المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه11%

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 348

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه
  • البداية
  • السابق
  • 348 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47093 / تحميل: 4595
الحجم الحجم الحجم
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ماء فسقته ، وأدخلت الاناء ، ثم خرجت فوجدته جالساً ، فقالت له: ألم تشرب الماء ؟

قال: بلى.

قالت: فاذهب إلى أهلك فسكت.

ثم أعادت عليه القول. فسكت.

فقالت له في الثالثة: سبحان الله يا عبد الله ، قم عافاك الله إلى أهلك فانّه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحلّه لك.

فقام وقال: يا أمة الله ما لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك من أجر ومعروف ولعلي مكافيك بعد اليوم.

قالت: يا عبد الله وما ذاك ؟

قال: أنا مسلم بن عقيل كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني.

قالت: أنت مسلم ؟

قال: نعم ؟

قالت: ادخل ، فدخل بيتاً في دارها غير البيت الذي تكون فيه ، وفرشت له ، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ.

وجاء ابنها وعرف بمكان مسلم فوشى به إلى ابن زياد.

فأحضر محمد بن الأشعث ، وضمّ إليه قومه ، وبعث معه عبيد الله بن عباس السلمي في سبعين رجلاً من قيس ، حتى أتوا الدار التي فيها مسلم ، فلمّا سمع وقع حوافر الخيل ، وأصوات الرجال علم أنّه قد اتي فخرج إليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم فضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ، ثم

٢٠١

عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك ، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمدي(١) فضرب بكر لعنة الله فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السيف في السفلى ، وفصلت ثنيتاه ، وضربه مسلم على رأسه ضربة منكرة ، وثنى باُخرى على حبل عاتقه كادت تطلع من جوفه ، وجعل يحارب أصحاب ابن زياد حتى قتل منهم جماعة ، فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت فأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النار في أطناب القصب ، ثمّ يلقونه عليه من فوق السطح ، فخرج عليهم مصلّتاً بسيفه فناداه محمد بن الأشعث: لك الأمان لا تقتل نفسك ، وهو يقاتلهم ويقول:

أقسمت لا أُقتل الاحرّاً

وإن رأيت الموت شيئاً نُكرا

أكره أن اُخدع أو اُغرّاً

أو أخلط البارد سخناً مُرّا

كلّ امرئٍ يوماً يلاقي شرّاً

أضربكم ولا أخاف ضرّا

فناداه ابن الأشعث: انك لا تكذب ولاة.

وكان قد اُثخن بالحجارة ، وعجز عن القتال ، فأسند ظهره إلى الحائط.

فأعاد ابن الأشعث عليه القول: لك الأمان.

فقال: أنا آمن ؟

قال: نعم.

ثم قال للقوم: ألي الأمان ؟

قالوا: نعم.

فقال: أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم ، واوتي ببغلة فحمل عليها ، فاجتمعوا حوله ، وانتزعوا سيفه ، فكأنّه عند ذلك يأس من نفسه فدمعت

____________________

(١) بكر بن حمران الأحمدي ، خبيث ملعون ، قاتل مسلم بن عقيل. انظر: مستدركات علم الرجال ٢: ٥٠.

٢٠٢

عيناه ، ثم قال:

هذا أوّل الغدر أين أمانكم ؟ إنّا لله وإنا إليه راجعون ، وبكى.

فقال له عبيد الله السلمي: إن من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك.

قال: انّي والله ما لنفسي بكيت ، ولا لها من القتل أرثي ، وإن كنت لا أحب لها طرفة عين تلفاً ، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي ، أبكي للحسين وآل الحسينعليه‌السلام .

ثمّ أقبل على ابن الأشعث فقال: انك ستعجز عن أماني ، فهل عندك خير ؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني يبلّغ الحسين - فانّي لا أراه الا قد خرج اليوم ، أو هو خارج غداً بأهل بيته - فيقول له: إنّ ابن عقيل بعثني إليك ، وهو أسير في أيدي القوم لا يرى أنّه يمسي حتى يقتل ، وهو يقول: إرجع فداك أبي واُمّي بأهل بيتك ، ولا يغرك أهل الكوفة فانّهم أصحاب أبيك الذين كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إن أهل الكوفة كذّبوك ، وليس لمكذوب رأي.

وأقبل ابن الأشعث بمسلم إلى باب القصر ، فدخل على ابن زياد فأخبره الخبر ، وقد اشتدّ العطش بمسلم وعلى باب القصر جماعة ينتظرون الإذن ، وإذا قلّة باردة على الباب. فقال:

اسقوني من هذا الماء.

فقال مسلم بن عمرو الباهلي: أتراها ما أبردها ، والله لا تذوق منها قطرة أبداً حتى تذوق الحميم في نار جهنم.

فقال له ابن عقيل: لاُمّك الثكل ما أجفاك وأفضّك وأقسى قلبك ، أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم.

٢٠٣

ثمّ تساند إلى حائط وجاء عمرو بن حريث(١) بقلّة عليها منديل وقدح فصبّ فيه ماء وقال له: اشرب.

فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فيه ، ففعل ذلك مرّتين ، فلمّا ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثنيتاه في القدح.

فقال: الحمد لله لو كان لي من الرزق المقسوم شربته.

ثم اُدخل على ابن مرجانة فلم يسلّم عليه.

فقال له الحرس: سلّم على الأمير.

فقال له: اسكت ويحك والله ما هو لي بأمير.

فقال له ابن زياد: إيهاً يا بن عقيل ! أتيت الناس وهم جميع ، فشتّت بينهم ، وفرّقت كلمتهم ، وحملت بعضهم على بعض.

قال: كلّا لست لذلك أتيت ، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل ، وندعوا إلى حكم الكتاب.

فقال ابن زياد: وما أنت وذاك ، ثم قال عليه اللعنة: يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه ولم يرك له أهلاً.

فقال مسلم: من أهله إذا لم نكن نحن أهله ؟

فقال ابن زياد: أهله أمير المؤمنين يزيد.

____________________

(١) عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله المخزومي ، روى عن أبي بكر وابن مسعود ، وروى عنه ابنه جعفر والحسن العرني والمغيرة بن سبيع وغيرهم ، كانت داره مأوى لأعداء أهل البيت ، ولي الكوفة لزياد بن أبيه ولابنه عبيد الله ، مات سنة ٨٥ ه.

انظر: سير اعلام النبلاء ٣: ٤١٧ - ٤١٩ ، الأعلام ٥: ٧٦.

٢٠٤

فقال مسلم: الحمد لله على كل حال رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.

فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم اقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام.

فقال مسلم: أما أنّك أحقّ من أحدث في الاسلام ما لم يكن ، وانك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك.

فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعلياً وعقيلاًعليهم‌السلام .

فأخذ مسلم لا يكلّمه ، ونظر إلى جلساء ابن زياد وفيهم عمر بن سعد فقال: يا عمر انّ بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة ، وقد يجب عليك نجح حاجتي ، وهي سرّ بيننا ، فامتنع اللعين أن يسمع منه ، فأمره ابن مرجانة بذلك ، فقاما إلى ناحية في المجلس وابن مرجانة يراهما ، فقال:

انّ عليّ سبعمائة درهم لبعض أهل الكوفة فبع سيفي ودرعي واقضها عنّي ، وإذا قتلت فاستوهب جثتي فوارها ، وابعث إلى الحسينعليه‌السلام من يردّه ، فانّي كتبت إليه أنّ الناس معه ، ولا أراه الا مقبلاً.

فقال ابن سعد: أتدري أيها الأمير ما قال ؟ إنّه ذكر كذا وكذا وكذا.

فقال ابن زياد: إنّه لا يخونك الأمين ، ولكن قد يؤتمن الخائن.

وأمر لعنة الله أن يصعدوا به فوق القصر ويضربوا عنقه ، ثمّ يتبعوه جسده ودعا بكر بن حمران فقال له:

إصعد وكن أنت الذي تضرب عنقه ، فصعد به وهو يكبّر الله ويستغفره ، ويصلّي على رسوله ويقول:

اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا ، فأشرف على موضع الحذاتين فضرب عنقه وأتبع جسده رأسه.

ثم أمر ابن زياد بهاني في الحال فقال:

٢٠٥

اخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه ، فأُخرج وهو مكتوف فجعل يقول: وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، يا مذحجاه يا مذحجاه ، وأين مذحج ؟

فلما رأى أن أحداً لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف وهو يقول: أما من عصا أو سكين أو حجر يحاجز بها رجل عن نفسه ؟

فوثبوا إليه فشدّوه وثاقاً ثم قيل له: مد عنقك.

فقال: ما أنا بها سخي ، وما أنا بمعينكم على نفسي.

فضربه مولى لابن مرجانة - تركي - بالسيف فلم يصنع شيئاً ، فقال هاني: إلى الله المعاد ، اللهم إلى رحمتك ورضوانك ثمّ ضربه اُخرى فقتله شهيداً محتسباً.

