مقتل الحسين للخوارزمى الجزء ٢

مقتل الحسين للخوارزمى0%

مقتل الحسين للخوارزمى مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 311

  • البداية
  • السابق
  • 311 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15188 / تحميل: 3918
الحجم الحجم الحجم
مقتل الحسين للخوارزمى

مقتل الحسين للخوارزمى الجزء 2

مؤلف:
العربية

بلية ، فابعث إليه الساعة وخلده في السجن ، فإنك لا تدري ما يكون منه ، فأرسل الأمير إلى إبراهيم بن محمد بن طلحة أن يهجم على المختار فيأخذه ، فهجم عليه في داره فقال : ما الذي يبلغنا عنك يا مختار؟ فقال المختار : كل ما بلغكم عني فهو باطل.

وأقبل عمر بن سعد على فرس له وقد أخرج المختار من منزله ملببا ، فقال : أوثقوه بالحديد وخلدوه في السجن إلى أن يستقيم أمر الناس ، وإذا رسول الأمير أقبل إلى إبراهيم بن محمد ، فقال : يقول الأمير : شد المختار كتافا وامض به إلى السجن حافيا ، فقال إبراهيم للرسول : يا هذا! ولم يفعل بالمختار هذا الفعال؟ لا والله ، ما هذا جزاؤه من أمير المؤمنين ابن الزبير ، وقد أبلى بين يديه البلاء الحسن ، وقاتل القتال الشديد ، فلما ذا يفعل به هذا؟ وإنما أخذناه على الظن والتهمة ، ثم أمر به إبراهيم إلى السجن فحبس ، ومشى قوم من وجوه الكوفة ، وقالوا للأمير : إنّ المختار من شيعة آل محمد ، وأنت عارف به قديما وحديثا ، وإنما قدم علينا لأنه رأى من أمير المؤمنين جفوة فأحب أن يكون في ناحيتنا ، ولم يظهر لنا ولا لك عداوة ، فإن رأى الأمير أن يشفّعنا فيه ، فعل منعما ، فأبى الأمير أن يشفعهم فيه فانصرفوا مغضبين ، ثم قال المختار في السجن : أما ورب البحار ، والنخل والأشجار ، والمهامة والقفار ، والملائكة الأبرار ، والمصطفين الأخيار ، لأقتلن كل جبار ، بكل لدن خطّار ، ومهنّد بتار ، حتى إذا أقمت عمود الدين ، وشفيت غليل الصديقين من أولاد القاسطين ، وبقية المارقين ، وأدركت ثأر أولاد النبيين ، لم يكبر عليّ زوال الدنيا ، ولم أحفل بالموت إذا أتى إذ كان المصير إلى الجزاء ، ثمّ كتب إلى عبد الله بن عمر كتابا :

أما بعد فإني حبست مظلوما ، وظن بي الولاة ظنونا كاذبة ، فاكتب

٢٢١

رحمك الله إلى هذين الوليين الصالحين كتابا لطيفا لعلّ الله تبارك وتعالى أن يخلّصني من أيديهما ، بيمنك وبركتك ، والسّلام.

فكتب عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن يزيد ؛ وإبراهيم بن محمد :

أما بعد فقد علمتما بالذي بيني وبين المختار من الصهر والقرابة ، والذي بينكما من المودّة ، فأسألكما بالذي بيني وبينكما إلا خليتما سبيله ساعة تنظرون كتابي هذا ، والسلام.

فلما ورد الكتاب أرسل الأمير إلى المختار فأخرجه من السجن ، ثم قالا له : اعطنا كفلاء ، أنّك لا تحدث في عملنا حدثا واحلف بما نحلفك به ، والزم منزلك ، فتقدم عشرة من وجوه الشيعة فكفلوه ، وحلف المختار بما حلّفوه به أن لا يخرج على عبد الله بن يزيد ؛ وابراهيم بن محمد في عملهما ما كان لهما سلطان بالكوفة ، فإن خرج فعليه ألف بدنة ينحرها عند رتاج الكعبة وعبيده وإماؤه كلّهم أحرار ، فحلف لهما وانصرف إلى منزله ، ثم أرسل إلى من يثق به من إخوانه فدعاهم ، فقال : قاتل الله هؤلاء القوم ما أحمقهم حين يظنون أني أفي لهم بأيمانهم هذه ، أما حلفي بالله فإنه ينبغي لي أني إذا حلفت بيمين فرأيت غيرها خيرا لي من يميني ، فإني أفي بالذي هو خير لي واكفر عن يميني وخروجي عليهم خير من كفّي عنهم فانا أكفر عن يميني وأخرج عليهم متى شئت ، وأما الألف بدنة التي أنحرها عند رتاج الكعبة ، فهي أهون عليّ من بزاقة ، وما ثمن ألف بدنة حتى يهولني أمرها ، وأما عتقي لعبيدي وإمائي فو الله ، إني لوددت التئام أمري ولا اريد أن أملك مملوكا ما عشت ، ولكني إنما أنتظر أمر سليمان وأصحابه وما يكون منهم فأنظر أمري ، ثم سكت ولزم بيته.

[رجعنا] إلى أخبار سليمان بن صرد قال : فسار سليمان حتى صار إلى

٢٢٢

هيت ثم إلى قرقيسيا ، وبها يومئذ زفر بن الحرث الكلابي ، فلما نظر إلى خيل المسلمين كأنه اتّقى منهم ، فأمر بباب المدينة فاغلق ، ونزل المسلمون بحذاء المدينة على شط الفرات ، فدعا سليمان بن صرد المسيب بن نجبة فقال له : صر الى ابن عمك هذا زفر بن الحرث فأخبره : إنا لسنا نريده وإنما نريد الفاسق ابن زياد وقتلة الحسين بن عليعليه‌السلام فليخرج إلينا سوقا نتسوق فيها.

