن (عليه‌السلام ) فقد قضى شهيداً بالسمِّ , ومُنع من دفنه عندك وإلى جانبك ؛ وأمّا ولدك الحسين (عليه‌السلام ) فقد قضى شهيداً بالسّيف غريباً عطشان وحيداً فريداً , يستجير فلا يُجار ، ويستغيث فلا يُغاث , وقُتلت أطفاله وسُبيت عياله , وداروا برأسه في البُلدان من فوق عالي السّنان.

جاشت على آله ما ارتاح واحدُهمْ

من قهر أعداه حتّى مات مقهورا

قضى أخوه خضيبَ الرّأس وابنتُهُ

غضبى وسبطاه مسموماً ومنحورا

* * *

____________________

(١) المرط بالكسر : كساء من صوف , أو خز.

(٢) فيه ألوان تخالف لونه.

(٣) سورة الأحزاب / ٣٣.

٩٠

المجلس الخامس والثّلاثون بعد المئة

لـمّا كانت حَجّة الوداع - وهي آخر حجّة حجّها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) - كان معه سبعون ألفاً ، وقيل : تسعون ألفاً، وقيل : مئة ألف ، وقيل أكثر.

ولعلّ الذين خرجوا معه من المدينة وأطرافها كانوا سبعين ألفاً , وبلغوا مع الذي انضمّوا إليه في الطّريق تسعين ألفاً , وبلغوا في عرفات مع أهل مكّة وأطرافها ومَن جاؤوا مع علي (عليه‌السلام ) من اليمن مئة ألف أو أزيد.

وخطبهم خطبة طويلة وعرّفهم مناسكهم وأحكام دينهم , وكان قد أرسل عليّاً (عليه‌السلام ) إلى اليمن ليُخمّس أموالها ويقبض ما صالح عليه أهل نجران من الحلل وغيرها , وأنْ يوافيه إلى الحجّ.

فأحرم النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وعقد إحرامه بسياق الهدي , وأحرم علي (عليه‌السلام ) كاحرام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وساق الهدي , ولم يكُن يعلم كيف أحرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). وكان الذين خرجوا مع النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) منهم مَن ساق الهدي ومنهم لم يسق , فأنزل الله تعالى :( وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ ) (١) .

فأمر النّبي(صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مَن لم يسق الهدي أنْ يحلّ إحرامه ويجعلها عُمرة , ومَن ساق الهدي أنْ يبقى على إحرامه , وكان عليّ ممّن ساق الهدي فبقي على إحرامه. أمّا الذين لم يسوقوا الهدي فمنهم مَن أطاع ومنهم مَن خالف , وقالوا : رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أغبر أشعث ونحن نلبس الثّياب ونقرب النّساء وندهن ! فأنكر عليهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فرجع قوم وأصرّ قوم.

ولـمّا رجع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من حجّة الوداع ووصل إلى محل يُقال له غدير خُم , أنزل الله تعالى عليه :( يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ ) : يعني في علي( وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (٢) . وكان ذلك يوم الثّامن عشر من ذي الحجّة ، وكان يوماً شديد الحرِّ , فأمر (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بدوحات هُناك ، والدّوحة : الشّجرة العظيمة. فكُنس ما تحتها ووضعت له الأحمال بعضها فوق بعض شبه المنبر , وأمر مُناديه فنادى الصّلاة جامعة فاجتمع النّاس , فصعد على تلك الأحمال

____________________

(١) سورة البقرة / ١٩٦.

(٢) سورة المائدة / ٦٧.

٩١

وأصعد عليّاً (عليه‌السلام ) معه , ثُمّ خطب النّاس ووعظهم ونعى إليهم نفسه , وقال : (( إنّي مُخلّف فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلّوا من بعدي ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي , فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض )).

ثُمّ نادى (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بأعلى صوته : (( ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ )). قالوا : اللهمّ بلى. فقال - وقد أخذ بعضدي علي (عليه‌السلام ) فرفعهما حتّى بان بياض أبطيهما - : (( فمَن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهمّ وال مَن والاه وعادِ مَن عاداه ، وانصر مَن نصره واخذل مَن خذله )).