وفي مسلم وهاني يقول عبد الله بن زبير الأسدي(١) :

فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري

إلى هانيء في السوق وابن عقيل

إلى بطل قد هشّم السيف وجهه

وآخر يهوى من طمار(٢) قتيل

أصابهما أمر اللعين فأصبحا

أحاديث من يسري بكلّ سبيل

ترى جسداً قد غيّر الموت لونه

ونضح دم قد سال كلّ مسيل

فتىً كان أحيى من فتاة حَيِيّة

وأقطع من ذي شفرتين صقيل(٣)

____________________

(١) زبير - بفتح الزاي المعجمة كحبيب - ، وعبد الله بن زبير الأسدي بن الأعشى ، واسمه قيس بن بجرة بن قيس بن منقذ بن طريف بن عمرو بن قعين الأسدي ، من بني أسد بن خزيمة ، وكان يتشيع. انظر أدب الطف ١: ١٤٣.

(٢) في بعض المصادر: جدار.

(٣) ويقال انّ هذه القصيدة للفرزدق ، وقال بعضهم إنّها لسليمان الحنفي. انظر: تاريخ الطبري ٣: ٣٢ ، مقتل الخوارزمي ١: ٢١٤ ، أدب الطف ١: ١٤٣.

٢٠٦

[المجلس السابع]

لـمّا عزم الحسينعليه‌السلام على الخروج إلى العراق قام خطيباً ، فكان ممّا قال:

وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بني النواويس وكربلاء ، فيملأن مني أكراشاً جوفاً ، وأجربة سغباً ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفينا أجر الصابرين ، لن تشذّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لحمته ، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس ، تقرّبهم عينه ، وينجز بهم وعده ، ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته ، وموطئاً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا ، فانّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى.(١)

وجاء تلك الليلة أخوه محمد بن الحنفية فقال له:

يا أخي إنّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى ، فان رأيت أن تقيم فانّك أعزّ من في الحرم وأمنعه.

فقالعليه‌السلام : يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت.

فقال له ابن الحنفية: فان خفت ذلك فسر إلى اليمن ، أو بعض نواحي البر ، فانّك أمنع الناس به ، ولا يُقدر عليك.

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ١: ١٨٦.

٢٠٧

فقالعليه‌السلام : أنظر فيما قلت.

فلما كان في السحر ارتحلعليه‌السلام ، فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها.

فقال له: يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟

قال: بلى.

قال: فما حداك على الخروج عاجلاً ؟

قال: أتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارقتك ، فقال ، يا حسين اخرج ، فان الله قد شاء أن يراك قتيلاً.

فقال له ابن الحنفية: إنّا لله وإنا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك على مثل هذه الحالة.

فقال له: قد قال لي: إن الله شاء أن يراهن سبايا.

ولقيه أبو محمد الراقدي وزرارة بن خلج قبل أن يخرجعليه‌السلام إلى العراق فأخبراه ضعف الناس بالكوفة ، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، فأومأ بيده نحو السماء ففتحت أبوابها ، ونزلت الملائكة عدد لا يحصيهم الاالله عز وجل فقال: لولا تقارب الأشياء ، وهبوط الأجل لقاتلتهم بهؤلاء ، ولكن أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ، ومصرع أصحابي لا ينجو منهم إلا ولدي.(١)

وخرج - بأبي واُمّي - يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجة سنة ستّين(٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ١٩١ ، الكامل في التاريخ ٤: ٧ ، دلائل الإمامة: ٧٤ ، اللهوف: ٦١.

(٢) وقيل لثلاث مضين من ذي الحجّة ، وقيل يوم الأربعاء لثمان مضين من ذي الحجّة. انظر: الملهوف:

٢٠٨

قال معمر بن المثنى - في كتاب مقتل الحسين -: فلمّا كان يوم التروية قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى مكّة في جند كثيف ، قد أمره يزيد أن يناجز الحسين القتال إن هو ناجزه ، أو يقتله إن قدر عليه.

فخرج الحسينعليه‌السلام يوم التروية ، حين يُخرج إلى عرفة إذ لم يتمكّن من تمام حجّة ، مخالفة أن تستباح حرمات بيت الله الحرام ، ومشاعره العظام ، فأحلّ - بأبي واُمّي - من إحرامه ، وجعلها عمرة مفردة.

وقد انجلى عن مكّة وهو ابنها

وبه تشرّفت الحطيم وزمزم

ولم يدر أين يريح بدن ركابه

فكأنّما المأوى عليه محرّم

وعن الصادقعليه‌السلام - فيما رواه المفيد(١) باسناده إليه - قال: لـمّا سار الحسين صلوات الله عليه من مكّة لقيه أفواج من الملائكة المسوّمين والمردّفين في أيديهم الحراب على نجب من نجب الجنّة ، فسلّموا عليه وقالوا:

يا حجّة الله على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه ، إن الله عز وجل أمدّ جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنا في مواطن كثيرة ، وانّ الله أمدّك بنا.

فقال لهم: الموعد حفرتي وبقعتي التي استشهد فيه وهي كربلاء ، فإذا وردتها فأتوني.

فقالوا: يا حجّة الله إن الله أمرنا أن نسمع لك ونطيع ، فهل تخشى من عدو يلقاك فنكون معك.

فقال: لا سبيل لهم عليّ ، ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي.

وأتته أفواج من مؤمني الجن فقالوا له:

١٢٤.

____________________

(١) الارشاد: ١٧٢ ، الملهوف: ١١٦.

٢٠٩

يا مولانا نحن شيعتك وأنصارك فمرنا بما تشاء ، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدو لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك. فجزاهم خيراً.

وقال لهم: أما قرأتم كتاب الله المنزل على جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله:( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى‏ مَضَاجِعِهِمْ ) (١) .

فإذا أقمت في مكاني فبماذا يمتحن هذا الخلق المتعوس ، وبماذا يختبرون ، ومن ذا يكون ساكن حفرتي ، وقد اختارها الله تعالى لي يوم دحى الأرض ، وجعلها معقلاً لشيعتنا ومحبّينا ، تقبل فيها أعمالهم وصلواتهم ، ويجاب دعاؤهم ، وتسكن إليها شيعتنا ، فنكون لهم أماناً في الدنيا والآخرة ، ولكن تحضرون يوم عاشوراء الذي في آخره اُقتل ، ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي واخوتي وأهل بيتي ، ويسار برأسي إلى يزيد بن معاوية.

ساروا(٢) برأسك يا بن بنت محمد

متزمّلاً بدمائه تزميلا(٣)

[وكأنّما بك يا بن بنت محمد

قتلوا جهاراً عامدين رسولا]

قتلوك عطشاناً ولـمّا يرقبوا

في قتلك التأويل والتنزيلا

ويكبّرون بأن قُتلت وإنّما

قتلوا بك التكبير والتهليلا(٤)

* * *

____________________

(١) سورة آل عمران: ١٥٤.

(٢) في بعض المصادر: جاؤا.

(٣) في بعض المصادر: مترمّلاً بدمائه ترميلا.

(٤) القصيدة من مراثي أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب الكلبي المعروف ب- «ديك الجن» ، المولود بسلّمية سنة ١٦١ ه والمتوفّى سنة ٢٣٥. انظر: زينة المجالس: ٤٨٧ ، سير أعلام النبلاء ١١: ١٦٣ ، أعيان الشيعة ٣٨: ٤٠.

٢١٠

رأس ابن بنت محمد ووصيّه

للناظرين على قناة يرفعُ

والمسلمون بمنظرٍ وبمسمعٍ

لا منكر منهم ولا متفجّع

كحلت بمنظرك العيون عماية

وأصمّ رزؤك كلّ اُذن تسمعُ(١)

____________________

(١) هذه الأبيات لشاعر أهل البيت دعبل الخزاعي صاحب القصيدة التائية المشهورة. انظر: معجم الأدباء ١٠: ١١٠.

قال ابن طاووس في الملهوف: ٢٠٣: ويحقّ لي أن أتمثّل هنا أبياتاً لبعض ذوي العقول ، يرثي بها قتيلاً من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: رأس ابن بنت....

أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى

وأنمت عيناً لم تكن بك تهجعُ

ما روضة الاتمنت أنّها

لك حفرة ولخط قبرك مضجع

٢١١

[المجلس الثامن]

كان توجّه الحسينعليه‌السلام من مكّة إلى العراق يوم خروج مسلم للقتال بالكوفة(١) ، وهو يوم التروية ، واستشهد مسلم في الثامن من خروجه وهو يوم عرفة ، وكان قد اجتمع إلى الحسين نفر من أصحابه من أهل الحجاز والبصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولما أراد التوجّه إلى العراق طاف وسعى وحلّ من احرام جعلها عمرة مفردة وخرج مبادراً بأهله وولده ، ومن انضمّ إليه من شيعته.

