المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه11%

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 348

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه
  • البداية
  • السابق
  • 348 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47095 / تحميل: 4595
الحجم الحجم الحجم
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

هلمّي إليَّ بابني يا أسماء.

قالت: فدفعته إليه في خرقة بيضاء ، ففعل به كما فعل بالحسن يوم ولادته وبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال:

إنّه سيكون لك حديث ، اللهم العن قاتله ، لا تعلمي فاطمة بذلك.

قالت أسماء: فلمّا كان يوم سابعه جاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: هلمي بابني فأتيته به ، ففعل به كما فعل بالحسنعليه‌السلام وعقّ عنه كبشاً أملحاً ، وحلق رأسه ، وتصدّق بوزن الشعر ورقاً ، ثمّ وضعه في حجره ، وخلق رأسه بالخلوق ، ثم قال: يا أبا عبد الله عزّ عليَّ ثمّ بكى.(١)

أقول: كأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ذكر حين خلق رأس الحسينعليه‌السلام بالخلوق أنّ هذا الرأس يهدى إلى يزيد لحّاه الله على رمح طويل من العراق إلى الشام مع سبعة عشر رأساً من العترة الطاهرة ، تشرق أنوارها على أطراف الرماح كأنّها الأقمار الزاهرة ، وجسومهم منبوذة بالعراء ، لا مغسّلين ولا مكفّنين ، ولا مدفونين ، تصهرهم الشمس ، وبالعزيز عليك يا رسول الله أن يبقى سبطك وريحانتك عاري اللباس.

قطيع الرأس منخمد الأنفا

س في جندل كالجمر مضطرم

ثوى ثلاث ليال بالعراء بلا

غسل ولا كفن لله من حكم

وكريمتك يا رسول الله تناديك بصوت حزين ، وقلب كئيب:

يا رسول الله ، يا جدّاه ، صلى الله عليك مليك السماء ، هذا حسينك بالعراء ،

____________________

(١) انظر: ذخائر العقبى: ١١٩ ، مقتل الحسين للخوارزمي ١: ٨٧ ، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ١٥٤ ، الخصائص الكبرى للسيوطي ٢: ١٢٥.

٢٦١

تسفى عليه الصبا ، قتيل أولاد البغايا ، يا حزناه ، يا كرباه ، اليوم مات جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يا أصحاب محمداه ، هذه ذرّية المصطفى ، يساقون سوق السبايا ، يا محمداه بناتك سبايا ، وذرّيّتك مقتّلة ، وهذا حسينك مقطوع الرأس من القفا.

نادت فقطعت القلوب بشجوها

لكنما انتظم البيان فريدا

انسان عيني يا حسين اخيّ يا

أملي وعقد جماني المنضودا

٢٦٢

[المجلس الخامس عشر]

روي عن الحسن سلام الله عليه ، قال: سألت خالي هند بن هالة وكان وصّافاً عن حُلية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال:

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخماً مفخماً ، يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر ، أطول من المربوع ، وأقصر من المشذّب ، عظيم الهامة ، رجل الشعر ، أزهر اللون ، واسع الجبين ، أزج الحواجب ، بينهما عرق يدرّه الغضب ، أقنى العرنين ، له نور يعلوه ، يحسبه من يتأمّله أشم ، كثّ اللحية ، سهل الخدّين ، أدعج العينين ، ظليع الفم أشنب ، مفلج الأسنان ، دقبق المسربة ، كنّ عنقه جيدُ دمية في صفاء الفضّة ، معتدل الخلق ، بادناً متماسكاً ، سواء البطن والصدر ، عريض الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكراديس أنور ، موصول ما بين الصدر والسرّة بشعر يجري كالخط ، عاري الثديين والبطن ممّا سوى ذلك ، أشعر الذراعين والمنكبين ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، شئن الكفين القدمين(١) ، سائل الأطراف ، مسبح القدمين ، يخطو تكفئاً ، ويمشي هوينا ، سريع المشي إذا مشى كأنّما ينحط عن صبب ، وإذا التفت التفت جميعاً ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض ، يبدر من لقيه بالسلام ، وكان متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، لا يتكلّم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يتكلّم بجوامع الكلم ، ليس بالجافي ولا المهين ، يعظم النعمة وأن دقتّ ، ولا يذمّ منها شيئاً ، ولا يذمّ ذواقاً ولا يمدحه ، ولا

____________________

(١) قالرحمه‌الله : شئن وشئل بمعنى يقال: شئلت أصابعه أي: خشنت وغلظت. وقدم شئلة: غليظة اللحم.

٢٦٣

تغضبه الدنيا ، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ، إذا أشار أشار بكفّه كلّها ، وإذا تعجّب قلبها ، وإذا حدّث أشار بها فضرب براحته اليمنى باطن ابهامه السيرى ، وإذا غضب أعرض ، وإذا فرح غضّ من طرفه ، جلّ ضحكه التبسّم ، ويفتر عن مثل حب الغمام.

صلى الله عليك يا رسول الله ، وعلى فرخك وشبل سبطك علي بن الحسين الأكبر الشهيد بن الشهيد ، والمظلوم بن المظلوم ، أشبه الناس بك خلقاً وخُلقاً ومنطقاً ، ولقد يعزّ عليك حين برز إلى ثلاثين ألفاً وهو ابن تسع عشر سنة فرفع الحسين سبابته إلى السماء وقال:

اللهم أشهد على هؤلاء القوم ، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إلى وجهه.

اللهم امنعهم بركات الأرض ، وفرّقهم تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترض الولاة عنهم أبداً ، فانّهم دعونا لينصرونا ، ثم عدوا علينا يقاتلوننا.

ثم صاحعليه‌السلام : يا بن سعد ، ما لك ؟ قطع الله رحمك ، ولا بارك لك في أمرك ، وسلّط عليك من يذبحك على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثم رفع صوته وتلى:( إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عليم ) (١) .

ثم حمل علي بن الحسين على القوم وهو يقول:

____________________

(١) سورة آل عمران: ٣٣.

٢٦٤

أنا علي بن الحسين بن علي

من عصبة جدّ أبيهم النبي

والله لا يحكم فينا ابن الدعي

أطعنكم بالرمح حتى ينثني

أضربكم بالسيف أحمي عن أبي

ضرب غلام هاشمي علوي

ولم يزل يقاتل حتى ضجّ الناس من كثرة من قتل منهم ، ثم رجع إلى ابيه وقد أصابته جراحات كثيرة ، فقال:

يا أباه العطش قتلني ، وثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الأعداء ؟

وبكى الحسينعليه‌السلام وقال: يا بني ، يعزّ على محمد وعلي وعلى أبيك أن تدعوهم فلا يجيبوك ، وتستغيث بهم فلا يغيثونك ، يا بني هات لسانك فأخذه فمصّه ، ودفع إليه خاتمه وقال: امسكه في فيك وارجع إلى قتال عدوك ، فانّي أرجو أنك لا ترجع حتى يسقيك جدّك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً.

فرجع علي بن الحسينعليه‌السلام إلى موضع النزال ، وقاتل أعظم القتال وهو يقول:

الحرب قد بانت لها الحقائق

وظهرت من بعدها مصادق

والله ربّ العرش لا تفارق

جموعكم أو تغمد البوارق

فلم يزل يقاتل حتى قتل تمام المائتين ، ثمّ ضربه منقذ بن مرّة العبدي على مفرق رأسه ضربة صرعته ، وضربه الناس بأسيافهم ، ثمّ اعتنق فرسه فاحتمله الفرس إلى عسكر الأعداء ، فقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً ، فلمّا بلغت روحه التراقي قال رافعاً صوته:

٢٦٥

يا أبتاه هذا جدّي قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً ، وهو يقول لك: العجل العجل فان لك كأساً مذخورة حتى تشربها الساعة.

فصاح الحسينعليه‌السلام : قتل الله قوماً قتلوك يا بني ، ما أجرأهم على الرحمن وعلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على الدنيا بعدك العفا.

كنت السواد لناظري

فعليك يبكي الناظر

من شاء بعدك فليمت

فعليك كنت اُحاذر

قال حميد بن مسلم: فكأنّي انظر إلى امرأة خرجت مسرعة تنادي بالويل والثبور وتقول:

يا حبيباه ، ويا ثمرة فؤاداه ، يا نور عيناه.