فانطلق المسيب إلى زفر وأخبره فأدناه زفر وأجلسه إلى جانبه وسأله عن الحال ، ثم أمر أن يخرج إليهم سوق وأمر للمسيب بفرس وألف درهم ، فقال المسيب : أما المال فلا حاجة لنا فيه لأنا ليس للمال خرجنا ، وأما الفرس فإني احتاج إليه إن ظلع فرسي أو عقر تحتي ، ثمّ أمر زفر بأن يخرج إليهم الطعام الكثير وأرسل إلى كل رئيس منهم بعشرة من الجزر ودقيق وشعير وجميع ما يحتاجون إليه ، فظل القوم يومهم ذلك واليوم الثاني مخصبين لا يحتاجون إلى شيء من السوق قد كفوا جميع ذلك إلّا أن يشري الرجل منهم ثوبا أو يحدّ سيفا أو رمحا ، فلما كان اليوم الثالث نادى سليمان بالرحيل فخرج إليه زفر فقال له : إن ابن زياد سمع بخبركم فنزل الرقة وقد وجه إليكم بخمسة من قواده : الحصين بن نمير السكوني ؛ وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري ؛ وأدهم بن محرز الباهلي ؛ وربيعة بن مخارق الغنوي ؛ وجبلة بن عبد الله الغنوي ، وهم في عدّة لا طاقة لكم بها ، فقال سليمان : على الله توكلنا وعليه فليتوكل المؤمنون ، فقال : نعم ما قلت ، ولكن هل لكم أن أفتح باب مدينة قرقيسيا فتدخلوها ، ويكون أمركم وأمرنا واحدا على ابن زياد؟ أو تنزلوا على باب المدينة ونعسكر إلى جانبكم ، فإذا جاء ابن زياد قاتلناه جميعا فعسى أن يظفرنا الله تعالى به ، فقال سليمان : إنّ هذا الذي تقول به قد عرضه علينا أهل بلدنا ولم نتبعه ، وكتبه إلينا بعد ذلك أمير

٢٢٣

الكوفة فأبينا إلّا أن نسير إليهم فيحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين.

فقال زفر : أما إذا أبيتم ذلك فاقبلوا مني نصيحة ، اعلم أنّ القوم قد فصلوا من الرقة فبادروهم الآن إلى عين الوردة فانزلوها واجعلوا المدينة من وراء ظهوركم والرستاق بين أيديكم ، فانظروا إذا أتوكم فلا تقاتلوهم في فضاء من الأرض فإني أخاف أن يحيطوا بكم لأنهم أكثر منكم بأضعاف ولا تصفوا لهم صفوفكم ، فإني لست أرى لكم رجّالة تحميكم ؛ ولكن إذا وافوكم فعبوا كتائبكم واجعلوا منكم مع كل كتيبة كتيبة إلى جانبها فإن حمل على إحدى الكتيبتين فزالت ، أعانتها الاخرى ، فيكون ذلك أشد لصفكم وأضعف لصفهم. وأنا أسأل الله تعالى أن ينصركم على هؤلاء الفاسقين.

فقال له سليمان : جزاك الله من رجل خيرا ، فلقد أكثرت النزل ، وأحسنت الضيافة ، ونصحت في المشورة. فودّعهم زفر وسار القوم حتى نزلوا عين الوردة فقام سليمان خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا شيعة آل محمّد! إنه قد أتاكم عدوكم الذي تجدون إليه المسير في آناء الليل وأطراف النهار ، تريدون بذلك أن تطهروا أنفسكم بالتوبة النصوح إلى ربكم مما فرطتم في ابن بنت نبيكم ، وقد جئتم إليهم ، وأنتم اليوم في دارهم ، فانظروا إذا لقيتموهم غدا فأصدقوا القتال واصبروا فإن الله مع الصابرين ، ولا يولين أحد منكم دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ، ولا تقتلوا مدبرا ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيرا إلّا أن يقاتلكم ، ولا تدخلوا دارا إلّا بإذن أهلها فإنّ هذه سنّة أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في أهل هذه الدعوة ، واعلموا أن مروان كانت ولايته تسعة أشهر ، فعبث بها ابن زياد لمحاربتكم والآن قام ابنه عبد الملك فأقر ابن زياد على ما بعثه أبوه

٢٢٤

مروان ، وانظروا إذا أنا قتلت فأميركم المسيب بن نجبة ، فإن قتل فعبد الله بن سعد ، فإن قتل فأخوه خالد ، فإن قتل فعبد الله بن وال ، فإن قتل فرفاعة بن شداد ، فإن قتل فأمر بعضكم إلى بعض ، ورحم الله من صدق ما عاهد عليه الله.