وروي عن الفرزدق الشاعر انّه قال:

حججت باُمّي سنة ستّين فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم ، إذ لقيت الحسينعليه‌السلام خارجاً من مكّة في أسيافه وأتراسه ، فقلت: لمن هذا القطار ؟

فقيل: للحسين بن عليعليهما‌السلام .

فأتيته فسلّمت عليه وقلت: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله ما أعجلك عن الحج ؟

فقال: لو لم أعجل لأخذت ، من أنت ؟

فقلت: امرؤ من العرب ، فوالله ما فتّشني عن أكثر من ذلك.

____________________

(١) الارشاد: ٢١٨.

٢١٢

ثم قال: أخبرني عن الناس خلفك ؟

فقلت: الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وأسيافهم عليك ، والقضاء ينزل من السماء.

فقال: صدقت لله الأمر وكلّ يوم هو في شأن ، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على اداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحق نيّته والتقوى سريرته.

فقلت: أجل بلّغك الله ما تحب ، وكفاك ما تحذر ، وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها ، وحرّك راحلته وقال: السلام عليك ، ثم افترقنا.

وكان سلام الله عليه لما خرج اعترضه يحيى بن سعيد وجماعة أرسلهم عمرو بن سعيد بن العاص - والي يزيد يومئذ على مكّة - فأبى عليهم الحسينعليه‌السلام وامتنع منهم هو وأصحابه امتناعاً قوياً ، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط.

وسار - بأبي واُمّي - حتى أتى التنعيم(١) فلقي عيراً قد أقبلت من اليمن

____________________

(١) بالفتح ثم السكون وكسر العين وياء ساكنة وميم ، موضع بمكة في الحل ، وهو بين مكّة وسرٍف على فرسخين من مكّة ؛ وقيل: على أربعة ، وهو احد المواقيت التي يحرم فيها الحجّاج للعمرة. كان فيه عين ماء ومسجد. وعرف بهذا الاسم لوجود جبل الى يمينه يقال له نعيم وآخر عن شماله يقال له ناعم والوادي نعمان ، وبالتنعيم مساجد حول مسجد عائشة وسقايا على طريق المدينة منه يحرم المكّيون بالعمرة. انظر: معجم البلدان ٢: ٤٩.

قال الطبري (٤: ٢٨٩): ولـمّا نزل فيه الإمام الحسينعليه‌السلام في مسيره الكوفة لقي قافلة قادمة من اليمن تحمل بضائع ليزيد ، فاستولى عليها ، ويبدو انّ هدفه كان الاضرار الاقتصادي بالعدو. أمّا رجال القافلة فقد خيّرهم الإمام بين المسير معه إلى كربلاء أو ان يدفع لهم اُجرة الطريق ليسيروا حيث ما شاءوا ، وقد سار معه جماعة منهم.

٢١٣

فاستأجر من أهلها جمالاً لرحله وأصحابه.

وألحقه عبد الله بن جعفر(١) بابنيه عون ومحمد وكتب معهما إليه كتاباً يقول فيه:

أمّا بعد: فانّي أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي فانّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وإن هلكت اليوم طفئ نور الأرض ، فانّك علم المهتدين ، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل في المسير فانّي في أثر كتابي والسلام.

وذهب عبد الله إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين أماناً ليرجع عن وجهه ، فكتب إليه عمرو في ذلك، وأنفذ كتابه مع أخيه يحيى وعبد الله بن جعفر ، ودفعا إليه الكتاب ، وجهدا به في الرجوع.

فقال: إنّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام ، وأمرني بما أنا ماضٍ فيه.

ولـمّا يأس عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عوناً ومحمداً بلزومه والمسير معه ، والجهاد دونه ، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكّة.(٢)

وتوجّه الحسينعليه‌السلام نحو العراق مغذاً لا يلوي على شيء ، حتى

____________________

(١) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بحر الجود ، وأخباره في الجود والكرم والحلم لا تحصى ، وفيه يقول عبد الله بن قيس الرقيات:

وما كنت كالأغر بن جعفر

رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا

انظر: الاصابة ٢: ٢٨٩ - ٢٩٠ ، أسد الغابة ٣: ١٩٩.

(٢) تاريخ الطبري ٥: ٢١٨.

٢١٤

نزل ذات عرق(١) فلقي بشر بن غالب(٢) وارداً من العراق ، فسأله عن أهلها.

فقال: خلفت القلوب معك ، والسيوف مع بني اميّة.

فقال: صدق أخو بني أسد إن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.(٣)

ولما بلغ عبيد الله بن زياد إقبال الحسينعليه‌السلام من مكّة ، بعث صاحب شرطته الحصين بن نمير(٤) حتى نزل القادسية ، ونظم الخيل ما بين

____________________

(١) ذات عرق مُهَلّ أهل العراق ، وهو الحدّ بن نجد وتهامة. اسم لمنزل بين مكّة والعراق ، يبعد عن مكّة مسافة منزلين ، وهو ميقات إحرام القادمين من شرقي مكّة ؛ وقيل: عرق جبل بطريق مكة ومنه ذات عرق.

وقال الأصمعي: ما ارتفع من بطن الرمّة فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق ، وعرق هو الجبل المشرف على ذات عرق. انظر: معجم البلدان ٤: ١٠٧ - ١٠٨.

وهو من المنازل التي مرّ بها سيّد الشهداء بعد وادي العقيق ، وتوقف فيه يوماً أو يومين ، ثم شدّ رحاله وواصل المسير ، وفي هذا المنزل لقي الإمام بشر بن غالب وكان قادماً من العراق ، وسأله عن وضع العراق ، فقال له: القلوب معك والسيوف عليك. وسار الإمام إلى المنزل التالي هو «غمرة». ومن هذا المنزل بعث كتاباً إلى أهل الكوفة يخبرهم فيه بنبأ قدومه إليهم ، وأنفذوه بواسطة قيس بن مسهر الصيداوي. انظر: مقتل الحسين للمقرّم: ٢٠٤.

(٢) في مستدركات علم الرجال (٢: ٣٣): بشر بن غالب الأسدي الكوفي ، من أصحاب الحسين والسجاد ، قاله الشيخ في رجاله ، والبرقي عدّه من أصحاب أمير المؤمنين والحسنين والسجادعليهم‌السلام ، وأخوه بشير ، رويا عن الحسين دعاءه المعروف يوم عرفة بعرفات... وله روايات عن الحسين ذكرت في عدّة الداعي ، ويروي عنه عبد الله بن شريك.

(٣) مثير الأحزان: ٢١.

(٤) الحصين بن نمير بن نائل أبو عبد الرحمن الكندي ثم السكوني ، وهو من قادة الأمويين القساة ، من أهل حمص ، كان مبغضاً لآل علي ؛ ففي معركة صفّين كان إلى جانب معاوية ، وفي عهد يزيد كان قائداً على قسم من الجيش ، وفي واقعة مسلم بن عقيل سلّطه ابن زياد على دور أهل الكوفة ، ليأخذ مسلم ويأتيه به ، وهو الذي أخذ قيس بن مسهّر رسول الحسينعليه‌السلام فبعث به إلى ابن زياد فأمر به فقتل ، وهو الذي نصب المنجنيق على جبل أبي قبيس ورمى به الكعبة لمـّا تحصّن ابن الزبير في

٢١٥

القادسية(١) إلى خفان ، وما بين القادسية إلى القطقطانية(٢) .

ولـمّا بلغ الحسينعليه‌السلام الحاجز(٣) من بطن الرمّة بعث قيس بن مسهر الصيداوي - وقيل بل بعث أخاه من الرضاعة عبد الله بن يقطر - إلى الكوفة ، ولم

المسجد الحرام ، وهو قاتل سليمان بن صرد أثناء ثورة التوّابين ، وهو الذي سأل أمير المؤمنينعليه‌السلام عن شعر رأسه بعد قولهعليه‌السلام : «سلوني قبل أن تفقدوني» ، وفي عهد يزيد شارك في الهجوم الذي امر يزيد بشنّه على المدينة المنوّرة، مات في عام ٦٨ ه متأثّراً بجراح أصابه بها إبراهيم بن الأشتر في الوقعة التي جرت على ضفاف نهر الخازر ، وجاء في بعض الأخيار انّه أخذ رأس حبيب بن مظاهر بعد مقتله وعلّقه في رقبة فرسه ودار به في الكوفة مفتخراً ، فكمن له فيما بعد القاسم بن حبيب وقتله ثاراً لدم أبيه ، وجاء في مصادر أخرى انّه قتل على يد أصحاب المختار الثقفي عام ٦٦ ه قرب الموصل في وقت حركة المختار. انظر: مروج الذهب ٣: ٧١ ، التهذيب لابن عساكر ٤: ٣٧١ ، الأعلام ٢: ٢٦٢.

