المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه11%

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 348

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه
  • البداية
  • السابق
  • 348 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47068 / تحميل: 4595
الحجم الحجم الحجم
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

بمقتله ، ولم يزل يقتل كلّ من حمل اللواء من بني عبد الدار حتى تفانوا عليه ، فحمله عبدٍ لهم يقال له: صواب ، وكان من أشدّ الناس ، فقطع أمير المؤمنينعليه‌السلام يديه ، ثمّ ضربه على اُمّ رأسه فسقط صريعاً ، وانهزم المشركون ، وأكبّ المسلمون على الغنائم فطمعت الرماة في الغنيمة ، وفارقوا الشعب الذي أمرهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بملازمته.

فأتى خالد بن الوليد في خيل المشركين من ورائهم وهم غافلون ، فكان البلاء ، وقُتل حمزة في سبعين رجلاً ، وفرّ الباقون ، وثبت علي وأبو دجانة(١) وسهل بن حنيف(٢) .

وقاتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قتالاً شديداً ، وكسرت يومئذ رباعيته ، وشقّت شفته ، وكلم في وجهه الشريف ، ودخل من حلق المغفر في جبهته الشريفة ، وعلاه ابن قمأة لعنه الله بالسيف ، فسقط - بأبي واُمّي - إلى الأرض ، وصاح المشركون: قتل محمد ، فأوغل المسلمون للهرب ، وكسر علي غمد سيفه ، وشدّ على جموع المشركين شدّة ما سمع السامعون بمثلها ، فكشفهم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فوجده على الأرض ، والدماء تسيل على وجهه الشريف ، وأبصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من المشركين فقال: اكفنيهم يا

____________________

(١) هو سماك بن خرشة ، من الصحابة الأوائل الذين صمدوا مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة أحد ، عاش حتى شهد مع علي بن أبي طالبعليه‌السلام صفين ؛ وقيل غير ذلك.

انظر: الاصابة ٢: ٧٧ ، أسد الغابة ٢: ٤٥٢ ، الاستيعاب ٢: ٨٣ - ٨٤.

(٢) سهل بن حنيف بن واهب بن العُكيم الأوسي الأنصاري ، من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين ، شهد بدراً والمشاهد كلّها مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وثبت يوم احد حين انهزم الناس ، وبايع يومئذ على الموت ، استخلفه علي على البصرة بعد الجمل ، وشهد معه صفين وتوفي في الكوفة سنة ثمان وثلاثين وصلّى عليه أمير المؤمنينعليه‌السلام .

انظر: الاصابة ٢: ٨٧ ، أسد الغابة ٢: ٤٧٠.

٢٨١

علي ، فحمل عليهم ، وقتل عميدهم ، وتفرّقوا ، ثم جاءت كتيبة اخرى ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : احمل عليهم يا علي ، فشدّ على عميدهم ، فتقله وفرّقهم.

فقال جبرائيلعليه‌السلام : هذه المواساة ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه منّي وأنا منه ، فقال جبرائيلعليه‌السلام : وأنا منكما ، ونادى في تلك الحال:

لاسيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا عليّ

وجعل عليعليه‌السلام ينقل الماء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في درقته من المهراس ليغسل الدم عن وجهه ، ومنع الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ بأخيه ، وبجماعة من المنهزمين ثابوا إليه ، فذهبوا به إلى الجبل فحاصروا وارتفع القتال.

بأبي أنت واُمّي: يا غريب أين كان أخوك المواسي ، ليمنعك من الأعداء حين سقطت شلواً مبضّعاً ، كما منع المشركين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أخوه المواسي له ؟

أم أين كان قمر بني هاشم وأنت مطروح على الرمضاء تخور بدمك ، وتلوك لسانك من العطش لينقل الماء إليك من الفرات ، كما نقله إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أخوه المواسي له من المهراس ، لكنّه سقط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان أخوه سالم المهجة ، سالم الهامة ، سالم الساعدين ، وكان أخوك إذ سقطت يا قرّة عين الزهراء مرضوخ الهامة ، محسوم الزندين ، مشحوطاً بالدماء ، مبدّد الاعضاء.

وأين عنك يا سيدي صحبك الذين ما فرّوا ، ولا تخطّوا حتى تفانوا دونك ليمنعوك كما منع رسول الله أصحابه ؟ ومن أين لهم أن يمنعوك وهم صرعى في هجير الشمس ، قد وزعت أشلاءهم ظباة السيوف ، وطحنتهم سنابك الخيل ، وابتلت بدمائهم أرض الطفوف ، ولقد يعزّ عليهم والله وقوفك بين الأعداء وحيداً

٢٨٢

فريداً وأنت تنادي:

هل من مغيث يغيثنا ؟

هل من موحّد يخاف الله فينا ؟

هل من معين يرجو الله في إعانتنا ؟

فأجابك يا داعي الله مالك بن النسر لعنه الله بالسيف على رأسك الشريف ، وطارح بن وهب(١) بالرمح في خاصرتك ، ولبّاك ابن شريك(٢) بالسيف على كتفك اليسرى ، وأجابك آخر بضربة على عاتقك المقدّس فكبيت بها لوجهك.

وجاء سنان(٣) طاعن بسنانه

يرى أنّه كان الهزير المشجعا

وأقبل شمر يعلن العجب إذ سطا

على الليث مذ أمسى له الحتف مضجعا

وراح بأعلى الرمح يزهو كريمه

كبدر دجى قد تمّ عشراً وأربعا

____________________

(١) وقيل: صالح بن وهب المزني ، وهو خبيث ملعون. انظر: مستدركات علم الرجال ٤: ٢٤٨.

(٢) وهو زرعة بن شريك التميمي ، ملعون خبيث ، ورد ذكره في مستدركات علم الرجال ٣: ٤٢٦.

(٣) في مستدركات علم الرجال ٤: ١٦١: سنان بن أنس النخعي ، وهو قاتل مولانا الحسين صلوات الله عليه ؛ قيل: قتله ابن زياد حين قال: قتلت خير الناس اُمّاً وأباً ، والمشهور أنه قتله المختار.

وفي كتاب حكاية المختار: ٤٥: أن إبراهيم قال لسنان عندما قبض عليه: يا ويلك أصدقني ما فعلت يوم الطف ؟ قال: ما فعلت شيئاً غير أنّي أخذت تكة الحسين من سرواله !! فبكى إبراهيم عند ذلك ، فجعل يشرح لحم أفخاذه ويشويها على نصف نضاجها ويطعمه إياه ،

وكلما امتنع من الأكل ينخزه بالخنجر ، فلمّا أشرف على الموت ذبحه وأحرق جثته.

٢٨٣

[المجلس العشرون]

نقل ابن أبي الحديد - في أواخر الجزء الرابع عشر من شرح النهج - عن جماعة من المحدّثين والمؤرّخين: انّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمـّا فرّ أصحابه عنه يوم اُحد كثرت عليه كتائب المشركين ، وقصدته كتيبة من بني عبد مناف بن كنانة ، وفيها بنو سفيان بن عويف ، وهم: خالد ، وأبو الشعثاء ، وغراب وأبو الحمراء ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي اكفني هذه الكتيبة.

فحمل عليها وانّها لتقارب خمسين فارساً وهو راجل ، فما زال يضربها حتى تفرّقت عنه ، ثمّ تجتمع عليه هكذا مراراً حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة ، فقال جبرائيلعليه‌السلام :

يا محمد إن هذه لهي المواساة ، وقد تعجّبت ملائكة السماء من هذا الفتى.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : وما يمنعه ؟ وهو منّي وأنا منه.

فقال جبرائيلعليه‌السلام : وأنا منكما.

قال: وسمع في ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يُرى شخص الصارخ به ينادي مراراً:

لاسيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا عليّ

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا جبرائيل... وكان بأبي هو واُمّي قد جرح فجعل عليعليه‌السلام ينقل الماء في درقته من المهراس ويغسل جرح النبي فلم ينقطع دمه ، فأتت فاطمةعليها‌السلام فجعلت تعانقه وتبكي ، وأحرقت

٢٨٤

حصيراً وجعلت من رماده على الجرح فانقطع الدم.

