المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه11%

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 348

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه
  • البداية
  • السابق
  • 348 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47110 / تحميل: 4595
الحجم الحجم الحجم
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

المجالس الفاخرة

في

مآتم العترة الطاهرة

١٢١

١٢٢

التعريف الكتاب

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على خاتم رسله ، وأهدى سُبله ، محمد سيد الأنبياء ، وأفضل من أقلّته الأرض ومن عرج به إلى السماء ، وعلى آله المعصومين المظلومين ، الذين افترض الله تعالى مودّتهم وولايتهم وسلّم تسليماً كثيراً.

وبعد: فيقول العبد الجاني علي بن إسماعيل بن جواد بن إسماعيل بن محمد بن محمد بن إبراهيم - الملقّب بشرف الدين - الموسوي العاملي غفر الله ذنوبه ، وستر عيوبه ، انّ سيّدنا ومولانا سماحة الامام وآية الله الملك العلام السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي رفع الله درجته كان قد ألّف سنة ١٣٣٠ ه كتاب «المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة» ، فجعله عبارة عن مقدّمة وأربعة أجزاء في مجلّدات أربعة ، وفي سنة ١٣٣٢ ه شرع في طبعه ، فما تمّ طبع المقدّمة حتى طرقت العالمين طوارق الحرب العامّة(١) فمنعت من إكمال الطبع. وفي سنة ١٣٣٨ ه مُني قدّس الله سرّه في سبيل الله بما مُني به أجداده الطاهرون ، فشرّد في الله عز وجل ، ونُهبت داره ، وتمزّقت - بعين الله تعالى - كتبه كلّ ممزّق ، فكان هذا الكتاب ممّا اُصيبت الامّة بفقده يومئذ.

وكان الملجد الأول منه: في هدي النبي وسيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله منذ نشأ

____________________

(١) أي الحرب العالمية الاولى والتي اندلعت سنة ١٩١٧ م.

١٢٣

حتى اختار الله له دار كرامته ، وقد تتبّع خصائصه المقدّسة قبل البعثة وبعدها ، فمثّلها أعلاماً لنبوّته ، وآيات بيّنات على صدق دعوته ، فكانت شؤونه بمجرّدها أدلّ على رسالته من سائر معجزاته الباهرة ، وآياته الظاهرة ، وقد أقام قدّس سرّه من أفعال النبي وأقوالهصلى‌الله‌عليه‌وآله أدلّة محسوسة ، وبراهين ملموسة ، على طرز حديث ، واسلوب جديد ، يألفه فلاسفة العصر ولا يسعهم أن يقفوا أمامه الاموقف التسليم طوعاً أو كرهاً.

المجلد الثاني: في أحوال أمير المؤمنين ، وسيّدة نساء العالمين ، ومجتباهما أبي محمد السبط الأكبر سيّد شباب أهل الجنّة ، وقد اشتمل على سيرتهم ومناقبهم وفضائلهم ، وقد أوردها - أعلى الله مقامه - على وجه الاستدلال على عصمتهم وإمامتهمعليهم‌السلام .

المجلد الثالث: خاصّ بسيّد الشهداء أرواحنا له الفداء.

المجلد الرابع: في التسعة من أبنائه المعصومينعليهم‌السلام ، وقد اشتمل على ما لم يأت به أحد من الاستدلال على إمامة التسعة بمجرّد هديهم وسمتهم ، وأفعالهم وأقوالهم ، وقد أبرز أسراراً مكنونة ، وحكماً في افعالهم بالغة.

وتخلص في كلّ مجلس منن مجالس الأجزاء الأربعة إلى مصائب أهل البيتعليهم‌السلام الدالّة على جلالة قدرهم ، وعظيم صبرهم ، فأسفاً على فقد هذا الكتاب الذي لم يبق منه الامقدّمته المطبوعة كرسالة على حده ، وهي في بابها ممّا لا نظير له ، وقد أثبت فيها بالأدلّة الشرعية ، والفلسفة العقلية ، حسن المآتم الإمامية ، والمظاهرات الحسينية ، بما لم يسبق إليه ، ولا يلحق فيه.

وقد اُلتقطت من أفواه قرّاء المآتم بعض المجالس المحفوظة ، وهي غير مرتّبة ، ولا واقعة في مواقعها التي أوقعها فيها المؤلّف أعلى الله مقامه.

١٢٤

وجمعتها في حياته قدّس الله نفسه الزكية ، وقرأتها عليه من أوّلها حتى انتهائها ، فأقرّها ، وحبّذ عملي هذا وباركه.

وإنّا خسرنا - كما خسرت الامّة الاسلامية - قائداً حكيماً ، ومصلحاً عظيماً ، وبطلاً معلماً من أبطال الفكر والقلم ، والعلم والعمل ، والإصلاح والبناء ، تغمّده الله برحمته ورضوانه ، وأسكنه الفسيح من جنانه ، ولا حول ولا قوة الابالله العلي العظيم.

وكان أعلى الله مقامه قد ألقى نظرة على المقدّمة ، ورتّبها بعض الترتيب وحوّرها مجالس نثبتها كما هي بلا نقيصة ولا زيادة.

١٢٥

١٢٦

مقدّمة الكتاب(١)

الأصل العملي يقتضي إباحة البكاء على مطلق الموتى من المؤمنين ، ورثائهم بالقريض ، وتلاوة مناقبهم ومصائبهم ، والجلوس حزناً عليهم ، والانفاق عنهم في وجوه البر ، ولا دليل على خلاف هذا الأصل ، بل السيرة القطعية ، والأدلّة اللفظية حاكمان بمقتضاه ، بل يستفاد من بعضها استحباب هذه الامور إذا كان الميّت من أهل المزايا والآثار النافعة ، وفقاً لقواعد المدينة ، وعملاً باُصول العمران ، لأنّ تمييز المصلحين يكون سبباً في تنشيط أمثالهم ، واداء حقوقهم يكون داعياً إلى كثرة الناسجين على منوالهم ، وتلاوة أخبارهم ترشد العالمين إلى اقتفاء آثارهم، وذكرى ما أصاب الأئمة في سبيل مصالح الامّة ، تبعث فيها إلى روح الايمان والهدى، وتأخذ بأعناقها وقلوبها إليهم ، وإن طال العهد وبعد المدى.... وهنا مطالب خمسة:

الأول: في البكاء.

الثاني: في الرثاء.

الثالث: في تلاوة مناقب الميّت ومصائبه.

الرابع: في الجلوس حزناً عليه.

الخامس: في الانفاق عنه في وجوه البر.

____________________

(١) ذُكرت هذه المقدّمة بالتفصيل في «المقدّمة الزاهرة» التي تجدها في أوّل كتابنا هذا ، وقمنا هناك بذكر مصادر جميع الروايات التي وردت فيها، ولذا سوف لا نعيد تخريج الروايات هنا الا تلك التي لم تذكر في «المقدّمة الزاهرة». المحقّق.

١٢٧

وهذه المطالب الخمسة هي كلّ ما تقوم به الشيعة في مجالسها الحسينية.

ونحن في هذه المقدّمة نثبت استحبابها شرعاً ، وإنّا مقتدون فيها باهل البيت العصمة ، ومعدن الهدى والرحمة ، وانّ الحكم فيها بين الرجال والنساء سوآء ، وانّ الفلسفة الصحيحة تقتضي رجحان هذه المآتم عقلاً ، وتفصيل ذلك كلّه في مجالس.

المجلس الأول: في البكاء

لا ريب في جواز البكاء على موتى المؤمنين ، بدليل فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أمّا فعله فمتواتر في موارد عديدة:

أحدها: يوم مات عمّه وكافله أبو طالب.(١)

ثانيها: يوم استشهد عمّه الحمزة في اُحد.(٢)

____________________

(١) قالرحمه‌الله :... روي عن عليّعليه‌السلام قال: لمـّا مات أبو طالب أخبرت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بموته ، فبكى وقال: اذهب فاغسله وكفّنه وواره ، غفر الله له ورحمه.

(٢) قالرحمه‌الله : فعن ابن مسعود: ما رأينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باكياً أشدّ من بكائه على حمزة ، وضعه في القبلة ، ثمّ وقف على جنازته وانتحب حتى نشق - أي شهق حتى بلغ الغشى - يقول: يا عمّ رسول الله ، يا حمزة ، يا أسد الله ، وأسد رسول الله ، يا حمزة ، يا فاعل الخيرات ، يا حمزة ، يا كاشف الكربات ، يا ذابّ عن وجه رسول الله... إلى آخر نياحته وندبته... (انظر: السيرة الحلبية ١: ٤٦١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣: ٣٨٧). وسائر من أرّخ مقتل حمزة في غزوة اُحد ، وترى ندبة النبي ونياحته هذه قد عدّد فيها

١٢٨

ثالثها: يوم استشهد ابن عمّه جعفر ، وزيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة في مؤتة.(١)

رابعها: يوم مات ولده ابراهيم إذ بكى عليه. فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله !

قال: يا بن عوف ، انّها رحمة(٢) ثم اتبعها - يعني عبرة - باُخرى فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : انّ العين تدمع والقلب يحزن ، ولا نقول الاما يرضي ربّنا ، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.

خامسها: يوم زارصلى‌الله‌عليه‌وآله قبر اُمّه آمنة ، فبكى وأبكى من

محاسن عمّه بما يهيج الحزن واللوعة عليه.

وقال ابن عبد البر في ترجمة حمزة من الاستيعاب: لمـّا رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حمزة قتيلاً بكى ، فلما رأى ما مثّل به شهق.

وذكر المؤرّخون: انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يومئذ إذا بكت صفيّة يبكي ، وإذا نشجت ينشج ، قالوا: وجعلت فاطمة تبكي ، فلمّا بكت بكى رسول الله.

وهذا الحديث حجّة من جهة جواز البكاء من جهة أنّه بكىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن جهة أنّه أقرّ صفيّة والزهراء على بكائهما ، على انّ مجرّد بكاء سيّدة النساء حجّة قاطعة.

____________________

(١) قالرحمه‌الله : ذكر ابن عبد البر في أحوال جعفر من استيعابه: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بكى على جعفر وزيد وقال - يندبهما:-: أخواي ومؤنساي ومحدّثاي.

وأخرج البخاري في أبواب الجنائز من صحيحه: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نعى جعفراً وزيداً وابن رواحة وانّ عينيه لتذرفان.

(٢) قالرحمه‌الله : أخرجه البخاري في باب قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّا بك لمحزونون ، من أبواب الجنائز... ولا يخفى ما في تسميتها رحمة من الدلالة على حسن البكاء ، وأراد بقوله: انّ العين تدمع... إلى آخره: أن لا إثم بدمع العين وحزن القلب ، وانّما الاثم بقول ما يسخط الربّ ، كالاعتراض عليه عزّ وجل.

١٢٩

حوله.(١)

سادسها: يوم ماتت احدى بناتهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذ جلس على قبرها وعيناه تدمعان.

سابعها: يوم مات صبي لأحدى بناته إذ فاضت عيناه يومئذ ، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله ؟

قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، « وانّما يرحم الله من عباده الرحماء».(٢)

ثامنها: يوم اشتكى سعد بن عبادة فأتاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يعوده ومعه بعض أصحابه ، فوجده في غاشية أهله ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : قد قضى ؟

قالوا: لا يا رسول الله ، فبكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا رأى القوم

____________________

(١) قالرحمه‌الله : وهذا الحديث يشتمل على فعله وتقريرهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو حجّة من جهتين.

أقول: روى الشيخ الطبرسي في اعلام الورى بأعلام الهدى بإسناده عن بريدة قال: انتهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى رسم قبر ، فجلس وجلس الناس حوله، فجعل يحرّك رأسه كالمخاطب ، ثمّ بكى ، فقيل: ما يبكيك يا رسول الله ؟

قال: هذا قبر آمنة بنت وهب ، استأذنت ربّي في أن أزور قبرها فأذن لي فأدركتني رقّتها فكبيت ، فما رأيت ساعة أكثر باكياً من تلك الساعة.

فانظر - عزيزي القارئ - بكاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على اُمّه وإقامته المأتم عليها بعد عشرات من السنين ، حتى بكى وأبكى أصحابه ، وهي باعتقاد أهل السنّة كافرة ، لهذا روى مسلم هذا الحديث: استاذنت ربّي في أن استغفر لها ، فلم يأذن لي ؟!

انظر: اعلام الورى: ٣١٦ ، ارشاد الساري - الهامش - ٤: ٣٢٥ ، كتاب الجنائز.

(٢) قالرحمه‌الله : تأمّل في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : هذه رحمة ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : وانّما يرحم الله من عباده الرحماء ، يتّضح لك استحباب البكاء.

١٣٠

بكاءه بكوا ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ان الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب... الحديث.(١)

والصحاح الدالة على بكائه على الموتى ممّا لا يكاد يحصى.

وأما قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقريره الدالان على جواز البكاء فمستفيضان ومواردهما كثيرة.

احدها: يوم استشهد جعفر الطيّار ، إذ جاءت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله امرأته أسماء بنت عميس فعزّاها ، ودخلت فاطمةعليها‌السلام وهي تبكي وتقول: واعماه.

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : على مثل جعفر فلتبك البواكي.(٢)

ثانيها: يوم رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من اُحد ، وجعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من رجالهن.

فقال - بعد أن أقرّهنّ على البكاء -: ولكن حمزة لا بواكي له ، ثمّ نام فانتبه وهن يبكين حمزة فهن إلى اليوم إذا بكين يندبن حمزة.(٣)

____________________

(١) قالرحمه‌الله : وهذا الحديث حجّة من ثلاث جهات ؛ فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقوله وتقريره.

(٢) قالرحمه‌الله : هذا الحديث مستفيض وطرقه صحيحة ، وقد ذكره ابن عبد البر في ترجمة جعفر من الاستيعاب ، وهو مشتمل على تقرير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على البكاء وأمره به ، على أنّ مجرد بكاء الزهراء حجّة بالغة.

(٣) قالرحمه‌الله : ولا تنس كلمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في طلب البكاء على حمزة وما فيها من الدلالة على الاستحباب ، وحسبك بها ، وبقوله: على مثل جعفر فلتبك البواكي دليلاً على ذلك...

وأمّا ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم من انّ الميّت يعذّب ببكاء أهله عليه. وفي

١٣١

ثالثها: ثوم مات رقية بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث بكت عليها النساء فجعل عمر يضربهنّ بسوطه - مع انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرّهنّ على البكاء - ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : دعهن يبكين.

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرحمة... وقعدصلى‌الله‌عليه‌وآله على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي ،

رواية: ببعض بكاء أهله عليه. وفي رواية: ببكاء الحيّ. وفي رواية: يعذب في قبره بما ينح عليه. وفي رواية: من يبك عليه يعذّب. فانّه خطأ من الرواي بحكم العقل والنقل.

قال الفاضل النووي - عند ذكر هذه الروايات في باب الميّت - ما هذا لفظه: هذه الروايات كلّها من رواية عمر بن الخطّاب وابنه عبد الله.

[قال:] وأنكرت عائشة عليهما ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه ، واحتجّت بقوله تعالى: «ولا تزر وازرة وزر اُخرى» إلى آخر كلامه.

وأنكر هذه الروايات أيضاً ابن عباس واحتجّ على خطأ راويها ، والتفصيل في الصحيحين وشروحهما ، وما زالت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض حتى أخرج الطبري في حوادث سنة ١٣ من تاريخه عند ذكر وفاة أبي بكر في الجزء الرابع من تاريخه بالإسناد إلى سعيد بن المسيب قال: لمـّا توفّي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح ، فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها فنهاهنّ على البكاء على أبي بكر ، فأبين أن ينتهين ، وقال عمر لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إليّ ابنة أبي قحافة. فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: انّي أحرج عليك بيتي. فقال عمر لهشام: ادخل فقد أذنت لك ، فدخل هشام وأخرج اُمّ فروة اُخت أبي بكر إلى عمر فعلاها بالدرّة ، فضربها ضربات ، فتفرّق النوح حين سمعوا ذلك.

قلت: كأنّه لم يعلم تقرير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نساء الأنصار على البكاء على موتاهنّ ، ولم يبلغه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لكن حمزة لا بواكي له» ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «على مثل جعفر فلتبك البواكي» ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما يرحم الله من عباده الرحماء».

ولعله نسي نهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ايّاه عن ضرب البواكي يوم ماتت رقيّة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسي نهيه إيّاه عن انتهارهن في مقام آخر.

١٣٢

فجعلصلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح دمعها بثوبه رحمة لها.

رابعها: يوم مرّت جنازة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعها بواكي فنهرهنّ عمر ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : دعهنّ يا عمر ، فانّ النفس مصابة والعين دامعة.

إلى غير ذلك ممّا لا يسعنا استيفاؤه....

وقد بكي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمعليهم‌السلام ، إذ غيّب الله ولده. وقال:( وَ قَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ کَظِيمٌ ) (١) حتى قيل: ما جفت عيناه من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً، وما على وجه الأرض أكرم على الله تعالى منه.....

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنه سأله جبرائيلعليه‌السلام : ما بلغ وجدُ يعقوب على يوسف.

قال: وجد سبعين ثكلى.

قال: فما كان له من الأجر ؟

قال: أجر مائة شهيد.

