المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه11%

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 348

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه
  • البداية
  • السابق
  • 348 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47106 / تحميل: 4595
الحجم الحجم الحجم
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة وبضمنه

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

أقول: انظر بعين البصيرة إلى تفاني أنصار أبي عبداللَّه الحسين: في نصرته والذّب عنه بحيث قدّموا نصرته على حياتهم، وعيالهم، وأولادهم وهم يعلمون يقيناً أنهم لن يقابلوا جيشاً تعدادهُ ثلاثون ألفاً من فرسان المصر وأبطال العرب ممّن مارسوا الحرب وعرفوها، ولكنّها المعرفة، والمحبّة، ونداء الواجب، وأداء الوظيفة والتكليف، ومن هنا صار شهداء الطّف سادات الشهداء، لا يفوقهم سابق، ولا يَلحقهم لاحق قال الشاعر:

نصروا ابنَ بنت نبيّهم طوبى لهم

نالوا بنصرته مراتبَ سامية

قد جاوروه ههنا بقبورهم

وقصورُهم يوم الجزا متحاذية(١)

قال السيد ابن طاووس(ره): قال الرّاوي: وبات الحسين(ع) وأصحابُهُ تلك الليلة ولهم دويٌّ كدويِّ النّحل، ما بين راكعٍ وساجد وقائمٍ وقاعد.

يصفهم المرحوم السيد حيدر الحليّ في احدى روائعه الخالدة:

سِمَةُ العبيدِ من الخشوعِ عليهمُ

للَّهِ إنْ ضمّتهُمُ الأسحارُ(٢)

وروى أبو حمزة الث’ُّمالي عن الإمام زين العابدين(ع) قال: قال عليّ ابن الحسين(ع) كنت مع أبي في الليلةِ التي قُتل في صبيحتها فقال لأصحابه: هذا الليل قد غشيكُمْ فاتّخذوه جُنة، فإنّ القومَ انّما يريدونني ولو

____________________

(١) من قصيدة للمرحوم الشيخ محمّد علي الأعسم(ره).

(٢) الدُّر النَّضيد: ص١٥٨.

٢٢١

قتلوني لم يلتفتوا إليكم وأنتم في حلٍّ وسعة فقالوا: واللَّهِ لا يكون هذا أبداً فقال: انكم تقتلون غداً كلّكم ولا يفلت منكم رجل قالوا: الحمدُ للَّهِ الذي شرّفنا بالقتل معك، ثمّ دع(ع) فقال لهم: ارفعوا رؤوسكم وانظروا فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة وهو يقول لهم: هذا منزلك يافلان، فكان الرّجل منهم بعد ذلك يستقبل الرّماح والسيوف بصدره ووجهِهِ ليصل إلى منزله من الجنّة(١) .

وقال الشيخ المفيد(ره): قال الإمام عليّ بن الحسين(ع): إني لجالسٌ في تلك العشيّة التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمّتي زينب تمرّضني إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جون مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:

يادهرُ أفٍّ لك من خليلِ

كم لك بالإشراقِ والأصيلِ

من صاحبٍ وطالبٍ قتيلِ

والدَّهرُ لا يقنَع بالقليلِ

وانّما الأمرُ إلى الجليل

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتى فهمتُها وعرفتُ ما أراد، فخنقّتني العبرة فرددتها ولزمتُ السكوت وعلمتُ أنّ البلاء قد نزل.

وأمّا عمّتي زينب فإنّها سمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأنِ النّساء الرّقّة فلم تملك نفسها أن وثبت تجرُّ ثوبَها حتى انتهت إليه فقالت: واثُكلاه ليت الموتَ أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن،

____________________

(١) نفس المهموم للمرحوم الشيخ عبّاس القمّي(ره): ص٢٣١.

٢٢٢

ياخليفةَ الماضي. وثِمالَ(١) الباقي، فنظر إليها الحسين(ع) وقال لها: ياأخيّة لا يذهبنّ بحلمك الشيطان، وترقرقت عيناه بالدّموع وقال: لو تُرك القَطا ليلاً لنام ثمّ لطمت وجهها وأهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشيةً عليها فقام إليها الإمام الحسين(ع) فصبّ على وجهها الماء وقال لها: ياأختاه تعزّي بعزاء اللَّه واعلمي أنّ أهلَ الأرض يموتون وأنّ أهلَ السّماء لا يبقون وأنّ كلّ شي‏ءٍ هالِكٌ إلّا وجهُ اللَّه الذي خلق الخلق بقدرتِهِ ثمّ قال لها: ياأخيّة إني أقسمتُ عليك فأبرّي قسمي لا تشقّي عليّ جيباً ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تَدعي بالويل والثبور إذا أنا هلكت - قضيت نحبي -، ثمّ رجع(ع) إلى مكانه، فقام الليل كلّه يصلّي ويستغفر ويدعو ويتضرّع، وقام أصحابُه كذلك يصلّون ويدعون ويستغفرون، فباتوا ولهم دويٌّ كدويِّ النّحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، وكذا كانت سجيّةُ الإمام الحسين(ع) في كثرة صلاته وكمال صفاته وكان صلوات اللَّه عليه كما وصفه إبنُه إمامُنا المهدي صلوات اللَّه عليه: للقرآن سنداً، وللأمّةِ عضداً، وفي الطّاعة مجتهداً حافظاً للعهد والميثاق ناكباً عن سبلِ الفسّاق باذلاً للمجهود طويل الرّكوع والسجود زاهداً في الدّنيا زهدَ الرّاحل عنها ناظراً إليها بعين المستوحشين منها.

____________________

(١) الثِّمال ككتاب: الغياث والذي يقوم بأمر قومه، يُقال فلانٌ ثِمالُ قومه أي غياث لهم، وفي حديث أبي طالب(ع) يمدح ابن أخيه رسول اللَّه(ص):

وأبيضَ يُستسقى الغَمامُ بوجهِهِ

ثِمالُ اليتامى عصمةٌ للأرامِلِ

مجمع البحرين: ج ٥ ص٣٣٢.

٢٢٣

وروي أنّه لما كان وقت السّحر خَفِقَ الحسين(ع) برأسه خفقةً ثمّ استيقظ فقال: أتعلمون ما رأيت في منامي الساعة؟ فقالوا: وما الذي رأيت ياابن رسول اللَّه(ص)؟ فقال: رأيت كأنّ كلاباً قد شدّت عليّ لتنهشني وفيها كلبٌ أبقع رأيته أشدّها علي أظنُّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجلٌ أبرص من بين هؤلاء القوم(١) .

أقول: وكان ذلك اللعين هو شمر بن ذي الجوشن بعد أن سقط الإمام(ع) على الأرض جريحاً، يقول إمامنا المهدي عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف في الزيارة المرويّة عنه المعروفة ب (زيارة الناحية المقدّسة): فهويت إلى الأرض جريحاً تطؤُكَ الخيولُ بحوافرها وتعلوكَ الطغاةُ ببواترها قد رشحَ للموتِ جبينُكَ واختلفت بالإنقباضِ والإنبساطِ شمالُك ويمينك تُديرُ طرفاً خفيّاً إلى رَحلِكَ وبيتك وقد شُغلتَ بنفسِكَ عن ولدكَ وأهاليك وأسرع فرسُكَ شارداً إلى خيامِكَ قاصداَ محمحماً باكياً فلمّا رأينَ النّساءُ جوادَكَ مخزيّاً وسرجكَ عليه ملويّاً برزنَ من الخدور ناشراتِ الشعور على الخدودِ لاطمات وبالعويلِ داعيات وبعد العزّ مذلّلات(٢) .

يقول المرحوم الكعبي في ذلك:

وأقبلْنَ ربّاتُ الحجالِ وللأسى

تفاصيلُ لا يُحصي لهنَّ مفصِّلُ

فواحدةٌ تحنو عليه تضمُّهُ

وأخرى عليه بالرّداءِ تظلّلُ

وأخرى بفيضِ النّحرِ تصبَغُ وجهها

وأخرى لما قد نالها ليس تعقلُ

____________________

(١) نفس المهموم: ص٢٣٣ - ٢٣٤.

(٢) الصحيفة المهديّة للمرحوم الشيخ إبراهيم بن المحسن الكاشاني١: ص ٢١٣ - ٢١٤.

٢٢٤

وأخرى على خوفٍ تلوذُ بجنبِهِ

وأخرى تفدّيه وأخرى تقبّلُ

تكفّ الدّما عنهُ وتهملُ مثلها

دموعاً فلم تبرح تكفّ وتُهملُ

وجاءت لشمرٍ زينبُ ابنةُ فاطمٍ

تعنّفُهُ عن أمرِهِ وتعذّلُ

تقولُ له مهلاً فهذا ابنُ أحمدٍ

وشبلُ عليِّ المرتضى المتفضِّلُ

إلى أن يقول عزّ على المؤمنين والمؤمنات:

ومرّ يحزّ النّحرَ غيرَ مراقِبٍ

من اللَّهِ لا يخشى ولا يتوجّلُ

وزُلزلتِ الأرضونَ وارتجّت السما

وكادت له أفلاكها تتعطّلُ

واحسيناه واسيّداه واشهيداه..