فسألت عنها فقيل لي: هي زينب بنت علي عليها وعلى أبيها السلام ، وجاءت وانكبّت عليه ، فجاء الحسينعليه‌السلام وأخذها بيدها فردّها إلى الفسطاط وأقبل بفتيانه وقال: احملوا أخاكم ، فحملوه من مصرعه ، فجاءوا به حتى وضعوه عند الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.

يا كوكباً ما كان أقصر عمره

وكذاك عمر كواكب الأسحار

جاورت أعدائي وجاور ربّه

شتّان بين جواره وجواري(١)

____________________

(١) من قصيدة لابن الفارض ينعى فيها ولده.

٢٦٦

[المجلس السادس عشر]

لمـّا قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة تعلّق الناس بزمام الناقة فقال: دعوها فانّها مأمورة فعلى باب من بركت فأنا عنده.

فأطلقوا زمامها وهي تهفّ في السير ، فبركت على باب أبي أيّوب خالد بن زيد الأنصاري(١) رضى الله تعالى عنه ، ولم يكن في المدينة أفقر منه ، فانقطعت قلوب الناس حسرة على مفارقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونادى أبو أيوب:

يا اُمّاه افتحي الباب ، فقد قدم سيّد البشر ، وأكرم ربيعة ومضر ، ففتحت الباب وقالت:

واحسرتاه ، ليت لي عيناً أبصر بها وجه سيّدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكانت عمياء ، فكان أوّل معجزة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وضع كفّه الشريفة على وجه اُمّ أيّوب فانفتحت عيناها.(٢)

____________________

(١) هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عَوف النجار ، أبو أيوب الأنصاري ، معروف باسمه وكنيته ، من السابقين ، شهد العقبة وبدراً وما بعدها ، ونزل عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمـّا قدم المدينة ، استخلفه الإمام عليعليه‌السلام على المدينة لمـّا خرج إلى العراق ، ثمّ لحق به وشهد معه قتال الخوارج.

وروي عن سعيد بن المسيب أنّ أبا أيوب أخذ من لحية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً ، فقال له: «لا يُصيبك السوء يا أبا أيّوب».

انظر: الإصابة ٢: ١٩٩ - ٢٠١ ترجمة رقم «٢١٦٨» ، تجريد أسماء الصحابة ١: ١٥٠ ، تقريب التهذيب ١: ٢١٣.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١: ١٣٣ ، بحار الأنوار ١٩: ١٢١ ح ٧.

٢٦٧

وروي بسند معتبر أنّ أبا أيّوب أتى بشاة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في عرس فاطمةعليها‌السلام فنهاه جبرئيل عن ذبحها ، فشقّ ذلك على أبي أيّوب ، ثمّ أمر بذبحها ، فذبحها ابن جبير الأنصاري بعد يومين ، فلمّا طبخت أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا تأكلوا الابسم الله ، ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله انّ أبا أيّوب رجل فقير ، إلهي أنت خلقتها وأنت أمتّها ، وانّك قادر على إعادتها فاحيها يا حي لا إله إلا أنت ، فأحياها الله تعالى ، وجعل فيها بركة لأبي أيّوب ، وشفاء المرضى في لبنها ، وسمّاها أهل المدينة: المبعوثة.(١)

وفيها قال عبد الرحمن بن عوف:

ألم يبصروا شاة ابن زيد وحالها

وفي أمرها للطالبين مزيد

وقد ذبحت ثم استحر أهابها

وفصلها فيما هناك يزيد

فأرجعها ذو العرش والله قادر

فعادت بحال ما يشاء يعود(٢)

وفي خبر عن سلمانرضي‌الله‌عنه : أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمـّا نزل دار أبى أيّوب لم يكن له سوى جدي وصاع من شعير ، فذبح له الجدي وشواه ، وطحن الشعير وعجنه وخبزه وقدّمه بين يدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله بأن ينادي: من أراد الزاد فليأت إلى دار أبي أيّوب ، فجعل أبو أيّوب ينادي والناس يهرعون إلى داره حتى امتلأت الدار ، فأكل الناس بأجمعهم والطعام باقٍ ، فضجّ الناس بالشهادتين.(٣)

وعن علي بن إبراهيم: ما زال أبو كرز الخزاعي يقفو أثر النبي صلى الله

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١: ١٣١.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١: ١٣١.

(٣) مناقب آل أبي طالب ١: ١٣١ - ١٣٢.

٢٦٨

عليه وآله يوم خروجه إلى الغار حتى وقف على بابه وقال:

هذه قدم محمد ، وهذه قدم ابن أبي قحافة ما جاوزا هذا المكان.

وجاء فارس من الملائكة في صورة الانس فوقف على باب الغار وهو يقول: اطلبوه في هذه الشعاب فليس ها هنا.

وتبعه القوم وكانوا دهاة العرب ، وأمر الله شجرة فنبتت في وجه الغار ، وأمر العنكبوت فنسجت ، وأمر حمامتين بفم الغار.

ولما قربوا منه تقدم بعضهم لينظر ، ثمّ رجع فقال: رأيت حمامتين بفم الغار فعلمت أنّه ليس فيه أحد.(١)

[وفي نهج البلاغة(٢) من كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام في الخطبة القاصعة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:

أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي ، فوالذي بعثه بالحقّ لانقلعت بعروقها ، وجاءت ولها دويّ شديد ، وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مرفرفة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وببعض أغصانها على منكبه ، وكنت على يمينه ، فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّاً واستكباراً: فمرها فليأتك نصفها.

فأمرها بذلك ، فأقبل إليه نصفها كأعجب اقبال وأشدّه دويّاً ، وكادت تلتف برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا كفراً وعلواً:

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١: ١٢٧ - ١٢٨.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢ (القاصعة): ٢٨٥ ، مناقب آل أبي طالب ١: ١٢٩.

٢٦٩

فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه ، فأمره فرجع.

لحا الله أهل العناد ، كم رأوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمثال ذلك ، فلم يقلعوا عن عنادهم ، وكم له عليهم من نعمة جعلوا جزاءها قتل ذرّيّته ،- وسبي عترته ، ولقد وقف الحسينعليه‌السلام متّكئاً على سيفه ، ووعظهم فلم يتّعظوا ، وذكّرهم فضل جدّه وأبيهعليهما‌السلام فلم يذّكّروا ، فكان من جملة كلامه يومئذ:

أنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم [الله] هل تعلمون أنّ أبي علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم الله هل تعلمون أنّ اُمّي فاطمة الزهراء بنت محمد المصطفى ؟

قالوا: اللهم نعم.

الى أن قال: أنشدكم الله هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنا متقلّده ؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: انشدكم الله هل تعلمون انّ هذه عمامة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنا لابسها ؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: فبم تستحلّون دمي وأبي الذائد عن الحوض ، ولواء الحمد بين يديّ يوم القيامة ؟

٢٧٠

قالوا: قد علمنا ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً.

فلمّا سمع بناته وأخواته ذلك بكين وندبن ولطمن وارتفعت أصواتهن ، فوجّه إليهنّ أخاه العبّاس وابنه عليّاً وقال: سكتاهنّ فلعمري ليكثر بكاؤهن.

و لمـّا رأى الحسينعليه‌السلام حرص القوم على القتال قال لأخيه العباس: إن استطعت يا أخي أن تصرفهم عنّا هذه الليلة فلعلّنا نصلّي لربّنا فانّه يعلم أنّي أحبّ الصلاة له ، وتلاوة كتابه.

فسألهم العباس ذلك فتوقّف ابن سعد.

فقال له ابن الحجاج: والله لو أنهم من الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم فكيف وهم آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأجابوهم إلى ذلك.

وجلس الحسينعليه‌السلام فخفق برأسه ثم استيقظ ، فقال: يا اُختاه انّي رأيت الساعة جدّي وأبي وأخي وهم يقولون:

يا حسين إنك رائح إلينا عن قريب ، فلطمت زينب وجهها وبكت وصاحت:

واثكلاه يا جداه يا رسول الله ، وا أخاه وا حسيناه ، أشاهد مصرعك وأبتلي برعاية هذه المذاعير واُغمي عليها.

فقال لها الحسينعليه‌السلام : مهلا لا تشمت القوم.

وبات الحسينعليه‌السلام في تلك الليلة وأصحابه ولهم دويّ كدويّ النحل ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد.