أقول: أي عاقل يرغب عن مذهبنا في البكاء: بعد ثبوته عن الأنبياء:( وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) (٢) ، وقد استمرّت سيرة الائمة على الندب والعويل ، وأمروا أولياءهم بإقامة مآتم الحزن على الحسين جيلاً بعد جيل.

قال الصادقعليه‌السلام : إنّ علي بن الحسينعليهما‌السلام بكى على أبيه

____________________

(١) سورة يوسف: ٨٤.

(٢) سورة البقرة: ١٣٠.

١٣٣

مدّة حياته ، وما وضع بين يديه طعام الابكى ولا اوتي بشراب الابكى ، حتى قال له بعض مواليه: جعلت فداك يابن رسول الله ، إنّي أخاف أن تكون من الهالكين.

قالعليه‌السلام :( إِنَّمَا أَشْکُو بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‌ ) (١) .(٢)

وفي رواية اخرى قال: ويحك انّ يعقوبعليه‌السلام كان له اثنا عشر ولداً فغيّب الله واحداً منهم فايبضّت عيناه من كثرة بكائه عليه ، واحدودب ظهره من الغمّ وابنه حيّ في الدنيا ، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمومتي وسبعة عشر(٣) من أهل بيتي مقتولين حولي.

وكان إذا أخذنا إناء ليشرب بكى حتى يملأها دماً ؛ فقيل له في ذلك ، فقال: كيف لا أبكي وقد منع أبي الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش...

وعن الصادقعليه‌السلام : البكّاؤون خمسة: آدم بكى على الجنّة ، ويعقوب بكى على يوسف ، ويوسف بكى على يعقوب ، وفاطمة بكت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى قيل لها: آذيتنا بكثرة بكائك ، وعلي بن الحسين بكى على أبيه حتى لحق بربّه ، وما وضع بين يديه طعام الابكى ، وكان يقول: انّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك العبرة....(٤)

وقال الصادقعليه‌السلام : وكان جدّي علي بن الحسينعليهما‌السلام إذا ذكره - يعني الحسين بأبي واُمّي - بكى حتى يبكى لبكائه رحمة له من رآه [قال]: وانّ الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كلّ من في الهواء والسماء،

____________________

(١) سورة يوسف: ٨٦.

(٢ و٤) كامل الزيارات: ١٠٧ ح ١.

(٣) انظر تعليقتنا حول عدد الشهداء من أهل البيتعليهم‌السلام في المقدّمة الزاهرة ص: ٦١.

١٣٤

وما من باك يبكيه الا وقد وصل فاطمة وأسعدها ، ووصل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأدّى حقّنا.

وقال الرضاعليه‌السلام : إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه الظلم والقتال فاستحلّت فيه دماؤنا ، وهتكت فيه حرمتنا ، وسبيت فيه ذرارينا ونساؤنا ، واُضرمت النار في مضاربنا ، وانتهب ما فيها من ثقلنا ، ولم ترع لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حرمة في أمرنا.

إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلّ عزيزنا ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، فانّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام.

ثمّ قالعليه‌السلام : كان أبي إذا دخل شهر المحرّم لا يرى فيه ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه...

وقالعليه‌السلام : من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة ، ومن ذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون ، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.

وعن الريّان بن شبيب قال: دخلت على الرضاعليه‌السلام في أوّل يوم من المحرّم فقال لي: يا بن شبيب ، انّ المحرّم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه الظلم والقتال لحرمته ، فما عرفت هذه الامّة حرمة شهرها ، ولا حرمة نبيّهاصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ قتلوا في هذا الشهر ذرّيّته ، وسبوا نساءه ، وانتهبوا ثقله.

يا بن شبيب ، إن كنت باكياً لشيء فابك للحسينعليه‌السلام ، فانّه ذُبح كما يُذبح الكبش ، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض من

١٣٥

شبيه ، ولقد بكت السماوات السبع لقتله - إلى أن قال: -

يا بن شبيب ، انّ سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى ، فاحزن لحزننا ، وافرح لفرحنا ، وعليك بولايتنا....

وقالعليه‌السلام : من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة ، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه ، جعل الله عز وجل يوم القيامة يوم فرحه وسروره ، وقرّت بنا في الجنان عينه...

وعن الباقرعليه‌السلام قال: كان أبي يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسينعليه‌السلام دمعة حتى تسيل على خدّه ، صرف الله عن وجهه الأذى ، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار...

وقال الصادقعليه‌السلام لفضيل بن يسار: أتجلسون وتتحدّثون ؟ قال: نعم ، جعلت فداك.

قالعليه‌السلام : إن تلك المجالس أحبّها ، فأحيوا أمرنا ، فرحم الله من أحيا أمرنا.

يا فضيل ، من ذَكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه....

وعن أبي عمارة المنشد قال: ما ذكر الحسينعليه‌السلام عند أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام في يوم قط فرؤى فيه مبتسماً إلى الليل.

قال: وكان أبو عبد اللهعليه‌السلام يقول: الحسين عبرة كل مؤمن....

وعن الصادقعليه‌السلام قال: قال الحسينعليه‌السلام : أنا قتيل العبرة ،

١٣٦

لا يذكرني مؤمن الااستعبر(١) .... جعلت فداك.

يا بن النبيّ المصطفى ووصيّه

وأخا الزكي ابن البتول الزاكية

تبكيك عيني لا لأجل مثوبة

لكنما عيني لأجلك باكية

تبتلّ منكم كربلا بدم ولا

تبتلّ منّي بالدموع الجارية

أنست رزيّتكم رزايانا التي

سلفت وهوّنت الرزايا الآتية

ولقد يعزّ على رسول الله أن

تسبى نساءه إلى يزيد الطاغية

ويرى حسيناً وهو قرّة عينه

ورجاله لم تبق منهم باقية

وجسومهم تحت السنابك بالعرى

ورؤوسهم فوق الرماح العالية

ويزيد يقرع ثغره بقضيبه

مترنّماً منه الشماتة بادية(٢)

____________________

(١) قالرحمه‌الله : إلى غير ذلك من صحاح الأخبار المتواترة بمعناها عن الائمّة الأبرار ، وناهيك بها حجّة على رجحان المآتم الحسينيّة ، واستحبابها شرعاً ، فإنّ أقوال أئمّة الثقلين وأفعالم وتقريرهم ، حجّة لوجوب عصمتهم بحكم العقل والنقل ، كما هو مقرّر في مظانه من كتب المتكلّمين من أصحابنا.

وكنّا فصّلنا القول فيه في كتابنا الكبير «سبيل المؤمنين» ، على انّ الاقتداء بهم لا يتوقّف - عند الخصم - على عصمتهم ، بل كيفينا فيه ما اتّفقت عليه الكلمة من إمامتهم في الفتوى ، وانّهم في أنفسم لا يقصرون عن الفقهاء الأربعة وأضرابهم كالثوري ، والأوزاعي علماً ولا عملاً.

وأنت تعلم انّ هذه المآتم لو ثبتت عن أبي حنيفة ، أو صاحبيه أبي يوسف والشيباني ، لاستبق الخصم إليها ، وعكف أيّام حياته عليها ، فلِمَ ينكرها علينا ، ويندّد بها بعد ثبوتها عن أئمّة أهل البيت يا منصفون ؟!

(٢) وهي للشيخ عبد الحسين الأعسم ، وهو ابن الشيخ محمد علي بن الحسين بن محمد الأعسم الزبيدي النجفي ، وفد في حدود ١١٧٧ وتوفي سنة ١٢٤٧ ه بالطاعون العام في النجف ، كان فقيهاً عالماً محقّقاً أديباً وشاعراً. انظر أدب الطف للسيد المجاهد جواد شبر ٦: ٢٨٩.

