المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء ٥

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة0%

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 767

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

مؤلف: السيد محسن بن عبد الكريم الأمين
تصنيف:

الصفحات: 767
المشاهدات: 85902
تحميل: 4241


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 767 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85902 / تحميل: 4241
الحجم الحجم الحجم
المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة

المجالسُ السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبويّة الجزء 5

مؤلف:
العربية

آخرون ان الحق واحد لا يتعدد ، وقد أخذ الامام بهذا الرأي الأخير فقال : ( ما اختلفت دعوتان الا كانت احداهما ضلالة ).

المجلس الثامن عشر

ان الامام آراء قيمة محكمة في طبيعة الحكم وسياسته ومهمة الحاكم وكيفية انتقاء القضاة وتقسيم العمل ومهمة العلماء الى غير ذلك ، وقد جمعت رسالته الى الاشتر النخي كثيرا من هذه الأمور ، ولكنها ليست الوعاء الوحيد الذي ننشد فيه تلك الحكم فتقصر بحثنا عليها.

أ- قال : ( لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في امرته المؤمنون ، ويستمتع فيها الكافر ويبلغ فيها الاجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتؤمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح به من فاجر ) وهذا كما نرى رأي يعاكسه الفوضويون اليوم وقد عاسكه الخوارج بالأمس، ولكن ما كان لعلي الحكيم الذي اعتنق دين النظام صبياً ان

٢٦١

يدعو بدعوتهم لقد عرف ان النظام هو كفيل النجاح ، وتألم وشكا قومه لأن : ( المعروف عندهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات الى أنفسهم وتعويلهم في المهمات على آرائهم كان كل امرىء منهم أمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات ).

وإذا كان قد مقت الخروج عما يمكن ان نسميه ( الشرعية ) فانه كذلك قد مقت أيضاً الاختلاف بين الفقهاء والمفسرين في الفتيا قائلا : ( ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ثم يجتمع القضاة بذلك عند الامام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً والههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد ).

وليس يصعب علينا ان نلمح ان الذي استفزه الى هذا الانتقاد هو رغبته في النظام وفي توحيد القضاء.

ج- واذا كان قد دعا الى (الشرعية) وعدم تشعب الآراء واستقلال كل برأيه ، فليس معنى هذا أنه دعا الى الاستبداد والحكم المطلق ، بل على العكس لا نزال نسمعه يلح بالدعوة الى الشورى فيقول لنا : (من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها) ويكرر ذلك في أماكن اخرى وبالفاظ كثيرة.

وقال في كتاب لأحد ولاته : (وان ظنت الرعية بك حيفاً

٢٦٢

فاحصر لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم باصحارك فان في ذلك رياضة منك لنفسك ورفقاً برعيتك واعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق) وهذه الكلمات كبيرة حكيمة ، فيها نوع من المسؤولية الوزارية كما نعرفها ونسميها وفيها أيضاً بيان لحكمتها فهي تزيل شكوك الرعية ثم هي رياضة للنفس على تقبل النقد وعدم الازورار منه ، وعلى التدقيق في الأعمال علما بان هناك من سيحاسب عنها.

ان النزعة الديمقراطية في نهج البلاغة أبين من ان تحتاج الى بيان :

فها هو يأمر الوالي بان يجلس لذوي الحاجات دون جند أو حرس لكيلا يتعتعوا في توضيح مسائلهم.

بل قد فضل العامة على الخاصة وان سخط الخاصة فقال : (ان سخط العامة يجحف برضى الخاصة ، وان سخط الخاصة يفتقر مع رضا العامة ، وليس أحد أثقل على الوالي من الرعية مؤونة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء ، وأكره للانصاف واسأل بالالحاف وأقل شكراً على الاعطاء ، وأكره عذراً عند المنع ، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة وانما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للاعداء : العامة من الأمة فليكن صفوك لهم وميلك معهم). وهذا كلام صريح في تفضيلهم والاعتماد عليهم. وأنا شخصياً أميل الى الظن بأن هذا الكلام

٢٦٣

كان له تأثير في سلوك بعض زعمائنا الذين عرفوا بميلهم الى الأمام علي والتشبه بكلامه في أكثر من موضع. ولن أطيل في تفصيل هذه الديمقراطية ، ولنردد في سرور قول الامام الجامع : (ان أعظم الخيانة خيانة الأمة وأفضع الغش غش الأئمة) ، وقوله الذي يذكرنا بالقول السائر :صوت الشعب من صوت الله (انما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على السن عبادة).

