المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه11%

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 348

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه
  • البداية
  • السابق
  • 348 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47076 / تحميل: 4595
الحجم الحجم الحجم
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

فقال أبو بكر: والله ما دعوته ، ولا غدرته ، ثمّ قال متمّم:

لنعم حشو الدرع كان وحاسراً

ولنعم مأوى الطارق المتنوّر

لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه

حلو شمائله عفيف المأزر

وبكي حتى انحط عن سية قوسه.

قالوا: فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء ، فما أنكر عليه في بكائه ، ولا في رثائه منكر ، مع ما في بكائه ورثائه من المغازي السياسية ، بل قال له عمر: لوددت انّك رثيت زيداً أخي بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك ، فرثي متمّم بعدها زيداً فما أجاد.

فعاتبه عمر بقوله: لِمَ لَم ترث أخي كما رثيت اخاك ؟

فقال: إنّه والله ليحرّكني لأخي ما لا يحرّكني لأخيك.

واستحسن الصحابة والتابعين ومن بعدهم مراثيه في مالك ، فكانوا يتمثّلون بها إذا اقتضى الأمر ذلك ، كما فعلته عائشة إذ وقفت على قبر أخيها عبد الرحمن فبكت عليه وتمثّلت بقول متمّم:

وكنا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلمـّا تفرّقنا كأنّي ومالكاً

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

وما زال الرثاء فاشياً بين المسلمين في كل عصر ومصر لا يتناكرونه.

وحسبنا دليلاً على استحبابه في مآتمنا ما رواه أصحابنا عن زيد الشحّام قال: كنّا عند أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام نحن وجماعة من الكوفيين ، فدخل جعفر بن عفّان فقرّبه الإمام وأدناه ، ثم قال: يا جعفر بلغني انّك تقول الشعر في الحسين وتجيد.

١٤١

قال: نعم جعلت فداك.

قال: قل ، فأنشدته:

ليبك على الإسلام من كان باكياً

فقد ضيعت أحكامه واستحلّت

غداة حسين للرماح دريئة

وقد نهلت منه السيوف وعلّت

وغودر في الصحراء شلواً مبدداً

عليه عتاق الطير باتت وظلّت

فما نصرته اُمّة السوء إذ دعا

لقد طاشت الأحلام منهم وظلّت

وما حفظت قرب النبي ولا رعت

وزلّت بها أقدامها واستزلّت

أذاقته حرّ القتل امّة جدّه

فتبّت أكف الظالمين وشلّت

فلا قدّس الرحمن امّة جده

وإن هي صامت للإله وصلّت

كما فجعت بنت الرسول بنسلها

وكانوا كماة(١) الحرب حين استقلّت

فبكي الصادقعليه‌السلام ومن حوله حتى صارت الدموع على وجهه ولحيته ثمّ قال: يا جعفر والله لقد شهدك الملائكة المقرّبون ، وأنّهم لهاهنا يسمعون قولك في الحسين ، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر ، وقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعتك الجنّة وغفر لك.

ثم قالعليه‌السلام : ألا ازيدك ؟

قال: نعم يا سيّدي.

قالعليه‌السلام : ما من أحد قال في الحسين شعراً ، فبكى وأبكى الا أوجب الله له الجنّة وغفر له.

وقد نسج جعفر بن عفّان في هذا الرثاء على روي سليمان بن قتّة

____________________

(١) كذا في الأصل ، وفي المصدر: حماة.

١٤٢

العدوي(١) ، إذ مرّ بكربلاء لثلاث بعد قتل الحسين وأصحابه ، فنظر إلى مصارعهم ومضاربهم ، فأنشأ يقول ويبكي:

مررت على أبيات آل محمد

فلم أرها أمثالها(٢) حين حلّت

فلا يبعد الله الديار وأهلها

وإن أصبحت منهم برغمي تخلّت

وانّ قتيل الطفّ من آل هاشم

أذلّ رقاب المسلمين فذلّت

وكانوا غياثاً ثم أضحوا رزية

ألا عظمت تلك الرزايا وجلّت

ألم تر أن الشمس أضحت مريضة

لقتل حسين والبلاد اقشعرّت

وقد أعولت تبكي السماء لفقده

وأنجمها ناحت عليه وصلّت(٣)

____________________

(١) في القاموس: قتّة: كضبّة ، اسم (امُ سليمان) بن حبيب المحاربي (التابعي) المشهور يعرف بابن قتّة ، وهو القائل في رثاء الحسينعليه‌السلام : وانّ قتيل الطف من آل هاشم أذلّ رقاب المسلمين فذلّت

وهو مولى بني تيم بن مرّة ، توفّي بدمشق سنة ١٢٦ ه ، وينبغي أن يكون أوّل من رثى الحسينعليه‌السلام ، لأنّه مرّ بكربلاء بعد قتل الحسينعليه‌السلام بثلاث ليال ، فنظر إلى مضاربهم ، واتّكأ على قوس له عربية وأنشأ يقول: مررت....

وقيل: إن هذه المرثيّة لأبي الرميح (الزميج) الخزاعي.

انظر: سير أعلام النبلاء ٤: ٥٩٦ (وذكر انّ قتّة اسم امّه) ، الجرح والتعديل ٤: ١٣٦ ، المعجم الأوسط ٢: ٤٥٧ ، طبقات القرّاء ١: ٣١٤ ، تهذيب الكمال ٦: ٤٧٧.

(٢) في بعض المصادر: كعهدها ، وقد صحّفت في مصادر اخرى ، فقد وردت في تهذيب الكمال وأنساب الأشراف: «فألفيتها أمثالها...» وهذا التصحيف متعمّد من أشياع آل أبي سفيان لعنهم الله.

(٣) قالرحمه‌الله : أنشد هذه الأبيات أبو تمام في الحماسة ، والمبرد في الكامل لسليمان بن قتّة ، ونسبها ابن الأثير في آخر وقعة الطف من كامله الى التيمي تيم مرّة قال: وكان منقطعاً إلى بني هاشم ، والظاهر أنّه أراد سليمان بن قتّة لأنّه تيمي بالولاء.

وقال الخطيب التبريزي في شرح الحماسة: رواها البرقي لأبي زميج الخزاعي ، وأوردها ابن عبد البر في ترجمة الحسين من الاستيعاب ، فنسبها إلى سليمان بن قتّة

١٤٣

ورحم الله الحسين بن الضحاك(١) إذ نسج على هذا الروي والقافية ، فقال:

مررت على أبيات آل محمد

فلم أرها أمثالها(٢) حين حلّت

فلا يبعد الله الديار وأهلها

وإن أصبحت منهم برغمي تخلّت

وانّ قتيل الطفّ من آل هاشم

أذلّ رقاب المسلمين فذلّت

وكانوا غياثاً ثم أضحوا رزية

ألا عظمت تلك الرزايا وجلّت

ألم تر أن الشمس أضحت مريضة

لقتل حسين والبلاد اقشعرّت

وقد أعولت تبكي السماء لفقده

وأنجمها ناحت عليه وصلّت(٣)

ولله درّ عواطف الامام محمد بن إدريس الشافعي(٥) حيث يقول من أبيات له في رثاء الحسينعليه‌السلام :(٦)

تزلزلت الدنيا لآل محمد

وكادت لهم صمّ الجبال تذوب

فمن مبلغ عنّي الحسين رسالة

وان كرهتها أنفس وقلوب

قتيل بلا جرم كأن قميصه

صبيغ بماء الأرجوان خضيب(٧)

الخزاعي ، وقيل: انّها لأبي الزميج الخزاعي.

____________________

(١) هو أبو علي الحسين بن الضحاك بن ياسر الباهلي المعروف بالخليع أو الخالع ، ولد سنة ١٦٢ ومات سنة ٢٥٠ فيكون عمره ٨٨ سنة ؛ وقيل: بل عمّر أكثر من مائة سنة ، وكانت ولادته بالبصرة. انظر: أدب الطف ١: ٣١٠.

(٢) في أدب الطف: وأوكف.

(٣) في أدب الطف: بغبطة.

(٤) الدرّ النضيد: ١٢٦.

(٥) هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع ، ولد سنة ١٥٠ ه وتوفي سنة ٢٠٤ بمصر ، وهو أحد أئمة المذاهب الأربعة السنّية.

(٦) انظر: ينابيع المودّة ٢ ك ٣٥٦ ، بحار الانوار ٤٥: ٢٧٤ ، فرائد السمطين ٢: ٢٦٦.

(٧) قالرحمه‌الله : هذا الرثاء نقله عن الإمام الشافعي جمال الدين الحافظ الزرندي المدني كما في كتاب معارج الأصول ، ونقله الفاضل البلخي في ينابيعه.

١٤٤

وروى الصدوق في أماليه وفي ثواب الأعمال ؛ وابن قولويه في كامله بالإسناد إلى أبي عمارة قال: دخلت على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام فقال: أنشد في الحسين ، فأنشدته فبكى ، ثمّ أنشدته فبكى ، قال: فوالله ما زلت أنشده وهو يبكي حتى سمعت البكاء من الدار.

فقال: يا أبا عمارة من أنشد في الحسين فأبكى فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنّة....