١٣٧

المجلس الثاني: في الرثاء

لا ريب في جواز رثاء موتى المؤمنين ، لأصالة الإباحة ، وعدم الدليل على خلافها(١) وقد رثي آدم ولده هابيل ، واستمرت على ذلك ذرّيّته إلى يومنا هذا بلا

قد أوهنت جلدي الديار الخالية

من أهلها ما للديار ومالية

ومتى سألت الدار عن أربابها

يعد الصدى منها سؤالي ثانية

ومعالم أضحت مآتم لا ترى

فيها سوى ناع يجاوب ناعية

كانت غياثاً للمنوب فأصبحت

فلجميع أنواع النوائب حاوية

ورد الحسين إلى العراق وظنهم

تركوا النفاق اذ العراق كما هية

قست القلوب فلم تمل لهداية

تباً لها تيك القلوب القاسية

ما ذاق طعم فراتهم حتى قضى

عطشاً فغسّل بالدماء القانية

لابن النبي المصطفى ووصيه

وأخي الزكي ابن البتول الزاكية

تبكيك عيني لا لأجل مثوبة

لكنّما عيني لأجلك باكية

تبتل منكم كربلا بدم ولا

تبتل مني بالدموع الجارية

أنست رزيتكم رزايانا التي

سلفت وهونت الرزايا الاتية

وفجائع الأيام تبقى مدةً

وتزول وهي الى القيامة باقية

لهفي لركب صرّعوا في كربلا

كانت بها آجالهم متدانين

نصروا ابن نبيّهم طوبى لهم

نالوا بنصرته مراتب سامية

____________________

(١) قالرحمه‌الله : لكن الذي يظهر من القسطلاني - في باب رثي النبي سعد بن خولي ص ٣١٨ من الجزء ٣٠ من ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري - انّ جماعة يفصلون القول في الرثاء فيحرّمون منه ما اشتمل على مدح الميّت وذكر محاسنه الباعث على تحريك الحزن وتهييج اللوعة ، ويبيحون منه ما عدا ذلك ، والحقّ إباحته مطلقاً الا إذا اشتمل على الباطل ، إذ لا دليل على الحرمة ، والنهي الذي يزعمون انّما يستفاد منه الكراهة في موارد اُخر ليست موضوع بحثنا ، على انّ النهي غير صحيح عندنا.

١٣٨

نكير.

وأقرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليه اصحابه مع اكثارهم من تهيج الحزن به ، وتفنّنهم في ذلك بذكر مدائح الموتى في أخلاقهم وأفعالهم(١) .

ولمـّا توفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تنافست فضلاء الصحابة في رثائه.

فرثته بضعته الزهراء سيدة نساء العالمينعليها‌السلام بأبيات تهيج الأحزان ، ذكر القسطلاني منها هذين البيتين:

ماذا على من شمّ تربة أحمد

أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا

صبّت عليَّ مصائب لو أنّها

صبّت على الأيّام صرن لياليا

____________________

(١) قالرحمه‌الله : تلك مراثيهم في كتب الأخبار ، فراجع «الاستيعاب» ان أردت بعضها أحوال سيد الشهداء حمزة ، وعثمان بن مظعون ، وسعد بن معاذ ، وشمّاس بن عثمان بن الشريد ، والوليد بن الوليد بن المغيرة ، وأبي خرّاش الهذلي ، واياس بن بكير الليثي ، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وغيرهم.

ولاحظ من «الاصابة» أحوال ذي الجناحين جعفر بن أبي طالب ، وأبي زيد الطائي ، وأبي سنان بن حريث المخزومي ، والأشهب بن رميلة الدارمي ، وزينب بنت العوّام ، وعبد الله بن عبد المدان الحارثي ، وجماعة آخرين لا يحضرني أسمائهم ، ودونك كتاب (الدرّة في التعازي والمراثي) وهو في أوّل الجزء الثاني من العقد الفريد تجد فيه مراثي الصحابة ومن بعده شيئاً كثيراً.

وإذا تتبّعت كتاب «اُسد الغابة» تجد الكثير من مراثي الصحابة ، وليس شيء ممّا أشرنا إليه الا وقد اشتمل على ما يهيج الحزن ، ويجدّد اللوعة بمدح الميّت بالحقّ ، وذكر محاسنه بالصدق.

أقول: وقد فصّلنا الكلام في كلّ ما ذكره المصنّفرحمه‌الله في مقدّمة الكتاب ، فيمكنك مراجعة ذلك للاطّلاع على تلك المراثي وغيرها.

١٣٩

ورثته أيضا بأبيات تثير الأشجان ، ذكر ابن عبد ربّه منها هذين البيتين:

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

وغاب مذ غبت عنّا الوحي والكتب

فليت قبلك كان الموت صادفنا

لمـّا نعيت وحالت دونك الكتب

ورثاه كلّ من عمّته صفيّة ، وابن عمّه أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ، وأبي ذؤيب الهذلي ، وأبي الهيثم بن التيهان ، وامّ رعلة القشيرية ، وعامر بن الطفيل وغيرهم.

ومن استوعب الاستيعاب ، وتتبّع طبقات ابن سعد واُسد الغابة والاصابة يجد من مراثي الصحابة شيئاً كثيراً.(١)

وقد أكثرت الخنساء - وهي صحابية ذات شأن - من رثاء أخويها صخر ومعاوية - وهما كافران - وابدعت في مدائح صخر ، وأهاجت عليه لواعج الأحزان ، على انّها كانت من الصالحات ، وقد بذلت أولادها الأربعة في نشر الدعوة الإسلامية ، وسرّها قتلهم في هذا السبيل ، وما برحت ترثي أخويها حتى ماتت ، فما أنكر عليها في ذلك أحد.

وأكثر أيضاً متمّم بن نويرة من تهيج الحزن على أخيه مالك في مراثيه السائرة حتى وقف مرّة في المسجد وهو غاص بالصحابة ، واتكأ على سيّة قوسه أمام أبي بكر بعد صلاة الصبح فأنشد:

نعم القتيل إذ الرياح تناوحت

خلف البيوت قتلت يا بن الأزور

ثم أومأ إلى أبي بكر فقال مخاطباً له:

أدعوته بالله ثم غدرته

هو لو دعاك بذمة لم يغدر

____________________

(١) وللاطّلاع أكثر على هذه المراثي ، انظر: المقدّمة الزاهرة لهذا الكتاب.

١٤٠

فقال أبو بكر: والله ما دعوته ، ولا غدرته ، ثمّ قال متمّم:

لنعم حشو الدرع كان وحاسراً

ولنعم مأوى الطارق المتنوّر

لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه

حلو شمائله عفيف المأزر

وبكي حتى انحط عن سية قوسه.

قالوا: فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء ، فما أنكر عليه في بكائه ، ولا في رثائه منكر ، مع ما في بكائه ورثائه من المغازي السياسية ، بل قال له عمر: لوددت انّك رثيت زيداً أخي بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك ، فرثي متمّم بعدها زيداً فما أجاد.

فعاتبه عمر بقوله: لِمَ لَم ترث أخي كما رثيت اخاك ؟

فقال: إنّه والله ليحرّكني لأخي ما لا يحرّكني لأخيك.

واستحسن الصحابة والتابعين ومن بعدهم مراثيه في مالك ، فكانوا يتمثّلون بها إذا اقتضى الأمر ذلك ، كما فعلته عائشة إذ وقفت على قبر أخيها عبد الرحمن فبكت عليه وتمثّلت بقول متمّم:

وكنا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلمـّا تفرّقنا كأنّي ومالكاً

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

وما زال الرثاء فاشياً بين المسلمين في كل عصر ومصر لا يتناكرونه.

وحسبنا دليلاً على استحبابه في مآتمنا ما رواه أصحابنا عن زيد الشحّام قال: كنّا عند أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام نحن وجماعة من الكوفيين ، فدخل جعفر بن عفّان فقرّبه الإمام وأدناه ، ثم قال: يا جعفر بلغني انّك تقول الشعر في الحسين وتجيد.

١٤١

قال: نعم جعلت فداك.

قال: قل ، فأنشدته:

ليبك على الإسلام من كان باكياً

فقد ضيعت أحكامه واستحلّت

غداة حسين للرماح دريئة

وقد نهلت منه السيوف وعلّت

وغودر في الصحراء شلواً مبدداً

عليه عتاق الطير باتت وظلّت

فما نصرته اُمّة السوء إذ دعا

لقد طاشت الأحلام منهم وظلّت

وما حفظت قرب النبي ولا رعت

وزلّت بها أقدامها واستزلّت

أذاقته حرّ القتل امّة جدّه

فتبّت أكف الظالمين وشلّت

فلا قدّس الرحمن امّة جده

وإن هي صامت للإله وصلّت

كما فجعت بنت الرسول بنسلها

وكانوا كماة(١) الحرب حين استقلّت

فبكي الصادقعليه‌السلام ومن حوله حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته ثمّ قال: يا جعفر والله لقد شهدك الملائكة المقرّبون ، وأنّهم لهاهنا يسمعون قولك في الحسين ، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر ، وقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعتك الجنّة وغفر لك.

ثم قالعليه‌السلام : ألا ازيدك ؟

قال: نعم يا سيّدي.

قالعليه‌السلام : ما من أحد قال في الحسين شعراً ، فبكى وأبكى الا أوجب الله له الجنّة وغفر له.

وقد نسج جعفر بن عفّان في هذا الرثاء على روي سليمان بن قتّة

____________________

(١) كذا في الأصل ، وفي المصدر: حماة.