سمة العبيد من الخشوع عليهم

لله إن ضمّتهم الأسحار

وإذا ترجّلت الضحى شهدت لهم

بيض القواضب أنّهم أحرار

٢٧١

[المجلس السابع عشر]

عن أنس بن مالك قال: كان إذا فقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الرجل سأل عنه ، فإن كان غائباً دعا له ، وإن كان شاهداً زاره ، وإن كان مريضاً عاده.(١)

وعن جابر بن عبد الله الانصاري(٢) ، قال: بينا أنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض غزواته إذ أعيا ناضحي تحت الليل ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في اخريات الناس يلاحظ الضعيف فانتهى إليَّ وأنا أقول:

يا لهف اُمّاه ما زال الناضح بسوء.

فقال: من هذا ؟

فقلت: أنا جابر بأبي واُمّي يا رسول الله.

قال: ما شانك ؟

قلت: أعيا ناضحي.

فقال: أمعك عصا ؟

قلت: نعم.

فضربهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ بعثه ، ثمّ أناخه ، ووطئ على ذراعه ، وقال: اركب ، فركبت وسايرته فجعل جملي يسبق جمله ، فاستغفر لي تلك الليلة

____________________

(١) مكارم الأخلاق ١: ٥٥ ح ٣٤ ، بحار الأنوار ١٦: ٣٣٣.

(٢) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام الخزرجي الأنصاري السلمي ، المتوفّى سنة ٧٨ ه ، صحابي ، روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الكثير ، وروى عنه جماعة من الصحابة ، غزا تسع عشرة غزوة ، كانت له في أواخر أيّامه حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم.

انظر: رجال الشيخ: ٧٢ ، الأعلام ١: ٢١٣ ، تهذيب الأسماء ١: ١٤٢.

٢٧٢

خمساً وعشرين مرّة.

فقال لي: ما ترك عبد الله من الولد - يعني أباه - ؟

قلت: سبع نسوة.

قال: أبوك عليه دين ؟

قلت: نعم.

قال: فإذا قدمت المدينة وحضر جذاذ النخل فآذني ، هل تزوّجت ؟

قلت: نعم.

قال: بمَن ؟

قلت: بفلانة ابنة فلان بأيم(١) كانت بالمدينة.

فقال: يا جابر ، هلا فتاة تلاعبها وتلاعبك ؟

قلت: يا رسول الله كن عندي نسوة خرق - يعني أخواته - فكرهت آتيهن بامرأة خرقاء ، فقلت: هذه أجمع لأمري.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أصبت ورشدت.

بكم اشتريت جملك ؟

قلت: بكذا وكذا - بخمس أواق من ذهب -.

قال: بعينه ولك ظهره إلى المدينة.

فلمّا قدم المدينة أتيته بالجمل ، فقال: يا بلال اعطه خمس أواق ثمنه وزده ثلاثاً وردّ عليه جمله.

قال جابر: فلمّا حضر جذاذ النخل أعلمت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء فدعا لنا فجذذنا ، فاستوفى كلّ غريم ما كان يطلب تمراً ، وبقي لنا مثل ما كنا نجذ وأكثر.

____________________

(١) أيم وزان كيس ، المرأة التي لا زوج لها ، وهي مع ذلك لا يرغب أحد في تزويجها.

٢٧٣

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ارفعوا ولا تكيلوا ، فرفعناه وأكلنا منه زماناً.(١)

وفي الصواعق المحرقة لابن حجر(٢) : أنّ جابراً عبد الله الأنصاري قال للإمام الباقرعليه‌السلام وهو صغير: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يسلم عليك.

فقيل له: وكيف ذلك ؟

قال: كنت جالساً عنده والحسين في حجره وهو يقبّله فقال:

يا جابر يولد للحسين مولود اسمه علي ، وإذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ: ليقم زين العابدين ، فيقوم علي بن الحسينعليهما‌السلام ، ثمّ يولد لعلي ولد اسمه محمّدعليه‌السلام فإذا أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام.

وكان جابر هذا من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمين والحسن والحسين ، وأدرك الامام محمد الباقرعليهم‌السلام ولم يشهد وقعة الطف لكونه إذ ذاك مكفوفاً ، لكنّه أوّل من زار الحسينعليه‌السلام .

قال السيد: و لمـّا رجع نساء الحسينعليه‌السلام وعياله من الشام وبلغوا العراق قالوا للدليل: مرّ بنا على طريق كربلاء ، فوجدوا جابراً بن عبد الله الأنصاريرحمه‌الله وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد ، واجتمع إليهم نساء ذلك السواد.(٣)

قال ابن جناب الكلبي(٤) : حدّثنا الجصّاصون ، قالوا: كنّا نسمع الجن

____________________

(١) الأنوار في شمائل النبي المختار ١: ٣١٣ ح ٤١٠ ، مكارم الأخلاق ١: ٥٥ ح ٣٥.

(٢) الصواعق المحرقة: ٢٠١.

(٣) مقتل الحسين لأبي مخنف: ٢٢١.

(٤) في الأصل: أبي حباب الكلبي ، وما أثبتناه هو الصحيح ، وهو يحيى بن أبي حيّة الكلبي الكوفي ، حدّث عن أبيه والشعبي وغيرهم ، انظر «الإكمال ٢: ١٣٤».

٢٧٤

ينوحون عليه فيقولون:

مسح النبيّ جبينه

فله بريق في الخدودِ

أبواه من عَليا قريـ

ـش وجدّه خير الجدودِ(١)

ثم انفصلوا من كربلاء ، فلمّا قربوا من المدينة ، قال الإمام زين العابدين:

يا بشر رحم الله أباك ، لقد كان شاعراً فهل تقدر على شيء منه ؟

فقال: بلى يا بن رسول الله.

فقال: ادخل المدينة وانع أبا عبد اللهعليه‌السلام .

قال بشر: فركبت فرسي ، فلمّا بلغت المسجد رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فأدمعي مدرارُ

الجسم منه بكربلاء مضرّج

والرأس منه على القناة يدارُ

ثمّ قلت: هذا عليّ بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ، ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم [اُعرفكم مكانه].

قال: فما بقيت بالمدينة مخدّرة ولا محجّبة الابرزن من خدورهنّ ، مخمّشات وجوههنّ ، ضاربات خدودهنّ ، يدعونّ بالويل والثبور ، فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه ، وسمعت جارية تنوح على الحسين وتقول:

____________________

(١) وقد نسب البيهقي في (المحاسن والمساوئ ١: ٤٩) هذه الأبيات الى الشاعر كعب بن زهير ، والظاهر انّه كعب بن زهير الصحابي ، ولم أجد الأبيات المنسوبة إليه في غير هذا الكتاب ، فإن صحّت هذه النسبة ، فهي ممّا كتمت في أيّام الأمويّين والعباسيّين.

٢٧٥

نعى سيدي ناع نعاه فأوجعا

وأمرضني ناع نعاه فأوجعا

فعينيّ جودا بالدموع واسكبا

وجودا بدم بعد دمعكما معا

على من وهي عرش الجليل فزعزعا

فأصبح هذا المجد والدين أجدعا

على ابن نبيّ الله وابن صفيه

وإن كان عنّا شاحط الدار أشسعا(١)

قال بشر: فضربت فرسي ورجعت ، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع فقربت من باب الفسطاط ، وكان زين العابدينعليه‌السلام داخلاً فخرج ومعه خرقة يمسح فيها دموعه ، وخلفه خادم ومعه كرسي فوضعها له فجلس عليها وهو لا يتمالك من البكاء ، وارتفعت أصوات الناس ، وضجّت النساء بالحنين والصراخ ، فضجّت تلك البقعة ضجّة شديدة.

ثم خطب الناس خطبة لم يسمع أبلغ منها ، ثم رحل إلى المدينة ، فنظر إلى تلك المنازل تنوح بلسان حالها ، وتبكي لفقد حماتها ورجالها ، وتهيج أحزانه على مصارع قتلاه ، وتنادي لأجلهم: وا ثكلاه ، وا ذلّاه.

مدارس آيات خلت من تلاوةٍ

ومنزل وحي مقفر العرصاتِ

ما ذنب أهل البيت حتى

منهم أخلوا ربوعه

تركوهم شتّى مصا

رعهم وأجمعا فظيعة

____________________

(١) زينة المجالس: ٥٣٤.

٢٧٦

[المجلس الثامن عشر]

كانت وقعة بدر التي أظهر الله بها الدين ، وكسر فيها سورة المشركين ، صبيحة الجمعة لسبعة عشر ليلة خلت من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، وكان خروج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة المنوّرة ثالث الشهر في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، منهم سبعة وسبعون من المهاجرين ، والباقون من الأنصار ، ولم يكن معهم إلا فرسان ؛ أحدهما للمقداد ، وكانت الأبل سبعة عشر يتعاقبون عليها.