ثُمّ نزل فصلّى ركعتين ، ثُمّ زالت الشّمس فصلّى بهم الظّهر وجلس في خيمته , وأمر عليّاً (عليه‌السلام ) أنْ يجلس في خيمة له بازائه , ثُمّ أمر الـمُسلمين أنْ يدخلوا عليه فيهنئوه ويسلّموا عليه بامرة المؤمنين , ثُمّ أمر أزواجه ونساء المسلمين بذلك.

وقال له بعض الصّحابة : بخ بخ لك يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وانزل الله تعالى عليه في ذلك المكان :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (١) . وجاء حسان بن ثابت - شاعر النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) - فاستأذنه أنْ يقول في ذلك شعراً فأذن له , فوقف على مكان مرتفع , وقال :

يُناديهمُ يومَ الغدير نبيُّهمْ

بخمٍّ وأسمعْ بالنّبيِّ مُناديا

فقال فمَن مولاكمُ ووليُّكمْ

فقالوا ولمْ يُبدوا هناك التعاميا

إلهُك مولانا وأنت وليُّنا

ولنْ تجدنْ منّا لك اليوم عاصيا

فقال له قُمْ يا عليُّ فإنّني

رضيتُك من بعدي إماماً وهاديا

فمَن كنت مولاه فهذا وليُّهُ

فكونوا له أتباعَ صدقٍ مواليا

هُناك دعا اللهمَّ والِ وليَّهُ

وكُنْ للذي عادى عليّاً مُعاديا

فهل درى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بما جرى على وصيّه وابن عمّه من بعده حتّى آل الأمر إلى أنْ تجرّأ عليه أشقى الأشقياء عبد الرّحمن بن ملجم الـمُرادي , وضربه على رأسه في مُحرابه , ضربة فلق بها هامته إلى موضع سجوده , ضربة هدّمت أركان الدّين وفتّت في عضد الـمُسلمين , وقرّحت قلوب المؤمنين ، وفرّحت قلوب الـمُنافقين ؟!

____________________

(١) سورة المائدة / ٣.

٩٢

يا لَقومٍ إذْ يقتلون عليّاً

وهو للمَحل بينهمُ قتّالُ

ويُسرّون بغضَهُ وهو لا تُقـ

ـبلُ إلّا بحبّه الأعمالُ

ولسبطينِ تابعيه فمسمو

مٌ عليه ثرى البقيعِ يُهالُ

وشهيدٍ بالطّفِّ أبكى السّماوا

تِ وكادت له تزول الجبالُ

يا غليلي له وقد حُرّمَ الما

ءُ عليه وهو الشّراب الحلالُ

قُطعتْ وُصلة النّبيِّ بأنْ تُقـ

ـطعَ من آل بيته الأوصالُ

لم تُنجِّ الكهولَ سنٌّ ولا الشّبـ

ـانَ زهدٌ ولا نجا الأطفال

لهف نفسي يا آلَ طه عليكمْ

لهفةً كسبها جوى وخبالُ

المجلس السّادس والثّلاثون بعد المئة

أتت أسماء بنت يزيد الأنصارية إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وهو بين أصحابه , فقالت : بأبي واُمّي أنت يا رسول الله ! أنا وافدة النّساء إليك , إنّ الله عزّ وجل بعثك إلى الرّجال والنّساء كافّة فآمنّا بك وبالهك ، وإنّا معشر النّساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم وحاملات أولادكم , وأنّكم معاشر الرّجال فُضّلتم علينا بالجمع والجماعات , وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحجّ بعد الحجّ , وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عزّ وجل , وأنّ أحدكم إذا خرج حاجّاً أو مُعتمراً أو مُجاهداً , حفظنا لكم أموالكم وغزلنا أثوابكم وربّينا أولادكم , أفما نشارككم في هذا الأجر والخير ؟

فالتفت النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى أصحابه بوجهه كلّه , ثُمّ قال : (( هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن من مسألتها هذه في أمر دينها ؟ )). فقالوا : يا رسول الله , أيّ امرأة تهتدي إلى مثل هذا ؟! فالتفت

٩٣

إليها النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وقال : (( إفهمي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النّساء , إنّ حُسن تبعّل المرأة لزوجها وطلبها مرضاته واتّباعها امره , يعدل ذلك كُلّه )).

فانصرفت وهي تهلل حتّى وصلت إلى نساء قومها من العرب , وعرضت عليهنّ ما قاله رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ففرحن وآمنّ جميعهن ، وسُمّيت رسول نساء العرب إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).