١٤٢

العدوي(١) ، إذ مرّ بكربلاء لثلاث بعد قتل الحسين وأصحابه ، فنظر إلى مصارعهم ومضاربهم ، فأنشأ يقول ويبكي:

مررت على أبيات آل محمد

فلم أرها أمثالها(٢) حين حلّت

فلا يبعد الله الديار وأهلها

وإن أصبحت منهم برغمي تخلّت

وانّ قتيل الطفّ من آل هاشم

أذلّ رقاب المسلمين فذلّت

وكانوا غياثاً ثم أضحوا رزية

ألا عظمت تلك الرزايا وجلّت

ألم تر أن الشمس أضحت مريضة

لقتل حسين والبلاد اقشعرّت

وقد أعولت تبكي السماء لفقده

وأنجمها ناحت عليه وصلّت(٣)

____________________

(١) في القاموس: قتّة: كضبّة ، اسم (امُ سليمان) بن حبيب المحاربي (التابعي) المشهور يعرف بابن قتّة ، وهو القائل في رثاء الحسينعليه‌السلام : وانّ قتيل الطف من آل هاشم أذلّ رقاب المسلمين فذلّت

وهو مولى بني تيم بن مرّة ، توفّي بدمشق سنة ١٢٦ ه ، وينبغي أن يكون أوّل من رثى الحسينعليه‌السلام ، لأنّه مرّ بكربلاء بعد قتل الحسينعليه‌السلام بثلاث ليال ، فنظر إلى مضاربهم ، واتّكأ على قوس له عربية وأنشأ يقول: مررت....

وقيل: إن هذه المرثيّة لأبي الرميح (الزميج) الخزاعي.

انظر: سير أعلام النبلاء ٤: ٥٩٦ (وذكر انّ قتّة اسم امّه) ، الجرح والتعديل ٤: ١٣٦ ، المعجم الأوسط ٢: ٤٥٧ ، طبقات القرّاء ١: ٣١٤ ، تهذيب الكمال ٦: ٤٧٧.

(٢) في بعض المصادر: كعهدها ، وقد صحّفت في مصادر اخرى ، فقد وردت في تهذيب الكمال وأنساب الأشراف: «فألفيتها أمثالها...» وهذا التصحيف متعمّد من أشياع آل أبي سفيان لعنهم الله.

(٣) قالرحمه‌الله : أنشد هذه الأبيات أبو تمام في الحماسة ، والمبرد في الكامل لسليمان بن قتّة ، ونسبها ابن الأثير في آخر وقعة الطف من كامله الى التيمي تيم مرّة قال: وكان منقطعاً إلى بني هاشم ، والظاهر أنّه أراد سليمان بن قتّة لأنّه تيمي بالولاء.

وقال الخطيب التبريزي في شرح الحماسة: رواها البرقي لأبي زميج الخزاعي ، وأوردها ابن عبد البر في ترجمة الحسين من الاستيعاب ، فنسبها إلى سليمان بن قتّة

١٤٣

ورحم الله الحسين بن الضحاك(١) إذ نسج على هذا الروي والقافية ، فقال:

مررت على أبيات آل محمد

فلم أرها أمثالها(٢) حين حلّت

فلا يبعد الله الديار وأهلها

وإن أصبحت منهم برغمي تخلّت

وانّ قتيل الطفّ من آل هاشم

أذلّ رقاب المسلمين فذلّت

وكانوا غياثاً ثم أضحوا رزية

ألا عظمت تلك الرزايا وجلّت

ألم تر أن الشمس أضحت مريضة

لقتل حسين والبلاد اقشعرّت

وقد أعولت تبكي السماء لفقده

وأنجمها ناحت عليه وصلّت(٣)

ولله درّ عواطف الامام محمد بن إدريس الشافعي(٥) حيث يقول من أبيات له في رثاء الحسينعليه‌السلام :(٦)

تزلزلت الدنيا لآل محمد

وكادت لهم صمّ الجبال تذوب

فمن مبلغ عنّي الحسين رسالة

وان كرهتها أنفس وقلوب

قتيل بلا جرم كأن قميصه

صبيغ بماء الأرجوان خضيب(٧)

الخزاعي ، وقيل: انّها لأبي الزميج الخزاعي.

____________________

(١) هو أبو علي الحسين بن الضحاك بن ياسر الباهلي المعروف بالخليع أو الخالع ، ولد سنة ١٦٢ ومات سنة ٢٥٠ فيكون عمره ٨٨ سنة ؛ وقيل: بل عمّر أكثر من مائة سنة ، وكانت ولادته بالبصرة. انظر: أدب الطف ١: ٣١٠.

(٢) في أدب الطف: وأوكف.

(٣) في أدب الطف: بغبطة.

(٤) الدرّ النضيد: ١٢٦.

(٥) هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع ، ولد سنة ١٥٠ ه وتوفي سنة ٢٠٤ بمصر ، وهو أحد أئمة المذاهب الأربعة السنّية.

(٦) انظر: ينابيع المودّة ٢ ك ٣٥٦ ، بحار الانوار ٤٥: ٢٧٤ ، فرائد السمطين ٢: ٢٦٦.

(٧) قالرحمه‌الله : هذا الرثاء نقله عن الإمام الشافعي جمال الدين الحافظ الزرندي المدني كما في كتاب معارج الأصول ، ونقله الفاضل البلخي في ينابيعه.

١٤٤

وروى الصدوق في أماليه وفي ثواب الأعمال ؛ وابن قولويه في كامله بالإسناد إلى أبي عمارة قال: دخلت على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام فقال: أنشد في الحسين ، فأنشدته فبكى ، ثمّ أنشدته فبكى ، قال: فوالله ما زلت أنشده وهو يبكي حتى سمعت البكاء من الدار.

فقال: يا أبا عمارة من أنشد في الحسين فأبكى فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنّة....

وروى الصدوق في ثواب الأعمال ، وابن قولويه في كامله بالإسناد إلى أبي هارون المكفوف قال: دخلت على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ، فقال: يا

أقول: وأورد هذه الأبيات ابن شهراشوب في مناقب آل أبي طالب:

تأوّب غمّي والفؤاد كئيب

وأرّق نومي فالرقاد غريب

وممّا نفي نومي وشيّب لـمّتي

تصاريف ايّام لهنّ خطوب

فمن مبلّغ عنّي الحسين رسالة

وإن كرهتها أنفس وقلوب

قتيل بلا جرم كأنّ قميصه

صبيغ بماء الأرجوان خضيب

وللسيف أعوال وللرمح رنّة

وللخيل من بعد الصهيل نحيب

تزلزلت الدنيا لآل محمّد

وكادت لهم صمّ الجبال تذوب

وغارت نجوم واقشعرت كواكب

وهتك أستار وشقّ جيوب

يصلّى على المبعوث من آل هاشم

ويغزى بنوه إنّ ذا لعجيب

لئن كان ذنبي حبّ آل محمد

فذلك ذنب لست عنه أتوب

هم شفعائي يوم حشري وموقفي

إذا ما بدت للناظرين خطوب

وقال الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في ينابيع المودّة: قال الحافظ جمال الدين المدني في كتابه (معراج الاصول) انّ الامام الشافعي أنشد:

تأوّه قلبي والفؤاد كئيب

وأرّق نومي فالسهاد عجيب

فمن مبلّغ عني الحسين رسالة

وإن كرهتها أنفس وقلوب

ذبيح ، بلا جرم كأنّ قميصه

صيبغ بماء الارجوان خضيب

الأبيات....

١٤٥

أبا هارون ، انشدني في الحسين ، فأنشدته - فلم يعجبه الانشاد لخلوّه من الرقّة المشجية وكأنّه تركها حياء من الإمامعليه‌السلام -.

فقال: لا ، - يعني لا تنشد بهذه الطريقة - ، بل كما تنشدون ، وكما ترثيه عند قبره.

قال: فأنشدته(١) حينئذ:

أمرر على جدث الحسين

فقل لاعظمه الزكيّة

يا أعظماً لا زلت من

وطفاء ساكبة رويّة(٢)

وإذا مررت بقبره

فأطل به وقف المطيّة

وابك المطهّر للمطهّـ

ـر والمطهّرة التقيّة

كبكاء معولة أتت

يوماً لواحدها المنيّة

قال: فبكى ، ثم قال: زدني ، فأنشدته القصيدة الاخرى:

يا مريم قومي واندبي مولاك

وعلى الحسين اسعدي ببكاك

قال: فبكى الصادق وتهايج النساء من خلف الستر ، فلمّا أن سكتن قال: يا أبا هارون ، مَن أنشد في الحسين فبكى وأبكى عشرة كتبت لهم الجنّة - إلى أن قال: - ومن ذُكر الحسين عنده فخرج من عينه مقدار جناح ذبابة كان ثوابه على الله ولم يرض له بدون الجنّة.

ودخل عبد الله بن غالب على الإمام الصادقعليه‌السلام فأنشده مرثيّته في الحسينعليه‌السلام ، فلمّا انتهى إلى قوله: لبلية... البيت ، صاحت باكية من وراء

____________________

(١) قالرحمه‌الله : أنشد أبو هارون هذه الأبيات وهي للسيد إسماعيل الحميري.