وأقبلت قريش بخيلائها وحيلها ، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً ؛ وقيل: كانوا ألفاً ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير.

وعبّأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه ، وكانت رايته بيد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وتقارب الفيلقان ، فبرز من المشركين عتبة بن ربيعة ، وأخوه شيبة ، وابنه الوليد ، وكانوا عظماء قريش ، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً بالبروز إليهم ، وأرسل معه عمّه الحمزة ، وعبيدة بن الحرث.

فشدّ أمير المؤمنينعليه‌السلام على الوليد فقتله ، وشد الحمزة على عتبة فقتله ، وبارز عبيدة شيبة فاختلف بينهما ضربتان قطعت ضربة شيبة فخذ عبيدةرحمه‌الله تعالى ، فكرّ أمير المؤمنين وحمزة على شيبة فقتلاه ، فكان قتل هؤلاء الثلاثة أوّل وهن لحق المشركين وذلّ دخل عليهم.

ثمّ بارز أمير المؤمنينعليه‌السلام العاص بن سعيد بن العاص - بعد أن

٢٧٧

أحجم عنه سواه - فقتله ، وبرز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله ، وبرز إليه طعيمة ابن عدي - وكان من رؤوس الضلال - فقتله ، وقتل بعده نوفل بن خويلد ، وكان من شياطين قريش ، وكانت قريش تقدّمه وتعظّمه ، وهو الذي قرن أبا بكر وطلحة وعذّبهما يوماً إلى الليل ، وبرز زمعة بن الأسود والحارث بن زمعة كانا من أشدّ المشركين وطأة على المسلمين فقتلهما ، وقتل بعدهما عمير بن عثمان ابن كعب بن تيم ، وهو عمّ طلحة بن عبيد الله ، وبرز بعد عمير أخيه ، وهما عثمان ومالك ابنا عبيد الله وكانا أخوي طلحة فقتلهما أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وصمد إلى صناديد قريش يقتل كلّ من برز إليه ، حتى أتى على نصف المقتولين من المشركين ، وكانوا سبعين رجلاً ، تولّى جميع من حضر بدراً من المسلمين مع ثلاث آلاف من الملائكة المسوّمين قتل النصف منهم ، وتولّى أمير المؤمنين قتل النصف الآخر وحده بمعونة الله عزّ وجل وكان الفتح على يده.

وختم الأمر بكفّ من تراب تناوله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فرمى به وجوه المشركين قائلاً: شاهت الوجوه.

فلم يبق أحد منهم الا ولّى منهزماً ، ونصر الله عبده ، وأنجز وعده ، فغنم المسلمون أموال المشركون ، وأسروا سبعين من رجالهم ، فكان العبّاس ممّن اُسر يومئذ وجيء به مكتوفاً ، فبات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الليلة ساهراً ، فقال له أصحابه:

يا رسول الله ، ما لك لا تنام ؟

فقال: سمعت تضوّر العباس في وثاقه فمنعني من النوم.

فقاموا إليه فأطلقوه ، فنام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢٧٨

بأبي أنت واُمّي يا نبي الرحمة ، أخذك الأرق ، واعتراك القلق ، بوثاق عمّك وقد كان مع المحاربين لك ، على أنّه لم يكن عليلاً ولا ظمآناً ، ولا أضرّه الوثاق ، ولا كان مفجوعاً بأبيه ، ولا مرزوءاً بجمع أهليه ، ولا كان رأس أبيه في أعلى السنان ، ولا طافوا به وبنسائه سبايا في البلدان ، فكيف بك يا رسول الله لو رأيت مريضك العليل والجامعة في عنقه ، والغل في يديه ، والقيد في ساقيه ، وليتك تراهم وقد اجتمعوا عليه يريدون قتله ، فقلبوه عن نطع مسجّى عليه ، وتركوه على الرمضاء ، وحرارة الشمس ، وحرّ المصيبة ، وألم السقم ، يرى خياماً منهوبة ، ونساءً مسلوبة ، ورؤوساً على الرماح مرفوعة ، وجثثاً تحت سنابك الخيل مرضوضة ، يعزّ عليك يا نبي الله إذ ساقوا ثقلك وحرائرك حتى أدخلوهم على يزيد بن معاوية لعنهما الله وهم مقرونون بالحبال ، فلمّا وقفوا بين يديه قال له سبطك علي بن الحسينعليهما‌السلام :

أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنّك برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لو رآنا على هذه الصفة ؟

فأمر اللعين بالحبال فقطعت ، ثم وضع رأس ريحانتك بين يديه ، وأجلس النساء خلفه لئلا ينظرون إليه ، فرأته اُمّ المصائبعليها‌السلام فأهوت إلى جيبها فشقّته ، ثمّ نادت بصوت حزين يقرح القلوب:

يا حسيناه ، يا حبيب رسول الله ، يا بن مكّة ومنى ، يا بن فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين ، يا بنت المصطفى ، فأبكت والله كلّ من كان حاضراً.

يا ليت عين المصطفى نظرت إلى

اُمّ المصائب حولها أيتامها

ما بين نائحة وصارخة غدت

ترثي كما يرثي الفراخ حمامها

لهفي لهاتيك الحرائر أصبحت

يقتاد قسراً للئيم زمامها

٢٧٩

[المجلس التاسع عشر]

خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اُحد يوم الجمعة في شوال سنة ثلاث من الهجرة في ألف مقاتل ، فرجع منهم قبل الوصول إلى اُحد ثلاثمائة من المنافقين ، وبقي سبعمائة ، فيهم مائة دارع ، ولم يكن معهم إلا فرسان ، وكان المشركون ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع ، ومعهم مائة فرس ، وثلاثة آلاف جمل وخمسة عشر امرأة ، وقائدهم أبو سفيان ، خرج لحرب الله ومعه ولده معاوية وزوجته هند ، وخرج عمرو بن العاص بزوجته ريطة بنت منبّه ، والتقوا يوم السبت ، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل.

ونزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الشعب من اُحد وتركه خلفه ، وجعل الرماة وهم خمسون وراءه ، ليحموا ظهور المسلمين ، وأمرهم أن لا يفارقوا مراكزهم على كلّ حال.

وأعطى رايته عليّاًعليه‌السلام ، وسأل عن لواء المشركين فقيل: مع بني عبد الدار ، فأعطى لواءه مصعب بن عمير لأنّه منهم.

فلمّا استشهد أخذ علي بن أبي طالبعليه‌السلام في يده الراية واللواء جميعاً ، وحمى الوطيس ، فشدّ أمير المؤمنين على صاحب اللواء وهو طلحة بن أبي طلحة وكان أشجع القوم ، ويعرف بكبش الكتيبة ، فضربه على رأسه ضربة بدرت بهاعيناه ، فصاح صيحة منكرة واسقط اللواء ، فكبّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تكبيراً عالياً ، وكبّر المسلمون بأجمعهم ، وتضعضع عسكر الشرك

٢٨٠

بمقتله ، ولم يزل يقتل كلّ من حمل اللواء من بني عبد الدار حتى تفانوا عليه ، فحمله عبدٍ لهم يقال له: صواب ، وكان من أشدّ الناس ، فقطع أمير المؤمنينعليه‌السلام يديه ، ثمّ ضربه على اُمّ رأسه فسقط صريعاً ، وانهزم المشركون ، وأكبّ المسلمون على الغنائم فطمعت الرماة في الغنيمة ، وفارقوا الشعب الذي أمرهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بملازمته.

فأتى خالد بن الوليد في خيل المشركين من ورائهم وهم غافلون ، فكان البلاء ، وقُتل حمزة في سبعين رجلاً ، وفرّ الباقون ، وثبت علي وأبو دجانة(١) وسهل بن حنيف(٢) .

وقاتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قتالاً شديداً ، وكسرت يومئذ رباعيته ، وشقّت شفته ، وكلم في وجهه الشريف ، ودخل من حلق المغفر في جبهته الشريفة ، وعلاه ابن قمأة لعنه الله بالسيف ، فسقط - بأبي واُمّي - إلى الأرض ، وصاح المشركون: قتل محمد ، فأوغل المسلمون للهرب ، وكسر علي غمد سيفه ، وشدّ على جموع المشركين شدّة ما سمع السامعون بمثلها ، فكشفهم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فوجده على الأرض ، والدماء تسيل على وجهه الشريف ، وأبصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من المشركين فقال: اكفنيهم يا

____________________

(١) هو سماك بن خرشة ، من الصحابة الأوائل الذين صمدوا مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة أحد ، عاش حتى شهد مع علي بن أبي طالبعليه‌السلام صفين ؛ وقيل غير ذلك.