ه- واذا كان الامام قد أخذ بالديمقراطية كما وضح فمن الطبيعي ان نراه نصير الحرية يهيب بابنه (ولا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً) وان نراه رافع لواء المساواة لا يزال يذكرها ويوصي بها ويقول لمن يوليه (وآس - وساو- بينهم في اللحظة والنظر حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم). ويقول في موضع آخر : ان المال لو كان ماله لساوى بين الناس فكيف والمال مال الأمة ؟

و- ولكن للجمهور سيئاته كما ان له حسناته فلنسمع كلمة الامام في الغوغاء. قال : (الناس ثلاثة فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق) ووصف الغوغاء في موضع آخر من أنهم اذا اجتمعوا غلبوا واذا تفرقوا لم يعرفوا ، وقبل وصفهم بانهم إذا اجتمعوا ضروا واذا تفرقوا تفعوا لأن كل صانع ينصرف الى علمه فيحصل النفع ، وقد وضع

٢٦٤

الامام اصبعه على آفة وطيبعة من آفات وطبائع الجماهير هي سرعة التقلب ، تلك الخاصة الجماهيرية التي وضحها شكسبير أبلغ ايضاح في (يوليوس قيصر) وكذلك أصاب في ان اجتماعها غلبة وتفرقها ضياع وفي ان اجتماعها قد يكون في بعض الاحايين مجلبة للضرر ، وهذه النظرة الى الجماهير قد تبدو متعارضة بعض التعارض مع ما سبق من رأيه فيهم ولكن بيان نقص الغوغاء لا يستلزم استبعاد رأيهم.

ز- عرضعليه‌السلام الصفات الواجب توفرها في الامام فقال : ( من نصب نفسه للناس اماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديب بلسانه ) وذم العلماء الذين لا يعملون بعلمهم في أكثر من موضع. وحدد العلاقة بين الراعي والرعية فقال :( أيها الناس ان لكم علي حقاً ولي عليكم حق ، فاما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا واما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والاجابة حين ادعوكم والطاعة حين آمركم ). ولنلاحظ هنا انه يجعل من حقه على الشعب من ينصحه الشعب وهذا مبالغة في السعي وراء الكمال. وكم هو نبيل قوله لقومه رداً على من اثنى عليه :( فلا تكلموني بما تكلمون به الجبابرة ، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند اهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل

٢٦٥

لي ولا التماس اعظام لنفسي فانه من استثقل الحق ان يقال له والعدل ان يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه ، فلا تكفوا عن مقالة بحق او مشورة بعدل فاني لست بنفسي يفوق ان اخطىء).

وذم خلة الغدر فقال : (والله ما معاوية بادهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من ادهى الناس ، ولكن لكل غدرة فجرة ولكل فجرة كفرة ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة ). فأمير المؤمنين اذن على خلاف مع ( امير) مكيافلي.

وادلى على بآراء قيمة فيما يجب في الولاة فقال انهم ملزمون بأن يعيشوا عيشة جمهور الشعب لكيلا ( يتبيغ بالفقير فقرة ) اي لكيلا يسخط الفقير لفقره وليتعزى بحال اميره : ( أأقنع من نفسي بان يقال امير المؤمنين ولا اشاركهم في مكاره الدهر او اكون اسوة لهم في جشوبة العيش؟).

ونصح على الولاة بقوله مؤكداً لأحدهم :( ولا يطولن احتجابك عن رعيتك ) وتلك نصيحة حق فان كثرة ظهور الحاكم بين الرعية استئلاف لقلوبها واشعار بها ان الحاكم مهتم بمصالحها ، ثم هو منير للحاكم سبيل حكمه ومعطيه الصورة الواضحة لحال شعبه فيعمل على نورها.