(٢) وطفاء - كحمراء -: منهمرة ، من قولهم: وطف المطر: انهمر ؛ ويقال: سحابة وطفآء ، أي: مسترخية لكثرة مائها.

١٤٦

الستر: يا أبتاه.(١)

وللإمام الثامن الضامنعليه‌السلام مع دعبل الخزاعي قضية مشهورة(٢) ؛

____________________

(١) انظر: كامل الزيارات: ١٠٥ ح ٣.

(٢) قالرحمه‌الله : أشار إليها الفاضل العباسي في أحوال دعبل من معاهد التنصيص في شرح شواهد التلخيص في اوّل ص ٣٧٣ ، وذكرها الصدوق في عيون أخبار الرضا ، والعلامة الأربلي في كشف الغمّة ، والمجلسي في بحار الأنوار ، وأبو الفرج الأصفهاني في أغانيه ، وغير واحد من المحدّثين والمؤرخين. أقول: وقد ذكرنا القصّة مفصّلة في الهامش أثناء تعليقناعلى ذكرها في المقدّمة الزاهرة.

أما أبيات القصيدة التي أنشدها دعبل فمنها:

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

لآل رسول الله من خيف من منى

وبالبيت والتعريف والجمرات

ديار علي والحسين وجعفر

وحمزة والسجاد ذي الثفنات

منازل كانت للصلاة وللتقى

وللصوم والتطهير والحسنات

إذا لم نناج الله في صلواتنا

بأسمائهم لم يقبل الصلوات

فيا ربّ زدني في هواي بصيرة

وزد حبهم يا ربّ في حسناتي

سأبكيهم ما حجّ لله راكب

وما ناخ قمريّ على الشجرات

سقى الله قبراً بالمدينة غيثه

فقد حلّ فيه الأمن والبركات

قبور ببطن النهر من جنب كربلا

معرسهم منها بشط فرات

توفّوا عطاشا بالفرات فليتني

توفّيت فيهم قبل حين وفاتي

الى الله أشكو لوعةً عند ذكرهم

سقتني بكأس الثكل والفظعات

أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً

وقد مات عطشاناً بشطّ فرات

اذاً للطمت الخدّ فاطم عنده

وأجريت دمع العين في الوجنات

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي

نجوم سماوات بأرض فلاة

ديار رسول الله أصبحن بلقعاً

وآل زياد تسكن الحجرات

وآل زياد في القصور مصونة

وآل رسول الله في الفلوات

١٤٧

وذلك لما وفد عليه بعبقريته التائية تلك القصيدة التاريخية الرنّانة ، التي تجاذبت بها أندية الأدب ، وانتشرت في أقطار العرب ، وقامت بتلاوتها في دار الرضا قيامة الأحزان ، وقرعت ساحته الشريفة بنوح دعبل بها الأشجان ، فبكى الإمام أحرّ بكاء ، وعلا من وراء الستر صراخ النساء ، وكان لأطفاله رنين ومأق ورغاء(١) حتى استولي عليه الاغماء ، واشترك في البكاء معه جنّة الأرض وملائكة السماء.

وقد علم الناس أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام قد أمر بشراً(٢) برثاء سيد الشهداء حيث قال:

يا بشر ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه ؟

قال: نعم يا بن رسول الله.

قالعليه‌السلام : ادخل المدينة وأنع أبا عبد الله.

قال بشر بن حذلم: فركبت فرسي ، وركضت حتى دخلت المدينة ، فلمّا بلغت مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رفعت صوتي بالبكاء ، وأنشأت: يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قُتل الحسين فأدمعي مدرارُ

الجسم منه بكربلاء مضرّجُ والرأس منه على القناء يدار(٣)

____________________

(١) قالرحمه‌الله : المأق: ما يأخذ الصبي بعد البكاء من الشهيق الشبيه بالفواق ، ورغاء الصبي: هو أشد ما يكون من بكائه.

(٢) وهو بشر بن حذلم ؛ وقيل أيضاً: ان اسمه بشير بن جذلم ، وهو من أصحاب الإمام السجادعليه‌السلام ، رافق عيال الإمام الحسينعليه‌السلام عند عودتهم من الشام إلى المدينة.

انظر: الملهوف: ٢٢٦.

(٣) حياة الإمام الحسين ٢: ٤٢٣ ، الملهوف: ٢٢٧.

١٤٨

المجلس الثالث: في تلاوة الأحاديث

لا ريب في رجحان تلاوة الأحاديث المشتملة على مناقب الموتى من المؤمنين ومصائبهم ، إذ تكون كذكرى لحياتهم ، تنتفع الامّة بها على قدر مكانتهم في محامد الصفات ، ومكارم الأخلاق ، ومحاسن الأفعال.

وانّ امّته تهتم بتاريخ عظمائها الممتازين في دينهم ودنياهم ، لتعد حافظة مجدها ، ناصحة لمن بعدها ، وقد جرت سيرة الخلف والسلف على ذكر مناقب الموتى ومصائبهم ، كتابة وخطابة ، نظماً ونثراً. والعقل والنقل يحكمان بحسن ذلك ، وقواعد المدنية تقتضيه ، واصول الترقّي في المعارف والفضائل توجبه ، إذ به تحفظ الآثار النافعة ، وتخلّد الأرواح الشريفة ، وبالتنافس فيه تعرج أبطال المنابر إلى أوج البلاغة ، وتستوي رجال المحابر ببراعتها على عرش البراعة.

وما أحوج الامّة إلى ذكرى ما أصاب سلفها من النوائب أيّام بؤسهم ، وما اكتسبوه من المآثر والمناقب أيّام عزّهم( إِنَّ فِي ذٰلِکَ لَذِکْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) (١) .

وهذا كتاب الله عز وجل وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله يمثّلان مناقب الأنبياء ومصائبهم بأجلى مظاهر التمثيل ، ويصوّران مثالب أعداء الله وأعداء أنبيائه بأوضح التصوير ، ولولا الكتاب والسنّة ، ما عرفنا فضائل أنبياء الله ، ولا رذائل أعدائه ، وأنّى لنا - لولا الكتاب والسنّة - بالوقوف على نصح الأنبياء لله تعالى ولعباده ، والصبر على الأذى الذي نالهم في سبيل الحق من النماردة

____________________

(١) سورة الزمر: ٢١.

١٤٩

والفراعنة والعمالقة ، وأصحاب الرسّ والأخدود وغيرهم.

فالقول بتحريم تلاوة مناقب أهل المناقب من الموتى ومصائبهم يستلزم تحريم تلاوة الكتاب والسنّة ، وقراءة التاريخ وعلم الرجال ، ومن يرضى لنفسه هذا الحمق ! ويختار لبصيرته هذا العمي ! نعوذ بالله من سفه الجاهلين.

وقف أمير المؤمنينعليه‌السلام على قبر خباب بن الأرت في ظهر الكوفة ، وهو أوّل من دفن هناك فقالعليه‌السلام - في تأبينه -:

رحم الله خباباً ، لقد أسلم راغباً ، وهاجر طائعاً ، وعاش مجاهداً ، وابتلي في جسمه أحوالاً ، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.

ووقف الإمام زين العابدين على قبر جدّه أمير المؤمنينعليهما‌السلام فقال:

أشهد انّك جاهدت في الله حقّ جهاده ، وعملت بكتابه ، واتّبعت سنن نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى دعاك الله إلى جواره، فقبضك إليه باختياره ، لك كريم ثوابه ، وألزم أعداءك الحجّة في ظلمهم ايّاك مع ما لك من الحجج البالغة.

ووقف الإمام الصادقعليه‌السلام على قبر جدّه الإمام الحسينعليه‌السلام فقال:

أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ، وأطعت الله ورسوله ، وعبدته مخلصاً ، وجاهدت في سبيله صابراً محتسباً حتى أتاك اليقين ، فلعن الله امّة قتلتك ، ولعن الله امّة ظلمتك ، ولعن الله امّة سمعت بذلك فرضيت به.(١)

____________________

(١) العقد الفريد ٢: ١٤٧.