____________________

(١) اسم موضع قبل الكوفة ويبعد عنها خمسة عشر فرسخاً (وعن بغداد ٦١ فرسخاً). وفي هذا المكان وقعت المعركة المعروفة باسم القادسية بين الجيش الاسلامي والفرس في زمن الخليفة الثاني ، وانتصر فيها المسلمون ، وفي هذا المكان قبض الحصين بن نمير (رئيس شرطة ابن زياد في تلك المنطقة) على مبعوث الحسين ، قيس بن مسهر الصيداوي ، وأرسله إلى ابن زياد وكان قيس يحمل كتاباً من الحسين إلى أهل الكوفة ، ولما قبض عليه مزق الكتاب باسنانه لكي لا تقع أسماء المخاطبين بيد العدو. انظر: الحسين في طريقه إلى الشهادة: ٤٩.

(٢) موضع قرب الكوفة في جهة البرية بالطف ، وهو أحد المنازل من القادسية إلى الشام ، كان به سجن النعمان ، وقد كانت المنطقة بين القادسية والقطقطانية قد نظم فيها ابن زياد قوات الاستطلاع لمنع الناس من الالتحاق بالحسينعليه‌السلام . انظر: الحسين في طريقه إلى الشهادة: ٥٠.

(٣) وقيل: الحاجر ، اسم ارض ومنزل على الطريق من مكة إلى العراق ، وملتقى طريقي الكوفة والبصرة عند المسير إلى المدينة ، ومعناه: الموضع الذي يحجز فيه الماء.

وفي معجم البلدان: بطن الرمة واد معروف بعالية نجد ، وقال ابن دريد: الرمة قاع عظيم بنجد تنصبّ إليه أودية.

وفي هذا المنزل تسلّم الإمام الحسين كتاب مسلم بن عقيل من الكوفة ، وكتب الجواب إلى أهل الكوفة وأرسله مع مبعوثه قيس بن مسهّر. انظر: معجم البلدان ١: ٦٦٦ ، مراصد الاطلاع ٢: ٦٣٤.

٢١٦

يكنعليه‌السلام علم بخبر ابن عقيل وكتب معه إليهم:

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي.

إلى اخوانه من المؤمنين والمسلمين:

سلام عليكم فانّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو.

أمّا بعد: فانّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملأكم على نصرنا ، والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يحسن لكم الصنع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدّوا فانّي قادم عليكم في أيامي هذه والسلام.

وكان مسلم كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة ، وكتب إليه أهل الكوفة: أن لك هنا مائة الف سيف فلا تتأخّر.

وأقبل قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب الحسينعليه‌السلام حتى انتهى إلى القادسية ، أخذه الحصين بن نمير فبعث به الى ابن زياد فأمره اللعين أن يسبّ الحسين وأباه وأخاه على المنبر ، فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال:

أيها الناس إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق الله ، وابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا رسوله إليكم فأجيبوه ، ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه ، واستغفر لعلي بن أبي طالب وصلّى عليه.

فأمر ابن زياد أن يرمى به من فوق القصر ، فرموا به فتقطّع.

وروي: أنّه وقع إلى الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ،

٢١٧

فجاءه عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه.

وأقبل الحسينعليه‌السلام من الحاجز يسير نحو الكوفة فانتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي ، فلمّا رأى الحسينعليه‌السلام قام إليه فقال:

بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله ما أقدمك ؟ واحتمله فأنزله.

فقال له الحسينعليه‌السلام : كان من موت معاوية ما قد بلغك ، فكتب إليّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم.

فقال ابن مطيع: اذكرك الله يا بن رسول الله وحرمة الاسلام أن تنهتك ، أنشدك الله في حرمة قريش ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني اُميّة ليقتلنك ، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً ، والله انّها لحرمة الاسلام تنهتك ، وحرمة قريش ، وحرمة العرب ، فلا تفعل ، ولا تأت الكوفة ، ولا تعرض نفسك لبني اُميّة.

فأبى الحسينعليه‌السلام إلا أن يمضي انجازاً لمقاصده السامية.

وكان ابن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة(١) إلى طريق الشام إلى طريق البصرة فلا يدعون أحداً يلج ، ولا أحداً يخرج.

وأقبل الحسينعليه‌السلام فلقي الأعراب فسألهم فقالوا: ما ندري ، غير أنّا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج ، فسار - بأبي واُمّي - تلقاء وجهه.

____________________

(١) اسم أحد المنازل بين مكّة والكوفة ويبعد عن الكوفة مسير ثلاثة أيّام ، وقد مرّ به الحسين بن عليعليه‌السلام في مسيره إلى كربلاء ، وهنالك مواضع اُخرى بهذا الاسم في طريق مكّة وفي اليمامة ، وفي واقصة منارة مبنية من قرون وأضلاف صيد الصحراء بناها ملك شاه السلجوقي. انظر: آثار البلاد: ٣٣٦.

٢١٨

وحدّث جماعة من فزارة وبجيلة ، قالوا: كنا مع زهير بن القين البجلي(١) حين أقبلنا من مكّة فكنّا نساير الحسينعليه‌السلام ، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن ننازله في منزل فإذا نزل منزلاً لم نجد بدّاً من أن ننازله فيه ، كنّا ننزل في جانب غير الجانب الذي ينزل فيه الحسينعليه‌السلام .

فبينا نحن جلوس نتغذّى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسينعليه‌السلام حتى سلّم ، ثمّ قال:

____________________

(١) زهير بن القين البجلي ، وبجيلة هم بنو أنمار بن أراش بن كهلان من القحطانيّة ، شخصية بارزة في المجتمع الكوفي ، وكان له يوم عاشوراء شرف القتال إلى جانب الحسين بن عليعليه‌السلام ، وقد أبدى شجاعة منقطعة النظير في سوح الوغى ، كان في بداية أمره مؤيّداً لأنصار عثمان. إلا انّ حسن حظّه جعل له حسن العاقبة ليكون من شهداء كربلاء الأجلاء.

ولـمّا اغلق جيش الحر الطريق على الإمام ، استأذن زهير الإمام الحسين وتكلّم معهم ، ثم عرض على الامام مقاتلتهم إلا انّه لم يوافق على رأيه.

وتحدث في يوم عاشوراء معلناً عن موقفه القاطع في مناصرة الحسين ، واستعداد للبذل في سبيله وقال: لو اقتل ألف مرّة ما تركت نصرة ابن رسول الله.

وفي يوم العاشر من محرّم جعله الحسين عند تعبئة عسكره على الميمنة ، وزهير أول من خطب بالقوم بعد الحسين ، وهو يحمل سلاحه ، وابلغ لهم في النصح ، فرماه الشمر بسهم ، وجرى حوار بينه وبين الشمر.

وفي ظهيرة يوم العاشر وقف هو وسعيد بن عبد الله يقيان الإمام من السهام حتى ينهي صلاته. وبرز بعدها إلى القتال ، وقاتل قتال الأبطال وكان حينها يرتجز قائلاً:

انا زهير وانا ابن القين

اذودكم بالسيف عن حسينِ

انّ حسيناً أحد السبطين

من عترة البرّ التقي الزينِ

ذاك رسول الله غير المين

اضربكم ولا ارى من شينِ

يا ليت نفسي قسمت قسمين

انظر: تاريخ الطبري ٥: ٣٩٦ - ٣٩٧ و٦: ٤٢ و٤٢٢ ، رجال الشيخ: ٧٣ ، أنصار الحسين: ٨٨ ، أعيان الشيعة ٧: ٧٢.

٢١٩

يا زهير إن أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام بعثني إليك لتأتيه.

فطرح كلّ انسان منّا ما في يده حتى كأنّ على رؤوسنا الطير ، فقالت له امرأته - وهي ديلم بنت عمر(١) -: سبحان الله أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ؟! فلو أتيته فسمعت من كلامه.

فمضى إليه زهير فما لبث ان جاء مستبشراً قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله ورحله ومتاعه فحوّل إلى الحسينعليه‌السلام . ثم قال لامرأته:

أنت طالق ، إلحقي بأهلك ، فانّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلا خيراً ، وقد عزمت على صحبة الحسينعليه‌السلام لأفديه بروحي ، وأقيه بنفسي ، ثم أعطاها ما لها وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها.

فقامت إليه وبكت وودّعته وقالت: خسار الله لك ، اسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسينعليه‌السلام .

ثم قال لأصحابه: من أحبّ منكم أن يتبعني ، وإلا فهو آخر العهد بي.

انّي سأحدّثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا ، وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان الفارسي(٢) :

____________________

(١) أو ديلم بنت عمرو ، وهي التي قامت لغلام لزهير بعد شهادته: انطلق فكفّن مولاك ، قال: فجئت فرأيت حسيناً ملقى ، فقلت: أكفن مولاي وأدع حسيناً ! فكفنت حسيناً ، ثم رجعت فقلت ذلك لها ، فقالت: أحسنت ، وأعطتني كفناً آخر ، وقالت: انطلق فكفن مولاك ففعلت.