ثم دعا سليمان بالمسيب ، فضم إليه أربعمائة فارس من أشدّ فرسان عسكره وقال له: سر حتى تلقى أول عسكر من عساكر القاسطين فاحمل عليهم ، فإن رأيت ما فقاتل ، وإلا فانصرف ، فسار المسيب ليلا حتى ابتلج الصبح فرأى أعرابيا ، قال : ممن الرّجل؟ قال : من تغلب ، قال : غلبنا ورب الكعبة! قد أخذنا فالك من فيك ، ما اسمك؟ قال : بشير ، قال : بشرى وربّ الكعبة! كم بيننا وبين القوم؟ فقال : أما أدناهم فعلى ميل منكم وهم أربعة آلاف رئيسهم شرحبيل ، ومن ورائهم الحصين في أربعة آلاف ؛ ومن ورائهم الصلت بن ناجية في أربعة آلاف ، والعساكر متصلة بعضها ببعض ، ومعظم العسكر بالرقة مع عبيد الله بن زياد ، فقال المسيب : لا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم سار حتى أشرف على عسكر شرحبيل ، فلما نظر إليه ، صاح : يا ليوث العراق! كروا ، فحملوا عليهم حملة رجل واحد ، فانهزموا هزيمة فاحشة ، وقتل منهم خلق كثير وجرح خلق كثير ، وألقى الله في قلوبهم الرعب ، ثم رجع المسيب بأصحابه إلى سليمان بن صرد سالمين ، وبلغ ابن زياد الخبر فغضب ووجه زهاء عشرين ألفا الى عين الوردة وأصحاب سليمان ثلاثة آلاف ومائة رجل ، فعبأ أهل الشام ، فكان على ميمنتهم عبد الله بن الضحاك الفهري ، وعلى ميسرتهم مخارق بن ربيعة ، وعلى الجناح شرحبيل ابن ذي الكلاع ، وفي القلب الحصين بن نمير ، وعبأ أهل العراق ، فكان على

٢٢٥

ميمنتهم المسيب بن نجبة ، وعلى ميسرتهم عبد الله بن سعد الأزدي ، وعلى الجناح رفاعة بن شداد ، وعلى القلب سليمان بن صرد.

وزحف القوم بعضهم إلى بعض ، فقال أهل الشام : يا أهل العراق! هلموا الى الجماعة والطاعة لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ، فقال أهل العراق : هلموا يا أهل الشام إلى طاعة أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وادفعوا إلينا ابن زياد لنقتله كما قتل الحسين ابن بنت رسول الله (عليه وآله السلام) فلما سمع أهل الشام منهم هذا الكلام حملوا عليهم واختلط القوم ورزق الله أهل العراق الظفر عليهم ، فقتلوا منهم خلقا كثيرا ، فلما كان من الغد وكان يوم الجمعة اقتتلوا وانتصف بعضهم من بعض ، فجعل سليمان ينادي بأعلى صوته : من يطلب بدم الشهيد ابن فاطمة فليبشر بكرامة الله ورضوانه فو الله ، ما بينكم وبين الشهادة ودخول الجنّة والراحة من هذه الدنيا الدنية إلّا فراق هذه الأنفس الأمارة بالسوء ، ألا فمن أراد الرواح إلى ربه والتوبة من ذنبه فإلي إلي.

ثم إن سليمان كسر جفن سيفه وتقدم وهو يقول :

إليك ربي تبت من ذنوبي

فقد أحاطت بي من الجنوب

وقد علا في هامتي مشيبي

فاغفر ذنوبي سيدي وحوبي(١)

ثم حمل على القوم فلم يزل يقاتل حتى قتل جماعة كثيرة ثم قتل (رحمه‌الله ) ، فأخذ الراية المسيب بن نجبة ، فقال : أيها الناس! إن سليمان قد صدق ووفى ما عليه ، وبقي ما علينا ، ثم حمل على أهل الشام فجعل يطعن فيهم ويقول :

لقد منيتم بأخي جلاد

ثبت المقام مقعص(٢) الأعادي

__________________

(١) ـ الحوب : بضم الحاء الاثم.

(٢) اقعصه : قتله مكانه كقعصه.

٢٢٦

أشجع من ليث عرين عاد

ليس بفرار ولا حياد

ولم يزل يقاتل حتى قتل (رحمه‌الله ) ، فتقدّم عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي فاخذ الراية وهو يقول : رحم الله اخوتي( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) الأحزاب / ٢٣ ، ثم حمل وجعل يطعن في أعراضهم ويقول :

ارحم إلهي عبدك التوابا

ولا تؤاخذه فقد أنابا

وفارق الأهلين والأحبابا

يرجو بذاك الأجر والثوابا

ولم يزل يقاتل حتى قتل (رحمه‌الله ) ، فتقدّم أخوه خالد بن سعد فحمل الراية ونادى بأعلى صوته : أيها الناس! من أراد الحياة التي ليس بعدها وفاة ، والراحة التي ليس بعدها نصب ، والسرور الذي ليس بعده حزن ، فليتقرب إلى الله تعالى بجهاد هؤلاء المحلين ، ثم حمل عليهم وهو يقول :

قد علمت ذات القوم الرود

أن لست بالواني ولا الرعديد

يوما ولا بالناكص الحيود

لكنني المقدّم في الجنود

ولم يزل يقاتل حتى قتل (رحمه‌الله ) ، فأخذ الراية عبد الله بن وال التميمي ووقف في الميدان وهو يقول :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ ) آل عمران / ١٦٩ ، ثم حمل حملة قاتل فيها قتالا شديدا فقطعت يده اليسرى ، فرجع حتى وقف قريبا من أصحابه ، ويده تشخب دما وهو يتلو :( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) آل عمران / ١٧٢. ثم حمل عليهم ثانيا وهو يقول :

نفسي فدتكم اذكروا الميثاقا

وجالدوهم واحذروا النفاقا

٢٢٧

لا كوفة نبغي ولا عراقا

لا بل نريد الموت والعتاقا

ولم يزل يقاتل حتى قتل (رحمه‌الله ).