انظر: الاصابة ٢: ٧٧ ، أسد الغابة ٢: ٤٥٢ ، الاستيعاب ٢: ٨٣ - ٨٤.

(٢) سهل بن حنيف بن واهب بن العُكيم الأوسي الأنصاري ، من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين ، شهد بدراً والمشاهد كلّها مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وثبت يوم احد حين انهزم الناس ، وبايع يومئذ على الموت ، استخلفه علي على البصرة بعد الجمل ، وشهد معه صفين وتوفي في الكوفة سنة ثمان وثلاثين وصلّى عليه أمير المؤمنينعليه‌السلام .

انظر: الاصابة ٢: ٨٧ ، أسد الغابة ٢: ٤٧٠.

٢٨١

علي ، فحمل عليهم ، وقتل عميدهم ، وتفرّقوا ، ثم جاءت كتيبة اخرى ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : احمل عليهم يا علي ، فشدّ على عميدهم ، فتقله وفرّقهم.

فقال جبرائيلعليه‌السلام : هذه المواساة ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه منّي وأنا منه ، فقال جبرائيلعليه‌السلام : وأنا منكما ، ونادى في تلك الحال:

لاسيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا عليّ

وجعل عليعليه‌السلام ينقل الماء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في درقته من المهراس ليغسل الدم عن وجهه ، ومنع الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ بأخيه ، وبجماعة من المنهزمين ثابوا إليه ، فذهبوا به إلى الجبل فحاصروا وارتفع القتال.

بأبي أنت واُمّي: يا غريب أين كان أخوك المواسي ، ليمنعك من الأعداء حين سقطت شلواً مبضّعاً ، كما منع المشركين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أخوه المواسي له ؟

أم أين كان قمر بني هاشم وأنت مطروح على الرمضاء تخور بدمك ، وتلوك لسانك من العطش لينقل الماء إليك من الفرات ، كما نقله إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أخوه المواسي له من المهراس ، لكنّه سقط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان أخوه سالم المهجة ، سالم الهامة ، سالم الساعدين ، وكان أخوك إذ سقطت يا قرّة عين الزهراء مرضوخ الهامة ، محسوم الزندين ، مشحوطاً بالدماء ، مبدّد الاعضاء.

وأين عنك يا سيدي صحبك الذين ما فرّوا ، ولا تخطّوا حتى تفانوا دونك ليمنعوك كما منع رسول الله أصحابه ؟ ومن أين لهم أن يمنعوك وهم صرعى في هجير الشمس ، قد وزعت أشلاءهم ظباة السيوف ، وطحنتهم سنابك الخيل ، وابتلت بدمائهم أرض الطفوف ، ولقد يعزّ عليهم والله وقوفك بين الأعداء وحيداً

٢٨٢

فريداً وأنت تنادي:

هل من مغيث يغيثنا ؟

هل من موحّد يخاف الله فينا ؟

هل من معين يرجو الله في إعانتنا ؟

فأجابك يا داعي الله مالك بن النسر لعنه الله بالسيف على رأسك الشريف ، وطارح بن وهب(١) بالرمح في خاصرتك ، ولبّاك ابن شريك(٢) بالسيف على كتفك اليسرى ، وأجابك آخر بضربة على عاتقك المقدّس فكبيت بها لوجهك.

وجاء سنان(٣) طاعن بسنانه

يرى أنّه كان الهزير المشجعا

وأقبل شمر يعلن العجب إذ سطا

على الليث مذ أمسى له الحتف مضجعا

وراح بأعلى الرمح يزهو كريمه

كبدر دجى قد تمّ عشراً وأربعا

____________________

(١) وقيل: صالح بن وهب المزني ، وهو خبيث ملعون. انظر: مستدركات علم الرجال ٤: ٢٤٨.

(٢) وهو زرعة بن شريك التميمي ، ملعون خبيث ، ورد ذكره في مستدركات علم الرجال ٣: ٤٢٦.

(٣) في مستدركات علم الرجال ٤: ١٦١: سنان بن أنس النخعي ، وهو قاتل مولانا الحسين صلوات الله عليه ؛ قيل: قتله ابن زياد حين قال: قتلت خير الناس اُمّاً وأباً ، والمشهور أنه قتله المختار.

وفي كتاب حكاية المختار: ٤٥: أن إبراهيم قال لسنان عندما قبض عليه: يا ويلك أصدقني ما فعلت يوم الطف ؟ قال: ما فعلت شيئاً غير أنّي أخذت تكة الحسين من سرواله !! فبكى إبراهيم عند ذلك ، فجعل يشرح لحم أفخاذه ويشويها على نصف نضاجها ويطعمه إياه ،

وكلما امتنع من الأكل ينخزه بالخنجر ، فلمّا أشرف على الموت ذبحه وأحرق جثته.

٢٨٣

[المجلس العشرون]

نقل ابن أبي الحديد - في أواخر الجزء الرابع عشر من شرح النهج - عن جماعة من المحدّثين والمؤرّخين: انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمـّا فرّ أصحابه عنه يوم اُحد كثرت عليه كتائب المشركين ، وقصدته كتيبة من بني عبد مناف بن كنانة ، وفيها بنو سفيان بن عويف ، وهم: خالد ، وأبو الشعثاء ، وغراب وأبو الحمراء ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي اكفني هذه الكتيبة.

فحمل عليها وانّها لتقارب خمسين فارساً وهو راجل ، فما زال يضربها حتى تفرّقت عنه ، ثمّ تجتمع عليه هكذا مراراً حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة ، فقال جبرائيلعليه‌السلام :

يا محمد إن هذه لهي المواساة ، وقد تعجّبت ملائكة السماء من هذا الفتى.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : وما يمنعه ؟ وهو منّي وأنا منه.

فقال جبرائيلعليه‌السلام : وأنا منكما.

قال: وسمع في ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يُرى شخص الصارخ به ينادي مراراً:

لاسيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا عليّ

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا جبرائيل... وكان بأبي هو واُمّي قد جرح فجعل عليعليه‌السلام ينقل الماء في درقته من المهراس ويغسل جرح النبي فلم ينقطع دمه ، فأتت فاطمةعليها‌السلام فجعلت تعانقه وتبكي ، وأحرقت

٢٨٤

حصيراً وجعلت من رماده على الجرح فانقطع الدم.

ذكرت من بكاء سيّدة النساء حين عانقت أباهاصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مجروح ، ما حال سكينة(١) لمـّا استوقفت أباها وقد اُثخن بالجراح ، وبقي من كثرة رشق النبال كالقنفذ ، فقالت:

يا أبتاه ، قف لي هنيئة لأتزوّد منك ، فهذا وداع لا تلاقي بعده ، وانكبّت على يديه ورجليه تقبّلهما وتبكي ، فبكى الحسينعليه‌السلام رحمة لها ، ثم مسح دموعها بكمّه ، وأخذها فتركها في حجره ، ومسح دموعها بكفّه وأنشأ مخاطباً لها:

سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي

منك البكاء إذا الحمام دهاني

لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة

ما دام منّي الروح في جثماني

فإذا قتلت فأنت أولى بالذي

تأتينه يا خيرة النسوان

واعتنقت أباها يوم الحادي عشر من المحرم كما اعتنقت جدّتها الزهراء أباها يوم اُحد ، لكن شتّان بين من اعتنقت أباها وهو حيّ جالس ، وبين من اعتنقته وهو مطروح على الرمضاء بحرارة الشمس ، عاري اللباس ، قطيع الرأس ، منخمد الأنفاس ، في جندل كالجمر مضطرم.

ثوى ثلاث ليالٍ بالعراء

بلا غسلٍ ولا كفن لله من حكم

ورجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من اُحد يوم الوقعة فمرّ بامرأة من الأنصار اُصيب أبوها وزوجها ، فلمّا نُعيا إليها قالت: ما فعل برسول الله صلى الله

____________________

(١) سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، كريمة نبيلة ، كانت سيّدة نساء عصرها ، توفيت سنة ١١٧ ه ، نسب إليها بعض المؤرّخين اُمور نقطع بكذبها وافترائهاعليها.

انظر: الطبقات الكبرى ٨: ٣٤٨ ، الدر المنثور: ٢٤٤ ، الأعلام ٣: ١٠٦.

٢٨٥

عليه وآله ؟ قالوا: هو بحمد الله كما تحبّين.

