المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه11%

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 348

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه
  • البداية
  • السابق
  • 348 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47098 / تحميل: 4595
الحجم الحجم الحجم
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

[المجلس الثالث]

لما اختار الله تعالى للإمام أبي محمد الحسن السبطعليه‌السلام دار كرامته ومأوى أصفيائه ، كتب الشيعة في العراق إلى الحسينعليه‌السلام يعرضون عليه البيعة(١) ويبذلون له النصرة فأبى عليهم ، وذكر أن بينهمعليه‌السلام وبين معاوية هدنة لا يجوز لهم نقضها ، فلما هلك معاوية وذلك للنصف من رجب سن ستين(٢) قام من بعده ولي عهده يزيد المتهتّك ، وسكيره المفضوح ، وهو صبي يشرب الشراب ، ويلعب بالكلاب ، ولا يعرف من الدين موطئ قدمه ، ولا يرقب الاولا ذمّة.

فكتب إلى ابن عمّه الوليد بن عتبة(٣) - وكان والياً على المدينة - يأمره بأخذ البيعة له من الناس عامّة ، ومن الحسين خاصة ، ويقول له: «إن أبى عليك الحسين فاضرب عنقه ، وابعث إليّ برأسه(٤) .

____________________

(١) ارشاد المفيد: ٢٠٠ ، المهلوف: ٩٦.

(٢) انظر: تاريخ الطبري ٦: ١٨٠ ، تاريخ ابن الاثير ٤: ٢ ، البدء والتاريخ ٦: ٥ ، الأعلام ٧: ٢٦١ - ٢٦٢.

(٣) الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ابن حرب الاموي ، أمير من رجالات بني اميّة ، ولي المدينة سنة ٥٧ ه أيام معاوية ، ومات معاوية فكتب إليه يزيد أن يأخذ له البيعة ، عزله يزيد سنة ٦٠ ه واستقدمه إليه ، فكان من رجال مشورته بدمشق ، ثمّ أعاده سنة ٦١ ه وثورة عبد الله بن الزبير في أبانها بمكّة ، وظلّ في المدينة إلى أن توفي بالطاعون سنة ٦٤ ه.

انظر: مرآة الجنان ١: ١٤٠ ، نسب قريش: ١٣٣ و٤٣٣ ، الأعلام ٨: ١٢.

(٤) الملهوف: ٩٧.

١٨١

فاستشار الوليد مروان(١) في ذلك ، فقال له: إنّه لا يبايع ، ولو كنت مكانك لضربت عنقه.

ثم بعث إلى الحسينعليه‌السلام ، فجاءه - بأبي وامّي - في ثلاثين رجلا من أهل بيته ومواليه ، فنعى [الوليد] إليه معاوية ، وكلّفه بالبيعة(٢) .

فقال لهعليه‌السلام : إنّ البيعة لا تكون سرّاً ، فإذا دعوتَ الناس غداً فادعنا معهم.

فقال مروان: لا تقبل أيّها الأمير عذره ، فان بايع الآن والا فاضرب عنقه.

فغضب الحسينعليه‌السلام ثم قال: ويل بك يا بن الزرقاء ، أنت تقتلني أم هو ؟ كذبتَ والله وأثمت.

ثم أقبل على الوليد فقال: «إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ، وبنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل [فاسق] شارب الخمور ، قاتل النفس المحرّمة ، معلنٌ بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله» ، ثمّ خرجعليه‌السلام ، فقال مروان للوليد: عصيتني.

فقال: ويحك أنّك أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي ، والله ما اُحبّ أنّ الدنيا بأسرها تكون لي وأنّني قتلتُ حسيناً أن قال: لا ابايع ، والله ما أظنّ أن

____________________

(١) مروان بن الحكم بن أبي العاص ، ولد بمكّة وسكن المدينة ، جعله عثمان من خاصّته واتّخذه كاتباً له ، وبعد قتل عثمان خرج مروان مع عائشة إلى البصرة ، وشهد صفين مع معاوية ، ولي المدينة سنة في ولاية معاوية ، وهو أوّل مَن ملك من بني الحكم بن أبي العاص (طريد رسول الله) ، ماتسنة ٦٥ بالطاعون ؛ وقيل: قتلته زوجته اُمّ خالد.

انظر: أسد الغابة ٤: ٣٤٨ ، تاريخ ابن الأثير ٤: ٧٤ ، تاريخ الطبري ٧: ٣٤.

(٢) أي البيعة ليزيد.

١٨٢

أحداً يلقي الله بدم الحسينعليه‌السلام الا وهو خفيف الميزان يوم القيامة ، لا ينظر الله إليه ولا يزكّيه وله عذاب أليم.

فأقام الحسينعليه‌السلام في منزله تلك الليلة ، وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستّين.

فما أصبح - بأبي واُمّي - خرج يستمع الأخبار فلقيه مروان فقال: يا أبا عبد الله إنّي لك ناصح ، فاطعني ترشد.

فقال الحسينعليه‌السلام : وما ذاك ؟ قل حتى أسمع.

فقال: إنّي آمرك ببيعة يزيد فانّه خير لك في دينك ودنياك !

فقالعليه‌السلام : إنّا لله وإنّا إليه راجعون على الاسلام السلام إذا قد بليت الّامّة براع مثل يزيد.. وطال الحديث بينهما حتى ولّى مروان وهو غضبان.

فلمّا كان آخر يوم السبت بعث الوليد برجاله إلى الحسين ليحضر فيبايع.

فقال له الحسينعليه‌السلام : أصبحوا ثمّ ترون ونرى.

فكفّوا عنه ولم يلحّوا عليه.

فخرج - بأبي واُمّي - من تحت ليلته وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجّهاً نحو مكّة ومعه بنوه وبنو أخيه واخوته وجلّ أهل بيته ، سار من المدينة وهو يقرأ:( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَبُ قَالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ ) (١) .

ولزم الطريق الأعظم ، فسئل أن يتنكّب الطريق كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقه الطلب فأبى وقال: لا اُفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض ، وكان دخوله

____________________

(١) سورة القصص: ٢١.

١٨٣

مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان دخلها وهو يقرأ:( وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى‏ رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ ) (١) .

فأقام فيها باقي شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة وثمان ليال من ذي الحجّة ، ثم لم يأمن على نفسه ، ولم يتمكّن من تمام حجّة مخافة أن يقبض عليه بمكّة فينفذ به إلى يزيد بن معاوية فأحل من احرامه وجعلها عمرة مفردة وخرج من مكّة وهي حرم الله الذي يأمن فيه الوحش والطير ، كما خرج من المدينة وهي حرم جدّه رسول الله خائفاً يترقّب...

فوالهفتاه وواجزعاه عليك يا وديعة المصطفى ، وريحانته من الدنيا.

وواحرّ قلباه لك يا خامس أصحاب الكساء ، وقرّة عين سيّدة النساء.

يا بن مكّة ومنى ، وابن زمزم والصفا ، خفت على نفسك في الحرم ، وأنت أمن الخائفين ، وفررت منهم لما خفتهم بأطفالك وعيالك ، وأنت ملجأ الهاربين.

فيا لله من هذه الفادحة التي أثكلت جبرائيل ، ووامصيبتاه من هذه النازلة إذ عظمت على الربّ الجليل.

مثل ابن فاطمة يبيت مشرّداً

ويزيد في لذّاته متنعّم

ويضيق الدنيا على ابن محمد

حتى تقاذفه الفضاء الأعظم

خرج الحسين من المدينة خائفاً

كخروج موسى خائفاً يتكتّم

وقد انجلى عن مكّة وهو ابنها

وبه تشرّفت الحطيم وزمزم

لم يدر أين يريح بدون ركابه

فكأنّما المأوى عليه محرّم

فمشت تؤم به العراق نجائب

مثل النعم به تخب وترسم

____________________

(١) سورة القصص: ٢٢.

١٨٤

[المجلس الرابع]

ولما نزل الحسينعليه‌السلام مكّة أقبل أهلها ومن كان فيها من المعتمرين وأهل الآفاق يختلفون إليه ، وجاءه ابن عبّاس وابن الزبير فأشارا عليه بالامساك فقال: « ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرني بأمر وأنا ماض فيه».

فخرج ابن عباس وهو يقول: «واحسيناه»(١) .

وجاءه ابن عمر فأشار عليه بالصلح.

فقالعليه‌السلام : «يا أبا عبد الرحمن أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا اُهدي الى بغي من بغايا بني إسرائيل ، أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوعي الفجر والشمس سبعين نبيّاً ، ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأنّهم لم يصنعوا شيئاً فلم يعجّل الله عليهم ثم أخذهم أخذ عزيز ذي انتقام ، اتّق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعنّ نصرتي»(٢) .

وبلغ أهل الكوفة هلاك معاوية فأرجفوا بيزيد ، وعرفوا بامتناع الحسين من بيعته ، ومجيئه إلى مكّة(٣) .

____________________

(١) الملهوف: ١٠١ ، أنساب الأشراف للبلاذري ، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام : ١٦٦.

(٢) أنساب الأشراف (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ): ١٦٦ - ١٦٧.

(٣) الإرشاد للمفيد: ٢٠٦.

١٨٥

فاجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي(١) ، فلمّا تكاملوا قام سليمان فقال: إن معاوية قد هلك ، وان حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته ، وخرج إلى مكّة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فان كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدوا عدوّه ، ونقتل انفسنا دونه فاكتبوا إليه ، وان خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل.

قالوا: لا ، بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه.

قال: فاكتبوا إذاً إليه. فكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن عليعليهما‌السلام .

