المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه11%

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 348

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه
  • البداية
  • السابق
  • 348 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47066 / تحميل: 4595
الحجم الحجم الحجم
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

شرّفني بقتلهم ، وأرجو من ربّي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.(١)

ذكرت من حال هذه المرأة ، الصالحة ، حال اُمّ وهب بن حباب(٢) الكلبي يوم عاشوراء حين برز إلى ثلاثين ألفاً فأحسن في الجلاد ، وبالغ في الجهاد ، وكانت معه امرأته ووالدته فرجع إليهما وقال:

يا اُمّاه أرضيت أم لا ؟

فقالت: يا بني ما رضيت حتى تقتل بين يدي الحسينعليه‌السلام .

وقالت امرأته: بالله عليك لا تفجعني بنفسك.

فقالت له اُمّه: يا بني أعزب عن قولها ، وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة.

فرجع ولم يزل يقاتل حتى قطعت يداه في سبيل الله تعالى ، فأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: قاتل فداك أبي واُمّي يا وهب دون الطيّبين من حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال لها: كيف كنت تنهيني عن القتال ، والآن تأمرينني به ؟

____________________

(١) الاصابة ٤: ٢٨٦.

(٢) هي بنت عبد ، وزوجة عبد الله بن عمير الكلبي من قبيلة بني عليم ، لمـّا عزم زوجها على الخروج من الكوفة لنصرة الحسين ، تعلقت به ليصطحبها معه ، والتحقوا ليلاً بأنصار الحسين في كربلاء ، وفي يوم الطف حينما برز زوجها للقتال ، تناولت هي عموداً وبرزت إلى القتال ، إلا أن الإمام الحسين ردّها وقال: ليس على النساء جهاد ، وبعد مقتل زوجها سارت إليه حتى جلست عند رأسه تمسح التراب عنه وتقول: هنيئاً لك الجنّة ، أسأل الله الذي رزقك الجنّة أن يصحبني معك ، فقال شمر لغلامه رُستم: إضرب رأسها بالعمود ، فضرب رأسها فشدخه ، فماتت مكانها. انظر: تاريخ الطبري ٣: ٣٢٣ - ٣٢٦ ، الارشاد ٢: ١٠١.

٣٠١

قالت: لا تلمني يا وهب ، فانّي سمعت من سيّدي ومولاي الحسين كلمة كسرت قلبي ، سمعته يقول: أما من ناصر فينصرنا ؟ أما من موحّد يخاف الله فينا ؟ أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله ؟

فأقبل كي يردّها إلى النساء ، فأخذت بجانب ثوبه ، وقالت: لن أعود حتى أموت معك.

فقال الحسينعليه‌السلام : جزيتم عن أهل بيتي خيراً ، ارجعي إلى النساء رحمك الله ، فانصرفت إليهنّ ، ولم يزل يقاتل حتى ق تل رحمه ‌الله ت عالى.

رجال تواصوا حيث طابت اُصولهم

وأنفسهم بالصبر حتى قضوا صبرا

حماة حموا خدراً أبى الله هتكه

فعظّمه شأناً وشرّفه قدرا

٣٠٢

الفصل الثالث

في سيرة أمير المؤمنينعليه‌السلام ومواعظه وارشاداته

٣٠٣

٣٠٤

[المجلس الخامس والعشرون]

ومن كلام لأمير المؤمنين وسيد الوصيين صلوات الله وسلامه عليه:

ألا وانّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ، ويستضيء بنور علمه ، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دُنياه بطمريه(١) ، ومن طُعمه(٢) بقُرصيه(٣) ، ألا وإنكم لا تقَدِرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد ، [وعِفّة وسَداد ؛] والله ما كنزت من دنياكم تبراً(٤) ، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً(٥) ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً ، ولا حُزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلا كقوت أتانٍ دبرةٍ(٦) ، ولَهي في عيني أوهى [وأهونُ] من عفصة مَقرةٍ(٧) ، بلى ! كانت في أيدينا فدك(٨) مِن كلّ ما أظلّته

____________________

(١) الطِمر - بالكسر -: الثوب الخلق البالي.

(٢) طُعمه - بضم الطاء -: ما يطعمه ويفطر عليه.

(٣) قُرصيه: تثنية قرص ، وهو الرغيف.

(٤) التبر - بكسر فسكون -: فُتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ.

(٥) الوفر: المال.

(٦) أتان دبرة: هي التي عُقر ظهرها فقلّ أكلها.

(٧) مقرة: مرّة.

(٨) فدك: هي قرية بالحجاز ، بينها وبين المدينة يومان ، وقيل ثلاثة ، أفاءها الله تعالى على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله صلحاً ، فيها عين فوّارة ونخل ، وقد كانت ملكاً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خالصة ، لأنها لم يوجب عليها بخيل ولا ركاب ، وقد أعطاها ابنته الزهراءعليها‌السلام فكانت بيدها في عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وروي إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لفاطمةعليها‌السلام : قد كان لأمّك خديجة على أبيك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله مهراً ، وأنّ أباك قد جعلها لك بذلك ، وانحلتكها تكون لك ولولدك بعدك ، وكتب كتاب النحلة عليعليه‌السلام في أديم ، وشهدعليه‌السلام على ذلك وأمّ أيمن ومولى لرسول

٣٠٥

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وجاء في الأخبار كما في رواية الشيخ عبد الله بن حمّاد الأنصاري - أن واردها - أربعة وعشرون ألف دينار في كلّ سنة ، وفي رواية غيره سبعون ألف دينار.

راجع: معجم البلدان للحموي: ج ٤ ص ٢٣٨ ، بحار الأنوار: ج ١٧ ص ٣٧٨ وج ٢١ ص ٢٣ وج٣٣ ص ٤٧٤ ، سفينة البحار للقمّي: ج ٢ ص ٣٥١.

وروي عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: لما بويع أبو بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمةعليها‌السلام بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منها.

فجاءت فاطمة الزهراءعليها‌السلام إلى أبي بكر ثم قالت: لِمَ تمنعني ميراثي من أبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخرجت وكيلي من فدك ، وقد جعلها لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر الله تعالى ؟

فقال: هاني على ذلك بشهود ، فجاءت بأمّ أيمن ، فقالت له اُمّ أيمن: لا أشهد يا أبا بكر حتى احتج عليك بما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنشدك بالله ألست تعلم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «اُمّ أيمن امرأة من أهل الجنة».

فقال: بلى.

قالت: «فاشهد: أنّ الله عز وجل أوحى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى ) «الروم: ٣٨» فجعل فدكاً لها طعمة بأمر الله.

فجاء عليعليه‌السلام فشهد بمثل ذلك ، فكتب لها كتاباً ودفعه إليها ، فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب ؟ فقال: إنّ فاطمةعليها‌السلام ادعت في فدك ، وشهدت لها أم أيمن وعليعليه‌السلام ، فكتبته لها ، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فتفل فيه ومزّقه ، فخرجت فاطمةعليها‌السلام تبكي.

فلما كان بعد ذلك جاء عليعليه‌السلام إلى أبو بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر لِمَ منعت فاطمة ميراثها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ وقد ملكته في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين ، فإن أقامت شهوداً أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جعله لها وإلا فلا حقّ لها فيه.

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين.

٣٠٦

قال: لا.

قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ، ثم ادعيت أنا فيه من تسأل البينة ؟

قال: إياك أسأل البينة.

قال: فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يديها ؟ وقد ملكته في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده ، ولم تسأل المسلمين بينة على ما ادعوها شهوداً ، كما سألتني على ما ادعيت عليهم ؟

فسكت أبو بكر فقال عمر: يا علي دعنا من كلامك ، فإنا لا نقوى على حجتك ، فإن أتيت بشهود عدول ، وإلا فهو فيء للمسلمين ، لا حق لك ولا لفاطمةعليها‌السلام فيه.

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : يا أبا بكر تقرأ كتاب الله ؟

قال: نعم.

قال: أخبرني عن قول الله عز وجل:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَکُمْ تَطْهِيراً ) «الأحزاب: ٣٣» فيمن نزلت ؟ فينا أم في غيرنا ؟

قال: بل فيكم.

قال: فلو أنّ شهوداً شهدوا على فاطمةعليها‌السلام بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بفاحشة ما كنت صانعاً ؟

قال: كنت أُقيم عليها الحد ، كما أُقيمه على نساء العالمين.

قال: إذن كنت عند الله من الكافرين.