١٥٠

ووقف الحسين على قبر أخيه الحسنعليهما‌السلام فقال:

أأدهن رأسي أم تطيب مجالسي

وخدّك معفور وأنت تريب

وليس حريباً من اُصيب بماله

ولكن من وارى أخاه حريب

غريب وأطراف البيوت تحوطه

ألا كلّ من تحت التراب غريب

بكائي طويل والدموع غزيرة

وأنت بعيد والمزار قريب(١)

ووقف محمد بن أمير المؤمنين - المعروف بابن الحنفيّة - على قبر اخيه ، وخليفة أبيه أبي محمد الحسن الزكي المجتبىعليه‌السلام فخنقته العبرة فقال:

يرحمك الله أبا محمد ، فلئن عزّت حياتك فقد هدّت وفاتك ، ولنعم الروح روح ضمّه بدنك ، ولنعم البدن بدن ضمّه كفنك ، وكيف لا تكون كذلك وأنت بقيّة ولد الأنبياء ، وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكساء ، غذّتك أكفّ الحقّ ، وربّيت في حجر الإسلام ، فطبت حيّاً وطبت ميّتاً ، وإن كانت أنفسنا غير طيّبة

____________________

(١) قال محمد بن أبي طالب في تسلية المُجالس وزينة المَجالس ، ولـمّا وضع الحسنعليه‌السلام في قبره أنشأ سيّدنا ومولانا أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام : أأدهنُ رأسي أم اُطيب مجالسي ورأسك معفور وأنت سليب

أأدهنُ رأسي أم اُطيّب مجالسي

ورأسك معفور وأنت سليب

أو استمتع الدنيا بشيء اُحبّه

ألا كلّ ما أدنى إليك حبيب

فلا زلت أبكي ما تغنّت حمامة

عليك وما هبّت صبا وجنوب

وما هملت عيني من الدمع قطرة

وما اخضرّ في دوح الحجاز قضيب

بكائي طويل والدموع غزيرة

وأنت بعيد والمزار قريب

غريب وأطراف البيوت تحوطه

ألا كلّ من تحت التراب غريب

فلا يفرح الباقي خلاف الذي مضى

فكل فتى للموت فيه نصيب

وليس حريباً من اُصيب بماله

ولكنّ من وارى أخاه حريب

نسيبك من أمسى يناجيك طرفه

وليس لمن تحت التراب نسيب

انظر: مناقب ابن شهراشوب ٤: ٤٥ ، تسلية المُجالس وزينة المَجالس ٢: ٦٥ ، بحار الأنوار ٤٤: ١٦٠ ذ ح ٢٩.

١٥١

بفراقك ، ولا شاكّة في الخيار لك.

ثمّ بكى بكاءاً شديداً وبكى الحاضرون حتى علا نشيجهم وفيهم الحسين واخوته وابن عبّاس وسائر الهاشميين.(١)

ولـمّا توفّي أمير المؤمنينعليه‌السلام قام الخلف من بعده أبو محمد الحسن الزكيعليهما‌السلام فقال:

لقد قتلتم الليلة رجلاً والله ما سبقه أحد كان قبله ، ولا يدركه أحد يكون بعده ، [والله] إن كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبعثه في السرية ، وجبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، [والله] ما ترك بيضاء ولا صفراء... إلى آخر كلامه.(٢)

ووقف أمير المؤمنينعليه‌السلام على الضريح الأقدس ، ضريح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ساعة دفنه فقال:

إن الصبر لجميل الاعنك ، وان الجزع لقبيح الاعليك ، وانّ المصاب بك لجليل ، وانّه بعدك لقليل.(٣)

وعن أنس بن مالك قال: لمـّا فرغنا من دفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقبلت فاطمةعليها‌السلام فقالت:

[يا أنس ،] كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التراب ؟

____________________

(١) تاريخ الاُمم والملوك (حوادث سنة ٤٠) ، العقد الفريد ٢: ٧٨.

(٢) تاريخ الاُمم والملوك ٥: ١٥٧.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣: ١٩٤ ، العقد الفريد ٢: ١٠٢.

١٥٢

ثم بكت ونادت: يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه ، يا أبتاه مِن ربّه ما أدناه ، يا أبتاه من ربّه ناداه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه ، يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه ، يا أبتاه لست بعد اليوم أراه.(١)

وكأنّي بها وقد أصلى ضلعها الخطب ، ولاع قلبها الكرب ، ولجّ فؤادها الحزن ، واستوقد صدرها الغبن ، حين ذهبت كاظمة ، ورجعت راغمة ، ثمّ انكفأت إلى قبر أبيها باكية شاكية قائلة:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كان شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

فاختلّ قومك فاشهدهم فقد نكبوا(٢)

فليت بعدك كان الموت صادفنا

لـمّا قضيت وحالت دونك الكثب(٣)

ولم تزل -: بأبي هي واُمّي - بعد أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات غصّة لا تساغ ، ودموع تترى من مقلة عبرى ، قد استسلمت للوجد ، واخلدت في بيت أحزانها إلى الشجون ، حتى لحقت بأبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله معصّبة الرأس ، قد ضاقت عليها الأرض برحبها.

فلمّا فرغ أمير المؤمنينعليه‌السلام من دفنها في ظلام الليل ، ورهقه من الحزن عليها ما عيل به صبره ، وضاق به صدره ، استقبل بوجهه ضريح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يشكو إليه بثّه وحزنه ، وقد جاشت في صدره غصص الهموم ،

____________________

(١) المصنف لعبد الرزاق ٣: ٥٥٣ ح ٦٦٧٣ ، الطبقات الكبرى ٢: ٣١١ ، صحيح البخاري ٦: ١٨ ، سنن ابن ماجة ١: ٥٢٢ ح ١٦٣٠ ، سنن النسائي ٤: ١٣ ، العقد الفريد ٣: ٢٣٠ ، المستدرك على الصحيحين ١: ٣٨٢.

(٢) قالرحمه‌الله : الموجود في شرح النهج ، واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب ، لكنّ الصحيح ما أثبتناه ، وهو المأثور عندنا ، ومعنى نكبوا: عدلوا.

(٣) العقد الفريد ٣: ١٩٤ ، النهاية لابن الأثير ٣: ١٥٦.

١٥٣

واعتلجت فيه حزازات الغموم ، فقال وهو يجرض بريقه ، ويميد به شجوه ، وقد انحلّت عقود دموعه ، وتناثرت لآلئ جفونه:

السلام عليك يا رسول الله ، وعلى ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ، قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري ، ورقّ عنها تجلّدي ، ألا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك موضع تعزٍ ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة ، وأمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد ، أو يحتار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبؤك ابنتك بتظافر اُمّتك على هضمها ، فأحفّها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخلق منك الذكر.(١)

فلأي الأمور تدفن سرّاً

بضعة المصطفى ويعفى ثراها

فمضت وهي أعظم الناس شجواً

في فم الدهر غصّة من جواها

وكأنّي بأمير المؤمنينعليه‌السلام واقفاً على قبرها وهو شجي بغصصه ، لا يملك دمعه ولا قلبه ، وكأنّي به ينشد:

لكل اجتماع من خليلين فُرقة

وكلّ الذي دون الممات قليل

وإنّ افتقادي واحداً بعد واحدٍ

دليل على أن لا يدوم خليل(٢)

____________________

(١) قالرحمه‌الله : هذا الكلام من الثابت عنهعليه‌السلام المأثور في كتاب نهج البلاغة.

(٢) العقد الفريد ٣: ١٩٨.

١٥٤

المجلس الرابع: في الجلوس حزناً على الموتى

لا ريب في أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حزن حزناً شديداً على شيخ الأباطح وبيضة البلد ، عمّه وكافله أبي طالب ، وعلى صدّيقته الكبرى امّ المؤمنين ، وقد ماتا في عام واحد ، فسماه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله «عام الحزن» ، ولزم بيته(١) وأقلّ من الخروج حزناً عليهما ، وكان إذا تهجّمت عليه قريش يندب عمّه فيقول: «يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك»(٢) .

وصحّ جلوسه في المسجد حزناً على ابن عمّه جعفر وصاحبيه زيد وابن رواحة.(٣)

وصحّ أيضاً أنه حزن حزناً شديداً ، لم ير أشدّ منه حين قتل القرّاء من أصحابه وقنت شهراً يستغفر لهم ، ويدعو على قاتليهم في قنوته.

والعقل يحكم برجحان الجلوس حزناً على فقد المصلحين من أهل الحفائظ والأيادي المشكورة ، لأنّ تمييزهم بذلك يكون سبباً في تنشيط أمثالهم ، وأداء حقّهم بعد موتهم ، ويكون داعياً إلى كثرة الناسجين على منوالهم.

____________________

(١) انظر: السيرة النبويّة ١: ١٠٨ ، الكامل في التاريخ ١: ٤٦٢ ، السيرة الحلبية ١: ٤٦٢ باب وفاة أبي طالب وخديجة.

(٢) السيرة النبويّة ١: ١٠٨.

(٣) قالرحمه‌الله : والحديث هذا ثابت في باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن ص ١٥٤ من الجزء الأوّل من صحيح البخاري ، وفي باب التشديد في النياحة ص ٣٤٥ من الجزء الأوّل من صحيح مسلم ، وثابت في صحيح أبي داود أيضاً.

١٥٥

أمّا الجلوس لذكرى ما أصاب الأئمّة في سبيل مصالح الاُمّة ، فيبعث فيها روح الايمان والهدى ، ويأخذ بقلوبها إليهم ، وان بعُد العهد وطال المدى.