وروى الصدوق في ثواب الأعمال ، وابن قولويه في كامله بالإسناد إلى أبي هارون المكفوف قال: دخلت على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ، فقال: يا

أقول: وأورد هذه الأبيات ابن شهراشوب في مناقب آل أبي طالب:

تأوّب غمّي والفؤاد كئيب

وأرّق نومي فالرقاد غريب

وممّا نفي نومي وشيّب لـمّتي

تصاريف ايّام لهنّ خطوب

فمن مبلّغ عنّي الحسين رسالة

وإن كرهتها أنفس وقلوب

قتيل بلا جرم كأنّ قميصه

صبيغ بماء الأرجوان خضيب

وللسيف أعوال وللرمح رنّة

وللخيل من بعد الصهيل نحيب

تزلزلت الدنيا لآل محمّد

وكادت لهم صمّ الجبال تذوب

وغارت نجوم واقشعرت كواكب

وهتك أستار وشقّ جيوب

يصلّى على المبعوث من آل هاشم

ويغزى بنوه إنّ ذا لعجيب

لئن كان ذنبي حبّ آل محمد

فذلك ذنب لست عنه أتوب

هم شفعائي يوم حشري وموقفي

إذا ما بدت للناظرين خطوب

وقال الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في ينابيع المودّة: قال الحافظ جمال الدين المدني في كتابه (معراج الاصول) انّ الامام الشافعي أنشد:

تأوّه قلبي والفؤاد كئيب

وأرّق نومي فالسهاد عجيب

فمن مبلّغ عني الحسين رسالة

وإن كرهتها أنفس وقلوب

ذبيح ، بلا جرم كأنّ قميصه

صيبغ بماء الارجوان خضيب

الأبيات....

١٤٥

أبا هارون ، انشدني في الحسين ، فأنشدته - فلم يعجبه الانشاد لخلوّه من الرقّة المشجية وكأنّه تركها حياء من الإمامعليه‌السلام -.

فقال: لا ، - يعني لا تنشد بهذه الطريقة - ، بل كما تنشدون ، وكما ترثيه عند قبره.

قال: فأنشدته(١) حينئذ:

أمرر على جدث الحسين

فقل لاعظمه الزكيّة

يا أعظماً لا زلت من

وطفاء ساكبة رويّة(٢)

وإذا مررت بقبره

فأطل به وقف المطيّة

وابك المطهّر للمطهّـ

ـر والمطهّرة التقيّة

كبكاء معولة أتت

يوماً لواحدها المنيّة

قال: فبكى ، ثم قال: زدني ، فأنشدته القصيدة الاخرى:

يا مريم قومي واندبي مولاك

وعلى الحسين اسعدي ببكاك

قال: فبكى الصادق وتهايج النساء من خلف الستر ، فلمّا أن سكتن قال: يا أبا هارون ، مَن أنشد في الحسين فبكى وأبكى عشرة كتبت لهم الجنّة - إلى أن قال: - ومن ذُكر الحسين عنده فخرج من عينه مقدار جناح ذبابة كان ثوابه على الله ولم يرض له بدون الجنّة.

ودخل عبد الله بن غالب على الإمام الصادقعليه‌السلام فأنشده مرثيّته في الحسينعليه‌السلام ، فلمّا انتهى إلى قوله: لبلية... البيت ، صاحت باكية من وراء

____________________

(١) قالرحمه‌الله : أنشد أبو هارون هذه الأبيات وهي للسيد إسماعيل الحميري.

(٢) وطفاء - كحمراء -: منهمرة ، من قولهم: وطف المطر: انهمر ؛ ويقال: سحابة وطفآء ، أي: مسترخية لكثرة مائها.

١٤٦

الستر: يا أبتاه.(١)

وللإمام الثامن الضامنعليه‌السلام مع دعبل الخزاعي قضية مشهورة(٢) ؛

____________________

(١) انظر: كامل الزيارات: ١٠٥ ح ٣.

(٢) قالرحمه‌الله : أشار إليها الفاضل العباسي في أحوال دعبل من معاهد التنصيص في شرح شواهد التلخيص في اوّل ص ٣٧٣ ، وذكرها الصدوق في عيون أخبار الرضا ، والعلامة الأربلي في كشف الغمّة ، والمجلسي في بحار الأنوار ، وأبو الفرج الأصفهاني في أغانيه ، وغير واحد من المحدّثين والمؤرخين. أقول: وقد ذكرنا القصّة مفصّلة في الهامش أثناء تعليقناعلى ذكرها في المقدّمة الزاهرة.

أما أبيات القصيدة التي أنشدها دعبل فمنها:

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

لآل رسول الله من خيف من منى

وبالبيت والتعريف والجمرات

ديار علي والحسين وجعفر

وحمزة والسجاد ذي الثفنات

منازل كانت للصلاة وللتقى

وللصوم والتطهير والحسنات

إذا لم نناج الله في صلواتنا

بأسمائهم لم يقبل الصلوات

فيا ربّ زدني في هواي بصيرة

وزد حبهم يا ربّ في حسناتي

سأبكيهم ما حجّ لله راكب

وما ناخ قمريّ على الشجرات

سقى الله قبراً بالمدينة غيثه

فقد حلّ فيه الأمن والبركات

قبور ببطن النهر من جنب كربلا

معرسهم منها بشط فرات

توفّوا عطاشا بالفرات فليتني

توفّيت فيهم قبل حين وفاتي

الى الله أشكو لوعةً عند ذكرهم

سقتني بكأس الثكل والفظعات

أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً

وقد مات عطشاناً بشطّ فرات

اذاً للطمت الخدّ فاطم عنده

وأجريت دمع العين في الوجنات

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي

نجوم سماوات بأرض فلاة

ديار رسول الله أصبحن بلقعاً

وآل زياد تسكن الحجرات

وآل زياد في القصور مصونة

وآل رسول الله في الفلوات

١٤٧

وذلك لما وفد عليه بعبقريته التائية تلك القصيدة التاريخية الرنّانة ، التي تجاذبت بها أندية الأدب ، وانتشرت في أقطار العرب ، وقامت بتلاوتها في دار الرضا قيامة الأحزان ، وقرعت ساحته الشريفة بنوح دعبل بها الأشجان ، فبكى الإمام أحرّ بكاء ، وعلا من وراء الستر صراخ النساء ، وكان لأطفاله رنين ومأق ورغاء(١) حتى استولي عليه الاغماء ، واشترك في البكاء معه جنّة الأرض وملائكة السماء.

وقد علم الناس أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام قد أمر بشراً(٢) برثاء سيد الشهداء حيث قال:

يا بشر ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه ؟

قال: نعم يا بن رسول الله.

قالعليه‌السلام : ادخل المدينة وأنع أبا عبد الله.

قال بشر بن حذلم: فركبت فرسي ، وركضت حتى دخلت المدينة ، فلمّا بلغت مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رفعت صوتي بالبكاء ، وأنشأت: يا أهل يثرب لا مقام لكم بها قُتل الحسين فأدمعي مدرارُ

الجسم منه بكربلاء مضرّجُ والرأس منه على القناء يدار(٣)

____________________

(١) قالرحمه‌الله : المأق: ما يأخذ الصبي بعد البكاء من الشهيق الشبيه بالفواق ، ورغاء الصبي: هو أشد ما يكون من بكائه.

(٢) وهو بشر بن حذلم ؛ وقيل أيضاً: ان اسمه بشير بن جذلم ، وهو من أصحاب الإمام السجادعليه‌السلام ، رافق عيال الإمام الحسينعليه‌السلام عند عودتهم من الشام إلى المدينة.

انظر: الملهوف: ٢٢٦.

(٣) حياة الإمام الحسين ٢: ٤٢٣ ، الملهوف: ٢٢٧.

١٤٨

المجلس الثالث: في تلاوة الأحاديث

لا ريب في رجحان تلاوة الأحاديث المشتملة على مناقب الموتى من المؤمنين ومصائبهم ، إذ تكون كذكرى لحياتهم ، تنتفع الامّة بها على قدر مكانتهم في محامد الصفات ، ومكارم الأخلاق ، ومحاسن الأفعال.

وانّ امّته تهتم بتاريخ عظمائها الممتازين في دينهم ودنياهم ، لتعد حافظة مجدها ، ناصحة لمن بعدها ، وقد جرت سيرة الخلف والسلف على ذكر مناقب الموتى ومصائبهم ، كتابة وخطابة ، نظماً ونثراً. والعقل والنقل يحكمان بحسن ذلك ، وقواعد المدنية تقتضيه ، واصول الترقّي في المعارف والفضائل توجبه ، إذ به تحفظ الآثار النافعة ، وتخلّد الأرواح الشريفة ، وبالتنافس فيه تعرج أبطال المنابر إلى أوج البلاغة ، وتستوي رجال المحابر ببراعتها على عرش البراعة.

وما أحوج الامّة إلى ذكرى ما أصاب سلفها من النوائب أيّام بؤسهم ، وما اكتسبوه من المآثر والمناقب أيّام عزّهم( إِنَّ فِي ذٰلِکَ لَذِکْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) (١) .