قال: ولِمَ ؟

قال: لأنّك كنت رددت شهادة الله به الطهارة. وقبلت شهادة الناس عليها ، كما رددت حكم الله وحكم رسوله ، أن جعل لها فدكاً قد قبضته في حياته ، ثم قبلت شهادة إعرابي بائل على عقبيه ، عليها ، وأخذت منها فدكاً ، وزعمت أنّه فيء للمسلمين ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «البينة على المدّعي ، واليمين على المدّعي عليه» فرددت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : البينة على من ادعى ، واليمين على من ادعى عليه !

قال: فدمدم الناس وأنكروا ، ونظر بعضهم إلى بعض ، وقالوا: صدق والله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ! ورجع إلى منزله.

قال: ثمّ دخلت فاطمة المسجد وطافت بقبر أبيها وهي تقول:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

٣٠٧

السماء ، فشحّت عليها نفوس قومٍ ، [وسَخت عنها نفوس قوم آخرين] ، ونِعم الحَكمُ الله ، وما أصنع بفدكٍ وغير فدك ، والنفس مظانّها(١) في غدٍ جَدث(٢) ، تنقطع في ظلمته آثارها ، وتغيب أخبارها ، [وحفرة لو زيدَ في فُسحتها ، وأوسعت يدا حافرها ، لاضغطها الحجر والمدر(٣) ، وسدّ فُرَجَها(٤) التراب المتراكم ، وإنّما هي نفسي اُروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلقِ(٥) ،] ولو شئت لاهتديت الطريق ، إلى مُصفّى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ ، و[لكن] هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة - ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع - أو أبيت مِبطاناً وحولي بُطون غرثى(٦) ، وأكباد حرّى(٧) ، أو أكون كما قال القائل:

إنّا قد فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب

قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا

فغاب عنا فكلّ الخير محتجب

وكنت بدراً ونوراً يُستضاء به

عليك ينزل من ذي العزّة الكتب

تجهّمتنا رجال واستخف بنا

إذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت

منا العيون بتهمال لها سكب

انظر: الاحتجاج للطبرسي: ج ١ ص ٩٠ - ٩٣ ، علل الشرائع للصدوق: ج ١ ص ١٩٢ ، ب ١٥١ ح ١ ، تفسير القمّي: ج ٢ ص ١٥٥ - ١٥٧.

____________________

(١) المظان: جمع مظنة ، وهو المكان الذي يظنّ فيه وجود الشيء.

(٢) جدث - بالتحريك -: قبر.

(٣) المدر: جمع مدرة ، مثل قصب وقصبة وهو التراب المتلبد ، أو قطع الطين.

(٤) فُرجَها: جمع فُرجة ، مثال غُرف وغُرفة: كل منفرج بين شيئين.

(٥) المزلق: موضع الزلل ، وهو المكان الذي يخشى فيه أن تزل القدمان ، والمراد هنا الصراط.

(٦) غرثى: جائعة.

(٧) حرّى - مؤنث حرّان -: أي عطشان.

٣٠٨

وحسبك عاراً(١) أن تبيت ببطنةٍ(٢)

وحولك أكباد تحنّ إلى القِدّ(٣)

أأطمع(٤) أن يقال أمير المؤمنين ، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر ، وأكون أسوةً لهم في خشونة(٥) العيش ! فما خُلقت ليشغلني أكل الطيّبات ، كالبهيمة المربوطة ، همُّها علفها ، أو المرسلة شُغُلُها تَقمُّمها(٦) ، تكترش(٧) من أعلافها ، وتلهو عمّا يراد بها ! وكأنّي بقائلكم يقول: «إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ، ومنازلة الشجعان» ، ألا وإنّ الشجرة البرّية(٨) أصلب عوداً ، والرواتع الخضرة(٩) أرقّ جلوداً ، والنابتات العِذية(١٠) أقوى وقوداً ، [وأبطأ خُموداً ،] وأنا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كالصنو من الصنو(١١) ، والذراع من العَضُد ، والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها.(١٢)

بأبي أنت وامي كم تظاهرت العرب على قتالك ، فظهرت عليها( وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ

____________________

(١) كذا في الأصل ، وفي المصدر: داء.

(٢) البطنة - بكسر الباء -: البطر والأشر.

(٣) القِد - بالكسر -: سير من جلد غير مدبوغ.

(٤) كذا في الأصل ، وفي المصدر: أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا.

(٥) كذا في الأصل ، وفي المصدر: جشوبة.

(٦) تقمّمها: التقاطها للقمامة ، أي الكناسة.

(٧) تكترش: تملأ كرشها.

(٨) الشجرة البرّية: التي تنبت في البر الذي لا ماء فيه.

(٩) الرواتع الخضرة: الأشجار والأعشاب الغضّة الناعمة التي تنبت في الأرض الندية.

(١٠) النابتات العذبة: التي تنبت عذباً ، والعذي - بسكون الذال - الزرع الذي لا يسقيه إلا ماء المطر.

(١١) كذا في الأصل ، وفي المصدر: كالضوء من الضوء.

(١٢) نهج البلاغة (شرح الدكتور صبحي الصالح): ٤١٦ - ٤٢٠ ، كتاب رقم (٤٥) ، كتاب أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة.

٣٠٩

كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ) (١) بعلي أمير المؤمنين وسيد المجاهدين.

وهل الجهاد لأحد من الناس إلا له ؟ وهل قامت دعائم الدين ، أو رست قواعد الشرع ، أو علت كلمة التوحيد إلا بجهاده ؟

وهل شهد التنزيل لغيره بأنّه شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله ؟

وهل باهى الله عز وجل ملائكة السماء ليلة المبيت على فراش النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بغيره ؟

وهل تولى خدمة النبي وجميع بني هاشم أيّام حصرهم في الشعب غيره ؟ وهل قاسى الخطر ولاقى الأهوال في إيصال القوت إليهم يومئذ سواه ؟

وهل نصر الله نبيّه في جميع المواطن إلا به ؟ وهل قتل عمراً ومرحباً ، وجندل عتبة وشيبة والوليد وغيره ؟

وهل أفنى بني عبد الدار وقتل بني سفيان بن عوف الأربعة يوم اُحد سواه ؟

وهل أذلّ عتاة الشرك وجبابرة الكفرة إلا صارم سطوته ؟

وهل فتح حصون خيبر ودحا بابها ، وقلع الصخرة عن فم القليب ، وسلب العزّة من جبابرة اليمن ومهّد أمرها إلا ماضي عزمه ؟

وهل قاتل الناكثين والمارقين والقاسطين غيره ؟

وهل باهل باسم غيره جبرائيل:

لا سيف إلا ذو الفقار

ولافتى إلا علي

ولقد ورث منه هذه الشجاعة شبله أبو الأئمّة ، وشفيع الامّة أبو عبد الله

____________________

(١) الأحزاب: ٢٥.

٣١٠

الحسينعليه‌السلام حتى قال بعض الرواة:

والله ما رأيت مكثوراً قط قتل ولده ، وأهل بيته وأنصاره أربط جأشاً من الحسينعليه‌السلام ، وان كانت الرجال لتشدّ عليه فيشدّ عليها فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، ولقد كان يحمل فيهم وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً فينهزمون بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول: لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم ، حتى قتل منها الفاً وتسعمائة عدا المجروحين ، فناداهم ابن سعد لعنه الله:

الويل لكم يا أهل الكوفة أتدرون لمن تقاتلون ؟ هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتّال العرب ، فاحملوا عليه من كلّ جانب ، وكانت الرماة أربعة آلاف فرموه بالسهام ، حتى حالوا بينه وبين رحله ، فصاح بهم:

ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون.

فناداه شمر لعنه الله: ما تقول يا بن فاطمة ؟

قالعليه‌السلام : أنا اُقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حياً.

فقال الشمر لعنه الله: لك ذلك يا بن فاطمة ، ثم صاح: إليكم عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه فلعمري انّه كفؤ كريم.

فقصد القوم بالقتال وهو مع ذلك يطلب شربة من الماء ، وكلّما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه حتى أجلوه عنه فنادى:

هل من مغيث فيغيثنا ؟

٣١١

هل من ناصر فينصرنا ؟

ووقف على جثث أهل بيته وأصحابه فناداهم بأسمائهم ، فاضطربت أجسامهم اضطراب السمكة في الماء: فناداهم:

قوموا عجالاً فما العرى

بدار ولا هذا المقام مقام

فماجت على وجه الصعيد جسومهم

ولو أذن الله القيام لقاموا

٣١٢

[المجلس السادس والعشرون]

ومن كلام لهعليه‌السلام :

والله لَأَن أبيتَ على حَسَك السعدان(١) مُسهّداً(٢) ، أو اُجَرّ في الأغلال مُصفّداً ، أحبّ إليَّ مِن أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد ، وغاصِباً لشيء من الحُطام ، وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يُسرع إلى البِلى قفولها(٣) ، ويطول في الثرى حلولها.