____________________

(١) أبو مطرّف سليمان بن صرد بن الجون بن أبي الجون عبد العزّى بن منقذ السلولي الخزاعي ، صحابي ، كان اسمه في الجاهلية «يسار» وسمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باسم «سليمان» ، شهد الجمل وصفّين مع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهو من أوائل من سكن الكوفة من المسلمين ، كان من وجهاء الشيعة فيها ، وله مكانة جليلة عندهم ، قاد ثورة التوابين التي انطلقت من الكوفة للمطالبة بدم الحسينعليه‌السلام .

بعد موت معاوية كان من جملة من كتب إلى الحسين يدعوه للقدوم إلى الكوفة ، وقف إلى جانب مسلم بن عقيل عند وثوبه فيها ، لكن ابن زياد ألقاه في السجن ؛ ولهذا لم يحظ بالمشاركة في معركة الطف.

وبعد واقعة كربلاء ، حين استشعر أهل الكوفة الندم لنكولهم عن نصرة الحسين ، اضطلع هو بقيادة ثورة التوابين الذين أعلنوا ثورتهم عام ٦٥ للهجرة ، وكان شعارهم «يا لثارات الحسين» ، حيث اشتبكوا مع جيش ابن زياد في موضع يُقال له «عين الوردة» واستشهد في هذه المعركة هو وعدّة من أصحابه ، قتله الحصين بن نمير ؛ وقيل: انّه استشهد اثناء الاشتباك مع القوات التي كانت موفدة من الشام إلى الحجاز. كان عمر سليمان بن صرد عند استشهاده ٩٣ سنة ، وبعد استشهاده أرسلوا رأسه إلى مروان بن الحكم في الشام ، انظر: الإصابة ترجمة رقم ٣٤٥٠ ، أسد الغابة ٢: ٤٤٩ ، تاريخ الاسلام ٣: ١٧ ، الأعلام ٣: ١٢٧.

١٨٦

من سليمان بن صرد والمسيّب بن نجبة(١) ورفاعة بن شداد(٢) وحبيب بن مظاهر(٣) وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.

____________________

(١) هو: المسيّب بن نجبة (نجية) بن ربيعة بن رياح الفزاري ، تابعي ، كان من وجوه أصحاب عليعليه‌السلام واشرك معه في مشاهده كلّها ، شهد القادسية وفتوح العراق ، شارك في ثورة التوابين الذين خرجوا للمطالبة بدم الحسين وشهداء كربلاء ، بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي ولمّا قتل سليمان ، أخذ الراية وقاتل بشجاعة حتّى قتل.

كان المسيّب من أشد الناس حسرة على عدم شهادته بين يدي ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أعلن ندمه في خطابه الذي ألقاه على جموع التوابين ، وقد أسف كثيراً على عدم نصرته له بعدما وصله كتاب الإمام ومبعوثه. انظر: الإصابة ترجمة رقم ٨٤٢٤ ، مروج الذهب ٣: ٩٤ ، تاريخ الاسلام للذهبي ٥: ٢٤٨ ، الأعلام ٧: ٢٢٥ - ٢٢٦.

(٢) رفاعة بن شدّاد البجلي ، قارئ من الشجعان المقدّمين ، من أهل الكوفة ، من شيعة عليعليه‌السلام ، قتل سنة ٦٦ ه. انظر: الأعلام ٣: ٢٩.

(٣) حبيب بن مظاهر - أو مظهّر أو مطهّر - بن رئاب بن الأشتر بن حجون الأسدي الكندي ثمّ الفقعسي ، تابعي ، من القوّاد الشجعان ، نزل الكوفة ، صحب عليّعليه‌السلام في حروبه كلّها.

قال أصحاب السير: انّ حبيباً نزل الكوفة وصحب علياًعليه‌السلام وكان من خاصّته وحملة علومه ، وكان من «شرطة الخميس» التي أوجدها الإمام عليعليه‌السلام في الكوفة ، وكان ممّن سعى لأخذ البيعة لمسلم بن عقيل عند دخوله الكوفة ، وهو أحد الزعماء الكوفيين الذين كتبوا إلى الحسينعليه‌السلام ، وكان معظّماً عند الحسينعليه‌السلام .

وعند التعبئة للقتال جعله الحسين على ميسرة أصحابه ، وكان قد بذل محاولة لاستقدام أنصاراً من بني أسد ، وحال الجيش الأموي دون وصولهم معسكر الحسينعليه‌السلام .

أمّا قصّة حواره مع ميثم التمّار فهي مشهورة ، وذلك انّهما مرّا في مجلس لبني أسد قبل عاشوراء بسنوات ، وتحدّث كلّ منهما عن الكيفية التي سيستشهد بها الآخر ، وكان ذلك مدعاة لتعجّب الحاضرين. كان يرتجز يوم الطفّ ويقول:

أنا حبيب وأبي مُظهّر

فارس هيجاء وحربٍ تَسعر

في كربلاء كان حبيب بن مظاهر مستبشراً بقرب استشهاده ورواحه الجنّة ، فكان يمزح مع برير بن خضير ، ولمّا قتل حبيب هدّ ذلك حسيناً فقالعليه‌السلام : أحتسب نفسي وحماة أصحابي. قتله بديل بن صريم الغفقاني ، وكان عمره آنذاك ٧٥ سنة ، وطافوا برأسه أيضاً بالكوفة مع سائر رؤوس الشهداء.

١٨٧

سلام عليك ، فانّا نحمد إليك الله الذي لا إله الاهو.

أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد ، الذي انتزى على هذه الامّة فابتزّها أمرها ، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضاً منها ، ثمّ قتل خيارها ، واستبقي شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعداً له كما بعدت ثمود ، وإنه ليس علينا إمام ، فاقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ: والنعمان بن بشير(١) في قصر الامارة ، ولسنا نجتمع معه في جمعة [ولا جماعة] ، ولانهرج معه إلى عيد ، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى ، والسلام عليك يا بن رسول الله وعلى أبيك من قبلك ولا حول ولا قوّة الابالله العلي العظيم.

ثمّ سرّحوا الكتاب مع عبد الله بن مسمع الهمداني ، وعبد الله بن وال ، وأمروهما بالنجاء(٢) ، فخرجا مسرعين حتى قدما على الإمامعليه‌السلام بمكّة لعشر مضين من شهر رمضان.

وبعد يومين من تسريحهم بالكتاب(٣) أنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الله وعبد الرحمن ابني شداد الأرحبي ، وعمارة بن عبد الله السلولي ، ومعهم نحو مائة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة.

انظر: تاريخ الطبري ٥: ٣٥٢ - ٤٤٠ ، لسان الميزان ٢: ١٧٣ ، الأعلام ٢: ١٦٦.

____________________

(١) النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري أبو عبد الله أمير شاعر ، من أهل المدينة ، وجّهته نائلة - زوجة عثمان - بقميص عثمان إلى معاوية ، فنزل الشام وشهد صفين مع معاوية ، وولي القضاء بدمشق ، وولي بعده اليمن لمعاوية ، ثمّ استعمله على الكوفة ، وعزل عنها وصارت له ولاية حمص ، واستمر فيها إلى أن مات يزيد ، فبايع النعمان لابن الزبير ، وتمرّد أهل حمص فخرج هارباً ، فأتبعه خالد بن خليّ الكلاعي فقتله سنة ٦٥ ه.

انظر: جمهرة الأنساب: ٣٤٥ ، أسد الغابة ٥: ٢٢ ، الأعلام ٨: ٣٦.

(٢) النجاء: الاسراع والسبق.

(٣) الارشاد: ٢٠٣ ، الملهوف: ٦٥.

١٨٨

ثمّ لبثوا يومين آخرين وسرّحوا اليهعليه‌السلام هاني بن هاني السبيعي(١) وسعيد بن عبد الله الحنفي(٢) وكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن عليعليهما‌السلام :

من شيعته من المؤمنين والمسلمين.

أما بعد: فحيّ هلا فانّ الناس ينتظرونك ، لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل ثم العجل العجل.

ثمّ كتب شبث بن ربعي(٣) ، وحجّار بن أبجر(٤) ، ويزيد بن الحارث(٥) ،

____________________

(١) هانئ بن هانئ الهمداني الكوفي ، روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وهنه أبو إسحاق السبيعي. انظر: تهذيب التهذيب ١١: ٢٢ - ٢٣.

ولم ينعته كلّ من ترجمه بالسبيعي ، والسبيعي بطن من بطون همدان.

(٢) وروي كذلك باسم سعد ، وهو من بني حنيفة بن لجيم من بكر بن وائل ، وهو أحد الرسل الذين حملوا رسائل الكوفيّين إلى الحسينعليه‌السلام ، من أعظم الثوار تحمّساً.

انظر: تاريخ الطبري ٥: ٤١٩ ، مقتل الحسين للخوارزمي ١: ١٩٥.

(٣) شبث بن ربعي التميمي اليربوعي أبو عبد القدّوس ، شيخ مصر وأهل الكوفة في أيامه ، أدرك عصر النبوّة ، ولحق بسجاح المتنبّئة ، ثم عاد إلى الاسلام ، ثار على عثمان ، قاتل الحسينعليه‌السلام بعد أن كتب إليه يدعوه إلى المجيء ، مات بالكوفة نحو سنة ٧٠ ه.

وقيل: إنّه لمـّا قبض على شبث قال له إبراهيم: أصدقني ما عملت يوم الطف ؟ قال: ضربت وجهه الشريف بالسيف !! فقال له: ويلك يا ملعون ، ما خفت من الله تعالى ولا من جدّه رسول الله ، ثمّ جعل يشرح أفخاذه حتى مات.

انظر: الاصابة ترجمة رقم ٣٩٥٠ ، تهذيب التهذيب ٤: ٣٠٣ ، ميزان الاعتدال ١: ٤٤٠.

