المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه11%

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 348

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه
  • البداية
  • السابق
  • 348 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47079 / تحميل: 4595
الحجم الحجم الحجم
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

المجلس الخامس: في الانفاق صدقة عن الميّت

لا ريب في استحباب الانفاق صدقة عن موتى المؤمنين ، وقد فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك وأمر به.

ففي الصحيحين بطرق متعدّدة عن عائشة قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي [مثل] ما غرت على خديجة وما رأيتها ، لكن كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يكثر ذكرها ، وربّما ذبح الشاة ثمّ يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربّما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا الاخديجة ، فيقول لي: انّها كانت وكانت وكان لي منها ولد.(١)

وأخرج مسلم: أنّ رجلاً أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول الله إن امّي افتلت نفسها ولم توص ، أفلها أجر إن تصدّقت عنها ؟

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم.

وأخرج الإمام أحمد في مسنده: انّ سعد بن عبادة قال: إنّ ابن بكر أخا بني ساعدة توفّيت امّه وهو غائب عنها ، فقال: يا رسول الله إنّ امّي توفّيت وأنا غائب عنها ، فهل ينفعها إن تصدّقت بشيء عنها ؟

قال: نعم.

قال: فاني أشهدك أن حائط المخرف صدقة عليها.(٢)

____________________

(١) قالرحمه‌الله : هذا الحديث يدلّ على استحباب صلة أصدقاء الميّت وأوليائه صدقة عنه.

(٢) قالرحمه‌الله : ربّما كان المنكرون علينا فيما نفعله في مجالسنا من الصدقة عن الحسينعليه‌السلام لا يقنعون بأقوال النبي ولا بأفعالهصلى‌الله‌عليه‌وآله الاأن يكون ذلك مأثوراً عن سلفهم ، وحينئذ نحتجّ عليهم بما فعله الوليد بن أبي معيط الأموي ، إذ مات لبيد بن ربيعة

١٦١

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا مات الانسان انقطع عمله الامن ثلاث: صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له.

وفي خصال الصدوق بالإسناد إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: إنّ الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض فاختارنا ، واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا ، اولئك منّا وإلينا.

بأبي أنتم وامّي أهل بيت الرحمة ، أسبغتم على العالمين آلاءكم ، وأفضتم على أهل الارض سجال نعمائكم ، فاياديكم تسترقّ الأعناق ، ومننكم تستعبد قلوب الأحرار ، وما رأى الراؤون أعطى لجزيل عن ظهر يد منكم(١) ، أنشأتم الهدى ، وكافحتم الكفر والضلال ، والبغي والفساد والعمى ، وسنّيتم في الأرض صراطاً مستقيماً ، وقاسيتم من الناس في سبيل هدايتهم بلاء عظيماً. سلبوكم بشبا الصوارم أنفساً قام الوجود بسرّها المكنون

فما خطر أموالنا وأنفسنا في جنب أموالكم وأنفكسم التي بذلتموها فينا ، وكيف نستكثر أموالاً وأنفساً نقابل بها تلك الأموال والأنفس ، وانّ الجرأة عليكم بسلب عقال من أموالكم المقدّسة ، او مسيل قطرة من دمائكم الزكيّة لأفظع من اجتياح أموال العالمين وأنفسهم كافة ، فالويل لمن قتلكم وسلبكم ، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول ، تبّت أيديهم ولُعنوا بما ارتكبوا ، إذ قتلوا عترة رسول الله وبقيّته فيهم. امّة قاتلت امام هداها يا ترى أين زال عنها حياها

ويحهم أخزاهم الله ، كيف سلبوه حتى ثيابه ، فأخذ قميصه - بأبي وامّي -

العامري الشاعر ، فبعث الوليد إلى منزله عشرين جزوراً فجزرت عنه. نقل ذلك ابن عبد البر في ترجمة لبيد من الاستيعاب.

____________________

(١) قالرحمه‌الله : أي تفضّلاً من غير مكافأة ولا قرض.

١٦٢

إسحاق بن حوية(١) ، وأخذ سراويله أبجر بن كعب(٢) ، وأخذ عمامته أخنس بن

____________________

(١) وهو: إسحاق بن حويّة (حيوة) الحضرمي ، أحد المجرمين في جيش الكوفة ممّن شارك في واقعة كربلاء ، حيث قام بعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام بسلبه قميصه ، وهو من جملة من تطوّع - بأمر عمر بن سعد - لرضّ جسد الإمام الحسينعليه‌السلام بالخيل ، حيث تعتبر هذه الجريمة من الجرائم المفجعة التي ارتكبها جيش ابن زياد بحقّ الإمام الحسين ، وكانت هذه الجريمة قد تمّت بتحريض من شمر بن ذي الجوشن لابن زياد ، فالكتاب الذي بعثه عمر بن سعد إلى ابن زياد كان كتاباً عاديّاً ، لكن ابن زياد ردّ عليه بكتاب يعنّفه فيه ، وكتب إليه: إنّي لم ابعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ، ولا لتمنّيه ، ولا لتطاوله ، ولا لتقعد له عندي شافعاً ، انظر فان نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم اليَّ سلماً ، وإن أَبَو فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثّل بهم ، فإنّهم لذلك مستحقون ، فان قتل الحسين فاوطئ الخيل صدره وظهره ، فانّه عاقّ شاقّ قاطع ظلوم ، فان أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع ، وان أنت أبيت فاعتزل جندنا ، وخلّ بين شمر وبين العسكر ، فأتى شمر بالكتاب وسلّمه لعمر بن سعد.

وبعد استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام عصر يوم عاشوراء نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب إلى الحسين فيوطئه بفرسه ؟ فانتدب منهم عشرة ، حيث داسوا الحسين بخيولهم حتّى رضّوا صدره وظهره ، وهم: إسحاق بن حويّة الحضرمي الذي سلب الحسينعليه‌السلام قميصه ، وأخنس بن مرثد ، وحكيم بن طفيل السبيعي ، وعمر بن صبيح الصيداوي ، ورجاء بن منقذ العبدي ، وسالم بن خيثمة الجعفي ، وواحظ بن ناعم ، وصالح بن وهب الجعفي ، وهانئ بن ثبيت الحضرمي ، واُسيد بن مالك لعنهم الله.

وجاء هؤلاء العشرة حتّى وقفوا على ابن زياد ، فقال أحدهم وهو اُسيد بن مالك: نحن رضضنا الصدر بعد الظهر بكلّ يعسوب شديد الأمر

فقال ابن زياد لعنه الله: مَن أنتم ؟ قالوا: نحن الذين وطئنا بخيولنا ظهر الحسين حتى طحنّا حناجر صدره. قال: فأمر لهم بجائزة يسيرة.

قال أبو عمرو الزاهد: فنظرنا في هؤلاء العشرة فوجدناهم جميعاً أولاد زنا.

وهؤلاء أخذهم المختاررحمه‌الله فشدّ أيديهم وأرجلهم بسلاسل الحديد ، وأوطأ الخيل ظهورهم حتّى هلكوا. انظر: الملهوف: ١٨٣ ، زينة المجالس: ٤٥٩.

(٢) وقيل اسمه: أبحر بن كعب ، حيث قام بتجريد الإمام من ثيابه بعد قتله ، وترك جسد

١٦٣

مرثد ، وأخذ سيفه رجل من بني دارم ، وانتهبوا رحله وإبله وأثقاله ، وسلبوا نساءه وهنّ عقائل النبوّة ، وخفرات بني الوحي والتنزيل.

قال حميد بن مسلم(١) : فوالله لقد كنت أرى المرأة من نساء الحسين وبناته وأهله تنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب به منها.

قال: ثمّ انتهينا إلى علي بن الحسينعليهما‌السلام وهو منبسط على فراش ، وهو شديد المرض ، ومع شمر(٢) جماعة من الرجّالة فقالوا له: ألا نقتل هذا

الحسين عارياً على رمضاء كربلاء ، وقد يبست يدا هذا الشخص فيما بعد حتّى اصبحتا كالخشبتين ، وجاء في خبر آخر إنّه اُصيب بعد ارتداء السروال بشلل في رجليه أقعده عن الحركة تماماً.

انظر: اثبات الهداة ٥: ٢٠١ ، عوالم الإمام الحسين: ٢٩٧ ، بحار الانوار ٤٥: ٥٧.

____________________

(١) في تنقيح المقال ١: ٣٨٠: حميد بن مسلم الكوفي ، لم أقف فيه الاعلى عدّ الشيخرحمه‌الله إيّاه في رجاله من أصحاب السجادعليه‌السلام ، وظاهره كونه إمامياً ، الا أنّ حاله مجهول.

وفي مستدركات علم الرجال ٣: ٢٨٩: حميد بن مسلم الكوفي ، وعدّ من مجاهيل أصحاب السجادعليه‌السلام وهو ناقل جملة من قضايا كربلاء على نحو يظهر منه أنّه كان في وقعة الطف... وكان من جند سليمان بن صرد الخزاعي من طرف المختار في مقتل عين الوردة في حرب الشام لطلب ثأر الحسينعليه‌السلام .

أقول: يحتمل أن يكون أكثر من شخص بهذا الاسم ، فأحدهما كان في وقعة الطف ونقل بعض الوقائع وأرسل عمر بن سعد رأس الحسين معه ومع جماعة إلى عبيدالله بن زياد ، ممّا يدلّ على انّه كان من أعوان عمر بن سعد ، والثاني إمامي من أصحاب الإمام السجاد ومن جند سليمان بن صرد.