والله لقد رأيت عقيلاً(٤) وقد أملق حتى أستماحني(٥) مِن بُرّكم هذا صاعاً. ورأيت صبيانه شُعث الشعور(٦) ، غُبر الألوان من فقرهم(٧) كأنّما سُوّدَت وجوههم بالعِظلِم(٨) ، وعاودني مؤكداً ، وكرّر عليَّ القول مردّداً ، فأصغيت إليه سمعي ، فظنّ أنّي أبيعه ديني ، وأتّبع قياده مُفارقاً طريقتي ، فأحميتُ له حديدة ثم أدنيتها من

____________________

(١) كأنّه يريد من «الحسك» الشوك. والسعدان: نبت ترعاه الابل له شوك تشبه به حلمة الثدي.

(٢) المسهّد - من سهّد -: إذا أسهره ، والمصفّد: المقيد.

(٣) قفولها: رجوعها.

(٤) عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي ، أبو يزيد ، أعلم قريش بأيامها ومآثرها ومثالبها وأنسابها ، صحابي فصيح اللسان شديد الجواب ، وهو أخو علي وجعفر لأبيهما ، وكان أسنّ منهما ، هاجر إلى المدينة سنة ٨ ه ، عمي في أواخر أيّامه ، توفي أوّل أيام يزيد ؛ وقيل: في خلافة معاوية.

انظر: الاصابة ترجمة رقم ٥٦٣٠ ، البيان والتبيين ١: ١٧٤ ، الطبقات الكبرى ٤: ٢٨.

(٥) قالرحمه‌الله : أملق: افتقر اشدّ الفقر ، واستماحني: استعطاني.

(٦) قالرحمه‌الله : الشعث: جمع أشعث ، وهو من الشعر المتلبّد بالوسخ.

(٧) قالرحمه‌الله : الغبر: جمع أغبر ، وهو متغيّر اللون شاحبة.

(٨) قالرحمه‌الله : العظلم - كزبرج - سواد يصيغ به ؛ قيل: وهو النيلج.

٣١٣

جسمه ليعبتر بها ، فضجّ ضجيج ذي دنف(١) مِن ألمها ، وكاد أن يحترق من ميسمها(٢) ، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل ! أتئنّ من حديدة أحماها انسانها للعبه ، وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه ؟ أتئنّ من الأذى ولا أئنّ من لُظى ؟! وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة(٣) في وعائها ، ومعجونة شَنِئتها(٤) كأنّما عجنت بريق حيّةٍ أو قيئها ، فقلت: أصلةٌ ، أم زكاةٌ ، أم صدقة ؟ فكلّ ذلك(٥) محرّم علينا أهل البيت !(٦)

بأبي أنت وامي يا أمير المؤمنين كيف بك لو رأيت أطفالك وأيتام ولدك أبي عبد الله وهم في أشر الذلّة ووثاق السبي ، يساقون عطاشى جياعاً مربطين بالحبال ، وأهل الكوفة يتصدّقون عليهم وهم في المحامل مقرّنين بالأصفاد ، فجعلت صبيتكم لشدّة جوعهم يتناولون بعض الخبز والتمر والجوز ، فصاحت خفرتك وعقيلتك امّ كلثوم:

ويلكم يا أهل الكوفة ، إنّ الصدقة علينا حرام ، وجعلت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وترمي به إلى الأرض ، والناس يبكون على ما أصابهم ، فأطلعت رأسها من المحمل وقالت لهم:

مه يا أهل الكوفة ، تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم ؟ فالحكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء.

____________________

(١) الدنف - بالتحريك - المرض.

(٢) الميسم - بكسر الميم وفتح السين -: المكواة.

(٣) الملفوفة: نوع من الحلواء أهداها الأشعث بن قيس إلى عليعليه‌السلام .

(٤) شنئتها: كرهتها.

(٥) كذا في الأصل ، وفي المصدر: فذلك.

(٦) نهج البلاغة (شرح الدكتور صبحي الصالح): ٣٤٦ رقم (٢٢٤).

٣١٤

فبينا هي تخاطبهم إذا بضجّة قد ارتفعت ، وإذا هم بالرؤوس قد جاؤوا بها على الرماح ، يقدمهم رأس الحسينعليه‌السلام ، وهو رأس زهري قمري ، أشبه الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولحيته كسواد السبج ، قد نصل منها الخضاب ، ووجهه دائرة قمر طالع ، والريح تلعب بكريمته الشريفة يميناً وشمالاً ، فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدم المحمل حتى سال الدم من تحت قناعها ، وأومأت إليه بحرقة.

يا هلالاً لمـّا استتمّ كمالاً

غاله خسفه فأبدى غروبا

ما توهّمت يا شقيق فؤادي

كان هذا مقدّراً مكتوبا

٣١٥

[المجلس السابع والعشرون]

روي المنذر بن الجارودي(١) فيما حدّث به أبو حنيفة الفضل بن الحباب الجمحي ، عن ابن عائشة ، عن معن بن عيسى ، عن المنذر بن الجارود قال:

لمـّا قدم علي رضي الله عن البصرة دخل ممّا يلي الطف فأتى الزاوية فخرجت انظر إليه ، فورد موكب نحو ألف فارس يقدمهم فارس على فرس أشهب ، عليه قلنسوة وثياب بيض ، متقلّداً سيفاً ، معه راية وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض والصفرة ، مدجّجين في الحديد والسلاح ، فقلت: من هذا ؟

فقيل: أبو أيّوب الأنصاري صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهؤلاء الأنصار وغيرهم ، ثم تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض متقلّداً سيفاً ، متنكّب قوساً معه راية على فرس أشقر في نحو ألف فارس ، فقلت: من هذا ؟

فقيل: هذا خزيمة بن ثابت الأنصاري(٢) ذو الشهادتين.

____________________

(١) المنذر بن الجارود بن عمرو بن خنيس العبدي ، ولد في عهد النبي وشهد الجمل مع عليعليه‌السلام ، وولاه علي إمرة اصطخَر ، ثمّ بلغه عنه ما ساءه فكتب إليه كتاباً وعزله ، ولاه عبيد الله بن زياد ثغر الهند سنة ٦١ ه ، فمات فيها آخر سنة ٦١ ه.

انظر: الإصابة ترجمة رقم ٨٣٣٦ ، جمهرة الأنساب: ٢٧٩ ، الأغاني ١١: ١١٧.

(٢) خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين: من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وشهد بدراً وما بعدها ، جعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله شهادته شهادة رجلين ، شهد الجمل وصفين واستشهد فيها وهو القائل يومئذ:

٣١٦

ثمّ مرّ بنا فارس آخر على فرس كميت معتم بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء ، وعليه قباء أبيض مصقول متقلّد سيفاً ، متنكّب قوساً في نحو ألف فارس من الناس ومعه راية فقلت: من هذا ؟

فقيل لي: أبو قتادة بن ربعي(١) .

ثم مر بنا فارس آخر على فرس أشهب عليه ثياب بيض وعمامة سوداء وقد سدلها بين يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة ، عليه سكينة ووقار ، رافع صوته بقراءة القرآن متقلّد سيفاً ، متنكّب قوساً معه راية بيضاء في ألف فارس من الناس مختلفي التيجان ، وحوله مشيخة وكهول وشباب ، كأنّ قد اوقفوا للحساب أثر السجود قد أثّر في جباههم ، فقلت: من هذا ؟

فقيل: عمّار بن ياسر(٢) في عدّة من الصحابة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم.

ثم مر فارس على فرس أشقر عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء ، متنكّب قوساً متقلّد سيفاً ، تخطّ رجلاه في الأرض في ألف فارس من الناس الغالب على تيجانهم الصفرة والبياض معه رايات صفراء قلت: من هذا ؟

إذا نحن بايعنا علياً فحسبنا

أبو حسن ممّا نخاف من الفتن

وفيه الذي فيه من الخير كلّه

وما فيهم بعض الذي فيه من حسن

انظر ترجمته في أسد الغابة ٢: ١٣٣ ، الاصابة ١: ٤٢٥ - ٤٢٦.