قال : فبينا أهل العراق كذلك ، وقد قتل منهم من قتل ، وذلك عند زوال الشمس ، وإذا بالمثنى بن مخرمة العبدي قد وافاهم في ثلاثمائة فارس من أهل البصرة ، وكثير بن عمرو الحنفي في مائة وسبعين فارسا من أهل المدائن ، فلما نظروا إليهم اشتدت عزيمتهم وقويت نفوسهم ، وفرحوا بهم ، ثم اجتمعوا في موضع واحد وكبروا وحملوا على أهل الشام ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وهزموهم هزيمة قبيحة ، ثم تراجع أهل الشام واشتدّ القتال وأخذ الراية رفاعة بن شداد البجلي وقال :

يا رب إني تائب إليكا

متّكل يا سيدي عليكا

أرجو بذاك الخير من يديكا

فاجعل ثواب أملي لديكا

ثم حمل ولم يزل يقاتل حتى جرح ، فعاد إلى أصحابه مجروحا فالتفت رجل من كنانة من أهل المدائن إلى أصحابه فقال : يا أهل العراق! والله ، مالنا بهؤلاء القوم من طاقة ، فارجعوا إلى بلدنا فعسى الله أن يكفينا أمرهم بغيرنا ، فقال له عبد الله بن عوف الأزدي : بئسما قلت ، والله ، لو وليناهم الأدبار ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخا حتى نقتل عن آخرنا ، فإن نجا منا ناج أخذه الأعراب وأهل القرى فقتلوه صبرا ، أو أخذوه أسرا فيدفعوه إليهم ، ولكن نقاتلهم في يومنا هذا الى الليل ، فإن أمسينا واختلط الظلام ركبنا خيولنا ومضينا ، فإن تبعونا رجعنا عليهم وعزمنا على الموت ، وإن لم يتبعونا مضينا ولا أظنهم يتبعوننا.

قال : ثم حمل أهل الشام بأجمعهم على أهل العراق فقتلوا منهم جماعة ، قال : وتقدم رجل من أهل الكوفة من كندة يقال له : عبد الله بن

٢٢٨

عزيز ومعه ابن له صغير اسمه محمد ، فوقف بين الصفين فنادى : يا أهل الشام! هل فيكم أحد من كندة؟ قالوا : نعم ، ما تريد؟ قال : أنا رجل من كندة وهذا ابني فخذوه إليكم ، فإذا قتلت فابعثوا به إلى قومكم بالكوفة فإنه لا بد لي من القتال حتى أموت ، فنادوه : يا عم! لا تقتل نفسك ، هلم إلينا وأنت آمن.

فقال الشيخ : لا والله ، ما كنت لأرغب عما نويت به ، وقد عزّ علي مصارع إخواني الذين كانوا للبلاد نورا وللدين أركانا ، فجعل ولده يبكي ، فقال الشيخ لابنه : يا بني! والله ، لو كان عندي شيء آثر من طاعة ربي ، لكنت أنت ، ولو كان رضا ربي في قتلك لقتلتك والله في طاعته ، ثم تقدم للقتال وهو يقول :

قد علمت كندة من أعلامها

أهل النهى ومن ذي أحكامها

أهل عراقها وأهل شامها

بأنني الليث لدى زحامها

وحمل فقاتل حتى قتل (رحمه‌الله ) ، وصار ابنه الى الشام ، وتقدم عبد الله بن عوف الأزدي إلى الراية فرفعها وقال : أيها الناس! قد بلغني عن قوم منكم يريدون الهرب في ليلتكم هذه ، لا والله ، لا يراني الله وأنا أولي ظهري عن هذا العدو ، دون أن أرد مورد إخواني ، لأني قد علمت أنه ليس في هذه الدّنيا عوض عن الآخرة.

ثم دنا من صفوف أهل الشام ومعه جماعة من الأزد وحمير وهمدان ، فقال أهل الشام : أنتم آمنون فلا تقتلوا أنفسكم ، فقال لهم كريب بن زيد الحميري : يا هؤلاء! إنا كنا آمنين في هذه الدنيا ، ولكنا خرجنا لطلب الأمان في الآخرة ، ثم التفت الى أصحابه وقال : احملوا عليهم فإنكم بحمد الله

٢٢٩

على بصيرة ويقين.

فحمل على أهل الشام ، وحمل أصحابه وكانوا قريبا من مائتي رجل فلم يزالوا يقاتلون حتى قتلوا عن آخرهم ؛ فتقدم صحير بن حذيفة المولى وكان من خيار أهل الكوفة وزهادهم ومعه نيف وثلاثون رجلا من بني عمه ، فقال : يا قوم! لا تهابوا الموت فإنه لاقيكم ، ولا ترجعوا إلى الدنيا التي خرجتم منها فإنها لا تبقى لكم ، ولا تزهدوا فيما دعيتم إليه من ثواب ربكم ، فما عند الله خير وأبقى ، ثم حمل أمام قومه وهو يقول :

بؤسا لقوم قتلوا حسينا

بؤسا وتعسا لهم وحينا

ارضوا يزيد ثم لاقوا شينا

ولم يخافوا بغيهم علينا

فقاتل هو وقومه من عشيرته حتى قتلوا ولم يبق منهم إلّا رجل كان يقاتلهم بشدّة يتقونه منها ، فقالوا له : ويلك من أنت فقد أعجزتنا؟ فقال : الويل لكم أنا من بني آدم! وحمل عليهم وهو يقول :

إني الى الله من الذنب أفر

ولا ابالي كلّ ما كان قدر

أنوي ثواب الله فيما قد أثر

وأضرب القرن بمصقول بتر

ثم حمل عليهم فأحدقوا به فقتل ، فعرفه رجل من أهل الشام وقال : ويحكم! هذا عبد الله بن عبيد الرافعي ، فارس مزينة قاطبة.