انظر: أعلام النساء المؤمنات: ٣٤١ ، ترجمة الإمام الحسين من كتاب الطبقات ، المطبوع في مجلة تراثنا ، العدد ١٠ ص ١٩٠.

(٢) سلمان الفارسي: صحابي أشهر من أن يعرّف ، ومن الأربعة الذين أمر الله تعالى نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله بحبّهم ، وقال فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «سلمان منّا أهل البيت» ، وحاله في الولاء لأمير المؤمنينعليه‌السلام مشهور. انظر: أسد الغابة ٢: ٤١٧.

٢٢٠

أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم ؟

قلنا: نعم.

فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا اصبتم اليوم ، فأمّا أنا استودعكم الله، ثمّ لحق بالحسينعليه‌السلام ففاز بنصرته.

وروى عبد الله بن سليمان ، والمنذر بن مشعل الأسديان ، قالا: لما قضينا حجّنا لم تكن لنا همّة إلا اللحاق بالحسينعليه‌السلام في الطريق لننظر ما يكون من أمره ، فأبلنا ترفل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقناه بزرود(١) ، فلمّا دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسينعليه‌السلام فوقف سلام الله عليه كأنّه يريده ، ثمّ تركه ومضى.

ومضينا نحوه حتى انتهينا إليه ، فقلنا: السلام عليك.

فقال: وعليكم السلام.

قلنا: من الرجل ؟

____________________

(١) اسم منزل على طريق الكوفة نزل فيه سيد الشهداء ، وهو رمال بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفة ، ولما كانت ارضها رملية فهي تبتلع مياه الأمطار التي تهطل عليها ، ولهذا السبب سمّيت ب- «زرود» أي البالوعة ، وهو موضع مشهور تنزل فيه القوافل القادمة من بغداد ، وهو ملك لبني نهشل وبني أسد.

ولـمّا نزل الحسين في زرود نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي ، فدعاه الإمام إلى نصرته والمسير معه ، فلبّى الدعوة ، والتحق بقافلة الحسين ، وقدّم معهم إلى كربلاء. وقتل فيها.

وفي زرود اخبر بقتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، اخبر بذلك رجلان قادمان من الكوفة يريدان الحج ، فبكى وترحّم عليهما ، وبكى بنو هاشم ، وباتوا ليلتهم هناك ، وفي الصباح حملوا الماء وساروا إلى الثعلبية.

٢٢١

قال: أسدي.

قلنا له: ونحن أسديان. فمن أنت ؟

قال: أنا بكر بن فلان وانتسبنا له ، ثم قلنا له:

أخبرنا عن الناس وراءك ؟

قال: نعم لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ورأيتهما يجرّان بأرجلهما في السوق.

فأقبلنا حتى لحقنا الحسينعليه‌السلام فسايرناه حتى نزل الثعلبية(١) ممسياً فجئناه حين نزل فسلمنا عليه فرد علينا السلام.

فقلنا له: رحمك الله إن عندنا خبراً إن شئت حدّثناك به علانية ، وإن شئت سراً.

فنظر إلينا وإلى أصحابه ، ثم قال: ما دون هؤلاء سر.

فقلنا له: أرأيت الراكب الذي استقبلته مساء أمس ؟

قال: نعم. وقد أردت مسألته.

فقلنا: قد والله استبرأنا لك خبره ، وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي وصدق وعقل ، وأنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهاني ،

____________________

(١) اسم منزل قرب الكوفة مرّ به الإمام الحسين في مسيره إلى كربلاء ، والثعلبية على اسم رجل من بني أسد اسمه ثعلبة ، سكنها وحفر فيها عيناً.

اناخ الإمام الحسين في هذا الموضع ومكث فيه ليلة واحدة ، وفيه لقي الطرماح ودعاه إلى الانضمام إليه ، فذهب الرجل ليوصل بضاعته إلى عائلته لكنّه لـمـّا عاد كان الحسين قد قُتِل ، وفي هذا المنزل أيضا أتاه رجل نصراني مع امّه واسلما على يده ، وفيه أيضاً بلغه خبر شهادة مسلم بن عقيل.

٢٢٢

ورآهما يُجران في السوق بأرجلهما:

فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون رحمة الله عليهما يردّد ذلك مراراً.

ثم انتظر حتى إذا كان السحر ، قال لفتيانه وغلمانه: اكثروا من الماء ، فاستقوا وأكثروا ، ثم ارتحلوا.(١) فسار حتى انتهى إلى زبالة ، فأتاه خبر عبد الله بن يقطر ، فأخرج إلى الناس كتاباً قرأ عليهم وفيه:

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد: فانّه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس معه ذمام.

فتفرّق الناس عنه ، وأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه ، وانّما فعل ذلك لأنّهعليه‌السلام علم أنّ الأعراب الذين اتّبعوه إنّما اتّبعوه لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً استقامت له طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على ما يقدمون.

ثم صار حتى مرّ ببطن العقبة(٢) فنزل عليها ، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمر بن لوذان ، فسأله: أين تريد ؟

فقالعليه‌السلام : الكوفة.

____________________

(١) الكامل لابن الأثير ٤: ١٦.

(٢) اسم منزل على الطريق بين مكة والكوفة ، ويقع قريباً من الكوفة وهو لفرع من قبيلة بني أسد ، مرّ به الإمام الحسينعليه‌السلام عند مسيره إلى الكوفة ، وفيه قصر ومسجد وماء وعمران تنزل فيه القوافل للاستراحة. انظر: الحسين في طريقه إلى الشهادة: ٨٠.

٢٢٣

فقال الشيخ: أنشدك لما انصرفت ، فوالله ما تقدم إلا على الأسنة وحدّ السيوف ، وانّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ، ووطّؤا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال التي تذكر فانّي لا أرى لك أن تفعل.

فقال له: يا عبد الله لا يخفى عليَّ الرأي ، لكن الله تعالى لا يغلب على أمره.

ثم قالعليه‌السلام : والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ فرق الامم.(١)

إن يقتلوك فلا عن فقد معرفة

الشمس معروفة بالعين والأثر

قد كنت في مشرق الدنيا ومغربها

كالحمد لم تغن عنها سائر السور

____________________

(١) أنصار الحسين: ١٠٦ ، الحسين في طريقه إلى الشهادة: ٨٧.

٢٢٤

[المجلس التاسع]

سار الحسينعليه‌السلام حتى صار على مرحلتين من الكوفة ، فإذا بالحر ابن يزيد في ألف فارس ، فقال له الحسينعليه‌السلام : ألنا أم علينا ؟

فقال: بل عليك يا أبا عبد الله.

فقالعليه‌السلام : لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.

ثمّ تردّد الكلام بينهما حتى قال الحسينعليه‌السلام : فان كنتم على خلاف ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم، فانّي راجع الى الموضع الذي أتيت منه ، فمنعه الحر وأصحابه ، وقال: بل خذ يابن رسول الله طريقاً لا يدخلك الكوفة ، ولا يصلك إلى المدينة لأعتذر إلى ابن زياد بانّك خالفتني في الطريق.

فتياسر الحسينعليه‌السلام حتى إذا وصل إلى عذيب الهجانات(١) ، فورد كتاب عبيد الله بن زياد لعنه الله إلى الحر يلومه في أمر الحسين ، ويأمره بالتضييق عليه ، فعرض له الحر وأصحابه ومنعوه من السير.

فقال له الحسينعليه‌السلام : ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق ؟

____________________

(١) اسم لأحد المنازل قرب الكوفة مرّ به سيّد الشهداء ، وسمّي بالعذيب لما كان فيه من الماء العذب ، وهو لبني تميم ويقع بين القادسية والمغيثة، وكان فيه ماء وبئر وبركة ودور وقصر ومسجد ، وكانت فيه مسلحة للفرس.

في هذا المنزل لقى أبو عبد اللهعليه‌السلام أربعة رجال قادمين من الكوفة وفيهم نافع بن هلال وبعد ان كلّمهم الإمام انضمّوا إليه وقاتلوا معه ، وعند حركة قافلة الإمام تحرّك الحرّ بجيشه معه أيضاً ، وفي الاثناء أتى كتاب ابن زياد إلى الحرّ يدعوه فيه للتضييق على الحسين فعمل الحر على منع القافلة من المسير.

٢٢٥

فقال له الحر: بلى ، ولكن كتاب الأمير قد وصل يأمرني فيه بالتضييق عليك ، وقد جعل عليَّ عيناً يطالبني بذلك.

فقام الحسينعليه‌السلام خطيباً في أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر جدّه فصلّى عليه ، ثم قال:

إنّه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وانّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها واستمرت هذّاء ، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ، فليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً ، فانّي لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما.