____________________

(١) أبو قتادة الحارث بن ربعي بن بلدة (بلدمة) الخزرجي الأنصاري ، من الموالين لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وشهد معه مشاهده كلّها توفي سنة أربعين وكان بدرياً.

انظر: أسد الغابة ٦: ٢٥٠ ، الاصابة ٤: ١٥٨.

(٢) أبو اليقظان عمار بن ياسر ، أحد الأركان ، وهو جلدة ما بين عين وأنف رسول الله كما ورد في الحديث

انظر ترجمته في: الاصابة ٢: ٥١٢ ، أسد الغابة ٤: ١٣٠ - ١٣٥.

٣١٧

قيل: هذا قيس بن سعد بن عبادة(١) في الأنصار وأبناؤهم وغيرهم من قحطان.

ثم مر بنا فارس على فرس أشهل ما رأينا أحسن منه عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه بلواء ، قلت: من هذا ؟

قيل: هو عبد الله بن العباس في عدّة من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثم تلا موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأوّلين ، قلت: من هذا ؟

قيل: قثم بن العباس(٢) ، أو سعيد بن العاص(٣) .

ثم أقبلت المواكب والرايات يقدم بعضها بعضاً واشتبكت الرماح.

ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح والحديد مختلفوا الرايات ، في أوّله راية كبيرة يقدمهم رجل كأنّما كسر وجبر.

____________________

(١) قيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الأنصاري الخزرجي: عظيم من العظماء من كرام أصحاب رسول الله ، ومن كرماء العرب وأحد الدهاة ، من الموالين لعليعليه‌السلام ، واستمر بعد استشهاد أمير المؤمنين في ولائه للامام الحسن ولم يبايع معاوية إلى أن قال له الحسنعليه‌السلام : أنت في حلّ من بيعتي.

انظر: أسد الغابة ٤: ٤٢٥ ، الاصابة ٣: ٢٤٩ ، الاستيعاب ٣: ٢٢٤ - ٢٣١.

(٢) قثم بن العباس بن عبد المطلب: استعمله أمير المؤمنينعليه‌السلام على مكة.

أخرج الحاكم في المستدرك (٢: ١٣٦ ح ٤٦٣٣) بسنده الصحيح عن أبي إسحاق قال: سألت قثم ابن العباس: كيف ورث عليَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دونكم ؟ قال: لأنّه كان أولنا به لحوقاً ، وأشدّنا به لزوقاً. انظر: أسد الغابة ٤: ٣٩٢.

(٣) هو سعيد بن العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي.

انظر: الاصابة ٣: ٩٣ ترجمة رقم «٣٢٧٩».

٣١٨

- قال ابن عائشة: وهذه صفة رجل شديد الساعدين نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق كذلك تخبر العرب في وصفها إذا اخبرت عن الرجل: أنّه كسر وجبر - كأنّما على رؤوسهم الطير ، وعن ميسرتهم شاب حسن الوجه قلت: من هؤلاء ؟

قيل: هذا علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهذان الحسن والحسين عن يمينه وشماله ، وهذا محمد بن الحنفية بين يديه معه الراية العظمى ، وهذا الذي خلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وهؤلاء ولد عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وهؤلاء المشايخ أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية ، فصلّى أربع ركعات ، وعفّر خدّيه على التربة وقد خالط ذلك دموعه ثم رفع يديه يدعو: اللهم رب السماوات وما أظلّت ، والأرضين وما أقلّت ، وربّ العرش العظيم.

هذه البصرة اسألك خيرها ، وأعوذ بك من شرّها. اللهم انزلنا فيها خير منزل وأنت خير المنزلين.

اللهم هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا عليَّ ، ونكثوا بيعتي. اللهم احقن دماء المسلمين.

وبعث إليهم من يناشدهم الله في الدماء ، وقال: على مَ تقاتلونني ؟

فأبوا إلا الحرب.

فبعث رجلاً من أصحابه يقال له: مسلم ، معه مصحف يدعو إلى الله فرموه بسهم فقتلوه فحمل إلى علي ، وقالت اُمّه:

يا ربّ إنّ مسلمـّا أتاهم

يتلو كتاب الله لا يخشاهم

فخضبوا من دمه لحاهم

واُمّه قائمة تراهم

٣١٩

وأمر عليعليه‌السلام أن يصافّوهم ولا يبدءوهم بقتال ، ولا يرموهم بسهم ، ولا يضربوهم ، ولا يطعنوهم برمح ، حتى جاء عبد الله بن بديل بن ورقاء من الميمنة بأخ له مقتول ، وجاء قوم من الميسرة برجل قد رمي بسهم فقتل.

فقال عليعليه‌السلام : اللهم اشهد.

تواتر عليه الرمي فقام عمّار بن ياسر فقال: ماذا تنظر يا أمير المؤمنين ؟

فقام عليعليه‌السلام فقال:

أيها الناس ، إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيراً ، ولا تتّبعوا مولّياً ، ولا تهتكوا ستراً ، ولا تمثّلوا بقتيل ، ولا تقربوا من أموالهم إلا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أو كراع.(١)

ولقد يعزّ عليك يا أمير المؤمنين بما فعل القوم الظالمون يوم عاشوراء من تسابقهم على نهب بيوت آل الرسول ، وقرّة عين الزهراء البتول ، يسلبونهنّ وينتزعون الملاحف عن ظهورهنّ ثم يضرمون النار في خيامهنّ ، فخرجن حواسر معوّلات ، حافيات باكيات ، ينادين: وا محمداه وا علياه ، بناتك سبايا ، وذرّيتك مقتّلة ، تسفى عليهم ريح الصبا، هذا حسينك محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والردا ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من جدّه المصطفى ، بأبي من أبوه علي المرتضى.

اعزيك فيهم انّهم وردوا الردى

بأفئدة ما بلّ غلّتها قطر

وثاوين في حرّ الهجيرة بالعرى

عليهم سوافي الريح بالترب تنجر

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ٢٤٢.

٣٢٠

[المجلس الثامن والعشرون]

ومن خطبة لهعليه‌السلام :

وكم أكلت الأرض من عزيز جسد ، وأنيق لون ، كان في الدنيا غذيّ ترف ، وربيب سرف ، يتعلّل في السرور في ساعة حزنه ، ويفزع إلى السلوة انّ مصيبة نزلت به ، ضنّاً بغضارة عيشه ، وشحّاً بلهوه ولعبه ، فبينا هو يضحك إلى الدنيا ، وتضحك الدنيا إليه ، في ظلّ عيش غفول ، إذ وطأ الدهر به حسكه ، ونقضت الأيّام قواه ، ونظرت إليه في الحتوف من كثب ، فخالطه بثّ لا يعرفه ، ونجيّ هم ما كان يجده ، وتولّدت فيه فقرات علل ، آنس ما كان بصحّته، ففزع إلى ما كان عوّده الأطباء ، من تسكين الحرّ بالقارّ ، وتحريك البارد بالحار ، فلم يطفئ ببارد إلا ثورة حرارة ، ولا حرّك بحار إلا هيّج برودة ، حتى فنر معلله ، وذهل ممرضه ، وتعايا أهله بصفة دائه ، وخرسوا عن جواب السائلين عنه ، وتنازعوا دونه شجي خبر يكتمونه ، فقائل: هو لما به ، وممّن لهم ايّاب عافيته ، ومصبّر لهم على فقده ، يذكرهم أسى الماضين من قبله ، فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا ، وترك الأحبّة ، إذ عرض له عارض من غصصه ، فتحيّرت نوافذ فطنته ، ويبست رطوبة لسانه.

إلى أن قالعليه‌السلام : وإنّ للموت لغمرات ، هي أفضع من أن تستغرق بصفة أو تعتدل على عقول أهل الدنيا.(١)

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١: ١٥٢.

٣٢١

وتالله لا يهوّن سكرات الموت إلا ولاء آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّ مواليهم ليبشّره ملك الموت ثمّ منكر ونكير بالجنّة ، وإنّ الملائكة لتزفّ أرواح مواليهم إكراماً لهم حتى تدخلها عليهم كما تزفّ العروس الى زوجها ، وأيم الله إنّ من تمام موالاتهم الحزن لحزنهم ، والبكاء على ما أصابهم ، فحدّثوا أنفسكم بمصارع هاتيك العترة ، وتأسّفوا على ما فاتكم من الفوز بتلك النصرة ، واذكروا واعية الحسين ، وحاله وهو بين ثلاثين ألفاً وحيداً فريداً ، قد حال العطش بينه وبين السماء كالدخان ، وقد نزف دمه ، والحجارة والسهام تأتيه من كلّ جانب ، وأهل بيته وأصحابه كالأضاحي حوله ، ونساؤه نوائح ونوادب من خلفه ، وهو تارة يصبّرهم ويعزّيهم ، وتارة يعظ القوم وينذرهم ، ومرّة ينعى أصحابه ويرثيهم ، واُخرى يقف على جثثهم ويمسح الدماء عن وجوههم...

