المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة11%

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 343

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45035 / تحميل: 4732
الحجم الحجم الحجم
المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وقضى إلى جنبِ الفرات ورأسُه

بعمودِ حقدٍ هشّمتهُ لئامُها

وقضى إلى جنبِ الفرات وعينُه

أسفي عليها قد طفتها سهامُها

وقضى إلى جنبِ الفرات وجسمُهُ

بسيوفِ بغيٍ خذّمته طَغامُها(١)

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

____________________

(١) طَغَام: هم أوغاد الناس

١٦١

الليلة السابعة المجلس الخامس عشر

منزلة العباس بن علي(ع)

عبست وجوهُ القومِ خوفَ الموت

والعبّاسُ فيهم ضاحكٌ يتبسَّمُ

قلبَ ‏اليمينَ على ‏الشِّمالِ ‏وغاص ‏في ‏الـ

أوساط يختطفُ النّفوسَ ويحطمُ

وثنى أبو الفضلِ الفوارسَ نُكّصاً

فرأوا أشدَّ ثباتِهم أن يهزموا

بطلٌ تورّثَ من أبيه شجاعةً

فيها أنوفُ بني الضلالةِ ترغمُ

عرفَ المواعظَ لا تفيدُ بمعشرٍ

صمّوا عن النبأ العظيم كما عَموا

وانصاع يحطمُ بالجماجم والكلا

والسيف ينثرُ والمثقَّفُ ينظمُ(١)

بطلٌ إذا ركبَ المـُطَهَّمَ خلتَهُ

جبلاً أشمَّ يخفُّ فيهِ مطهّمُ(٢)

قسماً بصارمِهِ الصقيلِ وإنّني

في غير صاعقةِ السّما لا أُقسِمُ

لولا القضا لمحى الوجودَ بسيفِهِ

واللَّهُ يقضي ما يشاء ويحكُمُ

وهوى بجنبِ العلقميِّ فليتَهُ

للشّاربين به يُدافُ العلقَمُ

فمشى لمصرعِهِ الحسينُ وطرفُهُ

بين الخيامِ وبينَهُ متقسِّمُ

فأكبَّ منحنياً عليه ودمعُهُ

صبغَ البسيط كأَنّما هو عندَمُ(٣)

قد رامَ يلثمُهُ فلم يرَ موضعاً

لم يُدمِهِ عَضُّ السّلاحِ فيُلثَمُ

نادى وقد ملأَ البواديَ صيحةً

صُمُّ الصخورِ لهولها تتألّمُ

____________________

(١) المثقّف: هو الرّمح في عرف الشعراء.

(٢) جواد مُطَهَّم: أي تام الحسن.

(٣) العندم: خشب نبات يُصبغ به. (المنجد)

١٦٢

أأخيَّ يُهنيكَ النَّعيمُ ولم أخَلْ

تَرضى بأن أُزرى وأنت منعَّمُ

أأخيَّ مَن يحمي بناتِ محمّدٍ

إن صِرْنَ يسترحِمْنَ مَن لا يرحَمُ

* * *

يعباس لمـّن صدّت العين

منّي لعد إِيديك الإثنين

دمهن يسيل اوشفت كفين

فوگ الثره ناديت صوتين

واحد نواعي أو واحد ونين

يعباس صارت طيحتك وين

يعباس آنه عضيدك حسين

وسفة يفرگ بينه البين

* * *

روى الشيخ الصّدوق – رحمه ‌الله تعالى - في (الخصال): عن أبي حمزة الثمالي قال: قال عليُّ بن الحسين(ع): (إنّ لعمّيَ العبّاسَ عند اللَّه تبارك وتعالى لمنزلةً يغبطُهُ بها جميعُ الشهداء يوم القيامة)(١) .

لا ريبَ أنّ المنزلةَ تكون بنيل الفضيلة، ونيلُ الفضيلة عند اللَّه تكون بالطّاعة له، وتعلو المنزلة وتسمو الفضيلة بكثرة الأعمال الخيريّة، فكلّما كان الإنسان حريصاً على تحصيل الفضل مجتهداً في الطّاعة كثير الخيرات يكون عند اللَّه عظيم المنزلة كبير الفضيلة سامي الدرجة(٢) .

لقد أثبت الإمام زين العابدين(ع) بهذه الرواية الشريفة لأبي الفضل العبّاس(ع)

____________________

(١) الخصال ج١ ص٦٨ ح ١٠١.

(٢) بطل العلقمي ج ٣ ص٣٨٤.

١٦٣

منزلةً كبرى لم ينلها غيره من الشهداء ساوى بها عمّه الطيّار جعفر بن أبي طالب(ع) فقال(ع):

رحمَ اللَّهُ عمّي العبّاس بن علي(ع) فلقد آثر وأبلى وفَدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه فأبدله اللَّهُ بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وأنّ للعبّاس عند اللَّه تبارك وتعالى منزلةً يغبطُهُ عليها جميع الشهداء يوم القيامة.

ولفظ (الجميع) في هذه الرواية الشريفة يشمل مثل حمزة بن عبدالمطّلب وجعفر بن أبي طالب. ولعلّ ما جاء في زيارة الشهداء يشهد له (السّلام عليكم أيّها الربّانيّون أنتم لنا فَرَطٌ(١) ونحنُ لكم تبع وأنصار، وأنتم سادةُ الشهداء في الدنيا والآخرة)(٢) .

فقد أثبت لهم السيادة على جميع الشهداء، وانّهم لم يسبقهم ولا يلحقهم أي أحد وأبو الفضل العبّاس(ع) في جملتهم بهذا التفضيل، وقد انفرد عنهم بما أثبتَهُ له الإمامُ السجّاد(ع) من المنزلةِ التي لم تكن لأيِّ شهيد، فيصبح بهذا في محلٍّ يغبطُهُ عليه جميع الشهداء يوم القيامة.

مقامٌ له عند المهيمنِ شامخٌ

وقدرٌ رفيعُ الشأنِ ما مثلُهُ قدرُ

لقد خلّدَ الرّحمنُ في الدّهرِ ذِكْرَهُ

وما الفضلُ إلّا ما أشيد له الذّكرُ

وفي الحشرِ لم يُعطى شهيدٌ عطاءَهُ

لذا صارَ مغبوطاً وهذا له سرُّ

____________________

(١) فَرطَ: سبقَ وتقدّم.

(٢) العبّاس(ع) للمقرّم عن كامل الزيارة.

١٦٤

وممّا يدلّ على منزلته العالية هو مشاطرته ومشاركتهُ لأخيه الإمام الحسين(ع) في تغسيل الإمام الحسن المجتبى(ع)، وأنت بعدما علمت مرتبةَ الإمامة وموقف صاحبها من العظمة وأنّه لا يلي أمره إلّا إمامٌ مثلُه علمت مرتبة أبي الفضل العبّاس(ع) وأنّه أعظم رجل في هذا العالم بعد أئمة الحق والهدى: وأنه تالي المعصومين في الرّتبة، لأنّ جثمان المعصوم بعد موته وعند تغسيله لا يمكن أن يقرب أو ينظر إليه إلّا من قَرُبَ من تلك الرّتبة العالية للمعصومين:، وممّا يشهد له أنّ الفضلَ بن العبّاس بن عبدالمطّلب كان يحمل الماء عند تغسيل النبيّ(ص) معاوناً لأمير المؤمنين(ع) على غسله ولكنّه عصّبَ عينيه بعصابة خشية العمى إن وقع نظرُهُ على ذلك الجسد الطّاهر(١) .

يقول المحقّق المقرّم في ذلك: وهذه الأسرار - أي عدم قدرة الإنسان العادي النظر إلى جسد المعصوم بعد الموت - لا تصل إليها أفكار البشر وليس لنا إلّا التّسليم، ولا سبيل لنا إلى الإنكار بمجرّد بعدنا عن ادراك مثلها خصوصاً بعد استفاضة النّقل - الأحاديث - في أنّ للنّبيّ والأئمّة عليهم الصلاة والسلام بعد وفاتهم أحوالاً غريبة ليس لسائر الخلق معهم شركة(٢) .

وممّا يدلّ على منزلته العالية قول الإمام أبي عبداللَّه الحسين له(ع) لما زحف القومُ على مخيّمه عشيّة التاسع من المحرّم قال: إركب بنفسيَ أنت ياأخي حتى تلقاهم وتسألهم عمّا جاءهم، فاستقبلهم العباس(ع) في

____________________

(١) العبّاس(ع) للمقرّم: ص١٢٤ - ١٢٥ بتصرّف.

(٢) المصدر السابق: ص١٢٥.

١٦٥

عشرين فارساً فيهم حبيب بن مظاهر وزهير بن القين وسألهم عن ذلك فقالوا إنّ الأمير يأمر إما النزول على حكمه أو المنازلة، فأخبر أبو الفضل أخاه أبا عبداللَّه(ع) فأرجعه ليرجئهم إلى غد(١) .