(٢) شمر بن ذي الجوشن - واسمه شرحبيل - بن قرط الضبابي الكلابي ، أبو السابغة ، من كبار قتلة ومبغضي الحسينعليه‌السلام ، كان في أوّل أمره من ذوي الرئاسة في هوازن موصوفاً بالشجاعة ، وشهد يوم صفين مع عليّعليه‌السلام ، سمعه أبو إسحاق السبيعي يقول بعد الصلاة: اللهم إنّك تعلم أني شريف فاغفر لي !! فقال له: كيف يغفر الله لك وقد أعنت على قتل

١٦٤

العليل ؟! [قال حميد:] فقلت: سبحان الله أيقتل الصبيان ! إنّما هذا صبي وانّه لما به ، فلم أزل حتى دفعتهم عنه.

قال: وجاء عمر بن سعد فصاح النساء في وجهه وبكين ، فقال لأصحابه: لا يدخل أحد منكم بيوت هؤلاء النسوة ، ولا تتعرّضوا لهذا الغلام المريض ، وسألته النسوة ليسترجعن ما أخذ منهنّ ليسترن به ، فقال: من أخذ من متاعهنّ شيء فليرده عليهنّ.

[قال:] فوالله ما ردّ أحد منهم شيئاً.

وروى حميد بن مسلم أيضاً قال: رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد ، فلمّا رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسينعليه‌السلام فسطاطهنّ ، وهم يسلبونهنّ أخذت سيفاً وأقبلت نحو الفسطاط، وقالت: يا آل بكر بن وائل أتُسلب بنات رسول الله ؟ لا حكم الالله ، يا لثارات رسول الله.

قال: فأخذها زوجها وردّها إلى رحله. أأنسى هجوم الخيل ضابحة(١) على خيام نساكم بالعواسل والقضب

ابن رسول الله ؟! فقال: ويحك كيف نصنع ، إنّ اُمراءنا هؤلاء أمرونا بأمرٍ فلم نخالفهم ! ولو خالفناهم كنّا شرّاً من هذه الحمر ؟ ثمّ أنّه لمـّا قام المختار طلب الشمر ، فخرج من الكوفة وسار إلى الكلتانية - قرية من قرى خوزستان - ففجأة جمع من رجال المختار ، فبرز لهم الشمر قبل أن يتمكّن من لبس ثيابه فطاعنهم قليلاً وتمكّن منه أبو عمرة فقتله واُلقيت جثته للكلاب. انظر: الكامل في التاريخ ٤: ٩٢ ، ميزان الاعتدال ١: ٤٤ ، لسان الميزان ٣: ١٥٢.

____________________

(١) ضبحت الخيل في عدوها: أسمعت من أفواهها صوتاً ليس بصهيل ولا حمحمة.

١٦٥

عشية حنّت جزعاً خفراتكم

بأوجهها ندباً لحامي الحمى الندب

صرخن بلا لبّ وما زال صوتها

يغضّ ولكن صحن من دهشة اللب

فأبرزن من حجب الخدور تودّ لو

قضت نحبها قبل الخروج من الحجب

وسيقت سبايا فوق أحلاس هزل

إلى الشام تطوي البيد سهباً على سهب

يسار بها عنفاً بلا رفق محرم

بها غير مغلول يحن على صعب

ويحضرها الطاغي يناديه شامتاً

بما نال أهل البيت من فادح الخطب

ويوضع رأس السبط بين يديه كي

تدار عليه الراح في مجلس الشرب

ويسمع آل الله شتم خطيبه

أبا الحسن الممدوح في محكم الكتب

يصلّي عليه الله جلّ وتجتري

على سبّه من خصّها الله بالسبّ

١٦٦

الفصل الاول

فيما يُتلى بتمامه صبيحة العاشر من المحرم ، ويتلى مجالس متعدّدة في سائر أيّام العشر ،أو في باقي أيّام السنّة ، فهو ليوم العاشر مجلس واحد ، ولغيره اثنا عشر مجلساً

فلينتبه القارئ - في غير يوم عاشوراء - بوقوفه عليها ،وليذكرني بأدعيته فانّي مضطر إليها ، والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل

١٦٧

١٦٨

[المجلس الأوّل]

كان مولد الحسينعليه‌السلام لخمس [ليالٍ] خلون من شعبان سنة أربع للهجرة ، وروي غير ذلك(١) .

ولمّا ولد هبط جبرئيلعليه‌السلام في ألف مَلك يهنّئون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد سرّ به وسمّاه حسيناً.

وعن امّ الفضل(٢) قالت: رأيت في منامي قبل مولد الحسينعليه‌السلام (٣) كأنّ قطعة من لحم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قُطعت فوضعت في حجري ، فقصصت ذلك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: «رأيتِ خيراً ، إن

____________________

(١) وقيل: اليوم الثالث منه ؛ وقيل: في أواخر شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث من الهجرة.

(٢) لبابة بنت الحارث الهلالية ، الشهيرة بامّ الفضل ، زوجة العباس بن عبد المطلب ، ولدت من العباس سبعة أسلمت بمكة بعد إسلام خديجة، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يزورها ويقيل في بيتها ، توفيت نحو ٣٠ ه. انظر: الاصابة: ترجمة رقم ٩٤٢ و١٤٤٨ ، الجمع بين الصحيحين: ٦١٢ ، الاعلام ٥: ٢٣٩.

(٣) قالرحمه‌الله : وأخرج أحمد بن حنبل من حديث امّ الفضل زوجة العبّاس ، قالت: كأنّ في بيتي عضواً من أعضاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجزعت من ذلك فأتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فذكرت له ذلك ، فقال: خيراً تلد فاطمة غلاماً فتكفلينه بلبن ابنك قثم ، قالت: فولدت حسيناً فأعطيته حتى تحرك أو فطمته ثمّ جئت به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأجلسته في حجره ، فبال ، فضربت بين كتفيه ، فقال: ارفقي بابني رحمك الله أو أصلحك الله أوجعت ابني... الحديث في ص ٣٣٩ من الجزء السادس.

١٦٩

صدقت رؤياك فإنّ فاطمة تلد غلاماً ، وأدفعه إليك لترضعينه».

قالت: فجرى الأمر على ذلك.

فجئت به يوماً إليه فوضعته في حجره ، فبينما هو يقبّله بال ، فقطرت من بوله قطرة على ثوب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقرصته ، فبكى ، فقال النبي كالمغضب: «مهلاً يا اُمّ الفضل ، فهذا ثوبي يُغسل ، وقد أوجعتِ ابني».

قالت: فتركته في حجره وقمت لآتيه بماء ، فجئت إليه فوجدته يبكي ، فقلت: ممّ بكاؤك يا رسول الله ؟

فقال: «انّ جبرئيل أتاني فأخبرني أنّ اُمّتي ستقتل ولدي [هذا] ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة».(١)

ولـمّا أتت على الحسين من مولده سنة كاملة هبط على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اثنا عشر ملكاً محمرّة وجوههم ، باكية عيونهم ، وهم يقولون: إنّه سينزل بولدك الحسين ما نزل بهابيل من قابيل ، وسيعطى مثل أجر هابيل ، ويحمل على قاتله مثل وزر قابيل.

[قال:] ولم يبق في السماوات ملك مقرّب الا ونزل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقرؤه السلام ، ويعزّيه عن الحسين ، ويخبره في ثواب ما يُعطى ، ويَعرض

____________________

(١) المستدرك ٣: ١٧٦ ، دلائل النبوة ١: ٢١٣ ، الصواعق المحرقة: ١١٥ ، الخصائص الكبرى ٢: ١٢٥ ، الفصول المهمّة ١٥٤ ، كنز العمّال ٦: ٢٢٣ (باختلاف يسير في الألفاظ).

١٧٠

عليه تربته(١) والنبي يقول: «اللهم اخذل مَن خذله ، واقتل مَن قتله ، ولا تمتعه بما طلبه».

[قال:] فلمّا أتى على مولده سنتان خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في سفر له ، فوقف في بعض الطريق ، واسترجع ودمعت عيناه.

فسئل عن ذلك ، فقال: «[هذا] جبرئيل يخبرني عن أرضٍ بشطّ الفرات يقال لها كربلاء ، يقتل فيها ولدي الحسين [بن فاطمة».

فقيل له: مَن يقتله يا رسول الله ؟

فقال: «رجل اسمه يزيد ،] وكأنّي أنظر غلى مصرعه ومدفنه».

ثم رجعصلى‌الله‌عليه‌وآله من سفره مهموماً مغموماً ، فصعد المنبر فخطب ، والحسن والحسين بين يديه ، ثمّ نزل فوضع يده اليمنى على رأس الحسن ويده اليسرى على رأس الحسين ، وقد رفع رأسه إلى السماء فقال: «اللهم إنّ محمّداً عبدك ونبيّك ، وهذان أطائب عترتي وخيار ذرّيّتي [وارومتي(٢) ] ومن اُخلفهما في اُمّتي ، وقد أخبرني جبرئيلعليه‌السلام أنّ ولدي

____________________

(١) قالرحمه‌الله : وقد أخرج أحمد بن حنبل من حديث عليعليه‌السلام في ص ٨٥ من الجزء الأوّل من مسنده حديثاً في هذا الموضوع طويلاً جاء في آخره: انّ جبرائيلعليه‌السلام حدّث النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحسين بشط الفرات وانّه قال له: هل لك إلى أن أشمّك من تربته ؟

قال: قلت: نعم.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمدّ يده فقبض من تراب فأعطانيها فلم أملك عينيّ ان فاضتا.

(٢) الاُرومة: الأصل.

١٧١

هذا مخذول مقتول.

اللهم بارك له في قتله ، واجعله من سادات الشهداء ، اللهم ولا تبارك في قاتله وخاذله».