قال ولما هجم الليل عليهم قام رفاعة بن شداد ، فقال : يا أهل العراق! إنكم قد علمتم أنا وافينا هذا الموضع ونحن ثلاثة آلاف ومائة رجل ، ووافانا أهل البصرة والمدائن في أربعمائة وسبعين رجلا ، وقد بقي منا سبعمائة رجل ، فإن صبحنا القوم غدا فقاتلناهم لم يبق منا أحد ، وإنما أنا رجل منكم ، وقد أحببت أن أرزق الشهادة وألحق بإخواني ، وقد أبت المقادير ذلك ، فهاتوا آراءكم وتكلموا بما عندكم.

٢٣٠

فقال القوم : رأينا لك تبع ، والرأي أن نتنحى من بين أيديهم ، فإنه لا طاقة لنا بهم ، واخرى أنهم عرفوا حربنا فلا يتبعونا ، ونحن نرجو ان يتحرك المختار فيكفينا إياهم بعد هذا ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

فعزموا على التنحي ، ودفنوا قتلاهم ليلا ، وسووا عليهم الأرض كيلا يعرفوا وينبشون وتؤخذ رءوسهم ، ثم إنهم ساروا ليلا وأصبح أهل الشام فلم يروا منهم أحدا ، فأخبروا الحصين بن نمير فلم يبعث خلفهم أحدا ، وكتب بذلك الى ابن زياد بالرقة ، ورجعوا إلى الرقة ، وسار أهل العراق حتى صاروا إلى قرقيسيا ، فأخرج لهم زفر من الطعام واللحم وغيره مما يحتاجون إليه كما أخرج أوّلا ، وأرسل إليهم الأطباء فداووهم من جراحاتهم ، فأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى استراحوا ثم ساروا الى هيت ، وقد مات منهم جماعة ، ثم خرجوا يريدون الكوفة فما بلغوها إلا وهم خمسمائة أو أقل ، فخرج عبد الله بن يزيد الأمير ، فعزاهم عن إخوانهم ، وخرج إليهم المختار فعزاهم ، وقال لهم : ابشروا فقد قضيتم ما عليكم وبقي ما علينا ، ولن يفوتنا ما بقي منهم إن شاء الله ، ولئن أخر الله لي الأجل لأخذت ثأركم وثأر إخوانكم عن قريب ، فلا تعجلوا فإن الله مع الصابرين.

٢٣١

ذكر

خروج المختار وقتله قتلة الحسينعليه‌السلام

قال : وعزل عبد الله بن الزبير عبد الله بن يزيد الأنصاري عن الكوفة وولى عبد الله بن مطيع العدوي ، وذلك في شهر رمضان سنة خمس وستين يوم الخميس لثلاث بقين من الشهر فدخل قصر الامارة فلما كان من الغد نادى في الناس أن يحضروا المسجد الأعظم ، فحضروا ، وفيهم المختار وجماعة من أصحابه الّذين كانوا بايعوه فصعد ابن مطيع المنبر وحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أهل الكوفة! إن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثني أميرا عليكم وأمرني بحياطة مصركم وجباية فيئكم ، وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلّا برضا منكم ، وأن أستن فيكم بسنة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان ، فاتقوا الله عباد الله ، واستقيموا ولا تخافوا وخذوا على أيد سفهائكم ، وإن لم تفعلوا فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ، فو الله ، لأقيمن أود المرتاب.

٢٣٢

فالتفت المختار إلى من حوله من الشيعة فقال : إنّ ابن مطيع قد تكلّم بما سمعتم ، فقوموا إليه وردوا عليه ولا تمهلوه ، فقام السائب بن مالك الأشعري فقال : أيها الأمير! إنا قد سمعنا كلامك وما أمرك به أمير المؤمنين ، ونحن لا نرضى أن تحمل عنا فيئنا ؛ ولكن يكون في فقرائنا ، فأما ما ذكرت من سيرة عمر وعثمان فإنا لا نقول فيهما إلّا خيرا غير أننا نحب أن تسير فينا بسيرة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فليس هو عندنا بدونهما فان فعلت ذلك وإلّا فلست عندنا بأمير ، ولا نحن لك برعية.

وتكلّم عامة الناس بمثل ما تكلم به السائب ، وقالوا له وهو يتكلّم : أحسنت أحسنت ، فو الله ، لقد ذهبت بفضلها ، وقالوا له بعد ذلك : أحسنت لا يعدمك المسلمون! ثم تكلّموا ، فقال ابن مطيع : يا هؤلاء! اسكتوا فإنا لا نسير بكم إلّا بما تحبون ، ثم نزل عن المنبر ودخل منزله ، فأتاه إياس بن مضارب العجلي وهو صاحب شرطته ، وقال : أصلح الله الأمير إن هذا الذي اعترض عليك في المسجد هو من رؤساء أصحاب المختار ، ولست آمن المختار أن يخرج عليك في عملك هذا ، ولكن ابعث إليه الساعة فإذا جاءك فاحبسه في سجنك حتى يستقيم أمر الناس ، فإنه غير مأمون على بليته ، ومعه قوم من أهل مصرك هذا قد بايعوه سرا ، وكأني به قد خرج عليك ليلا أو نهارا فخذ حذرك منه ، فدعا ابن المطيع برجلين من أصحابه وهما : زائدة بن قدامة والحسين بن عبد الله الهمداني ، فقال لهما : انطلقا إلى المختار فادعوه لي فجاءا إليه ودخلا عليه وسلّما ، ثم قالا له : أجب الأمير يا أبا إسحاق! فإنه يدعوك لأمر ندب فيه وأحبّ مشورتك ، وغمزة زائدة بن قدامة وقرأ :( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ) الانفال / ٣٠.