(٤) حجّار - ككتان وككتاب - بن أبجر الكوفي ، يقال فيه م يروي عن أمير المؤمنين ، روى عن السمّاك بن حرب. انظر: الرجال في تاج العروس ٢: ٢٥.

(٥) يزيد بن حارث بن رويم الشيباني ، أدرك عصر النبوّة ، وأسلم على يد أمير المؤمين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وشهد اليمامة ، ونزل بالبصرة ، قتل في الري سنة ٦٨ ه.

١٨٩

وعروة بن قيس(١) ، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ، ومحمد بن عمرو التميمي(٢) :

أما بعد: فقد اخضرّ الجناب(٣) ، وأينعت الثمار ، [وأعشبت الأرض ، وأورقت الأشجار ،] فإذا شئت فاقبل على جند لك مجنّدة والسلام.

وتواترت عليه الكتب حتى اجتمع عنده في نوب متفرّقة اثنا عشر الف كتاب ، وهو مع ذلك يتأنّي ولا يجبهم.

فورد عليه في يوم واحد ست مائة كتاب ، وتلاقت الرسل كلّها عنده فسألهم عن الناس ، وقال لهاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي: خبّراني من اجتمع على هذا الكتاب ؟

فذكرا له وجوه أهل الكوفة ، واولي الرأي منهم.

فقام - بأبي وامّي - عند ذلك فصلّى ركعتين بين الركن والمقام ، ثمّ كتب مع هاني وسعيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي.

إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين:

أمّا بعد: فان هانياً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم ، وكانا آخر من قدم عليَّ من

الإصابة ترجمة رقم ٩٣٩٨ ، تهذيب التهذيب ٨: ١٦٣ ، جمهرة الانساب: ٣٠٥.

____________________

(١) ظاهراً الصحيح: عزرة بن قيس. راجع: تاريخ الطبري ٥: ٣٥٣ ، أنساب الأشراف ٣: ١٥٨.

(٢) محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي الدارمي ، من أهل الكوفة ، له مع الحجاج وغيره من اُمرائها أخبار ، كان أحد اُمراء الجند في صفّين مع عليّعليه‌السلام ، توفي نحو ٨٥ ه. أنظر: المحبر: ١٥٤ و٣٣٨ و٣٣٩ ، لسان الميزان ٥: ٣٣٠.

(٣) في بعض المصادر: اخضرت الجنّات ، والجَناب: الفناء ، وما قرب من محلّة القوم.

١٩٠

رسلكم ، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جلّكم: «إنّه ليس علينا إمام فاقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ والهدى».

وإني باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل.

فان كتب إليَّ أنّه قد اجتمع رأى ملئكم ، وذوي الحجي والفضل منكم على ما قدمت به رسلكم ، وقرأت في كتبكم ، فانّي أقدم إليكم وشيكاً ان شاء الله تعالى فلعمري ما الإمام الاالحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الداين بدين الحقّ ، الحابس نفسه على ذات الله ، والسلام.

ودعا سلام الله عليه مسلم بن عقيل فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الله وعبد الرحمن الأرحبيّين ، وأمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف ، فان رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك.

فأقبل مسلم رضوان الله عليه حتى أتى المدينة فصلّى في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وودع أهله ومن يحب.

وسار حتى وصل الكوفة فنزل في دار المختار بن [أبي] عبيدة الثقفي(١) ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه ، وكلّما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسينعليه‌السلام وهم يبكون.

____________________

(١) المختار بن أبي عبيدة ابن مسعود الثقفي أبو إسحاق ، من زعماء الثائرين على بني اُميّة ، من أهل الطائف ، انتقل إلى المدينة مع أبيه ، وبقي المختار في المدينة منقطعاً إلى بني هاشم ، تزوج عبد الله بن عمر بن الخطاب أخت المختار صفية ، وكان المختار مع عليعليه‌السلام بالعراق ، وسكن البصرة بعد عليعليه‌السلام ، قبض عليه عبيد الله بن زياد في البصرة وحبسه ونفاه بشفاعة ابن عمر إلى الطائف ، ذهب إلى الكوفة بعد موت يزيد لأخذ الثأر من قتلة الحسين ، واستولى على الكوفة والموصل وتتبع قتلة الحسينعليه‌السلام ، قتله مصعب بن الزبير بعد حرب بينهما سنة ٦٧ ه.

انظر: الاصابة ترجمة رقم ٨٥٤٥ ، الفرق بين الفرق: ٣١ - ٣٧ ، الكامل في التاريخ ٤: ٨٢ - ١٠٨ ، تاريخ الطبري ٧: ١٤٦.

١٩١

وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر الفاً.

فكتب مسلم إلى الحسين بذلك ، وطلب منه القدوم عليهم.

وجعلت الشيعة تختلف إلى مسلم بن عقيل ، حتى علم النعمان بن بشير بذلك - وكان والياً على الكوفة من قبل معاوية فأقرّه يزيد عليها - وعلم بمكان مسلم فلم يتعرّض له بسوء.

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني امية فقال له: إنّه ما يصلح ما ترى أيّها الأمير الاالغشم - أيّ الظلم - وانّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك لرأي المستضعفين.

وكتب إلى يزيد كتاباً فيه: أنّ مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعت الشيعة للحسين ، فان يكن لك فيها حاجة فابعث إليها قويّاً ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك ، فانّ النعمان رجل ضعيف أو هو يتضعّف.

ثم كتب كل من عمارة بن عقبة وعمر بن سعد ينحو من ذلك.

وبعد وصول كتبهم إلى يزيد كتب إلى عبيد الله بن زياد - وكان والياً على البصرة(١) - بأنّه قد ولاه الكوفة وضمّها إليه ، وعرّفه أمر مسلم بن عقيل وشدّد عليه في تحصيله وقتله.

فأسرع اللعين إلى الكوفة ، واستخلف أخاه عثمان على البصرة ، وكان دخوله إلى الكوفة ليلاً ، فظنّ أهلها أنّه الحسينعليه‌السلام فتباشروا بقدومه ودنوا منه ، فلمّا عرفوا أنّه ابن مرجانة تفرّقوا عنه. فدخل قصر الامارة وبات فيه إلى الغداة ، ثم خرج فأبرق وأرعد ، ووعد وتوعّد.

فلمّا سمع مسلم بن عقيل بذلك خاف على نفسه ، فقصد هاني بن عروة

____________________

(١) البصرة بلدة اسلامية بنيت في خالفة عمر في السنة ١٨ من الهجرة ، سمّيت بذلك لأنّ البصرة الحجارة الرخوة ، وهي كذلك ، فسمّيت بها، والبصرتان: البصرة والكوفة. مجمع البحرين ٣: ٢٢٥ - ٢٢٦.

١٩٢

فآواه وأكرم مثواهه ، وكثر اختلاف أصحابه إليه يبايعونه على السمع والطاعة.

لكنّهم نقضوا بعد ذلك بيعته ، واخفروا ذمّته ، ولم يثبتوا معه على عهد ، ولا وفوا له بعقد ، وكان - بأبي هو وأمّي - من اُسود الوقائع ، وسقاة الحتوف ، واُباة الذلّ ، واولي الحفائظ ، وله - حين أسلمه أصحابه ، واشتد البأس بينه وبين عدوّه - مقام كريم ، وموقف عظيم ، إذ جاء العدو من فوقه ومن تحته ، وأحاط به من جميع نواحيه، وهو وحيد فريد ، لا ناصر له ولا معين ، فأبلى بلاءً حسناً ، وصبر صبر الأحرار على ضرب سيوفهم ، ورضخ أحجارهم(١) وما ناله من ضياتهم الشحيذة ، وأطنان قصبهم الملتهبة ، التي كانوا يرمونه من فوق البيت عليه ، حتى وقع في أيديهم أسيراً ، بعد أن فتك بهم ، وأذاقهم وبال أمرهم ، ثم قتلوه ظمئاناً ، وهو يكبّر الله ويستغفره ، ويصلّي على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصلبوا جثته بالكناسة ، وبعثوا برأسه إلى الشام.

رعي الله جسماً بالكنائس مُصلباً

ورأساً له فوق السنان مركبا

لقد سامه الأعداء خفضاً فما ارتضي

سوى الرفع فوق السمهرية منصبا

وقفت بمستنّ النزال فلم تجد

سوى الموت في الهيجا من الضيم مهربا

إلى أن وردت الموت والموت سنّة

لكم عرفت تحت الأسنّة والضبا

ولا عيب في الحرّ الكريم إذا قضى

بحدّ الضبا حرّاً كريماً مهذّبا

____________________

(١) رضخ رأسه بالحجر: رضّه.

١٩٣

[المجلس الخامس]

لما جاء عبيد الله بن زياد(١) الى الكوفة(٢) ، وضع المراصد ، وبثّ الجواسيس فيها على مسلم ، حتى علم أنّه في دار هاني ، فدعا محمد بن الأشعث(٣) وأسماء بن خارجة(٤) وعمرو بن الحجاج ، فقال:

ما يمنع هانياً من إتياننا ؟

فقالوا: ما ندري ، وقد قيل: إنّه يشتكي.

فقال: بلغني ذلك ، ثمّ علمت أنّه قد برئ وأنّه يجلس على باب داره ، ولو أعلم أنّه شاكٍ لعُدته ، فألقوه ومروه أن لا يدع ما يجب عليه من حقّنا ، فإنّي لا أحبّ أن يفسد عندي مثله ، [لأنّه] من أشراف العرب.