وهذا كتاب الله عز وجل وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله يمثّلان مناقب الأنبياء ومصائبهم بأجلى مظاهر التمثيل ، ويصوّران مثالب أعداء الله وأعداء أنبيائه بأوضح التصوير ، ولولا الكتاب والسنّة ، ما عرفنا فضائل أنبياء الله ، ولا رذائل أعدائه ، وأنّى لنا - لولا الكتاب والسنّة - بالوقوف على نصح الأنبياء لله تعالى ولعباده ، والصبر على الأذى الذي نالهم في سبيل الحق من النماردة

____________________

(١) سورة الزمر: ٢١.

١٤٩

والفراعنة والعمالقة ، وأصحاب الرسّ والأخدود وغيرهم.

فالقول بتحريم تلاوة مناقب أهل المناقب من الموتى ومصائبهم يستلزم تحريم تلاوة الكتاب والسنّة ، وقراءة التاريخ وعلم الرجال ، ومن يرضى لنفسه هذا الحمق ! ويختار لبصيرته هذا العمي ! نعوذ بالله من سفه الجاهلين.

وقف أمير المؤمنينعليه‌السلام على قبر خباب بن الأرت في ظهر الكوفة ، وهو أوّل من دفن هناك فقالعليه‌السلام - في تأبينه -:

رحم الله خباباً ، لقد أسلم راغباً ، وهاجر طائعاً ، وعاش مجاهداً ، وابتلي في جسمه أحوالاً ، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.

ووقف الإمام زين العابدين على قبر جدّه أمير المؤمنينعليهما‌السلام فقال:

أشهد انّك جاهدت في الله حقّ جهاده ، وعملت بكتابه ، واتّبعت سنن نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى دعاك الله إلى جواره، فقبضك إليه باختياره ، لك كريم ثوابه ، وألزم أعداءك الحجّة في ظلمهم ايّاك مع ما لك من الحجج البالغة.

ووقف الإمام الصادقعليه‌السلام على قبر جدّه الإمام الحسينعليه‌السلام فقال:

أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ، وأطعت الله ورسوله ، وعبدته مخلصاً ، وجاهدت في سبيله صابراً محتسباً حتى أتاك اليقين ، فلعن الله امّة قتلتك ، ولعن الله امّة ظلمتك ، ولعن الله امّة سمعت بذلك فرضيت به.(١)

____________________

(١) العقد الفريد ٢: ١٤٧.

١٥٠

ووقف الحسين على قبر أخيه الحسنعليهما‌السلام فقال:

أأدهن رأسي أم تطيب مجالسي

وخدّك معفور وأنت تريب

وليس حريباً من اُصيب بماله

ولكن من وارى أخاه حريب

غريب وأطراف البيوت تحوطه

ألا كلّ من تحت التراب غريب

بكائي طويل والدموع غزيرة

وأنت بعيد والمزار قريب(١)

ووقف محمد بن أمير المؤمنين - المعروف بابن الحنفيّة - على قبر اخيه ، وخليفة أبيه أبي محمد الحسن الزكي المجتبىعليه‌السلام فخنقته العبرة فقال:

يرحمك الله أبا محمد ، فلئن عزّت حياتك فقد هدّت وفاتك ، ولنعم الروح روح ضمّه بدنك ، ولنعم البدن بدن ضمّه كفنك ، وكيف لا تكون كذلك وأنت بقيّة ولد الأنبياء ، وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكساء ، غذّتك أكفّ الحقّ ، وربّيت في حجر الإسلام ، فطبت حيّاً وطبت ميّتاً ، وإن كانت أنفسنا غير طيّبة

____________________

(١) قال محمد بن أبي طالب في تسلية المُجالس وزينة المَجالس ، ولـمّا وضع الحسنعليه‌السلام في قبره أنشأ سيّدنا ومولانا أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام : أأدهنُ رأسي أم اُطيب مجالسي ورأسك معفور وأنت سليب

أأدهنُ رأسي أم اُطيّب مجالسي

ورأسك معفور وأنت سليب

أو استمتع الدنيا بشيء اُحبّه

ألا كلّ ما أدنى إليك حبيب

فلا زلت أبكي ما تغنّت حمامة

عليك وما هبّت صبا وجنوب

وما هملت عيني من الدمع قطرة

وما اخضرّ في دوح الحجاز قضيب

بكائي طويل والدموع غزيرة

وأنت بعيد والمزار قريب

غريب وأطراف البيوت تحوطه

ألا كلّ من تحت التراب غريب

فلا يفرح الباقي خلاف الذي مضى

فكل فتى للموت فيه نصيب

وليس حريباً من اُصيب بماله

ولكنّ من وارى أخاه حريب

نسيبك من أمسى يناجيك طرفه

وليس لمن تحت التراب نسيب

انظر: مناقب ابن شهراشوب ٤: ٤٥ ، تسلية المُجالس وزينة المَجالس ٢: ٦٥ ، بحار الأنوار ٤٤: ١٦٠ ذ ح ٢٩.

١٥١

بفراقك ، ولا شاكّة في الخيار لك.

ثمّ بكى بكاءاً شديداً وبكى الحاضرون حتى علا نشيجهم وفيهم الحسين واخوته وابن عبّاس وسائر الهاشميين.(١)

ولـمّا توفّي أمير المؤمنينعليه‌السلام قام الخلف من بعده أبو محمد الحسن الزكيعليهما‌السلام فقال:

لقد قتلتم الليلة رجلاً والله ما سبقه أحد كان قبله ، ولا يدركه أحد يكون بعده ، [والله] إن كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبعثه في السرية ، وجبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، [والله] ما ترك بيضاء ولا صفراء... إلى آخر كلامه.(٢)

ووقف أمير المؤمنينعليه‌السلام على الضريح الأقدس ، ضريح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ساعة دفنه فقال:

إن الصبر لجميل الاعنك ، وان الجزع لقبيح الاعليك ، وانّ المصاب بك لجليل ، وانّه بعدك لقليل.(٣)

وعن أنس بن مالك قال: لمـّا فرغنا من دفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقبلت فاطمةعليها‌السلام فقالت:

[يا أنس ،] كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التراب ؟

____________________

(١) تاريخ الاُمم والملوك (حوادث سنة ٤٠) ، العقد الفريد ٢: ٧٨.

(٢) تاريخ الاُمم والملوك ٥: ١٥٧.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣: ١٩٤ ، العقد الفريد ٢: ١٠٢.

١٥٢

ثم بكت ونادت: يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه ، يا أبتاه مِن ربّه ما أدناه ، يا أبتاه من ربّه ناداه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه ، يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه ، يا أبتاه لست بعد اليوم أراه.(١)

وكأنّي بها وقد أصلى ضلعها الخطب ، ولاع قلبها الكرب ، ولجّ فؤادها الحزن ، واستوقد صدرها الغبن ، حين ذهبت كاظمة ، ورجعت راغمة ، ثمّ انكفأت إلى قبر أبيها باكية شاكية قائلة:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كان شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

فاختلّ قومك فاشهدهم فقد نكبوا(٢)

فليت بعدك كان الموت صادفنا

لـمّا قضيت وحالت دونك الكثب(٣)

ولم تزل -: بأبي هي واُمّي - بعد أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات غصّة لا تساغ ، ودموع تترى من مقلة عبرى ، قد استسلمت للوجد ، واخلدت في بيت أحزانها إلى الشجون ، حتى لحقت بأبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله معصّبة الرأس ، قد ضاقت عليها الأرض برحبها.

فلمّا فرغ أمير المؤمنينعليه‌السلام من دفنها في ظلام الليل ، ورهقه من الحزن عليها ما عيل به صبره ، وضاق به صدره ، استقبل بوجهه ضريح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يشكو إليه بثّه وحزنه ، وقد جاشت في صدره غصص الهموم ،

____________________

(١) المصنف لعبد الرزاق ٣: ٥٥٣ ح ٦٦٧٣ ، الطبقات الكبرى ٢: ٣١١ ، صحيح البخاري ٦: ١٨ ، سنن ابن ماجة ١: ٥٢٢ ح ١٦٣٠ ، سنن النسائي ٤: ١٣ ، العقد الفريد ٣: ٢٣٠ ، المستدرك على الصحيحين ١: ٣٨٢.

(٢) قالرحمه‌الله : الموجود في شرح النهج ، واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب ، لكنّ الصحيح ما أثبتناه ، وهو المأثور عندنا ، ومعنى نكبوا: عدلوا.

(٣) العقد الفريد ٣: ١٩٤ ، النهاية لابن الأثير ٣: ١٥٦.

١٥٣

واعتلجت فيه حزازات الغموم ، فقال وهو يجرض بريقه ، ويميد به شجوه ، وقد انحلّت عقود دموعه ، وتناثرت لآلئ جفونه:

السلام عليك يا رسول الله ، وعلى ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ، قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري ، ورقّ عنها تجلّدي ، ألا أن لي في التأسي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك موضع تعزٍ ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة ، وأمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد ، أو يحتار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبؤك ابنتك بتظافر اُمّتك على هضمها ، فأحفّها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخلق منك الذكر.(١)

فلأي الأمور تدفن سرّاً

بضعة المصطفى ويعفى ثراها

فمضت وهي أعظم الناس شجواً

في فم الدهر غصّة من جواها

وكأنّي بأمير المؤمنينعليه‌السلام واقفاً على قبرها وهو شجي بغصصه ، لا يملك دمعه ولا قلبه ، وكأنّي به ينشد:

لكل اجتماع من خليلين فُرقة

وكلّ الذي دون الممات قليل

وإنّ افتقادي واحداً بعد واحدٍ

دليل على أن لا يدوم خليل(٢)

____________________

(١) قالرحمه‌الله : هذا الكلام من الثابت عنهعليه‌السلام المأثور في كتاب نهج البلاغة.