والنّساء فيهنّ كثير من العاقلات الكاملات اللواتي سبقن الرّجال بكمالهنّ وعقلهنّ وحسن أفعالهنّ , فمنهن اُمّ وهب بن حباب الكلبي , وكان من أصحاب الحسين (عليه‌السلام ) وكانت معه اُمّه وزوجته , فقالت اُمّه : قُم يا بُني فانصر ابن بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). فقال : أفعل يا اُمّاه ولا اُقصّر. ثُمّ حمل ولم يزل يُقاتل حتّى قتل جماعة , ثُمّ رجع وقال : يا اُمّاه أرضيتِ ؟ فقالت : ما رضيت حتّى تُقتل بين يدي الحسين (عليه‌السلام ). فقالت امرأته : بالله عليك ، لا تفجعني بنفسك. فقالت له اُمّه : يا بُني ، اعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة.

فرجع فلم يزل يُقاتل حتّى قُطعت يداه ، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه , وهي تقول : فداك أبي واُمّي ! قاتل دون الطّيبين ، حرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ). فاقبل كي يردّها إلى النّساء , فاخذت بجانب ثوبه وقالت : لن أعود دون أنْ أموت معك. فقال الحسين (عليه‌السلام ) : (( جُزيتم من أهل بيتٍ خيراً , ارجعي إلى النّساء رحمك الله )). فانصرفت إليهنّ , ولم يزل الكلبي يُقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه.

فهبّوا إلى حربٍ تقاعَس اُسدُها

تخالس طرفاً للوغى غيرَ ناعسِ

فخاضوا لظاها مُستميتينَ لا ترى

عيونُهمُ الفرسان غيرَ فرائسِ

ضراغمُ غيلٍ لم تهبْ رشقَ راجلٍ

بنبلٍ ولا ترتاع من طعن فارسِ

* * *

٩٤

المجلس السّابع والثّلاثون بعد المئة

في شرح رسالة ابن زيدون وغيرها , قال : حُكي عن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) أنّه قال يوماً : (( سُبحان الله ! ما أزهد كثيراً من النّاس في خير ! عجباً لرجل يجيئه أخوه الـمُسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً , فلو كان لا يرجو ثواباً ولا يخلف عقاباً لكان ينبغي له أنْ يُسارع إلى مكارم الأخلاق , فإنّها تدّل على سبيل النّجاح !)). فقام إليه رجل ، وقال : يا أمير المؤمنين , أسمعته من النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ؟ قال : (( نعم , لـمّا اُتي بسبايا طيء , وقفت جارية عيطاء لعساء فلمّا تكلمت , أنسيت جمالها بفصاحتها ، قالت : يا محمّد , إنْ رأيت أنْ تخلّي عنّي ولا تشمت بي أحياء العرب ؛ فإنّني ابنة سيّد قومي ، وإنّ أبي كان يفكّ العاني ، ويُشبع الجائع ويكسو العاري , ويحفظ الجار ويحمي الذّمار ، ويُفرّج عن المكروب , ويُطعم الطّعام ويُفشي السّلام ، ويعين على نوائب الدّهر , ولم يرد طالب حاجة قط. أنا ابنة حاتم الطّائي. وكان اسمها سفانة.

فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( يا جارية ، هذه صفة المؤمن حقّاً , ولو كان أبوك مسلماً لترحّمنا عليه. خلّوا عنها فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق )). وقال فيها : (( ارحموا عزيزاً ذلّ ، وغنياً افتقر ، وعالماً ضاع بين جُهّال )). فأطلقها ومَنّ عليها بقومها.

فاستأذنته في الدّعاء له , فأذن لها ، وقال لأصحابه : (( اسمعوا وعوا )). فقالت : أصاب الله ببرك مواقعه ولا جعل لك إلى لئيم حاجة , ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلّا وجعلك سبباً في ردّها عليه.

فلمّا أطلقها أتت أخاها عديّاً بدومة الجندل , فقالت : يا أخي ، ائت هذا الرّجل قبل أنْ تعلقك حبائله , فإنّي قد رأيت هدياً ورأياً وسيغلب أهل الغلبة. رأيت خصالاً تعجبني ؛ رأيته يحب الفقير ويفكّ الأسير ويرحم الصّغير ويعرف قدر الكبير , وما رأيت أجود ولا أكرم منه , وإنّي أرى أنْ تلحق به ؛ فإنْ يكُ نبيّاً فللسابق فضله ، وإنْ يكُ مَلكاً فلنْ تزال في عزّ اليمن.