فقام زهير بن القين فقال: سمعنا يا بن رسول الله مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلّدين ، لآثرنا النهوض معك على الاقامة.

وقام هلال بن نافع البجلي(١) فقال: والله ما كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي مَن والاك ونعادي من عاداك.

وقام برير بن خضير(٢) فقال: والله يا بن رسول الله لقد منّ الله بك علينا أن

____________________

(١) ظاهراً هو نفسه نافع بن هلال بن نافع بن جمل بن سعد العشيرة بن مذحج المذحجي الجملي ، ويخطئ من يعبّر عنه: البجلي ، كان سيّداً شريفاً شجاعاً قارءاً من حملة الحديث ومن أصحاب أمير المؤمنين ، وحضر معه حروبه الثلاثة في العراق ، وخرج إلى الحسين فلقيه في الطريق ، وأخباره في واقعة الطف كثيرة ، ذكرت في المقاتل.

انظر: إبصار العين: ٨٦ - ٨٩ ، تاريخ الطبري ٦: ٢٥٣ ، البداية والنهاية ٨: ١٨٤.

(٢) وفي بعض المصادر: بدير بن حفير ، وفي الملهوف: برير بن حصين ، والظاهر أنّ خضير هو الأولى.

هو سيد القرّاء ، كان شيخاً تابعياً ناسكاً قارئاً للقرآن ومن شيوخ القراءة في جامع الكوفة ، وهو من أصحاب الحسين الأوفياء. من قبيلة «همدان» ، وله منزلة مرموقة بينهم ، سافر عام ٦٠ للهجرة من الكوفة إلى مكة والتحق بالإمام الحسين وسار معه إلى الكوفة ، وفي يوم التاسع من محرّما كان يمازح

٢٢٦

نقاتل بين يديك ، وتقطع فيك أعضاؤنا ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة.

ثم ان الحسينعليه‌السلام ركب وسار - وكلّما أراد المسير يمنعونه تارة ، ويسايرونه اُخرى - وقد عظم رعب النساء ووجل الأطفال حينئذ بما لا مزيد عليه - حتى بلغوا كربلاء في اليوم الثاني من المحرم فسأل الحسينعليه‌السلام عن اسم الأرض.

فقيل: كربلاء.

فقال: اللهم انّي أعوذ بك من الكرب والبلاء ، ثم قال: هذا موضع كرب وبلاء ، انزلوا ، ها هنا محط ركابنا ، وسفك دمائنا ، وهنا محل قبورنا بهذا حدّثني جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنزلوا جميعاً ، ونزل الحر وأصحابه ناحية.(١)

وجلس الحسينعليه‌السلام يصلح سيفه ويقول:

يا دهر أُفٍّ لك من خليلِ

كم لك بالإشراق والأصيلِ

من طالبٍ وصاحب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وكلّ حيّ سالك سبيل

ما أقرب الوعد من الرحيل

انّما الأمر إلى الجليل

عبد الرحمن بن عبد ربّه من شدّة بهجته بقرب استشهاده ، وكان ممّن نهض وتحدّث في ليلة العاشر معلناً عن استعداده للبذل والتضحية في نصرة الحسينعليه‌السلام .

وفي كربلاء تحدّث عدّة مرّات مخاطباً جيش العدو ، وكلماته في نصرة سيد الشهداء معروفة ، وبرز إلى القتال في يوم الطف وتكلّم في ذمّ جيش عمر بن سعد. برز إلى الميدان من بعد استشهاد الحرّ وقاتل حتى نال الشهادة ، وكان يرتجز ساعة القتال ويقول:

أنا برير وأبي خضيرٌ

وكل خير فله بُريرٌ

انظر: تاريخ الطبري ٥: ٤٢١ و٤٢٣ ، معجم رجال الحديث ٣: ٢٨٩ ، المناقب ٤: ١٠٠ ، بحار الأنوار ٤٥: ١٥.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ٤٦٩ ، تاريخ ابن الأثير ٤: ٢٨٧ ، زفرات الثقلين ١: ١٠٥.

٢٢٧

فسمعت اُخته زينب فقالت: يا أخي هذا كلام من أيقن بالقتل.

فقال: نعم يا اُختاه.

فقالت زينب: واثكلاه ينعى الحسين إليَّ نفسه ، وبكى النسوة ولطمن الخدود ، وشققن الجيوب ، وجعلت اُمّ كلثوم(١) تنادي:

وا محمداه وا عليّاه وا اُمّاه وا أخاه واحسناه واضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله.

فعزّاها الحسينعليه‌السلام وقال لها: يا اُختاه تعزي بعزاء الله فانّ سكان السماوات يفنون ، وأهل الأرض كلّهم يموتون ، وجميع البرية يهلكون.(٢)

وروي من طريق آخر انّهاعليها‌السلام لمـّا سمعت مضمون الأبيات ، وكانت في موضع منفردة مع النساء والبنات خرجت حاسرة تجرّ ثوبها حتى وقفت عليه فقالت:

وا ثكلاه ، ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت اُمّي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن ، يا خليفة الماضين وثمال الباقين.

فنظر إليها الحسينعليه‌السلام وقال: يا اُختاه ، لا يُذهِبَنّ بحلمك الشيطان.

فقالت: بأبي أنت واُمّي أتستقتل(٣) نفسي لك الفداء.

____________________

(١) اُمّ كلثوم بنت أمير المؤمنينعليه‌السلام ، واُمّها فاطمةعليها‌السلام ، وهي أخت الحسن والحسين وزينب عقيلة بني هاشم ، ومسألة زواجها من عمر من أشدّ المسائل اختلافاً بن المسلمين ، وكثيراً ما يقع الخلط عند المؤرخين بينها وبين أختها زيبن الكبرى لاتحادهما في الكنية.

راجع مصادر ترجمتها: أجوبة المسائل السروية: ٢٢٦ ، الاستغاثة: ٩٠ ، الاستيعاب ٤: ٤٩٠ ، أسد الغابة ٥: ٦١٤ ، اعلام النساء المؤمنات: ١٨١ - ٢٢٠.

(٢) أنساب الأشراف (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ) ١: ١٩١.

(٣) في بعض المصادر: أتغتصب نفسك اغتصاباً.

٢٢٨

فردّدت عليه غصته ، وتغرغرت عيناه بالدموع ، ثم قال: ولو ترك القطا ليلا لنام(١) .

فقالت: يا ويلتاه ، أفتغتصب نفسك اغتصابا ، فذلك أقرح لقلبي ، وأشدّ على نفسي ، ثمّ أهوت إلى جيبها فشقّته ، وخرّت مغشيّاً عليها.

فقامعليه‌السلام فصبّ عليها الماء حتى أفاقت.(٢)

نادت فقطعت القلوب بشجوها

لكنما انتظم البيان فريدا

انسان عيني يا حسين اخيَّ يا

أملي وعقد جماني المنضودا

إن تنع أعطت كلّ قلب حسرة

أو تدعُ صدّعت الجبال الميدا

عبراتها تحيي الثرى لو لم تكن

زفراتها تدع الرياض همودا

____________________

(١) من الأمثال العربية ، يقال في الأمر الخفي قد ظهر ما يدلّ عليه.

والقطا نوع من الطير يأوي عادة إلى عشّه في الليل ، فإذا وجد ليلاً طائراً عُرف أن أمراً قد أفزعه.

قالوا: إنّ رجلاً من العرب يسمّى غاطس بن خلاج سار إلى رجل يسمّي الريّان في قبائل حمير وخثعم وهمدان وغيرهم ، ولقيهم الريّان في أربعة عشر حيّاً من أحياء اليمن فاقتتلوا قتالاً شديداً ، ثمّ تحاجزوا ، ولكن الريّان هرب في الليل مع أصحابه ، وساروا يومهم وليلتهم حتى ظنّوا أنّهم بعدوا ، فعسكروا حيث وصلوا ، وأصبح الصبح فغدا غاطس إلى قتلاهم فلم يجدهم في مكانهم ، فجد في طلبهم ، ولم يزل حتى اقترب من المكان الذي عسكر فيه الريّان ، ونظر الريّان وأصحابه فوجدوا القطا يمر بهم طائراً فزعاً ، فصاحت ابنة الريّان:

ألا يا قومنا ارتَحِلوا وسيروا

فلو ترك القَطا ليلاً لناما

انظر: مجمع الأمثال العربية للميداني: ٣٢٢.

(٢) الملهوف: ١٤٠ ، الأمالي الخميسية ١: ١٧٧.

٢٢٩

[المجلس العاشر]

لم ـّ ا نزل الحسينعليه‌السلام بأرض كربلاء ، كان نافع بن هلال البجلي من أخص أصحابه به وأكثرهم ملازمة له ، ولا سيّما في مظان الاغتيال ، لأنّه كان حازماً بصيراً بالسياسة.