قالت: أرونيه ، فلمّا نظرت إليه قالت: كلّ مصيبة بعدك جلل.

ولقته حمنة بنت جحش فنعى إليها أخاها عبد الله فاسترجعت ، ثم نعى إليها أخاها حمزة فاستغفرت له ، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فولولت وصاحت.

ولكن لا كالرباب(١) زوجة أبي عبد الله فانّها بقيت بعده لا تستظل تحت سقف بيت حتى ماتت كمداً ، وكانت تجلس في هجير الشمس من أوّل النهار إلى آخره ، وتقابلها ابنتها سكينة بالنوح واللطم ، وكانت زينب مع حزنها ترقّ لها وهي تندب الحسين أشجى ندبة ، فتقول لها: اُخيّة يا رباب قومي إلى الظل.

فتقول لها: يا سيدتي لا تلوميني فانّي تركت سيّدي ومولاي عارياً بالعراء مطروحاً على الرمضاء بحرارة الشمس ، وكانت تقول في ندبتها:

وا حبيب المصطفى ، وا ذبيحاً من قفا ، وا قتيلا بالظما.

ثم لا تزال تنادي: وا سيّداه وا حسيناه ، حتى تتفطّر لها القلوب ، ويتصدّع لها الصخر الأصم.

نادت فقطعت القلوب بشجوها

لكنّما انتظم البيان فريدا

إن تنع أعطت كلّ قلب حسرة

أو تدع صدّعت الجبال الميدا

تدعو بلهفة ثاكلٍ لعب الأسى

بفؤاده حتى انطوى مفؤودا

____________________

(١) الرباب بنت امرئ القيس بن عدي ، زوجة الحسينعليه‌السلام ، كانت معه في وقعة كربلاء ، وبعد استشهاده جيء بها مع السبايا إلى الشام ، ثمّ عادت إلى المدينة ، فخطبها الأشراف ، فأبت ، وبقيت بعد الحسين لم يظلّها سقف بيت حتى بليت وماتت كمداً ، وكانت شاعرة لها رثاء في الحسينعليه‌السلام . انظر: المحبر ٣: ١٣ ، أعلام النساء ١: ٣٧٨.

٢٨٦

[المجلس الحادي والعشرون]

ذكر المؤرّخون: أنّ وحشي بن حرب كان عبداً حبشياً لابنة الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ؛ وقيل: كان لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل فقالت له ابنة الحارث: إنّ أبي قتل يوم بدر ، فان أنت قتلت أحد الثلاثة محمّداً أو عليّاً أو حمزة فأنت حرّ ، فانّي لا أدري في القوم كفواً لأبي غيرهم.

فقال: أما محمد فانّ أصحابه لن يسلّموه ، وأمّا حمزة فوالله لو وجدّته نائماً ما أيقظته ، وأما علي فألتمسه.

قال وحشي: فكنت يوم اُحد ألتمسه فبينا أنا في طلبه ، إذ طلع عليّ فطلع رجل حذر مرس ، كثير الالتفات فقلت: ما هذا بصاحبي ، فبينا أنا كذلك إذ رأيت حمزة يفري الناس فرياً ، فكمنت إلى صخرة وهو مكبس له كيت ، فاعترض له سباع بن اُمّ اينار ، فقال له حمزة:

وأنت يا بن مقطّعة البذور ممّن يكثر علينا فاحتمله حتى إذا برقت قدماه رمى به فبرك عليه فشحط شحط الشاة ، ثمّ أقبل عليَّ مكبّاً حين رآني ، فلمّا بلغ المسيل وطأ على جرف فزلّت قدمه فهززت حربتي حتى رضيت منها ثمّ ضربت بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته ، وكرّت عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم ينادونه: أبا عمارة فلا يجيب ، فقلت: والله مات الرجل ، وذكرت هنداً وعداوتها لبني هاشم فأتيتها فقلت: ماذا لي إذ قتلت قاتل أبيك.

قالت: سلبي.

٢٨٧

فأخبرتها الخبر فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه وقالت: إذا جئت مكّة فلك عشرة دنانير ، ثم قالت: أرني مصرعه فدللتها عليه ، فبقرت بطنه ، وأخرجت كبده فمضغتها ثمّ لفظتها ، وقطّعت مذاكيره ، وجدعت أنفه ، وقصّت اُذنيه ، ثمّ جعلت ذلك خلخالين ودملجين حتى قدمت بذلك مكّة وقدمت بكبده معها.

قال محمد بن إسحاق: ومن الشعر الذي ارتجزت به هند يوم اُحد:

شفيت من حمزة نفسي باُحد

حين بقرت بطنه عن الكبد

أذهب عنّي ذاك ما كنت أجد

من لوعة الحزن الشديد المعتمد

والحرب تعلوكم بشأ بوب برد

تقدم اقداماً عليكم كالأسد

وجاءت صفيّة فجلست عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله ، وإذا نشجت ينشج ، وجعلت فاطمة تبكي على عمّها ، فلمّا بكت بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

جعلت فداك يا رسول الله ، يا نبي الرحمة ، كيف بك لو رأيت عقائلك يوم عاشوراء وقد ذبح نصب أعينهن ثمانية عشر من حماتهن ، وسبعون من أنصارهن ، وليتك ترى كريمتكم زينب إذ وقفت على أخيها الحسينعليه‌السلام حافية حاسرة ، ووجدته وهو ريحانتك مزمّلاً بالدماء ، موزّع الأعضاء ، عاري اللباس ، مقطوع الرأس ، مذبوحاً من القفا ، مفطور القلب من الظما ، فنادتك بصوت وقلب كئيب:

يا جدّاه يا رسول الله ، صلّى عليك مليك السما ، هذا حسينك بالعرا ، مزمّلاً بالدما ، مسلوب العمامة والردا ، ثم قالت:

بأبي من لا غائب فيرتجى ، ولا جريح فيداوى ، بأبي من نفسي له الفدا ،

٢٨٨

بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من شيبه يقطر بالدما ، بأبي من جدّه رسول إله السما ، فأبكت والله كلّ عدوّ وصديق.

وشتّان ما بين صفيّة إذ قتل أخوها حمزة ، وزينب إذ قتل أهلوها ، أمّا صفية فبقي لها رسول الله وأمير المؤمنين ، وأبطال بني عبد المطّلب ، وليوث بني هاشم ، وبقي عزّها ، وسرداق مجدها ، والمهاجرون والأنصار يتفانون دون خباها.. ويا لهف نفسي لزينب ، وبقية العقائل من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ أصبحنّ بعد حماتهن غنيمة للقوم الظالمين ، يضربونهن تارة ويسلبونهن اخرى ولقد كانت المرأة منهن تنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه ، ولم يبق لهنّ من يرتجينه لدفع الأعداء ، الاعمر بن سعد لعنه الله ، ولذا صحن في وجهه لما رأينه ، وبكين شاكيات إليه ، فقال لأصحابه: لا يدخل أحد منكم بيوت هذه النسوة ، ولا تتعرّضوا لهذا الغلام المريض ، فسألته النسوة أن يسترجع ما اُخذ منهنّ من الملاحف ليستترن به ، فقال: من أخذ منهن شيئاً فليردّه ، فو الله ما ردّ أحد شيئاً.

عجباً لمال الله أصبح مقسّما

في رائح للظالمين وغاد

عجباً لآل الله صاروا مغنما

لبني الطليق هدية وزياد

عجباً لذي الأفلاك لِم لا عطلت

والشهب لم تبرز بثوب حداد

٢٨٩

[المجلس الثاني والعشرون]

سار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خيبر في المحرم الحرام سنة سبع للهجرة في ألف واربعمائة مقاتل ، ومعهم مائتا فرس ، وكانت الوقعة في صفر ، والفتح فيها لأمير المؤمنينعليه‌السلام بلا ارتياب ، وظهر من فضله في هذه الغزوة ما أجمع على نقله المسلمون ، واختصّ فيها من المناقب بما لم يشاركه فيه أحد من العالمين ، وذلك أنّه قد اتفقت كلمة أهل الأخبار: على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى الراية فيها أبا بكر أولاً فرجع ، ثم أعطاها عمر ثانياً فرجع ولم يكن فتح.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - كما في غزوة خيبر من صحيح البخاري -:

لأعطينّ هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله.

قال: فبات الناس يدركون ليلتهم أيّهم يعطاها ، فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّهم يرجو أن يعطاها.

فقال: أين علي بن أبي طالب ؟

فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه.