ذكرت من بكاء سيّدة النساء حين عانقت أباهاصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مجروح ، ما حال سكينة(١) لمـّا استوقفت أباها وقد اُثخن بالجراح ، وبقي من كثرة رشق النبال كالقنفذ ، فقالت:

يا أبتاه ، قف لي هنيئة لأتزوّد منك ، فهذا وداع لا تلاقي بعده ، وانكبّت على يديه ورجليه تقبّلهما وتبكي ، فبكى الحسينعليه‌السلام رحمة لها ، ثم مسح دموعها بكمّه ، وأخذها فتركها في حجره ، ومسح دموعها بكفّه وأنشأ مخاطباً لها:

سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي

منك البكاء إذا الحمام دهاني

لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة

ما دام منّي الروح في جثماني

فإذا قتلت فأنت أولى بالذي

تأتينه يا خيرة النسوان

واعتنقت أباها يوم الحادي عشر من المحرم كما اعتنقت جدّتها الزهراء أباها يوم اُحد ، لكن شتّان بين من اعتنقت أباها وهو حيّ جالس ، وبين من اعتنقته وهو مطروح على الرمضاء بحرارة الشمس ، عاري اللباس ، قطيع الرأس ، منخمد الأنفاس ، في جندل كالجمر مضطرم.

ثوى ثلاث ليالٍ بالعراء

بلا غسلٍ ولا كفن لله من حكم

ورجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من اُحد يوم الوقعة فمرّ بامرأة من الأنصار اُصيب أبوها وزوجها ، فلمّا نُعيا إليها قالت: ما فعل برسول الله صلى الله

____________________

(١) سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، كريمة نبيلة ، كانت سيّدة نساء عصرها ، توفيت سنة ١١٧ ه ، نسب إليها بعض المؤرّخين اُمور نقطع بكذبها وافترائهاعليها.

انظر: الطبقات الكبرى ٨: ٣٤٨ ، الدر المنثور: ٢٤٤ ، الأعلام ٣: ١٠٦.

٢٨٥

عليه وآله ؟ قالوا: هو بحمد الله كما تحبّين.

قالت: أرونيه ، فلمّا نظرت إليه قالت: كلّ مصيبة بعدك جلل.

ولقته حمنة بنت جحش فنعى إليها أخاها عبد الله فاسترجعت ، ثم نعى إليها أخاها حمزة فاستغفرت له ، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فولولت وصاحت.

ولكن لا كالرباب(١) زوجة أبي عبد الله فانّها بقيت بعده لا تستظل تحت سقف بيت حتى ماتت كمداً ، وكانت تجلس في هجير الشمس من أوّل النهار إلى آخره ، وتقابلها ابنتها سكينة بالنوح واللطم ، وكانت زينب مع حزنها ترقّ لها وهي تندب الحسين أشجى ندبة ، فتقول لها: اُخيّة يا رباب قومي إلى الظل.

فتقول لها: يا سيدتي لا تلوميني فانّي تركت سيّدي ومولاي عارياً بالعراء مطروحاً على الرمضاء بحرارة الشمس ، وكانت تقول في ندبتها:

وا حبيب المصطفى ، وا ذبيحاً من قفا ، وا قتيلا بالظما.

ثم لا تزال تنادي: وا سيّداه وا حسيناه ، حتى تتفطّر لها القلوب ، ويتصدّع لها الصخر الأصم.

نادت فقطعت القلوب بشجوها

لكنّما انتظم البيان فريدا

إن تنع أعطت كلّ قلب حسرة

أو تدع صدّعت الجبال الميدا

تدعو بلهفة ثاكلٍ لعب الأسى

بفؤاده حتى انطوى مفؤودا

____________________

(١) الرباب بنت امرئ القيس بن عدي ، زوجة الحسينعليه‌السلام ، كانت معه في وقعة كربلاء ، وبعد استشهاده جيء بها مع السبايا إلى الشام ، ثمّ عادت إلى المدينة ، فخطبها الأشراف ، فأبت ، وبقيت بعد الحسين لم يظلّها سقف بيت حتى بليت وماتت كمداً ، وكانت شاعرة لها رثاء في الحسينعليه‌السلام . انظر: المحبر ٣: ١٣ ، أعلام النساء ١: ٣٧٨.

٢٨٦

[المجلس الحادي والعشرون]

ذكر المؤرّخون: أنّ وحشي بن حرب كان عبداً حبشياً لابنة الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ؛ وقيل: كان لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل فقالت له ابنة الحارث: إنّ أبي قتل يوم بدر ، فان أنت قتلت أحد الثلاثة محمّداً أو عليّاً أو حمزة فأنت حرّ ، فانّي لا أدري في القوم كفواً لأبي غيرهم.

فقال: أما محمد فانّ أصحابه لن يسلّموه ، وأمّا حمزة فوالله لو وجدّته نائماً ما أيقظته ، وأما علي فألتمسه.

قال وحشي: فكنت يوم اُحد ألتمسه فبينا أنا في طلبه ، إذ طلع عليّ فطلع رجل حذر مرس ، كثير الالتفات فقلت: ما هذا بصاحبي ، فبينا أنا كذلك إذ رأيت حمزة يفري الناس فرياً ، فكمنت إلى صخرة وهو مكبس له كيت ، فاعترض له سباع بن اُمّ اينار ، فقال له حمزة:

وأنت يا بن مقطّعة البذور ممّن يكثر علينا فاحتمله حتى إذا برقت قدماه رمى به فبرك عليه فشحط شحط الشاة ، ثمّ أقبل عليَّ مكبّاً حين رآني ، فلمّا بلغ المسيل وطأ على جرف فزلّت قدمه فهززت حربتي حتى رضيت منها ثمّ ضربت بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته ، وكرّت عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم ينادونه: أبا عمارة فلا يجيب ، فقلت: والله مات الرجل ، وذكرت هنداً وعداوتها لبني هاشم فأتيتها فقلت: ماذا لي إذ قتلت قاتل أبيك.

قالت: سلبي.

٢٨٧

فأخبرتها الخبر فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه وقالت: إذا جئت مكّة فلك عشرة دنانير ، ثم قالت: أرني مصرعه فدللتها عليه ، فبقرت بطنه ، وأخرجت كبده فمضغتها ثمّ لفظتها ، وقطّعت مذاكيره ، وجدعت أنفه ، وقصّت اُذنيه ، ثمّ جعلت ذلك خلخالين ودملجين حتى قدمت بذلك مكّة وقدمت بكبده معها.

قال محمد بن إسحاق: ومن الشعر الذي ارتجزت به هند يوم اُحد:

شفيت من حمزة نفسي باُحد

حين بقرت بطنه عن الكبد

أذهب عنّي ذاك ما كنت أجد

من لوعة الحزن الشديد المعتمد

والحرب تعلوكم بشأ بوب برد

تقدم اقداماً عليكم كالأسد

وجاءت صفيّة فجلست عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله ، وإذا نشجت ينشج ، وجعلت فاطمة تبكي على عمّها ، فلمّا بكت بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

جعلت فداك يا رسول الله ، يا نبي الرحمة ، كيف بك لو رأيت عقائلك يوم عاشوراء وقد ذبح نصب أعينهن ثمانية عشر من حماتهن ، وسبعون من أنصارهن ، وليتك ترى كريمتكم زينب إذ وقفت على أخيها الحسينعليه‌السلام حافية حاسرة ، ووجدته وهو ريحانتك مزمّلاً بالدماء ، موزّع الأعضاء ، عاري اللباس ، مقطوع الرأس ، مذبوحاً من القفا ، مفطور القلب من الظما ، فنادتك بصوت وقلب كئيب:

يا جدّاه يا رسول الله ، صلّى عليك مليك السما ، هذا حسينك بالعرا ، مزمّلاً بالدما ، مسلوب العمامة والردا ، ثم قالت:

بأبي من لا غائب فيرتجى ، ولا جريح فيداوى ، بأبي من نفسي له الفدا ،

٢٨٨

بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من شيبه يقطر بالدما ، بأبي من جدّه رسول إله السما ، فأبكت والله كلّ عدوّ وصديق.