ولسان حال اُخته العقيلة:

يخويه بيش أضمّك وين أودّيك

يخوية اشلون أصد عنّك وخليّك

تراني تحيّرت يامهجتي بيك

يخوية بيش أظلّلك امن الحر

هوت يمّه تشم كسر البضلعه

أخويه الماطبع يشبه الطبعه

غابت روحه وفزّت تودعه

اولن راسه ابراس الرّمح مزهر

* * *

لمـّن شافته صفگت بديها

اوشگت ثوبها ويلي عليها

ما تنلام من شافت وليها

فوگ الرّمح راسه يلوح بالبر(١)

* * *

____________________

(١) من النّصاريات الخالدة للمرحوم الشيخ محمّد نصار(ره).

٢٢٥

طأطِئوا الروسَ إنّ رأسَ حسينٍ

رفعتهُ فوق القَنا الخَطّار

لا تذوقوا المعينَ واقضوا ضمايا

بعد ظامٍ قضى بحدِّ الغِرار(١)

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

____________________

(١) من قصيدة للمرحوم الشيخ عبدالحسين شكر العراقي(ره) والغِرار: هو حدُّ السّيف.

٢٢٦

يوم العاشرالمجلس الثاني والعشرون

مقتل الإمامِ الحسينعليه‌السلام

من ذا يقدّمُ لي الجوادَ ولامتي

والصَّحْبُ صرعى والنصيرُ قليلُ

فأتتهُ زينبُ بالجوادِ تقودُهُ

والدّمعُ من ذكرِ الفراقِ يسيلُ

وتقولُ قد قطّعتَ قلبي يا أخي

حُزناً فياليتَ الجبالَ تزولُ

فلمن تنادي والحماةُ على الثرى

صرعى ومنهم لا يُبلُّ غليلُ

ما في الخيامِ وقد تفانى أهلُها

إلّا نساءٌ ولَّهٌ وعليلُ

أرأيتَ أختاً قدّمت لشقيقها

فرسَ المنونِ ولا حمىً وكفيلُ

فتبادرت منه الدّموعُ وقال يا

أختاهُ صبراً فالمصابُ جليلُ

فبكت وقالت يابن أمّي ليس لي

وعليكَ ما الصّبرُ الجميلُ جميلُ

يا نورَ عيني يا حُشاشةَ مهجتي

من للنساءِ الضّائعاتِ دليلُ

ورنت إلى نحوِ الخيامِ بعولةٍ

عظمى تصبُّ الدّمعَ وهي تقولُ

قوموا إلى التوديعِ إنّ أخي دعا

بجوادِهِ إنّ الفراقَ طويلُ

فخرجنَ ربّاتُ الخدورِ عواثراً

وغدا لها حولَ الحسينِ عويلُ

اللَّه ما حالُ العليلِ وقد رأى

تلكَ المدامعَ للوداعِ تسيلُ

فيقومُ طوراً ثمّ يبكو تارةً

وعراهُ من ذكرِ الوداعِ نحولُ

فغدا ينادي والدّموعُ بوادرٌ

هل للوصولِ إلى الحسينِ سبيلُ

هذا أبيُّ الضّيم ينعى نفسَه

يا ليتني دونَ الأبيِّ قتيلُ(١)

* * *

____________________

(١) قصيدة عصماء من نظم المرحوم الشيخ محمّد نصّار(ره) أدب الطف ج٧ ص٢٣٢، وقد تقدّمت ترجمتُهُ ص٣٤.

٢٢٧

قال الامام الحسين(ع) يوم العاشر من المحرّم في ضمن خطبةٍ له:

(ألا وإنّ الدّعيَّ بنَ الدّعي قد ركز بين اثنتين بين السلّةِ والذلّة وهيهاتَ منّا الذلّة يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُهُ والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهُرت، وأنوفٌ حميَّة، ونفوسٌ أبيّة، من أن نؤثر طاعةَ اللئام على مصارعِ الكرام، ألا وإنّي زاحفٌ بهذه الأسرة على قلّةِ العدد وخذلانِ النّاصِر)(١) .

قال الشيخ المفيد(ره) في (مسار الشّيعة):

في اليوم العاشر من المحرّم قُتِلَ سيّدُنا أبو عبداللَّه الحسين بن علي(ع) سنة ٦١ إحدى وستين من الهجرة، وهو يومٌ تتجدّد فيه أحزانُ محمّدٍ وآل‏محمّد(ص) وشيعتهم، وجاءت الرّوايةُ عن (الأئمّة) الصّادقين: باجتناب الملاذ فيه، وإقامةِ سنن المصائب، والإمساك عن الطّعام والشّراب إلى أن تزول الشّمس، والتغذّي بعد ذلك بما يتغذّى أصحابُ المصائب من الألبان وأشباهها دون اللذيذ من الطّعام والشّراب، ويستحبّ فيه زيارة المشاهد، والإكثار من الصلاة على محمّدٍ وآله(ص)، والابتهالِ إلى اللهِ تعالى باللعنةِ على أعدائهم وظالميهم.

ورُويَ من زار قبرَ الحسين(ع) يوم عاشوراء فكأنّما زار اللَّهَ في عرشه، ورويَ من زاره وبات عنده ليلة عاشوراء حتى يُصبح حشره للَّه تعالى ملطّخاً بدم الحسين(ع) في جملة الشهداء معه، ورويَ أنّه من أراد أن يقضي حقّ رسولِ اللَّه(ص) وحق أمير المؤمنين وفاطمة والحسن

____________________

(١) إبصارُ العين للمرحوم الشيخ محمّد السَّماوي ص١١.

٢٢٨

والحسين: فليزر قبر الحسين(ع) في يوم عاشوراء(١) .

فاللازم على الموالي المتأسّي بالنبيِّ الأعظم(ص) الباكي على ولدِهِ بمجرّد تذكر مصابه أن يقيم المأتم على سيّد الشهداء ويأمر مَن في دارِهِ بالبكاء عليه وليعزّ بعضهم بعضاً بالحسين(ع) فيقول كما في حديث الإمام الباقر(ع): (عظّمَ اللَّهُ أجورَنا بمصابِنا بالحسين وجعلنا وإيّاكم من الطالبين بثأرِهِ مع ولدِهِ المهديّ من آلِ محمّد(ص))(٢) .

وفي الحديث أنه دخل عبداللَّه بن سنان على أبي عبداللَّه الصادق: في يوم عاشوراء فرآه كاسف اللون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر على خدّيه كاللؤلؤ فقال له: مِمَّ بكاؤكَ يابن رسول اللَّه قال(ع): (أوَ في غفلةٍ أنت، أما علمت أنّ الحسين أُصيب في هذا اليوم ثمّ أمرَهُ أن يكون كهيئة أرباب المصائب يحلّل أزرارَهُ، ويكشف عن ذراعيه ويكون حاسراً، ولا يصوم يوماً كاملاً وليكن الإفطار بعد العصر بساعة على شربةٍ من ماء ففي ذلك الوقت تجلّت الهيجاء عن آلِ محمّد(ص)) ثمّ قال(ع): (لو كان رسول اللَّه حيّاً لكان هو المعزّى به).

وأما الإمام الكاظم(ع) فلم يُر ضاحكاً أيام العشرة وكانت الكآبةُ غالبةً عليه ويوم العاشر يوم حزنه ومصيبته.

ويقول الإمام الرّض(ع): (فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأذلّ عزيزَنا بأرض كربٍ وبلاء).

____________________

(١) مسار الشيعة: ص٢٤ - ٢٥.

(٢) كامل الزيارات: ص٣٢٦ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٢٩

وفي زيارة الناحية يقول حجّةُ آلِ محمّد عجّل اللَّه تعالى فرجَه الشريف مخاطباً جدّه الحسين: (فلأندبنكَ صباحاً ومساءاً ولأبكينّ عليك بدلَ الدّموعِ دماً)(١) .

وقال الشيخ القمّيرحمه‌الله تعالى في (مفاتيح الجنان): (وينبغي للشيعة أن يمسكوا فيه عن السّعي في حوائج دنياهم وأن لا يدخروا فيه شيئاً لمنازلهم وأن يتفرّغوا فيه للبكاء والنّياح وذكر المصائب وأن يقيموا مأتم الحسين(ع) كما يقيمونه لأعزّ أولادهم وأقاربهم)(٢) .

وها نحن نذكر هنا مصائب الإمام الحسين(ع) وما جرى عليه بعد أن قُتل أصحابُه وأهل بيته وبقي وحيداً لا ناصر له ولا معين قال الراوي: ثمّ أنّ الحسين(ع) لما نظرَ إلى مصارع أنصارِه وأهلِ بيته والتفت يميناً فلم يرَ أحداً، والتفت شمالاً فلم يرَ أحداً، استعبر واستغاث استغاثته الثانية ونادى: (هل من ذابٍ يذبّ عن حُرَمِ(٣) رسول اللَّه؟ هل من موحّدٍ يخاف اللَّه فينا؟ هل من مغيثٍ يرجو اللَّهَ في إغاثتنا؟) فلم يجبه سوى الإمام زين العابدين(ع) فمنعتهُ أمّ كلثوم لما بِهِ من المرض فقال: دعيني ياعمتاه أقاتلُ بين يدي ابن رسول اللَّه فصاح الإمام الحسين(ع): (خذيه ياأختاه لئلّا تبقى الأرض خاليةً من نسل آل محمّد(ص)

ثمّ عزم على لقاءِ القوم بنفسِهِ فجاء إلى الخيام للتوديع ثاني مرّة فنادى:

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص٢٧٣ - ٢٧٤.