وقول اللائمين: بأنّه لا يحسن الجلوس حزناً على الميّت إذا تقادم العهد بموته(١) لا يتمّ في فجائعنا بأهل البيت ، حيث لا يتلاشى الحزن عليهم مهما تقادم العهد بهم ، بل لا تخبو زفرة تلك الفجائع ، ولا تخمد لوعة هاتيك القوارع، ما بقي الزمان ، وكر الجديدان ، فقربُ العهد بها وبعده عنها سيان ، وما أولى هذا اللائم ، بقول بعض الأعاظم:

خلي اُميمة عن ملا

مك ما المعزّي كالثكول

ما الراقد الوسنان مث

ل معذب القلب العليل

سهران من ألم وه

ذا نائم الليل الطويل

ذوقي اُميمة ما أذو

ق وبعده ما شئت قولي

ورحم الله القائل:

ويل قلبي الشجي ممّا يعاني

من ملام الخلي طعناً ووخزا

ولو علم اللائم الأحمق بما في حزننا على أهل البيت من النصرة لهم ، والحرب الطاحنة لأعدائهم ، لخشع أمام حزننا الطويل ، ولأكبر الحكمة المقصودة من هذا النوح والعويل ، ولأذعن للأسرار في استمرارنا على ذلك في كل جيل ،

____________________

(١) قالرحمه‌الله : أخرج الإمام أحمد في ص ٢٠١ من الجزء الأول من مسنده من حديث الحسينعليه‌السلام عن جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وان طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً الاجدّد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم اُصيب بها.

وروى ابن ماجة وأبو يعلى عنه هذا الحديث أيضاً كما في ترجمتهعليه‌السلام من الاصابة.

١٥٦

وما أولاه وإيّانا بقول القائل:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني

أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتني

وعلمت أنّك جاهل فعذرتكا

على أنّ الأوامر المتواترة عن أئمّة العترة الطاهرة تستوجب التعبّد بترتيب آثار الحزن على الدوام ، ولو ثبتت هذه الأوامر عن أئمّة المذاهب الأربعة لعمل اللائمون بها ، فلماذا إذن يلوموننا بعد ثبوتها عن أئمّة العترة ، وسفينة نجاة الامّة ، وباب حطّة ، وأمان أهل الأرض ، وأعدل كتاب الله ، وعيبة رسوله ، لو كانوا ينصفون ؟؟

ولِمَ يلومنا اللائمون في حزننا ، مع تقادم العهد بمصيبتنا ، ويحبّذون استمرار أهل المدينة على ندب حمزة كلّما ناحوا على ميّت منهم ؟

فإن كان بكاؤهم على حمزة مواساة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمصيبته في عمّه ، وأداء لواجب قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لكن حمزة لا بواكي له» ، فانّ بكاؤنا انّما هو مواساة له في مصيبته بريحانته من الدنيا ، وقرّة عينه ، واداء لواجب بكائه عليه.

أيبكي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسين - بأبي هو واُمّي - قبل الفاجعة ونحن لا نبكيه بعدها ؟؟

ما هذا شأن المتأسّي بنبيه ، والمواسي له !؟

ألم يرو الإمام أحمد: انّ عليّاً لما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفّين نادى: صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشطّ الفرات ، فسئل عن ذلك فقال:

دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم وهو يبكي ، فسألته

١٥٧

فقال: قام من عندي جبرئيل فحدّثني إنّ الحسين يقتل بشط الفرات.

قال: فقال: هل لك إلى أن أشمّك من تربته ؟

قال: قلت: نعم ، فمدّ يده ، فقبض قبضة من تراب ، فأعطانيها.

وأخرج ابن سعد ، عن الشعبي قال: مرّ عليّرضي‌الله‌عنه بكربلاء عند مسيره إلى صفّين ، فوقف وسأل عن اسم الأرض ؛ فقيل: كربلاء ، فبكى حتى بلّ الأرض من دموعه.

ثم قال: دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يبكي فقلت: ما يبكيك ؟

قال: كان عندي جبرئيل آنفاً ، وأخبرني أنّ ولدي الحسين يقتل بشاطئ الفرات ، بموضع يقال له: كربلاء....

وأخرج الملأ: انّ علياً مرّ بموضع قبر الحسينعليه‌السلام فقال: ها هنا مناخ ركابهم ، وهاهنا موضع رحالهم ، وها هنا مهراق دمائهم ، فتية من آل محمد ، يقتلون بهذه العرصة ، تبكي عليه السماء والأرض....

ومن حديث امّ سلمة قالت: كان عندي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعي الحسين ، فدنا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذته ، فبكى فتركته ، فدنا منه ، فأخذته ، فبكى فتركته ، فقال له جبرئيل: أتحبّه يا محمد ؟!

قال: نعم.

قال: أما إنّ اُمّتك ستقتله ، وان شئت أريتك الأرض التي يقتل بها ، فبكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وروى الماوردي الشافعي ، عن عائشة ، قالت: دخل الحسين بن علي

١٥٨

على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يوحى إليه ، فقال جبرئيل: انّ اُمّتك ستفتتن بعدك وتقتل ابنك هذا من بعدك ، ومدّ يده فأتاه بتربة بيضاء ، وقال: في هذه يقتل ابنك اسمها الطف.

فلمّا عرج جبرئيلعليه‌السلام ، خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه والتربة بيده ، وفيهم: أبو بكر ، وعمر ، وعليّ ، وحذيفة ، وعمار ، وأبو ذر ، وهو يبكي فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله ؟!

فقال: أخبرني جبرئيل: إنّ بني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف ، وجاء بهذه التربة(١) ، فأخبرني إنّ فيها مضجعه.

فإذن أوّل من بكى في هذه الامّة على الحسين ، وأوّل من اُهدي إليه تربته ، وأوّل من شمّها ، وأوّل من تلا على الناس مقتل الحسين بأرض الطف لهو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوّل من سمّع حديث مقتله لأصحابه الكرام ، ولا احتمل الاأنّهم واسوا يومئذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حزنه وبكائه و( لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ ) (٢) ،( وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (٣) .

وأخرج الترمذي: إنّ امّ سلمة رأت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - فيما يراه النائم - باكياً ، وبرأسه ولحيته التراب فسألته ، فقال: قتل الحسين آنفاً.

قال في الصواعق: وكذلك رآه ابن عباس نصف النهار ، أشعث أغبر ، وفي

____________________

(١) قالرحمه‌الله : انّ تربة يحملها الروح الأمين إلى سيد النبيّين والمرسلين لحقيقة بالاحترام وجديرة بأن تدّخر وتحمل وتُهدى بكلّ إجلال وإعظام.

(٢) سورة الأحزاب: ٢١.

(٣) سورة الحديد: ٢٤ ، سورة الممتحنة: ٦.

١٥٩

يده قارورة فيها دم يلتقطه فسأله ، فقال: دم الحسين وأصحابه ، لم أزل أتتبّعه منذ اليوم.

قال: فنظروا فوجدوه قد قتل في ذلك اليوم.

وأمّا صحاحنا فانّها متواترة في بكائهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على سبطه وريحانته في مقامات عديدة ، يوم ولادته وقبلها ، ويوم السابع من مولده ، وبعده في بيت الزهراء ، وفي حجرته ، وعلى منبره ، وفي بعض أسفاره ، تارة يبكيه وحده ، ومرّة هو والملائكة ، وأحياناً هو وعلي وفاطمة ، وربّما بكاه هو وبعض أصحابه ، وربمّا قبّله في نحره وبكى ، وربّما قبّله في شفتيه فبكى ، وربّما بكى إذا رآه فرحاً أو رآه حزناً.

ولله در السيد الرضي حيث يقول:

لو رسول الله يحيا بعده

قعد اليوم عليه للعزا

جزروا جرز الأضاحي نسله

ثم ساقوا أهله سَوق الإما

ليس هذا لرسول الله يا

امّة الطغيان والبغي جزا

يا رسول الله لو أبصرتهم(١)

وهم ما بين قتلى وسِبا

مِن رميض يُمنع الظلّ ومِن

عاطش يسقى أنابيب القنا

ومسوق عاثر يُسعى به

خلف محمول على غير وطا

لرأت عيناك منهم منظراً

للحشى شجواً وللعين قذا

لا أرى حزنكم يُنسى ولا

رزءكم يُسلى وإن طال المدى(٢)

____________________

(١) كذا في الأصل ، وفي ديوان الرضي: عاينتهم.

(٢) هذه الأبيات من قصيدة رائعة للشريف الرضي ألقاها وهو بالحائر الحسيني وهي بعنوان «كربلا كرب وبلا». انظر: ديوان الرضي ١: ٤٤، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٣٨٦.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348