وشتّان ما بين صفيّة إذ قتل أخوها حمزة ، وزينب إذ قتل أهلوها ، أمّا صفية فبقي لها رسول الله وأمير المؤمنين ، وأبطال بني عبد المطّلب ، وليوث بني هاشم ، وبقي عزّها ، وسرداق مجدها ، والمهاجرون والأنصار يتفانون دون خباها.. ويا لهف نفسي لزينب ، وبقية العقائل من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ أصبحنّ بعد حماتهن غنيمة للقوم الظالمين ، يضربونهن تارة ويسلبونهن اخرى ولقد كانت المرأة منهن تنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه ، ولم يبق لهنّ من يرتجينه لدفع الأعداء ، الاعمر بن سعد لعنه الله ، ولذا صحن في وجهه لما رأينه ، وبكين شاكيات إليه ، فقال لأصحابه: لا يدخل أحد منكم بيوت هذه النسوة ، ولا تتعرّضوا لهذا الغلام المريض ، فسألته النسوة أن يسترجع ما اُخذ منهنّ من الملاحف ليستترن به ، فقال: من أخذ منهن شيئاً فليردّه ، فو الله ما ردّ أحد شيئاً.

عجباً لمال الله أصبح مقسّما

في رائح للظالمين وغاد

عجباً لآل الله صاروا مغنما

لبني الطليق هدية وزياد

عجباً لذي الأفلاك لِم لا عطلت

والشهب لم تبرز بثوب حداد

٢٨٩

[المجلس الثاني والعشرون]

سار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خيبر في المحرم الحرام سنة سبع للهجرة في ألف واربعمائة مقاتل ، ومعهم مائتا فرس ، وكانت الوقعة في صفر ، والفتح فيها لأمير المؤمنينعليه‌السلام بلا ارتياب ، وظهر من فضله في هذه الغزوة ما أجمع على نقله المسلمون ، واختصّ فيها من المناقب بما لم يشاركه فيه أحد من العالمين ، وذلك أنّه قد اتفقت كلمة أهل الأخبار: على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى الراية فيها أبا بكر أولاً فرجع ، ثم أعطاها عمر ثانياً فرجع ولم يكن فتح.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - كما في غزوة خيبر من صحيح البخاري -:

لأعطينّ هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله.

قال: فبات الناس يدركون ليلتهم أيّهم يعطاها ، فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّهم يرجو أن يعطاها.

فقال: أين علي بن أبي طالب ؟

فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه.

قال: فارسلوا إليه ، فأتي به فبصق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية... إلى آخر الحديث.(١)

____________________

(١) المناقب للخوارزمي: ١٧٠ فصل «١٦» ح ٢٠٣ ، كنز العمّال ١٣: ١٢٣ ح ٣٦٣٩٣ أخرجه عن

٢٩٠

وفي تاريخ ابن الأثير: أنّ عليّاً نهض بالراية وعليه حلّة حمراء فأتى خيبر فأشرف عليه رجل من اليهود فقال: من أنت ؟

قال: أنا علي بن أبي طالب.

فقال اليهودي: غُلبتم يا معشر اليهود.

قال: وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني قد ثقبها مثل البيضة وهو يقول:

قد علمت خيبر انّي مرحب

شاكي السلاح بطل مجرّب

فقال عليعليه‌السلام :

أنا الذي سمّتني اُمّي حيدرة

كليث غابات كريه المنظره

أكيلهم بالسيف كيل السندرة

فاختلفا بضربتين ، فبدره عليعليه‌السلام فقدّ الجحفة والمغفر ورأسه

الدار قطنيّ والخطيب البغدادي وابن عساكر وفي ص ١١٦ ح ٣٦٣٧٧ خرّجه مختصراً عن تاريخ أصبهان لابن مندة ، بريقة المحمودية لأبي سعيد الخادميّ ١: ٣١١.

أقول: وقد ورد حديث الراية في خيبر ودور الامام عليعليه‌السلام في قتل مرحب زعيم اليهود وفتح قلاع خيبر في كثير من المصادر الحديثيّة والتاريخيّة المعتبرة عند الفريقين السنّة والشيعة بأسانيد مختلفة ومتون متواترة.

وقد خصّ العلامة مير حامد حسين أحد أجزاء كتابه عبقات الأنوار - الجزء التاسع - للبحث والتحقيق في هذا الحديث واثبت أسانيده ودلالته على خلافة الإمام عليعليه‌السلام للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجمع في كتابه ما بلغه من الحديث المستخرج في مجاميع أهل السنّة فيما يمتّ بهذه الواقعة التاريخيّة.

وكذلك جمع العلّامة المحقّق القاضي التستري في موسوعته إحقاق الحق وملحقاته طرق هذا الحديث فعدّدها فكانت العشرات من الصحابة وأكثر من مائة مصدر حديثيّ وتارخي. فليراجعها من أراد الإيقان.

٢٩١

حتى وقع في الأرض ، وأخذ المدينة.

ونقل ابن الأثير(١) ، عن أبي رافع(٢) مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:

خرجت مع عليعليه‌السلام حين بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خيبر فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضربه يهودي فوقع ترسه من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن فتترّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله على يديه ، ثم ألقاه من يده فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجتهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.

قال ابن الأثير: فلمّا فتحت خيبر جاء بلال بصفيّة واُخرى معها على قتلى اليهود ، فلمّا رأتهم التي مع صفية صرخت وصكّت وجهها ، وحثّت التراب على رأسها ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لبلال: أنزعت منك الرحمة جئت بهما على قتلاهما ؟!

بأبي أنت واُمّي يا نبي الرحمة ، لم ترض من بلال حين مرّ بيهوديتين على قتلاهما الكفرة والفجرة المحاربين لله ولرسوله ، فكيف بك لو ترى العقائل من خفراتك ، والكريمات من بناتك ، وهنّ على أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء ، مكشّفات الوجوه بين الأعداء ، يسوقوهنّ كما تساق الزنوج والديلم ، فمرّوا بهنّ على مصارع قتلاهن ، وفيهم حجّة الله ، ونجوم الأرض من آلك الطاهرين ،

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٣: ١٦٠.

(٢) أبو رافع القبطي مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واسمه أسلم ، كان للعبّاس بن عبد المطلب ، فوهبه للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا بشر النبي باسلام العباس أعتقه ، وشهد أبو رافع مشاهد النبي كلّها ، ولزم أمير المؤمنينعليه‌السلام من بعده وكان صاحب بيت ماله بالكوفة.

انظر الاستيعاب بهامش الاصابة ١: ٨٦ ، اسد الغابة ١: ٩٣.

٢٩٢

فوجدتهم على الرمضاء ، وقد اُسري برؤوسهم إلى الكوفة ، فنادت حينئذ عزيزتك بضعة الزهراء عقيلتكم زينب: وامحمّداه ، بناتك سبايا ، وذرّيّتك مقتّلة ، تسفى عليهم ريح الصبا ، وهذا حسينك بالعرا ، محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والردا.

وفي بعض المجموعات: أرادت أن ترمي بنفسها عليه ، فناداها الإمام زين العابدينعليه‌السلام بصوت أضعفته العلّة:

عمّتاه ، ارحمي ضعف بدني ، ارحمي الجامعة في عنقي ، ودّعي أخاك وأنت على ظهر الناقة.

فجعلت تقول: ودّعتك السميع العليم يا بن اُمّي ، والله لو خيّرت المقام عندك والرحيل لاخترت المقام عندك ، ولو انّ السباع أكلت لحمي.

واعتنقت سكينة جسد أبيها فاجتمعت عليها عدّة من الأعراب حتى جرّوهاعنه ، فوا حرّ قلباه ، كيف عانقته ونحره منحور ، وصدره مكسور ، ورأسه على القنا مشهور ، ويا لهف نفسي كيف رأته عاري الثياب ، معفّراً بالتراب ، أم كيف فارقته مطروحاً بالعراء ، لوحوش الأرض وطير السماء ، لا مغسّلاً ولا مكفّناً ولا مدفوناً.

بلى يا رسول الله ، كان دمه غسله ، والتراب كافوره ، والقنا الخطي نعشه ، وفي قلب من والاه قبره.

لهفي له وحريمه

من حول مصرعه نوادب

يندبنه بمدامع

من حر أجفان سواكب

أحسين بعدك لا هنا

عيش ولا لذّت مشارب

والجسم منك مجدّل

في الترب منعفر الترائب

ها نحن بعدك يا غريـ

ـ ب الدار أمسينا غرائب

٢٩٣

[المجلس الثالث والعشرون]

لمـّا جهّز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جيش مؤتة جعل الأمير يومئذ ابن عمّه جعفر بن أبي طالب ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إن اُصيب جعفر فزيد بن حارثة ، فإن اُصيب زيد ، فعبد الله بن رواحة.