(٢) مفاتيح الجنان للمرحوم الشيخ عباس القمّي: ص٢٨٨.

(٣) حُرَم رسول اللَّه: ما لا يجوز انتهاكُهُ.

٢٣٠

(يا زينب، ياأم كلثوم، ياسكينة، يا فاطمة عليكنّ مني السلام) ثمّ جعل يوصيهنّ بالصّبر والسكينة والتسليم لقضاءِ اللَّه.

وقال لهنّ: (استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ اللَّهَ حافظُكُم وحاميكم، وسينجّيكم من شرّ الأعداء، ويعذّب أعداءكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النّعَم والكرامة، فلا تشكّوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقصُ من قدركم ويحبط أجركم).

قال أرباب المقاتل: انه حين بقي وحيداً وتقدّم للحرب صار يتقدّم إليه من جندِ ابن سعد من صناديد الأبطال وفرسان الرّجال واحدٌ بعد واحد فيقتله(ع)، فصاح عمر بن سعد بأصحابه: الويلُ لكم أتدرون لمن تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، فاحملوا عليه بأجمعكم حملة رجلٍ واحد.

فحملوا عليه من كلّ جانب حتى جعلوه في مثل الدائرة وهو(ع) يغوص في الأوساط ويقلب الميمنة على الميسرة حتى قتل عامّتهم، وأقام قيامتهم، ولم يزل يقتلُ في كلّ حملةٍ جملة، وفي كلّ كرّةٍ كثرة، وفي كلّ زحوفٍ اُلوف.

قال حميد بن مسلم: فواللَّهِ ما رأيتُ مكثوراً قطّ قد قُتِلُ ولدُهُ وأصحابُهُ أربطَ جأشاً ولا أمضى جَناناً ولا أشدّ إقداماً منه قط، وإن كانت الرجال لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذّئب ولقد كان يحملُ فيهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً فينهزمون من بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر.

وكان(ع) يقاتلُ في كلّ برهة فارساً على فرسه (المرتجز) واُخرى

٢٣١

على غيره، ولكنّ الظاهر أن الحجرَ المشؤوم والسّهمَ المسموم ذي الثلاث شعب وطعنة صالح بن وهب أوجبت في وجوده المقدّس ما لا يستطيع القلمُ أن يسطّره ولا اللسان أن يذكره، ولكن لما خلا سرجُ ذي الجناح من هيكل الوحي والتنزيل، أو فقل هوى على الأرض عرش الملك الجليل جعل(ع) يقاتل وهو راجل قتالاً أقعد الفوارس وأرعد الفرائص وأذهل عقولَ فرسان العرب، قال ابن الأثير(١) :

قاتل (ع) راجلاً قتال الفارس الشجاع يتّقي الرمية، ويتفرّس العودة ويشدّ على الخيل وهو يقول: (ويحكم أعلى قتلي تجتمعون؟!) ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول: (لا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم).

قال العلّامة المجلسيرحمه‌الله في البحار:

ثمّ حمل عليهم كالليث المغضب فجعل لا يلحقُ أحداً إلّا بعجه بسيفه فقتله، والسهامُ تأخذُهُ من كلّ ناحية وهو يتّقيها بنحره وصدرِه ويقول: (ياأُمّة السوء بئسما خلفتهم نبيّكم محمّداً في عترته).

ولم يزل(ع) على هذا وأمثاله حتى اقتطعوه وحالوا بينه وبين رَحْلِه فصاح: (ويحكم ياشيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لاتخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم وأنسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون) فناداه شمر: ما تقول يابن فاطمة؟

قال: (أقول أنا الذي اُقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهنّ جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحُرَمي ما دمتُ حيّ).

____________________

(١) الكامل في التأريخ ج٤ ص٧٨، طبعة دار صادر بيروت.

٢٣٢

فقال الشمر: لك ذلك يابن فاطمة ثمّ قال: اقصدوه بنفسه فلعمري لهو كفؤٌ كريم، ثمّ جعل يحملُ ويحملون عليه وهو في ذلك يطلب شربة من الماء ويتلظّى كبدُه من الظمأ، ويلوك لسانه من شدّة العطش وقد صار كالخشبة اليابسة.

ثمّ لما اشتدّ به الاعياء والعناء، وضعف عن القتال وقف ليستريح هنيئة ولكنّ طعنة سنان ابن أنس وضربة سيف بن زرعة لم يتمكن الإمام معهما حتى من الوقوف على الأرض وكان قد أعيا فقعد.

وبينا هو (ع) جالس على الرّمضاء خرج من الخيام غلامٌ كأنّ وجهَهُ فلقةُ قمر، وفي أذنيه قرطان يتذبذبان، فجعل يعدو ويركض حتى جاء إلى عمّه الحسين(ع)، وكأنه لما رأى عمّه (على) تلك الحال والدماءُ تسيلُ من جميع جوانبِه وجوارِحِه أُدهِشَ وذهل، وبينا هو واقف ينظر إلى عمّه مبهوتاً أهوى بحرُ بن كعب إلى الحسين(ع) بسيفه ليضربه، فقال له الغلام، أتضرب عمّي؟ يابن الخبيثة، فعدل بضربته إلى الغلام فأصابت يده فأطنّها من المرفق وإذا هي معلّقة، فصاح الغلام، واعمّاه فأخذه عمُّه وضمّه إليه وأجلسه في حجره، فرماه حرملةُ بن كاهل فذبحه وهو في حجر عمّه فاحتسبه عند اللَّه وقال: (هوّنَ عليّ ما نزل بي أنّه بعين اللَّه)، ثمّ انتهى به الحال(ع) أنه من كثرة نزف الدماء، ومن شدّة العطش، ومن حرارة الشمس ولفح الهجير، وترادف المصائب والرزايا لم يتمكّن حتى البقاء جالساً على الأرض فصنع له وسادةً من الرّمل ونام عليها قال بن شهرآشوب:

لمـّا صرع الحسين(ع) جعل فرسُهُ يحامي عنه، فيثب على الفارس

٢٣٣

فيخبطه على سرجه ويدوسه برجله، حتى قتل جماعة، ثمّ تمرّغ في دم الحسين(ع) ثمّ قصد الخيمة وله صهيلٌ عال، وهو يضرب بيديه الأرض ويقول في صهيله:

الظليمةُ الظليمة من أمّةٍ قتلت ابن بنت نبيّها!!

قال: فخرجت زينب بنت علي(ع) من الفسطاط تنادي:

واأخاه، واسيّداه، ليت السماءَ اُطبقت على الأرض وليت الجبال تدكدكت على السّهل، يابن سعد أيقتلُ أبو عبداللَّه وأنت تنظر إليه؟!

فصرف وجهَهُ الخبيث عنها ودموعُهُ تسيلُ على لحيته المشؤومة، والحسين في كلّ ذلك مغمىً عليه، تحاماه الناس(١) .

ثمّ نادى عمر بن سعد: أما فيكم من يذبحُ الحسين ويأتيني برأسه؟ فبدر إليه الشمر فرفسه برجله وجلس على صدره، وقبض على شيبته المقدّسة، وضربه بالسيف اثنتي عشرة ضربة واحتزّ رأسه المقدّس:

واإماماه، واسيّداه، واحسيناه، وامظلوماه

ومرَّ يحزُّ النّحرَ غيرَ مراقبٍ

من اللَّهِ لا يخشى ولا يتوجّلُ

وزُلزلت الأرضونَ وارتجّت السّما

وكادت له أفلاكُها تتعطّلُ(٢)

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

____________________

(١) إلى هنا نقلته عن (مقتل الحسين(ع)) للمرحوم آية اللَّه الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء١، تحقيق الخطيب فضيلة الشيخ هادي الهلالي.

(٢) من قصيدة عصماء للمرحوم الشيخ هاشم الكعبي.

٢٣٤

يوم الثالث عشر المجلس الثالث والعشرون

دفنُ الأجساد الطّاهرة

لم أنسَهُ اذ قام فيهم خاطباً

فاذا هُمُ لا يملكون خطابا

يدعو ألستُ أنا ابنَ بنتِ نبيّكم

وملاذَكم إذْ صرفُ دهرٍ نابا

هل جئتُ في دينِ النبيِّ ببدعةٍ

أم كنتُ في أحكامِهِ مرتابا

أم لم يوصِّ بنا النبيُّ وأودعُ

الثّقلين فيكم عترةً وكتابا

إن لم تَدينوا بالمعادِ فراجعوا

أحسابَكم ان كنتُمُ أعرابا

فغدوا حيارى لا يرونَ لوعظه

إلّا الأسنّةَ والسّهام جوابا

حتى إذا أَسِفَتْ علوجُ أميّةٍ

أن لا ترى قلبَ النبيِّ مصابا

صلّت على جسمِ الحسين سيوفُهم

فغدى لساجدةِ الظُّبى محرابا

ومضى لهيفاً لم يجد غيرَ القنا

ظِلاً ولا غيرَ النجيعِ شرابا

ظمآنَ ذابَ فؤادُهُ من غُلّةٍ

لو مَسّت الصخرَ الأصمَّ لذابا

لهفي لجسمكَ في الصعيد مجرّداً

عُريانَ تكسوهُ الدّماءُ ثيابا

تربَ الجبين وعينُ كلِّ موحّدٍ

ودّت لجسمك لو تكون تُرابا

لهفي لرأسِكَ فوق مسلوبِ القنا

يكسوهُ من أنوارِهِ جلبابا

يتلو الكتابَ على السّنانِ وإنما

رفعوا بِهِ فوقَ السنانِ كتابا(١)

____________________

(١) القصيدة العصماء هذه للمرحوم السيد رضا الموسوي الهنديرحمه‌الله تعالى.