[قال:] فضجّ الناس في المسجد بالبكاء.

[فقال النبي: «أتبكون ولا تنصرونه ؟! اللهم فكن له أنت ولياً وناصراً»].(١)

ثم رجعصلى‌الله‌عليه‌وآله فخطب خطبة أخرى موجزة وهو متغيّر اللون وعيناه تهملان دموعاً فقال:

«أيها الناس ، إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عز وجل ، وعترتي أهل بيتي ، وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ألا وإنّي أنتظرهما ، وإنّي لا أسألكم في ذلك الاما أمرني ربّي المودة في القربى.

ألا وإنّه سترد عليَّ [يوم القيامة] ثلاث رايات من هذه الامّة:

الاولى: سوداء مظلمة قد فزعت لها الملائكة ، فتقف عليَّ ، فاقول: مَن أنتم ؟

فينسون ذكري ، فيقولون: نحن أهل التوحيد من العرب.

فأقول [لهم]: أنا أحمد نبيّ العرب والعجم.

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ١: ١٦٣ ، ذخائر العقبى: ١٤٩ ، الصراط السوي للشيخاني المدني: ٩٣ ، الملهوف: ٩٤.

١٧٢

فيقولون: نحن من اُمّتك.

فأقول لهم: كيف خلّفتموني في عترتي وكتاب ربّي ؟

فيقولون(١) : أمّا الكتاب فضيّعناه ، وأمّا عترتك فحرصنا على أن نبيدهم عن آخرهم.

فأُولّي عنهم وجهي ، فيصدرون عطاشاً مسودّة وجوههم.

ثمّ ترد عليَّ راية اُخرى أشدّ سواداً من الاولى ، فأقول لهم: كيف خلّفتموني في الثقلين الأكبر والأصغر: كتاب ربّي وعترتي ؟

فيقولون: أمّا الأكبر فخالفناه ، وأمّا الأصغر فخذلناهم ومزّقناهم(٢) كلّ ممزّق.

فأقول: إليكم عنّي ! فيصدرون ظماءً عطاشاً مسودّة وجوههم.

ثم ترد عليَ راية اُخرى تلمع وجوههم نوراً ، فأقول [لهم]: مَن أنتم ؟

فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى ، نحن اُمّة المصطفى ، ونحن بقية أهل الحقّ ، حملنا كتاب ربّنا فأحللنا حلاله وحرّمنا حرامه ، وأحببنا

____________________

(١) قالرحمه‌الله :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمَا کَانُوا يَعْمَلُونَ‌ ) [النور: ٢٤] ،( وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ‌ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا کَانُوا يَعْمَلُونَ‌ وَ قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ کُلَّ شَيْ‌ءٍ ) [فصلت: ١٩ - ٢١]

(٢) في الأصل: فخذلناه ومزقناه.

١٧٣

ذرّيّة نبيّنا فنصرناهم وقاتلنا معهم.

فأقول لهم: أبشروا فانّي نبيّكم محمد ، ولقد كنتم في دار الدنيا كما وصفتم ، ثمّ أسقيهم من حوضي فيصدرون مرويين مستبشرين ، ثمّ يدخلون الجنّة خالدين فيها أبداً الآبدين».(١)

ورو الشيخ في الأمالي بأسانيده إلى الرضا ، عن آبائهعليهم‌السلام ، عن أسماء بنت عميس قالت: لـمّا ولدت فاطمة الحسينعليهما‌السلام كنت أخدمها في نفاسها به ، فجاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: هلمي ابني يا أسماء ، فدفعته إليه في خرقة بيضاء ، فأخذه وجعله في حجره ، وأذّن في اُذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى.

قالت: وبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال: إنّه سيكون لك حديث ، اللهم العن قاتله ، لا تعلمي فاطمة بذلك.

قالت أسماء: فلمّا كان يوم السابع من مولده جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فعقّ عنه كبشاً أملح ، وأعطى القابلة الورك ورجلاً، وحلق رأس الحسين وتصدّق بوزن الشعر ورقاً ، وخلق رأسه بالخلوق.

قالت: ثمّ وضعته في حجره ، فقال: يا أبا عبد الله ، عزيز عليَّ ، ثم بكى.

[قالت أسماء:] فقلت: بأبي أنت واُمّي ممّا بكاؤك في هذا اليوم وفي اليوم

____________________

(١) الملهوف: ٩٥ - ٩٦.

١٧٤

الأوّل ؟!

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبكي على ابني هذا تقتله فئة باغية كافرة من بني اميّة لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة.

ثم قال: اللهم انّي أسألك فيهما ما سألك إبراهيمعليه‌السلام في ذرّيّته: اللهم أحبّهما وأحبّ من يحبّهما ، والعن من يبغضهما ملء السماء والأرض.(١)

اشدد يداً بحبّ آل أحمد

فانّها عقدة فوز لا تحلّ

وابعث لهم مراثياً ومدحاً

صفوة ما راض الضمير ونخل

وما الخبيثان ابن هند وابنه

وان طغى أمرهما بعدُ وجل

بمبدعين للّذي جاءا به

وانّما تقفيا تلك السبل

____________________

(١) أمالي الشيخ الصدوق: ٣٦٢ ، وانظر: ذخائر العقبى: ١١٩ ، مقتل الحسين للخوارزمي ١: ٨٧ ، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ١٥٤ ، الخصائص الكبرى للسيوطي ٢: ١٢٥.

١٧٥

[المجلس الثاني]

كانت إمامة الحسين بعد أخيه الحسنعليهما‌السلام ثابتة ، وطاعته على جميع الخلق فريضة ، بنصّ أبيه وجدّهعليهما‌السلام ، وعهد أخيه الحسن ووصيّه إليه ، وكانا سيدي شباب أهل الجنة(١) بشهادة جدّهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهما سبطاه بالاتّفاق الذي لا مرية فيه ، وريحانتاه من الدنيا(٢) وحبيباه من جميع أهله ، وهما حجّتا الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المباهلة(٣) ، وحجّتا

____________________

(١) راجع: المعجم الكبير للطبراني: ج ٣ ص ٢٥ - ٣٠ ح ٨ - ٢٦١٨ ، مجمع الزوائد: ج ٩ ص ١٨٢ - ١٨٤ ، حلية الأولياء للأصبهاني: ج ٥ ص ٧١ ، مقتل الحسين للخوارزمي: ج ١ ص ٩٢ ، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ص ٧٢ ح ١٢٩ وص ٧٤ ح ١٣٢ وص ٧٦ ح ١٣٣ وص ٧٧ ح ١٣٤ وص ٧٩ ح ١٣٨ وص ٨٠ - ٨٣ ح ١٣٩ - ١٤٣ ، فرائد السمطين للجويني: ج ٢ ص ٤١ ح ٣٧٤ ، وص ٩٨ - ٩٩ ح ٤٠٩ و٤١٠ وص ١٢٩ ح ٤٢٨ ، بحار الأنوار: ج ١١ ص ١٦٤ ح ٩ وج ١٦ ص ٣٦٢ ح ٦٢ وج ٢٢ ص ٢٨٠ ح ٣٣ وج ٢٥ ص ٣٦٠ ح ١٨.

(٢) كنز العمال: ج ١٣ ص ٦٦٧ ح ٣٧٦٩٩ ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر: ج ٤ ص ٢٠٧.

(٣) إشارة إلى آية المباهلة وهي قوله تعالى:( فَمَنْ حَاجَّکَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَکُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَکُمْ وَ أَنْفُسَنَا وَ أَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْکَاذِبِينَ‌ ) [آل عمران: ٦١].

فقد أجمع الجمهور على أن هذه الآية الشريفة نزلت في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام وذلك لما أراد المباهلة مع نصارى نجران. راجع: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي ١: ١٥٥ - ١٦٦ ح ١٦٨ - ١٧٦ ، المستدرك للحاكم ٣: ١٥٠ ، أسباب النزول للواحدي: ٥٨ - ٥٩ ، صحيح مسلم ٤: ١٨٧١ ح ٣٢ ، سنن الترمذي ٥: ٢١٠ ح ٢٩٩٩ إحقاق الحقّ للتستري ٣: ٤٦ - ٦٢ ، مجمع الزوائد ٧: ١١٠ ، فضائل الصحابة لابن حنبل ٢: ٥٧١ ح ٩٦٦ وص ٥٩٣ ح ١٠٠٨ ، الكتاب المصنف لابن أبي شيبة ١٢: ٨٥ ح ١٢١٨٦ ، المطالب العلية لابن حجر ٤: ٥٦ ح ٣٩٤٩.

١٧٦

الله بعد على الّامة في الدين والملّة.

وإنّ من برهان كمالهما ، وحجّة اختصاص الله لهما بفضله: بيعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لهما ، ولم يبايع صبياً غيرهما ، وكان من عناية الله الخاصّة بهما الدالة على تفضيلهما نزول القرآن بإيجاب الجنّة ثواباً على عملهما أيّام طفوليتهما حيث كانوا:( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخَافُونَ يَوْماً کَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَ يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْکِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْکُمْ جَزَاءً وَ لاَ شُکُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذٰلِکَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً وَ جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً ) (١) ولم ينزل قرآن بذلك في طفلين سواهما.

وقد نصّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على إمامتهما بقوله: ابناي هذين إمامان قاما أو قعدا(٢) .

ودلّت وصيّة الحسن إلى الحسين على إمامته ، كما دلّت وصيّة أمير المؤمنين إلى الحسن على إمامته ، ووصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام على إمامته من بعده. وتفصيل هذا في مظانه من كتب الأعلام من علمائنا رضي ‌الله‌ عنهم ورضوا عنه.(٣)

فالحسين إمام بعد صنوه المجتبى ، وإن لم يدع إلى نفسه أيّام معاوية(٤)

____________________

(١) الانسان: ٧ - ١٢.