وقيل: أنّه قدّم زيداً ، فقال جعفر: ما كنت أرهب أن تستعمل عليَّ زيداً. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : امض فانّك لا تدري أي ذلك خير.

قال ابن الأثير: ثمّ ساروا فالتقتهم جموع الروم والعرب بقرية من البلقاء يقال لها (مشارف) ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها (مؤتة) فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فقاتل زيد براية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى شاط في رماح القوم ، ثم أخذها جعفر فقاتل وهو يقول:

يا حبذا الجنّة واقترابها

طيّبة وبارد شرابها

والروم روم قد دنى عذابها

كافرة بعيدة أنسابها

علي إذ لاقيتها ضرابها

فلمّا اشتدّ القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ، ثم قاتل القوم حتى قتل - وكان أول من عقر فرسه في الاسلام - فوجد به بضع وثمانون جرحاً ، ما بين ضربة ورمية وطعنة.

بأبي أنت واُمّي يا أبا عبد الله.

بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله.

لئن وجدوا في جسد عمّك بضعاً وثمانين جرحاً ، فلقد اصبت يوم الطف

٢٩٤

بألف وتسعمائة ، ما بين ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورضخة بحجر.

رماك الدارمي يا ريحانة المصطفى بسهم فأثبته في حنكك الشريف.

وضربك ابن النسر الكندي على رأسك بالسيف يا حشاشة الزهراء حتى امتلأ برنسك دماً ، فاستدعيت بخرقة شددت بها رأسك تحت العمامة.

ووقفت يا سيّدي لتستريح ساعة ، وقد ضعفت عن القتال ، فأتاك الحجر في جبهتك المباركة ، فأخذت الثوب لتمسح الدم عن وجهك فأتاك سهم مسدّد مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبك الطاهر ، فأخرجته من ظهرك ، فانبعث الدم كأنّه ميزاب.

سهم رمى أحشاك يا بن المصطفى

سهم به كبد الهداية قد رمي

يا أرض ميدي ، يا سماء تفطّري

يا شمس غيبي ، يا جبال تقسي

قال ابن الأثير: فلمّا قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة ، فتردّد بعض التردّد ، ثم قال يخاطب نفسه:

أقسمت يا نفس لتنزلنّه

طائعة أو لا لتكرهنّه

إن أجلب الناس وشدّوا الرنّة

ما لي أراك تكرهين الجنّة

قد طال ما قد كنت مطمئنّة

هل كنت الانطفة في شنّة

وقال أيضاً:

يا نفس إن لم تقتلي تموتي

هذا حمام الموت قد صليتي

وما تمنّيت فقد اعطيت

إن تفعلي فعلهما هديتِ

وتقدّم فقاتل حتى قتل.

ثمّ ان الخبر جاء من السماء في ساعته إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فصعد المنبر وأمر فنودي الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فقال:

٢٩٥

ثار خبر - ثلاثاً - عن جيشكم هذا الغازي ، إنّهم لقوا العدو ، ثمّ نعى لهم زيداً وجعفراً وعبد الله ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله - بعدها بليلة - مرّ بي جعفر البارحة في نفر من الملائكة ، له جناحان مخضّب القوادم بالدم.(١)

وفي ترجمة جعفر من كتاب الاستيعاب(٢) : بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه إلى مؤتة في جمادي الأولى سنة ثمان من الهجرة ، فقاتل فيها جعفر حتى قطعت يداه جميعاً ، ثمّ قتل ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : انّ الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث يشاء.

وقد لحقه في هذه الفضيلة شبل أخيه قمر بني هاشم فانّه قطعت يداه في سبيل الله تعالى وضرب على هامته بعمود من حديد.

ولئن أصيب ذو الجناحين ببضع وثمانين جراحة ، فلقد روي في حديث بني أسد: أنّه لمـّا دفنوا العبّاسعليه‌السلام كانوا كلّما رفعوا منه جانباً سقط الآخر لكثرة ضرب السيوف ، وطعن الرماح ، وامتاز العبّاس بعظيم المواساة ، فانّه لمـّا اقتحم المشرعة قال: لا أشرب وأبو عبد الله عطشان.

وهل سمعت بأحد من الأوّلين والآخرين فدى قربة من الماء رجاء أن يشربها أخوه وعياله وأطفاله بنفسه ؟ ووقاها حرصاً على إيصالها إليهم بمهجته ؟

وليتك يا ساقي عطاشى كربلاء أرويت كبدك الحرّى بجرعة منها قبل مقتلك ؟ وليتهم إذ قتلوك أبقوا دماءها لغسلك ، وبالعزيز على سكينة عزيزة أخيك أن تراك ذبيحاً دون يسير من الماء توصله إليها ، ويعزّ على عقيلتكم زينب أن

____________________

(١) الإصابة ١: ٢٣٧ ، البداية والنهاية ٤: ٢٥٥ ، تهذيب التهذيب ٢: ٩٨ ، أسد الغابة ١: ٢٨٦ ، الطبقات الكبرى ٤: ٢٢ ، حلية الأولياء ١: ١١٤.

(٢) الاستيعاب ١: ٣١٢.

٢٩٦

تراك مقطّعاً نصب عينيها ، وليتك ترى أخاك الوحيد واقفاً عليك وهو ينادي: الآن انكسر ظهري ، الآن تبدّد عسكري وقلّت حيلتي ، ثمّ بكى بكاء شديداً.

أحقّ الناس أن يبكى عليه

فتى أبكى الحسين بكربلاء

أخوه وابن والده عليّ

أبو الفضل المضرّج بالدماء

ومن واساه لا يثنيه شيء

وجاد له عطش بماء

ونقل ابن الأثير عن أسماء زوجة جعفر ذي الجناحي ن رضي ‌الله‌ عنها قال ت:

أتاني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد غسلت أولاد جعفر ودهنتهم ، فأخذهم وشمّهم ودمعت عيناه ، فقلت: يا رسول الله أبلغك عن جعفر شيء ؟

قال: نعم ، اُصيب هذا اليوم ، ثمّ أمر أهله أن يصنعوا لآل جعفر طعاماً فهو أول طعام عمل في الإسلام.

بأبي أنت واُمّي يا نبي الرحمة ، دمعت عيناك إذ رأيت يتامى ابن عمّك جعفر ، مع أنّهم كانوا في هيئة حسنة ، وزي بهيج ، وأمرت لهم بطعام ، مع انّهم لم يكونوا جياعاً ، رأفة منك ورحمة.

فكيف بك لو رأيت يتاماكم يوم عاشوراء جياعاً عطاشى ، حفاة عراة ، مدهوشين والهين ، مربقين بالحبال ، يخافون أن يتخطّفهم الناس من حولهم ، هذا يضربهم ، وهذا يسلبهم ، وذاك يضرم النار في خيامهم ، وآخر ينتزع الملاحف عن ظهورهم ، وظهور اُمّهاتهم وعمّاتهم.

وليتك يا نبي الرحمة تراهم ليلة الحادي عشر من المحرم وقد أحاطت بهم الأعداء ، وهم يرون ثمانية عشر من حماتهم ، واثنين وسبعين من شيعتهم جثثاً

٢٩٧

على الرمضاء ، ورؤوسهم على أطراف الرماح.

يا رسول الله لو عاينتهم

وهم ما بين قتل وسبا

من رميض يمنع الظل ومن

عاطش يسقى أنابيب القنا

ومسوق عاثر يسعى به

خلف محمول على غير وطا

لرأت عيناك منهم منظراً

للحشا شجواً وللعين قذى

٢٩٨

[المجلس الرابع والعشرون]

ذكر الزبير بن بكّار ، عن محمد بن الحسن المخزومي ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، عن أبيه ، عن أبي وجرة قال:

لمـّا حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية حرب القادسية ، ومعها بنوها أربعة رجال ، فقالت لهم من الليل:

يا بني إنّكم اسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، ووالله الذي لا إله إلا هو انّكم لبنو رجل واحد ، كما انّكم بنوا امرأة واحدة ، ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، ولا هجنت حسبكم ، ولا غيّرت نسبكم ، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل ، في حرب الكافرين ، واعلموا أنّ الدار الباقية ، خير من الدار الفانية ، يقول الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صَابِرُوا وَ رَابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ‌ ) (١) ، فإذا أصبحتم غداً سالمين ان شاء الله تعالى ، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين ، وبالله على أعدائه مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها ، وأضرمت لظى عن سياقها ، وجلّلت على أرواقها ، فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة ، في دار الخلد والمقامة.