قال المرحوم السيد جواد شبر في (أدب الطف) الجزء التاسع ص٢٤٢:

السيد رضا الهندي شيخ الأدب في العراق، العالم الجليل والمؤرّخ والبحّاثة الشّهير هو ابن

٢٣٥

نعي

ثلث تيام ظل مطروح الحسين

على الرّمضا وهو عزّ المسلمين

وحوله مطرّحه كل هله الطيبين

واصحابه الصناديد الميامين

جثث مله عشيره ولاله معين

بس زينب بگت تصفگ بالايدين

وتهيل دموعه دم على الخدّين

وتصيح بألم وبلوعات صوتين

صوتٍ يا علي يالبالغريين

وصوتٍ ياليوث الهاشميين

____________________

السيد محمد بن السيد هاشم الموسوي الهندي - ينتهي نسبُهُ إلى الإمام العاشر من أئمة أهل البيت: وهو الإمام الهادي(ع) -.

ولد(ره) في الثامن من شهر ذي القعدة سنة ١٢٩٠ه في (النجف الأشرف)، وهاجر إلى سامراء بهجرةِ أبيه سنة ١٢٩٨ه وذلك حين اجتاح النجف وباءُ الطاعون، ومكث يواصل دروسه في سامراء، وكان موضع عناية آية اللَّه المجدّد الشيرازي لذكائه وسرعة بديهتِهِ وسعة اطلاعه، وفي النجف الأشرف واصل جهوده العلمية على أساطين العلم حتى نال درجة الاجتهاد، وشهد له مراجع الطائفة كالشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، والشيخ الشربياني والملا محمد كاظم الخراساني (صاحب الكفاية)، وقد انتدبه المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني (وكيلاً) عنه للإرشاد.

ومن روائعه التي اشتهرت وحفظها القاصي والدّاني قصيدته (الكوثرية) في مدح أمير المؤمنين(ع).

وأما الرّائعة التي ختم بها حياته وطلب أن تكون معَهُ في قبره فهي هذه القطعة الوعظية (ومطلعُها):

أرى عمري مؤذَناً بالذّهابِ

تمرُّ لياليه مرَّ السَّحابِ

كانت وفاتُهُ بالمشخاب فجأةً وذلك بعد ظهر يوم الأربعاء ٢٢ جمادى الأولى سنة ١٣٦٢ه المصادف ٢٦ مارس سنة ١٩٤٣م وحمل جثمانه على الأعناق إلى قضاء أبي صخير فالنجف في صبيحة اليوم الثاني وكان يوماً مشهوداً حتى دفن بمقبرة الأسرة الخاصّة، وأقام زعيم الحوزة العلمية السيد أبو الحسن الفاتحة على روحه في مسجد الشيخ الأنصاري(ره).

٢٣٦

تعالوا يا أهلنه ودفنوا الحسين

وشوفوا شعمل بينه خلافه البين

* * *

روي ان الامام الحسين(ع) كان كثيراً ما ينشدُ هذه الأبيات:

لئن كانت الأفعالُ يوماً لأهلها

كمالاً فحسنُ الخُلْقِ أبهى وأكملُ

وإن كانت الأرزاقُ رزقاً مقدّراً

فقلّةُ جُهدٍ المرءِ في الكسب أجمَلُ

وإن كانت الدنيا تُعَدُّ نفيسةً

فدارُ ثوابِ اللَّه أعلى وأنبلُ

وإن كانت الأموالُ للتركِ جمعُها

فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخلُ

وإن كانت الأبدانُ للموتِ اُنشِئت

فقتلُ امرئٍ بالسيفِ في اللَّهِ أفضلُ(١)

تعرّض الامام(ع) في هذه الأبيات لذكر مجموعةٍ من المفاهيم التي يحتاجُها الانسان المسلم في حياته اشدّ الإحتياج، وسأبدأُ - بعد الإستعانة باللَّه - بشرحها ولو على نحو الإختصار.

البيت الأول: ذكر فيه الامام الحسين(ع) أفعال الإنسان وأنّ أكملها وأبهاها هو حسن الأخلاق، وقد ذكر القرآنُ الكريم ذلك في معرض مدح رسول اللَّه(ص) حيث قال تعالى:( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) مع أنّ النبيّ(ص) كان عظيماً في كلّ خصاله لا يدانيه فيها أحد من الخلق، إلّا أنّه تعالى خصّ فيه هذه الخصلة الشريفة بالذكر، ووصفها ب (خُلُقٍ عظيم) لأنها أكملُ الأفعال وأحسن الخصال، وقد حفلت السنّةُ الشريفة بأحاديث جمّة

____________________

(١) الأنوار البهيّة للمرحوم الشيخ عبّاس القمّي: ص٩٨.

(٢) سورة القلم: الآية ٤.

٢٣٧

تثني وتبشّر صاحب الخلق الحسن بسعادة الدّارين منها على سبيل المثال:

عن النبيّ(ص): (ما يوضع في ميزان امرئٍ يوم القيامة أفضلُ من حسن الخُلُق)(١) . وأفضل في هذا الحديث الشريف بمعنى أثوب.

وعن الإمام الصادق(ع) عن جدّه رسول اللَّه(ص) قال: (إنّ صاحبَ الخُلُقِ الحسن له مثلُ أجرِ الصّائم القائم)(٢) .

يعني أنّ ثواب صاحب الأخلاق الحَسنة، كثوابِ المؤمن الذي يصوم نهارَه، ويقوم ليلَه ما دامَ حيّاً.

وسئل النبيّ(ص): أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: (حسنُ الخلق)(٣) .

وقال(ص): (أكثر ما تلجُ - اي تدخل - به أمّتي الجنة تقوى اللَّه وحسنُ الخلق، يعمران الديار ويزيدان في الأعمار)(٤) .

وفي الكافي عن الامام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر(ع) قال: (إنّ أكملَ المؤمنين إيماناً أحسنُهم خلقاً)(٥) .

وعن الامام أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق(ع) قال: (ما يتقدّم المؤمنُ على اللَّه عزّوجلّ بعملٍ بعد الفرائض أحبُّ إلى اللَّه تعالى من أن يسع الناس بخلقه)(٦) .

____________________

(١) الأخلاق للمرحوم السيد عبداللَّه شبّر: ص٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق: ص٥ و ٦.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

(٦) المصدر السابق نفسه.

٢٣٨

البيت الثاني: ذكر فيه الامامُ(ع) رزق اللَّه تعالى لعباده، وأكد أن الرزق مقدّرٌ فلا تصرفوا الوقت كلّه في طلبه، وانما أجملوا فيه. روي عن النبيّ(ص) قال: (اقتصدوا في الطلب فإنّ ما رُزقتموه أشدُّ طلباً لكم منكم له، وما حُرمتموه فلن تنالوه ولو حرصتم)(١) .

وقد ورد الحثّ على التكسّب في القرآن الكريم والسنّة الشريفة.

فأما القرآن الكريم فكقوله تعالى:( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاة فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٢) .

وقوله تعالى:( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (٣) .

وأما السنّة الشريفة فكثيرٌ منها:

عن النبيّ(ص) قال: (من طلب الدنيا حلالاً تعفّفاً عن المسألة، وتوسيعاً على عياله، وتعطّفاً على جاره لقيَ اللَّهَ ووجهُهُ كالقمر ليلة البدر)(٤) .

وعن الامام الصادق(ع) قال: (الكادُّ على عيالِهِ كالمجاهد في سبيل اللَّه)(٥) .

وروي أنّ النبيّ عيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام رأى رجلاً فقال له: ما تصنع؟ فقال: أتعبّد قال: ومَنْ يعولُكَ؟ قال: أخي قال: أخوك أعبدُ منك(٦) .

____________________

(١) نور الحقيقة للشيخ عز الدين الحسين بن عبد الصّمد والد الشيخ البهائي: ص١٥٨.

(٢) الجمعة: الآية ١٠.

(٣) الملك: الآية ١٥.

(٤) المحجّة البيضاء ج٣ ص١٤٠.

(٥) المحجّة البيضاء ج٣ ص١٤٣.

(٦) المحجّة البيضاء ج٣ ص١٤١.

٢٣٩

وعن أبي حمزة الثمالي عن الامام أبي جعفر الباقر(ع) قال: قال رسول اللَّه(ص) في حجّة الوداع: ألا إنّ الروح الآمين نفث في رُوعي أنّه لا تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها فاتّقوا اللَّه عزّوجلّ وأجملوا في الطّلب ولا يحملنّكم استبطاءُ شي‏ءٍ من الرزق أن تطلبوه بشي‏ءٍ من معصيةٍ اللَّه عزّوجلّ فإنّ اللَّه تبارك وتعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالاً ولم يقسّمها حراماً، فمن اتقى اللَّه عزّوجلّ وصبر أتاه اللَّه برزقه من حلِّه، ومن هتك حجابَ السّتر وعجّل فأخذ من غير حلّه قُصّ به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة(١) .

أقول: أمر النبيّ(ص) في كلامه الشريف هذا بالإجمالِ في طلب الرزق، ولم يقل اتركوا الرزق، ولا اصرفوا وقتكم وجهدكم كلّه فيه، بل أَمَرَ بالإجمال فيه.