(٢) العقد الفريد ٣: ١٩٨.

١٥٤

المجلس الرابع: في الجلوس حزناً على الموتى

لا ريب في أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حزن حزناً شديداً على شيخ الأباطح وبيضة البلد ، عمّه وكافله أبي طالب ، وعلى صدّيقته الكبرى امّ المؤمنين ، وقد ماتا في عام واحد ، فسماه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله «عام الحزن» ، ولزم بيته(١) وأقلّ من الخروج حزناً عليهما ، وكان إذا تهجّمت عليه قريش يندب عمّه فيقول: «يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك»(٢) .

وصحّ جلوسه في المسجد حزناً على ابن عمّه جعفر وصاحبيه زيد وابن رواحة.(٣)

وصحّ أيضاً أنه حزن حزناً شديداً ، لم ير أشدّ منه حين قتل القرّاء من أصحابه وقنت شهراً يستغفر لهم ، ويدعو على قاتليهم في قنوته.

والعقل يحكم برجحان الجلوس حزناً على فقد المصلحين من أهل الحفائظ والأيادي المشكورة ، لأنّ تمييزهم بذلك يكون سبباً في تنشيط أمثالهم ، وأداء حقّهم بعد موتهم ، ويكون داعياً إلى كثرة الناسجين على منوالهم.

____________________

(١) انظر: السيرة النبويّة ١: ١٠٨ ، الكامل في التاريخ ١: ٤٦٢ ، السيرة الحلبية ١: ٤٦٢ باب وفاة أبي طالب وخديجة.

(٢) السيرة النبويّة ١: ١٠٨.

(٣) قالرحمه‌الله : والحديث هذا ثابت في باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن ص ١٥٤ من الجزء الأوّل من صحيح البخاري ، وفي باب التشديد في النياحة ص ٣٤٥ من الجزء الأوّل من صحيح مسلم ، وثابت في صحيح أبي داود أيضاً.

١٥٥

أمّا الجلوس لذكرى ما أصاب الأئمّة في سبيل مصالح الاُمّة ، فيبعث فيها روح الايمان والهدى ، ويأخذ بقلوبها إليهم ، وان بعُد العهد وطال المدى.

وقول اللائمين: بأنّه لا يحسن الجلوس حزناً على الميّت إذا تقادم العهد بموته(١) لا يتمّ في فجائعنا بأهل البيت ، حيث لا يتلاشى الحزن عليهم مهما تقادم العهد بهم ، بل لا تخبو زفرة تلك الفجائع ، ولا تخمد لوعة هاتيك القوارع، ما بقي الزمان ، وكر الجديدان ، فقربُ العهد بها وبعده عنها سيان ، وما أولى هذا اللائم ، بقول بعض الأعاظم:

خلي اُميمة عن ملا

مك ما المعزّي كالثكول

ما الراقد الوسنان مث

ل معذب القلب العليل

سهران من ألم وه

ذا نائم الليل الطويل

ذوقي اُميمة ما أذو

ق وبعده ما شئت قولي

ورحم الله القائل:

ويل قلبي الشجي ممّا يعاني

من ملام الخلي طعناً ووخزا

ولو علم اللائم الأحمق بما في حزننا على أهل البيت من النصرة لهم ، والحرب الطاحنة لأعدائهم ، لخشع أمام حزننا الطويل ، ولأكبر الحكمة المقصودة من هذا النوح والعويل ، ولأذعن للأسرار في استمرارنا على ذلك في كل جيل ،

____________________

(١) قالرحمه‌الله : أخرج الإمام أحمد في ص ٢٠١ من الجزء الأول من مسنده من حديث الحسينعليه‌السلام عن جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وان طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً الاجدّد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم اُصيب بها.

وروى ابن ماجة وأبو يعلى عنه هذا الحديث أيضاً كما في ترجمتهعليه‌السلام من الاصابة.

١٥٦

وما أولاه وإيّانا بقول القائل:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني

أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتني

وعلمت أنّك جاهل فعذرتكا

على أنّ الأوامر المتواترة عن أئمّة العترة الطاهرة تستوجب التعبّد بترتيب آثار الحزن على الدوام ، ولو ثبتت هذه الأوامر عن أئمّة المذاهب الأربعة لعمل اللائمون بها ، فلماذا إذن يلوموننا بعد ثبوتها عن أئمّة العترة ، وسفينة نجاة الامّة ، وباب حطّة ، وأمان أهل الأرض ، وأعدل كتاب الله ، وعيبة رسوله ، لو كانوا ينصفون ؟؟

ولِمَ يلومنا اللائمون في حزننا ، مع تقادم العهد بمصيبتنا ، ويحبّذون استمرار أهل المدينة على ندب حمزة كلّما ناحوا على ميّت منهم ؟

فإن كان بكاؤهم على حمزة مواساة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمصيبته في عمّه ، وأداء لواجب قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لكن حمزة لا بواكي له» ، فانّ بكاؤنا انّما هو مواساة له في مصيبته بريحانته من الدنيا ، وقرّة عينه ، واداء لواجب بكائه عليه.

أيبكي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على الحسين - بأبي هو واُمّي - قبل الفاجعة ونحن لا نبكيه بعدها ؟؟

ما هذا شأن المتأسّي بنبيه ، والمواسي له !؟

ألم يرو الإمام أحمد: انّ عليّاً لما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفّين نادى: صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشطّ الفرات ، فسئل عن ذلك فقال:

دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم وهو يبكي ، فسألته

١٥٧

فقال: قام من عندي جبرئيل فحدّثني إنّ الحسين يقتل بشط الفرات.

قال: فقال: هل لك إلى أن أشمّك من تربته ؟

قال: قلت: نعم ، فمدّ يده ، فقبض قبضة من تراب ، فأعطانيها.

وأخرج ابن سعد ، عن الشعبي قال: مرّ عليّرضي‌الله‌عنه بكربلاء عند مسيره إلى صفّين ، فوقف وسأل عن اسم الأرض ؛ فقيل: كربلاء ، فبكى حتى بلّ الأرض من دموعه.

ثم قال: دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يبكي فقلت: ما يبكيك ؟

قال: كان عندي جبرئيل آنفاً ، وأخبرني أنّ ولدي الحسين يقتل بشاطئ الفرات ، بموضع يقال له: كربلاء....

وأخرج الملأ: انّ علياً مرّ بموضع قبر الحسينعليه‌السلام فقال: ها هنا مناخ ركابهم ، وهاهنا موضع رحالهم ، وها هنا مهراق دمائهم ، فتية من آل محمد ، يقتلون بهذه العرصة ، تبكي عليه السماء والأرض....

ومن حديث امّ سلمة قالت: كان عندي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعي الحسين ، فدنا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذته ، فبكى فتركته ، فدنا منه ، فأخذته ، فبكى فتركته ، فقال له جبرئيل: أتحبّه يا محمد ؟!

قال: نعم.

قال: أما إنّ اُمّتك ستقتله ، وان شئت أريتك الأرض التي يقتل بها ، فبكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وروى الماوردي الشافعي ، عن عائشة ، قالت: دخل الحسين بن علي

١٥٨

على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يوحى إليه ، فقال جبرئيل: انّ اُمّتك ستفتتن بعدك وتقتل ابنك هذا من بعدك ، ومدّ يده فأتاه بتربة بيضاء ، وقال: في هذه يقتل ابنك اسمها الطف.

فلمّا عرج جبرئيلعليه‌السلام ، خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه والتربة بيده ، وفيهم: أبو بكر ، وعمر ، وعليّ ، وحذيفة ، وعمار ، وأبو ذر ، وهو يبكي فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله ؟!

فقال: أخبرني جبرئيل: إنّ بني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف ، وجاء بهذه التربة(١) ، فأخبرني إنّ فيها مضجعه.

فإذن أوّل من بكى في هذه الامّة على الحسين ، وأوّل من اُهدي إليه تربته ، وأوّل من شمّها ، وأوّل من تلا على الناس مقتل الحسين بأرض الطف لهو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوّل من سمّع حديث مقتله لأصحابه الكرام ، ولا احتمل الاأنّهم واسوا يومئذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حزنه وبكائه و( لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ ) (٢) ،( وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (٣) .

وأخرج الترمذي: إنّ امّ سلمة رأت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - فيما يراه النائم - باكياً ، وبرأسه ولحيته التراب فسألته ، فقال: قتل الحسين آنفاً.

قال في الصواعق: وكذلك رآه ابن عباس نصف النهار ، أشعث أغبر ، وفي

____________________

(١) قالرحمه‌الله : انّ تربة يحملها الروح الأمين إلى سيد النبيّين والمرسلين لحقيقة بالاحترام وجديرة بأن تدّخر وتحمل وتُهدى بكلّ إجلال وإعظام.

(٢) سورة الأحزاب: ٢١.

(٣) سورة الحديد: ٢٤ ، سورة الممتحنة: ٦.

١٥٩

يده قارورة فيها دم يلتقطه فسأله ، فقال: دم الحسين وأصحابه ، لم أزل أتتبّعه منذ اليوم.