و لمـّا وقف على ولده علي الأكبر وهو ابن تسع عشرة سنة ، وكان أشبه الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خلقاً وخُلقاً ومنطقاً ، فوجده مقطّعاً إرباً إرباً ، نادى بأعلى صوته: قتل الله قوماً قتلوك يا بني ، ما أجرأهم على الله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول ، على الدنيا بعدك العفا...

و لمـّا وقف على ابن أخيه القاسم(١) وهو ابن ثلاث عشرة سنة ووجده يفحص برجليه الأرض ، قال: عزّ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا يغني عنك.

ثمّ وضع خدّه على خدّ الغلام واحتمله ورجلاه يخطّان الأرض ، ففتح الغلام عينيه ، وتبسّم في وجه عمّه ثمّ فاضت نفسه الزكية ، فوضعه بين القتلى من

____________________

(١) هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، أخو أبي بكر بن الحسن لأبيه واُمّه المقتول قبله. انظر: مقاتل الطالبيين: ٥٠.

٣٢٢

أهل بيته...

و لمـّا وقف على أخيه العباس ، وهو كبش كتيبته ، وحامل لوائه ، وموضع سرّه ، ووجده مرضوخ الهامة بعمود من حديد ، مقطوع الساعدين ، وضع يده على خاصرته ونادى:

الآن انكسر ظهري ، الآن قلّت حيلتي وشمت بي عدوي.

هوى عليه ما هنالك قائلاً

الآن بان عن اليمين حسامها

الآن آل إلى التفرّق جمعنا

الآن حلّ من البنود نظامها

الآن نامت أعين بك لم تنم

وتسهّدت اُخرى فعزّ منامها

أشقيق روحي هل تراك علمت إذ

غودرت وانثالت عليك لئامها

من مبلّغٌ أشياخ مكّة أنّه

قد قلّ ناصرها وغاب همامها

٣٢٣

[المجلس التاسع والعشرون]

ومن خطبة لهعليه‌السلام :

أمّا بعد: فانّي احذركم الدنيا ، فانّها حلوة خضرة ، حُفت بالشهوات ، وتحببت بالعاجلة ، وراقت بالقليل ، وتحلّت بالآمال ، وتزيّنت بالغرور ، لا تدوم حبرتها(١) ، ولاتؤمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة ، حائلة زائلة ، نافذة بائدة ، أكّالة غوّالة ، لا تعدو إذا تناهت إلى اُمنية أهل الرغبة والرضا بها ، أن تكون كما قال الله تعالى:( كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّيَاحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً ) (٢) لم يكن امرؤ منها في حبرة ، إلا أعقبته بعدها عبرة ، ولم يلق من سرائها بطناً ، إلا منحته من ضرّائها ضهراً ، ولم تطله فيها ديمة رخاء ، إلا هتنت عليه مزنة بلاء ، وحريّ إذا أصبحت له منتصرة ، أن تمسي له متنكّرة ، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمرّ منها جانب فأوبى(٣) ، لا ينال امريء من غضارتها رغباً ، إلا أرهقته من نوائبه تعباً ، ولا يمسي منها في جناح أمن، إلا أصبح منها على قوادم خوف ، غرّارة غرور ما فيها ، فانية فان من عليها ، لا خير في شيء من أزوادها إلا التقوى ، من استقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه ، ومن استكثر منها استكثر ممّا يوبقه ، وزال عمّا قليل عنه ، كم واثق منها فجعته ، وذوي طمأنينة لها قد صرعته ، وذي ابهة قد جعلته حقيراً ،

____________________

(١) قالرحمه‌الله : حبرتها: يعني بهجتها وسرورها.

(٢) سورة الكهف: ٤٥.

(٣) قالرحمه‌الله : أي كثر فيه الوباء.

٣٢٤

وذي نخوة قد ردّته ذليلاً ، سلطانها دول ، وعيشها رنق(١) ، وعذبها اجاج ، وحلوها صبر ، وغذاؤها سمام ، وأسبابها رمام ، حيّها بعرض موت ، وصحيحها بعرض سقم ، ملكها مسلوب ، وعزيزها مغلوب.(٢)

هذه أنبياء الله وأصفياؤه تغلّبت عليهم الجبابرة ، وتحكّمت فيهم أعداء الله حتى كان بنو اسرائيل ربّما يقتلون بين طلوعي الفجر والشمس سبعين نبيّاً ، ثم يجلسون في أنديتهم كأنّهم لم يفعلوا شيئاً.

ولما بعث الله إسماعيل بن حزقيل الى قومه سلخوا جلده ووجهه وفروة رأسه ، فأتاه ملك من ربّه عزّ وجل يقرؤه السلام ويقول له: قد أمرني الله بطاعتك ، فمرني بما شئت ، فقالعليه‌السلام : لي بالحسين اُسوة.

بأبي أنت واُمّي يا أبا عبد الله.

بأبي أنت وامي يا من تأسّت به أنبياء الله ، لئن سلخت جلدة وجه إسماعيل وفروة رأسه في سبيل الله ، فلقد أصابك في إعلاء كلمة الله من ضرب السيوف ووخز الأسنّة ، ورمي الأحجار ، ورشق النبال ، ووطيء الخيل ، وعسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ما هو أعظم من ذلك.

تأسّت بك أنبياء الله لكن لم يبلغوا شأوك ، ولا اُصيبوا بما اصبت ، وهل مُني أحد من العالمين بما منيت به ؟ فررت بدمك من حرم جدّكصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حرم الله عز وجل حيث يأمن الوحش والطير ، فلم تأمن فيه على نفسك ،

____________________

(١) قالرحمه‌الله : الرنق: الكدر.

أقول: يقال: عيش رنق - بكسر النون -: أي كدر ، وماء رنق - بالتسكين -: أي كدر ، والرنق - بفتح النون -: مصدر قولك: رنق الماء - بالكسر - ورنقته أنا ترنيقاً أي كدرته.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٧: ٢٢٦.

٣٢٥

ففرت منهم لما خفتهم بعيالك وأطفالك وأهل بيتك ، فلاقيت من أعداء الله ما رفع الله به قدرك ، وعظم به أمرك ، ولقد يعزّ على جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يراك بين ثلاثين ألفاً لا ناصر لك ولا معين ، وأبناؤك واخوتك وأهل بيتك والخيرة من شيعتك مجزّرين كالاُضاحي نصب عينيك ، ورضيعك يذبح وهو على يديك ، وحرمك نوائح ونوادب من خلفك ينادين: واغربتاه ، واضيعتاه.

وبالعزيز على فاطمة الزهراء أن تراك يا عزيزها بين جموعهم وقد ضعفت عن القتال ، ونزف دمك من كثرة الجراح، وحال العطش بينك وبين السماء كالدخان ، وأنت تنادي:

أما من ناصر فينصرنا ؟

أما من مغيث فيغيثنا ؟

وليت رسول الله رآهم وقد افترقوا عليك أربعة فرق: فرقة بالسيوف ، وفرقة بالرماح ، وفرقة بالسهام ، وفرقة بالحجارة ، حتى ذبحوك عطشاناً من القفا ، وأنت تستغيث فلا تغاث.

ثمّ هجموا على ودائع النبوّة فسلبوهنّ ونهبوا خيامهن ، وأشعلوا فيها النار ، فخرجن حافيات حاسرات ، معوّلات مسلبات ينادين:

وامحمداه واعليّاه ، وما اكتفوا بذلك حتى أجالوا الخيل على جسدك الطاهر ، ورفعوا رأسك على رمح طويل ، وساقوا نساءك وهن عقائل الوحي سبايا ، كأنهنّ من كوافر الديلم ، حتى أدخلوهن تارة على ابن مرجانة ، واُخرى على ابن آكلة الأكباد.