فخرج بنوها قابلين لنصحها ، عازمين على قولها ، فلمّا أضاء لهم الصبح ، باكروا مراكزهم وأنشأ أوّلهم يقول:

____________________

(١) سورة آل عمران: ٢٠٠.

٢٩٩

يا اُخوتي انّ العجوز الناصحة

قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة

مقالة ذات بيان واضحة

فباكروا الحرب الضروس الكالحة

وانّما تلقون عند الصائحة

من آل ساسان الكلاب النائحة

قد أيقفوا منكم بوقع الجائحة

وأنتم بين حياة صالحة

أو ميتة تورث غنماً رايحة

وتقدّم فقاتل حتى قتل رحمه‌ الله تعالى ، ثمّ برز الثاني وهو يقول:

إنّ العجوز ذات حزم وجلد

والنظر الأوفق والرأي السدد

قد أمرتنا بالسداد والرشد

نصيحة منها وبرّاً بالولد

فباكروا الحرب حماة في العدد

إما لفوز بارد على الكبد

أو ميتة تورثكم عزّ الأبد

في جنّة الفردوس والعيش الرغد

فقاتل حتى قتل رحمه ‌الله تعالى ، ثم حمل الثالث وهو يقول:

والله لا نعصي العجوز حرفاً

قد أمرتنا حزناً وعطفاً

نصحاً وبرّاً صادقاً ولطفا

فبادروا الحرب الضروس زحفاً

حتى تلاقوا آل كسرى لفّا

أو يكشفوكم عن حماكم كشفا

إنّا نرى التقصير منكم ضعفا

والقتل فيكم نجدة وزلفى

فقاتل حتى قتل رحمه‌ الله تعالى ، ثم برز الرابع وهو يقول:

لست للخنساء ولا للأخرم

ولا لعمرو ذي الثناء الأقدم

ان لم أرد في الجيش جيش الأعجم

ماضٍ على الحول خضم خضرم

إمّا لفوز عاجل أو مغنم

أو لوفاد في السبيل الأكرم

ثمّ قاتل حتى قتل رحمه‌ الله تعالى ، فبلغها الخبر فقالت: الحمد لله الذي

٣٠٠

شرّفني بقتلهم ، وأرجو من ربّي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.(١)

ذكرت من حال هذه المرأة ، الصالحة ، حال اُمّ وهب بن حباب(٢) الكلبي يوم عاشوراء حين برز إلى ثلاثين ألفاً فأحسن في الجلاد ، وبالغ في الجهاد ، وكانت معه امرأته ووالدته فرجع إليهما وقال:

يا اُمّاه أرضيت أم لا ؟

فقالت: يا بني ما رضيت حتى تقتل بين يدي الحسينعليه‌السلام .

وقالت امرأته: بالله عليك لا تفجعني بنفسك.

فقالت له اُمّه: يا بني أعزب عن قولها ، وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة.

فرجع ولم يزل يقاتل حتى قطعت يداه في سبيل الله تعالى ، فأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: قاتل فداك أبي واُمّي يا وهب دون الطيّبين من حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال لها: كيف كنت تنهيني عن القتال ، والآن تأمرينني به ؟

____________________

(١) الاصابة ٤: ٢٨٦.

(٢) هي بنت عبد ، وزوجة عبد الله بن عمير الكلبي من قبيلة بني عليم ، لمـّا عزم زوجها على الخروج من الكوفة لنصرة الحسين ، تعلقت به ليصطحبها معه ، والتحقوا ليلاً بأنصار الحسين في كربلاء ، وفي يوم الطف حينما برز زوجها للقتال ، تناولت هي عموداً وبرزت إلى القتال ، إلا أن الإمام الحسين ردّها وقال: ليس على النساء جهاد ، وبعد مقتل زوجها سارت إليه حتى جلست عند رأسه تمسح التراب عنه وتقول: هنيئاً لك الجنّة ، أسأل الله الذي رزقك الجنّة أن يصحبني معك ، فقال شمر لغلامه رُستم: إضرب رأسها بالعمود ، فضرب رأسها فشدخه ، فماتت مكانها. انظر: تاريخ الطبري ٣: ٣٢٣ - ٣٢٦ ، الارشاد ٢: ١٠١.

٣٠١

قالت: لا تلمني يا وهب ، فانّي سمعت من سيّدي ومولاي الحسين كلمة كسرت قلبي ، سمعته يقول: أما من ناصر فينصرنا ؟ أما من موحّد يخاف الله فينا ؟ أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله ؟

فأقبل كي يردّها إلى النساء ، فأخذت بجانب ثوبه ، وقالت: لن أعود حتى أموت معك.

فقال الحسينعليه‌السلام : جزيتم عن أهل بيتي خيراً ، ارجعي إلى النساء رحمك الله ، فانصرفت إليهنّ ، ولم يزل يقاتل حتى ق تل رحمه ‌الله ت عالى.

رجال تواصوا حيث طابت اُصولهم

وأنفسهم بالصبر حتى قضوا صبرا

حماة حموا خدراً أبى الله هتكه

فعظّمه شأناً وشرّفه قدرا

٣٠٢

الفصل الثالث

في سيرة أمير المؤمنينعليه‌السلام ومواعظه وارشاداته

٣٠٣

٣٠٤

[المجلس الخامس والعشرون]

ومن كلام لأمير المؤمنين وسيد الوصيين صلوات الله وسلامه عليه:

ألا وانّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ، ويستضيء بنور علمه ، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دُنياه بطمريه(١) ، ومن طُعمه(٢) بقُرصيه(٣) ، ألا وإنكم لا تقَدِرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد ، [وعِفّة وسَداد ؛] والله ما كنزت من دنياكم تبراً(٤) ، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً(٥) ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً ، ولا حُزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلا كقوت أتانٍ دبرةٍ(٦) ، ولَهي في عيني أوهى [وأهونُ] من عفصة مَقرةٍ(٧) ، بلى ! كانت في أيدينا فدك(٨) مِن كلّ ما أظلّته

____________________

(١) الطِمر - بالكسر -: الثوب الخلق البالي.

(٢) طُعمه - بضم الطاء -: ما يطعمه ويفطر عليه.

(٣) قُرصيه: تثنية قرص ، وهو الرغيف.

(٤) التبر - بكسر فسكون -: فُتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ.

(٥) الوفر: المال.

(٦) أتان دبرة: هي التي عُقر ظهرها فقلّ أكلها.

(٧) مقرة: مرّة.

(٨) فدك: هي قرية بالحجاز ، بينها وبين المدينة يومان ، وقيل ثلاثة ، أفاءها الله تعالى على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله صلحاً ، فيها عين فوّارة ونخل ، وقد كانت ملكاً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خالصة ، لأنها لم يوجب عليها بخيل ولا ركاب ، وقد أعطاها ابنته الزهراءعليها‌السلام فكانت بيدها في عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وروي إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لفاطمةعليها‌السلام : قد كان لأمّك خديجة على أبيك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله مهراً ، وأنّ أباك قد جعلها لك بذلك ، وانحلتكها تكون لك ولولدك بعدك ، وكتب كتاب النحلة عليعليه‌السلام في أديم ، وشهدعليه‌السلام على ذلك وأمّ أيمن ومولى لرسول

٣٠٥

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وجاء في الأخبار كما في رواية الشيخ عبد الله بن حمّاد الأنصاري - أن واردها - أربعة وعشرون ألف دينار في كلّ سنة ، وفي رواية غيره سبعون ألف دينار.

راجع: معجم البلدان للحموي: ج ٤ ص ٢٣٨ ، بحار الأنوار: ج ١٧ ص ٣٧٨ وج ٢١ ص ٢٣ وج٣٣ ص ٤٧٤ ، سفينة البحار للقمّي: ج ٢ ص ٣٥١.

وروي عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: لما بويع أبو بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمةعليها‌السلام بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منها.

فجاءت فاطمة الزهراءعليها‌السلام إلى أبي بكر ثم قالت: لِمَ تمنعني ميراثي من أبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخرجت وكيلي من فدك ، وقد جعلها لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الله تعالى ؟

فقال: هاني على ذلك بشهود ، فجاءت بأمّ أيمن ، فقالت له اُمّ أيمن: لا أشهد يا أبا بكر حتى احتج عليك بما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنشدك بالله ألست تعلم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «اُمّ أيمن امرأة من أهل الجنة».