قال: فنظروا فوجدوه قد قتل في ذلك اليوم.

وأمّا صحاحنا فانّها متواترة في بكائهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على سبطه وريحانته في مقامات عديدة ، يوم ولادته وقبلها ، ويوم السابع من مولده ، وبعده في بيت الزهراء ، وفي حجرته ، وعلى منبره ، وفي بعض أسفاره ، تارة يبكيه وحده ، ومرّة هو والملائكة ، وأحياناً هو وعلي وفاطمة ، وربّما بكاه هو وبعض أصحابه ، وربمّا قبّله في نحره وبكى ، وربّما قبّله في شفتيه فبكى ، وربّما بكى إذا رآه فرحاً أو رآه حزناً.

ولله در السيد الرضي حيث يقول:

لو رسول الله يحيا بعده

قعد اليوم عليه للعزا

جزروا جرز الأضاحي نسله

ثم ساقوا أهله سَوق الإما

ليس هذا لرسول الله يا

امّة الطغيان والبغي جزا

يا رسول الله لو أبصرتهم(١)

وهم ما بين قتلى وسِبا

مِن رميض يُمنع الظلّ ومِن

عاطش يسقى أنابيب القنا

ومسوق عاثر يُسعى به

خلف محمول على غير وطا

لرأت عيناك منهم منظراً

للحشى شجواً وللعين قذا

لا أرى حزنكم يُنسى ولا

رزءكم يُسلى وإن طال المدى(٢)

____________________

(١) كذا في الأصل ، وفي ديوان الرضي: عاينتهم.

(٢) هذه الأبيات من قصيدة رائعة للشريف الرضي ألقاها وهو بالحائر الحسيني وهي بعنوان «كربلا كرب وبلا». انظر: ديوان الرضي ١: ٤٤، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٣٨٦.

١٦٠

المجلس الخامس: في الانفاق صدقة عن الميّت

لا ريب في استحباب الانفاق صدقة عن موتى المؤمنين ، وقد فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك وأمر به.

ففي الصحيحين بطرق متعدّدة عن عائشة قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي [مثل] ما غرت على خديجة وما رأيتها ، لكن كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يكثر ذكرها ، وربّما ذبح الشاة ثمّ يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربّما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا الاخديجة ، فيقول لي: انّها كانت وكانت وكان لي منها ولد.(١)

وأخرج مسلم: أنّ رجلاً أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول الله إن امّي افتلت نفسها ولم توص ، أفلها أجر إن تصدّقت عنها ؟

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم.

وأخرج الإمام أحمد في مسنده: انّ سعد بن عبادة قال: إنّ ابن بكر أخا بني ساعدة توفّيت امّه وهو غائب عنها ، فقال: يا رسول الله إنّ امّي توفّيت وأنا غائب عنها ، فهل ينفعها إن تصدّقت بشيء عنها ؟

قال: نعم.

قال: فاني أشهدك أن حائط المخرف صدقة عليها.(٢)

____________________

(١) قالرحمه‌الله : هذا الحديث يدلّ على استحباب صلة أصدقاء الميّت وأوليائه صدقة عنه.

(٢) قالرحمه‌الله : ربّما كان المنكرون علينا فيما نفعله في مجالسنا من الصدقة عن الحسينعليه‌السلام لا يقنعون بأقوال النبي ولا بأفعالهصلى‌الله‌عليه‌وآله الاأن يكون ذلك مأثوراً عن سلفهم ، وحينئذ نحتجّ عليهم بما فعله الوليد بن أبي معيط الأموي ، إذ مات لبيد بن ربيعة

١٦١

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا مات الانسان انقطع عمله الامن ثلاث: صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له.

وفي خصال الصدوق بالإسناد إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: إنّ الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض فاختارنا ، واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا ، اولئك منّا وإلينا.

بأبي أنتم وامّي أهل بيت الرحمة ، أسبغتم على العالمين آلاءكم ، وأفضتم على أهل الارض سجال نعمائكم ، فاياديكم تسترقّ الأعناق ، ومننكم تستعبد قلوب الأحرار ، وما رأى الراؤون أعطى لجزيل عن ظهر يد منكم(١) ، أنشأتم الهدى ، وكافحتم الكفر والضلال ، والبغي والفساد والعمى ، وسنّيتم في الأرض صراطاً مستقيماً ، وقاسيتم من الناس في سبيل هدايتهم بلاء عظيماً. سلبوكم بشبا الصوارم أنفساً قام الوجود بسرّها المكنون

فما خطر أموالنا وأنفسنا في جنب أموالكم وأنفكسم التي بذلتموها فينا ، وكيف نستكثر أموالاً وأنفساً نقابل بها تلك الأموال والأنفس ، وانّ الجرأة عليكم بسلب عقال من أموالكم المقدّسة ، او مسيل قطرة من دمائكم الزكيّة لأفظع من اجتياح أموال العالمين وأنفسهم كافة ، فالويل لمن قتلكم وسلبكم ، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول ، تبّت أيديهم ولُعنوا بما ارتكبوا ، إذ قتلوا عترة رسول الله وبقيّته فيهم. امّة قاتلت امام هداها يا ترى أين زال عنها حياها

ويحهم أخزاهم الله ، كيف سلبوه حتى ثيابه ، فأخذ قميصه - بأبي وامّي -

العامري الشاعر ، فبعث الوليد إلى منزله عشرين جزوراً فجزرت عنه. نقل ذلك ابن عبد البر في ترجمة لبيد من الاستيعاب.

____________________

(١) قالرحمه‌الله : أي تفضّلاً من غير مكافأة ولا قرض.

١٦٢

إسحاق بن حوية(١) ، وأخذ سراويله أبجر بن كعب(٢) ، وأخذ عمامته أخنس بن

____________________

(١) وهو: إسحاق بن حويّة (حيوة) الحضرمي ، أحد المجرمين في جيش الكوفة ممّن شارك في واقعة كربلاء ، حيث قام بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام بسلبه قميصه ، وهو من جملة من تطوّع - بأمر عمر بن سعد - لرضّ جسد الإمام الحسينعليه‌السلام بالخيل ، حيث تعتبر هذه الجريمة من الجرائم المفجعة التي ارتكبها جيش ابن زياد بحقّ الإمام الحسين ، وكانت هذه الجريمة قد تمّت بتحريض من شمر بن ذي الجوشن لابن زياد ، فالكتاب الذي بعثه عمر بن سعد إلى ابن زياد كان كتاباً عاديّاً ، لكن ابن زياد ردّ عليه بكتاب يعنّفه فيه ، وكتب إليه: إنّي لم ابعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا لتمنّيه ، ولا لتطاوله ، ولا لتقعد له عندي شافعاً ، انظر فان نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم اليَّ سلماً ، وإن أَبَو فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثّل بهم ، فإنّهم لذلك مستحقون ، فان قتل الحسين فاوطئ الخيل صدره وظهره ، فانّه عاقّ شاقّ قاطع ظلوم ، فان أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع ، وان أنت أبيت فاعتزل جندنا ، وخلّ بين شمر وبين العسكر ، فأتى شمر بالكتاب وسلّمه لعمر بن سعد.

وبعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام عصر يوم عاشوراء نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب إلى الحسين فيوطئه بفرسه ؟ فانتدب منهم عشرة ، حيث داسوا الحسين بخيولهم حتّى رضّوا صدره وظهره ، وهم: إسحاق بن حويّة الحضرمي الذي سلب الحسينعليه‌السلام قميصه ، وأخنس بن مرثد ، وحكيم بن طفيل السبيعي ، وعمر بن صبيح الصيداوي ، ورجاء بن منقذ العبدي ، وسالم بن خيثمة الجعفي ، وواحظ بن ناعم ، وصالح بن وهب الجعفي ، وهانئ بن ثبيت الحضرمي ، واُسيد بن مالك لعنهم الله.

وجاء هؤلاء العشرة حتّى وقفوا على ابن زياد ، فقال أحدهم وهو اُسيد بن مالك: نحن رضضنا الصدر بعد الظهر بكلّ يعسوب شديد الأمر

فقال ابن زياد لعنه الله: مَن أنتم ؟ قالوا: نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتى طحنّا حناجر صدره. قال: فأمر لهم بجائزة يسيرة.

قال أبو عمرو الزاهد: فنظرنا في هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعاً أولاد زنا.

وهؤلاء أخذهم المختاررحمه‌الله فشدّ أيديهم وأرجلهم بسلاسل الحديد ، وأوطأ الخيل ظهورهم حتّى هلكوا. انظر: الملهوف: ١٨٣ ، زينة المجالس: ٤٥٩.

(٢) وقيل اسمه: أبحر بن كعب ، حيث قام بتجريد الإمام من ثيابه بعد قتله ، وترك جسد

١٦٣

مرثد ، وأخذ سيفه رجل من بني دارم ، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله ، وسلبوا نساءه وهنّ عقائل النبوّة ، وخفرات بني الوحي والتنزيل.

قال حميد بن مسلم(١) : فوالله لقد كنت أرى المرأة من نساء الحسين وبناته وأهله تنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب به منها.