قال: فارسلوا إليه ، فأتي به فبصق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية... إلى آخر الحديث.(١)

____________________

(١) المناقب للخوارزمي: ١٧٠ فصل «١٦» ح ٢٠٣ ، كنز العمّال ١٣: ١٢٣ ح ٣٦٣٩٣ أخرجه عن

٢٩٠

وفي تاريخ ابن الأثير: أنّ عليّاً نهض بالراية وعليه حلّة حمراء فأتى خيبر فأشرف عليه رجل من اليهود فقال: من أنت ؟

قال: أنا علي بن أبي طالب.

فقال اليهودي: غُلبتم يا معشر اليهود.

قال: وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني قد ثقبها مثل البيضة وهو يقول:

قد علمت خيبر انّي مرحب

شاكي السلاح بطل مجرّب

فقال عليعليه‌السلام :

أنا الذي سمّتني اُمّي حيدرة

كليث غابات كريه المنظره

أكيلهم بالسيف كيل السندرة

فاختلفا بضربتين ، فبدره عليعليه‌السلام فقدّ الجحفة والمغفر ورأسه

الدار قطنيّ والخطيب البغدادي وابن عساكر وفي ص ١١٦ ح ٣٦٣٧٧ خرّجه مختصراً عن تاريخ أصبهان لابن مندة ، بريقة المحمودية لأبي سعيد الخادميّ ١: ٣١١.

أقول: وقد ورد حديث الراية في خيبر ودور الامام عليعليه‌السلام في قتل مرحب زعيم اليهود وفتح قلاع خيبر في كثير من المصادر الحديثيّة والتاريخيّة المعتبرة عند الفريقين السنّة والشيعة بأسانيد مختلفة ومتون متواترة.

وقد خصّ العلامة مير حامد حسين أحد أجزاء كتابه عبقات الأنوار - الجزء التاسع - للبحث والتحقيق في هذا الحديث واثبت أسانيده ودلالته على خلافة الإمام عليعليه‌السلام للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجمع في كتابه ما بلغه من الحديث المستخرج في مجاميع أهل السنّة فيما يمتّ بهذه الواقعة التاريخيّة.

وكذلك جمع العلّامة المحقّق القاضي التستري في موسوعته إحقاق الحق وملحقاته طرق هذا الحديث فعدّدها فكانت العشرات من الصحابة وأكثر من مائة مصدر حديثيّ وتارخي. فليراجعها من أراد الإيقان.

٢٩١

حتى وقع في الأرض ، وأخذ المدينة.

ونقل ابن الأثير(١) ، عن أبي رافع(٢) مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:

خرجت مع عليعليه‌السلام حين بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خيبر فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضربه يهودي فوقع ترسه من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن فتترّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله على يديه ، ثم ألقاه من يده فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجتهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.

قال ابن الأثير: فلمّا فتحت خيبر جاء بلال بصفيّة واُخرى معها على قتلى اليهود ، فلمّا رأتهم التي مع صفية صرخت وصكّت وجهها ، وحثّت التراب على رأسها ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لبلال: أنزعت منك الرحمة جئت بهما على قتلاهما ؟!

بأبي أنت واُمّي يا نبي الرحمة ، لم ترض من بلال حين مرّ بيهوديتين على قتلاهما الكفرة والفجرة المحاربين لله ولرسوله ، فكيف بك لو ترى العقائل من خفراتك ، والكريمات من بناتك ، وهنّ على أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء ، مكشّفات الوجوه بين الأعداء ، يسوقوهنّ كما تساق الزنوج والديلم ، فمرّوا بهنّ على مصارع قتلاهن ، وفيهم حجّة الله ، ونجوم الأرض من آلك الطاهرين ،

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٣: ١٦٠.

(٢) أبو رافع القبطي مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واسمه أسلم ، كان للعبّاس بن عبد المطلب ، فوهبه للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا بشر النبي باسلام العباس أعتقه ، وشهد أبو رافع مشاهد النبي كلّها ، ولزم أمير المؤمنينعليه‌السلام من بعده وكان صاحب بيت ماله بالكوفة.

انظر الاستيعاب بهامش الاصابة ١: ٨٦ ، اسد الغابة ١: ٩٣.

٢٩٢

فوجدتهم على الرمضاء ، وقد اُسري برؤوسهم إلى الكوفة ، فنادت حينئذ عزيزتك بضعة الزهراء عقيلتكم زينب: وامحمّداه ، بناتك سبايا ، وذرّيّتك مقتّلة ، تسفى عليهم ريح الصبا ، وهذا حسينك بالعرا ، محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والردا.

وفي بعض المجموعات: أرادت أن ترمي بنفسها عليه ، فناداها الإمام زين العابدينعليه‌السلام بصوت أضعفته العلّة:

عمّتاه ، ارحمي ضعف بدني ، ارحمي الجامعة في عنقي ، ودّعي أخاك وأنت على ظهر الناقة.

فجعلت تقول: ودّعتك السميع العليم يا بن اُمّي ، والله لو خيّرت المقام عندك والرحيل لاخترت المقام عندك ، ولو انّ السباع أكلت لحمي.

واعتنقت سكينة جسد أبيها فاجتمعت عليها عدّة من الأعراب حتى جرّوهاعنه ، فوا حرّ قلباه ، كيف عانقته ونحره منحور ، وصدره مكسور ، ورأسه على القنا مشهور ، ويا لهف نفسي كيف رأته عاري الثياب ، معفّراً بالتراب ، أم كيف فارقته مطروحاً بالعراء ، لوحوش الأرض وطير السماء ، لا مغسّلاً ولا مكفّناً ولا مدفوناً.

بلى يا رسول الله ، كان دمه غسله ، والتراب كافوره ، والقنا الخطي نعشه ، وفي قلب من والاه قبره.

لهفي له وحريمه

من حول مصرعه نوادب

يندبنه بمدامع

من حر أجفان سواكب

أحسين بعدك لا هنا

عيش ولا لذّت مشارب

والجسم منك مجدّل

في الترب منعفر الترائب

ها نحن بعدك يا غريـ

ـ ب الدار أمسينا غرائب

٢٩٣

[المجلس الثالث والعشرون]

لمـّا جهّز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جيش مؤتة جعل الأمير يومئذ ابن عمّه جعفر بن أبي طالب ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إن اُصيب جعفر فزيد بن حارثة ، فإن اُصيب زيد ، فعبد الله بن رواحة.

وقيل: أنّه قدّم زيداً ، فقال جعفر: ما كنت أرهب أن تستعمل عليَّ زيداً. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : امض فانّك لا تدري أي ذلك خير.

قال ابن الأثير: ثمّ ساروا فالتقتهم جموع الروم والعرب بقرية من البلقاء يقال لها (مشارف) ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها (مؤتة) فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فقاتل زيد براية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى شاط في رماح القوم ، ثم أخذها جعفر فقاتل وهو يقول:

يا حبذا الجنّة واقترابها

طيّبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنى عذابها

كافرة بعيدة أنسابها

علي إذ لاقيتها ضرابها

فلمّا اشتدّ القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ، ثم قاتل القوم حتى قتل - وكان أول من عقر فرسه في الاسلام - فوجد به بضع وثمانون جرحاً ، ما بين ضربة ورمية وطعنة.

بأبي أنت واُمّي يا أبا عبد الله.

بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله.

لئن وجدوا في جسد عمّك بضعاً وثمانين جرحاً ، فلقد اصبت يوم الطف

٢٩٤

بألف وتسعمائة ، ما بين ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورضخة بحجر.

رماك الدارمي يا ريحانة المصطفى بسهم فأثبته في حنكك الشريف.

وضربك ابن النسر الكندي على رأسك بالسيف يا حشاشة الزهراء حتى امتلأ برنسك دماً ، فاستدعيت بخرقة شددت بها رأسك تحت العمامة.

ووقفت يا سيّدي لتستريح ساعة ، وقد ضعفت عن القتال ، فأتاك الحجر في جبهتك المباركة ، فأخذت الثوب لتمسح الدم عن وجهك فأتاك سهم مسدّد مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبك الطاهر ، فأخرجته من ظهرك ، فانبعث الدم كأنّه ميزاب.