أقول: يحارُ الإنسان ويعجز عن معرفةِ شخصية أبي الفضل(ع)، والإمام الحسين(ع) علّة الكائنات يفدّيه بنفسه في هذه الكلمة الثمينة السّامية ولكنّي أكتفي بذكر كلمةٍ للعلّامةِ المقدّس مرجع الإماميّة العام في عصره هو المرحوم الشيخ محمّد طه نجفرحمه‌الله تعالى الموجودة في كتاب (الإتقان) فإنها عظيمةٌ عند التأمّل وافية بالمطلوب بلغت على وجازتها ما لم تبلغهُ المطوّلات من العبارات وهذا نصّها: العبّاسُ بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) أبو الفضل هو أجل من أن يذكر في المقام - وهو قسم الثِّقات من الأصحاب - بل المناسب أن يذكر عند ذكر أهلِ بيتِهِ المعصومين عليه وعليهم أفضلُ الصلاة والسّلام(٢) .

وفي الرواية عن الإمام أبي عبداللَّه الصّادق(ع) قال: كان عمُّنا العبّاسُ ابن علي(ع) نافذَ البصيرةِ، صُلْبَ الإيمان جاهدَ مع أبي عبداللَّه(ع) وأبلى بلاءاً حسناً ومضى شهيداً(٣) .

وهنا ظاهرةٌ اُخرى دلّت على منزلةٍ كبرى للعباس عند سيّد الشهداء(ع)، وذلك لما اجتمع الإمام الحسين(ع) بعمر بن سعد ليلاً وسط

____________________

(١) المصدر السابق: ص١٢٧ عن المؤرّخ الطبري.

(٢) بطل العلقمي: ج ٣ ص٤٩٣.

(٣) ابصار العين في أنصار الحسين للشيخ محمّد السماوي: ص٢٦.

١٦٦

العسكرين لإرشاده إلى سبيل الحق وتعريفه طغيان يزيد بن معاوية وتذكيره بقول الرسول(ص) في حقّه أمر(ع) مَن كان معه بالتنحّي إلّا العبّاس وابنه علي الأكبر وهكذا صنع ابن سعد حيث أبقى ابنَهُ وغلامَه. أراد(ع) في هذا أن يوعز إلى الملأ من بعده ما لأبي الفضل وعلي الأكبر من الصّفات التي لاتحدّها العقول.

ومن هنا فلو رمتَ تحليلاً لتأخّر شهادة العبّاس(ع) عن جميع الشهداء وهو حامل تلك النّفس النزّاعة إلى الفداء دون الدّين، ذلك لأهميّة موقفه عند أخيه السبط، فإنّ سيّد الشهداء يعدُّ بقاء العبّاس(ع) من ذخائر الإمامة، وانّ موتتَهُ تفتّ في العضُد يقول له: (وإذا مضيت تفرّق عسكري) حتى أنّه في الساعة الأخيرة لم يأذن له إلّا بعد أخذٍ ورد(١) .

وممّا يدلّ على منزلته بل على رتبةٍ تضاهي رتبةَ المعصومين ذلك لما حضر الإمام السجّاد(ع) لدفن الأجساد الطاهرة ساعدهُ بنو أسد في نقل الجثث الزّواكي إلى محلّها الأخير عدى جسد الإمام الحسين وسيّدنا العبّاس(ع) فقد تولّى وحده انزالهما إلى مقرّهما واصعادهما إلى حظيرة القدس وقال لبني أسد عندما طلبوا أن يساعدوه (إنّ معي مَن يعينني) أمّا الإمام فالأمر فيه واضحٌ لأنّه لا يلي أمرَه إلّا إمامٌ مثلُهُ، ولكنّ الأمر الذي لا نكاد نصل إلى حقيقته هو فعله بعمّه أبي الفضل مثل ما فعل بأبيه الوصي، وما ذلك إلّا لمنزلةِ العبّاس(ع)(٢) .

____________________

(١) العبّاس(ع) للمقرّم: ص١٢٨.

(٢) العبّاس للمقرّم: ص١٢٩ عن (الإيقاد) للسيد محمّد علي شاه عبدالعظيمي.

١٦٧

هذا في الدّنيا وأما في الآخرة فإنّ الصدّيقة فاطمة(ع) لا تبدأ بالشكايةِ بأيِّ ظلامةٍ من ظلاماتِ آلِ محمّد(ص) وهي لا تحصى إلّا بكفّي أبي الفضل المقطوعتين(١) .

وهانحنُ قد وصلنا إلى نهاية هذا المجلس. ولكن يجدر بنا أن لا ننهي المجلس إلّا بذكرِ كرامةٍ من كرامات باب الحوائج أبي الفضل العبّاس(ع) لتقوى قلوبُنا، ويشتدّ إيماننا، وتزداد بصائرُنا والكرامة هي أنّ رجلاً مؤمناً كان يحمل قربة الماء على ظهره في أيّام المحرّم وذلك بمدينة كربلاء ويسقي منها الزوّار، وأرباب العزاء والنّادبين على الحسين والباكين ومحيي شعائر اللَّه تعالى وكان لهذا الرّجل ابنٌ وُلِدَ ناقصاً بحيث صار له من العمر أحد عشر عاماً وهو لا يستطيع الوقوف على قدميه فضلاً عن المشي ويزحف على يديه ورجليه، وفي ليلة التاسع من المحرّم أخذ هذا الرجل القربة وتهيّأ للذهاب لسقي محبي أبي عبداللَّه الحسين وأبي الفضل العبّاس(ع) بالماء وقبل أن يذهب قال له ابنُهُ المريض: أبه إلى أين تذهب؟ قال له: ولدي الليلة تاسوعاء الحسين وأنا ذاهب أسقي المعزّين الماء على حبّ الحسين(ع) فقال: أبه ما أراك أخذتني معك مرّةً لأشارك في عزاء أهل البيت، أبه أليس العبّاسُ باباً من أبواب الحوائج؟ قال الأب: نعم قال الابن: إذن خذني معك هذه الليلة واطلب شفائي من اللَّه تعالى ببركة مخدومك باب الحوائج أبي الفضل(ع) قال الأب: فتحيّرت ولم أدرِ ما أصنع حيث فاجأني بطلبه هذا، ولكن نزلت عند رغبته فحملتُ القربة على كتفٍ وعلى الكتف

____________________

(١) المصدر السابق: ص١٢٩.

١٦٨

الآخر حملت فلذّة كبدي المريض المقعد وجئت أسعى حتى وصلت إلى أهل العزاء فملأتُ القربة ووقفت أمام المعزّين وقلت لهم: جئتكم هذه الليلة ومعي ابني المريض وقد قال لي في المنزل كلمةً انصدع منها قلبي، أيّها المعزّون إذا شافى مخدومي أبو الفضل(ع) ولدي هذا فهو المطلوب، وإن لم يشفِ ولدي فسأترك سقاية الماء، وأضع القربة جانباً، قلت هذا وتحرّك العزاء الحسيني بأكمله، وقد أدّيت وظيفتي في سقاية الماء كأحسن ما يكون تلك الليلة حتى انتصف الليل، وتفرّق المعزّون، فنظرت إلى ابني وإذا هو على حاله لم يتحسّن فجرت دموعي على خديّ وقلت ثانياً بألمٍ وحسرة إذا لم يُشافَ ولدي فسأترك سقاية الماء في عزاء أهل البيت:، ثمّ حملت ابني وجئت به إلى الدّار وجلسنا في‏الحجرة فكنت انظر إليه وأبكي وهو ينظر إليَّ ويبكي حتى بكينا كثيراً، وإذا به يقول لي: أبة كفّ عن البكاء واعذرني ان آذيتك هذه الليلة لعلّ اللَّه لا يرى مصلحةً في شفائي ثمّ قال: اللهمّ إن كان هذا يرضيك فهو يرضيني فآلمني أكثر بكلامه ثمّ قمت من عنده وذهبت إلى حجرتي ولكني لم أهدأ فبقيت أبكي وأبكي حتى نمت على هذه الحالة ولم أستيقظ إلّا على صوت ولدي وهو يصيح: أبه أسرع إنّ مخدومك ساعدني، أبة إنّ سيدي العبّاس شافاني فقمت مسرعاً وفتحت باب غرفته وإذا بي أراهُ واقفاً على قدميه ولأول مرّة في حياتي أراه واقفاً فضممتُه إلى صدري وقلت له: ولدي عزيزي أخبرني ما الذي حدث؟ قال: عندما خَرَجْتَ من الحجرة وبقيتُ وحدي أبكي فبينا أنا كذلك وإذا أرى الحجرةَ وقد امتلأت نوراً ساطعاً ورأيتُ رجلاً مهيباً أمامي وهو يقول لي: قم

١٦٩

وقف على قدميك قلت: سيدي لا أستطيع القيام أنا مريض قال لي قل مرّةً واحدة ياأبا الفضل وقم فقلت: ياأبا الفضل وقمت على قدمي وغاب عنّي أبه لم يردّ العبّاس طلبنا قال الأب: فحملت ابني على كتفي وخرجتُ إلى النّاس وأنا أصيح بصوت عالٍ: أيّها المعزّون إنّ العبّاس الوفي شافى ولدي هذا، وعاد يسقي الماء على حبّ أبي الفضل(ع)(١) .