____________________

(١) عبيد الله بن زياد بن أبيه ، ولد بالبصرة ، وكان مع والده لـمّا مات بالعراق ، قصد الشام فولاه عمّه معاوية خراسان سنة ٥٣ ه وبقي فيها سنتين ، ونقله إلى معاوية إلى البصرة أميراً عليها سنة ٥٥ ، وأقرّه يزيد على امارته سنة ٦٠ ه ، وكانت فاجعة الطف في أيامه وعلى يده ، وبعد هلاك يزيد بايع أهل البصرة لعبيد الله ، ثمّ لم يلبثوا أن وثبوا عليه ، فهرب متخبّئاً إلى الشام ، ثم عاد يريد العراق ، فلحق به إبراهيم الأشتر فاقتتلا وتفرّق أصحاب عبيد الله فقتله ابن الأشتر في خازر من ارض الموصل ، ويدعى عبيد الله بابن مرجانة ، وهي اُمّه كانت معروفة بالفسق والفجور: انظر: تاريخ الطبري ٦: ١٦٦ و٧: ١٨ و١٤٤ ، الأعلام ٤: ١٩٣.

(٢) الارشاد: ٢٠٨ ، الملهوف: ١١٤.

(٣) محمد بن الأشعث بن قيس الكندي ، أبو القاسم ، من أصحاب مصعب بن الزبير ، قتل سنة ٦٧ ه انظر ترجمته في الاصابة رقم ٨٥٠٤، الأعلام ٦: ٣٩.

(٤) أسماء بن خارجة بن حصين الفزاري ، تابعي ، من رجال الطبقة الاولى من أهل الكوفة ، توفي سنة ٦٦ ه انظر ترجمته في تاريخ الاسلام ٢: ٣٧٢ ، الأعلام ١: ٣٠٥.

١٩٤

فأتوه ووقفوا عشيةً على باب داره ، فقالوا له: ما يمنعك من لقاء الأمير ، فإنّه ذكرك وقال: لو أعلم أنّه شاكٍ لعُدته ؟

فقال: الشكوى تمنعني.

فقالوا: [إنّه] قد بلغه جلوسك كلّ عشيّة على باب دارك ، وقد استبطأك ، والإبطاء والجفاء لا يتحمّله السلطان من مثلك ، لانّك سيّد قومك ، ونحن نقسم عليك الاركبت معنا.

وما زالوا به حتى غلبوه على رأيه ، فدعا بثيابه فلبسها ، ثم دعا ببغلته فركبها ، فلمّا دنا من القصر أحسّ ببغض الذي كان ، فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة:

يا بن أخي إنّي والله لخائف من هذا الرجل فما ترى ؟

فقال: والله يا عم ما أتخوّف عليك شيئاً ، فلا تجعل على نفسك سبيلاً ، ولم يكن حسّان يعلم الذي أضمر ابن مرجانة لهاني.

فجاءه رحمه ‌الله تعالى والقوم معه حتى دخلوا جميعاً على ابن زياد ، فلمّا رأى هانياً قال: أتتك بخائن(١) رجلاه. ثمّ تمثّل فقال: اُريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد(٢)

____________________

(١) كذا في الأصل والمصادر ، والظاهر أنّ الصحيح: حائن ، وهو الذي حان حينه وهلاكه ، راجع مجمع الأمثال للميداني.

(٢) هذا البيت لـ «عمرو بن معدي كرب الزبيدي» وهو فارس اليمن وصاحب الغارات المذكورة ، وفد على المدينة سنة ٩ ه في عشرة من بني زبيد فأسلم وأسلموا ، يكنى أبا ثور ، توفي على مقربة من الري سنة ٢١ ه ؛ وقيل: قتل عطشاً يوم القادسية. انظر: الاصابة رقم (٥٩٧٢) ، خزانة الأدب ١: ٤٢٥ - ٢٤٦ ، الأعلام ٥: ٨٦.

١٩٥

فقال له هاني: وما ذاك يا أمير ؟

فقال: إيهاً يا هاني ما هذه الامور التي تُربصُ في دارك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين ؟ جئتَ بابن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعتَ له السلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت أن ذلك يخفى عليّ.

فقال: ما فعلتُ.

قال: بلى قد فعلتَ.

فلمّا كثر ذلك بينهما وأبى هاني الا الانكار ، دعا ابن زياد بمعقل(١) مولاه حتى وقف بين يديه - وكان عيناً له على أخبارهم من حيث لا يدرون ، وقد عرف كثيراً من أسرارهم ، إذ كان يظهر لهم الاخلاص لأهل البيت والتفاني في حبّهم - فلما رآه هاني علم أنّه كان عيناً عليهم ، وأنّه قد أتاه بأخبارهم ، فأسقط في يده ، ثمّ راجعته نفسه فقال:

أصلح الله الأمير والله ما بعثت إلى مسلم بن عقيل ، ولا دعوته ، ولكن جاءني مستجيراً فأجرته ، واستحييت من ردّه ، ودخلني من ذلك ذمام فضيفته وآويته ، والآن فخلّ سبيلي حتى أرجع إليه وآمره بالخروج من داري إلى حيث شاء من الأرض لأخرج بذلك من ذمامه وجواره ، ثم ارجع إليك حتى أضع يدي في يدك.

فقال له ابن زياد: والله لا تفارقني حتى تأتيني به.

فقال: والله لا آتيك به أبداً ، آتيك بضيفي تقتله !

فقال: والله لتأتيني به.

____________________

(١) لم يذكروه ، وهو ملعون خبيث.

١٩٦

فقال: والله لا آتيك به ، فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي(١) فقال: أصلح الله الأمير خلني وإيّاه حتى اُكلّمه.

فقام فخلى به ناحية وهما بحيث يراهما ابن زياد ويسمع كلامهما فبينما هما يتناجيان إذ رفعا أصواتهما. فقال الباهلي:

يا هاني أنشدك بالله لا تقتل نفسك ، ولا تدخل البلاء على عشيرتك فوالله انّي لأنفس بك عن القتل ، ان هذا الرجل ابن عم القوم وليسوا قاتليه ولا ضائريه ، فادفعه إليهم فانّه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة وانّما تدفعه إلى السلطان.

فقال هاني: والله ان عليّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي ورسول ابن رسول الله وأنا صحيح الساعدين كثير الأعوان ، والله لو لم أكن الا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه ، فأخذ يناشده وهو يقول:

والله لا أدفعه أبداً.

فسمع ابن زياد ذلك فقال: ادنوه منّي فاُدني منه ، فقال: والله لتأتيني به أو لأضربنّ عنقك.

فقال هاني: إذاً تكثر البارقة حول دارك.

فقال ابن زياد: والهفاه عليك أبا البارقة تخوّفني ؟ وهاني يظن أنّ عشيرته يمنعونه ، ثم قال: ادنوه مني فاُدني منه ، فاستعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبهته وخدّه حتى كسر أنفه وسال الدماء على ثيابه ونثر لحم خده وجبينه على لحيته الشريفة فانكسر القضيب.

وضرب هاني يده على قائم سيف شرطي فجاذبه ذلك الرجل ، فصاح

____________________

(١) في بعض المصادر مسلم بن عمرو ، وفي اُخرى مسلم بن عمير الباهلي. لم يذكروه.

١٩٧

اللعين ابن مرجانة: خذوه ، فجروه حتى ألقوه في بيت من بيوت الدار ، وأغلقوا عليه بابه وجعلوا عليه حرساً.

فقام حسّان بن أسماء بن خارجة إلى ابن زياد فقال: أرسل غدر - نحن - سائر اليوم أيّها الأمير ، أرسلتنا الى الرجل ، وأمرتنا أن نجيئك به ، حتى إذا جئناك به هشّمت وجهه ، وأسلت دماءه وزعمت انّك تقتله ؟

فغضب ابن مرجانة وقال: وانك لها هنا ، ثم أمر به فضرب وقيّد وحبس.

فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون إلى نفسي انعاك يا هاني.

وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانياً قد قتل ، وكان هاني صهره على بنته رويحة(١) ، فأقبل عمرو في مذحج كافة حتى أحاط بالقصر ، ونادى:

أنا عمرو بن الحجاج وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة ، ولم تفارق جماعة ، وقد بلغنا أنّ صاحبنا قد قتل.

فأتاهم القاضي شريح(٢) - وكان مع ابن زياد في القصر حين دخل عليه هاني وفعل معه ما فعل - فأخبرهم بسلامته فرضوا بقوله وانصرفوا.

تبّاً لهم وترحاً ، لقد خطمهم(٣) ابن مرجانة بالذل ، وقادهم ببرة(٤) الهوان ، وعفّر وجوههم إذ هشّم وجه سيّدهم ، وأرغم آنافهم إذ كسر أنفهم ، وألقاهم في

____________________

(١) رويحة ابنة عمرو ، كانت اُمّ ولد للأشعث بن قيس الكندي ، وقد كان لها ابن من غيره يقال له بلال بن أسيد ، أعتقها الأسيد الحضرمي. انظر: الكامل في التاريخ ٤: ٣١ ، اعلام النساء المؤمنات: ٣٦٣ - ٣٦٤.

(٢) شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي ، أبو اُميّة ، توفي سنة ٧٨ ه ، أصله من اليمن ، ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية ، واستعفى في أيام الحجاج فأعفاه سنة ٧٧ ه. انظر: الطبقات ٦: ٩٠ - ١٠٠ ، وفيات الأعيان ١: ٢٢٤.

(٣) من خطم البعير: وهو أن يشدّ على أنفه حبل يقاد به.

(٤) البرّة: حلقة تجعل في لحم أنف البعير ويشدّ إليها الزمام.

١٩٨

مراغة(١) الذل إذ ألقاه في الحبس ، ومرّغهم في حمأة(٢) الهوان إذ جرّوه قتيلاً برجله في الأسواق.

أمّا هاني فقد فاز بالشهادة ، وختمت أيّامه بالسعادة.

وواسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً وخالف مجرما

وقد ثارت به الحمية لله عز وجل ، وعصفت في رأسه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذته حفائظ الولاية لآله الطيّبين الطاهرين ، فبذل نفسه ، ووقاهم بمهجته.

فوا لهفاه ما أعزّ جانبه.

وأسفاً عليه ما أمنع حوزته.

وحزناً لوجهه الميمون المشرق وقد شوّهه اللعين ضرباً بعصاه.

ونفسي الفداء لذلك الأنف الحمي وقد كسر في سبيل الله.

ولله تناثر اللحم من جبينه الوضّاح ، وخدّه الزاهر ، وجبهته المباركة على كريمته الشريفة.

وفي عين الله خضّبت تلك الشيبة العزيزة بدماء ذلك الأغر ، دون أن يهتضم جاره أو يستباح ذماره.

كريم أبى شمّ الدنية أنفه

فأشممه شوك الوشيج المسدّد

وقال: قفي يا نفس وقفة واردٍ

حياض الردى لا وقفة المتردّ

____________________

(١) المراغة: الموضع تتمرّغ فيه الدواب.

(٢) الحمأة: الطير الأسود المنتن.

١٩٩

[المجلس السادس]

لـمّا بلغ مسلم بن عقيل ما فعل ابن زياد بهاني بن عروة ، خرج بمن بايعه لانقاذ هاني ، وحرب ابن زياد(١) فتحصّن اللعين عنه بقصر الامارة ، واقتتل أصحابه وأصحاب مسلم ، وجعل أصحابه الذين معه في القصر يشرفون منه ويحذّرون أصحاب مسلم ويتوعّدونهم بأجناد الشام.

فلم يزالوا كذلك حتى جاء الليل ، فجعل أصحاب مسلم يتفرّقون عنه ، ويقول بعضهم لبعض: ماذا نصنع بتعجيل الفتنة ، وينبغي أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتى يصلح الله ذات بينهم.

وما زالوا يتفرّقون حتى أمسى ابن عقيل وصلّى المغرب وما معه الا ثلاثون نفساً في المسجد.

فلمّا رأى ذلك خرج متوجهاً نحو أبواب كندة ، فما بلغها الا ومعه منهم عشرة.

ثم خرج من الباب فإذا ليس معه انسان يدلّه ، فالتفت فإذا لا يحس بأحد ، فمضى على وجهه متلدّداً في أزقّة الكوفة لا يدري كيف يصنع ولا أين يذهب.

ومشى حتى انتهى إلى باب امراة يقال لها: (طوعة) أم ولد - كانت للأشعث ابن قيس فأعتقها ، فتزوّجت أسيد الحضرمي فولدت له بلالاً ، وكان بلال قد خرج مع الناس واُمّه قائمة تنتظره - فسلّم عليها مسلم فردّت عليه ، ثمّ طلب منها

____________________

(١) الارشاد: ٢١٠ ، الملهوف: ٨٢.

٢٠٠

ماء فسقته ، وأدخلت الاناء ، ثم خرجت فوجدته جالساً ، فقالت له: ألم تشرب الماء ؟

قال: بلى.

قالت: فاذهب إلى أهلك فسكت.

ثم أعادت عليه القول. فسكت.

فقالت له في الثالثة: سبحان الله يا عبد الله ، قم عافاك الله إلى أهلك فانّه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحلّه لك.

فقام وقال: يا أمة الله ما لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك من أجر ومعروف ولعلي مكافيك بعد اليوم.

قالت: يا عبد الله وما ذاك ؟

قال: أنا مسلم بن عقيل كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني.

قالت: أنت مسلم ؟

قال: نعم ؟

قالت: ادخل ، فدخل بيتاً في دارها غير البيت الذي تكون فيه ، وفرشت له ، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ.

وجاء ابنها وعرف بمكان مسلم فوشى به إلى ابن زياد.

فأحضر محمد بن الأشعث ، وضمّ إليه قومه ، وبعث معه عبيد الله بن عباس السلمي في سبعين رجلاً من قيس ، حتى أتوا الدار التي فيها مسلم ، فلمّا سمع وقع حوافر الخيل ، وأصوات الرجال علم أنّه قد اتي فخرج إليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم فضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ، ثم

٢٠١

عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك ، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمدي(١) فضرب بكر لعنة الله فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السيف في السفلى ، وفصلت ثنيتاه ، وضربه مسلم على رأسه ضربة منكرة ، وثنى باُخرى على حبل عاتقه كادت تطلع من جوفه ، وجعل يحارب أصحاب ابن زياد حتى قتل منهم جماعة ، فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت فأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النار في أطناب القصب ، ثمّ يلقونه عليه من فوق السطح ، فخرج عليهم مصلّتاً بسيفه فناداه محمد بن الأشعث: لك الأمان لا تقتل نفسك ، وهو يقاتلهم ويقول:

أقسمت لا أُقتل الاحرّاً

وإن رأيت الموت شيئاً نُكرا

أكره أن اُخدع أو اُغرّاً

أو أخلط البارد سخناً مُرّا

كلّ امرئٍ يوماً يلاقي شرّاً

أضربكم ولا أخاف ضرّا

فناداه ابن الأشعث: انك لا تكذب ولاة.

وكان قد اُثخن بالحجارة ، وعجز عن القتال ، فأسند ظهره إلى الحائط.

فأعاد ابن الأشعث عليه القول: لك الأمان.

فقال: أنا آمن ؟

قال: نعم.

ثم قال للقوم: ألي الأمان ؟

قالوا: نعم.

فقال: أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم ، واوتي ببغلة فحمل عليها ، فاجتمعوا حوله ، وانتزعوا سيفه ، فكأنّه عند ذلك يأس من نفسه فدمعت

____________________

(١) بكر بن حمران الأحمدي ، خبيث ملعون ، قاتل مسلم بن عقيل. انظر: مستدركات علم الرجال ٢: ٥٠.

٢٠٢

عيناه ، ثم قال:

هذا أوّل الغدر أين أمانكم ؟ إنّا لله وإنا إليه راجعون ، وبكى.

فقال له عبيد الله السلمي: إن من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك.

قال: انّي والله ما لنفسي بكيت ، ولا لها من القتل أرثي ، وإن كنت لا أحب لها طرفة عين تلفاً ، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي ، أبكي للحسين وآل الحسينعليه‌السلام .

ثمّ أقبل على ابن الأشعث فقال: انك ستعجز عن أماني ، فهل عندك خير ؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني يبلّغ الحسين - فانّي لا أراه الا قد خرج اليوم ، أو هو خارج غداً بأهل بيته - فيقول له: إنّ ابن عقيل بعثني إليك ، وهو أسير في أيدي القوم لا يرى أنّه يمسي حتى يقتل ، وهو يقول: إرجع فداك أبي واُمّي بأهل بيتك ، ولا يغرك أهل الكوفة فانّهم أصحاب أبيك الذين كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إن أهل الكوفة كذّبوك ، وليس لمكذوب رأي.

وأقبل ابن الأشعث بمسلم إلى باب القصر ، فدخل على ابن زياد فأخبره الخبر ، وقد اشتدّ العطش بمسلم وعلى باب القصر جماعة ينتظرون الإذن ، وإذا قلّة باردة على الباب. فقال:

اسقوني من هذا الماء.

فقال مسلم بن عمرو الباهلي: أتراها ما أبردها ، والله لا تذوق منها قطرة أبداً حتى تذوق الحميم في نار جهنم.

فقال له ابن عقيل: لاُمّك الثكل ما أجفاك وأفضّك وأقسى قلبك ، أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم.

٢٠٣

ثمّ تساند إلى حائط وجاء عمرو بن حريث(١) بقلّة عليها منديل وقدح فصبّ فيه ماء وقال له: اشرب.

فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فيه ، ففعل ذلك مرّتين ، فلمّا ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثنيتاه في القدح.

فقال: الحمد لله لو كان لي من الرزق المقسوم شربته.

ثم اُدخل على ابن مرجانة فلم يسلّم عليه.

فقال له الحرس: سلّم على الأمير.

فقال له: اسكت ويحك والله ما هو لي بأمير.

فقال له ابن زياد: إيهاً يا بن عقيل ! أتيت الناس وهم جميع ، فشتّت بينهم ، وفرّقت كلمتهم ، وحملت بعضهم على بعض.

قال: كلّا لست لذلك أتيت ، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل ، وندعوا إلى حكم الكتاب.

فقال ابن زياد: وما أنت وذاك ، ثم قال عليه اللعنة: يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه ولم يرك له أهلاً.

فقال مسلم: من أهله إذا لم نكن نحن أهله ؟

فقال ابن زياد: أهله أمير المؤمنين يزيد.

____________________

(١) عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله المخزومي ، روى عن أبي بكر وابن مسعود ، وروى عنه ابنه جعفر والحسن العرني والمغيرة بن سبيع وغيرهم ، كانت داره مأوى لأعداء أهل البيت ، ولي الكوفة لزياد بن أبيه ولابنه عبيد الله ، مات سنة ٨٥ ه.

انظر: سير اعلام النبلاء ٣: ٤١٧ - ٤١٩ ، الأعلام ٥: ٧٦.

٢٠٤

فقال مسلم: الحمد لله على كل حال رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.

فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم اقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام.

فقال مسلم: أما أنّك أحقّ من أحدث في الاسلام ما لم يكن ، وانك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك.

فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعلياً وعقيلاًعليهم‌السلام .