وفي الكافي عن أبي عبداللَّه الصادق(ع) قال: (إنّ محمّد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أنّ عليّ بن الحسين(ع) يَدَعُ خَلَفاً أفضَلَ منه حتى رأيت ابنَهُ محمّد بن علي(ع) فأردتُ أن أعظه فوعظني فقال له أصحابُهُ: بأيّ شي‏ء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة فلقيني أبوجعفر محمّد بن علي - الباقر - (ع) وهو متكئ على غلامين أسودين فقلت في نفسي: سبحان اللَّه شيخٌ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا أما لأعظنّه، فدنوت منه فسلّمت عليه فردّ

____________________

(١) المحجة البيضاء ج٣ ص١٤٢.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

[المجلس الثامن والعشرون]

ومن خطبة لهعليه‌السلام :

وكم أكلت الأرض من عزيز جسد ، وأنيق لون ، كان في الدنيا غذيّ ترف ، وربيب سرف ، يتعلّل في السرور في ساعة حزنه ، ويفزع إلى السلوة انّ مصيبة نزلت به ، ضنّاً بغضارة عيشه ، وشحّاً بلهوه ولعبه ، فبينا هو يضحك إلى الدنيا ، وتضحك الدنيا إليه ، في ظلّ عيش غفول ، إذ وطأ الدهر به حسكه ، ونقضت الأيّام قواه ، ونظرت إليه في الحتوف من كثب ، فخالطه بثّ لا يعرفه ، ونجيّ هم ما كان يجده ، وتولّدت فيه فقرات علل ، آنس ما كان بصحّته، ففزع إلى ما كان عوّده الأطباء ، من تسكين الحرّ بالقارّ ، وتحريك البارد بالحار ، فلم يطفئ ببارد إلا ثورة حرارة ، ولا حرّك بحار إلا هيّج برودة ، حتى فنر معلله ، وذهل ممرضه ، وتعايا أهله بصفة دائه ، وخرسوا عن جواب السائلين عنه ، وتنازعوا دونه شجي خبر يكتمونه ، فقائل: هو لما به ، وممّن لهم ايّاب عافيته ، ومصبّر لهم على فقده ، يذكرهم أسى الماضين من قبله ، فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا ، وترك الأحبّة ، إذ عرض له عارض من غصصه ، فتحيّرت نوافذ فطنته ، ويبست رطوبة لسانه.

إلى أن قالعليه‌السلام : وإنّ للموت لغمرات ، هي أفضع من أن تستغرق بصفة أو تعتدل على عقول أهل الدنيا.(١)

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١: ١٥٢.

٣٢١

وتالله لا يهوّن سكرات الموت إلا ولاء آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّ مواليهم ليبشّره ملك الموت ثمّ منكر ونكير بالجنّة ، وإنّ الملائكة لتزفّ أرواح مواليهم إكراماً لهم حتى تدخلها عليهم كما تزفّ العروس الى زوجها ، وأيم الله إنّ من تمام موالاتهم الحزن لحزنهم ، والبكاء على ما أصابهم ، فحدّثوا أنفسكم بمصارع هاتيك العترة ، وتأسّفوا على ما فاتكم من الفوز بتلك النصرة ، واذكروا واعية الحسين ، وحاله وهو بين ثلاثين ألفاً وحيداً فريداً ، قد حال العطش بينه وبين السماء كالدخان ، وقد نزف دمه ، والحجارة والسهام تأتيه من كلّ جانب ، وأهل بيته وأصحابه كالأضاحي حوله ، ونساؤه نوائح ونوادب من خلفه ، وهو تارة يصبّرهم ويعزّيهم ، وتارة يعظ القوم وينذرهم ، ومرّة ينعى أصحابه ويرثيهم ، واُخرى يقف على جثثهم ويمسح الدماء عن وجوههم...

و لمـّا وقف على ولده علي الأكبر وهو ابن تسع عشرة سنة ، وكان أشبه الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خلقاً وخُلقاً ومنطقاً ، فوجده مقطّعاً إرباً إرباً ، نادى بأعلى صوته: قتل الله قوماً قتلوك يا بني ، ما أجرأهم على الله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول ، على الدنيا بعدك العفا...

و لمـّا وقف على ابن أخيه القاسم(١) وهو ابن ثلاث عشرة سنة ووجده يفحص برجليه الأرض ، قال: عزّ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا يغني عنك.

ثمّ وضع خدّه على خدّ الغلام واحتمله ورجلاه يخطّان الأرض ، ففتح الغلام عينيه ، وتبسّم في وجه عمّه ثمّ فاضت نفسه الزكية ، فوضعه بين القتلى من

____________________

(١) هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، أخو أبي بكر بن الحسن لأبيه واُمّه المقتول قبله. انظر: مقاتل الطالبيين: ٥٠.

٣٢٢

أهل بيته...

و لمـّا وقف على أخيه العباس ، وهو كبش كتيبته ، وحامل لوائه ، وموضع سرّه ، ووجده مرضوخ الهامة بعمود من حديد ، مقطوع الساعدين ، وضع يده على خاصرته ونادى:

الآن انكسر ظهري ، الآن قلّت حيلتي وشمت بي عدوي.

هوى عليه ما هنالك قائلاً

الآن بان عن اليمين حسامها

الآن آل إلى التفرّق جمعنا

الآن حلّ من البنود نظامها

الآن نامت أعين بك لم تنم

وتسهّدت اُخرى فعزّ منامها

أشقيق روحي هل تراك علمت إذ

غودرت وانثالت عليك لئامها

من مبلّغٌ أشياخ مكّة أنّه

قد قلّ ناصرها وغاب همامها

٣٢٣

[المجلس التاسع والعشرون]

ومن خطبة لهعليه‌السلام :

أمّا بعد: فانّي احذركم الدنيا ، فانّها حلوة خضرة ، حُفت بالشهوات ، وتحببت بالعاجلة ، وراقت بالقليل ، وتحلّت بالآمال ، وتزيّنت بالغرور ، لا تدوم حبرتها(١) ، ولاتؤمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة ، حائلة زائلة ، نافذة بائدة ، أكّالة غوّالة ، لا تعدو إذا تناهت إلى اُمنية أهل الرغبة والرضا بها ، أن تكون كما قال الله تعالى:( كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّيَاحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً ) (٢) لم يكن امرؤ منها في حبرة ، إلا أعقبته بعدها عبرة ، ولم يلق من سرائها بطناً ، إلا منحته من ضرّائها ضهراً ، ولم تطله فيها ديمة رخاء ، إلا هتنت عليه مزنة بلاء ، وحريّ إذا أصبحت له منتصرة ، أن تمسي له متنكّرة ، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمرّ منها جانب فأوبى(٣) ، لا ينال امريء من غضارتها رغباً ، إلا أرهقته من نوائبه تعباً ، ولا يمسي منها في جناح أمن، إلا أصبح منها على قوادم خوف ، غرّارة غرور ما فيها ، فانية فان من عليها ، لا خير في شيء من أزوادها إلا التقوى ، من استقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه ، ومن استكثر منها استكثر ممّا يوبقه ، وزال عمّا قليل عنه ، كم واثق منها فجعته ، وذوي طمأنينة لها قد صرعته ، وذي ابهة قد جعلته حقيراً ،

____________________

(١) قالرحمه‌الله : حبرتها: يعني بهجتها وسرورها.

(٢) سورة الكهف: ٤٥.

(٣) قالرحمه‌الله : أي كثر فيه الوباء.

٣٢٤

وذي نخوة قد ردّته ذليلاً ، سلطانها دول ، وعيشها رنق(١) ، وعذبها اجاج ، وحلوها صبر ، وغذاؤها سمام ، وأسبابها رمام ، حيّها بعرض موت ، وصحيحها بعرض سقم ، ملكها مسلوب ، وعزيزها مغلوب.(٢)

هذه أنبياء الله وأصفياؤه تغلّبت عليهم الجبابرة ، وتحكّمت فيهم أعداء الله حتى كان بنو اسرائيل ربّما يقتلون بين طلوعي الفجر والشمس سبعين نبيّاً ، ثم يجلسون في أنديتهم كأنّهم لم يفعلوا شيئاً.

ولما بعث الله إسماعيل بن حزقيل الى قومه سلخوا جلده ووجهه وفروة رأسه ، فأتاه ملك من ربّه عزّ وجل يقرؤه السلام ويقول له: قد أمرني الله بطاعتك ، فمرني بما شئت ، فقالعليه‌السلام : لي بالحسين اُسوة.

بأبي أنت واُمّي يا أبا عبد الله.

بأبي أنت وامي يا من تأسّت به أنبياء الله ، لئن سلخت جلدة وجه إسماعيل وفروة رأسه في سبيل الله ، فلقد أصابك في إعلاء كلمة الله من ضرب السيوف ووخز الأسنّة ، ورمي الأحجار ، ورشق النبال ، ووطيء الخيل ، وعسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ما هو أعظم من ذلك.

تأسّت بك أنبياء الله لكن لم يبلغوا شأوك ، ولا اُصيبوا بما اصبت ، وهل مُني أحد من العالمين بما منيت به ؟ فررت بدمك من حرم جدّكصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حرم الله عز وجل حيث يأمن الوحش والطير ، فلم تأمن فيه على نفسك ،

____________________

(١) قالرحمه‌الله : الرنق: الكدر.