وتعال معي للبكاء على مصيبته(ع) قال السماوي في (ابصار العين): لما رأى العبّاس(ع) وحدةَ أخيه بعد قتل أصحابه وجملة من أهل بيته قال لأخوته من أمّه: تقدّموا لأحتسبكم عند اللَّه تعالى فتقدّموا حتّى قتلوا فجاء إلى الإمام واستأذنه في القتال فقال له: أنت حاملُ لوائي فقال: لقد ضاق صدري وسئمت الحياة فقال له: إن عزمت فاستسقِ لنا ماءاً، فأخذ قربتَهُ وحمل على القوم حتّى ملأ القربة قالوا: واغترف من الماء غَرفة فتذكّر عطش الحسين(ع) فرمى الماء من يده وقال:

يانفسُ من بعدِ الحسين هوني

وبعده لا كنت أن تكوني

هذا الحسينُ واردُ المنونِ

وتشربين باردَ المَعِين

ثمّ عاد فأخذوا عليه الطريق فجعل يضربهم بسيفه وهو يقول:

لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رقا

حتى أوارى في المـَصاليت(٢) لُقى

____________________

(١) عن كتاب (چهره درخشان) باللغة الفارسية للشيخ علي ربّاني الخلخالي : ص ٣٨٩ - ٣٩٠.

(٢) المصاليت: الشجعان.

١٧٠

إنّي أنا العبّاسُ أغدو بالسّقا

ولا أهابُ الموتَ يوم الملتقى

فضربه حكيم بن طفيل السنبسي على يمينه فقطعها فأخذ اللواء بشماله وهو يقول:

واللَّهِ إن قطعتموا يميني

إنّي أحامي أبداً عن ديني

وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ

سبطِ النبيّ الصادقِ الأمينِ

فضربه زيد بن ورقاء الجهني على شماله فقطعها فضمّ اللواءَ إلى صدره وهو يقول:

يانفسُ لا تَخْشَي من الكفّار

وأبشري برحمةِ الجبّار

قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم ياربِّ حرَّ النّار

فحمل عليه رجلٌ تميمي فضربه بعمود على رأسِهِ فخرّ صريعاً إلى الأرض، ونادى بأعلى صوته أدركني ياأخي، فانقضّ عليه أبو عبداللَّه كالصّقر فرآه مقطوعَ اليمين واليسار مرضوخ الجبين مشكوك العين بسهم مرتثاً بالجراح فوقف عليه منحنياً وجلس عند رأسه يبكي(١) .

ولسان الحال:

يعبّاس هذا حسين يمّك

يبكي وخلط دمعه بدمّك

حاير يبو فاضل بلمّك

وسكنة تسكت الطفل بسمك

ساعة ويجيب الماي عمّك

____________________

(١) ابصار العين: ص٢٩ - ٣٠.

١٧١

يقولون: بينما الحسين(ع) عند أبي الفضل وإذا بامرأة خرجت من المخيّم شابكةً عشرها على رأسها وهي تنادي واأخاه واعبّاساه فترك الإمام الحسين أخاه العبّاس(ع) في مكانه ولم يحمله ودنى وإذا بها العقيلة زينب فقال لها: إلى أين ارجعي قالت: أراك جئتني وحدك أين ابن والدي فاختنق الإمام بعبرته ولسان الحال:

يگللهه يزينب راح عبّاس

راح الضيغم اللي يرفع الراس

وظل يبكي عليه الدّرع والطاس

فعندما سمعت ذلك كأني بها أرادت أن تأتي إلى مصرعه وتلقي عليه نظرة الوداع فمنعها الإمام وهو يقول إلى أين؟ قالت بلسان الحال:

أنه رايحة العبّاس أشوفه

وركّب اعله زنوده كفوفه

أخوي وعلي زاد معروفه

كفيل الحرم وشلون أعوفه

وعندما سمعت سكينة نادت بلسان الحال:

عبّاسُ ياراعي الشريعة والحرم

بحماك قد نامت سكينةُ في الخَيمْ

صرخت ونادت يوم قد سقط العَلَمْ

اليوم نامت أعينٌ بك لم تنم

وتسهّدت أخرى فعزَّ منامُها

* * *

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

١٧٢

الليلة الثامنة المجلس السادس عشر

التفكُّر والإعتبار

يادوحةَ المجدِ من فهرٍ ومن مُضَرِ

قد جفّ ماءُ الصِّبا من غُصنِكَ النَّظِرِ

مهذّبُ الخَلْقِ والأخلاقِ إن ترَهُ

كأنّهُ مَلَكٌ في صورةِ البشرِ

قد أحدقت فيه آلافٌ يصولُ بها

كأنّهُ أسدٌ قد شدَّ في حُمُرِ(١)

ما اخضرّ عارضُهَ ما دبَّ شاربُهُ

لكن جرى‏ القدرُ الجاري على القَدرِ

فاغتالَ مَفْرِقَهُ الأزدي بمُرْهَفِهِ

فخرَّ لكن بخدٍّ منه منعفِرِ

إِن يبكه عمُّهُ حزناً لمصرعِه

فما بكى قمرٌ إلّا على قمرِ

ياساعدَ اللَّهُ قلبَ السبطِ ينظُرُهُ

فرداً ولم يبلغ العشرينَ في العمر

لابن الزكيِّ الا يامقلتي انفجري

من الدّموعِ دماً يامهجتي انفطري

قد كنتُ أحذرُ أنّي لا أراك على

وجهِ الصّعيدِ ولكن جاءني حذري

ما كنتُ آمُلُ في الرّمضاءِ أبصرُهُ

ياليتَ فارقني من قبل ذا بصري

ما كنتُ آملُ أن أبقى وأنت على

حرِّ الصّعيدِ ضجيعَ الصخرِ والحجرِ

مرمّلاً مذ رأتهُ رملةٌ صرخت

يامهجتي وسروري ياضيا بصري

خلّفت والدةً ولهى محيَّرةً

مدهوشةً ليس من حامٍ ومنتصرِ

بنيّ تقضي على شاطي الفراتِ ظَماً

والماءَ أشربُهُ صفواً بلا كدَرِ

بُنيّ في لوعةٍ خلّفتَ والدةً

ترعى نجومَ ‏الدّجى في ‏الليلِ ‏بالسّهَرِ(٢)

____________________

(١) الحُمُر: جمع حِمار وهو الحيوان المعروف.

(٢) القصيدة من نظم المرحوم السيّد صالح الحِلّي١، وقد تقدّمت ترجمتُهُ ص٧٤.

١٧٣

ردتك ما ردت دنيه ولا مال

تحضرني لو وگع حملي ولا مال

يقاسم خابت ظنوني ولامال

عند الضيق يبني أقطعت بيّه

* * *

(روي عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: تفكّرُ ساعة خيرٌ من عبادةِ ستين سنة)(١) .

أوجد اللَّهُ تعالى المخلوقات جميعاً وجعلَ الإنسانَ سيّدَها، والذي ميّز الإنسان عن سائر المخلوقات هو العقل، إذ لولاه لما صار الإنسان أشرف المخلوقات والتفكّر الذي نتحدّث عنه هو نتاجُ هذا العقل، وقد مدحته الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، وحبّبت إلى النّاس التفكّر والتدبّر.

ففي القرآن الكريم على سبيل المثال قوله تعالى:( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوِاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ َلآيَاتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ× الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) (٢) وقوله تعالى:( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إلّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) (٣) وقوله تعالى:( أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ) (٤) وغيرها كثير.

____________________

(١) لئالِئُ الأخبار للتسيركاني١: ج١ ص١٨٤.

(٢) سورة آل عمران: الآية ١٩٠ - ١٩١.

(٣) سورة سبأ: الآية ٤٦.

(٤) سورة الروم: الآية ٨.

١٧٤

وأمّا ما جاء في السنّة الشريفة ففي الخصال عن الإمام أبي عبداللَّه الصادق(ع) أنّه قال: كان أكثر عبادة أبي ذرّ - رحمة اللَّه عليه - خَصلتين: التفكّر والإعتبار(١) .

وعن أمير المؤمنين(ع) قال: نبّه بالتفكّر قلبك، وقال: لا عبادة مثل التفكّر، وقال: التفكّر يدعو إلى البرِّ والعمل به وأنّه مرآةٌ صافية(٢) .

وعنه(ع) قال: من ألزمَ قلبَه الفكر، ولسانَه الذّكر ملأ اللَّهُ قلبَه إيماناً ورحمةً ونوراً وحكمة، إنّ الفكر والإعتبار يخرجان من قلبِ المؤمن عجائِبَ المنطق في الحكمة، فتسمع له أقوالاً يرضاها العلماء ويخشع لها العقلاء، ويعجب منها الحكماء(٣) .

والتفكّر هو عملية جولان بين المعارف للحصول على معرفةٍ جديدة، فإذا حصلت عند الإنسان معرفة وازدوجت مع معرفةٍ اُخرى حصل منهما نتاج آخر لم يكن موجوداً، وهكذا تتمادى العلوم والمعارف، ويتمادى الفكر، مثال ذلك: مَن مالت نفسُهُ إلى الدّنيا وأراد أن يعرف أنّ الآخرةَ أولى بالإيثار من الدّنيا فله طريقان: أحدهما: أن يسمع من غيرِهِ أنّ الآخرة أولى بالإيثار من الدّنيا فيقلّده ويصدّقُهُ من غير بصيرة بحقيقةِ الأمر فيميل إلى إيثار الآخرة اعتماداً على قول الغير وهذا يسمّى تقليداً ولا يسمّى معرفة، الطريق الثاني: أن يعرف أن الأبقى أولى بالإيثار [معرفة أولى] ثمّ يعرف أنّ

____________________

(١) الخصال: ج ١ ص٤٢ باب الإثنين.