ففهم المختار فقال : يا غلام الق عليّ ثوبا ثقيلا فإني أجد في بدني رعدة

٢٣٣

شديدة ، ثم رمى بنفسه على فراشه ، وقال : ارجعا إلى الأمير فأعلماه حالي وما أجد في بدني من هذه القرة(١) .

فقال زائدة : أما أنا ففاعل ذلك يا أبا إسحاق ، فقال المختار : وأنت يا أخا همدان فاعذرني عنده فإنه خير لك عندي ، فقال : افعل ذلك إن شاء الله ، ولا أبلغ الأمير عنك إلّا ما تحب ، وخرجا ، فقال الهمداني إلى زائدة : قد علمت أنك الذي غمزته ، وكان قد تهيأ أن يصير إلى الأمير ، وأمر بإسراج دابته والرأي ما فعلت ، والله ، إنا لا ندري ما يكون منه ، ولعله يخرج غدا فلا يبدأ إلّا بنا ، ثم دخلا على الأمير فأخبراه بعلّة المختار فصدقهما ونسي ذكر المختار.

وقيل : بل بعث للمختار ثلاثة ، ثالثهم مروان بن سهل ـ وكان من خيار الشيعة ـ فهجموا عليه داره ، ومروان يقرأ :( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ ) الآية ، فسمعه المختار وعلم أنه مطلوب ، فخرج من الدار ولم يقدروا عليه ، وتوارى إلى أن خرج ، قال : وجعل المختار يجمع أصحابه ويقول ، تهيئوا وكونوا على اهبة من الخروج والطلب بدماء أهل البيتعليهم‌السلام ، فيقولون : نحن على ذلك ، فانهض متى شئت.

ثم اجتمعت الشيعة في منزل عبد الرحمن بن شريح الهمداني ، وقالوا : إنا قد بايعنا هذا الرجل ، وقد زعم أنّ محمد بن الحنفية هو الذي أرسله إلينا ، ولسنا ندري أصادق هو أم كاذب؟ فلا عليكم أن تبعثوا إلى محمد بن علي فتخبروه ، فإن رخص في اتباعه اتبعناه وإن نهانا اجتنبناه ، فخرج جماعة وقدموا على محمد فسلموا عليه فقال : ما أقدمكم مكة في غير وقت الحج؟ قالوا : جئناك لمهمة ، قال : أعلانية هي أم سر؟ قالوا : سرا!

__________________

(١) القرة : البردة الشديدة من المرض.

٢٣٤

فتنحى معهم فتقدم إليه عبد الله بن شريح الهمداني ـ وكان من وجوه الشيعة في الكوفة ـ ، فقال : جعلت فداك إنكم أهل بيت خصكم الله بالفضل ، وأماط عنكم الجهل ، وأكرمكم بفضل النبوّة ، وعظم حقكم على هذه الامة ، فلا يجهل حقكم إلّا مغبون ، وقد أصبتم بأبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، وهي مصيبة قد خصّ بها المؤمنون ، وقد قدم علينا المختار بن أبي عبيد الثقفي فذكر : أنه قد جاءنا من قبلك وأنك أرسلته إلينا ليطلب بدم الحسين ، وهو مقيم بين أظهرنا من قبل قتل سليمان بن صرد وأصحابه ، وقد بايعناه وعزمنا على الخروج معه ، غير أنا أحببنا أن نستطلع رأيك في ذلك ، فإن أمرتنا باتباعه اتبعناه ، وإن نهيتنا اجتنبناه.

فقال محمد بن الحنفية : أما ما ذكرت من الفضل الذي خصنا الله به فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وهو ذو الفضل العظيم ، وأما ما ذكرت من مصيبة أبي عبد الله فإن ذلك كان في الزبر الاولى والذكر الحكيم ، وهي ملحمة كتبت عليه ، وكرامة من الله أهداها إليه لكي يضاعف له الحسنات ويرفع له الدرجات ، وأما ما ذكرت من أمر المختار فو الله ، لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه ، فودّعه القوم وخرجوا وهم يقولون : قد رضي بذلك ، ولو لا أنه رضي لكان نهانا.

وسار القوم فدخلوا الكوفة ، وكان المختار قد علم بخروجهم فشقّ ذلك عليه ، وخشي أن يأتوا من محمّد بما يخذل عنه الناس ، فلما جاءوا سألهم المختار فقالوا : قد أمرنا باتباعك والخروج معك فقال : الله أكبر! أنا أبو إسحاق ، أنا مبيد الفاسقين ، وقاتل المحلّين ، وأعلمت الشيعة بعضهم بعضا بالخير الذي جاء من محمد ، فلم يبق بالكوفة شريف ولا وضيع ولا عربي ولا مولى ممن يعرف بمحبة أهل البيت إلّا بايعه سرا ما خلا عبيد الله بن

٢٣٥

الحر الجعفي وإبراهيم بن مالك الأشتر ، فلما بلغهما أن محمد بن علي قد رخص الشيعة بالخروج معه ، أحب عبيد الله بن الحر أن يسبق إلى بيعته فجاء إليه وبايعه وتباطأ إبراهيم بن مالك.