قال: ثمّ انتهينا إلى علي بن الحسينعليهما‌السلام وهو منبسط على فراش ، وهو شديد المرض ، ومع شمر(٢) جماعة من الرجّالة فقالوا له: ألا نقتل هذا

الحسين عارياً على رمضاء كربلاء ، وقد يبست يدا هذا الشخص فيما بعد حتّى اصبحتا كالخشبتين ، وجاء في خبر آخر إنّه اُصيب بعد ارتداء السروال بشلل في رجليه أقعده عن الحركة تماماً.

انظر: اثبات الهداة ٥: ٢٠١ ، عوالم الإمام الحسين: ٢٩٧ ، بحار الانوار ٤٥: ٥٧.

____________________

(١) في تنقيح المقال ١: ٣٨٠: حميد بن مسلم الكوفي ، لم أقف فيه الاعلى عدّ الشيخرحمه‌الله إيّاه في رجاله من أصحاب السجادعليه‌السلام ، وظاهره كونه إمامياً ، الا أنّ حاله مجهول.

وفي مستدركات علم الرجال ٣: ٢٨٩: حميد بن مسلم الكوفي ، وعدّ من مجاهيل أصحاب السجادعليه‌السلام وهو ناقل جملة من قضايا كربلاء على نحو يظهر منه أنّه كان في وقعة الطف... وكان من جند سليمان بن صرد الخزاعي من طرف المختار في مقتل عين الوردة في حرب الشام لطلب ثأر الحسينعليه‌السلام .

أقول: يحتمل أن يكون أكثر من شخص بهذا الاسم ، فأحدهما كان في وقعة الطف ونقل بعض الوقائع وأرسل عمر بن سعد رأس الحسين معه ومع جماعة إلى عبيدالله بن زياد ، ممّا يدلّ على انّه كان من أعوان عمر بن سعد ، والثاني إمامي من أصحاب الإمام السجاد ومن جند سليمان بن صرد.

(٢) شمر بن ذي الجوشن - واسمه شرحبيل - بن قرط الضبابي الكلابي ، أبو السابغة ، من كبار قتلة ومبغضي الحسينعليه‌السلام ، كان في أوّل أمره من ذوي الرئاسة في هوازن موصوفاً بالشجاعة ، وشهد يوم صفين مع عليّعليه‌السلام ، سمعه أبو إسحاق السبيعي يقول بعد الصلاة: اللهم إنّك تعلم أني شريف فاغفر لي !! فقال له: كيف يغفر الله لك وقد أعنت على قتل

١٦٤

العليل ؟! [قال حميد:] فقلت: سبحان الله أيقتل الصبيان ! إنّما هذا صبي وانّه لما به ، فلم أزل حتى دفعتهم عنه.

قال: وجاء عمر بن سعد فصاح النساء في وجهه وبكين ، فقال لأصحابه: لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النسوة ، ولا تتعرّضوا لهذا الغلام المريض ، وسألته النسوة ليسترجعن ما أخذ منهنّ ليسترن به ، فقال: من أخذ من متاعهنّ شيء فليرده عليهنّ.

[قال:] فوالله ما ردّ أحد منهم شيئاً.

وروى حميد بن مسلم أيضاً قال: رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد ، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسينعليه‌السلام فسطاطهنّ ، وهم يسلبونهنّ أخذت سيفاً وأقبلت نحو الفسطاط، وقالت: يا آل بكر بن وائل أتُسلب بنات رسول الله ؟ لا حكم الالله ، يا لثارات رسول الله.

قال: فأخذها زوجها وردّها إلى رحله. أأنسى هجوم الخيل ضابحة(١) على خيام نساكم بالعواسل والقضب

ابن رسول الله ؟! فقال: ويحك كيف نصنع ، إنّ اُمراءنا هؤلاء أمرونا بأمرٍ فلم نخالفهم ! ولو خالفناهم كنّا شرّاً من هذه الحمر ؟ ثمّ أنّه لمـّا قام المختار طلب الشمر ، فخرج من الكوفة وسار إلى الكلتانية - قرية من قرى خوزستان - ففجأة جمع من رجال المختار ، فبرز لهم الشمر قبل أن يتمكّن من لبس ثيابه فطاعنهم قليلاً وتمكّن منه أبو عمرة فقتله واُلقيت جثته للكلاب. انظر: الكامل في التاريخ ٤: ٩٢ ، ميزان الاعتدال ١: ٤٤ ، لسان الميزان ٣: ١٥٢.

____________________

(١) ضبحت الخيل في عدوها: أسمعت من أفواهها صوتاً ليس بصهيل ولا حمحمة.

١٦٥

عشية حنّت جزعاً خفراتكم

بأوجهها ندباً لحامي الحمى الندب

صرخن بلا لبّ وما زال صوتها

يغضّ ولكن صحن من دهشة اللب

فأبرزن من حجب الخدور تودّ لو

قضت نحبها قبل الخروج من الحجب

وسيقت سبايا فوق أحلاس هزل

إلى الشام تطوي البيد سهباً على سهب

يسار بها عنفاً بلا رفق محرم

بها غير مغلول يحن على صعب

ويحضرها الطاغي يناديه شامتاً

بما نال أهل البيت من فادح الخطب

ويوضع رأس السبط بين يديه كي

تدار عليه الراح في مجلس الشرب

ويسمع آل الله شتم خطيبه

أبا الحسن الممدوح في محكم الكتب

يصلّي عليه الله جلّ وتجتري

على سبّه من خصّها الله بالسبّ

١٦٦

الفصل الاول

فيما يُتلى بتمامه صبيحة العاشر من المحرم ، ويتلى مجالس متعدّدة في سائر أيّام العشر ،أو في باقي أيّام السنّة ، فهو ليوم العاشر مجلس واحد ، ولغيره اثنا عشر مجلساً

فلينتبه القارئ - في غير يوم عاشوراء - بوقوفه عليها ،وليذكرني بأدعيته فانّي مضطر إليها ، والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل

١٦٧

١٦٨

[المجلس الأوّل]

كان مولد الحسينعليه‌السلام لخمس [ليالٍ] خلون من شعبان سنة أربع للهجرة ، وروي غير ذلك(١) .

ولمّا ولد هبط جبرئيلعليه‌السلام في ألف مَلك يهنّئون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد سرّ به وسمّاه حسيناً.

وعن امّ الفضل(٢) قالت: رأيت في منامي قبل مولد الحسينعليه‌السلام (٣) كأنّ قطعة من لحم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قُطعت فوضعت في حجري ، فقصصت ذلك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: «رأيتِ خيراً ، إن

____________________

(١) وقيل: اليوم الثالث منه ؛ وقيل: في أواخر شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث من الهجرة.

(٢) لبابة بنت الحارث الهلالية ، الشهيرة بامّ الفضل ، زوجة العباس بن عبد المطلب ، ولدت من العباس سبعة أسلمت بمكة بعد إسلام خديجة، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يزورها ويقيل في بيتها ، توفيت نحو ٣٠ ه. انظر: الاصابة: ترجمة رقم ٩٤٢ و١٤٤٨ ، الجمع بين الصحيحين: ٦١٢ ، الاعلام ٥: ٢٣٩.

(٣) قالرحمه‌الله : وأخرج أحمد بن حنبل من حديث امّ الفضل زوجة العبّاس ، قالت: كأنّ في بيتي عضواً من أعضاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجزعت من ذلك فأتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فذكرت له ذلك ، فقال: خيراً تلد فاطمة غلاماً فتكفلينه بلبن ابنك قثم ، قالت: فولدت حسيناً فأعطيته حتى تحرك أو فطمته ثمّ جئت به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأجلسته في حجره ، فبال ، فضربت بين كتفيه ، فقال: ارفقي بابني رحمك الله أو أصلحك الله أوجعت ابني... الحديث في ص ٣٣٩ من الجزء السادس.

١٦٩

صدقت رؤياك فإنّ فاطمة تلد غلاماً ، وأدفعه إليك لترضعينه».

قالت: فجرى الأمر على ذلك.

فجئت به يوماً إليه فوضعته في حجره ، فبينما هو يقبّله بال ، فقطرت من بوله قطرة على ثوب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقرصته ، فبكى ، فقال النبي كالمغضب: «مهلاً يا اُمّ الفضل ، فهذا ثوبي يُغسل ، وقد أوجعتِ ابني».

قالت: فتركته في حجره وقمت لآتيه بماء ، فجئت إليه فوجدته يبكي ، فقلت: ممّ بكاؤك يا رسول الله ؟

فقال: «انّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ اُمّتي ستقتل ولدي [هذا] ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة».(١)

ولـمّا أتت على الحسين من مولده سنة كاملة هبط على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اثنا عشر ملكاً محمرّة وجوههم ، باكية عيونهم ، وهم يقولون: إنّه سينزل بولدك الحسين ما نزل بهابيل من قابيل ، وسيعطى مثل أجر هابيل ، ويحمل على قاتله مثل وزر قابيل.

[قال:] ولم يبق في السماوات ملك مقرّب الا ونزل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقرؤه السلام ، ويعزّيه عن الحسين ، ويخبره في ثواب ما يُعطى ، ويَعرض

____________________

(١) المستدرك ٣: ١٧٦ ، دلائل النبوة ١: ٢١٣ ، الصواعق المحرقة: ١١٥ ، الخصائص الكبرى ٢: ١٢٥ ، الفصول المهمّة ١٥٤ ، كنز العمّال ٦: ٢٢٣ (باختلاف يسير في الألفاظ).