(٢) بحار الأنوار: ج ٤٣ ص ٢٩١ ح ٥ وج ٤٤ ص ١ ح ٢.

(٣) للاطلاع على هذه الوصايا ، انظر الارشاد للمفيد.

(٤) معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف ، مؤسّس الدولة الاموية في الشام ، ولد بمكة وأسلم يوم فتحها، ولي قيادة جيش تحت إمرة أخيه في خلافة أبي بكر ، وصار والياً على الاردن في خلافة عثمان ، ثمّ ولاه دمشق ، وجاء عثمان فجمع له الديار الشاميّة كلّها وجعل ولاة

١٧٧

للتقية التي كانوا عليها ، والحال التي آل أمرهم بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إليها ، فهو في ذلك كأبيه أمير المؤمنين حيث يقول: وصفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء - إلى أن قال: - فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شذى ، أرى تراثي نهباً.(١)

أمصارها تابعين له ، وبعد قتل عثمان وولاية عليعليه‌السلام وجّه له لفوره بعزله ، وعلم معاوية قبل وصول البريد ، فنادى بثأر عثمان واتهم علياً بدمه ونشبت الحروب الطاحنة واستعمل معاوية الخديعة والمكر ، مات معاوية في دمشق سنة ٦٠ ه وعهد بالخلافة إلى ابنه يزيد.

انظر: تاريخ الطبري ٦: ١٨٠ ، تاريخ ابن الأثير ٤: ٢ ، البدء والتاريخ ٦: ٥.

____________________

(١) فلقد صبر أمير المؤمنينعليه‌السلام على اغتصاب الخلافة وظلم الزهراءعليها‌السلام وتحريف دين الله وسنّة نبيّه ، ولذا جاءت خطبته الشقشقية تعبيراً عن حالة الظلم التي تعرض لها البيت النبوي بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونظراً لأهمية الخطبة نحن نوردها كاملة.

يقول الإمام عليعليه‌السلام : « اما والله لقد تقمصها فلان (وفي نسخة ابن أبي قحافة) وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا. ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً. وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه ! فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجاً ، أرى تراثي نهباً ، حتّى مضى الأول لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان (وفي نسخة ابن الخطاب) بعده. ثم تمثل بقول الاعشى:

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته - لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ! - فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصّعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس - لعمر الله - بخبط وشماس. وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة ، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم. فيالله وللشورى! متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ! لكنّى أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هنٍ وهنٍ ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته !

١٧٨

وعلى هذا المنوال نسج الحسن - بأبي واُمي - أيّام الهدنة ، إذ تغلب عليه ابن آكلة الأكباد ، وهم جميعاً على سنن النبي في أوّل أمره حيث لم يتمكّنصلى‌الله‌عليه‌وآله من دعوة أحد إلى الله حينئذ أصلاً ، وحال أوصيائه من بعده كحاله حين كان في الشعب محصوراً ، وفي الغار مستوراً ، ولئن كانت هذه الحال منافية للنبوّة فهي غير منافية للإمامة بطريق أولى كما يعلمه أولوا الألباب.

ولـمّا هلك معاوية وانقضت الهدنة التي كانت تمنع الحسينعليه‌السلام من الدعوة إلى نفسه ووجد في ظاهر الحال من الأنصار ما يتسنّى له القيام بالدعوة إلى الله تعالى ، نهض بأعبائها ، وتوجّه بولده وأهل بيته من حرم الله تعالى وحرم رسوله إلى العراق للإستنصار على الظالمين ، بمن دعاه إلى ذلك من أهل الكوفة ، وقدّم أمامه ابن عمّه مسلماً للدعوة إلى الله عز وجل ، والبيعة له على الجهاد في اعلاء كلمته تعالى ، وانقاذ الدين والمسلمين من اولئك المنافقين ، فبايعه أهل الكوفة على ذلك وعاهدوه ، وضمنوا له النصرة والنصيحة وواثقوه ، ثمّ لم تطل المدّة حتى نكثوا البيعة ، وأسلموا مسلماً قتيل بينهم غريباً مظلوماً ، وحيداً شهيداً ، وخرجوا إلى حرب الحسينعليه‌السلام ففعلوا به ما لم يفعلوه

فما راعني الا والناس كعرف الضبع إلي ، ينثالون علي من كل جانب ، حتى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم. فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون: كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول: «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فساداً ، والعاقبة للمتقين » بلى ! والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها !

أما والذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء الايقاروا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لا لقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ! انظر: شرح نهج البلاغة لمحمد عبدة ١: ٣٤ (الخطبة الشقشقية).

١٧٩

بالخوارج ، وقابلوه بما لم يقابلوا به أهل الخنا والريب.

جعجعوا(١) به ومنعوه المسير إلى بلاد الله ، وحالوا بينه وبين ماء الفرات ، حتى قضى شهيداً ظمآناً ، مظلوماً مهموماً ، مجاهداً مكابداً ، صابراً محتسباً ، قد نُكثت بيعته ، واستحلّت حرمته ، ولم يوف له بعهد ، ولا رعيت فيه ذمّة وعقد ، وانتهبوا أمواله ، وسبوا عياله ، فلهفي لآل الرسول ، وللخفرات من عقائل البتول ، وقد ضاقت بهم المذاهب ، وارتجت عليهم المسالك ، مولهين مدلهين ، خائفين مترقّبين.

كانت بحيث عليها قومها ضرب

سرادقاً أرضه من عزّهم حرم

يكاد من هيبة أن لا يطوف به

حتى الملائك لولا انّهم خدم

فغودرت بين أدي القوم حاسرة

تسبى وليس لها من فيه تعتصم

نعم لوت جيدها للعتب هاتفة

بقومها وحشاها ملؤه ضرم

عجت بهم مذ على أبرادها اختلفت

أيدي العدو ولكن من لها بهم

قومي الأولى عقدوا قِدماً مآزرهم

على الحمية ما ضيموا ولا اهتضموا

ما بالهم لا عفت منهم رسومهم

قرّوا وقد حملتنا الأنين الرسم

____________________

(١) كتب ابن زياد إلى عمر: أن جعجع بالحسين ؛ أي أنزله بجعجاع وهو المكان الخشن الغليظ ، وهذا تمثيل لالجائه إلى خطب شاق وإرهاق، وقيل المراد إزعاجه ، لأن الجعجاع مناخ سوء لا يقر فيه صاحبه ، ومنه جعجع الجل: قعد على غير طمأنينة. انظر: الفائق: ٣٦٤.

١٨٠

[المجلس الثالث]

لما اختار الله تعالى للإمام أبي محمد الحسن السبطعليه‌السلام دار كرامته ومأوى أصفيائه ، كتب الشيعة في العراق إلى الحسينعليه‌السلام يعرضون عليه البيعة(١) ويبذلون له النصرة فأبى عليهم ، وذكر أن بينهمعليه‌السلام وبين معاوية هدنة لا يجوز لهم نقضها ، فلما هلك معاوية وذلك للنصف من رجب سن ستين(٢) قام من بعده ولي عهده يزيد المتهتّك ، وسكيره المفضوح ، وهو صبي يشرب الشراب ، ويلعب بالكلاب ، ولا يعرف من الدين موطئ قدمه ، ولا يرقب الاولا ذمّة.

فكتب إلى ابن عمّه الوليد بن عتبة(٣) - وكان والياً على المدينة - يأمره بأخذ البيعة له من الناس عامّة ، ومن الحسين خاصة ، ويقول له: «إن أبى عليك الحسين فاضرب عنقه ، وابعث إليّ برأسه(٤) .

____________________

(١) ارشاد المفيد: ٢٠٠ ، المهلوف: ٩٦.

(٢) انظر: تاريخ الطبري ٦: ١٨٠ ، تاريخ ابن الاثير ٤: ٢ ، البدء والتاريخ ٦: ٥ ، الأعلام ٧: ٢٦١ - ٢٦٢.

(٣) الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ابن حرب الاموي ، أمير من رجالات بني اميّة ، ولي المدينة سنة ٥٧ ه أيام معاوية ، ومات معاوية فكتب إليه يزيد أن يأخذ له البيعة ، عزله يزيد سنة ٦٠ ه واستقدمه إليه ، فكان من رجال مشورته بدمشق ، ثمّ أعاده سنة ٦١ ه وثورة عبد الله بن الزبير في أبانها بمكّة ، وظلّ في المدينة إلى أن توفي بالطاعون سنة ٦٤ ه.

انظر: مرآة الجنان ١: ١٤٠ ، نسب قريش: ١٣٣ و٤٣٣ ، الأعلام ٨: ١٢.

(٤) الملهوف: ٩٧.

١٨١

فاستشار الوليد مروان(١) في ذلك ، فقال له: إنّه لا يبايع ، ولو كنت مكانك لضربت عنقه.

ثم بعث إلى الحسينعليه‌السلام ، فجاءه - بأبي وامّي - في ثلاثين رجلا من أهل بيته ومواليه ، فنعى [الوليد] إليه معاوية ، وكلّفه بالبيعة(٢) .

فقال لهعليه‌السلام : إنّ البيعة لا تكون سرّاً ، فإذا دعوتَ الناس غداً فادعنا معهم.

فقال مروان: لا تقبل أيّها الأمير عذره ، فان بايع الآن والا فاضرب عنقه.

فغضب الحسينعليه‌السلام ثم قال: ويل بك يا بن الزرقاء ، أنت تقتلني أم هو ؟ كذبتَ والله وأثمت.