فأخذ مسلم لا يكلّمه ، ونظر إلى جلساء ابن زياد وفيهم عمر بن سعد فقال: يا عمر انّ بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة ، وقد يجب عليك نجح حاجتي ، وهي سرّ بيننا ، فامتنع اللعين أن يسمع منه ، فأمره ابن مرجانة بذلك ، فقاما إلى ناحية في المجلس وابن مرجانة يراهما ، فقال:

انّ عليّ سبعمائة درهم لبعض أهل الكوفة فبع سيفي ودرعي واقضها عنّي ، وإذا قتلت فاستوهب جثتي فوارها ، وابعث إلى الحسينعليه‌السلام من يردّه ، فانّي كتبت إليه أنّ الناس معه ، ولا أراه الا مقبلاً.

فقال ابن سعد: أتدري أيها الأمير ما قال ؟ إنّه ذكر كذا وكذا وكذا.

فقال ابن زياد: إنّه لا يخونك الأمين ، ولكن قد يؤتمن الخائن.

وأمر لعنة الله أن يصعدوا به فوق القصر ويضربوا عنقه ، ثمّ يتبعوه جسده ودعا بكر بن حمران فقال له:

إصعد وكن أنت الذي تضرب عنقه ، فصعد به وهو يكبّر الله ويستغفره ، ويصلّي على رسوله ويقول:

اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا ، فأشرف على موضع الحذاتين فضرب عنقه وأتبع جسده رأسه.

ثم أمر ابن زياد بهاني في الحال فقال:

٢٠٥

اخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه ، فأُخرج وهو مكتوف فجعل يقول: وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، يا مذحجاه يا مذحجاه ، وأين مذحج ؟

فلما رأى أن أحداً لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف وهو يقول: أما من عصا أو سكين أو حجر يحاجز بها رجل عن نفسه ؟

فوثبوا إليه فشدّوه وثاقاً ثم قيل له: مد عنقك.

فقال: ما أنا بها سخي ، وما أنا بمعينكم على نفسي.

فضربه مولى لابن مرجانة - تركي - بالسيف فلم يصنع شيئاً ، فقال هاني: إلى الله المعاد ، اللهم إلى رحمتك ورضوانك ثمّ ضربه اُخرى فقتله شهيداً محتسباً.

وفي مسلم وهاني يقول عبد الله بن زبير الأسدي(١) :

فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري

إلى هانيء في السوق وابن عقيل

إلى بطل قد هشّم السيف وجهه

وآخر يهوى من طمار(٢) قتيل

أصابهما أمر اللعين فأصبحا

أحاديث من يسري بكلّ سبيل

ترى جسداً قد غيّر الموت لونه

ونضح دم قد سال كلّ مسيل

فتىً كان أحيى من فتاة حَيِيّة

وأقطع من ذي شفرتين صقيل(٣)

____________________

(١) زبير - بفتح الزاي المعجمة كحبيب - ، وعبد الله بن زبير الأسدي بن الأعشى ، واسمه قيس بن بجرة بن قيس بن منقذ بن طريف بن عمرو بن قعين الأسدي ، من بني أسد بن خزيمة ، وكان يتشيع. انظر أدب الطف ١: ١٤٣.

(٢) في بعض المصادر: جدار.

(٣) ويقال انّ هذه القصيدة للفرزدق ، وقال بعضهم إنّها لسليمان الحنفي. انظر: تاريخ الطبري ٣: ٣٢ ، مقتل الخوارزمي ١: ٢١٤ ، أدب الطف ١: ١٤٣.

٢٠٦

[المجلس السابع]

لـمّا عزم الحسينعليه‌السلام على الخروج إلى العراق قام خطيباً ، فكان ممّا قال:

وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بني النواويس وكربلاء ، فيملأن مني أكراشاً جوفاً ، وأجربة سغباً ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفينا أجر الصابرين ، لن تشذّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لحمته ، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس ، تقرّبهم عينه ، وينجز بهم وعده ، ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته ، وموطئاً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا ، فانّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى.(١)

وجاء تلك الليلة أخوه محمد بن الحنفية فقال له:

يا أخي إنّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى ، فان رأيت أن تقيم فانّك أعزّ من في الحرم وأمنعه.

فقالعليه‌السلام : يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت.

فقال له ابن الحنفية: فان خفت ذلك فسر إلى اليمن ، أو بعض نواحي البر ، فانّك أمنع الناس به ، ولا يُقدر عليك.

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ١: ١٨٦.

٢٠٧

فقالعليه‌السلام : أنظر فيما قلت.

فلما كان في السحر ارتحلعليه‌السلام ، فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها.

فقال له: يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟

قال: بلى.

قال: فما حداك على الخروج عاجلاً ؟

قال: أتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارقتك ، فقال ، يا حسين اخرج ، فان الله قد شاء أن يراك قتيلاً.

فقال له ابن الحنفية: إنّا لله وإنا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك على مثل هذه الحالة.

فقال له: قد قال لي: إن الله شاء أن يراهن سبايا.

ولقيه أبو محمد الراقدي وزرارة بن خلج قبل أن يخرجعليه‌السلام إلى العراق فأخبراه ضعف الناس بالكوفة ، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، فأومأ بيده نحو السماء ففتحت أبوابها ، ونزلت الملائكة عدد لا يحصيهم الاالله عز وجل فقال: لولا تقارب الأشياء ، وهبوط الأجل لقاتلتهم بهؤلاء ، ولكن أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ، ومصرع أصحابي لا ينجو منهم إلا ولدي.(١)

وخرج - بأبي واُمّي - يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجة سنة ستّين(٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ١٩١ ، الكامل في التاريخ ٤: ٧ ، دلائل الإمامة: ٧٤ ، اللهوف: ٦١.

(٢) وقيل لثلاث مضين من ذي الحجّة ، وقيل يوم الأربعاء لثمان مضين من ذي الحجّة. انظر: الملهوف:

٢٠٨

قال معمر بن المثنى - في كتاب مقتل الحسين -: فلمّا كان يوم التروية قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى مكّة في جند كثيف ، قد أمره يزيد أن يناجز الحسين القتال إن هو ناجزه ، أو يقتله إن قدر عليه.

فخرج الحسينعليه‌السلام يوم التروية ، حين يُخرج إلى عرفة إذ لم يتمكّن من تمام حجّة ، مخالفة أن تستباح حرمات بيت الله الحرام ، ومشاعره العظام ، فأحلّ - بأبي واُمّي - من إحرامه ، وجعلها عمرة مفردة.

وقد انجلى عن مكّة وهو ابنها

وبه تشرّفت الحطيم وزمزم

ولم يدر أين يريح بدن ركابه

فكأنّما المأوى عليه محرّم

وعن الصادقعليه‌السلام - فيما رواه المفيد(١) باسناده إليه - قال: لـمّا سار الحسين صلوات الله عليه من مكّة لقيه أفواج من الملائكة المسوّمين والمردّفين في أيديهم الحراب على نجب من نجب الجنّة ، فسلّموا عليه وقالوا:

يا حجّة الله على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه ، إن الله عز وجل أمدّ جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنا في مواطن كثيرة ، وانّ الله أمدّك بنا.

فقال لهم: الموعد حفرتي وبقعتي التي استشهد فيه وهي كربلاء ، فإذا وردتها فأتوني.

فقالوا: يا حجّة الله إن الله أمرنا أن نسمع لك ونطيع ، فهل تخشى من عدو يلقاك فنكون معك.

فقال: لا سبيل لهم عليّ ، ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي.

وأتته أفواج من مؤمني الجن فقالوا له:

١٢٤.

____________________

(١) الارشاد: ١٧٢ ، الملهوف: ١١٦.

٢٠٩

يا مولانا نحن شيعتك وأنصارك فمرنا بما تشاء ، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدو لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك. فجزاهم خيراً.

وقال لهم: أما قرأتم كتاب الله المنزل على جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله:( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى‏ مَضَاجِعِهِمْ ) (١) .

فإذا أقمت في مكاني فبماذا يمتحن هذا الخلق المتعوس ، وبماذا يختبرون ، ومن ذا يكون ساكن حفرتي ، وقد اختارها الله تعالى لي يوم دحى الأرض ، وجعلها معقلاً لشيعتنا ومحبّينا ، تقبل فيها أعمالهم وصلواتهم ، ويجاب دعاؤهم ، وتسكن إليها شيعتنا ، فنكون لهم أماناً في الدنيا والآخرة ، ولكن تحضرون يوم عاشوراء الذي في آخره اُقتل ، ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي واخوتي وأهل بيتي ، ويسار برأسي إلى يزيد بن معاوية.

ساروا(٢) برأسك يا بن بنت محمد

متزمّلاً بدمائه تزميلا(٣)

[وكأنّما بك يا بن بنت محمد

قتلوا جهاراً عامدين رسولا]

قتلوك عطشاناً ولـمّا يرقبوا

في قتلك التأويل والتنزيلا

ويكبّرون بأن قُتلت وإنّما

قتلوا بك التكبير والتهليلا(٤)

* * *

____________________

(١) سورة آل عمران: ١٥٤.

(٢) في بعض المصادر: جاؤا.

(٣) في بعض المصادر: مترمّلاً بدمائه ترميلا.

(٤) القصيدة من مراثي أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب الكلبي المعروف ب- «ديك الجن» ، المولود بسلّمية سنة ١٦١ ه والمتوفّى سنة ٢٣٥. انظر: زينة المجالس: ٤٨٧ ، سير أعلام النبلاء ١١: ١٦٣ ، أعيان الشيعة ٣٨: ٤٠.

٢١٠

رأس ابن بنت محمد ووصيّه

للناظرين على قناة يرفعُ

والمسلمون بمنظرٍ وبمسمعٍ

لا منكر منهم ولا متفجّع

كحلت بمنظرك العيون عماية

وأصمّ رزؤك كلّ اُذن تسمعُ(١)

____________________

(١) هذه الأبيات لشاعر أهل البيت دعبل الخزاعي صاحب القصيدة التائية المشهورة. انظر: معجم الأدباء ١٠: ١١٠.