وقال :( انه ليس شيء ادعى الى حسن ظن راع برعيه من

٢٦٦

احسانه اليهم ) اي ان الراعي حين يحسن لرعيته يطمئن قلبه ويأمن خيانتهم.

وامر باحترام التقاليد الشعبية فكان حكيما بعيد النظر ( ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت به الالفة وصلحت عليها الرعية ).

ووجه علي نصيحة غالية كل الغلو صادق كل الصدق في قوله : ( ان شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيراً ومن شاركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فانهم أعوان الاثمة واخوان الظلمة وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل اصارهم وأوزارهم. ثم ليكن عندك آثارهم أقولهم بمر الحق لك ) ونظرية على صحيحة تماماً فان من أثم فيما مضى لا يؤمن أثمه فيما حضر، ومن اتصل بالظلمة بالأمس لا يؤمن اتصاله بهم اليوم واعانتهم على كيدهم بماله من سلطة الوزارة. وكان حكيما في قوله : ( فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة وداولهم بين القسوة والرأفة ).

وأمر الوالي ان لا يرغب عن رعيته وتفضلا بالامارة عليهم فانهم الاخوان في الدين والأعوان على استخراج الحقوق ثم قال له : ( وإنا موفوك حقك فوفهم حقوقهم والا فانك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة بؤساً لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين ).

ودعاه إلى ان يساوي نفسه بهم فيما الناس فيه سواء وهذا القيد

٢٦٧

يظهر بعد نظره وفهمه لحقيقة المساواة الممكنة.

ودعا الى تشجيع المحسن وعقاب المسيء قائلا : ( ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ). ولفت نظر جباة الضارئب الى الرفق بالأهلين وعدم بيع شيء ضروري - وهذا ما فعلته القوانين الحديثة اذ منعت الحجز على الملابس ومرتبات الموظفين - وبالغ في الرفق الحكيم فقال : ( فان شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو اجالة ارض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو ان يصلح به أمرهم ، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونه عنهم فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم ) وهذا بعد نظر حكيم وسياسة مالية محكمة تزيد وضوحاً في قوله : ( وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك الا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ) ، وإذا تذكرنا ما جر التعسف في جبي الضرائب في فرنسا وولايات تركيا وغيرها عرفنا قيمة هذه النصيحة التي يؤديها المنطق ويسندها التاريخ.

ح- وقد أدى بعد نظر الامام به الى ان يدعو الى تقسيم العمل ذلك المبدأ الذي لم نعرفه الا حديثاً فقد قال ناصحاً : ( واجعل لكل انسان من خدمك عملا تأخذه به فانه أحرى الا يتواكلوا في خدمتك ) وقال من رسالة الى الأشتر النخي أيضاً : ( واعلم ان الرعية طبقات لا يصلح بعضها الا ببعض ولا غين ببعضها الا من

٢٦٨

بعض فمنها جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنه قضاة العدل ومنها عمال الأنصاف والرفق ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ومنها التجار وأه الصناعات ومنها طبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلا قد سعى الله سهمه ) ثم فصل بعد ذلك وضيفة كل فرقة.

وتمشياً مع قاعدته في تقسيم العمل واختصاص كلا بما يحسنه رد على من قال له : انك تأمرنا بالسير الى القتال فلم لا تسير معنا ؟ انه لا يجوز ان يترك مهماته من قضاء وادارة وجباية ضرائب، وكذلك نصح عمر بالا يخرج للقاء الفرس بنفسه ( لأن الأمير كالنظام من الخرز يجمعه ) ولأنه ان خرج انتقض عليه العرب من أطرافها.

ط- ان هذا الامام المجرب ما كان ليغفل الدعوة الى الاتعاظ بالتجارب في الحكم فها هو اذا يقول ( ان الامور اذا اشتبهت اعتبر آخرها أولها ) ويقول في مكان آخر ( استدل على ما لم يكن بما كان ) ثم يقول أيضاً ( العقل حفظ التجارب ) ولست أحمل هذا القول الأخير أكثر مما يحتمل اذا قلت انه هو الرأي الفلسفي والمعارض للرأي القائل بان العقل يتفاوت عند الاشخاص بطبيعته. والذاهب على العكس الى ان العقل ليس الا عمل التجارب والتهذيب. والدافع لحجة الرأي الأول القائلة بانا لو ربينا أشخاصاً ذوي أعمار واحدة تربية واحدة في بيئة واحدة

٢٦٩

لنشأوا رغم ذلك مختلفي العقليات ، بانهم انما يختلفون لسبق تأثرهم بمزاج وراثي مختلف.