ثم أقبل على الوليد فقال: «إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ، وبنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل [فاسق] شارب الخمور ، قاتل النفس المحرّمة ، معلنٌ بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله» ، ثمّ خرجعليه‌السلام ، فقال مروان للوليد: عصيتني.

فقال: ويحك أنّك أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي ، والله ما اُحبّ أنّ الدنيا بأسرها تكون لي وأنّني قتلتُ حسيناً أن قال: لا ابايع ، والله ما أظنّ أن

____________________

(١) مروان بن الحكم بن أبي العاص ، ولد بمكّة وسكن المدينة ، جعله عثمان من خاصّته واتّخذه كاتباً له ، وبعد قتل عثمان خرج مروان مع عائشة إلى البصرة ، وشهد صفين مع معاوية ، ولي المدينة سنة في ولاية معاوية ، وهو أوّل مَن ملك من بني الحكم بن أبي العاص (طريد رسول الله) ، ماتسنة ٦٥ بالطاعون ؛ وقيل: قتلته زوجته اُمّ خالد.

انظر: أسد الغابة ٤: ٣٤٨ ، تاريخ ابن الأثير ٤: ٧٤ ، تاريخ الطبري ٧: ٣٤.

(٢) أي البيعة ليزيد.

١٨٢

أحداً يلقي الله بدم الحسينعليه‌السلام الا وهو خفيف الميزان يوم القيامة ، لا ينظر الله إليه ولا يزكّيه وله عذاب أليم.

فأقام الحسينعليه‌السلام في منزله تلك الليلة ، وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستّين.

فما أصبح - بأبي واُمّي - خرج يستمع الأخبار فلقيه مروان فقال: يا أبا عبد الله إنّي لك ناصح ، فاطعني ترشد.

فقال الحسينعليه‌السلام : وما ذاك ؟ قل حتى أسمع.

فقال: إنّي آمرك ببيعة يزيد فانّه خير لك في دينك ودنياك !

فقالعليه‌السلام : إنّا لله وإنّا إليه راجعون على الاسلام السلام إذا قد بليت الّامّة براع مثل يزيد.. وطال الحديث بينهما حتى ولّى مروان وهو غضبان.

فلمّا كان آخر يوم السبت بعث الوليد برجاله إلى الحسين ليحضر فيبايع.

فقال له الحسينعليه‌السلام : أصبحوا ثمّ ترون ونرى.

فكفّوا عنه ولم يلحّوا عليه.

فخرج - بأبي واُمّي - من تحت ليلته وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجّهاً نحو مكّة ومعه بنوه وبنو أخيه واخوته وجلّ أهل بيته ، سار من المدينة وهو يقرأ:( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَبُ قَالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ ) (١) .

ولزم الطريق الأعظم ، فسئل أن يتنكّب الطريق كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقه الطلب فأبى وقال: لا اُفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض ، وكان دخوله

____________________

(١) سورة القصص: ٢١.

١٨٣

مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان دخلها وهو يقرأ:( وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ ) (١) .

فأقام فيها باقي شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة وثمان ليال من ذي الحجّة ، ثم لم يأمن على نفسه ، ولم يتمكّن من تمام حجّة مخافة أن يقبض عليه بمكّة فينفذ به إلى يزيد بن معاوية فأحل من احرامه وجعلها عمرة مفردة وخرج من مكّة وهي حرم الله الذي يأمن فيه الوحش والطير ، كما خرج من المدينة وهي حرم جدّه رسول الله خائفاً يترقّب...

فوالهفتاه وواجزعاه عليك يا وديعة المصطفى ، وريحانته من الدنيا.

وواحرّ قلباه لك يا خامس أصحاب الكساء ، وقرّة عين سيّدة النساء.

يا بن مكّة ومنى ، وابن زمزم والصفا ، خفت على نفسك في الحرم ، وأنت أمن الخائفين ، وفررت منهم لما خفتهم بأطفالك وعيالك ، وأنت ملجأ الهاربين.

فيا لله من هذه الفادحة التي أثكلت جبرائيل ، ووامصيبتاه من هذه النازلة إذ عظمت على الربّ الجليل.

مثل ابن فاطمة يبيت مشرّداً

ويزيد في لذّاته متنعّم

ويضيق الدنيا على ابن محمد

حتى تقاذفه الفضاء الأعظم

خرج الحسين من المدينة خائفاً

كخروج موسى خائفاً يتكتّم

وقد انجلى عن مكّة وهو ابنها

وبه تشرّفت الحطيم وزمزم

لم يدر أين يريح بدون ركابه

فكأنّما المأوى عليه محرّم

فمشت تؤم به العراق نجائب

مثل النعم به تخب وترسم

____________________

(١) سورة القصص: ٢٢.

١٨٤

[المجلس الرابع]

ولما نزل الحسينعليه‌السلام مكّة أقبل أهلها ومن كان فيها من المعتمرين وأهل الآفاق يختلفون إليه ، وجاءه ابن عبّاس وابن الزبير فأشارا عليه بالامساك فقال: « ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرني بأمر وأنا ماض فيه».

فخرج ابن عباس وهو يقول: «واحسيناه»(١) .

وجاءه ابن عمر فأشار عليه بالصلح.

فقالعليه‌السلام : «يا أبا عبد الرحمن أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا اُهدي الى بغي من بغايا بني إسرائيل ، أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوعي الفجر والشمس سبعين نبيّاً ، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنّهم لم يصنعوا شيئاً فلم يعجّل الله عليهم ثم أخذهم أخذ عزيز ذي انتقام ، اتّق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي»(٢) .

وبلغ أهل الكوفة هلاك معاوية فأرجفوا بيزيد ، وعرفوا بامتناع الحسين من بيعته ، ومجيئه إلى مكّة(٣) .

____________________

(١) الملهوف: ١٠١ ، أنساب الأشراف للبلاذري ، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام : ١٦٦.

(٢) أنساب الأشراف (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ): ١٦٦ - ١٦٧.

(٣) الإرشاد للمفيد: ٢٠٦.

١٨٥

فاجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي(١) ، فلمّا تكاملوا قام سليمان فقال: إن معاوية قد هلك ، وان حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته ، وخرج إلى مكّة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فان كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدوا عدوّه ، ونقتل انفسنا دونه فاكتبوا إليه ، وان خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل.

قالوا: لا ، بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه.

قال: فاكتبوا إذاً إليه. فكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن عليعليهما‌السلام .

____________________

(١) أبو مطرّف سليمان بن صرد بن الجون بن أبي الجون عبد العزّى بن منقذ السلولي الخزاعي ، صحابي ، كان اسمه في الجاهلية «يسار» وسمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باسم «سليمان» ، شهد الجمل وصفّين مع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهو من أوائل من سكن الكوفة من المسلمين ، كان من وجهاء الشيعة فيها ، وله مكانة جليلة عندهم ، قاد ثورة التوابين التي انطلقت من الكوفة للمطالبة بدم الحسينعليه‌السلام .

بعد موت معاوية كان من جملة من كتب إلى الحسين يدعوه للقدوم إلى الكوفة ، وقف إلى جانب مسلم بن عقيل عند وثوبه فيها ، لكن ابن زياد ألقاه في السجن ؛ ولهذا لم يحظ بالمشاركة في معركة الطف.

وبعد واقعة كربلاء ، حين استشعر أهل الكوفة الندم لنكولهم عن نصرة الحسين ، اضطلع هو بقيادة ثورة التوابين الذين أعلنوا ثورتهم عام ٦٥ للهجرة ، وكان شعارهم «يا لثارات الحسين» ، حيث اشتبكوا مع جيش ابن زياد في موضع يُقال له «عين الوردة» واستشهد في هذه المعركة هو وعدّة من أصحابه ، قتله الحصين بن نمير ؛ وقيل: انّه استشهد اثناء الاشتباك مع القوات التي كانت موفدة من الشام إلى الحجاز. كان عمر سليمان بن صرد عند استشهاده ٩٣ سنة ، وبعد استشهاده أرسلوا رأسه إلى مروان بن الحكم في الشام ، انظر: الإصابة ترجمة رقم ٣٤٥٠ ، أسد الغابة ٢: ٤٤٩ ، تاريخ الاسلام ٣: ١٧ ، الأعلام ٣: ١٢٧.

١٨٦

من سليمان بن صرد والمسيّب بن نجبة(١) ورفاعة بن شداد(٢) وحبيب بن مظاهر(٣) وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.

____________________

(١) هو: المسيّب بن نجبة (نجية) بن ربيعة بن رياح الفزاري ، تابعي ، كان من وجوه أصحاب عليعليه‌السلام واشرك معه في مشاهده كلّها ، شهد القادسية وفتوح العراق ، شارك في ثورة التوابين الذين خرجوا للمطالبة بدم الحسين وشهداء كربلاء ، بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي ولمّا قتل سليمان ، أخذ الراية وقاتل بشجاعة حتّى قتل.

كان المسيّب من أشد الناس حسرة على عدم شهادته بين يدي ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أعلن ندمه في خطابه الذي ألقاه على جموع التوابين ، وقد أسف كثيراً على عدم نصرته له بعدما وصله كتاب الإمام ومبعوثه. انظر: الإصابة ترجمة رقم ٨٤٢٤ ، مروج الذهب ٣: ٩٤ ، تاريخ الاسلام للذهبي ٥: ٢٤٨ ، الأعلام ٧: ٢٢٥ - ٢٢٦.

(٢) رفاعة بن شدّاد البجلي ، قارئ من الشجعان المقدّمين ، من أهل الكوفة ، من شيعة عليعليه‌السلام ، قتل سنة ٦٦ ه. انظر: الأعلام ٣: ٢٩.