فقال: بلى.

قالت: «فاشهد: أنّ الله عز وجل أوحى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى ) «الروم: ٣٨» فجعل فدكاً لها طعمة بأمر الله.

فجاء عليعليه‌السلام فشهد بمثل ذلك ، فكتب لها كتاباً ودفعه إليها ، فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب ؟ فقال: إنّ فاطمةعليها‌السلام ادعت في فدك ، وشهدت لها أم أيمن وعليعليه‌السلام ، فكتبته لها ، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فتفل فيه ومزّقه ، فخرجت فاطمةعليها‌السلام تبكي.

فلما كان بعد ذلك جاء عليعليه‌السلام إلى أبو بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر لِمَ منعت فاطمة ميراثها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ وقد ملكته في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين ، فإن أقامت شهوداً أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جعله لها وإلا فلا حقّ لها فيه.

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين.

٣٠٦

قال: لا.

قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ، ثم ادعيت أنا فيه من تسأل البينة ؟

قال: إياك أسأل البينة.

قال: فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يديها ؟ وقد ملكته في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده ، ولم تسأل المسلمين بينة على ما ادعوها شهوداً ، كما سألتني على ما ادعيت عليهم ؟

فسكت أبو بكر فقال عمر: يا علي دعنا من كلامك ، فإنا لا نقوى على حجتك ، فإن أتيت بشهود عدول ، وإلا فهو فيء للمسلمين ، لا حق لك ولا لفاطمةعليها‌السلام فيه.

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : يا أبا بكر تقرأ كتاب الله ؟

قال: نعم.

قال: أخبرني عن قول الله عز وجل:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَکُمْ تَطْهِيراً ) «الأحزاب: ٣٣» فيمن نزلت ؟ فينا أم في غيرنا ؟

قال: بل فيكم.

قال: فلو أنّ شهوداً شهدوا على فاطمةعليها‌السلام بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بفاحشة ما كنت صانعاً ؟

قال: كنت أُقيم عليها الحد ، كما أُقيمه على نساء العالمين.

قال: إذن كنت عند الله من الكافرين.

قال: ولِمَ ؟

قال: لأنّك كنت رددت شهادة الله به الطهارة. وقبلت شهادة الناس عليها ، كما رددت حكم الله وحكم رسوله ، أن جعل لها فدكاً قد قبضته في حياته ، ثم قبلت شهادة إعرابي بائل على عقبيه ، عليها ، وأخذت منها فدكاً ، وزعمت أنّه فيء للمسلمين ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «البينة على المدّعي ، واليمين على المدّعي عليه» فرددت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : البينة على من ادعى ، واليمين على من ادعى عليه !

قال: فدمدم الناس وأنكروا ، ونظر بعضهم إلى بعض ، وقالوا: صدق والله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ! ورجع إلى منزله.

قال: ثمّ دخلت فاطمة المسجد وطافت بقبر أبيها وهي تقول:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

٣٠٧

السماء ، فشحّت عليها نفوس قومٍ ، [وسَخت عنها نفوس قوم آخرين] ، ونِعم الحَكمُ الله ، وما أصنع بفدكٍ وغير فدك ، والنفس مظانّها(١) في غدٍ جَدث(٢) ، تنقطع في ظلمته آثارها ، وتغيب أخبارها ، [وحفرة لو زيدَ في فُسحتها ، وأوسعت يدا حافرها ، لاضغطها الحجر والمدر(٣) ، وسدّ فُرَجَها(٤) التراب المتراكم ، وإنّما هي نفسي اُروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلقِ(٥) ،] ولو شئت لاهتديت الطريق ، إلى مُصفّى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ ، و[لكن] هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة - ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع - أو أبيت مِبطاناً وحولي بُطون غرثى(٦) ، وأكباد حرّى(٧) ، أو أكون كما قال القائل:

إنّا قد فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب

قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا

فغاب عنا فكلّ الخير محتجب

وكنت بدراً ونوراً يُستضاء به

عليك ينزل من ذي العزّة الكتب

تجهّمتنا رجال واستخف بنا

إذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت

منا العيون بتهمال لها سكب

انظر: الاحتجاج للطبرسي: ج ١ ص ٩٠ - ٩٣ ، علل الشرائع للصدوق: ج ١ ص ١٩٢ ، ب ١٥١ ح ١ ، تفسير القمّي: ج ٢ ص ١٥٥ - ١٥٧.

____________________

(١) المظان: جمع مظنة ، وهو المكان الذي يظنّ فيه وجود الشيء.

(٢) جدث - بالتحريك -: قبر.

(٣) المدر: جمع مدرة ، مثل قصب وقصبة وهو التراب المتلبد ، أو قطع الطين.

(٤) فُرجَها: جمع فُرجة ، مثال غُرف وغُرفة: كل منفرج بين شيئين.

(٥) المزلق: موضع الزلل ، وهو المكان الذي يخشى فيه أن تزل القدمان ، والمراد هنا الصراط.

(٦) غرثى: جائعة.

(٧) حرّى - مؤنث حرّان -: أي عطشان.

٣٠٨

وحسبك عاراً(١) أن تبيت ببطنةٍ(٢)

وحولك أكباد تحنّ إلى القِدّ(٣)

أأطمع(٤) أن يقال أمير المؤمنين ، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر ، وأكون أسوةً لهم في خشونة(٥) العيش ! فما خُلقت ليشغلني أكل الطيّبات ، كالبهيمة المربوطة ، همُّها علفها ، أو المرسلة شُغُلُها تَقمُّمها(٦) ، تكترش(٧) من أعلافها ، وتلهو عمّا يراد بها ! وكأنّي بقائلكم يقول: «إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ، ومنازلة الشجعان» ، ألا وإنّ الشجرة البرّية(٨) أصلب عوداً ، والرواتع الخضرة(٩) أرقّ جلوداً ، والنابتات العِذية(١٠) أقوى وقوداً ، [وأبطأ خُموداً ،] وأنا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كالصنو من الصنو(١١) ، والذراع من العَضُد ، والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها.(١٢)

بأبي أنت وامي كم تظاهرت العرب على قتالك ، فظهرت عليها( وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ

____________________

(١) كذا في الأصل ، وفي المصدر: داء.

(٢) البطنة - بكسر الباء -: البطر والأشر.

(٣) القِد - بالكسر -: سير من جلد غير مدبوغ.

(٤) كذا في الأصل ، وفي المصدر: أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا.

(٥) كذا في الأصل ، وفي المصدر: جشوبة.

(٦) تقمّمها: التقاطها للقمامة ، أي الكناسة.

(٧) تكترش: تملأ كرشها.

(٨) الشجرة البرّية: التي تنبت في البر الذي لا ماء فيه.

(٩) الرواتع الخضرة: الأشجار والأعشاب الغضّة الناعمة التي تنبت في الأرض الندية.

(١٠) النابتات العذبة: التي تنبت عذباً ، والعذي - بسكون الذال - الزرع الذي لا يسقيه إلا ماء المطر.

(١١) كذا في الأصل ، وفي المصدر: كالضوء من الضوء.

(١٢) نهج البلاغة (شرح الدكتور صبحي الصالح): ٤١٦ - ٤٢٠ ، كتاب رقم (٤٥) ، كتاب أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة.

٣٠٩

كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ) (١) بعلي أمير المؤمنين وسيد المجاهدين.

وهل الجهاد لأحد من الناس إلا له ؟ وهل قامت دعائم الدين ، أو رست قواعد الشرع ، أو علت كلمة التوحيد إلا بجهاده ؟

وهل شهد التنزيل لغيره بأنّه شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله ؟

وهل باهى الله عز وجل ملائكة السماء ليلة المبيت على فراش النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بغيره ؟

وهل تولى خدمة النبي وجميع بني هاشم أيّام حصرهم في الشعب غيره ؟ وهل قاسى الخطر ولاقى الأهوال في إيصال القوت إليهم يومئذ سواه ؟

وهل نصر الله نبيّه في جميع المواطن إلا به ؟ وهل قتل عمراً ومرحباً ، وجندل عتبة وشيبة والوليد وغيره ؟

وهل أفنى بني عبد الدار وقتل بني سفيان بن عوف الأربعة يوم اُحد سواه ؟

وهل أذلّ عتاة الشرك وجبابرة الكفرة إلا صارم سطوته ؟

وهل فتح حصون خيبر ودحا بابها ، وقلع الصخرة عن فم القليب ، وسلب العزّة من جبابرة اليمن ومهّد أمرها إلا ماضي عزمه ؟

وهل قاتل الناكثين والمارقين والقاسطين غيره ؟

وهل باهل باسم غيره جبرائيل:

لا سيف إلا ذو الفقار

ولافتى إلا علي

ولقد ورث منه هذه الشجاعة شبله أبو الأئمّة ، وشفيع الامّة أبو عبد الله

____________________

(١) الأحزاب: ٢٥.