ي- وتكلم الامام في رسالته الى الاشتر عن القضاة كلاما قال عنه الاستاذ العشماوي استاذ القانون الدستوري بكلية حقوق القاهرة ان كلاماً غيره في أي دستور من دساتير العالم لم يخفصل مهمة القضاة وطرق اختيارهم مثل ما فعل. قال الامام ( ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تتمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر في الفيء الى الحق اذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بادنى فهم دون اقصاه ، اوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج واقلهم تبرماً بمراجعة الخصم واصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم ، من لا يزدهيه اطراء ولا يستميله اغراء ، وأولئك قليل. ثم اكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته الى الناس ، واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتياب الرجال له عندك ). وهذا دستور حكيم بل هو أحكم ما نعرفه وحسبه انه انتبه الى وجوب اجزال العطاء المالي للقضاة ليستغنوا بذلك عن الارتشاء وانه شدد في اعطائهم منزلة قريبة من الوالي ليقطع بذلك الطريق على الوشاة وليعمل القضاء في جو هادىء.

وفي غير هذه الرسالة ذم من يتصدى للحكم وليس أهلا له

٢٧٠

قائلا (جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فان نزلت به احدى المبهمات هيأ لها حشواً من رأيه ثم قطع به ، جاهل خباط جهالات عاش ركاب عشوات تصرخ من جور قضائه الدماء وتعج منه المواريث الى الله) وفي موضع آخر يقول : (لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء لا يقاروا عنه كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غارها) ومعنى هذا ان على الخواص مهمة هي عدم الصبر على الظلم بل مجاهدته ولو لا يقع عليهم.

ك- وتكلم في سياسة الجند وأمر جيشه الا يتتبع عند الفوز فاراً ولا يهين امرأة وان سبته فان النساء ضعيفات. وهذا دليل الخصومة الشريفة ونبل

الخلق. وقال في عهده إلى الاشتر (وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوق أهليهم حتى يكون همهم هما واحداً في جهاد العدو فان عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك ، وان أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية. وانه لا تظهر مودتهم الا بسلامة صدورهم ولا تصح نصيحتهم لا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مودتهم فافسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذووالبلاء منهم ، فان كثرة الذكر تحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل ان شاء الله ثم اعرف لكل امرىء منهم ما ابلى ولا تضيفن بلاء امرىء

٢٧١

الى ان تعظم من بلائه ما كان ضعيفاً ولا ضعة امرىء الى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما).

والآن وقد سرنا في نهج البلاغة شوطاً يغرينا بالاستزادة فلنقف ، واذا كان أمير المؤمنين علي قد نهى قومه عن أن يمدحوه فلا يخافن اليوم اغتراراً وهو بعيد عن حياة الغرور ، ان نحن انحنينا أمام عبقريته. لقد حبانا نهج البلاغة فاحسن ما حبانا ، فلنطبق عليه قوله : (قيمة كل امرىء ما يحسنة).

المجلس التاسع عشر

كان مقتل أمير المؤمنين علي بن ابي طالبعليه‌السلام بيد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم ، فمن هؤلاء الخوارج الذين ينتمي اليهم هذا المجرم الذي لا يعرف تاريخ الاسلام أكثر منه ايغالا في الاجرام ؟

من الأخطاء الشائعة في فكر المتشرقين وبعض الذين نقلوا عنهم من العرب ، تقدير فرق الخوارج ، باعتبارها تمثل الديمقراطية العربية ، والمعارضة الاستبدادي في التاريخ العربي القديم.

٢٧٢

ولكن الخوارج لم يكونوا كذلك ، أو لم يبدوا كذلك على الأقل ، بل كانوا فرقة تحوم حولها تهم العمالة للفكر الاستبدادي الذي تزعمه معاوية بن أبي سفيان، وفي أحسن الفروض ، فرقة مراجعة، تميل الى السفسطة ، افسدت العمل الثوري العظيم الذي تزعمه الامام الشهيد علي بن أبي طالب ((ع)).