١٧٠

عليه تربته(١) والنبي يقول: «اللهم اخذل مَن خذله ، واقتل مَن قتله ، ولا تمتعه بما طلبه».

[قال:] فلمّا أتى على مولده سنتان خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في سفر له ، فوقف في بعض الطريق ، واسترجع ودمعت عيناه.

فسئل عن ذلك ، فقال: «[هذا] جبرئيل يخبرني عن أرضٍ بشطّ الفرات يقال لها كربلاء ، يقتل فيها ولدي الحسين [بن فاطمة».

فقيل له: مَن يقتله يا رسول الله ؟

فقال: «رجل اسمه يزيد ،] وكأنّي أنظر غلى مصرعه ومدفنه».

ثم رجعصلى‌الله‌عليه‌وآله من سفره مهموماً مغموماً ، فصعد المنبر فخطب ، والحسن والحسين بين يديه ، ثمّ نزل فوضع يده اليمنى على رأس الحسن ويده اليسرى على رأس الحسين ، وقد رفع رأسه إلى السماء فقال: «اللهم إنّ محمّداً عبدك ونبيّك ، وهذان أطائب عترتي وخيار ذرّيّتي [وارومتي(٢) ] ومن اُخلفهما في اُمّتي ، وقد أخبرني جبرئيلعليه‌السلام أنّ ولدي

____________________

(١) قالرحمه‌الله : وقد أخرج أحمد بن حنبل من حديث عليعليه‌السلام في ص ٨٥ من الجزء الأوّل من مسنده حديثاً في هذا الموضوع طويلاً جاء في آخره: انّ جبرائيلعليه‌السلام حدّث النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحسين بشط الفرات وانّه قال له: هل لك إلى أن أشمّك من تربته ؟

قال: قلت: نعم.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمدّ يده فقبض من تراب فأعطانيها فلم أملك عينيّ ان فاضتا.

(٢) الاُرومة: الأصل.

١٧١

هذا مخذول مقتول.

اللهم بارك له في قتله ، واجعله من سادات الشهداء ، اللهم ولا تبارك في قاتله وخاذله».

[قال:] فضجّ الناس في المسجد بالبكاء.

[فقال النبي: «أتبكون ولا تنصرونه ؟! اللهم فكن له أنت ولياً وناصراً»].(١)

ثم رجعصلى‌الله‌عليه‌وآله فخطب خطبة أخرى موجزة وهو متغيّر اللون وعيناه تهملان دموعاً فقال:

«أيها الناس ، إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عز وجل ، وعترتي أهل بيتي ، وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ألا وإنّي أنتظرهما ، وإنّي لا أسألكم في ذلك الاما أمرني ربّي المودة في القربى.

ألا وإنّه سترد عليَّ [يوم القيامة] ثلاث رايات من هذه الامّة:

الاولى: سوداء مظلمة قد فزعت لها الملائكة ، فتقف عليَّ ، فاقول: مَن أنتم ؟

فينسون ذكري ، فيقولون: نحن أهل التوحيد من العرب.

فأقول [لهم]: أنا أحمد نبيّ العرب والعجم.

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ١: ١٦٣ ، ذخائر العقبى: ١٤٩ ، الصراط السوي للشيخاني المدني: ٩٣ ، الملهوف: ٩٤.

١٧٢

فيقولون: نحن من اُمّتك.

فأقول لهم: كيف خلّفتموني في عترتي وكتاب ربّي ؟

فيقولون(١) : أمّا الكتاب فضيّعناه ، وأمّا عترتك فحرصنا على أن نبيدهم عن آخرهم.

فأُولّي عنهم وجهي ، فيصدرون عطاشاً مسودّة وجوههم.

ثمّ ترد عليَّ راية اُخرى أشدّ سواداً من الاولى ، فأقول لهم: كيف خلّفتموني في الثقلين الأكبر والأصغر: كتاب ربّي وعترتي ؟

فيقولون: أمّا الأكبر فخالفناه ، وأمّا الأصغر فخذلناهم ومزّقناهم(٢) كلّ ممزّق.

فأقول: إليكم عنّي ! فيصدرون ظماءً عطاشاً مسودّة وجوههم.

ثم ترد عليَ راية اُخرى تلمع وجوههم نوراً ، فأقول [لهم]: مَن أنتم ؟

فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى ، نحن اُمّة المصطفى ، ونحن بقية أهل الحقّ ، حملنا كتاب ربّنا فأحللنا حلاله وحرّمنا حرامه ، وأحببنا

____________________

(١) قالرحمه‌الله :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمَا کَانُوا يَعْمَلُونَ‌ ) [النور: ٢٤] ،( وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ‌ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا کَانُوا يَعْمَلُونَ‌ وَ قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ کُلَّ شَيْ‌ءٍ ) [فصلت: ١٩ - ٢١]

(٢) في الأصل: فخذلناه ومزقناه.

١٧٣

ذرّيّة نبيّنا فنصرناهم وقاتلنا معهم.

فأقول لهم: أبشروا فانّي نبيّكم محمد ، ولقد كنتم في دار الدنيا كما وصفتم ، ثمّ أسقيهم من حوضي فيصدرون مرويين مستبشرين ، ثمّ يدخلون الجنّة خالدين فيها أبداً الآبدين».(١)

ورو الشيخ في الأمالي بأسانيده إلى الرضا ، عن آبائهعليهم‌السلام ، عن أسماء بنت عميس قالت: لـمّا ولدت فاطمة الحسينعليهما‌السلام كنت أخدمها في نفاسها به ، فجاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: هلمي ابني يا أسماء ، فدفعته إليه في خرقة بيضاء ، فأخذه وجعله في حجره ، وأذّن في اُذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى.

قالت: وبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال: إنّه سيكون لك حديث ، اللهم العن قاتله ، لا تعلمي فاطمة بذلك.

قالت أسماء: فلمّا كان يوم السابع من مولده جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فعقّ عنه كبشاً أملح ، وأعطى القابلة الورك ورجلاً، وحلق رأس الحسين وتصدّق بوزن الشعر ورقاً ، وخلق رأسه بالخلوق.

قالت: ثمّ وضعته في حجره ، فقال: يا أبا عبد الله ، عزيز عليَّ ، ثم بكى.

[قالت أسماء:] فقلت: بأبي أنت واُمّي ممّا بكاؤك في هذا اليوم وفي اليوم

____________________

(١) الملهوف: ٩٥ - ٩٦.

١٧٤

الأوّل ؟!

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبكي على ابني هذا تقتله فئة باغية كافرة من بني اميّة لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة.

ثم قال: اللهم انّي أسألك فيهما ما سألك إبراهيمعليه‌السلام في ذرّيّته: اللهم أحبّهما وأحبّ من يحبّهما ، والعن من يبغضهما ملء السماء والأرض.(١)

اشدد يداً بحبّ آل أحمد

فانّها عقدة فوز لا تحلّ

وابعث لهم مراثياً ومدحاً

صفوة ما راض الضمير ونخل

وما الخبيثان ابن هند وابنه

وان طغى أمرهما بعدُ وجل

بمبدعين للّذي جاءا به

وانّما تقفيا تلك السبل

____________________

(١) أمالي الشيخ الصدوق: ٣٦٢ ، وانظر: ذخائر العقبى: ١١٩ ، مقتل الحسين للخوارزمي ١: ٨٧ ، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ١٥٤ ، الخصائص الكبرى للسيوطي ٢: ١٢٥.

١٧٥

[المجلس الثاني]

كانت إمامة الحسين بعد أخيه الحسنعليهما‌السلام ثابتة ، وطاعته على جميع الخلق فريضة ، بنصّ أبيه وجدّهعليهما‌السلام ، وعهد أخيه الحسن ووصيّه إليه ، وكانا سيدي شباب أهل الجنة(١) بشهادة جدّهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهما سبطاه بالاتّفاق الذي لا مرية فيه ، وريحانتاه من الدنيا(٢) وحبيباه من جميع أهله ، وهما حجّتا الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المباهلة(٣) ، وحجّتا

____________________

(١) راجع: المعجم الكبير للطبراني: ج ٣ ص ٢٥ - ٣٠ ح ٨ - ٢٦١٨ ، مجمع الزوائد: ج ٩ ص ١٨٢ - ١٨٤ ، حلية الأولياء للأصبهاني: ج ٥ ص ٧١ ، مقتل الحسين للخوارزمي: ج ١ ص ٩٢ ، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ص ٧٢ ح ١٢٩ وص ٧٤ ح ١٣٢ وص ٧٦ ح ١٣٣ وص ٧٧ ح ١٣٤ وص ٧٩ ح ١٣٨ وص ٨٠ - ٨٣ ح ١٣٩ - ١٤٣ ، فرائد السمطين للجويني: ج ٢ ص ٤١ ح ٣٧٤ ، وص ٩٨ - ٩٩ ح ٤٠٩ و٤١٠ وص ١٢٩ ح ٤٢٨ ، بحار الأنوار: ج ١١ ص ١٦٤ ح ٩ وج ١٦ ص ٣٦٢ ح ٦٢ وج ٢٢ ص ٢٨٠ ح ٣٣ وج ٢٥ ص ٣٦٠ ح ١٨.