(٢) لئالي الأخبار: ج ١ ص١٨٤.

(٣) المصدر السابق نفسه.

١٧٥

الآخرةَ أبقى [معرفة ثانية] فيحصل من هاتين المعرفتين معرفة ثالثة وهي: أنّ الآخرةَ أولى بالإيثار، وهذه العمليّة تسمى تفكيراً، وهي لا تتوقّف عند الإنسان إلّا بالفناء، وثمرةُ التفكير هي العلوم المختلفة والمعارف.

وفي الرواية سُئل الإمام الصّادق(ع) كيف يتفكّر؟ قال: تمرُّ بالخربةِ أو بالدّار فتقول أين ساكنوك وأين بانوك مالَكِ لا تتكلّمين(١) .

يقول أحدهم دخلت خربةً وإذا قد كُتب فيها هذان البيتان:

هذه منازلُ أقوامٍ عهدتهُم

في خَفضِ(٢) عيشٍ وعزٍّ مالَهُ خطَرُ

صاحت بهم نائباتُ الدّهر فانقلبوا

إلى القبورِ فلا عينٌ ولا أثَرُ

والتفكّر خيرُ من العبادة من وجوه:

الأول: هو أنّ التفكّر يورث صاحبَه مقتَ الدّنيا ويقصّر الأمل الذي هو أقوى أسباب حبّ الدّنيا، ومعلوم أنّ جميع بلاء الإنسان ومصائبه الأخرويّة إنّما هو من حبّ الدّنيا وطول الأمل فإذا كان التفكّر مقتاً للدّنيا ومقصّراً لطول الأمل فلابدّ أن يكون أفضل من العبادة، كان ذو القرنين يسير في البلاد حتّى مرَّ بشيخ يقلّب جماجمَ الموتى فوقف عليه بجنوده فقال له: أخبرني أيّها الشيخ لأيّ شي‏ءٍ تقلّب هذه الجماجم؟ قال: لأعرف الشريفَ من الوضيع، والغنيَّ من الفقير فما عرفت ذلك، وإنّي لأقلّبها منذ عشرين سنة فقال ذو القرنين: ما عنيت بهذا غيري(٣) . قيل: فترك الدّنيا ولبس مسوحَ العبّاد.

____________________

(١) لئالئُ الأخبار ج١ ص١٨٥.

(٢) خَفُضَ العيشُ: أي سَهُلَ وكان هنيئاً. (منجد)

(٣) خلاصة الأسرار من بحار الأنوار: ج ١ ص٢٧١.

١٧٦

روي عن أمير المؤمنين(ع) وقد زار القبور:

سلامٌ على أهلِ القبورِ الدوارس

كأنّهُمُ لم يجلِسوا في المجالِسِ

ولم يشربوا من باردِ الماءِ شربةً

ولم يأكلوا من خير رطبٍ ويابسِ

ألا خبّروني أين قبرُ ذليلكم

وقبرُ العزيزِ الباذخِ المتنافِسِ(١)

الثاني: إنّ التفكّر ساعة أو أقلّ منها كثيراً ما يَقلِبُ الرجلَ إلى حالةٍ حسنة فتصدر منه العبادات في طول تلك المدّة كما حصل لكثير من الزهّاد والعبّاد والأخيار والأبدال والسلاطين، بخلاف العبادة(٢) .

جاء في سبب توبةِ بشر الحافي أنّه اجتازَ مولانا الإمامُ موسى بن جعفر(ع) على دارهِ ببغداد فسمع الملاهي وأصوات الغناء تخرج من تلك الدّار فخرجت جارية وبيدها قمامة فرمت بها في الدّرب فقال لها: ياجارية صاحبُ هذه الدّار حرٌّ أم عبد؟ قالت: بل حرٌّ قال(ع): صدقتِ لو كان عبداً خاف من مولاه فلمّا دخلت قال لها بشر وهو على مائدةِ السّكر ما أبطأكِ؟ قالت: حدّثني رجل بكذا وكذا فخرج حافياً حتى لقي مولانا الإمام الكاظم(ع) فتاب على يديه واعتذر وبكى لديه استحياءاً من عملِهِ، وكان ممّن فاقَ أهلَ عصرِهِ في الورع والزّهد، وتفرّد بوفور العقل وأنواع الفضل(٣) .

وكان له ذكرٌ حسنٌ جميلٌ بين النّاسِ، قال السيد الأمين في (أعيان الشيعة)

____________________

(١) الديوان المنسوب لأمير المؤمنين(ع): ص٧٣.

(٢) لئالئ الأخبار: ج ١ ص١٨٥.

(٣) الكنى والألقاب: ج ٢ ص١٦٨.

١٧٧

عن سفيان بن محمّد قال: رأيت بشر بن الحارث في النوم - بعد موته - فقلت له: ما فعلَ اللَّهُ بك؟ قال: غفر لي وأباح لي نصف الجنّة وقال لي: يابشر لو سجدت على الجمر ما أدّيت شكرَ ما جعلتُ لك في قلوب عبادي(١) .

الثالث: إنّ التفكّر ولو قليلاً يورث سعادةً لا تحصل بالقيام بجميع العبادات في طول العمر، كما وقع لكثير من الشهداء الكبار الذين منهم الحرّ بن يزيد الريّاحي رضوان اللَّه تعالى عليه حيث خرج إلى حرب الإمام الهمام أبي عبداللَّه(ع)، فبلغ بالتفكّر في نفسه ساعة ما بلغ من الدرجة العليا(٢) .

ومن هنا ما يذكر من أنّ الإمام الحسين(ع) لم يأذن لإبن أخيه القاسم بن الإمام الحسن السبط(ع) بالمبارزة فجلس مهموماً متألّماً فذكر أنّ أباه(ع) قد ربط في عضده عوذة وقال له: إذا مرّ بك حزن شديد فافتح العوذة واعمل بكلّ ما تراه مكتوباً فيها فقال القاسم: لم يمّر عليّ مثل هذا الموقف المحزن فحلّ العوذة وإذا فيها: ولدي قاسم أوصيك أنك إذا رأيت عمّك الحسين في كربلاء وقد أحاطت به الأعداء فلا تبخل عليه بروحك وكلّما نهاك عن القتال عاوده حتّى يأذن لك لتحظى بالسعادة الأبديّة فقام القاسم من ساعته وجاء إلى عمّه وعرض عليه الكتاب فلما رآه الإمام الحسين(ع) بكى وقال ياابن أخي وأنا عندي وصية أخرى منه، فأدخل القاسم خيمة ونادى عوناً وعبّاساً وقال عليّ بالصندوق فأخرج منه ملابس

____________________

(١) أعيان الشيعة: المجلد الثالث ص٥٩٧.

(٢) لئالئ الأخبار: ج ١ ص١٨٥.

١٧٨

الإمام الحسن الشهيد المظلوم ولفّ على رأس القاسم عمامة الحسن(ع) وعقد له على ابنته المسماة له وأفرد له خيمة وأخذ بيد ابنته ووضعها بيد القاسم وخرج عنهما، فأخذ القاسم ينظر بوجه ابنةِ عمّه ويبكي وهي تنظر بوجهه وتبكي وهو يسمع صوت عمّه الحسين(ع) ينادي: واقلّة ناصراه فخرج القاسم وهو يقول لبّيك ياسيّدي فأرجعه الإمام إلى ثلاث مرّات وفي المرّة الأخيرة قال له اذهب إلى أُمّك ودّعها فذهب إليها ولسان حالها:

يا ماي عيني يالولد

رايح كأنك ما ترد

ويّاك إلي حاجة وگصد

ليكون عنّي تغفل

قاسم تناهه وليه اجت

أمّه وعلى فراگه بكت

شمّت خدوده وهلهلت

ما تدري بيه ينقتل

گالله عينك والتمس

منك وكل مطلع شمس

ذكري شبابي والعرس

واللي طلبتيه سهل

أقول: بهذه اللوعة التي يصوّرها الشاعر ودّعت السيّدة رملة ولدها القاسم ليت شعري كيف كان حالها عندما جي‏ء به إلى الخيام محمولاً مضروباً على رأسه لا حراك فيه ولسان الحال:

رملة طلعت تلطم ‏صدرهه ‏بدمع‏ همّال

تنادي‏ يغصن البان عني گوض وشال

ظليت حرمه بلا ولي من غير رجال

وصارت الضجّه في خدور الهاشميه

* * *

١٧٩

وصلت لعدقاسم ‏او منها الگلب‏ مهموم

صاحت ييمّه ياشباب المات محروم

مرمي ‏على‏ الرّمض او متخضّب‏ بالدموم

لبكي على فرگاك كل صبح ومسيه

* * *

يبني ما ذكرت أُمّك وحنيت

تركتني امن انطبگ ظهري وحنيت

يقاسم خضّبت شيبي وحنيت

بدمك ياشباب الغاضريّة

* * *

بنيّ في لوعةٍ خلّفت والدةً

ترعى نجوم‏الدّجى في‏الليل بالسهرِ

لاحول ولا قوة إلا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

١٨٠

الليلة الثامنة المجلس السابع عشر

شهادة القاسم بن الحسن(ع)