فقال المختار لأصحابه : ما تقولون في ابن الأشتر؟ فقالوا : هو سيد قومه اليوم بهذا المصر ، فإن ساعدنا على أمرنا رجونا القوة على عدونا ، فإنه رجل شريف بعيد الصوت في قومه ، ذو عدد في عشيرته وعزّ ، قال : فصيروا إليه وكلموه بما نحن عليه من الطلب بدم الحسينعليه‌السلام ، فإن فعل وإلّا صرت إليه بنفسي ، فخرج إليه جماعة فيهم : أبو عثمان النهدي ؛ وعامر الشعبي ؛ وأشباههما من ذوي العلم ، وصاروا إلى إبراهيم فدخلوا عليه فأدناهم وقربهم ، ورفع مجالسهم وقال : ألكم حاجة فتكلّموا رحمكم الله؟ فقال يزيد بن أنس النخعي وكان من الأبطال ـ : يا أبا النعمان! إنا قد أتيناك في أمر نعرضه عليك ، فإن قبلته كان الحظ فيه لك ، وإن تركته فقد أدّينا إليك النصيحة ، ونحن نحبّ أن تكون كلمتنا مستورة.

فتبسّم وقال : إنّ مثلي لا تخاف غايلته ، ولا تخشى سعايته ، ولا يتقرب إلى سلطانه ، باتباع مصائب إخوانه ، وإنما يفعل ذلك الصغار لا ذوو الأخطار ، فقولوا ما أحببتم ، فقال يزيد : صدقت لعمري ، إنا ندعوك لأمر قد اجتمع عليه الملأ من إخوانك ، ندعوك إلى كتاب الله وسنة رسوله ، والطلب بدماء أهل البيت ، وقتال المحلّين والدفع عن المستضعفين من آل رسول الله رب العالمين ، ثم قال أحمد بن شميط البجلي نحوا من ذلك ، فقام لهم إبراهيم : قد أجبتكم إلى الطلب بدماء أهل البيت على أنكم تولوني هذا الأمر ، فقال يزيد : إنّك والله ، لأهل لذلك ، ولكنا بايعنا هذا الرجل ـ يعني المختار ـ لأنه قد جاءنا من عند أبي القاسم محمد بن علي ، فهو

٢٣٦

الأمير والمأمور بالقتال ، وقد أمرنا بطاعته وليس إلى خلافه من سبيل ، فسكت إبراهيم ولم يجبهم ، فانصرفوا عنه وأخبروا المختار ، فسكت ثلاثة أيام ، ثم دعا بجماعة ممن يثق بهم وخرج بهم ليلا حتى أتى منزل إبراهيم بن مالك الأشتر ، فاستأذن عليه ودخل فالقيت له الوسائد ، وأجلس ابراهيم المختار على فراشه ، ثم تكلّم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد يا أبا النعمان! فإنني إنما قصدتك في وقتي هذا لأنك سيد قومك اليوم في هذا المصر ، ولعله قد بلغك أني لم أصر الى أحد في منزله أدعوه إلى هذا الأمر سواك ، وهذا كتاب المهدي محمد بن علي الوصي ، وهو خير أهل الأرض اليوم ، وابن خيرها قبل اليوم ، وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا حتى نأخذ بدم أخيه الحسين وولده وإخوته وشيعته ، فإن فعلت فقد أصبت حظك واوتيت رشدك ، وإن أبيت فهذا الكتاب حجة عليك وسيغني الله المهدي وشيعته عنك.

فقال إبراهيم : وأين الكتاب؟ فقال المختار : يا شعبي! ادفعه إليه ، فقام الشعبي إلى إبراهيم وأعطاه الكتاب ، ففضّه وقرأه ، فإذا فيه :

من محمد المهدي بن علي الوصي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر ، سلام عليك.

أما بعد فقد وجهت إليك بوزيري وأميني الذي ارتضيته لنفسي المختار ابن أبي عبيد الثقفي ، وقد أمرته بقتال عدوي والطلب بدم أخي وأهل بيتي ، فانهض معه بنفسك وقومك وعشيرتك ، فإنك إن أطعتني وساعدت وزيري كانت لك عندي يد عظيمة ، ولك بذلك أعنّة الخيل من كل جيش غاز وكل مصر وكل منبر وثغر غلبت عليه من أرض الكوفة ، إلى أقاصي الشام ومصر ، ولك بذلك عليّ الوفاء وعهد الله وميثاقه ، وإن أبيت ذلك هلكت

٢٣٧

هلاكا لا تستقيله أبدا ، والسلام على من اتبع الهدى.

فلما فرغ من قراءة الكتاب قال : يا أبا إسحاق! إني كتبت إلى محمّد قبل اليوم وكتب إلي فما كان يكاتبني إلّا باسمه واسم أبيه ، وقد أنكرت في هذا قوله : المهدي! ، فقال : صدقت يا أبا النعمان! ذلك زمان وهذا زمان ، فقال : يا أبا إسحاق! فمن يعلم أنّ هذا كتاب محمد بن علي؟ فقام بضعة عشر رجلا من الشيعة فقالوا : نشهد أنّ هذا الكتاب من محمد بن علي إليك.

فقال إبراهيم : حسبي بهم شهودا ، ابسط يدك يا أبا إسحاق! فبسط المختار يده فبايعه إبراهيم ، ثم دعا بأطباق فيها فاكهة كثيرة فأكلوا منها ، ثم دعا بشراب من عسل وخل فشربوا منه ، ثم قال إبراهيم : يا غلام! عليّ بدواة وبياض ، فاحضرت ، فقال : يا شعبي! اكتب لي أسماء هؤلاء الشهود؟ فقال الشعبي : وما تصنع بهذا رحمك الله؟ فقال : احبّ أن تكون معي أسماؤهم ، فكتب الشعبي أسماءهم ودفعها إليه ، ثم قام المختار فخرج إبراهيم مشيعا إلى باب الدار ، ومضى المختار إلى منزله ، ولما أصبح أرسل على الشعبي ، وقال : قد علمت أنك لم تشهد البارحة بما شهد به أصحابي ، لا أنت ولا أبوك شراحيل ، فما منعكما من ذلك؟ فسكت الشعبي ولم يجب ، فقال المختار : تكلم يا عامر! أترى أنّ هؤلاء القوم الذين شهدوا البارحة على حق أم باطل؟ فقال الشعبي : لا والله ، يا أبا إسحاق! ما أدري غير أنهم سادات أهل العراق ومشيخة أهل هذا المصر وفرسان الناس وكبراء العرب ، فما أظن أنهم شهدوا إلّا بالحقّ.