أقول: يقال: عيش رنق - بكسر النون -: أي كدر ، وماء رنق - بالتسكين -: أي كدر ، والرنق - بفتح النون -: مصدر قولك: رنق الماء - بالكسر - ورنقته أنا ترنيقاً أي كدرته.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٧: ٢٢٦.

٣٢٥

ففرت منهم لما خفتهم بعيالك وأطفالك وأهل بيتك ، فلاقيت من أعداء الله ما رفع الله به قدرك ، وعظم به أمرك ، ولقد يعزّ على جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يراك بين ثلاثين ألفاً لا ناصر لك ولا معين ، وأبناؤك واخوتك وأهل بيتك والخيرة من شيعتك مجزّرين كالاُضاحي نصب عينيك ، ورضيعك يذبح وهو على يديك ، وحرمك نوائح ونوادب من خلفك ينادين: واغربتاه ، واضيعتاه.

وبالعزيز على فاطمة الزهراء أن تراك يا عزيزها بين جموعهم وقد ضعفت عن القتال ، ونزف دمك من كثرة الجراح، وحال العطش بينك وبين السماء كالدخان ، وأنت تنادي:

أما من ناصر فينصرنا ؟

أما من مغيث فيغيثنا ؟

وليت رسول الله رآهم وقد افترقوا عليك أربعة فرق: فرقة بالسيوف ، وفرقة بالرماح ، وفرقة بالسهام ، وفرقة بالحجارة ، حتى ذبحوك عطشاناً من القفا ، وأنت تستغيث فلا تغاث.

ثمّ هجموا على ودائع النبوّة فسلبوهنّ ونهبوا خيامهن ، وأشعلوا فيها النار ، فخرجن حافيات حاسرات ، معوّلات مسلبات ينادين:

وامحمداه واعليّاه ، وما اكتفوا بذلك حتى أجالوا الخيل على جسدك الطاهر ، ورفعوا رأسك على رمح طويل ، وساقوا نساءك وهن عقائل الوحي سبايا ، كأنهنّ من كوافر الديلم ، حتى أدخلوهن تارة على ابن مرجانة ، واُخرى على ابن آكلة الأكباد.

وأعظم ما يشجي الغيور دخولها

على مجلس ما بارح اللهو والخمرا

يعارضها فيه الدعي مسبّة

ويصرف عنها وجهه معرضاً كبرا

٣٢٦

[المجلس الثلاثون]

ومن كلام لهعليه‌السلام :

الدنيا دار مني لها الفناء ، ولأهلها منها الجلاء ، وهي حلوة خضراء ، قد عجلت للطالب ، والتبست فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد ، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف ، ولا تطلبوا فيها أكثر من البلاغ.(١)

هذا الكلام كان من عليعليه‌السلام وفق فعله ، فانّه ما شبع من طعام قط ، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً.

قال عبيد الله بن أبي رافع: دخلت عليه يوم عيد فقدّم إليه جراب مختوم ، فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً فأكل منه ، فقلت: يا أمير المؤمنين كيف تختمه ؟

قال: خفت هذين الولدين أن يليناه بسمن أو زيت.

وكان ثوبه مرقوعاً بجلدة تارة ، وبليف اُخرى ، ونعلاه من ليف ، وكان يلبس الكرابيس(٢) ، فإذا وجد كمه طويلاً قطعه ، وكان يأتدم بخلّ أو ملح ، فان ترقّى فببعض نبات الأرض ، فان ارتفع فبقليل من ألبان الإبل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلاً ، وقد طلّق الدنيا ثلاثاً ، وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام ، فيفرّقها ثم يقول:

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣: ١٥٢.

(٢) الكرباس - بالكسر -: ثوب من القطن الأبيض.

٣٢٧

هذا جناي وخياره فيه

إذ كلّ جانٍ يده إلى فيه(١)

ورآه عدي بن حاتم(٢) وبين يديه ماء قراح ، وكسيرات من خبز الشعير فقال: لا أرى لك يا أمير المؤمنين أن تظل نهارك صائماً مجاهداً ، وبالليل ساهراً مكابداً ثم يكون هذا فطورك ؟ فقالعليه‌السلام :

علّل النفس بالقليل وإلا

طلبت منك فوق ما يكفيها(٣)

ولم يزل هذا دأبه ، وهذه سجيّته ، حتى ضربه أشقى الآخرين على رأسه في مسجد الكوفة صبيحة ليلة الأربعاء لتسعة عشر مضين من شهر رمضان المبارك وهو ساجد لله في محرابه ، فبلغ السيف موضع السجود من رأسه ، فقال: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله ، فزت وربّ الكعبة لا يفوتنكم ابن ملجم ، واصطفقت أبواب الجامع ، وهبت ريح سوداء مظلمة ، ونادى جبرائيل بين السماء والأرض:

تهدمت والله أركان الهدى ، وانطمست والله أعلام التقى ، وانفصمت والله العروة الوثقى ، قتل ابن عم المصطفى، قتل الإمام المجتبى ، قتل علي المرتضى ، وجعل الدم يجري على وجهه ، فيخضب به لحيته الشريفة.

واقتدى به ولده أبو عبد اللهعليه‌السلام حيث رماه سنان لعنه الله بسهم

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٢٦.

(٢) عدي بن حاتم الطائي: أبو طريف ، كان من المنقطعين إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام والعارفين بحقّه ، صاحب المواقف المشهودة في الجمل وصفين وغيرهما ، فقئت عينه يوم الجمل ، واستشهد ابنه محمد فيها ، والآخر يوم النهروان ، قال له معاوية يوماً: ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قدم بنيك وأخر بنيه ! فقال عدي: بل أنا ما أنصفت علياً إذ قتل وبقيت.

انظر: الاستيعاب ٣: ١٤١ ، الاصابة ٢: ٤٦٨.

(٣) مناقب ابن شهر اشوب ٢: ٩٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦: ٢٤٦.

٣٢٨

فوقع في نحره فسقط عن جواده ، وقرن كفّيه جميعاً فكلّما امتلأتا خضب بهما رأسه ولحيته وهو يقول: هكذا ألقى الله وأنا مخضّب بدمي ، مغصوب حقّي.

وخرجت زينبعليها‌السلام حينئذ من فسطاطها تنادي: وا أخاه وا سيّداه وا أهل بيتاه ، ليت السماء اُطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل.

وقال هلال بن نافع: وقفت على الحسينعليه‌السلام وانّه ليجود بنفسه ، فو الله ما رأيت قتيلاً مضمّخاً بدمائه أحسن منه وجهاً ، ولا أنور منه ، ولقد شغلني نور وجهه ، وجمال هيئته عن الفكرة في قتله.

ومجرّح ما غيرت منه القنا

حسناً ولا غيّرن منه جديدا

قد كان بدراً فاغتدى شمس الضحى

مذ ألبسته يد الدماء لبودا

٣٢٩

[المجلس الحادي والثلاثون]

ومن كلام لهعليه‌السلام بعد تلاوته( أَلْهَاکُمُ التَّکَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ) (١) .

يا له مراماً ما أبعده ! وزوراً ما أغفله ! وخطراً ما أفظعه ! لقد استخلّوا منهم أي مدّكر ، وتناوشوهم من مكان بعيد.

أفبمصارع آبائهم يفخرون ! أم بعديد الهلكى يتكاثرون ! يرتجعون منهم أجساداً خوت ، وحركات سكنت ، ولأن يكونوا عِبراً ، أحقّ من أن يكونوا مفتخراً ، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلّةٍ ، أحجى من أن يقوموا بهم مكان عزّة ، لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة ، وضربوا منهم في غمرة جهالة ، ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية والربوع الخالية ، لقالت: ذهبوا في الأرض ضلالاً ، وذهبتم في أعقابهم جهّالاً ، تطؤون في هامهم ، وتستنبتون في أجسامهم ، وترتعون فيما لفظوا ، وتسكنون فيما خربوا ، وانّما الأيّام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم.

أولاؤكم سلف غايتكم وفرّاط مناهلكم ، الذين كانت لهم مقاوم العزّ ، وحلبات الفخر ، ملوكاً وسوقاً ، سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً ، سلّطت الأرض عليهم ، فأكلت من لحومهم ، وشربت من دمائهم ، فأصبحوا في فجوات قبورهم ، جماداً لا ينمون ، وضماراً لا يوجدون..... لئن بليت آثارهم ، وانقطعت أخبارهم ، لقد رجعت فيهم أبصار العبر ، وسمعت عنهم آذان العقول ، وتكلّموا من

____________________

(١) التكاثر: ١ - ٢.

٣٣٠

غير جهات النطق ، فقالوا: كلحت الوجوه والنواضر ، وخوت الأجسام النواعم ، ولبسنا أهدام البلى ، وتكّأدنا ضيق المضجع ، وتوارثنا الوحشة ، وتكهّمت الربوع الصموت ، فانمحت محاسن أجسادنا ، وتنكّرت معارف صورنا ، وطالت في مساكن الوحشة إقامتنا ، ولم نجد من كرب فرجاً ، ولا من ضيق مخرجاً.(١)

وتالله لا يفرج الكرب ، ولا يؤنس الوحشة إلا شفاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائهعليهم‌السلام ، وبالله لترونّ أمير المؤمنينعليه‌السلام واقفاً على شفير قبوركم يعلمكم جواب منكر ونكير ، وليبدلنّ الله وحشتكم بواسطته انساً ، وخوفكم برؤيته أمناً ، وليدخلنّ عليكم السرور في أجداثكم ، ولتقومنّ يوم القيامة سيدة نساء العالمينعليها‌السلام مقاماً تغبطون عليه وتدخلون به الجنّة.