يتحدث المستشرقون عن نشأة الخوارج فيزعم فيلهوزن أنهم من جماعة القراء ، أي الدعاة الأوائل للاسلام من حفظة القرآن والحديث والسنة ، أي أصلب العناصر الاسلامية. ذلك استناداً الى ((عبارة جافة )) لأبي مخنف أوردها الطبري. ويزعم ((برنوف)) استناداً إلى رواية اخرى لأبي مخنف أيضاً أنهم من البدو ، ويزعم مؤرخ عربي أن الخوارج عرب انضم اليهم مواليهم من غير العرب ( كما انه كان لهؤلاء الموالي من المسيحيين والمجوس الذين أسلموا بعض التأثير على العقيدة الخارجية ).

ولو تتبعنا ما قيل من تكهنات حول قضية الخوارج لمؤرخين آخرين لاستغرقنا في بحث أشبه بعمل النسابين العرب القدامي ، هل هم من تميم أو هم من القبائل الشمالية أو هم من القبائل اليمانية الى غير ذلك من أسباب التفكير العنصري أو القبلي.

والخوارج نشأوا حزبا سياسياً ، له مصالح سياسية واقتصادية وربما نتيجة مناورة من حزب معاوية أيضاً.

(المجالس الخامس ) ( ١٨)

٢٧٣

فحين بدأت الثورة ضد عثمان تبدو في الأفق ، وضح ان الطامعين في الخلافة من أعضاء الشورى يجمعون الأنصار ويكتبون الكتب. وتكونت تقريباً ثلاث اتجاهات ، الأول من كبار الأثرياء في المجلس بزعامة طلحة يريد استبعاد علي بن أبي طالب ((ع)) والثاني الحزب الاموي ويريد استبعاد علي أيضاً، وأنشأ دولة بقيادة بني أمية ، وهو الحزب الاكثر تمثلا لمصالح الاثرياء لما يملكون من ثروة ، ومن مراكز السلطة التي اسندها الهيم عثمان بن عفان. والحزب الثالث حزب علي الذي يمثل الفقراء والمستضعفين والحالمين بالعدل الاجتماعي الذي نادى به الاسلام. وهذه التيارات الثلاثة فعلا قم اصطدمت بعضها ببعض. التيار الاول صفي في معركة ( الجمل) بواسطة حزب علي بن أبي طالب ((ع)) ، والتيار الثاني استطاع ان يصفي علياً بن أبي طالب وحزبه.

وسنلاحظ تياراً رابعاً قعد عن الاشتراك في الصراع كان على رأسه عبد الله بن عمر ، الذي لاذ بالتقوى والورع ، وابتعد عن الصراع وحتى هذا التيار الذي كان له انصار لم يصدر عن التقوى والورع وحدهما ، بل عن ظروف سياسية قد تكون اقل بروزاً ، ولكنها اساسية وموجهة للموقف الذي وقفه اصحابه. فنحن نعرف ان علياً بن ابي طالب كام يمثل المعارضة في حكم عمر بن الخطاب في السنوات الاولى من خلافته.

٢٧٤

فعبد الله بن عمر وغيره من اتقياء قريش كانوا اميل الى الوسط وسنجد ان هذا الوسط كان اميل لتبرير فعل عثمان بن عفان والعطف عليه ، وان كان ينقده.

ولكن ما موقف الخوارجمن هذه التيارات جميعاً ؟

الواقع ان الصراع لم يكن قد تبلور تماماً في حزبين اساسيين هما حزب علي وحزب معاوية حين بدأت الثورة على عثمان بن عفان. ولكن بعد ن بويع علي ((ع)) بالخلافة بدت عناصر الصراع تستقطب بعضها ، بحيث تحدد الصراع بين حزب علي وحزب معاوية. فالمحاربون في معركة ( الجمل ) لم يلبثوا ان اسفروا عن ميلهم السياسي فانضموا الى معاوية كم انضم من صفوف علي الى معاوية بعض الذين خاضوا المعركة على اساس القرابة وصلة الدم ولم تكن تربطهم بالثورة العلوية مفاهيم اجتماعية.