فخرج الحسينعليه‌السلام ذات ليلة خارج الخيام حتى أبعد ، فتقلّد نافع سيفه وأسرع في أثره ، فرآه يختبر الثنايا والعقبات والأكمات المشرفة على المنزل فالتفت الحسينعليه‌السلام فرآه فقال:

من الرجل ؟ نافع ؟

قال: نعم ، جعلت فداك يا بن رسول الله.

فقال: يا نافع ما أخرجك في هذا الليل ؟

فقال: سيّدي أزعجني خروجك ليلاً إلى جهة هذا الباغي.

فقال: يا نافع خرجت أتفقد هذه التلعات مخافة أن تكون مكمناً لهجوم الخيل على مخيمنا يوم يحملون وتحملون.

قال: ثم رجع وهو قابض على يساري وهو يقول: هي هي والله وعد لا خلف فيه.

ثم قال: يا نافع ، ألا تسلك بين هذين الجبلين وانج بنفسك فوقع نافع بن هلال على قدميه يقبّلهما ويبكي وهو يقول:

٢٣٠

إذن ثكلت نافعاً اُمّه ، سيّدي إنّ سيفي بألف وفرسي بمثله ، فوالله الذي مَنَّ عليَّ بك في هذا المكان لن اُفارقك أبا عبد الله حتى يكلأ عن فري وجري.

قال نافع: ثمّ فارقني ودخل خيمة اُخته زينبعليها‌السلام ووقفت انتظره ، فاستقبلته زينب ووضعت له متّكأ وجلس يحدّثها سراً فما لبثت أن اختنقت بعبرتها ونادت: وا أخاه وا حسيناه ، اُشاهد مصرعك وابتلي برعايتي هذه المذاعير من النساء ، والقوم يا بن اُمّي كما تعلم ما هم عليه من الحقد القديم ذلك خطب جسيم يعزّ عليَّ مصرع هذه الفتية وأقمار بني هاشم.

ثم قالت: يا بن اُمّي هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم فانّي أخاف أن يسلّموك عند الوثية واصطكاك الأسنّة ، فبكى الحسينعليه‌السلام وقال: أما والله لقد بلوتهم فما رأيت فيهم إلا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل بلبن اُمّه.

قال نافع: فبكيت رقّةً لها ، ثم أتيت حبيب بن مظاهر فرأيته جالساً في خيمته وبيده سيفه مصلّت وهو يقول كأنّه يخاطبه:

أيّها الصارم استعد جواباً

لسؤال إذا العجاج اثيرا

والمواضي برق وقد تخذ البا

سل المطهّمات سريرا

قال نافع: فسلّمت عليه فرد السلام ، ثم قال: يا أخي ما الذي أخرجك في هذا الليل ؟

فحكيت له القصة من أوّلها إلى ما كان من قولهعليه‌السلام : «يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل بلبن اُمّه».

فقام حبيب قائماً على قدميه وقال: أي والله ، لولا انتظار أمره لعاجلتهم

٢٣١

وعالجتهم الليلة بسيفي هذا ما ثبت قائمه بيدي.

ثم قال نافع: يا أخي فارقت الحسينعليه‌السلام مع اُخته زينب في حال وجل ورعب ، واظنّ انّ النساء قد شاركنها في الزفرة والحسرة فهل لك أن تجمع أصحابك وتمضي إليهم بكلام يسكن قلوبهنّ ويذهب رعبهنّ ، فلقد شاهدت ما لا قرار لي على بقائه.

فقال: أنا طوع إرادتك ، فبرز حبيب ناحية ونافع إلى جنبه وانتدب أصحابه فنادى:

أين أنصار الله ؟ أين أنصار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أين أنصار أمير المؤمنين ؟ أين أنصار فاطمة ؟ أين أنصار الحسين ؟ أين أنصار الإسلام ؟

فتطالعوا من منازلهم كالليوث الضارية يقدمهم أبو الفضل العبّاس(١) عليه‌السلام فلمّا اجتمعوا قال لبني هاشم: «ارجعوا إلى منازلكم لا سهرت عيونكم ، ثمّ خطب أصحابه فقال:

يا أصحاب الحمية ، وليوث الكريهة ، هذا نافع بن هلال يخبرني الساعة بكذا وكذا فاخبروني عن نيّاتكم ، فجرّدوا صوارمهم ، ورموا عمائمهم وقالوا:

أما والله يا بن مظاهر لئن زحف القوم إلينا لنحصدنّ رؤوسهم ولنلحقهم

____________________

(١) العبّاس بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، اُمّه اُمّ البنين حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد العامري ، وهو أكبر ولدها ، ويكنّى أبا الفضل ، كان وسيماً جميلاً يركب الفرس المطهم ورجلاه تخطّان في الأرض ، يقال له قمر بني هاشم وهو السقّاء ، كان لواء الحسينعليه‌السلام معه يوم قتل ، هو آخر من قتل من اخوته لاُمّه وأبيه ، قتله زيد بن رقاد الجنبي وحكيم بن الطفيل الطائي النبسي ، وكلاهما ابتلى في بدنه.

انظر: مقاتل الطالبيين: ٨٤ - ٨٥ ، رجال الشيخ: ٧٦.

٢٣٢

بأشياخهم ، ولنحفظنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في عترته وذرّيّته.

فقال لهم حبيب: معي معي ، فقام يخبط الأرض بهم وهم يعدون خلفه حتى وقف بين أطناب الخيم ونادى:

السلام عليكم يا ساداتنا.

السلام عليكم يا معشر حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلا في رقاب من يبتغي السوء فيكم.

وهذه أسنّة غلمانكم آلوا أن لا يركزوها إلا في صدور من يفرّق بين ناديكم.

فخرج إليهم الحسينعليه‌السلام وقال: أصحابي جزاكم الله عن أهل بيت نبيّكم خيراً.

رجال تواصوا حيث طابت اُصولهم

وأنفسهم بالصبر حتى قضوا صبرا

حماة حموا خدراً أبى الله هتكه

فعظّمه شأناً وشرّفه

فأصبح نهباً للمغاوير بعدهم

ومنه بنات المصطفى أبرزت حسرا(١)

____________________

(١) الدمعة الساكبة: ٣٤٥.

٢٣٣

[المجلس الحادي عشر]

عن مولانا الصادقعليه‌السلام أنّه قال: سمعت أبي يقول: لمـّا التقى الحسينعليه‌السلام وعمر بن سعد وقامت الحرب أنزل الله النصر حتى رفرف على رأس الحسين ثمّ خيّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله فاختار لقاء الله.(١)

ثم صاح الحسينعليه‌السلام :

أما من مغيث يغيثنا لوجه الله ؟ أما من ذابٍ يذبّ عن حرم رسول الله ؟

قال: فإذا الحر بن يزيد الرياحي قد أقبل إلى ابن سعد فقال:

أمقاتل أنت هذا الرجل ؟

فقال: أي والله ، قتال أيسره أن تطير الرؤوس وتطيح الأيدي.

قال: فمضى الحرّ ووقف موقفاً من أصحابه وأخذه مثل الأفكل(٢) .

فقال له المهاجر بن أوس(٣) : والله إنّ أمرك لمريب ، ولو قيل لي: مَن أشجع

____________________

(١) الملهوف: ٧٤.

(٢) الأفكل - بفتح الهمزة والكاف -: الرعدة.

(٣) لم يرد في كتب التراجم.

وفي كتاب تسمية مَن قتل مع الإمام الحسين: ١٥٥ ، ذكر من جملة شهداء الأصحاب المهاجر بن أوس من بجيلة.

فهل المهاجر بن أوس اثنان ؟ أم واحد كان في عسكر ابن سعد ثمّ التحق بمعسكر الإمام الحسينعليه‌السلام واستشهد معه ؟ الله أعلم.

٢٣٤

أهل الكوفة لما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك ؟

فقال: والله إنّي اُخيّر بين الجنّة والنار ، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت وحرّقت.

ثمّ ضرب فرسه قاصداً إلى الحسينعليه‌السلام ويده على رأسه وهو يقول:

اللهم إليك أنبت فتب عليَّ ، فقد أرعبت قلوب أولياؤك أولاد بنت نبيّك.

وقال للحسينعليه‌السلام : جعلت فداك أنا صاحبك الذي حبسك عن الرجوع وجعجع بك ، وما ظنننت أنّ القوم يبلغون بك ما أرى ، وأنا تائب إلى الله تعالى فهل ترى لي من توبة.

فقال له الحسينعليه‌السلام : نعم ، يتوب الله عليك فانزل.

فقال: أنا لك فارساً خير مني لك راجلاً وإلى النزول يصير آخر أمري.

ثم قال: كنت أوّل من خرج عليك فأذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك لعلّي أكون ممّن يصافح جدّك محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله غداً في القيامة.