فقدم عدي إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فأسلم ، وأسلمت اُخته سفانة )).

٩٥

لا عجب إذا صدر مثل هذا ممّن بُعث ليتمم مكارم الأخلاق , وقد قال الله تعالى في حقّه :( وَإِنّكَ لَعَلَى‏ خُلُقٍ عَظِيم ) (١) . ولكنّ العجب ممّن يدّعون الإسلام , وقد حملوا الهاشميات من بنات رسول الله وبنات علي وفاطمة اُسارى من بلد إلى بلد كأنّهنّ سبايا الترك أو الدّيلم , وقابلوهن من الجفاء والغلظة بما تقشعرّ منه الجلود وتنفطر له القلوب ! فمن ذلك لـمّا اُدخل نساء الحسين (عليه‌السلام ) وصبيانه على ابن زياد بالكوفة , وفي جملتهم زينب اُخت الحسين (عليه‌السلام ) , وهي مُتنكّرة وعليها أرذل ثيابها , فمضت حتّى جلست ناحية وحفّ بها إماؤها , فقال ابن زياد : مَن هذه ؟ فلم تجبه ، فأعاد القول ثانياً وثالثاً يسأل عنها. فقال له بعض إمائها : هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله. فأقبل عليها ابن زياد , فقال : الحمد لله الذي قتلكم وفضحكم وأكذب اُحدوثتكم. فقالت : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد , وطهّرنا من الرّجس تطهيراً ؛ إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا. فقال ابن زياد : كيف رأيت صنع الله بأخيك الحسين وأهل بيتك ؟ قالت : ما رأيت إلّا جميلاً , هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم , وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم ؛ فانظر لـمَن الفلج يومئذ ، ثكلتك اُمّك يابن مرجانة !

قال : فغضب ابن زياد وكأنّه همّ بضربها ، فقال عمرو بن حُريث : يا أمير , إنّها امرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها. فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعُصاة المردة من أهل بيتك. فرقّت زينب وبكت وقالت : لعمري يابن زياد ، لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت أصلي , فإنْ كان هذا شفاؤك , فقد اشتفيت.

فقال ابن زياد : هذه سجّاعة ، ولعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً.

تُصانُ بنتُ الدّعيّ في كِلل الملـ

ـكِ وبنتُ الرّسول تُبتذلُ

يُرجى رضى المصطفى فوا عجباً

تُقتل أولادُه ويحتملُ

____________________

(١) سورة القلم / ٤.

* * *

٩٦

المجلس الثّامن والثّلاثون بعد المئة

قال الله تعالى مُخاطباً لنبيه الكريم محمّد :( وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضّوا مِنْ حَوْلِك ) (١) . وقال تعالى :( وَإِنّكَ لَعَلَى‏ خُلُقٍ عَظِيم ) . وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( حُسن الخُلق نصف الدّين )). وقال : (( ما من شيء أثقل في الميزان من حُسن الخُلق )). وقال : (( عليكم بحسن الخُلق ؛ فإنّ حسن الخُلق في الجنّة لا محالة , وإيّاكم وسوء الخُلق ؛ فإنّ سوء الخُلق في النّار لا محالة )).

وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول : (( اللهمَّ , أحسنت خَلقي فاحسن خُلقي )). وقال : (( إنّكم لن تسعوا النّاس بأموالكم , فسعوهم بأخلاقكم )). وقال : (( أفضل النّاس إيماناً أحسنهم خُلقاً , وأصلح النّاس أنصحهم للنّاس , وخير النّاس من انتفع به النّاس )). وقال : (( إنّ جبرائيل ، الرّوح الأمين ، نزل عليّ من عند رب العالمين , فقال : يا محمّد ، عليك بحسن الخُلق , فإنّه ذهب بخير الدّنيا والآخرة )).

وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) جامعاً لمكارم الأخلاق مستكملاً فضائلها , كان دائم البشر سهل الخُلق ليّن الجانب , ليس بفظّ ولا غليظ ، ولا عيّاب ولا مدّاح , شديد الحياء والتواضع , يأكُل على الأرض ويجلس جِلسة العبد , ويخصف(٢) نعله بيده ويرقّع ثوبه بيده , ويركب الحمار العاري ويردف خلفه ، ويحلب شاته ويخدم أهله ، ويجيب دعوة المملوك ، ويُحب المساكين ويجلس معهم ويعود مرضاهم ويُشيّع جنائزهم ولا يُحقّر فقيراً ويقبل المعذرة.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال : كان رسول الله يجلس بين أصحابه كأنّه أحدهم , فيجيء الغريب فلا يدري أيّهم هو حتّى يسأل , فطلبنا إلى النّبي أنْ يجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه ،

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٥٩.

(٢) يخرز.

٩٧

فبنينا له دكّة(١) من طين , فكان يجلس عليها ونجلس بجانبيه.

عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله إذا فقد الرّجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه ، فإنْ كان غائباً دعا له ، وإنْ كان شاهداً زاره ، وإنْ كان مريضاً عاده.

روي : أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتّى يحمله معه , فإنْ أبى قال : (( تقدّم أمامي وأدركني في المكان الذي تُريد )).

عن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام ) قال : (( ما صافح النّبي أحد قط فنزع يده من يده حتّى يكون هو الذي ينزع يده , وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف حتّى يكون الرّجل هو الذي ينصرف , وما سُئل شيئاً قط فقال لا , وما ردّ سائلاً حاجة قط إلّا بها أو بميسور من القول , وما رؤي مُقدّماً رجله بين يدي جليس له قط )).

عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : غزا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إحدى وعشرين غزوة , شهدت منها تسع عشرة غزوة وغبت عن اثنتين , فبينا أنّا معه في بعض غزواته , إذ أعيا ناضحي(٢) تحت الليل فبرك , وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في اُخريات النّاس يزجي(٣) الضّعيف ويردفه ويدعو له , فانتهى إليّ وأنا أقول : يا لهف اُمّه ، ما زال النّاضح بسوء ! فقال : (( مَن هذا ؟ )). فقلت : أنا جابر ، بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ! قال : (( وما شأنك ؟ )). قلت : أعيا ناضحي. فقال : (( أمعك عصا ؟ )). قلت : نعم. فضربه ثُمّ بعثه ثُمّ أناخه ووطئ على ذراعه , وقال : (( اركب )). فركبت وسايرته فجعل جملي يسبقه , فاستغفر لي تلك الليلة خمساً وعشرين مرّة.

عن جرير بن عبد الله قال : لـمّا بُعث النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أتيته لاُبايعه ، فقال لي : (( يا جرير ، لأيّ شيءٍ جئت ؟ )). قُلت : لاُسلم على يديك يا رسول الله. فألقى لي كساءه ثُمّ أقبل على أصحابه , فقال : (( إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه)).

يا رسول الله , أيّ رجل أكرم من ولدك زين العابدين وسيّد السّاجدين (عليه‌السلام ) ؟! ولـمّا اُتي

____________________

(١) الدكة : ما يُقعد عليه. وهي التّي تُسمى مصطبة اليوم.

(٢) النّاضح : البعير يُستقى عليه.

(٣) يدفع : برفق ولين.

٩٨

به إلى يزيد بن معاوية , لم يكرمه بشيء ، إلّا أنّه قال له : يابن الحسين ، أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سُلطاني , فصنع الله به ما قد رأيت. فقال علي بن الحسين (عليه‌السلام ) :( مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبةٍ فِي الأرضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ الّا فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأَهَا إِنّ ذلِكَ عَلَى‏ اللّهِ يَسِيرٌ ) (١) .

ألا يابنَ هندٍ لا سقى الله تربةً

ثويت بمثواها ولا اخضرّ عودُها

المجلس التّاسع والثّلاثون بعد المئة

لـمّا كان يوم الجمل - وهي الحرب التّي وقعت بين علي (عليه‌السلام ) وبين عائشة وطلحة والزّبير بالبصرة ، وإنّما سمّيت حرب الجمل ؛ لأنّ عائشة ركبت على جمل اسمه عسكر في هودج وضعت عليه الدّروع , وكان جملها لواء أهل البصرة - كان مع علي (عليه‌السلام ) عشرون ألفاً , فيهم من الصّحابة - على بعض الرّوايات - ألف وخمسمئة , ومن البدريين ثمانون ، وممّن بايع تحت الشّجرة مئتان وخمسون. ومع عائشة ثلاثون ألفاً ، وقُتل من الفريقين عشرون ألفاً.