٣١٠

الحسينعليه‌السلام حتى قال بعض الرواة:

والله ما رأيت مكثوراً قط قتل ولده ، وأهل بيته وأنصاره أربط جأشاً من الحسينعليه‌السلام ، وان كانت الرجال لتشدّ عليه فيشدّ عليها فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، ولقد كان يحمل فيهم وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً فينهزمون بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول: لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم ، حتى قتل منها الفاً وتسعمائة عدا المجروحين ، فناداهم ابن سعد لعنه الله:

الويل لكم يا أهل الكوفة أتدرون لمن تقاتلون ؟ هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتّال العرب ، فاحملوا عليه من كلّ جانب ، وكانت الرماة أربعة آلاف فرموه بالسهام ، حتى حالوا بينه وبين رحله ، فصاح بهم:

ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون.

فناداه شمر لعنه الله: ما تقول يا بن فاطمة ؟

قالعليه‌السلام : أنا اُقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حياً.

فقال الشمر لعنه الله: لك ذلك يا بن فاطمة ، ثم صاح: إليكم عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه فلعمري انّه كفؤ كريم.

فقصد القوم بالقتال وهو مع ذلك يطلب شربة من الماء ، وكلّما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه حتى أجلوه عنه فنادى:

هل من مغيث فيغيثنا ؟

٣١١

هل من ناصر فينصرنا ؟

ووقف على جثث أهل بيته وأصحابه فناداهم بأسمائهم ، فاضطربت أجسامهم اضطراب السمكة في الماء: فناداهم:

قوموا عجالاً فما العرى

بدار ولا هذا المقام مقام

فماجت على وجه الصعيد جسومهم

ولو أذن الله القيام لقاموا

٣١٢

[المجلس السادس والعشرون]

ومن كلام لهعليه‌السلام :

والله لَأَن أبيتَ على حَسَك السعدان(١) مُسهّداً(٢) ، أو اُجَرّ في الأغلال مُصفّداً ، أحبّ إليَّ مِن أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد ، وغاصِباً لشيء من الحُطام ، وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يُسرع إلى البِلى قفولها(٣) ، ويطول في الثرى حلولها.

والله لقد رأيت عقيلاً(٤) وقد أملق حتى أستماحني(٥) مِن بُرّكم هذا صاعاً. ورأيت صبيانه شُعث الشعور(٦) ، غُبر الألوان من فقرهم(٧) كأنّما سُوّدَت وجوههم بالعِظلِم(٨) ، وعاودني مؤكداً ، وكرّر عليَّ القول مردّداً ، فأصغيت إليه سمعي ، فظنّ أنّي أبيعه ديني ، وأتّبع قياده مُفارقاً طريقتي ، فأحميتُ له حديدة ثم أدنيتها من

____________________

(١) كأنّه يريد من «الحسك» الشوك. والسعدان: نبت ترعاه الابل له شوك تشبه به حلمة الثدي.

(٢) المسهّد - من سهّد -: إذا أسهره ، والمصفّد: المقيد.

(٣) قفولها: رجوعها.

(٤) عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي ، أبو يزيد ، أعلم قريش بأيامها ومآثرها ومثالبها وأنسابها ، صحابي فصيح اللسان شديد الجواب ، وهو أخو علي وجعفر لأبيهما ، وكان أسنّ منهما ، هاجر إلى المدينة سنة ٨ ه ، عمي في أواخر أيّامه ، توفي أوّل أيام يزيد ؛ وقيل: في خلافة معاوية.

انظر: الاصابة ترجمة رقم ٥٦٣٠ ، البيان والتبيين ١: ١٧٤ ، الطبقات الكبرى ٤: ٢٨.

(٥) قالرحمه‌الله : أملق: افتقر اشدّ الفقر ، واستماحني: استعطاني.

(٦) قالرحمه‌الله : الشعث: جمع أشعث ، وهو من الشعر المتلبّد بالوسخ.

(٧) قالرحمه‌الله : الغبر: جمع أغبر ، وهو متغيّر اللون شاحبة.

(٨) قالرحمه‌الله : العظلم - كزبرج - سواد يصيغ به ؛ قيل: وهو النيلج.

٣١٣

جسمه ليعبتر بها ، فضجّ ضجيج ذي دنف(١) مِن ألمها ، وكاد أن يحترق من ميسمها(٢) ، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل ! أتئنّ من حديدة أحماها انسانها للعبه ، وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه ؟ أتئنّ من الأذى ولا أئنّ من لُظى ؟! وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة(٣) في وعائها ، ومعجونة شَنِئتها(٤) كأنّما عجنت بريق حيّةٍ أو قيئها ، فقلت: أصلةٌ ، أم زكاةٌ ، أم صدقة ؟ فكلّ ذلك(٥) محرّم علينا أهل البيت !(٦)

بأبي أنت وامي يا أمير المؤمنين كيف بك لو رأيت أطفالك وأيتام ولدك أبي عبد الله وهم في أشر الذلّة ووثاق السبي ، يساقون عطاشى جياعاً مربطين بالحبال ، وأهل الكوفة يتصدّقون عليهم وهم في المحامل مقرّنين بالأصفاد ، فجعلت صبيتكم لشدّة جوعهم يتناولون بعض الخبز والتمر والجوز ، فصاحت خفرتك وعقيلتك امّ كلثوم:

ويلكم يا أهل الكوفة ، إنّ الصدقة علينا حرام ، وجعلت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وترمي به إلى الأرض ، والناس يبكون على ما أصابهم ، فأطلعت رأسها من المحمل وقالت لهم:

مه يا أهل الكوفة ، تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم ؟ فالحكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء.

____________________

(١) الدنف - بالتحريك - المرض.

(٢) الميسم - بكسر الميم وفتح السين -: المكواة.

(٣) الملفوفة: نوع من الحلواء أهداها الأشعث بن قيس إلى عليعليه‌السلام .

(٤) شنئتها: كرهتها.

(٥) كذا في الأصل ، وفي المصدر: فذلك.

(٦) نهج البلاغة (شرح الدكتور صبحي الصالح): ٣٤٦ رقم (٢٢٤).

٣١٤

فبينا هي تخاطبهم إذا بضجّة قد ارتفعت ، وإذا هم بالرؤوس قد جاؤوا بها على الرماح ، يقدمهم رأس الحسينعليه‌السلام ، وهو رأس زهري قمري ، أشبه الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولحيته كسواد السبج ، قد نصل منها الخضاب ، ووجهه دائرة قمر طالع ، والريح تلعب بكريمته الشريفة يميناً وشمالاً ، فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدم المحمل حتى سال الدم من تحت قناعها ، وأومأت إليه بحرقة.

يا هلالاً لمـّا استتمّ كمالاً

غاله خسفه فأبدى غروبا

ما توهّمت يا شقيق فؤادي

كان هذا مقدّراً مكتوبا

٣١٥

[المجلس السابع والعشرون]

روي المنذر بن الجارودي(١) فيما حدّث به أبو حنيفة الفضل بن الحباب الجمحي ، عن ابن عائشة ، عن معن بن عيسى ، عن المنذر بن الجارود قال:

لمـّا قدم علي رضي الله عن البصرة دخل ممّا يلي الطف فأتى الزاوية فخرجت انظر إليه ، فورد موكب نحو ألف فارس يقدمهم فارس على فرس أشهب ، عليه قلنسوة وثياب بيض ، متقلّداً سيفاً ، معه راية وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض والصفرة ، مدجّجين في الحديد والسلاح ، فقلت: من هذا ؟

فقيل: أبو أيّوب الأنصاري صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهؤلاء الأنصار وغيرهم ، ثم تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض متقلّداً سيفاً ، متنكّب قوساً معه راية على فرس أشقر في نحو ألف فارس ، فقلت: من هذا ؟

فقيل: هذا خزيمة بن ثابت الأنصاري(٢) ذو الشهادتين.