فحقيق علينا أن نشاركها في مصيبتها التي أرزأت جبرائيل ، ونواسيها في رزيتها التي عظمت على الرب الجليل.

فيا ليت لفاطمة وأبيها عيناً تنظر إلى بناتها وبنيها ، وهم ما بين مسلوبٍ وجريح ، ومأسور وذبيح ، وبنات الوحي والنبوة يطاف بهن من بلد إلى بلد حتى وردوا بهن الشام ، فلمّا قربوا من دمشق دنت اُمّ كلثوم من شمر لعنه الله فقالت له: لي إليك حاجة.

قال: ما حاجتك ؟

قالت: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل نظاره.(٢)

وتقدّم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنها ،

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١: ١٤٥.

(٢) الملهوف: ١٧٤ ، مثير الأحزان: ٩٧.

٣٣١

ونحن في هذه الحال ، فأمر اللعين في جواب سؤالها: أن تحمل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً ، ثم سلك بهم الطرق العامّة على تلك الصفة حتى أتى بهم باب دمشق ، فأوقفوهم على درج باب المسجد ، حيث يقام السبي ، وطافوا برأس الحسينعليه‌السلام سكك دمشق وشوارعها.

جاءوا برأسك يا بن بنت محمد

متزمّلاً بدمائه تزميلا

قتلوك عطشاناً و لمـّا يرقبوا

في قتلك التأويل والتنزيلا

ويكبّرون بأن قتلت وانّما

قتلوا بك التكبير والتهليلا

٣٣٢

[المجلس الثاني والثلاثون]

ومن خطبة لهعليه‌السلام :

ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعماراً ، وأبقى آثاراً ، وأبعد آمالاً ، وأعدّ عديداً ، وأكثف جنوداً ، تعبّدوا للدنيا أي تعبّد ، وآثروها أي إيثار ، ثمّ ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ ، ولا ظهر قاطع ، فهل بلغكم أنّ الدنيا قد سخت لهم نفساً بفدية ، أو أعانتهم بمعونة ، أو أحسنت لهم صبحة ، بل أرهقتهم بالفوادح ، وأزهقتهم بالقوارع ، وضعضعتهم بالنوائب ، وعفرتهم للمناخر ، ووطأتهم بالمناسم ، وأعانت عليهم ريب المنون ، أفهذه تؤثرون ؟ أم عليها تحصرون ؟ فبئست الدار لمن لم يتّهمها ، ولم يكن فيها على وجل منها ، فاعلموا وانتم تعلمون بأنكم تاركوها ، وظاعنون عنها ، واتّعظوا فيها بالذين قالوا من أشدّ منّا قوّة ، حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركباناً ، وانزلوا فيها فلا يدعون ضيفاناً ، وجعل لهم من الصفيح أجنان ، ومن التراب أكفان ، ومن الرفاة جيران ، فهم جيرة لا يجيبون داعياً ، ولا يمنعون ضيماً ، إن جيدوا لم يفرحوا ، وان قحطوا لم يقنطوا ، قد استبدلوا يظهر الأرض بطناً ، وبالسعة ضيقاً ، وبالأهل غربة ، وبالنور ظلمة ، فجاءوها كما فارقوها حفاةً عراة ، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة ، والدار الباقية ، حيث لا ينفع الإنسان إلا ما قدّمه من أعماله الصالحة ، وما يرجوه من شفاعة الشافعين.(١)

وانّ أفضل عمل صالح. وأقوى سبب لنيل الشفاعة ، لزوم سنّته ، واتباع

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٧: ٢٢٦ وج ١١: ٢٥٧.

٣٣٣

عترتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّهم أحد الثقلين الذين لا يضل من تمسّك بهما ، ولا يهتدي إلى الله من صدف عنهما.

وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله من خطبة خطبها يوم غدير خم(١) :

____________________

(١) أقول: قد كثر الحديث حول هذا الحديث والف في جمع اسانيده الكتب قديماً وحديثاً ولعل اوّل من الف فيه كما في موسوعة الغدير للعلامة الامينيرحمه‌الله هو ابو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ٢١٠ هجرية صاحب التفسير والتاريخ المعروفين وهو من اكابر علماء العامة الف كتاب «الولاية في طرق حديث الغدير».

قال الذهبي في طبقاته ٢: ٢٥٤: «لما بلغ محمد بن جرير ان ابن ابي داود تكلم في حديث غير خم عمل كتاب الفضائل وتكلم في تصحيح الحديث».

ثم قال: قلت: رأيت مجلداً من طرق الحديث لابن جرير فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق».

وقال ابن كثير في تاريخه ١١: ١٤٦ في ترجمة الطبري: «اني رأيت له كتاباً جمع فيه احاديث غدير خم في مجلدين ضخمين» ونسبه إليه ابن حجر في تهذيب التهذيب ٧: ٣٣٧ (راجع الغدير ١: ١٥٢).

وقد اغنانا العلامة الامينيرحمه‌الله وكفانا البحث عن طرق هذا الحديث ومصادره فقد الف في ذلك موسوعته الضخمة - التي لم تتم - في احد عشر مجلداً جمع فيها طرقه وأسانيده ومن احتج به أو كلّم فيه أو قال فيه شعراً. ولكثرة النصوص المنقولة في هذا الحديث يحتار الانسان فيما يختاره من نص فآثرنا أن ننقل النص الذي صدره الامينيرحمه‌الله به كتابه وهو نص جامع بين مختلف النصوص الا أنا اكملنا أبيات حسان بن ثابت في الأخير.

واليك النص:

«أجمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الخروج إلى الحج في سنة عشرة من مهاجره ، وأذّن في الناس بذلك ، فقدم المدينة خلق كثير يأتمون به في حجّته تلك يُقال عليها حجّة الوداع وحجّة الإسلام وحجة البلاغ وحجة الكمال وحجة التمام ، ولم يحجّ غيرها منذ هاجر إلى أن توفاه الله فخرجصلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة مغتسلاً متدهّناً مُترجّلاً متجرداً في ثوبين صحاريين إزار ورداء ، وذلك يوم السبت لخمس ليال أو ست بقين من ذي القعدة ، وأخرج معه نساءه كلهم في الهوادج ، وسار معه أهل بيته ، وعامّة المهاجرين والأنصار ، ومن شاء الله من قبائل العرب وأفناء الناس.

وعند خروجهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصاب الناس بالمدينة جدري (بضم الجيم وفتح الدال

٣٣٤

وبفتحهما) أو حصبة منعت كثيرا من الناس من الحج معهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع ذلك كان معه جموع لا يعلمها إلا الله تعالى ، وقد يقال: خرج معه تسعون ألف ، ويقال: مائة ألف وأربعة عشر ألفاً ، وقيل: مائة ألف وعشرون ألفاً ، وقيل: مائة ألف واربعة وعشرون ألفاً ، ويقال أكثر من ذلك ، وهذه عدّة من خرج معه ، وأمّا الذين حجّوا معه فأكثر من ذلك كالمقيمين بمكة والذين أتوا من اليمن مع عليّ (أمير المؤمنين) وأبي موسى.

أصبحصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الأحد بيلملم ، ثم راح فتعشّى بشرف السيالة ، وصلّى هناك المغرب والعشاء ، ثم صلّى الصبح بعرق الظبية ، ثم نزل الروحاء ، ثم سار من الروحاء فصلّى العصر بالمنصرف ، وصلّى المغرب والعشاء بالمتعشّى وتعشّى به ، وصلّى الصبح بالأثابة ، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج واحتجم بلحى جمل «وهو عقبة الجحفة» ونزل السقياء يوم الأربعاء ، وأصبح بالأبواء ، وصلّى هناك ثم راح من الأبواء ونزل يوم الجمعة الجحفة ، ومنها إلى قديد وسبت فيه ، وكان يوم الأحد بعسفان ، ثم سار فلمّا كان بالغميم إعترض المشاة فصفّوا فشكوا إليه المشي ، فقال: استعينوا بالسلان «مشي سريع دون العدو» ففعلوا فوجدوا لذلك راحة ، وكان يوم الاثنين بمرّ الظهران فلم يبرح حتى أمسى وغربت له الشمس بسرف فلم يصلّ المغرب حتى دخل مكّة ، و لمـّا انتهى إلى الثنيّتين بات بينهما فدخل مكة نهار الثلاثاء».