قسَمَ الإلهُ الرّزءَ بين أعاظِمِ

لا رزءَ أعظمُ من مصابِ القاسمِ

حسنيُّ خُلْقٍ من نِجارِ محمّدٍ

مضريُّ عرقٍ من سلالةِ هاشمِ

غصنٌ نضيرٌ من أصولِ مفاخِرٍ

ثمرٌ جنيٌّ من فروعِ مكارِمِ

قتّالُ أبطالٍ مبيدُ كتائبٍ

فتّاكُ آسادٍ هَزَبْرُ ملاحِمِ

هزمَ الكماةَ بقوّةٍ علويّةٍ

وأبادهم طُرّاً ببطشٍ هاشمِ

للَّهِ يومٌ خرَّ فيه إلى الثرى

متكسّرَ الأضلاعِ تحت مناسِمِ(١)

نادى حسيناً عمَّهُ متشكّياً

بُعدَ الوصالِ وقربَ هجرٍ دائمِ

ويلوكُ كالحوتِ التريبِ لسانَه

لوكاً ويفحَصُ كالقطا بقوادمِ(٢)

* * *

ولسان حال امّه رمله:

ربيتك ييمّة واسهرت برباك

اشلون اصبر يروحي من بعد عيناك

عسن سيف اليصيبك صابني وياك

اولا شوفك خضيب الراس بالدم

* * *

وحيّد وعز عندي امن العذيبي

او ردتك ضخر لأيام شيبي

مظنيت بيك يشح نصيبي

وابگه اسحن صبر فرگاك والهم

____________________

(١) المناسِمْ: للإبل كالظفر للإنسان أو طرف خف البعير والنعامة.

(٢) معالي السّبطين للمازندرانيرحمه‌الله تعالى: ج ١ ص٢٨٢.

١٨١

(جاء في زيارته(ع): السَّلامُ عليكَ ياابنَ حبيبِ اللَّه، السَّلامُ عليكَ ياابنَ ريحانةِ رسول اللَّه، السَّلامُ عليكَ من حبيبٍ لم يقضِ من الدّنيا وطَراً، ولم يشفِ من أعداءِ اللَّهِ صدراً، حتَى عاجلَهُ الأجل، وفاتَه الأمل، السَّلامُ على القاسمِ بنِ الحسنِ بنِ علي ورحمة اللَّه وبركاتُه)(١) .

أبناء الإمام الحسن المجتبى(ع) الذين قاتَلوا مع عمِّهم الإمام الحسين(ع) في كربلاء بمعركة الطف خمسة وهم: القاسم - والمجلس مخصّص لذكره - والحسن المثنّى، وأبو بكر، وعبداللَّه، وعمرو، وقد نال الشّهادةَ منهم ثلاثة وهم(٢) : أبو بكر، عبداللَّه، والقاسم، وبقي منهم اثنان:

الأول: هو الحسن المثنى: وقد كان له من العمر اثنان وعشرون سنة(٣) ، وقاتلَ قتالاً شديداً وقد قتلَ من الأعداء سبعةَ عشرَ رجلاً كما في بعض المقاتل، وأصابته ثمانية عشر جراحة فوقع أرضاً وبه رمق من الحياة، فلمّا انتهت المعركة جاءه أسماءُ بن خارجة فانتزعه من بين الأسرى وقال: لا يُوصَل إلى ابن خولَة أبداً، فقال عمر بن سعد: دعوا لأبي حسّان ابنَ أخته(٤) ، فجاء به إلى الكوفة وهو جريح فداواه عنده وبقي في الكوفة ثمانية أشهرٍ أو سنة ثمّ عاد إلى المدينة.

الثاني: هو عمرو بن الحسن: وكان مع الأسراء، وقد دخل معهم على

____________________

(١) بحار الأنوار: ج ١٠١ ص٢٤٣.

(٢) الإرشاد للشيخ المفيد(ره): ص١٧٩.

(٣) وفي أعيان الشيعة: المجلّد الخامس ص٤٤، أنّ المظنون كون عمره ١٧ عاماً.

(٤) الإرشاد للمفيد(ره): ص١٩٦.

١٨٢

يزيد في الشام فقال له يزيد: أتصارعُ ابني هذا؟ وقصد ابنه خالد فقال: ما فيّ قوّة على الصّراع ولكن أعطني سكّيناً وأعطِهِ سكيناً فإمّا أن يقتلني فألحق بجدّي رسول اللَّه(ص) وأبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) وإمّا أن أقتُلَهُ فألحقَهُ بجدّه أبي سفيان وأبيه معاوية، فتأمّل يزيد قليلاً ثمّ قال: شِنشِنَةٌ أعرفها من أخزم هل تلدُ الحيّةُ إلّا حَيّة(١) .

أراد اللعين يزيد من تمثّله بهذا المثل هو أنّ طبيعة أهل البيت وسجيّتهم الشجاعة يتوارثونها كما يتوارثون بقية السجايا والخصال الحميدة، وأنت ياعمرو بن الحسن ورقةٌ من تلك الشجرة حيث جدّك أمير المؤمنين وأبوك المجتبى سيّد شباب أهل الجنّة، ولم يَلِدوا إلّا الأبطال الشجعان.

ومن المناسب هنا ذكر موقف النبيّ(ص) يوم فتح مكّة المكرّمة في السّنة الثامنة للهجرة وقوله: لو ولد أبو طالب النّاس كلّهم لكانوا شجعاناً(٢) .

أمّا الشهداء الثلاثة فهم:

أبو بكر بن الحسن(ع): وهو أخو القاسم لأبيه وأمّه، ذكر أبو الفرج الأصفهاني في (مقاتل الطالبيّين): أنّ أبا بكر قُتل قبل أخيه القاسم(٣) .

وعبداللَّه بن الحسن(ع): قال الشيخ المفيد(ره) في (الإرشاد): لما ضرب مالكُ بن النّسر الكندي بالسيف رأس الإمام الحسين(ع) بعد ما شتمه ألقى الإمام الحسين(ع)

____________________

(١) الشّنشنة: هي العادة والطّبيعة، الأخزم هو الذّكر من الحيّات.

(٢) شجرة طوبى: ص٣٠٥.

(٣) نفس المهموم: ص٣٢٥ عن مقاتل الطالبيين.

١٨٣

قلنسوتَهُ ودعا بخرقة وقلنسوة فشدّ رأسَهُ بالخرقة ولبس القلنسوة واعتمّ عليها، فرجع عنه الشمر ومَن معه إلى مواضعهم، فمكث هنيئة ثمّ عاد الشّمر وعادوا إليه وأحاطوا به، فخرج عبداللَّه بن الحسن من عند النّساء وهو غلامٌ لم يراهق، فشدّ حتى وقف إلى جنبِ عمّه الحسين(ع) فلحقته زينب(ع) لتحبسَهُ فأبى عليها فقال لها الإمام الحسين(ع): احبسيه ياأخيّة فامتنع امتناعاً شديداً وقال: واللَّه لا أفارق عمّي، وأهوى بحرُ بنُ كعب إلى الحسين بالسّيف فقال له الغلام: ويلك ياابن الخبيثة أتقتلُ عمّي؟ فضربه بحرُ بالسيف فاتّقاه الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد فإذا هي معلّقة، فنادى الغلام ياأمّاه فأخذه الحسين(ع) وضمّه إليه وقال له: ياابن أخي اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير فإنّ اللَّهَ يلحقُكَ بآبائك الصّالحين ثمّ رفع الإمام(ع) رأسه إلى السماء وقال: اللهمّ امسك عليهم قطرَ السّماء، وامنعهم بركاتِ الأرض، اللهمّ فإن متّعتهُم إلى حين ففرّقهم بدداً واجعلهم طرائقَ قدداً، ولا ترضي الولاةَ عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا. وروى أبو الفرج الأصفهاني أنّ الذي قتله هو حرملةُ بن كاهل الأسدي(١) .

والقاسم بن الحسن(ع): قال المرحوم الشيخ عبّاس القمّي في (نفس المهموم): قيل لما نظر الإمام الحسين(ع) إلى القاسم وقد برز اعتنقه وجعلا يبكيان حتى غُشي عليهما ثمّ استأذن عمّه الحسين(ع) في المبارزة فأبى(ع) أن يأذن له، فلم يزل القاسم يقبّل يديه ورجليه حتى أذن له فخرج

____________________

(١) ابصار العين: ص٣٨ عن الإرشاد.

١٨٤

ودموعُهُ تسيل على خدّيه وهو يقول:

إن تنكروني فأنا نجلُ الحسن

سبطِ النبيِّ المصطفى والمؤتمن

هذا حسينٌ كالأسير المرتهَن

بين أُناسٍ لا سُقوا صوب المزُن

فقاتل قتالاً شديداً حتّى قَتَلَ على صغره خمسة وثلاثين رجلاً.