والخوارج ليسوا بدعاً في عملية الاستقطاب ، فهم جماعة استدرجوا الى شرخ في جبهة علي ، ثم غدر بهم ولم ينالوا جزاءهم الحق ثمناً لهذا الشرخ الذي احدثوه من اصحاب المصلحة فيه ، فمضوا في موقفهم مستقطبين تلك العناصر الورعة التي لم تفهم من الصراع الدائر ، لا انه تنافس بين سلطات ، ولعلهم لم يلتفتوا الى الجانب الاجتماعي التفاتا واعياً.

وهناك ما يدعو الى التشكك في أول الخارجين يوم معركة صفين ، فلو تتبعنا انباء هذه المعركة من بدايتها لتكشف لنا كل

٢٧٥

الأساليب التي اتبعها معاوية لاحداث الشرخ في جبهة علي.

معركة صفين هي معركة التحول في الصراع الدائر بين حزب العدل الاجتماعي ،وحزب رأسمالية التجار وكبار الملاك ، فلقد استطاع معاوية ان يجمع جيشاً كبيراً يقوده ويحرضه كبار الأثرياء واتجه لملاقات جيش علي ، بعد كتابات ورسائل متبادلة بينه وبين الخليفة ، اتسمت بالاقذاع من جانب معاوية وبالحلم والاسماح من جانب علي ، رغم ان معاوية لم يكن الا عاملا من عماله. وكانت حجة معاوية وانصاره طلب تسليم قتلة عثمان المنظورين تحت لواء الخليفة وفي جيشه ، لا يقاع القصاص بهم. ولم يلبث ان رفع المصاحف وطلب الاحتكام الى القرآن.

وفيم الاحتكام الى القرآن.؟ في الصراع الدائر بين الطرفين. وما أساس الصراع الدائر ؟ انه فيها يبدو قضية عثمان والاقتصاص من قتلته. أو هكذا كان موضوع المجادلة السائد بين الطرفين.

ولكن الهدف الأساسي الأكثر وضوحاً من دراسة وتأمل الكتب المتبادلة ، والمناقشة الدائرة بين الرسل والزعماء هو قبل نظام الحكم والاستيلاء عليه.

ولما كان معاوية يعلم ان قوته العسكرية وحدها لا تكفي لتحقيق النصر فقد لجأ الى تفتيت وحدة قيادات جيش علي ، ضاغطاً على الأسباب الحقيقية للصراع ، وهي الثورة والتسلط والتفرد من جانب ، والعدل الاجتماعي من الجانب الآخر. ومن

٢٧٦

البديهي ان اتصالات رجاله برجال جيش علي كانت مدروسة ، وانتقى الرجال الذي يقبلون وجهة نظرة ، بعد ان يعري الموقف من جانبه العاطفي والحماسي لتبقى المصلحة الاقتصادية متصدرة.

ولقد نجح معاوية في ذلك ، حتى اننا نستطيع القول بان رفع المصاحف كان توقيتاً لاعلان التمرد. فكيف لجيش سينتصرانتصاره فجأة. بل كيف لجيش يقاتل وراء ابن ابي طالب وهو من هو في الاسلام ، ان يقتنع بحجة رفع المصاحف وهو يعلم عن معاوية ما يعلم ، ويزيد الأمر وضوحا ان عليا رفض التحكيم الى المصحف كاشفاً تلك الحيلة الخادعة من اللحظة الاولى ، فكيف لجيش علي وهو منتصر وتحت قيادة رفيعة المكانة في الاسلام ان يقبل وقف القتال ، بعد ان رفضه قائده الاعلى ، الا ان يكون وراء كل هذا تدبير ، ولقد يكفي ان يصرخ قائد في فصيلة اوقفوا القتال ليقف القتال قبل ان يتبينوا جلية الأمر. ان اتصالات رجال معاوية كانت بهذا الصنف الذي يملك ان يصيح بوقف القتال ، فيقف القتال.