سهم رمى أحشاك يا بن المصطفى

سهم به كبد الهداية قد رمي

يا أرض ميدي ، يا سماء تفطّري

يا شمس غيبي ، يا جبال تقسي

قال ابن الأثير: فلمّا قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة ، فتردّد بعض التردّد ، ثم قال يخاطب نفسه:

أقسمت يا نفس لتنزلنّه

طائعة أو لا لتكرهنّه

إن أجلب الناس وشدّوا الرنّة

ما لي أراك تكرهين الجنّة

قد طال ما قد كنت مطمئنّة

هل كنت الانطفة في شنّة

وقال أيضاً:

يا نفس إن لم تقتلي تموتي

هذا حمام الموت قد صليتي

وما تمنّيت فقد اعطيت

إن تفعلي فعلهما هديتِ

وتقدّم فقاتل حتى قتل.

ثمّ ان الخبر جاء من السماء في ساعته إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فصعد المنبر وأمر فنودي الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فقال:

٢٩٥

ثار خبر - ثلاثاً - عن جيشكم هذا الغازي ، إنّهم لقوا العدو ، ثمّ نعى لهم زيداً وجعفراً وعبد الله ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله - بعدها بليلة - مرّ بي جعفر البارحة في نفر من الملائكة ، له جناحان مخضّب القوادم بالدم.(١)

وفي ترجمة جعفر من كتاب الاستيعاب(٢) : بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه إلى مؤتة في جمادي الأولى سنة ثمان من الهجرة ، فقاتل فيها جعفر حتى قطعت يداه جميعاً ، ثمّ قتل ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : انّ الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث يشاء.

وقد لحقه في هذه الفضيلة شبل أخيه قمر بني هاشم فانّه قطعت يداه في سبيل الله تعالى وضرب على هامته بعمود من حديد.

ولئن أصيب ذو الجناحين ببضع وثمانين جراحة ، فلقد روي في حديث بني أسد: أنّه لمـّا دفنوا العبّاسعليه‌السلام كانوا كلّما رفعوا منه جانباً سقط الآخر لكثرة ضرب السيوف ، وطعن الرماح ، وامتاز العبّاس بعظيم المواساة ، فانّه لمـّا اقتحم المشرعة قال: لا أشرب وأبو عبد الله عطشان.

وهل سمعت بأحد من الأوّلين والآخرين فدى قربة من الماء رجاء أن يشربها أخوه وعياله وأطفاله بنفسه ؟ ووقاها حرصاً على إيصالها إليهم بمهجته ؟

وليتك يا ساقي عطاشى كربلاء أرويت كبدك الحرّى بجرعة منها قبل مقتلك ؟ وليتهم إذ قتلوك أبقوا دماءها لغسلك ، وبالعزيز على سكينة عزيزة أخيك أن تراك ذبيحاً دون يسير من الماء توصله إليها ، ويعزّ على عقيلتكم زينب أن

____________________

(١) الإصابة ١: ٢٣٧ ، البداية والنهاية ٤: ٢٥٥ ، تهذيب التهذيب ٢: ٩٨ ، أسد الغابة ١: ٢٨٦ ، الطبقات الكبرى ٤: ٢٢ ، حلية الأولياء ١: ١١٤.

(٢) الاستيعاب ١: ٣١٢.

٢٩٦

تراك مقطّعاً نصب عينيها ، وليتك ترى أخاك الوحيد واقفاً عليك وهو ينادي: الآن انكسر ظهري ، الآن تبدّد عسكري وقلّت حيلتي ، ثمّ بكى بكاء شديداً.

أحقّ الناس أن يبكى عليه

فتى أبكى الحسين بكربلاء

أخوه وابن والده عليّ

أبو الفضل المضرّج بالدماء

ومن واساه لا يثنيه شيء

وجاد له عطش بماء

ونقل ابن الأثير عن أسماء زوجة جعفر ذي الجناحي ن رضي ‌الله‌ عنها قال ت:

أتاني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد غسلت أولاد جعفر ودهنتهم ، فأخذهم وشمّهم ودمعت عيناه ، فقلت: يا رسول الله أبلغك عن جعفر شيء ؟

قال: نعم ، اُصيب هذا اليوم ، ثمّ أمر أهله أن يصنعوا لآل جعفر طعاماً فهو أول طعام عمل في الإسلام.

بأبي أنت واُمّي يا نبي الرحمة ، دمعت عيناك إذ رأيت يتامى ابن عمّك جعفر ، مع أنّهم كانوا في هيئة حسنة ، وزي بهيج ، وأمرت لهم بطعام ، مع انّهم لم يكونوا جياعاً ، رأفة منك ورحمة.

فكيف بك لو رأيت يتاماكم يوم عاشوراء جياعاً عطاشى ، حفاة عراة ، مدهوشين والهين ، مربقين بالحبال ، يخافون أن يتخطّفهم الناس من حولهم ، هذا يضربهم ، وهذا يسلبهم ، وذاك يضرم النار في خيامهم ، وآخر ينتزع الملاحف عن ظهورهم ، وظهور اُمّهاتهم وعمّاتهم.

وليتك يا نبي الرحمة تراهم ليلة الحادي عشر من المحرم وقد أحاطت بهم الأعداء ، وهم يرون ثمانية عشر من حماتهم ، واثنين وسبعين من شيعتهم جثثاً

٢٩٧

على الرمضاء ، ورؤوسهم على أطراف الرماح.

يا رسول الله لو عاينتهم

وهم ما بين قتل وسبا

من رميض يمنع الظل ومن

عاطش يسقى أنابيب القنا

ومسوق عاثر يسعى به

خلف محمول على غير وطا

لرأت عيناك منهم منظراً

للحشا شجواً وللعين قذى

٢٩٨

[المجلس الرابع والعشرون]

ذكر الزبير بن بكّار ، عن محمد بن الحسن المخزومي ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، عن أبيه ، عن أبي وجرة قال:

لمـّا حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية حرب القادسية ، ومعها بنوها أربعة رجال ، فقالت لهم من الليل:

يا بني إنّكم اسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، ووالله الذي لا إله إلا هو انّكم لبنو رجل واحد ، كما انّكم بنوا امرأة واحدة ، ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، ولا هجنت حسبكم ، ولا غيّرت نسبكم ، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل ، في حرب الكافرين ، واعلموا أنّ الدار الباقية ، خير من الدار الفانية ، يقول الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صَابِرُوا وَ رَابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ‌ ) (١) ، فإذا أصبحتم غداً سالمين ان شاء الله تعالى ، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين ، وبالله على أعدائه مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها ، وأضرمت لظى عن سياقها ، وجلّلت على أرواقها ، فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة ، في دار الخلد والمقامة.

فخرج بنوها قابلين لنصحها ، عازمين على قولها ، فلمّا أضاء لهم الصبح ، باكروا مراكزهم وأنشأ أوّلهم يقول:

____________________

(١) سورة آل عمران: ٢٠٠.

٢٩٩

يا اُخوتي انّ العجوز الناصحة

قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة

مقالة ذات بيان واضحة

فباكروا الحرب الضروس الكالحة

وانّما تلقون عند الصائحة

من آل ساسان الكلاب النائحة

قد أيقفوا منكم بوقع الجائحة

وأنتم بين حياة صالحة

أو ميتة تورث غنماً رايحة

وتقدّم فقاتل حتى قتل رحمه‌ الله تعالى ، ثمّ برز الثاني وهو يقول:

إنّ العجوز ذات حزم وجلد

والنظر الأوفق والرأي السدد

قد أمرتنا بالسداد والرشد

نصيحة منها وبرّاً بالولد

فباكروا الحرب حماة في العدد

إما لفوز بارد على الكبد

أو ميتة تورثكم عزّ الأبد

في جنّة الفردوس والعيش الرغد

فقاتل حتى قتل رحمه ‌الله تعالى ، ثم حمل الثالث وهو يقول:

والله لا نعصي العجوز حرفاً

قد أمرتنا حزناً وعطفاً

نصحاً وبرّاً صادقاً ولطفا

فبادروا الحرب الضروس زحفاً

حتى تلاقوا آل كسرى لفّا

أو يكشفوكم عن حماكم كشفا

إنّا نرى التقصير منكم ضعفا

والقتل فيكم نجدة وزلفى

فقاتل حتى قتل رحمه‌ الله تعالى ، ثم برز الرابع وهو يقول:

لست للخنساء ولا للأخرم

ولا لعمرو ذي الثناء الأقدم

ان لم أرد في الجيش جيش الأعجم

ماضٍ على الحول خضم خضرم

إمّا لفوز عاجل أو مغنم

أو لوفاد في السبيل الأكرم

ثمّ قاتل حتى قتل رحمه‌ الله تعالى ، فبلغها الخبر فقالت: الحمد لله الذي

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348