فأذن له فجعل يقاتل أحسن قتال حتى قتل جماعة من الشجعان والأبطال ثمّ استشهد فحمل إلى الحسينعليه‌السلام فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول:

أنت الحر كما سمّتك اُمّك حرّاً في الدنيا والآخرة.(١)

[قال]: وخرج برير بن خضير وكان زاهداً عابداً فخرج إليه يزيد بن

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ٤٦٩ ، تاريخ ابن الأثير ٦: ٢٨٧.

٢٣٥

المغفل(١) فاتّفقا على المباهلة إلى الله تعالى: في أن يقتل المحقّ منهما المبطل ، وتلاقيا ، فقتله برير ، ولم يزل يقاتل حتى قُتلرحمه‌الله تعالى.

[قال]: وخرج وهب بن حباب الكلبي(٢) ، فأحسن في الجلاد ، وبالغ في الجهاد ، وكانت معه امرأته ووالدته فرجع إليهما وقال: يا اُمّاه أرضيتِ أم لا ؟

فقالت الاُمّ: ما رضيت الا تقتل بين يدي الحسينعليه‌السلام .

وقالت امرأته: بالله عليك لا تفجعني بنفسك.

فقالت له امه: يا بني أعزب عن قول زوجتك وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة.

فرجع ولم يزل يقاتل حتى قُطعت يداه ، فأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي واُمّي قاتل دون الطيبين حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأقبل كي يردّها إلى النساء ، فأخذت بجانب ثوبه وقالت: لن أعود دون أن أموت معك.

فقال الحسينعليه‌السلام : «جُزيتم من أهل بيتٍ خيراً ، ارجعي إلى النساء رحمك الله» فانصرفت إليهنّ.

ولم يزل الكلبي يقاتل حتى قُتل رضوان الله عليه.

[قال]: ثم خرج مسلم بن عوسجة(٣) رحمه‌الله فبالغ في قتال الأعداء ،

____________________

(١) وقيل: يزيد بن معقل ، وهو خبيث ملعون. انظر: ألملهوف: ١٦٠.

(٢) في ضياء العينين: ٣٥: وهب بن عبد الله بن حباب الكلبي ، اُمّه قمرى ، وذكر الكثير من أخباره في واقعة الطف ، أخذها من كتاب الملهوف: ١٦١.

(٣) مسلم بن عوسجة الأسدي ، من أبطال العرب في صدر الإسلام ، أول شهيد من أنصار الحسين بعد قتلى الحملة الأولى ، كان شيخاً كبير السن ، وشخصية أسدية كبرى ، وإحدى الشخصيات البارزة في

٢٣٦

وصبر على أهوال البلاء حتى سقط إلى الأرض وبه رمق ، فمشى إليه الحسينعليه‌السلام ومعه حبيب بن مظاهر.

فقال له الحسينعليه‌السلام : «رحمك الله يا مسلم ،« فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً».

ودنا منه حبيبرضي‌الله‌عنه وقال: عزّ عليَّ مصرعك يا أخي يا مسلم أبشر بالجنّة.

فقال له مسلم قولاً ضعيفاً: بشّرك الله بخيرٍ.

ثم قال له حبيب: لولا أعلم أنّني في الأثر لأحببتُ أن توصي إليّ بكلّ ما

الكوفة ، وكان صحابياً ممّن رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وروى عنه ، كان رجلاً شجاعاً وجريئاً شارك في الكثير من حروب المسلمين ، وشهد مع عليعليه‌السلام كلّ غزواته.

كان في الكوفة يأخذ البيعة من الناس للحسين بن عليعليه‌السلام ، وقد جعله مسلم بن عقيل حين ثار بالكوفة على رأس طائفة من مذحج وأسد ، وكان ينهض بجمع المال والسلاح والأنصار.

وفي ليلة عاشوراء لمـّا أوعز الإمام الحسين ان يتخذوا ظلام الليل جملاً وينصرفوا وقف مسلم بن عوسجة موقفاً جريئاً وقام متكلّماً وقال: «والله لو علمت انّي اُقتل ثمّ اُحيى ثمّ اُحرق ثمّ أذرى ، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما تركتك فكيف وانّما هي قتلة واحدة ثم الكرامة إلى الأبد».

وكان ساعة البراز يرتجز:

ان تسألوا عني فانّي ذو لبد

من فرع قوم في ذُرى بني أسد

فمن بغانا حايد عن الرشد

وكافرٌ بدين جبّار صمد

وعند القتال لم يتجرّأ أحد من الأعداء على مبارزته ، فرضخوه بالحجارة ولمّا سقط على الأرض وكان به رمق مشى إليه الحسينعليه‌السلام وحبيب بن مظاهر ، فدعا له الحسين وبشّره بالجنّة ، ولما اقترب منه حبيب بن مظاهر قال له مسلم: اوصيك بهذا - وأشار إلى الحسين - فقاتل دونه حتّى تموت. انظر: رجال الشيخ: ٨٠ ، تاريخ الطبري ٥: ٤٣٥ ، بحار الأنوار ٤٥: ٦٩ ، الأخبار الطوال: ٢٤٩ ، أنصار الحسين: ١٠٨ ، تسمية مَن قتل مع الحسين: ٥٢ وفيه: مسلم بن عوسجة السعدي من بني سعد بن ثعلبة ، قتله مسلم بن عبد الله وعبيد الله بن أبي خشكارة.

٢٣٧

أهمّك.

فقال له مسلم: فإنّي اوصيك بهذا - وأشار بيده إلى الحسينعليه‌السلام - قاتل دونه حتى تموت.

فقال له حبيب: لأنعُمنّك عيناً.

ثم مات رضوان الله عليه.

إلى أن [قال:] وحضرت صلاة الظهر فأمر الحسينعليه‌السلام زهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفي أن يتقدّما أمامه بنصف من تخلّف معه ثمّ صلى بهم صلاة الخوف فوصل إلى الحسينعليه‌السلام سهم فتقدّم سعيد بن عبد الله الحنفي يقيه بنفسه ما زال ولا تخطّى حتى سقط إلى الأرض وهو يقول:

اللهم العنهم لعن عاد وثمود. اللهم ابلغ نبيّك عنّي السلام وابلغه ما لقيت من ألم الجراح فانّي أردت ثوابك في نصر ذرّيّة نبيّك ، ثمّ قضى نحبه فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح...

[قال:] وتقدّم سويد بن عمرو بن أبي المطاع(١) وكان شريفاً كثير الصلاة فقاتل قتال الأسد الباسل ، وبالغ في الصبر على الخطب النازل حتى سقط بين القتلى وقد اُثن بالجراح ، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتى سمعهم يقولون:

قتل الحسينعليه‌السلام ، فتحامل واخرج من خفّه سكيناً وجعل يقاتلهم

____________________

(١) ويعرف أيضاً ب- «سويد بن عمر الخثعمي». والخثعمي: خثعم بن أنمار بن أرش من القحطانية ، وهو آخر من قتل في ساحة كربلاء ، قتل بعد الحسينعليه‌السلام ، كان أحد رجلين كانا برفقة الحسينعليه‌السلام . سقط إلى الأرض جريحاً وكان به رمق ، ولما سمع جيش الكوفة ينادي مستبشراً بقتل الحسين إستفاق وبدأ يقاتل بمديته وسيفه حتى استشهد ، قتله هاني بن ثبيت الحضرمي. انظر: رجال الشيخ: ٧٤ ، المناقب ٤: ١٠٢ وفيه: عمرو بن أبي المطاع الجعفي ، تنقيح المقال ٢: ٧٦.

٢٣٨

به حتى قتل...

وجعل أصحاب الحسين يسارعون إلى القتل بين يديه فكانوا كما قيل:

قوم إذا نودوا لدفع ملمّة

والخيل بين مدعّس ومكردس

لبسوا القلوب على الدروع كأنّهم

يتهافتون على ذهاب الأنفس(١)

____________________

(١) الملهوف: ١٦٦ ، زينة المجالس: ٤٤٤.

٢٣٩

[المجلس الثاني عشر]

لمـّا زحف القوم نحو الحسينعليه‌السلام وطلب العبّاس منهم تأجيل القتال إلى غدٍ ، أمر الحسينعليه‌السلام أصحابه أن يقرّبوا بيوتهم ، ويدخلوا الأطناب بعضها ببعض ، ويكونوا أمام البيوت فيستقبلوا القوم من وجه واحد ، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وشمائلهم.

وقام الحسينعليه‌السلام وأصحابه الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون ، وباتوا ولهم دوي كدوي النحل ، ما بين قائم وقاعد ، وراكع وساجد ، فعبر عليهم في تلك الليلة من عسكر ابن زياد اثنان وثلاثون رجلاً.

و لمـّا ضيّقوا على الحسينعليه‌السلام ونال منه ومن أصحابه العطش قام واتّكأ على قائم سيفه ، ونادى بأعلى صوته فقال:

أنشدكم الله هل تعرفوني ؟ قالوا: نعم أنت ابن رسول الله وسبطه. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جدّي رسول الله ؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن اُمّي فاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب ؟ قالوا: اللهم نعم.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348