ويزيد الموقف وضوحاً ان علياً خطب واستعمل ما يملك من الحجج ، ولكن خطبه ذهبت هباء. لان الذين أرادوا ان يقف القتال لم يريدوه على أساس من القضية التي يحاربون من أجلها ، بل على أساس آخر تماما.

٢٧٧

وهكذا وجد علي نفسه مضطراً لقبول التحكيم. فمن كان طلاب وقف القتال ؟

لقد كان أول الخوارج في طليعتهم. وسنرى الآن ذلك الجدل الذي نشب بين علي بن ابي طالب وبين اول فرقة للخوارج لنتبين أين موقفهم من قضية التحكيم. فبعد ان كشف التحكيم عن لعبة اشترك فيها الكثيرون ممن استقطبهم حزب معاوية من جيش علي ، كان من بينها تعمد اختيار ابن موسى الأشعري ، وهو رجل عثماني الميل ، يمثل ذلك التيار القديم الذي تزعمه عبد الله بن عمر وسعد بن ابي وقاص وغيرهما من القاعدين عن الاشتراك في الصراع. فلقد عارض أيضاً علي بن ابي طالب ((ع)) في اختيار ابن موسى الاشعري ولكن من نادوا بوقف القتال ، نادوا باختيار ابي موسى ، وانتهت القضية الى خلع ابن موسى لعلي من الخلافة وترشيح عمرو بن العاص لمعاوية ، الامر الذي لم يكن موضعاً للتحكيم أصلا.

ان الجدل الذي دار بعد ذلك بين علي والخوارج يكشف عن دورهم في كل تلك المؤامرة المتعددة الجوانب.

علي بن ابي طالب : الا تعلمون ان هؤلاء القوم (( حزب معاوية )) لما رفعوا المصاحف قلت لكم ، ان هذه مكيدة ووهن ، وانهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لم يأتوني بل سألوني التحكيم. أفعلتم انه كان منكم أحد أكره لذلك مني ؟

٢٧٨

الخوارج : اللهم نعم.

علي : فهل علمتم انكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم اليه ، فاشترطت ان حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله عز وجل ، فان خالفاه فانا وأنتم من ذلك براء.

الخوارج : نعم ، ونحن مقرون بانا قد كفرنا ونحن تائبوو فأقرر بمثل ما أقررنا وتب. ننهض معك الى الشام.

وبالطبع رفع علي ((ع)) هذا اللجاج الفج ، وانضم اليه منهم من انضم وأبي الباقون فقاتلهم علي حتى هزمهم.

وفي الوقت الذي كان الخليفة يقاتل الخصوم ، كان الخوارج يهاجمونه ويقومون بالدعوة ضده ، ويتهمونه بالكفر لأمرهم أصحابه الأولون.

وان لن ان نستريب في هذه الفرقة وفي دوافعها. فهي أولا دعت الى وقف القتال ، وثانياً تحمست لاختيار أبي موسى الاشعري ممثلا لعلي ، وثالثاً تراجعت عن هذا كله ، وناصبت حزب العدل الاجتماعي العداء حتى وصل الأمر الى قتاله وتحرض الناس ضده وتقسيم وحدة الصف وراءه.

فهل نستطيع الزعم بان فكرة الخوارج من صنع صاحب المصلحة في الاثر الذي ستحدثه ؟

نستطيع ذلك ، على الرغم ان الخوارج ناصبوا معاوية العداء ،

٢٧٩

ولكن بعد ان صفى حزب العدل الاجتماعي تماماً.

ولكن نستغرب كثيراً حين نعلم ان جريمة قتل علي بن أبي طالب كان أداتها رجلا من الخوارج.

وان أصحاب الجريمة الأصليين يستطيعون ان يستتروا خلف أي لافته ، أو أي مظهر ، وهي سياسة تتبع حتى الآن في المؤامرات التي يحوكها الاستعمار ونراها كل يوم تحت لافتات تبدو محلية تماماً.

تلك كانت بداية الخوارج ، وهي بداية تدين المؤسسين بالخيانة ، وتفتيت وحدة القوى الثورية ، بل وضربها مهما تكن الدعاوى التي استندت اليها.

أما بعد ذلك ، وقد بدا ان من مصلحة حزب معاوية الابقاء

٢٨٠