(٣) حبيب بن مظاهر - أو مظهّر أو مطهّر - بن رئاب بن الأشتر بن حجون الأسدي الكندي ثمّ الفقعسي ، تابعي ، من القوّاد الشجعان ، نزل الكوفة ، صحب عليّعليه‌السلام في حروبه كلّها.

قال أصحاب السير: انّ حبيباً نزل الكوفة وصحب علياًعليه‌السلام وكان من خاصّته وحملة علومه ، وكان من «شرطة الخميس» التي أوجدها الإمام عليعليه‌السلام في الكوفة ، وكان ممّن سعى لأخذ البيعة لمسلم بن عقيل عند دخوله الكوفة ، وهو أحد الزعماء الكوفيين الذين كتبوا إلى الحسينعليه‌السلام ، وكان معظّماً عند الحسينعليه‌السلام .

وعند التعبئة للقتال جعله الحسين على ميسرة أصحابه ، وكان قد بذل محاولة لاستقدام أنصاراً من بني أسد ، وحال الجيش الأموي دون وصولهم معسكر الحسينعليه‌السلام .

أمّا قصّة حواره مع ميثم التمّار فهي مشهورة ، وذلك انّهما مرّا في مجلس لبني أسد قبل عاشوراء بسنوات ، وتحدّث كلّ منهما عن الكيفية التي سيستشهد بها الآخر ، وكان ذلك مدعاة لتعجّب الحاضرين. كان يرتجز يوم الطفّ ويقول:

أنا حبيب وأبي مُظهّر

فارس هيجاء وحربٍ تَسعر

في كربلاء كان حبيب بن مظاهر مستبشراً بقرب استشهاده ورواحه الجنّة ، فكان يمزح مع برير بن خضير ، ولمّا قتل حبيب هدّ ذلك حسيناً فقالعليه‌السلام : أحتسب نفسي وحماة أصحابي. قتله بديل بن صريم الغفقاني ، وكان عمره آنذاك ٧٥ سنة ، وطافوا برأسه أيضاً بالكوفة مع سائر رؤوس الشهداء.

١٨٧

سلام عليك ، فانّا نحمد إليك الله الذي لا إله الاهو.

أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد ، الذي انتزى على هذه الامّة فابتزّها أمرها ، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضاً منها ، ثمّ قتل خيارها ، واستبقي شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعداً له كما بعدت ثمود ، وإنه ليس علينا إمام ، فاقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ: والنعمان بن بشير(١) في قصر الامارة ، ولسنا نجتمع معه في جمعة [ولا جماعة] ، ولانهرج معه إلى عيد ، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى ، والسلام عليك يا بن رسول الله وعلى أبيك من قبلك ولا حول ولا قوّة الابالله العلي العظيم.

ثمّ سرّحوا الكتاب مع عبد الله بن مسمع الهمداني ، وعبد الله بن وال ، وأمروهما بالنجاء(٢) ، فخرجا مسرعين حتى قدما على الإمامعليه‌السلام بمكّة لعشر مضين من شهر رمضان.

وبعد يومين من تسريحهم بالكتاب(٣) أنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الله وعبد الرحمن ابني شداد الأرحبي ، وعمارة بن عبد الله السلولي ، ومعهم نحو مائة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة.

انظر: تاريخ الطبري ٥: ٣٥٢ - ٤٤٠ ، لسان الميزان ٢: ١٧٣ ، الأعلام ٢: ١٦٦.

____________________

(١) النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري أبو عبد الله أمير شاعر ، من أهل المدينة ، وجّهته نائلة - زوجة عثمان - بقميص عثمان إلى معاوية ، فنزل الشام وشهد صفين مع معاوية ، وولي القضاء بدمشق ، وولي بعده اليمن لمعاوية ، ثمّ استعمله على الكوفة ، وعزل عنها وصارت له ولاية حمص ، واستمر فيها إلى أن مات يزيد ، فبايع النعمان لابن الزبير ، وتمرّد أهل حمص فخرج هارباً ، فأتبعه خالد بن خليّ الكلاعي فقتله سنة ٦٥ ه.

انظر: جمهرة الأنساب: ٣٤٥ ، أسد الغابة ٥: ٢٢ ، الأعلام ٨: ٣٦.

(٢) النجاء: الاسراع والسبق.

(٣) الارشاد: ٢٠٣ ، الملهوف: ٦٥.

١٨٨

ثمّ لبثوا يومين آخرين وسرّحوا اليهعليه‌السلام هاني بن هاني السبيعي(١) وسعيد بن عبد الله الحنفي(٢) وكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن عليعليهما‌السلام :

من شيعته من المؤمنين والمسلمين.

أما بعد: فحيّ هلا فانّ الناس ينتظرونك ، لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل ثم العجل العجل.

ثمّ كتب شبث بن ربعي(٣) ، وحجّار بن أبجر(٤) ، ويزيد بن الحارث(٥) ،

____________________

(١) هانئ بن هانئ الهمداني الكوفي ، روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وهنه أبو إسحاق السبيعي. انظر: تهذيب التهذيب ١١: ٢٢ - ٢٣.

ولم ينعته كلّ من ترجمه بالسبيعي ، والسبيعي بطن من بطون همدان.

(٢) وروي كذلك باسم سعد ، وهو من بني حنيفة بن لجيم من بكر بن وائل ، وهو أحد الرسل الذين حملوا رسائل الكوفيّين إلى الحسينعليه‌السلام ، من أعظم الثوار تحمّساً.

انظر: تاريخ الطبري ٥: ٤١٩ ، مقتل الحسين للخوارزمي ١: ١٩٥.

(٣) شبث بن ربعي التميمي اليربوعي أبو عبد القدّوس ، شيخ مصر وأهل الكوفة في أيامه ، أدرك عصر النبوّة ، ولحق بسجاح المتنبّئة ، ثم عاد إلى الاسلام ، ثار على عثمان ، قاتل الحسينعليه‌السلام بعد أن كتب إليه يدعوه إلى المجيء ، مات بالكوفة نحو سنة ٧٠ ه.

وقيل: إنّه لمـّا قبض على شبث قال له إبراهيم: أصدقني ما عملت يوم الطف ؟ قال: ضربت وجهه الشريف بالسيف !! فقال له: ويلك يا ملعون ، ما خفت من الله تعالى ولا من جدّه رسول الله ، ثمّ جعل يشرح أفخاذه حتى مات.

انظر: الاصابة ترجمة رقم ٣٩٥٠ ، تهذيب التهذيب ٤: ٣٠٣ ، ميزان الاعتدال ١: ٤٤٠.

(٤) حجّار - ككتان وككتاب - بن أبجر الكوفي ، يقال فيه م يروي عن أمير المؤمنين ، روى عن السمّاك بن حرب. انظر: الرجال في تاج العروس ٢: ٢٥.

(٥) يزيد بن حارث بن رويم الشيباني ، أدرك عصر النبوّة ، وأسلم على يد أمير المؤمين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وشهد اليمامة ، ونزل بالبصرة ، قتل في الري سنة ٦٨ ه.

١٨٩

وعروة بن قيس(١) ، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ، ومحمد بن عمرو التميمي(٢) :

أما بعد: فقد اخضرّ الجناب(٣) ، وأينعت الثمار ، [وأعشبت الأرض ، وأورقت الأشجار ،] فإذا شئت فاقبل على جند لك مجنّدة والسلام.

وتواترت عليه الكتب حتى اجتمع عنده في نوب متفرّقة اثنا عشر الف كتاب ، وهو مع ذلك يتأنّي ولا يجبهم.

فورد عليه في يوم واحد ست مائة كتاب ، وتلاقت الرسل كلّها عنده فسألهم عن الناس ، وقال لهاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي: خبّراني من اجتمع على هذا الكتاب ؟

فذكرا له وجوه أهل الكوفة ، واولي الرأي منهم.

فقام - بأبي وامّي - عند ذلك فصلّى ركعتين بين الركن والمقام ، ثمّ كتب مع هاني وسعيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي.

إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين:

أمّا بعد: فان هانياً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم ، وكانا آخر من قدم عليَّ من

الإصابة ترجمة رقم ٩٣٩٨ ، تهذيب التهذيب ٨: ١٦٣ ، جمهرة الانساب: ٣٠٥.

____________________

(١) ظاهراً الصحيح: عزرة بن قيس. راجع: تاريخ الطبري ٥: ٣٥٣ ، أنساب الأشراف ٣: ١٥٨.

(٢) محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي الدارمي ، من أهل الكوفة ، له مع الحجاج وغيره من اُمرائها أخبار ، كان أحد اُمراء الجند في صفّين مع عليّعليه‌السلام ، توفي نحو ٨٥ ه. أنظر: المحبر: ١٥٤ و٣٣٨ و٣٣٩ ، لسان الميزان ٥: ٣٣٠.

(٣) في بعض المصادر: اخضرت الجنّات ، والجَناب: الفناء ، وما قرب من محلّة القوم.

١٩٠

رسلكم ، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جلّكم: «إنّه ليس علينا إمام فاقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ والهدى».

وإني باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل.

فان كتب إليَّ أنّه قد اجتمع رأى ملئكم ، وذوي الحجي والفضل منكم على ما قدمت به رسلكم ، وقرأت في كتبكم ، فانّي أقدم إليكم وشيكاً ان شاء الله تعالى فلعمري ما الإمام الاالحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الداين بدين الحقّ ، الحابس نفسه على ذات الله ، والسلام.

ودعا سلام الله عليه مسلم بن عقيل فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الله وعبد الرحمن الأرحبيّين ، وأمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف ، فان رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك.