وقال ابن شهرآشوب(ره) في المناقب: إنّ القاسم أنشأ يقول:

إنّي أنا القاسمُ من نسل علي

نحنُ وبيتِ اللَّهِ أولى بالنّبي

من شمر ذي الجوشنِ أو ابنِ الدّعي(١)

وروى الشيخ المفيد(ره) عن حميد بن مسلم قال: خرج إلينا غلام كأنّ وجَههُ شقّهُ قمرٍ وفي يده سيف وعليه قميصٌ وإزار وفي رجليه نعلان قد انقطع شِسعٌ إحداهما(٢) ما أنسى أنها اليسرى فوقف ليشدّها فقال عمرو

بن سعد بن نُفيل الأزدي - لعنه اللَّه - : واللَّهِ لأشُدنّ عليه فقلت له: وما تريد بذلك يكفيك هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه من كلّ جانب قال: واللَّه لأشدنّ عليه، فشدّ عليه فما ولّى وجهَهُ حتّى ضربَ رأسه بالسيف فوقع الغلامُ لوجهِهِ فقال: ياعمّاه قال: فجلى الحسين(ع) كما يجلو الصّقر ثمّ شدّ شدّةَ

____________________

(١) نفس المهموم: ص٣٢٢.

(٢) وفي ذلك يقول المرحوم الشيخ محمّد السماوي:

أتراهُ حين أقامَ يُصلحُ نعلَهُ

بين العدى كي لا يروهُ بمحتفي

غلبت عليه شهامةٌ حسنيّةٌ

أم كان بالأعداءِ ليس بمحتفي

١٨٥

ليثٍ أغضب وضرب عمراً فاتّقاه بالساعد فأطنّها من لدن المرفق، فصاح صيحةً سمعها أهلُ العسكر ثمّ تنحّى عنه الحسين(ع)، وحملت خيلُ أهل الكوفة ليستنقذوا عمراً من الحسين(ع) فلمّا حملت الخيل استقبلته بصدورها وجالت فوطأته حتى مات لعنه اللَّه وأخزاه، وانجلت الغبرة وإذا بالحسين(ع) قائمٌ على رأس الغلام وهو يفحص برجليه والإمام(ع) يقول: بُعداً لقومٍ قتلوك ومَن خصمُهُم يوم القيامةِ جدُّك. ثمّ قال: عزّ واللَّه على عمّك أن تدعوه فلا يجيبُك أو يجيبُك فلا ينفعُك، هذا يومٌ كثُرَ واللَّهِ واترُهُ وقلّ ناصرُه ولسان الحال:

بكه وناداه ياقاسام شبيدي

يريت السيف گبلك حز وريدي

هان الكم تخلّوني وحيدي

على خيمّي يعمّي الخيل تفتر

* * *

يعمّي شگالت امن الطبر روحك

يعمّي ما تراويني جروحك

لون أبقى يعمّي كنت انوحك

بگلب مثل الجمر وبدمع محمر

ثمّ حمله على صدره ورجلاه تخطّان في الأرض، وجاء به حتّى ألقاه مع ابنه عليّ الأكبر ولسان الحال:

جابه ومدّده ما بين اخوته

بكى عدهم يويلي وهم موته

بس ما سمعن النسوان صوته

اجت زينب تصيح اللَّه واكبر

* * *

١٨٦

مبارك بين سبعين الف جابوك

بدال الشّمع بالنشاب زفوك

عن الحنه بدم الراس حنّوك

على راسك ملبس نبل ينثر

وجاءت عندها العروس ولسان الحال:

يقاسم گوم ريت البيك بيّه

يقاسم گوم ريت الموت ليّه

صدگ رايح يقاسم هاي هيّه

او تخلّيني أون الليل واسهر

* * *

عسى بعيد البلا خدّك على الگاع

يقاسم موش وقت الموت هلساع

قاسم يبن عمّي لون تنباع

بماي العين كنت اشريك ياحر

ثمّ التفتت إلى قاتل القاسم وصاحت بلسان الحال:

عساهي برگبتك كل الخطيّه

تخلّيني غريبة واجنبيّة

ياقاسم عرس اكشر عليّه

عرّيس ويزفّونك مطبر

* * *

خضبوا وما شابوا وكان خضابهم

بدمٍ من الأوداج لا الحنّاءِ

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

١٨٧

الليلة التاسعة المجلس الثامن عشر

برُّ الوالدين

جرى دمعي لمصرعِ شبل طه

وتاهَ الفكرُ في الحزنِ الشّديدِ

فما أدري أعزّي أم أُهَنّي

عليَّ المرتضى بابنِ الشَّهيدِ

فطوراً للوصيِّ به أُهنّي

وأنظمُ مدحَهُ نظمَ العقودِ

عليٌّ بالطّفوفِ أقامَ حرباً

كحربكَ ياعليُّ مع اليهودِ

وقاتلَ بكرَهم كقتالِ عمروٍ

وجدّله على وجهِ الصّعيد

وصيّرَ كربلا بدراً وأُحداً

ونادى ياحروبَ الجدِّ عودي

وطوراً ياعليُّ أُعزّي فيه

وتبكي العينُ للعقدِ الفريدِ

كأنّي بالحسينِ غدى ينادي

علينا ياليالي الوصلِ عودي

رجوتُكَ ياعليُّ تعيشَ بعدي

لتوسِدَ جثّتي رمسَ اللحودِ

وتمشي باكياً من خلف نعشي

كما يبكي الوليدُ على الفقيدِ

ولم أنسَ النساءَ غداة فرّت

إلى نعشِ الشَّهيد ابن الشَّهيدِ

فهذي قبّلت كفّاً خضيباً

وشمّت تلك ورداً في الخدودِ

وزينبُ قابلت ليلى وقالت

أعيدي النّوحَ ياليلى أعيدي

على حلوِ الشّباب وبدرِ تمٍّ

شبيهِ محمّدٍ خيرِ الجدودِ(١)

____________________

(١) هذه القصيدة العصماء للمرحوم الشيخ جعفر الهر الكربلائي(ره).

قال المرحوم السيد جواد شبر في الجزء التاسع من موسوعته (أدب الطف):

الشيخ جعفر ابن الشيخ صادق بن أحمد الحائري الشهير بالهر، أحد أعلام كربلاء

١٨٨

ولسان حال اُمّه ليلى:

لمّن للأكبر اجت ليلى

گعدت وگامت تشتكيله

تگلّه ودمعها عليه تسيله

برضاك أظل بعدك ذليله

والظعن لو رادوا رحيله

ياهو المحملي يباريله

من بعد عينك ياكفيله

وبيمن بعد راسي أشيله

* * *

قال اللَّه تعالى في القرآن الكريم:( وَقَضَى رَبُّكَ إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) (١) .

____________________

المقدسة وأفاضلها، ولد سنة ١٢٦٧ه وتوفي سنة ١٣٤٧ه بكربلاء ودفن فيها في الرواق الشريف الحسيني قريباً من قبر صاحب الرياض وعمره ثمانون عاماً.

درس على الشيخ زين العابدين المازندراني، و لما نال الحظوة الكافية من العلم انفرد بالتدريس وتخرّج على يده جماعة.

قال صاحب (الطليعة): كان فاضلاً مشاركاً في العلوم أديباً شاعراً هو اليوم مدرّس بكربلاء وإمام جماعة تقام به الصلاة في حرم أبي الفضل العباس(ع) ومن شعره قوله مشطّراً البيتين المنسوبين إلى قيس العامري:

مرُّ على الديارِ ديارِ ليلى

ونارُ الوجدِ تستعرُ استعارا

أشمُّ ترابَها طوراً وطوراً

أقبّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا

وما حبُّ الديارِ شغفنَ قلبي

ولا أضرمْنَ في جنبيَّ نارا

ولا ربعِ الغويرِ وساكنيه

ولكنْ حبُّ مَن سكنَ الديارا

(١) سورة الإسراء أو بني إسرائيل: الآية ٢٣ و٢٤.

١٨٩

قال المرحوم الشيخ الطبرسي(ره) في (مجمع البيان):( وَقَضَى رَبُّكَ ) أي أمرَ أمراً باتّاً( إلّا تَعْبُدُوا إلّا إِيَّاهُ ) أي أن تعبدوه ولا تعبدوا غيرَه( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) أي وقضى اللَّهُ بالوالدين احساناً أو أوصى بالوالدين إحساناً(١) ، أقول: من هنا يتّضحُ لنا جليلُ حقِّ الأبوين بحيث أنّ اللَّهَ تعالى أوجب حقّهما بعد وجوب توحيده وعبادته ونفي عبادةِ مَن سواه، وقد حفلت أحاديث العترة الطاهرة بالكثير من الوصايا الخالدة في هذا المقام منها:

ما روى الشيخ الكليني(ره) في أصول الكافي بسنده إلى منصور بن حازم عن أبي عبداللَّه الصادق(ع) قال: قلتُ له: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاةُ لوقتها وبِرُّ الوالدين، والجهاد في سبيل اللَّه عزّوجلّ(٢) .

ومنها: عن الإمام الصادق(ع) قال: ما يمنع الرّجلَ منكم أن يبرَّ والديه حيَّين وميّتين، يصلّي عنهما، ويتصدّق عنهما، ويحجّ عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صَنَعَ لهما، وله مثلُ ذلك فيزيده اللَّه عزّوجلّ ببرِّهِ وصِلَتِهِ خيراً كثيراً(٣) .

ومنها: عن معمّر بن خلّاد قال: قلت لأبي الحسن الرّضا(ع): أدعو لوالديَّ إذا كانا لا يعرفان الحق(٤) ؟ قال: ادعُ لهما، وتصدّق عنهما، وإن كانا

____________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص٤٠٩.

(٢) أصول الكافي: ج ٢ ص١٥٨.

(٣) أصول الكافي: ج ٢ ص١٥٩.