وأعظم ما يشجي الغيور دخولها

على مجلس ما بارح اللهو والخمرا

يعارضها فيه الدعي مسبّة

ويصرف عنها وجهه معرضاً كبرا

٣٢٦

[المجلس الثلاثون]

ومن كلام لهعليه‌السلام :

الدنيا دار مني لها الفناء ، ولأهلها منها الجلاء ، وهي حلوة خضراء ، قد عجلت للطالب ، والتبست فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد ، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف ، ولا تطلبوا فيها أكثر من البلاغ.(١)

هذا الكلام كان من عليعليه‌السلام وفق فعله ، فانّه ما شبع من طعام قط ، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً.

قال عبيد الله بن أبي رافع: دخلت عليه يوم عيد فقدّم إليه جراب مختوم ، فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً فأكل منه ، فقلت: يا أمير المؤمنين كيف تختمه ؟

قال: خفت هذين الولدين أن يليناه بسمن أو زيت.

وكان ثوبه مرقوعاً بجلدة تارة ، وبليف اُخرى ، ونعلاه من ليف ، وكان يلبس الكرابيس(٢) ، فإذا وجد كمه طويلاً قطعه ، وكان يأتدم بخلّ أو ملح ، فان ترقّى فببعض نبات الأرض ، فان ارتفع فبقليل من ألبان الإبل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلاً ، وقد طلّق الدنيا ثلاثاً ، وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام ، فيفرّقها ثم يقول:

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣: ١٥٢.

(٢) الكرباس - بالكسر -: ثوب من القطن الأبيض.

٣٢٧

هذا جناي وخياره فيه

إذ كلّ جانٍ يده إلى فيه(١)

ورآه عدي بن حاتم(٢) وبين يديه ماء قراح ، وكسيرات من خبز الشعير فقال: لا أرى لك يا أمير المؤمنين أن تظل نهارك صائماً مجاهداً ، وبالليل ساهراً مكابداً ثم يكون هذا فطورك ؟ فقالعليه‌السلام :

علّل النفس بالقليل وإلا

طلبت منك فوق ما يكفيها(٣)

ولم يزل هذا دأبه ، وهذه سجيّته ، حتى ضربه أشقى الآخرين على رأسه في مسجد الكوفة صبيحة ليلة الأربعاء لتسعة عشر مضين من شهر رمضان المبارك وهو ساجد لله في محرابه ، فبلغ السيف موضع السجود من رأسه ، فقال: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله ، فزت وربّ الكعبة لا يفوتنكم ابن ملجم ، واصطفقت أبواب الجامع ، وهبت ريح سوداء مظلمة ، ونادى جبرائيل بين السماء والأرض:

تهدمت والله أركان الهدى ، وانطمست والله أعلام التقى ، وانفصمت والله العروة الوثقى ، قتل ابن عم المصطفى، قتل الإمام المجتبى ، قتل علي المرتضى ، وجعل الدم يجري على وجهه ، فيخضب به لحيته الشريفة.

واقتدى به ولده أبو عبد اللهعليه‌السلام حيث رماه سنان لعنه الله بسهم

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٢٦.

(٢) عدي بن حاتم الطائي: أبو طريف ، كان من المنقطعين إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام والعارفين بحقّه ، صاحب المواقف المشهودة في الجمل وصفين وغيرهما ، فقئت عينه يوم الجمل ، واستشهد ابنه محمد فيها ، والآخر يوم النهروان ، قال له معاوية يوماً: ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قدم بنيك وأخر بنيه ! فقال عدي: بل أنا ما أنصفت علياً إذ قتل وبقيت.

انظر: الاستيعاب ٣: ١٤١ ، الاصابة ٢: ٤٦٨.

(٣) مناقب ابن شهر اشوب ٢: ٩٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ٢٤٦.

٣٢٨

فوقع في نحره فسقط عن جواده ، وقرن كفّيه جميعاً فكلّما امتلأتا خضب بهما رأسه ولحيته وهو يقول: هكذا ألقى الله وأنا مخضّب بدمي ، مغصوب حقّي.

وخرجت زينبعليها‌السلام حينئذ من فسطاطها تنادي: وا أخاه وا سيّداه وا أهل بيتاه ، ليت السماء اُطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل.

وقال هلال بن نافع: وقفت على الحسينعليه‌السلام وانّه ليجود بنفسه ، فو الله ما رأيت قتيلاً مضمّخاً بدمائه أحسن منه وجهاً ، ولا أنور منه ، ولقد شغلني نور وجهه ، وجمال هيئته عن الفكرة في قتله.

ومجرّح ما غيرت منه القنا

حسناً ولا غيّرن منه جديدا

قد كان بدراً فاغتدى شمس الضحى

مذ ألبسته يد الدماء لبودا

٣٢٩

[المجلس الحادي والثلاثون]

ومن كلام لهعليه‌السلام بعد تلاوته( أَلْهَاکُمُ التَّکَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ) (١) .

يا له مراماً ما أبعده ! وزوراً ما أغفله ! وخطراً ما أفظعه ! لقد استخلّوا منهم أي مدّكر ، وتناوشوهم من مكان بعيد.

أفبمصارع آبائهم يفخرون ! أم بعديد الهلكى يتكاثرون ! يرتجعون منهم أجساداً خوت ، وحركات سكنت ، ولأن يكونوا عِبراً ، أحقّ من أن يكونوا مفتخراً ، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلّةٍ ، أحجى من أن يقوموا بهم مكان عزّة ، لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة ، وضربوا منهم في غمرة جهالة ، ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية والربوع الخالية ، لقالت: ذهبوا في الأرض ضلالاً ، وذهبتم في أعقابهم جهّالاً ، تطؤون في هامهم ، وتستنبتون في أجسامهم ، وترتعون فيما لفظوا ، وتسكنون فيما خربوا ، وانّما الأيّام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم.

أولاؤكم سلف غايتكم وفرّاط مناهلكم ، الذين كانت لهم مقاوم العزّ ، وحلبات الفخر ، ملوكاً وسوقاً ، سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً ، سلّطت الأرض عليهم ، فأكلت من لحومهم ، وشربت من دمائهم ، فأصبحوا في فجوات قبورهم ، جماداً لا ينمون ، وضماراً لا يوجدون..... لئن بليت آثارهم ، وانقطعت أخبارهم ، لقد رجعت فيهم أبصار العبر ، وسمعت عنهم آذان العقول ، وتكلّموا من

____________________

(١) التكاثر: ١ - ٢.

٣٣٠

غير جهات النطق ، فقالوا: كلحت الوجوه والنواضر ، وخوت الأجسام النواعم ، ولبسنا أهدام البلى ، وتكّأدنا ضيق المضجع ، وتوارثنا الوحشة ، وتكهّمت الربوع الصموت ، فانمحت محاسن أجسادنا ، وتنكّرت معارف صورنا ، وطالت في مساكن الوحشة إقامتنا ، ولم نجد من كرب فرجاً ، ولا من ضيق مخرجاً.(١)

وتالله لا يفرج الكرب ، ولا يؤنس الوحشة إلا شفاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائهعليهم‌السلام ، وبالله لترونّ أمير المؤمنينعليه‌السلام واقفاً على شفير قبوركم يعلمكم جواب منكر ونكير ، وليبدلنّ الله وحشتكم بواسطته انساً ، وخوفكم برؤيته أمناً ، وليدخلنّ عليكم السرور في أجداثكم ، ولتقومنّ يوم القيامة سيدة نساء العالمينعليها‌السلام مقاماً تغبطون عليه وتدخلون به الجنّة.

فحقيق علينا أن نشاركها في مصيبتها التي أرزأت جبرائيل ، ونواسيها في رزيتها التي عظمت على الرب الجليل.

فيا ليت لفاطمة وأبيها عيناً تنظر إلى بناتها وبنيها ، وهم ما بين مسلوبٍ وجريح ، ومأسور وذبيح ، وبنات الوحي والنبوة يطاف بهن من بلد إلى بلد حتى وردوا بهن الشام ، فلمّا قربوا من دمشق دنت اُمّ كلثوم من شمر لعنه الله فقالت له: لي إليك حاجة.

قال: ما حاجتك ؟

قالت: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل نظاره.(٢)

وتقدّم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنها ،

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١: ١٤٥.

(٢) الملهوف: ١٧٤ ، مثير الأحزان: ٩٧.

٣٣١

ونحن في هذه الحال ، فأمر اللعين في جواب سؤالها: أن تحمل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً ، ثم سلك بهم الطرق العامّة على تلك الصفة حتى أتى بهم باب دمشق ، فأوقفوهم على درج باب المسجد ، حيث يقام السبي ، وطافوا برأس الحسينعليه‌السلام سكك دمشق وشوارعها.