فتبسم المختار وقال : إنهم والله ، لم يجدوا بدّا من ذلك ، وعسى الله أن يأتي بالفرج لأهل بيت نبينا على يدي ، ثم انصرف الشعبي إلى منزله

٢٣٨

واعتقد أنّ الكتاب كان مزورا وأنّ المختار هو الذي كتبه.

وذكر أبو مخنف : أنّ عامر الشعبي قال : كنت والله ، متهما لشهادتهم ، غير أنه كان يعجبني الخروج معهم ، وكنت أرى رأي القوم في قتال قتلة الحسين ، واحبّ تمام الأمر ، ولم أطلع المختار على ما في نفسي ، وجعل إبراهيم يختلف إلى المختار كل ليلة وينصرف إلى أن اجتمعت آراؤهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة ست وستين ، فوطنوا أنفسهم على ذلك ، وأقبل إياس بن مضارب العجلي إلى عبد الله بن مطيع ـ وهو صاحب شرطته ـ ، فقال : إن المختار خارج عليك لا محالة فإن إبراهيم الأشتر قد بايعه سرا ، واشتمل ديوانه على بضعة عشر ألف رجل ما بين فارس وراجل ، فخذ حذرك! فأرسل ابن مطيع إلى قواده فجمعهم في قصر الأمارة ، ثم أخبرهم الخبر وقال : اريد منكم أن يكفيني كل واحد منكم ناحيته التي هو فيها ، فإن سمعتم الأصوات قد علت في جوف الليل فوجهوا إليهم الخيل واكفوني أمرهم.

فقالوا : نفعل ذلك أيها الأمير! ولا يهولنك أمر المختار ، فإنما بايعه شرذمة قليلة من هؤلاء الترابية ، وخرجوا منه ، فصار عبد الرحمن بن سعيد ابن قيس الهمداني إلى جبانة السبيع من همدان ؛ وصار كعب بن أبي كعب الخثعمي إلى جبانة بشير ؛ وصار زحر بن قيس إلى جبانة كندة ؛ وصار شمر ابن ذي الجوشن الضبابي إلى جبانة سالم ؛ وصار عبد الرحمن بن منقذ إلى جبانة الصيدائيين ؛ وصار يزيد بن الحرث بن رويم الى جبانة مراد ، وصار شبث بن ربعي الى السبخة ، فنزل هؤلاء القواد في هذه المواضع من الكوفة يوم الأثنين من شهر ربيع الآخر ، في الآلة والسلاح ، وخرج إبراهيم ابن الأشتر ليلة الثلاثاء إلى المختار ، وقد بلغه أنّ تلك الجبانات شحنت بالخيل

٢٣٩

والرجال ، وأنّ الشرط قد أحاطوا بالأسواق ، فسار في مائة رجل من بني عمه عليهم الدروع قد ظاهروها بالأقبية ، حتى إذا جاوز دار عمرو بن حريث الى دار سعيد بن قيس ، ثم الى درب اسامة استقبلهم إياس بن مضارب العجلي صاحب الشرطة في نفر من أصحابه وفي أيديهم السلاح والحراب ، فقال : من هؤلاء؟ فقال له إبراهيم : نحن هؤلاء ، فامض لشأنك! فقال إياس : وما هذا الجمع الذي معك يا ابن الأشتر؟ فو الله ، إنّ أمرك لمريب ، وقد بلغني أنك تمرّ هاهنا في كل ليلة بجمعك هذا ، فو الله ، لا تزايلني حتى آتي بك إلى الأمير عبد الله بن مطيع فيرى فيك رأيه ، فقال إبراهيم : خل ويحك سبيلنا وامض لشأنك ، أنت تمضي بي الى الأمير ، يا ماص بضر أمه(١) ؟ قال : نعم! فقال إبراهيم : يا عدو الله! ألست من قتلة الحسين بن علي؟ ثم التفت إلى رجل من أصحاب إياس يكنى أبا قطن الهمداني ، فتناول رمحه من يده وطعن إياس طعنة في صدره نكسته عن فرسه ، ثم قال لأصحابه : انزلوا فخذوا رأسه ، فنزل بعض أصحابه فاحتز رأسه ، ومر أصحاب إياس هربا على وجوههم ، وأتى إبراهيم الى المختار فقال : قم أيها الأمير! فقد كنا عزمنا على أن نخرج ليلة الخميس ، وقد حدث أمر فلا بدّ معه من الخروج الساعة ، فقال المختار : وما الأمر رحمك الله؟ فحدّثه الحديث ، فقال المختار : بشرك الله بخير فهذا أوّل الظفر.

ثم صاح المختار برجل من أصحابه فقال : يا سعيد بن منقذ! قم فاشعل النار في هراوي(٢) القصب ، وقم أنت يا عبد الله بن شداد! فناد في الأزقّة : يا منصور أمت!(٣) ، وقم أنت يا سفيان بن ليلى فناد في الناس بها ، وقم أنت

__________________

(١) البظر : الفرج ـ فهي كلمة تقولها العرب استحقارا.

(٢) الهراوى : أعواد القصب وغيره المجموعة كالاطنان.

(٣) يا منصور أمت : شعار في الحرب للنبي وعليّ (عليهما‌السلام).

٢٤٠