____________________

(١) المنذر بن الجارود بن عمرو بن خنيس العبدي ، ولد في عهد النبي وشهد الجمل مع عليعليه‌السلام ، وولاه علي إمرة اصطخَر ، ثمّ بلغه عنه ما ساءه فكتب إليه كتاباً وعزله ، ولاه عبيد الله بن زياد ثغر الهند سنة ٦١ ه ، فمات فيها آخر سنة ٦١ ه.

انظر: الإصابة ترجمة رقم ٨٣٣٦ ، جمهرة الأنساب: ٢٧٩ ، الأغاني ١١: ١١٧.

(٢) خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين: من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وشهد بدراً وما بعدها ، جعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شهادته شهادة رجلين ، شهد الجمل وصفين واستشهد فيها وهو القائل يومئذ:

٣١٦

ثمّ مرّ بنا فارس آخر على فرس كميت معتم بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء ، وعليه قباء أبيض مصقول متقلّد سيفاً ، متنكّب قوساً في نحو ألف فارس من الناس ومعه راية فقلت: من هذا ؟

فقيل لي: أبو قتادة بن ربعي(١) .

ثم مر بنا فارس آخر على فرس أشهب عليه ثياب بيض وعمامة سوداء وقد سدلها بين يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة ، عليه سكينة ووقار ، رافع صوته بقراءة القرآن متقلّد سيفاً ، متنكّب قوساً معه راية بيضاء في ألف فارس من الناس مختلفي التيجان ، وحوله مشيخة وكهول وشباب ، كأنّ قد اوقفوا للحساب أثر السجود قد أثّر في جباههم ، فقلت: من هذا ؟

فقيل: عمّار بن ياسر(٢) في عدّة من الصحابة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم.

ثم مر فارس على فرس أشقر عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء ، متنكّب قوساً متقلّد سيفاً ، تخطّ رجلاه في الأرض في ألف فارس من الناس الغالب على تيجانهم الصفرة والبياض معه رايات صفراء قلت: من هذا ؟

إذا نحن بايعنا علياً فحسبنا

أبو حسن ممّا نخاف من الفتن

وفيه الذي فيه من الخير كلّه

وما فيهم بعض الذي فيه من حسن

انظر ترجمته في أسد الغابة ٢: ١٣٣ ، الاصابة ١: ٤٢٥ - ٤٢٦.

____________________

(١) أبو قتادة الحارث بن ربعي بن بلدة (بلدمة) الخزرجي الأنصاري ، من الموالين لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وشهد معه مشاهده كلّها توفي سنة أربعين وكان بدرياً.

انظر: أسد الغابة ٦: ٢٥٠ ، الاصابة ٤: ١٥٨.

(٢) أبو اليقظان عمار بن ياسر ، أحد الأركان ، وهو جلدة ما بين عين وأنف رسول الله كما ورد في الحديث

انظر ترجمته في: الاصابة ٢: ٥١٢ ، أسد الغابة ٤: ١٣٠ - ١٣٥.

٣١٧

قيل: هذا قيس بن سعد بن عبادة(١) في الأنصار وأبناؤهم وغيرهم من قحطان.

ثم مر بنا فارس على فرس أشهل ما رأينا أحسن منه عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه بلواء ، قلت: من هذا ؟

قيل: هو عبد الله بن العباس في عدّة من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثم تلا موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأوّلين ، قلت: من هذا ؟

قيل: قثم بن العباس(٢) ، أو سعيد بن العاص(٣) .

ثم أقبلت المواكب والرايات يقدم بعضها بعضاً واشتبكت الرماح.

ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح والحديد مختلفوا الرايات ، في أوّله راية كبيرة يقدمهم رجل كأنّما كسر وجبر.

____________________

(١) قيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الأنصاري الخزرجي: عظيم من العظماء من كرام أصحاب رسول الله ، ومن كرماء العرب وأحد الدهاة ، من الموالين لعليعليه‌السلام ، واستمر بعد استشهاد أمير المؤمنين في ولائه للامام الحسن ولم يبايع معاوية إلى أن قال له الحسنعليه‌السلام : أنت في حلّ من بيعتي.

انظر: أسد الغابة ٤: ٤٢٥ ، الاصابة ٣: ٢٤٩ ، الاستيعاب ٣: ٢٢٤ - ٢٣١.

(٢) قثم بن العباس بن عبد المطلب: استعمله أمير المؤمنينعليه‌السلام على مكة.

أخرج الحاكم في المستدرك (٢: ١٣٦ ح ٤٦٣٣) بسنده الصحيح عن أبي إسحاق قال: سألت قثم ابن العباس: كيف ورث عليَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دونكم ؟ قال: لأنّه كان أولنا به لحوقاً ، وأشدّنا به لزوقاً. انظر: أسد الغابة ٤: ٣٩٢.

(٣) هو سعيد بن العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي.

انظر: الاصابة ٣: ٩٣ ترجمة رقم «٣٢٧٩».

٣١٨

- قال ابن عائشة: وهذه صفة رجل شديد الساعدين نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق كذلك تخبر العرب في وصفها إذا اخبرت عن الرجل: أنّه كسر وجبر - كأنّما على رؤوسهم الطير ، وعن ميسرتهم شاب حسن الوجه قلت: من هؤلاء ؟

قيل: هذا علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهذان الحسن والحسين عن يمينه وشماله ، وهذا محمد بن الحنفية بين يديه معه الراية العظمى ، وهذا الذي خلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وهؤلاء ولد عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وهؤلاء المشايخ أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية ، فصلّى أربع ركعات ، وعفّر خدّيه على التربة وقد خالط ذلك دموعه ثم رفع يديه يدعو: اللهم رب السماوات وما أظلّت ، والأرضين وما أقلّت ، وربّ العرش العظيم.

هذه البصرة اسألك خيرها ، وأعوذ بك من شرّها. اللهم انزلنا فيها خير منزل وأنت خير المنزلين.

اللهم هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا عليَّ ، ونكثوا بيعتي. اللهم احقن دماء المسلمين.

وبعث إليهم من يناشدهم الله في الدماء ، وقال: على مَ تقاتلونني ؟

فأبوا إلا الحرب.

فبعث رجلاً من أصحابه يقال له: مسلم ، معه مصحف يدعو إلى الله فرموه بسهم فقتلوه فحمل إلى علي ، وقالت اُمّه:

يا ربّ إنّ مسلمـّا أتاهم

يتلو كتاب الله لا يخشاهم

فخضبوا من دمه لحاهم

واُمّه قائمة تراهم

٣١٩

وأمر عليعليه‌السلام أن يصافّوهم ولا يبدءوهم بقتال ، ولا يرموهم بسهم ، ولا يضربوهم ، ولا يطعنوهم برمح ، حتى جاء عبد الله بن بديل بن ورقاء من الميمنة بأخ له مقتول ، وجاء قوم من الميسرة برجل قد رمي بسهم فقتل.

فقال عليعليه‌السلام : اللهم اشهد.

تواتر عليه الرمي فقام عمّار بن ياسر فقال: ماذا تنظر يا أمير المؤمنين ؟

فقام عليعليه‌السلام فقال:

أيها الناس ، إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيراً ، ولا تتّبعوا مولّياً ، ولا تهتكوا ستراً ، ولا تمثّلوا بقتيل ، ولا تقربوا من أموالهم إلا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أو كراع.(١)

ولقد يعزّ عليك يا أمير المؤمنين بما فعل القوم الظالمون يوم عاشوراء من تسابقهم على نهب بيوت آل الرسول ، وقرّة عين الزهراء البتول ، يسلبونهنّ وينتزعون الملاحف عن ظهورهنّ ثم يضرمون النار في خيامهنّ ، فخرجن حواسر معوّلات ، حافيات باكيات ، ينادين: وا محمداه وا علياه ، بناتك سبايا ، وذرّيتك مقتّلة ، تسفى عليهم ريح الصبا، هذا حسينك محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والردا ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من جدّه المصطفى ، بأبي من أبوه علي المرتضى.

اعزيك فيهم انّهم وردوا الردى

بأفئدة ما بلّ غلّتها قطر

وثاوين في حرّ الهجيرة بالعرى

عليهم سوافي الريح بالترب تنجر

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ٢٤٢.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348