جاءوا برأسك يا بن بنت محمد

متزمّلاً بدمائه تزميلا

قتلوك عطشاناً و لمـّا يرقبوا

في قتلك التأويل والتنزيلا

ويكبّرون بأن قتلت وانّما

قتلوا بك التكبير والتهليلا

٣٣٢

[المجلس الثاني والثلاثون]

ومن خطبة لهعليه‌السلام :

ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعماراً ، وأبقى آثاراً ، وأبعد آمالاً ، وأعدّ عديداً ، وأكثف جنوداً ، تعبّدوا للدنيا أي تعبّد ، وآثروها أي إيثار ، ثمّ ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ ، ولا ظهر قاطع ، فهل بلغكم أنّ الدنيا قد سخت لهم نفساً بفدية ، أو أعانتهم بمعونة ، أو أحسنت لهم صبحة ، بل أرهقتهم بالفوادح ، وأزهقتهم بالقوارع ، وضعضعتهم بالنوائب ، وعفرتهم للمناخر ، ووطأتهم بالمناسم ، وأعانت عليهم ريب المنون ، أفهذه تؤثرون ؟ أم عليها تحصرون ؟ فبئست الدار لمن لم يتّهمها ، ولم يكن فيها على وجل منها ، فاعلموا وانتم تعلمون بأنكم تاركوها ، وظاعنون عنها ، واتّعظوا فيها بالذين قالوا من أشدّ منّا قوّة ، حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركباناً ، وانزلوا فيها فلا يدعون ضيفاناً ، وجعل لهم من الصفيح أجنان ، ومن التراب أكفان ، ومن الرفاة جيران ، فهم جيرة لا يجيبون داعياً ، ولا يمنعون ضيماً ، إن جيدوا لم يفرحوا ، وان قحطوا لم يقنطوا ، قد استبدلوا يظهر الأرض بطناً ، وبالسعة ضيقاً ، وبالأهل غربة ، وبالنور ظلمة ، فجاءوها كما فارقوها حفاةً عراة ، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة ، والدار الباقية ، حيث لا ينفع الإنسان إلا ما قدّمه من أعماله الصالحة ، وما يرجوه من شفاعة الشافعين.(١)

وانّ أفضل عمل صالح. وأقوى سبب لنيل الشفاعة ، لزوم سنّته ، واتباع

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٧: ٢٢٦ وج ١١: ٢٥٧.

٣٣٣

عترتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّهم أحد الثقلين الذين لا يضل من تمسّك بهما ، ولا يهتدي إلى الله من صدف عنهما.

وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله من خطبة خطبها يوم غدير خم(١) :

____________________

(١) أقول: قد كثر الحديث حول هذا الحديث والف في جمع اسانيده الكتب قديماً وحديثاً ولعل اوّل من الف فيه كما في موسوعة الغدير للعلامة الامينيرحمه‌الله هو ابو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ٢١٠ هجرية صاحب التفسير والتاريخ المعروفين وهو من اكابر علماء العامة الف كتاب «الولاية في طرق حديث الغدير».

قال الذهبي في طبقاته ٢: ٢٥٤: «لما بلغ محمد بن جرير ان ابن ابي داود تكلم في حديث غير خم عمل كتاب الفضائل وتكلم في تصحيح الحديث».

ثم قال: قلت: رأيت مجلداً من طرق الحديث لابن جرير فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق».

وقال ابن كثير في تاريخه ١١: ١٤٦ في ترجمة الطبري: «اني رأيت له كتاباً جمع فيه احاديث غدير خم في مجلدين ضخمين» ونسبه إليه ابن حجر في تهذيب التهذيب ٧: ٣٣٧ (راجع الغدير ١: ١٥٢).

وقد اغنانا العلامة الامينيرحمه‌الله وكفانا البحث عن طرق هذا الحديث ومصادره فقد الف في ذلك موسوعته الضخمة - التي لم تتم - في احد عشر مجلداً جمع فيها طرقه وأسانيده ومن احتج به أو كلّم فيه أو قال فيه شعراً. ولكثرة النصوص المنقولة في هذا الحديث يحتار الانسان فيما يختاره من نص فآثرنا أن ننقل النص الذي صدره الامينيرحمه‌الله به كتابه وهو نص جامع بين مختلف النصوص الا أنا اكملنا أبيات حسان بن ثابت في الأخير.

واليك النص:

«أجمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الخروج إلى الحج في سنة عشرة من مهاجره ، وأذّن في الناس بذلك ، فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به في حجّته تلك يُقال عليها حجّة الوداع وحجّة الإسلام وحجة البلاغ وحجة الكمال وحجة التمام ، ولم يحجّ غيرها منذ هاجر إلى أن توفاه الله فخرجصلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة مغتسلاً متدهّناً مُترجّلاً متجرداً في ثوبين صحاريين إزار ورداء ، وذلك يوم السبت لخمس ليال أو ست بقين من ذي القعدة ، وأخرج معه نساءه كلهم في الهوادج ، وسار معه أهل بيته ، وعامّة المهاجرين والأنصار ، ومن شاء الله من قبائل العرب وأفناء الناس.

وعند خروجهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصاب الناس بالمدينة جدري (بضم الجيم وفتح الدال

٣٣٤

وبفتحهما) أو حصبة منعت كثيرا من الناس من الحج معهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع ذلك كان معه جموع لا يعلمها إلا الله تعالى ، وقد يقال: خرج معه تسعون ألف ، ويقال: مائة ألف وأربعة عشر ألفاً ، وقيل: مائة ألف وعشرون ألفاً ، وقيل: مائة ألف واربعة وعشرون ألفاً ، ويقال أكثر من ذلك ، وهذه عدّة من خرج معه ، وأمّا الذين حجّوا معه فأكثر من ذلك كالمقيمين بمكة والذين أتوا من اليمن مع عليّ (أمير المؤمنين) وأبي موسى.

أصبحصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الأحد بيلملم ، ثم راح فتعشّى بشرف السيالة ، وصلّى هناك المغرب والعشاء ، ثم صلّى الصبح بعرق الظبية ، ثم نزل الروحاء ، ثم سار من الروحاء فصلّى العصر بالمنصرف ، وصلّى المغرب والعشاء بالمتعشّى وتعشّى به ، وصلّى الصبح بالأثابة ، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج واحتجم بلحى جمل «وهو عقبة الجحفة» ونزل السقياء يوم الأربعاء ، وأصبح بالأبواء ، وصلّى هناك ثم راح من الأبواء ونزل يوم الجمعة الجحفة ، ومنها إلى قديد وسبت فيه ، وكان يوم الأحد بعسفان ، ثم سار فلمّا كان بالغميم إعترض المشاة فصفّوا فشكوا إليه المشي ، فقال: استعينوا بالسلان «مشي سريع دون العدو» ففعلوا فوجدوا لذلك راحة ، وكان يوم الاثنين بمرّ الظهران فلم يبرح حتى أمسى وغربت له الشمس بسرف فلم يصلّ المغرب حتى دخل مكّة ، و لمـّا انتهى إلى الثنيّتين بات بينهما فدخل مكة نهار الثلاثاء».

فلما قضى مناسكه وانصرف راجعاً إلى المدينة ومعه من كان من الجموع المذكورات ووصل إلى غدير خمّ من الجحفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة نزل إليه جبرائيل الأمين عن الله بقوله: «يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك» الآية ، وأمره أن يقيم علياً علماً للناس ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كلّ أحد ، وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة فأمر رسول الله أن يردّ من تقدّم منهم ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان ونهى عن سمرات خمس متقاربات دوحات عظام أن لا ينزل تحتهن أحد حتى إذا أخذ القوم منازلهم فقمّ ما تحتهنّ حتى إذا نودي بالصلاة صلاة الظهر عمد إليهنّ فصلّى بالناس تحتهنّ ، وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض رداءه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الرمضاء ، وظلّل لرسول الله بثوب على شجرة سمرة من الشمس ، فلمّا انصرفصلى‌الله‌عليه‌وآله من صلاته قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الابل وأسمع الجميع ، رافعاً عقيرته فقال:

الحمد لله نستعينه ونؤمن به ، ونتوكل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيّئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضلّ ولا مضلّ لمن هدى وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله - أمّا بعد - ايها

٣٣٥

الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر الذي قبله ، واني اوشك أن اُدعى فأجيب ، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون ، فما أنتم قائلون ، قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً ، قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأنّ جنته حقّ وناره حقّ وأنّ الموت حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور ، قالوا: بلى نشهد بذلك ، قال: اللهم اشهد ثم قال: ايها الناس ألا تسمعون ؟ قالوا: نعم ، قال: فاني فرَط على الحوض ، وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظرا كيف تخلّفوني في الثقلين.

فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله ؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله طرفٌ بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلّوا ، والآخر الأصغر عترتي ، وإن اللطيف الخبير نبّأني انهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض فسألت ذلك لهما ربي ، فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ثم أخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون ، فقال: أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ، قال: إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، يقولها ثلاث مرّات ، وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرّات ثم قال: اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، ثم لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي» الآية ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، والولاية لعليّ من بعدي» ثمّ طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين صلوات الله عليه وممن هنّأه في مقدّم الصحابة: الشيخان أبو بكر وعمر كل يقول: «بخ بخ لك ، يا ابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة» ، وقال ابن عبّاس: وجبت والله في أعناق القوم ، فقال حسّان: إئذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتاً تسمعهن ، فقال: قل على بركة الله ، فقام حسان فقال: يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادةٍ من رسول الله في الولاية ماضية ، ثم قال:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ واسمع بالرسول مناديا

وقال فمن مولاكم ووليّكم

فقالوا ولم يبدوا هناك تعاديا

إلهك مولانا وأنت وليّنا

ولن تجدن منّا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا عليّ فإنّني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

٣٣٦

ألا أيها الناس إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فاُجيب ، وأنا تارك فيكم الثقلين ، أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به... وثانيهما أهل بيتي ، اذكركم الله في أهل بيتي ، اذكركم الله في أهل بيتي ، اذكركم الله في أهل بيتي.

- وزاد الطغرائي -: فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فانّهم أعلم منكم.

وكان آخر ما تكلم به - فيما رواه الطبراني عن ابن عمر -: اخلفوني في أهل بيتي.

وفي رواية: فلا تقتلوهم ولا تقهروهم ، ولا تقصروا عنهم.

بأبي أنت واُمي يا رسول الله أين موضع القبول منهم بعهدك إلى أخيك ، ووصاياك ببضعتك الزهراء وبنيك ؟ وقد هدم القوم ما بنيت ، وأضلّوا جانباً ممّن هديت ، وفعلوا بعترتك ما لا يفعلون بالخوارج ، وقابلوهم بما لا يقابلون به أهل الخنا والريب.

أمّا البتول فقد قضت وبقلبها

من فعلهم قبسات وجد مكمن

والمرتضى أردوه في محرابه

بيمين أشقى العالمين وألعن

فخصّ بها دون البريّة كلّها

عليّاً وسمّاه الغدير أخائيا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليّه

وكن للّذي عادى معاديا

انظر: مسند أحمد: ٤ / ٢٨١ ، فضائل أحمد: ١١١ ، ١٦٤ ، مصنّف ابن أبي شيبة: ١٢ / ٧٨ / ١٢٦٧ ، تاريخ بغداد: ٨ / ٢٩٠ ، البداية والنهاية: ٥ / ٢١٠ ، مناقب الخوارزمي: ٩٤ ، كفاية الطالب: ٦٢ ، فرائد السمطين: ١ / ٣٨ ، ٧١ ، السيرة الحلبية ٣: ٢٨٣ ، سيرة أحمد زيني دحلان ٣: ٣ ، تذكرة الخواص: ١٨ ، دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٥٤٢.

٣٣٧

وبشربة السمّ النقيع عداوةٌ

من كفّ جعدة قد قضى الحسن السني

وإليك عنّي لا تقل حدّث بما

لاقى الحسين فرزؤه قد شفني

حيث المصائب جمّة لا أدر ما

منها أقصّ عليك لو كلّفتني

نعم ، أقصُ عليك مصيبته بأطفاله ، فعن أبي الفرج الاصفهاني: أنّه كان في مخيم الحسينعليه‌السلام ستّة أطفال وقفوا في باب الخيمة وقد أضرّ بهم العطش ، فاتلعوا برقابهم إلى الفرات ، يتموّج كأنّه بطون الحيّات ، فجاءتهم السهام فذبحتهم عن آخرهم ، وكان الحسين قد تناول ولده الرضيع ليودعه أومأ إليه ليقبّله رماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه ، فتلقّى الحسينعليه‌السلام دم الطفل بكلتا يديه ، لمـّا امتلأتا من الدم رمى به نحو السماء ثم قال: هوّن عليَّ ما نزل بك أنّه بعين الله.

وقيل: أنّ الطفل كان مغمى عليه من شدّة العطش ، فلمّا أحسّ بحرارة السهم رفع يديه من القماط واحتضن أباه..

و لمـّا سقط الحسينعليه‌السلام عن ظهر جواده خرج عبد الله بن الحسنعليه‌السلام وهو غلام لم يراهق ، واشتدّ حتى وقف إلى جنب عمه ، فلحقته عمّته زينب لتحبسه فأبى وامتنع شديداً وقال: والله لا أفارق عمي.

فأهوى بحر بن كعب ، وقيل: حرملة بن كاهل إلى الحسين بالسيف فاتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلقة ، فنادى الغلام:

يا اُماه ، فأخذه الحسين عليه الس لام فضمّه إلى صدره وقال:

يا بن أخي اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير ، فانّ الله يلحقك بآبائك الصالحين ، فرماه حرملة لعنه الله بسهم فذبحه وهو في حجر عمّه.(١)

هبوا انّكم قاتلتموا فقتلتم

فما بال أطفال تقاسي نبالها

____________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٨٩.

٣٣٨

[المجلس الثالث والعشرون]

ومن خطبة لهعليه‌السلام :

أما بعد: فانّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع ، وانّ الآخرة قد أقبلت وأشرقت باطلاع ، ألا وانّ اليوم المضمار ، وغداً السباق ، والسبقة الجنّة ، والغاية النار ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته.

ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه ، ألا وانّكم في أيّام أمل ، من ورائه أجل فمن عمل في أيّام أمله قبل حضور أجله ، فقد نفعه عمله ، ولم يضرّه أجله.

ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة.

ألا وانّي لا أرى كالجنّة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربها.

ألا وانّكم قد اُمرتم بالظعن ، ودللتم على الزاد ، وانّي أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى ، وطول الأمل ، فتزوّدوا في الدنيا ما تجهّزوا به أنفسكم غداً ، وتزوّدوا فانّ خير الزاد التقوى.(١)

وسمعه أبو الدرداء يقول في مناجاته في جوف الليل ، وهو مستتر ببعيلات بني النجار:

إلهي اُفكر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي ، ثم اذكر العظيم من أخذك فتعظم على بليّتي.

آه آه ، إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها ، وأنت محصيها ، فتقول: خذوه ، فيا له من مأخذو لا تنجيه عشيرته ، ولا تنفعه قبيلته.

____________________

(١) الارشاد للشيخ المفيد: ٢٣٥ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٩١.

٣٣٩

آه آه ، من نار تنضج الأكباد والكلى.

آه آه ، من نار نزّاعة للشوى.

آه آه ، من غمرة من لهبات لظى.

قال أبو الدرداء: ثمّ انغمس في البكاء فلم أسمع له حسّاً ولا حركة ، فأتيته فإذا هو كالخشبة اليابسة ، فحرّكته فلم يتحرّك ، وزويته فلم ينزو ، فقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، مات والله علي بن أبي طالب ، فأتيت أهله أنعاه إليهم.

فقالت فاطمة سلام الله عليها: هي والله الغشية التي تأخذه من خشية الله تعالى ، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ، فرآني أبكي فقال: ممّ بكاؤك يا أبا الدرداء ؟

فقلت: ممّا تنزله بنفسك.

قال: كيف بك لو رأيتني وقد دعي بي إلى الحساب ، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب ، واحتوشتني ملائكة غلاظ شداد ، ووقفت بين يدي من لا تخفى عليه خافية.(١)

وكان صلوات الله وسلامه عليه: أعبد الناس ، وأكثرهم صلاة وصوماً ، منه تعلم الناس صلاة الليل. وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة.

وكانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده ، وما ظنّك بمن يبلغ من محافظته على ورده ، أن يبسط له قطع بين الصفين ليلة الهرير ، فيصلّيعليه‌السلام ورده ، والسهام تقع بين يديه ، وتمرّ على صماخيه يميناً وشمالاً فلا يرتاع ، ولا يقوم حتى يفرغ من ورده وصلاته.(٢)

____________________

(١) تنبيه الخواطر (مجموعة ورام) ٢: ١٥٦.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٢٧.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348