(٤) لا يعرفان الحق: أي لا يعرفان شيئاً من أمر أهل البيت: في الإمامةِ وولاية الأمر بعد رسول اللَّه (ص).

١٩٠

حيّينِ لا يعرفان الحقّ فدارهما فإنّ رسول اللَّه(ص) قال: (إنّ اللَّه بعثني بالرّحمةِ لا بالعقوق)(١) .

( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا ) قال في (مجمع البيان): يعني به الكبر في السنّ والمعنى إن عاشا عندك أيّها الإنسانُ المخاطب حتى يكبُرا، أو عاش أحدُهما حتّى يكبر وخصَّ حال الكبر وإن كان من الواجب طاعة الوالدين على كلّ حال لأنّ الحاجةَ أكثر في تلك الحال إلى التعهّد والخدمة( فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ) روي عن الإمام أبي الحسن عليّ بن موسى الرّضا(ع) عن أبيه عن جدّه أبي ‏اللَّه(ع) قال: لو علم اللَّه لفظةً أوجزَ في تركِ عقوقِ الوالدين من أفٍّ لأتى بها، وفي رواية أخرى عنه(ع) قال: أدنى العقوق أف ولو علم اللَّهُ شيئاً أيسرَ منه وأهون منه لنهى عنه، وفي خبر آخر: فليعمل العاق ما يشاء أن يعمل فلن يدخل الجنّة، فالمعنى لا تؤذيهما بقليل ولا كثير.

روى الشيخ الصدوق(ره) في (الخصال) عن الإمام الباقر(ع) قال: في كتاب عليٍّ(ع) ثلاثُ خصالٍ لا يموت صاحبُهنّ حتى يرى وبالَهنّ: البغي، وقطيعة الرّحم، واليمين الكاذبة(٢) .

يحكى أنّ رجلاً غضب على أبيه - وهو عنده في الدّار - فأخذ يضربه ويضربه والأب ساكت لا يتكلّم ولا يعترض حتى وضع الابنُ الحبلَ في عنقِ والدِهِ وسحبه على الأرض حتى أوصله إلى باب الدّار ثمّ فتح الباب

____________________

(١) أصول الكافي: ج ٢ ص١٥٩.

(٢) الخصال: ج ١ ص١٢٤ ح ١١٩.

١٩١

ليلقي أباه خارج الدّار، فوضع الأب العاجز يده على الحبل وقال لابنه: إلى هنا يكفي فإني عندما كنت نشيطاً مثلك ضربت والدي ووضعت الحبلَ في عنقِهِ وسحبته على الأرض ولكن لم ألقه خارج الدّار، فكفَّ عنه ابنه، أقول: فسبحان اللَّه العادل الذي لا يفوتُه ظلمُ ظالمٍ أبداً:

لا تَظلمنّ إذا ما كنتَ مقتدراً

فالظّلمُ مرتعُهُ يُفضي إلى النّدم

تنامُ عينُك والمظلومُ منتبهٌ

يدعو عليك وعينُ اللَّهِ لم تنمِ(١)

( وَلا تَنْهَرْهُمَا ) أي لا تزجرهما بإغلاظٍ وصياح( وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ) أي وخاطبهما بقولٍ رقيقٍ لطيف حسن جميل بعيد عن اللغو والقبح يكون فيه كرامةٌ لهما، ويدلّ على كرامةِ المقول له على القائل( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) أي وبالغ في التواضع والخضوع لهما فعلاً وقولاً برّاً بهما وشفقةً عليهما، والمراد بالذّل هنا اللين والتواضع دون الهوان من خَفَضَ الطّائر جناحَه إذا ضمَّ فرخَه إليه، فكأنه سبحانه قال: ضمّ أبويك إلى نفسِك كما كانا يفعلان بك وأنت صغير، وإذا وصفت العرب إنساناً بالسهولةِ قالوا هو خافضُ الجناح، وقال أبو عبداللَّه الصادق(ع): معناه لا تملأ عينيك من النّظر إليهما إلّا برأفةٍ ورحمة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يديك فوق أيديهما ولا تتقدّم قدّامهما( وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) معناه ادع لهما بالمغفرةِ والرّحمة في حياتهما وبعد مماتهما جزاءً لتربيتهما إيّاك في صباك، وفي هذا دلالة على أنّ دعاء الولد لوالده الميّت مسموع وإلا لم يكن للأمر به معنى، وقيل: إنّ اللَّه تعالى أوصى الأبناء بالوالدين لقصور شفقتهم ولم يوصِ الوالدين بالأبناء لوفور شفقتهم

____________________

(١) من الديوان المنسوب لأمير المؤمنين(ع): ص١٢٠.

١٩٢

وفي الحديث عن النبيّ(ص) قال: رغم أنفه رغمَ أنفه رغمَ أنفه (ثلاث) قالوا: مَن يارسول اللَّه؟ قال: مَن أدرك أبويه عند الكبرِ أحدهما أو كلاهما ولم يدخل الجنّة، وروى أبو أُسَيْد الأنصاري قال: بينما نحن عند رسول اللَّه(ص) إذ جاءه رجلٌ من بني سلمة فقال: يارسول اللَّه هل بقي من بِرّ والديّ شي‏ءٌ أبرّهما به بعد موتهما قال: نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وانفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلةِ الرّحم التي لا توصل إلّا بهما(١) .

واعلم أنه لا شي‏ء عند الأبوين أغلى وأثمن من برّ الابن بهما، على الرّغم من أنه وفاءٌ لبعضِ مالهما من ديون، انّهما يسعدان بهذا البرّ سعادة الغارس بثمرات غرسِهِ، وبهذه السعادة يشعر الابن البار إذا تأكّد من سعادةِ أبويه به، ورضاهما عنه(٢) .

وجاء في‏رسالة الحقوق للإمام أبي الحسن عليّ بن الحسين(ع): (وحقّ أبيك أن تعلمَ أنّه أصلُك، وأنّه لولاه لم تكن فمهما رأيت في نفسِكَ ما يعجبُك فاعلم أنّ أباك أصلُ النّعمةِ عليك فيه. فاحمد اللَّه واشكره على قدر ذلك. ولا قوّة إلّا باللَّه).

روي انّ رجلاً شيخاً أتى النبيَّ(ص) فقال: إنّ‏ابني هذا له مالٌ كثير، وأنّه لا ينفق عليَّ من مالِهِ، فنزل جبرئيل فقال: يارسول اللَّه إنّ هذا الشيخ قد أنشأ أبياتاً فاستنشدها منه، فاستنشده النبيّ(ص): فقال الشيخ يعتب على ابنه:

____________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص٤١٠.

(٢) شرح رسالة الحقوق للسيد حسن القبانجي: ج ١ ص٥٦٨.

١٩٣

غذوتُكَ مولوداً وقد كنتَ يافعاً

تَعِلُّ بما أحني عليك وتنهَلُ

إذا ليلةٌ ضافتك بالسّقم لم أبت

لسقمكَ إلّا ساهراً أتململُ

كأنّي أنا المطروقُ دونَك بالذي

طُرِقتَ به دوني فعينيَ تهملُ

تخافُ الرّدى نفسي عليكَ وإنّها

لتعلَمُ أنّ الموتَ وقتٌ مؤَجّلُ

فلمّا بلغتَ السنَّ والغايةَ التي

إليها مدى ما فيكَ كنتُ أؤمّلُ

جعلتَ جزائي غلظةً وفضاضةً

كأنك أنت المنعمُ المتفضلُ

فليتكَ إذ لم تَرعَ حقَّ أبوّتي

فعلتَ كما الجارُ المجاورُ يفعَلُ(١)

فلمّا سمع النبيّ(ص) قال للولد: أنت ومالُكَ لأبيك(٢) .

وجاء في رسالة الحقوق المروية عن الإمام أبي الحسن عليّ بن الحسين(ع):

(وحقُّ أمّكَ أن تعلم أنّها حملتكَ حيثُ لا يحتملُ أحَدٌ أحداً، وأعطتك من ثمرةِ قلبها ما لا يعطي أحدٌ أحداً، ووقتك بجميع جوارحها ولم تبالِ أن تجوعَ وتطعمُكَ، وتعطشَ وتسقيك، وتَعرى وتكسوك، وتهجُرُ النّومَ لأجلك، ووقَتْكَ الحرَّ والبرد لتكونَ لها، فإنّكَ لا تُطيقُ شكرها إلّا بعونِ اللَّه عزّوجلّ)(٣) .

شكى رجلٌ إلى رسول اللَّه(ص) سوءَ خُلُقِ أُمِّه فقال: إنّها لم تكن سيّئةَ

____________________

(١) شرح رسالة الحقوق: ج ١ ص٥٦٩.

(٢) الإمام زين العابدين للمحقّق المقرّم: ص١٢٧.

(٣) الإمام زين العابدين(ع): ص١٢٦.

١٩٤

الخُلق حين حملتك تسعةَ أشهر، وحين أرضعتك حولين، وحين سهرت ليلَها وأظمأت نهارَها فقال الرجل: إنّي جازيتُها وحججتُ بها على متني فقال النبيّ(ص): ما جازيتها ولا طلقة واحدة(١) .