قال ابن طاووس في الملهوف: ٢٠٣: ويحقّ لي أن أتمثّل هنا أبياتاً لبعض ذوي العقول ، يرثي بها قتيلاً من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: رأس ابن بنت....

أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى

وأنمت عيناً لم تكن بك تهجعُ

ما روضة الاتمنت أنّها

لك حفرة ولخط قبرك مضجع

٢١١

[المجلس الثامن]

كان توجّه الحسينعليه‌السلام من مكّة إلى العراق يوم خروج مسلم للقتال بالكوفة(١) ، وهو يوم التروية ، واستشهد مسلم في الثامن من خروجه وهو يوم عرفة ، وكان قد اجتمع إلى الحسين نفر من أصحابه من أهل الحجاز والبصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولما أراد التوجّه إلى العراق طاف وسعى وحلّ من احرام جعلها عمرة مفردة وخرج مبادراً بأهله وولده ، ومن انضمّ إليه من شيعته.

وروي عن الفرزدق الشاعر انّه قال:

حججت باُمّي سنة ستّين فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم ، إذ لقيت الحسينعليه‌السلام خارجاً من مكّة في أسيافه وأتراسه ، فقلت: لمن هذا القطار ؟

فقيل: للحسين بن عليعليهما‌السلام .

فأتيته فسلّمت عليه وقلت: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله ما أعجلك عن الحج ؟

فقال: لو لم أعجل لأخذت ، من أنت ؟

فقلت: امرؤ من العرب ، فوالله ما فتّشني عن أكثر من ذلك.

____________________

(١) الارشاد: ٢١٨.

٢١٢

ثم قال: أخبرني عن الناس خلفك ؟

فقلت: الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وأسيافهم عليك ، والقضاء ينزل من السماء.

فقال: صدقت لله الأمر وكلّ يوم هو في شأن ، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على اداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحق نيّته والتقوى سريرته.

فقلت: أجل بلّغك الله ما تحب ، وكفاك ما تحذر ، وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها ، وحرّك راحلته وقال: السلام عليك ، ثم افترقنا.

وكان سلام الله عليه لما خرج اعترضه يحيى بن سعيد وجماعة أرسلهم عمرو بن سعيد بن العاص - والي يزيد يومئذ على مكّة - فأبى عليهم الحسينعليه‌السلام وامتنع منهم هو وأصحابه امتناعاً قوياً ، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط.

وسار - بأبي واُمّي - حتى أتى التنعيم(١) فلقي عيراً قد أقبلت من اليمن

____________________

(١) بالفتح ثم السكون وكسر العين وياء ساكنة وميم ، موضع بمكة في الحل ، وهو بين مكّة وسرٍف على فرسخين من مكّة ؛ وقيل: على أربعة ، وهو احد المواقيت التي يحرم فيها الحجّاج للعمرة. كان فيه عين ماء ومسجد. وعرف بهذا الاسم لوجود جبل الى يمينه يقال له نعيم وآخر عن شماله يقال له ناعم والوادي نعمان ، وبالتنعيم مساجد حول مسجد عائشة وسقايا على طريق المدينة منه يحرم المكّيون بالعمرة. انظر: معجم البلدان ٢: ٤٩.

قال الطبري (٤: ٢٨٩): ولـمّا نزل فيه الإمام الحسينعليه‌السلام في مسيره الكوفة لقي قافلة قادمة من اليمن تحمل بضائع ليزيد ، فاستولى عليها ، ويبدو انّ هدفه كان الاضرار الاقتصادي بالعدو. أمّا رجال القافلة فقد خيّرهم الإمام بين المسير معه إلى كربلاء أو ان يدفع لهم اُجرة الطريق ليسيروا حيث ما شاءوا ، وقد سار معه جماعة منهم.

٢١٣

فاستأجر من أهلها جمالاً لرحله وأصحابه.

وألحقه عبد الله بن جعفر(١) بابنيه عون ومحمد وكتب معهما إليه كتاباً يقول فيه:

أمّا بعد: فانّي أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي فانّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وإن هلكت اليوم طفئ نور الأرض ، فانّك علم المهتدين ، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل في المسير فانّي في أثر كتابي والسلام.

وذهب عبد الله إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين أماناً ليرجع عن وجهه ، فكتب إليه عمرو في ذلك، وأنفذ كتابه مع أخيه يحيى وعبد الله بن جعفر ، ودفعا إليه الكتاب ، وجهدا به في الرجوع.

فقال: إنّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام ، وأمرني بما أنا ماضٍ فيه.

ولـمّا يأس عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عوناً ومحمداً بلزومه والمسير معه ، والجهاد دونه ، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكّة.(٢)

وتوجّه الحسينعليه‌السلام نحو العراق مغذاً لا يلوي على شيء ، حتى

____________________

(١) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بحر الجود ، وأخباره في الجود والكرم والحلم لا تحصى ، وفيه يقول عبد الله بن قيس الرقيات:

وما كنت كالأغر بن جعفر

رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا

انظر: الاصابة ٢: ٢٨٩ - ٢٩٠ ، أسد الغابة ٣: ١٩٩.

(٢) تاريخ الطبري ٥: ٢١٨.

٢١٤

نزل ذات عرق(١) فلقي بشر بن غالب(٢) وارداً من العراق ، فسأله عن أهلها.

فقال: خلفت القلوب معك ، والسيوف مع بني اميّة.

فقال: صدق أخو بني أسد إن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.(٣)

ولما بلغ عبيد الله بن زياد إقبال الحسينعليه‌السلام من مكّة ، بعث صاحب شرطته الحصين بن نمير(٤) حتى نزل القادسية ، ونظم الخيل ما بين

____________________

(١) ذات عرق مُهَلّ أهل العراق ، وهو الحدّ بن نجد وتهامة. اسم لمنزل بين مكّة والعراق ، يبعد عن مكّة مسافة منزلين ، وهو ميقات إحرام القادمين من شرقي مكّة ؛ وقيل: عرق جبل بطريق مكة ومنه ذات عرق.

وقال الأصمعي: ما ارتفع من بطن الرمّة فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق ، وعرق هو الجبل المشرف على ذات عرق. انظر: معجم البلدان ٤: ١٠٧ - ١٠٨.

وهو من المنازل التي مرّ بها سيّد الشهداء بعد وادي العقيق ، وتوقف فيه يوماً أو يومين ، ثم شدّ رحاله وواصل المسير ، وفي هذا المنزل لقي الإمام بشر بن غالب وكان قادماً من العراق ، وسأله عن وضع العراق ، فقال له: القلوب معك والسيوف عليك. وسار الإمام إلى المنزل التالي هو «غمرة». ومن هذا المنزل بعث كتاباً إلى أهل الكوفة يخبرهم فيه بنبأ قدومه إليهم ، وأنفذوه بواسطة قيس بن مسهر الصيداوي. انظر: مقتل الحسين للمقرّم: ٢٠٤.

(٢) في مستدركات علم الرجال (٢: ٣٣): بشر بن غالب الأسدي الكوفي ، من أصحاب الحسين والسجاد ، قاله الشيخ في رجاله ، والبرقي عدّه من أصحاب أمير المؤمنين والحسنين والسجادعليهم‌السلام ، وأخوه بشير ، رويا عن الحسين دعاءه المعروف يوم عرفة بعرفات... وله روايات عن الحسين ذكرت في عدّة الداعي ، ويروي عنه عبد الله بن شريك.

(٣) مثير الأحزان: ٢١.

(٤) الحصين بن نمير بن نائل أبو عبد الرحمن الكندي ثم السكوني ، وهو من قادة الأمويين القساة ، من أهل حمص ، كان مبغضاً لآل علي ؛ ففي معركة صفّين كان إلى جانب معاوية ، وفي عهد يزيد كان قائداً على قسم من الجيش ، وفي واقعة مسلم بن عقيل سلّطه ابن زياد على دور أهل الكوفة ، ليأخذ مسلم ويأتيه به ، وهو الذي أخذ قيس بن مسهّر رسول الحسينعليه‌السلام فبعث به إلى ابن زياد فأمر به فقتل ، وهو الذي نصب المنجنيق على جبل أبي قبيس ورمى به الكعبة لمـّا تحصّن ابن الزبير في

٢١٥

القادسية(١) إلى خفان ، وما بين القادسية إلى القطقطانية(٢) .

ولـمّا بلغ الحسينعليه‌السلام الحاجز(٣) من بطن الرمّة بعث قيس بن مسهر الصيداوي - وقيل بل بعث أخاه من الرضاعة عبد الله بن يقطر - إلى الكوفة ، ولم

المسجد الحرام ، وهو قاتل سليمان بن صرد أثناء ثورة التوّابين ، وهو الذي سأل أمير المؤمنينعليه‌السلام عن شعر رأسه بعد قولهعليه‌السلام : «سلوني قبل أن تفقدوني» ، وفي عهد يزيد شارك في الهجوم الذي امر يزيد بشنّه على المدينة المنوّرة، مات في عام ٦٨ ه متأثّراً بجراح أصابه بها إبراهيم بن الأشتر في الوقعة التي جرت على ضفاف نهر الخازر ، وجاء في بعض الأخيار انّه أخذ رأس حبيب بن مظاهر بعد مقتله وعلّقه في رقبة فرسه ودار به في الكوفة مفتخراً ، فكمن له فيما بعد القاسم بن حبيب وقتله ثاراً لدم أبيه ، وجاء في مصادر أخرى انّه قتل على يد أصحاب المختار الثقفي عام ٦٦ ه قرب الموصل في وقت حركة المختار. انظر: مروج الذهب ٣: ٧١ ، التهذيب لابن عساكر ٤: ٣٧١ ، الأعلام ٢: ٢٦٢.