فأقبل مسلم رضوان الله عليه حتى أتى المدينة فصلّى في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وودع أهله ومن يحب.

وسار حتى وصل الكوفة فنزل في دار المختار بن [أبي] عبيدة الثقفي(١) ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه ، وكلّما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسينعليه‌السلام وهم يبكون.

____________________

(١) المختار بن أبي عبيدة ابن مسعود الثقفي أبو إسحاق ، من زعماء الثائرين على بني اُميّة ، من أهل الطائف ، انتقل إلى المدينة مع أبيه ، وبقي المختار في المدينة منقطعاً إلى بني هاشم ، تزوج عبد الله بن عمر بن الخطاب أخت المختار صفية ، وكان المختار مع عليعليه‌السلام بالعراق ، وسكن البصرة بعد عليعليه‌السلام ، قبض عليه عبيد الله بن زياد في البصرة وحبسه ونفاه بشفاعة ابن عمر إلى الطائف ، ذهب إلى الكوفة بعد موت يزيد لأخذ الثأر من قتلة الحسين ، واستولى على الكوفة والموصل وتتبع قتلة الحسينعليه‌السلام ، قتله مصعب بن الزبير بعد حرب بينهما سنة ٦٧ ه.

انظر: الاصابة ترجمة رقم ٨٥٤٥ ، الفرق بين الفرق: ٣١ - ٣٧ ، الكامل في التاريخ ٤: ٨٢ - ١٠٨ ، تاريخ الطبري ٧: ١٤٦.

١٩١

وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر الفاً.

فكتب مسلم إلى الحسين بذلك ، وطلب منه القدوم عليهم.

وجعلت الشيعة تختلف إلى مسلم بن عقيل ، حتى علم النعمان بن بشير بذلك - وكان والياً على الكوفة من قبل معاوية فأقرّه يزيد عليها - وعلم بمكان مسلم فلم يتعرّض له بسوء.

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني امية فقال له: إنّه ما يصلح ما ترى أيّها الأمير الاالغشم - أيّ الظلم - وانّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك لرأي المستضعفين.

وكتب إلى يزيد كتاباً فيه: أنّ مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعت الشيعة للحسين ، فان يكن لك فيها حاجة فابعث إليها قويّاً ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك ، فانّ النعمان رجل ضعيف أو هو يتضعّف.

ثم كتب كل من عمارة بن عقبة وعمر بن سعد ينحو من ذلك.

وبعد وصول كتبهم إلى يزيد كتب إلى عبيد الله بن زياد - وكان والياً على البصرة(١) - بأنّه قد ولاه الكوفة وضمّها إليه ، وعرّفه أمر مسلم بن عقيل وشدّد عليه في تحصيله وقتله.

فأسرع اللعين إلى الكوفة ، واستخلف أخاه عثمان على البصرة ، وكان دخوله إلى الكوفة ليلاً ، فظنّ أهلها أنّه الحسينعليه‌السلام فتباشروا بقدومه ودنوا منه ، فلمّا عرفوا أنّه ابن مرجانة تفرّقوا عنه. فدخل قصر الامارة وبات فيه إلى الغداة ، ثم خرج فأبرق وأرعد ، ووعد وتوعّد.

فلمّا سمع مسلم بن عقيل بذلك خاف على نفسه ، فقصد هاني بن عروة

____________________

(١) البصرة بلدة اسلامية بنيت في خالفة عمر في السنة ١٨ من الهجرة ، سمّيت بذلك لأنّ البصرة الحجارة الرخوة ، وهي كذلك ، فسمّيت بها، والبصرتان: البصرة والكوفة. مجمع البحرين ٣: ٢٢٥ - ٢٢٦.

١٩٢

فآواه وأكرم مثواهه ، وكثر اختلاف أصحابه إليه يبايعونه على السمع والطاعة.

لكنّهم نقضوا بعد ذلك بيعته ، واخفروا ذمّته ، ولم يثبتوا معه على عهد ، ولا وفوا له بعقد ، وكان - بأبي هو وأمّي - من اُسود الوقائع ، وسقاة الحتوف ، واُباة الذلّ ، واولي الحفائظ ، وله - حين أسلمه أصحابه ، واشتد البأس بينه وبين عدوّه - مقام كريم ، وموقف عظيم ، إذ جاء العدو من فوقه ومن تحته ، وأحاط به من جميع نواحيه، وهو وحيد فريد ، لا ناصر له ولا معين ، فأبلى بلاءً حسناً ، وصبر صبر الأحرار على ضرب سيوفهم ، ورضخ أحجارهم(١) وما ناله من ضياتهم الشحيذة ، وأطنان قصبهم الملتهبة ، التي كانوا يرمونه من فوق البيت عليه ، حتى وقع في أيديهم أسيراً ، بعد أن فتك بهم ، وأذاقهم وبال أمرهم ، ثم قتلوه ظمئاناً ، وهو يكبّر الله ويستغفره ، ويصلّي على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصلبوا جثته بالكناسة ، وبعثوا برأسه إلى الشام.

رعي الله جسماً بالكنائس مُصلباً

ورأساً له فوق السنان مركبا

لقد سامه الأعداء خفضاً فما ارتضي

سوى الرفع فوق السمهرية منصبا

وقفت بمستنّ النزال فلم تجد

سوى الموت في الهيجا من الضيم مهربا

إلى أن وردت الموت والموت سنّة

لكم عرفت تحت الأسنّة والضبا

ولا عيب في الحرّ الكريم إذا قضى

بحدّ الضبا حرّاً كريماً مهذّبا

____________________

(١) رضخ رأسه بالحجر: رضّه.

١٩٣

[المجلس الخامس]

لما جاء عبيد الله بن زياد(١) الى الكوفة(٢) ، وضع المراصد ، وبثّ الجواسيس فيها على مسلم ، حتى علم أنّه في دار هاني ، فدعا محمد بن الأشعث(٣) وأسماء بن خارجة(٤) وعمرو بن الحجاج ، فقال:

ما يمنع هانياً من إتياننا ؟

فقالوا: ما ندري ، وقد قيل: إنّه يشتكي.

فقال: بلغني ذلك ، ثمّ علمت أنّه قد برئ وأنّه يجلس على باب داره ، ولو أعلم أنّه شاكٍ لعُدته ، فألقوه ومروه أن لا يدع ما يجب عليه من حقّنا ، فإنّي لا أحبّ أن يفسد عندي مثله ، [لأنّه] من أشراف العرب.

____________________

(١) عبيد الله بن زياد بن أبيه ، ولد بالبصرة ، وكان مع والده لـمّا مات بالعراق ، قصد الشام فولاه عمّه معاوية خراسان سنة ٥٣ ه وبقي فيها سنتين ، ونقله إلى معاوية إلى البصرة أميراً عليها سنة ٥٥ ، وأقرّه يزيد على امارته سنة ٦٠ ه ، وكانت فاجعة الطف في أيامه وعلى يده ، وبعد هلاك يزيد بايع أهل البصرة لعبيد الله ، ثمّ لم يلبثوا أن وثبوا عليه ، فهرب متخبّئاً إلى الشام ، ثم عاد يريد العراق ، فلحق به إبراهيم الأشتر فاقتتلا وتفرّق أصحاب عبيد الله فقتله ابن الأشتر في خازر من ارض الموصل ، ويدعى عبيد الله بابن مرجانة ، وهي اُمّه كانت معروفة بالفسق والفجور: انظر: تاريخ الطبري ٦: ١٦٦ و٧: ١٨ و١٤٤ ، الأعلام ٤: ١٩٣.

(٢) الارشاد: ٢٠٨ ، الملهوف: ١١٤.

(٣) محمد بن الأشعث بن قيس الكندي ، أبو القاسم ، من أصحاب مصعب بن الزبير ، قتل سنة ٦٧ ه انظر ترجمته في الاصابة رقم ٨٥٠٤، الأعلام ٦: ٣٩.

(٤) أسماء بن خارجة بن حصين الفزاري ، تابعي ، من رجال الطبقة الاولى من أهل الكوفة ، توفي سنة ٦٦ ه انظر ترجمته في تاريخ الاسلام ٢: ٣٧٢ ، الأعلام ١: ٣٠٥.

١٩٤

فأتوه ووقفوا عشيةً على باب داره ، فقالوا له: ما يمنعك من لقاء الأمير ، فإنّه ذكرك وقال: لو أعلم أنّه شاكٍ لعُدته ؟

فقال: الشكوى تمنعني.

فقالوا: [إنّه] قد بلغه جلوسك كلّ عشيّة على باب دارك ، وقد استبطأك ، والإبطاء والجفاء لا يتحمّله السلطان من مثلك ، لانّك سيّد قومك ، ونحن نقسم عليك الاركبت معنا.

وما زالوا به حتى غلبوه على رأيه ، فدعا بثيابه فلبسها ، ثم دعا ببغلته فركبها ، فلمّا دنا من القصر أحسّ ببغض الذي كان ، فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة:

يا بن أخي إنّي والله لخائف من هذا الرجل فما ترى ؟

فقال: والله يا عم ما أتخوّف عليك شيئاً ، فلا تجعل على نفسك سبيلاً ، ولم يكن حسّان يعلم الذي أضمر ابن مرجانة لهاني.

فجاءه رحمه ‌الله تعالى والقوم معه حتى دخلوا جميعاً على ابن زياد ، فلمّا رأى هانياً قال: أتتك بخائن(١) رجلاه. ثمّ تمثّل فقال: اُريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد(٢)

____________________

(١) كذا في الأصل والمصادر ، والظاهر أنّ الصحيح: حائن ، وهو الذي حان حينه وهلاكه ، راجع مجمع الأمثال للميداني.