فلما قضى مناسكه وانصرف راجعاً إلى المدينة ومعه من كان من الجموع المذكورات ووصل إلى غدير خمّ من الجحفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة نزل إليه جبرائيل الأمين عن الله بقوله: «يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك» الآية ، وأمره أن يقيم علياً علماً للناس ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كلّ أحد ، وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة فأمر رسول الله أن يردّ من تقدّم منهم ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان ونهى عن سمرات خمس متقاربات دوحات عظام أن لا ينزل تحتهن أحد حتى إذا أخذ القوم منازلهم فقمّ ما تحتهنّ حتى إذا نودي بالصلاة صلاة الظهر عمد إليهنّ فصلّى بالناس تحتهنّ ، وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض رداءه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الرمضاء ، وظلّل لرسول الله بثوب على شجرة سمرة من الشمس ، فلمّا انصرفصلى‌الله‌عليه‌وآله من صلاته قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الابل وأسمع الجميع ، رافعاً عقيرته فقال:

الحمد لله نستعينه ونؤمن به ، ونتوكل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيّئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضلّ ولا مضلّ لمن هدى وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله - أمّا بعد - ايها

٣٣٥

الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر الذي قبله ، واني اوشك أن اُدعى فأجيب ، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون ، فما أنتم قائلون ، قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيراً ، قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأنّ جنته حقّ وناره حقّ وأنّ الموت حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور ، قالوا: بلى نشهد بذلك ، قال: اللهم اشهد ثم قال: ايها الناس ألا تسمعون ؟ قالوا: نعم ، قال: فاني فرَط على الحوض ، وأنتم واردون عليَّ الحوض ، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظرا كيف تخلّفوني في الثقلين.

فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله ؟ قال: الثقل الأكبر كتاب الله طرفٌ بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلّوا ، والآخر الأصغر عترتي ، وإن اللطيف الخبير نبّأني انهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض فسألت ذلك لهما ربي ، فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ثم أخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون ، فقال: أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ، قال: إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، يقولها ثلاث مرّات ، وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرّات ثم قال: اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، ثم لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي» الآية ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي ، والولاية لعليّ من بعدي» ثمّ طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين صلوات الله عليه وممن هنّأه في مقدّم الصحابة: الشيخان أبو بكر وعمر كل يقول: «بخ بخ لك ، يا ابن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة» ، وقال ابن عبّاس: وجبت والله في أعناق القوم ، فقال حسّان: إئذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتاً تسمعهن ، فقال: قل على بركة الله ، فقام حسان فقال: يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادةٍ من رسول الله في الولاية ماضية ، ثم قال:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ واسمع بالرسول مناديا

وقال فمن مولاكم ووليّكم

فقالوا ولم يبدوا هناك تعاديا

إلهك مولانا وأنت وليّنا

ولن تجدن منّا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا عليّ فإنّني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

٣٣٦

ألا أيها الناس إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فاُجيب ، وأنا تارك فيكم الثقلين ، أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به... وثانيهما أهل بيتي ، اذكركم الله في أهل بيتي ، اذكركم الله في أهل بيتي ، اذكركم الله في أهل بيتي.

- وزاد الطغرائي -: فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فانّهم أعلم منكم.

وكان آخر ما تكلم به - فيما رواه الطبراني عن ابن عمر -: اخلفوني في أهل بيتي.

وفي رواية: فلا تقتلوهم ولا تقهروهم ، ولا تقصروا عنهم.

بأبي أنت واُمي يا رسول الله أين موضع القبول منهم بعهدك إلى أخيك ، ووصاياك ببضعتك الزهراء وبنيك ؟ وقد هدم القوم ما بنيت ، وأضلّوا جانباً ممّن هديت ، وفعلوا بعترتك ما لا يفعلون بالخوارج ، وقابلوهم بما لا يقابلون به أهل الخنا والريب.

أمّا البتول فقد قضت وبقلبها

من فعلهم قبسات وجد مكمن

والمرتضى أردوه في محرابه

بيمين أشقى العالمين وألعن

فخصّ بها دون البريّة كلّها

عليّاً وسمّاه الغدير أخائيا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليّه

وكن للّذي عادى معاديا

انظر: مسند أحمد: ٤ / ٢٨١ ، فضائل أحمد: ١١١ ، ١٦٤ ، مصنّف ابن أبي شيبة: ١٢ / ٧٨ / ١٢٦٧ ، تاريخ بغداد: ٨ / ٢٩٠ ، البداية والنهاية: ٥ / ٢١٠ ، مناقب الخوارزمي: ٩٤ ، كفاية الطالب: ٦٢ ، فرائد السمطين: ١ / ٣٨ ، ٧١ ، السيرة الحلبية ٣: ٢٨٣ ، سيرة أحمد زيني دحلان ٣: ٣ ، تذكرة الخواص: ١٨ ، دائرة المعارف لفريد وجدي ٣: ٥٤٢.

٣٣٧

وبشربة السمّ النقيع عداوةٌ

من كفّ جعدة قد قضى الحسن السني

وإليك عنّي لا تقل حدّث بما

لاقى الحسين فرزؤه قد شفني

حيث المصائب جمّة لا أدر ما

منها أقصّ عليك لو كلّفتني

نعم ، أقصُ عليك مصيبته بأطفاله ، فعن أبي الفرج الاصفهاني: أنّه كان في مخيم الحسينعليه‌السلام ستّة أطفال وقفوا في باب الخيمة وقد أضرّ بهم العطش ، فاتلعوا برقابهم إلى الفرات ، يتموّج كأنّه بطون الحيّات ، فجاءتهم السهام فذبحتهم عن آخرهم ، وكان الحسين قد تناول ولده الرضيع ليودعه أومأ إليه ليقبّله رماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه ، فتلقّى الحسينعليه‌السلام دم الطفل بكلتا يديه ، لمـّا امتلأتا من الدم رمى به نحو السماء ثم قال: هوّن عليَّ ما نزل بك أنّه بعين الله.

وقيل: أنّ الطفل كان مغمى عليه من شدّة العطش ، فلمّا أحسّ بحرارة السهم رفع يديه من القماط واحتضن أباه..

و لمـّا سقط الحسينعليه‌السلام عن ظهر جواده خرج عبد الله بن الحسنعليه‌السلام وهو غلام لم يراهق ، واشتدّ حتى وقف إلى جنب عمه ، فلحقته عمّته زينب لتحبسه فأبى وامتنع شديداً وقال: والله لا أفارق عمي.

فأهوى بحر بن كعب ، وقيل: حرملة بن كاهل إلى الحسين بالسيف فاتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلقة ، فنادى الغلام:

يا اُماه ، فأخذه الحسين عليه الس لام فضمّه إلى صدره وقال:

يا بن أخي اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير ، فانّ الله يلحقك بآبائك الصالحين ، فرماه حرملة لعنه الله بسهم فذبحه وهو في حجر عمّه.(١)

هبوا انّكم قاتلتموا فقتلتم

فما بال أطفال تقاسي نبالها

____________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٨٩.

٣٣٨

[المجلس الثالث والعشرون]

ومن خطبة لهعليه‌السلام :

أما بعد: فانّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع ، وانّ الآخرة قد أقبلت وأشرقت باطلاع ، ألا وانّ اليوم المضمار ، وغداً السباق ، والسبقة الجنّة ، والغاية النار ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته.

ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه ، ألا وانّكم في أيّام أمل ، من ورائه أجل فمن عمل في أيّام أمله قبل حضور أجله ، فقد نفعه عمله ، ولم يضرّه أجله.

ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة.

ألا وانّي لا أرى كالجنّة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربها.

ألا وانّكم قد اُمرتم بالظعن ، ودللتم على الزاد ، وانّي أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى ، وطول الأمل ، فتزوّدوا في الدنيا ما تجهّزوا به أنفسكم غداً ، وتزوّدوا فانّ خير الزاد التقوى.(١)

وسمعه أبو الدرداء يقول في مناجاته في جوف الليل ، وهو مستتر ببعيلات بني النجار:

إلهي اُفكر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي ، ثم اذكر العظيم من أخذك فتعظم على بليّتي.

آه آه ، إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها ، وأنت محصيها ، فتقول: خذوه ، فيا له من مأخذو لا تنجيه عشيرته ، ولا تنفعه قبيلته.

____________________

(١) الارشاد للشيخ المفيد: ٢٣٥ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٩١.

٣٣٩

آه آه ، من نار تنضج الأكباد والكلى.

آه آه ، من نار نزّاعة للشوى.

آه آه ، من غمرة من لهبات لظى.

قال أبو الدرداء: ثمّ انغمس في البكاء فلم أسمع له حسّاً ولا حركة ، فأتيته فإذا هو كالخشبة اليابسة ، فحرّكته فلم يتحرّك ، وزويته فلم ينزو ، فقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، مات والله علي بن أبي طالب ، فأتيت أهله أنعاه إليهم.

فقالت فاطمة سلام الله عليها: هي والله الغشية التي تأخذه من خشية الله تعالى ، ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ، فرآني أبكي فقال: ممّ بكاؤك يا أبا الدرداء ؟

فقلت: ممّا تنزله بنفسك.

قال: كيف بك لو رأيتني وقد دعي بي إلى الحساب ، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب ، واحتوشتني ملائكة غلاظ شداد ، ووقفت بين يدي من لا تخفى عليه خافية.(١)

وكان صلوات الله وسلامه عليه: أعبد الناس ، وأكثرهم صلاة وصوماً ، منه تعلم الناس صلاة الليل. وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة.

وكانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده ، وما ظنّك بمن يبلغ من محافظته على ورده ، أن يبسط له قطع بين الصفين ليلة الهرير ، فيصلّيعليه‌السلام ورده ، والسهام تقع بين يديه ، وتمرّ على صماخيه يميناً وشمالاً فلا يرتاع ، ولا يقوم حتى يفرغ من ورده وصلاته.(٢)

____________________

(١) تنبيه الخواطر (مجموعة ورام) ٢: ١٥٦.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٢٧.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348