____________________

(١) اسم موضع قبل الكوفة ويبعد عنها خمسة عشر فرسخاً (وعن بغداد ٦١ فرسخاً). وفي هذا المكان وقعت المعركة المعروفة باسم القادسية بين الجيش الاسلامي والفرس في زمن الخليفة الثاني ، وانتصر فيها المسلمون ، وفي هذا المكان قبض الحصين بن نمير (رئيس شرطة ابن زياد في تلك المنطقة) على مبعوث الحسين ، قيس بن مسهر الصيداوي ، وأرسله إلى ابن زياد وكان قيس يحمل كتاباً من الحسين إلى أهل الكوفة ، ولما قبض عليه مزق الكتاب باسنانه لكي لا تقع أسماء المخاطبين بيد العدو. انظر: الحسين في طريقه إلى الشهادة: ٤٩.

(٢) موضع قرب الكوفة في جهة البرية بالطف ، وهو أحد المنازل من القادسية إلى الشام ، كان به سجن النعمان ، وقد كانت المنطقة بين القادسية والقطقطانية قد نظم فيها ابن زياد قوات الاستطلاع لمنع الناس من الالتحاق بالحسينعليه‌السلام . انظر: الحسين في طريقه إلى الشهادة: ٥٠.

(٣) وقيل: الحاجر ، اسم ارض ومنزل على الطريق من مكة إلى العراق ، وملتقى طريقي الكوفة والبصرة عند المسير إلى المدينة ، ومعناه: الموضع الذي يحجز فيه الماء.

وفي معجم البلدان: بطن الرمة واد معروف بعالية نجد ، وقال ابن دريد: الرمة قاع عظيم بنجد تنصبّ إليه أودية.

وفي هذا المنزل تسلّم الإمام الحسين كتاب مسلم بن عقيل من الكوفة ، وكتب الجواب إلى أهل الكوفة وأرسله مع مبعوثه قيس بن مسهّر. انظر: معجم البلدان ١: ٦٦٦ ، مراصد الاطلاع ٢: ٦٣٤.

٢١٦

يكنعليه‌السلام علم بخبر ابن عقيل وكتب معه إليهم:

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي.

إلى اخوانه من المؤمنين والمسلمين:

سلام عليكم فانّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو.

أمّا بعد: فانّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملأكم على نصرنا ، والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يحسن لكم الصنع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدّوا فانّي قادم عليكم في أيامي هذه والسلام.

وكان مسلم كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة ، وكتب إليه أهل الكوفة: أن لك هنا مائة الف سيف فلا تتأخّر.

وأقبل قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب الحسينعليه‌السلام حتى انتهى إلى القادسية ، أخذه الحصين بن نمير فبعث به الى ابن زياد فأمره اللعين أن يسبّ الحسين وأباه وأخاه على المنبر ، فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال:

أيها الناس إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق الله ، وابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا رسوله إليكم فأجيبوه ، ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه ، واستغفر لعلي بن أبي طالب وصلّى عليه.

فأمر ابن زياد أن يرمى به من فوق القصر ، فرموا به فتقطّع.

وروي: أنّه وقع إلى الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ،

٢١٧

فجاءه عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه.

وأقبل الحسينعليه‌السلام من الحاجز يسير نحو الكوفة فانتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي ، فلمّا رأى الحسينعليه‌السلام قام إليه فقال:

بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله ما أقدمك ؟ واحتمله فأنزله.

فقال له الحسينعليه‌السلام : كان من موت معاوية ما قد بلغك ، فكتب إليّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم.

فقال ابن مطيع: اذكرك الله يا بن رسول الله وحرمة الاسلام أن تنهتك ، أنشدك الله في حرمة قريش ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني اُميّة ليقتلنك ، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً ، والله انّها لحرمة الاسلام تنهتك ، وحرمة قريش ، وحرمة العرب ، فلا تفعل ، ولا تأت الكوفة ، ولا تعرض نفسك لبني اُميّة.

فأبى الحسينعليه‌السلام إلا أن يمضي انجازاً لمقاصده السامية.

وكان ابن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة(١) إلى طريق الشام إلى طريق البصرة فلا يدعون أحداً يلج ، ولا أحداً يخرج.

وأقبل الحسينعليه‌السلام فلقي الأعراب فسألهم فقالوا: ما ندري ، غير أنّا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج ، فسار - بأبي واُمّي - تلقاء وجهه.

____________________

(١) اسم أحد المنازل بين مكّة والكوفة ويبعد عن الكوفة مسير ثلاثة أيّام ، وقد مرّ به الحسين بن عليعليه‌السلام في مسيره إلى كربلاء ، وهنالك مواضع اُخرى بهذا الاسم في طريق مكّة وفي اليمامة ، وفي واقصة منارة مبنية من قرون وأضلاف صيد الصحراء بناها ملك شاه السلجوقي. انظر: آثار البلاد: ٣٣٦.

٢١٨

وحدّث جماعة من فزارة وبجيلة ، قالوا: كنا مع زهير بن القين البجلي(١) حين أقبلنا من مكّة فكنّا نساير الحسينعليه‌السلام ، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن ننازله في منزل فإذا نزل منزلاً لم نجد بدّاً من أن ننازله فيه ، كنّا ننزل في جانب غير الجانب الذي ينزل فيه الحسينعليه‌السلام .

فبينا نحن جلوس نتغذّى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسينعليه‌السلام حتى سلّم ، ثمّ قال:

____________________

(١) زهير بن القين البجلي ، وبجيلة هم بنو أنمار بن أراش بن كهلان من القحطانيّة ، شخصية بارزة في المجتمع الكوفي ، وكان له يوم عاشوراء شرف القتال إلى جانب الحسين بن عليعليه‌السلام ، وقد أبدى شجاعة منقطعة النظير في سوح الوغى ، كان في بداية أمره مؤيّداً لأنصار عثمان. إلا انّ حسن حظّه جعل له حسن العاقبة ليكون من شهداء كربلاء الأجلاء.

ولـمّا اغلق جيش الحر الطريق على الإمام ، استأذن زهير الإمام الحسين وتكلّم معهم ، ثم عرض على الامام مقاتلتهم إلا انّه لم يوافق على رأيه.

وتحدث في يوم عاشوراء معلناً عن موقفه القاطع في مناصرة الحسين ، واستعداد للبذل في سبيله وقال: لو اقتل ألف مرّة ما تركت نصرة ابن رسول الله.

وفي يوم العاشر من محرّم جعله الحسين عند تعبئة عسكره على الميمنة ، وزهير أول من خطب بالقوم بعد الحسين ، وهو يحمل سلاحه ، وابلغ لهم في النصح ، فرماه الشمر بسهم ، وجرى حوار بينه وبين الشمر.

وفي ظهيرة يوم العاشر وقف هو وسعيد بن عبد الله يقيان الإمام من السهام حتى ينهي صلاته. وبرز بعدها إلى القتال ، وقاتل قتال الأبطال وكان حينها يرتجز قائلاً:

انا زهير وانا ابن القين

اذودكم بالسيف عن حسينِ

انّ حسيناً أحد السبطين

من عترة البرّ التقي الزينِ

ذاك رسول الله غير المين

اضربكم ولا ارى من شينِ

يا ليت نفسي قسمت قسمين

انظر: تاريخ الطبري ٥: ٣٩٦ - ٣٩٧ و٦: ٤٢ و٤٢٢ ، رجال الشيخ: ٧٣ ، أنصار الحسين: ٨٨ ، أعيان الشيعة ٧: ٧٢.

٢١٩

يا زهير إن أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام بعثني إليك لتأتيه.

فطرح كلّ انسان منّا ما في يده حتى كأنّ على رؤوسنا الطير ، فقالت له امرأته - وهي ديلم بنت عمر(١) -: سبحان الله أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ؟! فلو أتيته فسمعت من كلامه.

فمضى إليه زهير فما لبث ان جاء مستبشراً قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله ورحله ومتاعه فحوّل إلى الحسينعليه‌السلام . ثم قال لامرأته:

أنت طالق ، إلحقي بأهلك ، فانّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلا خيراً ، وقد عزمت على صحبة الحسينعليه‌السلام لأفديه بروحي ، وأقيه بنفسي ، ثم أعطاها ما لها وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها.

فقامت إليه وبكت وودّعته وقالت: خسار الله لك ، اسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسينعليه‌السلام .

ثم قال لأصحابه: من أحبّ منكم أن يتبعني ، وإلا فهو آخر العهد بي.

انّي سأحدّثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا ، وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان الفارسي(٢) :

____________________

(١) أو ديلم بنت عمرو ، وهي التي قامت لغلام لزهير بعد شهادته: انطلق فكفّن مولاك ، قال: فجئت فرأيت حسيناً ملقى ، فقلت: أكفن مولاي وأدع حسيناً ! فكفنت حسيناً ، ثم رجعت فقلت ذلك لها ، فقالت: أحسنت ، وأعطتني كفناً آخر ، وقالت: انطلق فكفن مولاك ففعلت.

انظر: أعلام النساء المؤمنات: ٣٤١ ، ترجمة الإمام الحسين من كتاب الطبقات ، المطبوع في مجلة تراثنا ، العدد ١٠ ص ١٩٠.

(٢) سلمان الفارسي: صحابي أشهر من أن يعرّف ، ومن الأربعة الذين أمر الله تعالى نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله بحبّهم ، وقال فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «سلمان منّا أهل البيت» ، وحاله في الولاء لأمير المؤمنينعليه‌السلام مشهور. انظر: أسد الغابة ٢: ٤١٧.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348