(٢) هذا البيت لـ «عمرو بن معدي كرب الزبيدي» وهو فارس اليمن وصاحب الغارات المذكورة ، وفد على المدينة سنة ٩ ه في عشرة من بني زبيد فأسلم وأسلموا ، يكنى أبا ثور ، توفي على مقربة من الري سنة ٢١ ه ؛ وقيل: قتل عطشاً يوم القادسية. انظر: الاصابة رقم (٥٩٧٢) ، خزانة الأدب ١: ٤٢٥ - ٢٤٦ ، الأعلام ٥: ٨٦.

١٩٥

فقال له هاني: وما ذاك يا أمير ؟

فقال: إيهاً يا هاني ما هذه الامور التي تُربصُ في دارك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين ؟ جئتَ بابن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعتَ له السلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت أن ذلك يخفى عليّ.

فقال: ما فعلتُ.

قال: بلى قد فعلتَ.

فلمّا كثر ذلك بينهما وأبى هاني الا الانكار ، دعا ابن زياد بمعقل(١) مولاه حتى وقف بين يديه - وكان عيناً له على أخبارهم من حيث لا يدرون ، وقد عرف كثيراً من أسرارهم ، إذ كان يظهر لهم الاخلاص لأهل البيت والتفاني في حبّهم - فلما رآه هاني علم أنّه كان عيناً عليهم ، وأنّه قد أتاه بأخبارهم ، فأسقط في يده ، ثمّ راجعته نفسه فقال:

أصلح الله الأمير والله ما بعثت إلى مسلم بن عقيل ، ولا دعوته ، ولكن جاءني مستجيراً فأجرته ، واستحييت من ردّه ، ودخلني من ذلك ذمام فضيفته وآويته ، والآن فخلّ سبيلي حتى أرجع إليه وآمره بالخروج من داري إلى حيث شاء من الأرض لأخرج بذلك من ذمامه وجواره ، ثم ارجع إليك حتى أضع يدي في يدك.

فقال له ابن زياد: والله لا تفارقني حتى تأتيني به.

فقال: والله لا آتيك به أبداً ، آتيك بضيفي تقتله !

فقال: والله لتأتيني به.

____________________

(١) لم يذكروه ، وهو ملعون خبيث.

١٩٦

فقال: والله لا آتيك به ، فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي(١) فقال: أصلح الله الأمير خلني وإيّاه حتى اُكلّمه.

فقام فخلى به ناحية وهما بحيث يراهما ابن زياد ويسمع كلامهما فبينما هما يتناجيان إذ رفعا أصواتهما. فقال الباهلي:

يا هاني أنشدك بالله لا تقتل نفسك ، ولا تدخل البلاء على عشيرتك فوالله انّي لأنفس بك عن القتل ، ان هذا الرجل ابن عم القوم وليسوا قاتليه ولا ضائريه ، فادفعه إليهم فانّه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة وانّما تدفعه إلى السلطان.

فقال هاني: والله ان عليّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي ورسول ابن رسول الله وأنا صحيح الساعدين كثير الأعوان ، والله لو لم أكن الا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه ، فأخذ يناشده وهو يقول:

والله لا أدفعه أبداً.

فسمع ابن زياد ذلك فقال: ادنوه منّي فاُدني منه ، فقال: والله لتأتيني به أو لأضربنّ عنقك.

فقال هاني: إذاً تكثر البارقة حول دارك.

فقال ابن زياد: والهفاه عليك أبا البارقة تخوّفني ؟ وهاني يظن أنّ عشيرته يمنعونه ، ثم قال: ادنوه مني فاُدني منه ، فاستعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبهته وخدّه حتى كسر أنفه وسال الدماء على ثيابه ونثر لحم خده وجبينه على لحيته الشريفة فانكسر القضيب.

وضرب هاني يده على قائم سيف شرطي فجاذبه ذلك الرجل ، فصاح

____________________

(١) في بعض المصادر مسلم بن عمرو ، وفي اُخرى مسلم بن عمير الباهلي. لم يذكروه.

١٩٧

اللعين ابن مرجانة: خذوه ، فجروه حتى ألقوه في بيت من بيوت الدار ، وأغلقوا عليه بابه وجعلوا عليه حرساً.

فقام حسّان بن أسماء بن خارجة إلى ابن زياد فقال: أرسل غدر - نحن - سائر اليوم أيّها الأمير ، أرسلتنا الى الرجل ، وأمرتنا أن نجيئك به ، حتى إذا جئناك به هشّمت وجهه ، وأسلت دماءه وزعمت انّك تقتله ؟

فغضب ابن مرجانة وقال: وانك لها هنا ، ثم أمر به فضرب وقيّد وحبس.

فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون إلى نفسي انعاك يا هاني.

وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانياً قد قتل ، وكان هاني صهره على بنته رويحة(١) ، فأقبل عمرو في مذحج كافة حتى أحاط بالقصر ، ونادى:

أنا عمرو بن الحجاج وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة ، ولم تفارق جماعة ، وقد بلغنا أنّ صاحبنا قد قتل.

فأتاهم القاضي شريح(٢) - وكان مع ابن زياد في القصر حين دخل عليه هاني وفعل معه ما فعل - فأخبرهم بسلامته فرضوا بقوله وانصرفوا.

تبّاً لهم وترحاً ، لقد خطمهم(٣) ابن مرجانة بالذل ، وقادهم ببرة(٤) الهوان ، وعفّر وجوههم إذ هشّم وجه سيّدهم ، وأرغم آنافهم إذ كسر أنفهم ، وألقاهم في

____________________

(١) رويحة ابنة عمرو ، كانت اُمّ ولد للأشعث بن قيس الكندي ، وقد كان لها ابن من غيره يقال له بلال بن أسيد ، أعتقها الأسيد الحضرمي. انظر: الكامل في التاريخ ٤: ٣١ ، اعلام النساء المؤمنات: ٣٦٣ - ٣٦٤.

(٢) شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي ، أبو اُميّة ، توفي سنة ٧٨ ه ، أصله من اليمن ، ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية ، واستعفى في أيام الحجاج فأعفاه سنة ٧٧ ه. انظر: الطبقات ٦: ٩٠ - ١٠٠ ، وفيات الأعيان ١: ٢٢٤.

(٣) من خطم البعير: وهو أن يشدّ على أنفه حبل يقاد به.

(٤) البرّة: حلقة تجعل في لحم أنف البعير ويشدّ إليها الزمام.

١٩٨

مراغة(١) الذل إذ ألقاه في الحبس ، ومرّغهم في حمأة(٢) الهوان إذ جرّوه قتيلاً برجله في الأسواق.

أمّا هاني فقد فاز بالشهادة ، وختمت أيّامه بالسعادة.

وواسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً وخالف مجرما

وقد ثارت به الحمية لله عز وجل ، وعصفت في رأسه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذته حفائظ الولاية لآله الطيّبين الطاهرين ، فبذل نفسه ، ووقاهم بمهجته.

فوا لهفاه ما أعزّ جانبه.

وأسفاً عليه ما أمنع حوزته.

وحزناً لوجهه الميمون المشرق وقد شوّهه اللعين ضرباً بعصاه.

ونفسي الفداء لذلك الأنف الحمي وقد كسر في سبيل الله.

ولله تناثر اللحم من جبينه الوضّاح ، وخدّه الزاهر ، وجبهته المباركة على كريمته الشريفة.

وفي عين الله خضّبت تلك الشيبة العزيزة بدماء ذلك الأغر ، دون أن يهتضم جاره أو يستباح ذماره.

كريم أبى شمّ الدنية أنفه

فأشممه شوك الوشيج المسدّد

وقال: قفي يا نفس وقفة واردٍ

حياض الردى لا وقفة المتردّ

____________________

(١) المراغة: الموضع تتمرّغ فيه الدواب.

(٢) الحمأة: الطير الأسود المنتن.

١٩٩

[المجلس السادس]

لـمّا بلغ مسلم بن عقيل ما فعل ابن زياد بهاني بن عروة ، خرج بمن بايعه لانقاذ هاني ، وحرب ابن زياد(١) فتحصّن اللعين عنه بقصر الامارة ، واقتتل أصحابه وأصحاب مسلم ، وجعل أصحابه الذين معه في القصر يشرفون منه ويحذّرون أصحاب مسلم ويتوعّدونهم بأجناد الشام.

فلم يزالوا كذلك حتى جاء الليل ، فجعل أصحاب مسلم يتفرّقون عنه ، ويقول بعضهم لبعض: ماذا نصنع بتعجيل الفتنة ، وينبغي أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتى يصلح الله ذات بينهم.

وما زالوا يتفرّقون حتى أمسى ابن عقيل وصلّى المغرب وما معه الا ثلاثون نفساً في المسجد.

فلمّا رأى ذلك خرج متوجهاً نحو أبواب كندة ، فما بلغها الا ومعه منهم عشرة.

ثم خرج من الباب فإذا ليس معه انسان يدلّه ، فالتفت فإذا لا يحس بأحد ، فمضى على وجهه متلدّداً في أزقّة الكوفة لا يدري كيف يصنع ولا أين يذهب.

ومشى حتى انتهى إلى باب امراة يقال لها: (طوعة) أم ولد - كانت للأشعث ابن قيس فأعتقها ، فتزوّجت أسيد الحضرمي فولدت له بلالاً ، وكان بلال قد خرج مع الناس واُمّه قائمة تنتظره - فسلّم عليها مسلم فردّت عليه ، ثمّ طلب منها

____________________

(١) الارشاد: ٢١٠ ، الملهوف: ٨٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348