وزحف علي (عليه‌السلام ) بالنّاس ثُمّ أوقفهم من صلاة الغداة إلى صلاة الظّهر يدعوهم ويُناشدهم , ويقول لعائشة : (( إنّ الله أمركِ أنْ تقرّي في بيتك , فاتّقي الله وارجعي )). ويقول لطلحة والزّبير : (( خبأتما نساءكما وأبرزتما زوجة رسول الله ! )). فيقولا : إنّما جئنا نطلب بدمّ عثُمّان , وأنْ يُردّ الأمر شورى.

ودعا أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) الزّبير فخرج إليه , وعلي (عليه‌السلام ) حاسر والزّبير عليه السّلاح ، فقال له (عليه‌السلام ) : (( أما تذكر يوم رآك رسول الله وأنت تتبسّم إليّ ، فقال لك : أتحب عليّاً ؟. فقُلت له : كيف لا اُحبّه وبيني وبينه من النّسب والمودّة في الله ما ليس لغيره ! فقال : إنّك ستقاتله وأنت ظالم له. فقلتَ : أعوذ بالله من ذلك ؟ )). قال : اللهمّ نعم. قال (عليه‌السلام ) :

____________________

(١) سورة الحديد / ٢٢.

٩٩

(( أفجئت تُقاتلني ؟ )). قال : أعوذ بالله من ذلك. قال : (( دع هذا ، بايعتني طائعاً ثُمّ جئت محارباً , فما عدا مما بدا ؟ )). قال : لا جرم ، والله لا قاتلتك.

ثُمّ رجع ، فلقيه عبد الله ابنه , فقال : أجبناً يا أبتِ ؟! فقال : يا بُني ، قد علم النّاس أنّي لست بجبان , ولكن ذكّرني عليّ شيئاً سمعته من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، فحلفت أنْ لا اُقاتله. فقال : دونك غلامك مكحولاً , فأعتقه كفارة ليمينك. قالت عائشة : لا والله , بل خفت سيوف ابن أبي طالب ، أما إنّها طوال حداد ، تحملها سواعد فتية أنجاد , ولئن خفتها فلقد خافها الرّجال من قبلك.

فحمي الزّبير ونزع سنان رمحه وحمل على عسكر علي (عليه‌السلام ) , فقال علي (عليه‌السلام ) : (( دعوه , فإنّه محمول عليه فأفرجوا له )). فغاص فيهم حتّى دخل من جانب وخرج من آخر ثُمّ رجع , فقال لهم : أهذا فعل جبان ؟! فقالوا : قد اُعذرت. ثُمّ رجع إلى المدينة , فقتله ابن جرموز في الطّريق.

ونظرت عائشة إلى علي (عليه‌السلام ) يجول بين الصّفّين , فقالت : انظروا إليه , كأنّ فعله فعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يوم بدر ! والله , لا ينتظر بكم إلّا زوال الشّمس.

ثُمّ إنّ عليّاً (عليه‌السلام ) دعا بمصحف وقال : (( مَن يأخذه ويقرأ عليهم :( وإنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) (١) )). فقال مسلم المجاشعي : ها أنا ذا. فقال له : (( تُقطع يمينك وشمالك وتُقتل )). فقال : لا عليك يا أمير المؤمنين , فهذا قليل في ذات الله.

فأخذه ودعاهم إلى الله فقُطعت يده اليُمنى , فأخذه باليُسرى فقطعت , فأخذه باسنانه فقُتل , فقالت اُمّه :

يا ربِّ إنّ مسلماً أتاهمْ

بمحكمِ التّنزيل إذْ دعاهمْ

يتلو كتابَ الله لا يخشاهمْ

فرمّلوه رُمِّلتْ لحاهمْ

فقال (عليه‌السلام ) : (( الآن طاب الضّراب )).

ذكّرني اجتهاد مسلم المجاشعي في نصرة أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) حتّى قُطعت يداه وقُتل , اجتهاد وهب بن حباب الكلبي في نصرة ولده الحسين (عليه‌السلام ) حتّى قُطعت يداه وقُتل ، وكانت معه اُمّه وزوجته , فقالت اُمّه : قُم يا بُني وانصر ابن بنت رسول الله. فقال : أفعل يا اُمّاه ولا اُقصّر.

فبرز وهو يقول :

____________________

(١) سورة الحجرات / ٩.

١٠٠