(٢) كنز العمال: ج ١٣ ص ٦٦٧ ح ٣٧٦٩٩ ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر: ج ٤ ص ٢٠٧.

(٣) إشارة إلى آية المباهلة وهي قوله تعالى:( فَمَنْ حَاجَّکَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَکُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَکُمْ وَ أَنْفُسَنَا وَ أَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْکَاذِبِينَ‌ ) [آل عمران: ٦١].

فقد أجمع الجمهور على أن هذه الآية الشريفة نزلت في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام وذلك لما أراد المباهلة مع نصارى نجران. راجع: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي ١: ١٥٥ - ١٦٦ ح ١٦٨ - ١٧٦ ، المستدرك للحاكم ٣: ١٥٠ ، أسباب النزول للواحدي: ٥٨ - ٥٩ ، صحيح مسلم ٤: ١٨٧١ ح ٣٢ ، سنن الترمذي ٥: ٢١٠ ح ٢٩٩٩ إحقاق الحقّ للتستري ٣: ٤٦ - ٦٢ ، مجمع الزوائد ٧: ١١٠ ، فضائل الصحابة لابن حنبل ٢: ٥٧١ ح ٩٦٦ وص ٥٩٣ ح ١٠٠٨ ، الكتاب المصنف لابن أبي شيبة ١٢: ٨٥ ح ١٢١٨٦ ، المطالب العلية لابن حجر ٤: ٥٦ ح ٣٩٤٩.

١٧٦

الله بعد على الّامة في الدين والملّة.

وإنّ من برهان كمالهما ، وحجّة اختصاص الله لهما بفضله: بيعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لهما ، ولم يبايع صبياً غيرهما ، وكان من عناية الله الخاصّة بهما الدالة على تفضيلهما نزول القرآن بإيجاب الجنّة ثواباً على عملهما أيّام طفوليتهما حيث كانوا:( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخَافُونَ يَوْماً کَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَ يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْکِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْکُمْ جَزَاءً وَ لاَ شُکُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذٰلِکَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً وَ جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً ) (١) ولم ينزل قرآن بذلك في طفلين سواهما.

وقد نصّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على إمامتهما بقوله: ابناي هذين إمامان قاما أو قعدا(٢) .

ودلّت وصيّة الحسن إلى الحسين على إمامته ، كما دلّت وصيّة أمير المؤمنين إلى الحسن على إمامته ، ووصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام على إمامته من بعده. وتفصيل هذا في مظانه من كتب الأعلام من علمائنا رضي ‌الله‌ عنهم ورضوا عنه.(٣)

فالحسين إمام بعد صنوه المجتبى ، وإن لم يدع إلى نفسه أيّام معاوية(٤)

____________________

(١) الانسان: ٧ - ١٢.

(٢) بحار الأنوار: ج ٤٣ ص ٢٩١ ح ٥ وج ٤٤ ص ١ ح ٢.

(٣) للاطلاع على هذه الوصايا ، انظر الارشاد للمفيد.

(٤) معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف ، مؤسّس الدولة الاموية في الشام ، ولد بمكة وأسلم يوم فتحها، ولي قيادة جيش تحت إمرة أخيه في خلافة أبي بكر ، وصار والياً على الاردن في خلافة عثمان ، ثمّ ولاه دمشق ، وجاء عثمان فجمع له الديار الشاميّة كلّها وجعل ولاة

١٧٧

للتقية التي كانوا عليها ، والحال التي آل أمرهم بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إليها ، فهو في ذلك كأبيه أمير المؤمنين حيث يقول: وصفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء - إلى أن قال: - فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شذى ، أرى تراثي نهباً.(١)

أمصارها تابعين له ، وبعد قتل عثمان وولاية عليعليه‌السلام وجّه له لفوره بعزله ، وعلم معاوية قبل وصول البريد ، فنادى بثأر عثمان واتهم علياً بدمه ونشبت الحروب الطاحنة واستعمل معاوية الخديعة والمكر ، مات معاوية في دمشق سنة ٦٠ ه وعهد بالخلافة إلى ابنه يزيد.

انظر: تاريخ الطبري ٦: ١٨٠ ، تاريخ ابن الأثير ٤: ٢ ، البدء والتاريخ ٦: ٥.

____________________

(١) فلقد صبر أمير المؤمنينعليه‌السلام على اغتصاب الخلافة وظلم الزهراءعليها‌السلام وتحريف دين الله وسنّة نبيّه ، ولذا جاءت خطبته الشقشقية تعبيراً عن حالة الظلم التي تعرض لها البيت النبوي بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونظراً لأهمية الخطبة نحن نوردها كاملة.

يقول الإمام عليعليه‌السلام : « اما والله لقد تقمصها فلان (وفي نسخة ابن أبي قحافة) وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا. ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً. وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه ! فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجاً ، أرى تراثي نهباً ، حتّى مضى الأول لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان (وفي نسخة ابن الخطاب) بعده. ثم تمثل بقول الاعشى:

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته - لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ! - فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصّعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس - لعمر الله - بخبط وشماس. وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة ، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم. فيالله وللشورى! متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ! لكنّى أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هنٍ وهنٍ ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته !

١٧٨

وعلى هذا المنوال نسج الحسن - بأبي واُمي - أيّام الهدنة ، إذ تغلب عليه ابن آكلة الأكباد ، وهم جميعاً على سنن النبي في أوّل أمره حيث لم يتمكّنصلى‌الله‌عليه‌وآله من دعوة أحد إلى الله حينئذ أصلاً ، وحال أوصيائه من بعده كحاله حين كان في الشعب محصوراً ، وفي الغار مستوراً ، ولئن كانت هذه الحال منافية للنبوّة فهي غير منافية للإمامة بطريق أولى كما يعلمه أولوا الألباب.

ولـمّا هلك معاوية وانقضت الهدنة التي كانت تمنع الحسينعليه‌السلام من الدعوة إلى نفسه ووجد في ظاهر الحال من الأنصار ما يتسنّى له القيام بالدعوة إلى الله تعالى ، نهض بأعبائها ، وتوجّه بولده وأهل بيته من حرم الله تعالى وحرم رسوله إلى العراق للإستنصار على الظالمين ، بمن دعاه إلى ذلك من أهل الكوفة ، وقدّم أمامه ابن عمّه مسلماً للدعوة إلى الله عز وجل ، والبيعة له على الجهاد في اعلاء كلمته تعالى ، وانقاذ الدين والمسلمين من اولئك المنافقين ، فبايعه أهل الكوفة على ذلك وعاهدوه ، وضمنوا له النصرة والنصيحة وواثقوه ، ثمّ لم تطل المدّة حتى نكثوا البيعة ، وأسلموا مسلماً قتيل بينهم غريباً مظلوماً ، وحيداً شهيداً ، وخرجوا إلى حرب الحسينعليه‌السلام ففعلوا به ما لم يفعلوه

فما راعني الا والناس كعرف الضبع إلي ، ينثالون علي من كل جانب ، حتى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم. فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون: كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول: «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فساداً ، والعاقبة للمتقين » بلى ! والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها !

أما والذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء الايقاروا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لا لقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ! انظر: شرح نهج البلاغة لمحمد عبدة ١: ٣٤ (الخطبة الشقشقية).

١٧٩

بالخوارج ، وقابلوه بما لم يقابلوا به أهل الخنا والريب.

جعجعوا(١) به ومنعوه المسير إلى بلاد الله ، وحالوا بينه وبين ماء الفرات ، حتى قضى شهيداً ظمآناً ، مظلوماً مهموماً ، مجاهداً مكابداً ، صابراً محتسباً ، قد نُكثت بيعته ، واستحلّت حرمته ، ولم يوف له بعهد ، ولا رعيت فيه ذمّة وعقد ، وانتهبوا أمواله ، وسبوا عياله ، فلهفي لآل الرسول ، وللخفرات من عقائل البتول ، وقد ضاقت بهم المذاهب ، وارتجت عليهم المسالك ، مولهين مدلهين ، خائفين مترقّبين.

كانت بحيث عليها قومها ضرب

سرادقاً أرضه من عزّهم حرم

يكاد من هيبة أن لا يطوف به

حتى الملائك لولا انّهم خدم

فغودرت بين أدي القوم حاسرة

تسبى وليس لها من فيه تعتصم

نعم لوت جيدها للعتب هاتفة

بقومها وحشاها ملؤه ضرم

عجت بهم مذ على أبرادها اختلفت

أيدي العدو ولكن من لها بهم

قومي الأولى عقدوا قِدماً مآزرهم

على الحمية ما ضيموا ولا اهتضموا

ما بالهم لا عفت منهم رسومهم

قرّوا وقد حملتنا الأنين الرسم

____________________

(١) كتب ابن زياد إلى عمر: أن جعجع بالحسين ؛ أي أنزله بجعجاع وهو المكان الخشن الغليظ ، وهذا تمثيل لالجائه إلى خطب شاق وإرهاق، وقيل المراد إزعاجه ، لأن الجعجاع مناخ سوء لا يقر فيه صاحبه ، ومنه جعجع الجل: قعد على غير طمأنينة. انظر: الفائق: ٣٦٤.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348