لأُمِّكَ حقٌّ لو علمتَ كبيرُ

كثيرُكَ ياهذا لديه يسيرُ

فكم ليلةٍ باتت بثقلك تشتكي

لها أنّةٌ ممّا بها وزفيرُ

وفي الوضع لو تدري عليها مشقّةٌ

فمن غُصَصٍ كادَ الفؤادُ يطيرُ

وكم غَسَلتْ عنك الأذى بيمينها

وما حجرُها إلّا لديك سريرُ

وتَفديكَ ممّا تشتكيهِ بنفسها

ومن ثديها شِربٌ لديكَ نميرُ

وكم مرّةٍ جاعت وأعطتك قوتَها

حُنوّاً وإشفاقاً وأنت صغيرُ

فآهاً لذي عقلٍ فيتّبعُ الهوى

وآهاً لأعمى القلبِ وهو بصيرُ

فدونك فارغب في عميمِ دعائها

فأنت لما تدعو به لفقيرُ

وفي الرواية عن النبيّ(ص) أنه قال: دعاء الوالدة أسرع إجابةً من الوالد قيل: لِمَ يارسول اللَّه قال: لأنّها أرحم(٢) .

من هنا قال الإمام أبو عبداللَّه الحسين(ع) لزوجته ليلى - كما هو المشهور عند أهل المنبر - ادخلي الخيمة وادعي لولدك، وذلك عندما برز بكرُ ابنُ غانم مبارزاً لعليّ الأكبر(ع)، فدخلت خيمتها - كأني بها - جرّدت

____________________

(١) شرح رسالة الحقوق: ج ١ ص٥٤٨.

(٢) المصدر السابق نفسه: ص٥٥٠.

١٩٥

خمارها نثرت شعرها، رفعت يديها إلى اللَّه تعالى وأقسمت عليه بقسمٍ عظيم، يقولون قالت: إلهي بغربةِ أبي عبداللَّه، إلهي بعطشِ أبي عبداللَّه يارادّ يوسف إلى يعقوب ردّ إليّ ولدي علي ولسان الحال:

دخلت الخيمتها الغريبه

تبكي وعلى ابنيها بريبه

وتوسلت للَّه بحبيبه

بالحسين وشما بيه مصيبه

ياراد يوسف من مغيبه

اليعگوب ومسكّن نحيبه

أريدك علي سالم تجيبه

فاستجاب تعالى دعاءها، وعاد الأكبر وبيده رأسُ بكر بن غانم وهو يقول:

صيدُ الملوكِ أرانبٌ وثعالبُ

وإذا برزتُ فصيدي الأبطالُ

يقولون: فقال له الإمام الحسين(ع) أسرع إلى خيمةِ أُمّك، فجاء الأكبر مسرعاً فرأى أُمّه مغمىً عليها ناداها فلم تجبه ثمّ ناداها فلم تجبه فوضع رأسها في حجره وأخذ يبكي على حال أمّه، فقطّر دمُعُه الشريف على وجهها ففتحت عينيها وإذا بابنها الأكبر معها سالماً معافى، فضمّته إلى صدرها ولسان الحال:

يابني علي ياماي عيناي

رديت روحي بجيّتك هاي

ياسلوتي وياطيب دنياي

يابني امن‏أسمعك تطلب الماي

والماي تدري حاطته عداي

ينصدع گلبي وتعم بلواي

١٩٦

أقول: هذا حالها وعليّ الأكبر إلى جنبها، ليت شعري ما حالها وقد حمله الهاشميون وهو مقطّعٌ بالسيوفِ إرْباً إرْباً ولسان الحال:

ياعلي يبني النوب ذلّيت

والموت ياخذني تمنيت

عمود الوسط ياشايل البيت

يبني بعد عندي شخلّيت

انه بيش اجيت وبيش ردّيت

بعدك عساني لا بقيت

* * *

بكل وادي لهيم عليك واسلاك

يبني ولا تظن أنساك واسلاك

گطّع من فؤادي هروش واسلاك

ييمّه من هويت اعله الوطية

* * *

ياكوكباً ما كان أقصر عمرَه

وكذا تكون كواكبُ الأسحار

* * *

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

١٩٧

الليلة التاسعة المجلس التاسع عشر

شهادة علي الأكبر(ع)

حَجْرٌ على عيني يمرُّ بها الكرى

من بعدِ نازلةٍ بعترةِ أحمد

أقمارُ تمٍّ غالها خسفُ الرّدى

واغتالها بصروفِهِ الزّمنُ الرّدي

شتّى مصائبُهم فبين مكابدٍ

سُمّاً ومنحورٍ وبين مصفّدِ

سل كربلا كم من حشىً لمحمّدٍ

نُهبت بها وكم استجذّت من يدِ

ولَكَمْ دمٍ زاكٍ أريق بها وكم

جثمانِ قدسٍ بالسيوفِ مبدّدِ

وبها على صدرِ الحسين ترقرقت

عبراتُهُ حزناً لأكرمِ سيّدِ

أفديه من ريحانةٍ ريّانةٍ

جفّت بحرِّ ظماً وحرِّ مهنّدِ

بكرَ الذّبولُ على نضارةِ غصنِهِ

إنّ الذّبولَ لآفةُ الغصنِ النّدِي

ماءُ الصِّبا ودمُ الوريدِ تجاريا

فيه ولاهِبُ قلبِهِ لم يَخمُدِ

ومحى الرّدى ياقاتلَ اللَّهُ الرّدى

منه هلالَ دجىً وغرّةَ فرقَدِ

يانجعةَ الحيّينِ هاشمَ والنّدى

وحمى الذّمارينِ العلى والسؤدَدِ

فلتذهب الدّنيا على الدّنيا العفى

ما بعدَ يومِكَ من زمانٍ أرغدِ(١)

____________________

(١) القصيدة من نظم المرحوم المقدّس آية اللَّه الشيخ عبدالحسين آل صادق العاملي(ره).

قال السيد جواد شبّر في (أدب الطف) الجزء ٩، ص٢٢٩:

الشيخ عبدالحسين ابن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ صادق العاملي، ولد في النجف الأشرف في حدود سنة ١٢٨٢ وفيها نشأ، ثمّ خرج إلى جبل عامل وعاد إلى النجف الأشرف بعد وفاة أبيه فأخذ عن علمائها مثل الشيخ ميرزا حسين ابن ميرزا خليل، وهو في الطبقة الأولى

١٩٨

ولسان حال الإمام الحسين(ع):

يبويه گول واسرع ردّ الجواب

يبويه بياكتر مض بيك الصواب

يبويه العيش بعدك لا حله وطاب

ردتك ترد وحشة الغيّاب

وذخرتك تهيل عليّه التراب

دمعي على فرگاك سكّاب

شيفيد الدّمع لو صار خنياب

ماي وتبدّه طولك وغاب

* * *

قال الشاعرُ يمدح سيّدَنا عليّ الأكبر(ع):

لم ترَ عينٌ نظرت مثلَهُ

من محتفٍ يمشي ومن ناعلِ

أعني ابنَ ليلى ذا السّرى والنّدى

أعني ابنَ بنتِ الحسبِ الفاضلِ

لا يؤثرُ الدّنيا على دينه

ولا يبيعُ الحقَّ بالباطل

ولد سيّدُنا عليُّ الأكبر(ع) في الحادي عشر من شهر شعبان سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة وذلك قبل مقتل عثمان بسنتين (قتلَهُ المسلمون سنة خمس وثلاثين)، فيكون عمرُ علي الأكبر(ع) يوم الطف ما يقارب

____________________

من الشعراء، وشهد له العالمان الكبيران الملا كاظم الآخوند صاحب الكفاية والحاج الشيخ ميرزا حسين ابن ميرزا خليل بالاجتهاد.

قال المرحوم الشيخ محمد السماوي في (الطليعة): رأيته يتفجّر فضلاً، ويتوقّد ذكاءً إلى أخلاقٍ كريمة.

توفي في أوائل ذي الحجة سنة ١٣٦١ه في النبطية جنوب لبنان ودفن هناك.

١٩٩

سبعاً وعشرين سنة، ويؤيّده اتفاق المؤرّخين وأرباب النّسب على أنّه أكبر من الإمام السجّاد(ع) الذي له يوم الطفّ ثلاث وعشرون سنة(١) .

ومن العلماء الذين اختاروا هذا القول المرجع الدّيني المرحوم السيّد النّجفي المرعشي(ره) حيث قال: ومن فوائد هذا السِّفر الجليل - كتاب علي الأكبر للمحقّق المقرّم - أنّه أثبت كون عليّ الأكبر(ع) شهيد الطّف أكبر سنّاً من الإمام زين العابدين(ع) وهو الحقّ الحقيق بالقبول كيف لا فقد صرّح به فحلُ الفقهاء والنسّابين شيخنا الشيخ محمّد بن إدريس الحِلي في تعاليقه على مزار كتاب السّرائر قال ما محصّله:

إنّ الأصحّ والأشهر بين علماء التأريخ والنّسب كون علي الأكبر أكبرُ سنّاً من الإمام سيّد السّاجدين(ع)(٢) .

واللقب الذي عرف به عليّ بن الحسين(ع) الشهيد بكربلا هو (الأكبر)، وذلك لكونه أكبر أبناء الإمام الحسين(ع) قال المحقّق المقرّم في كتابه (علي الأكبر): وقد صرّح بذلك الإمام السجّاد(ع) حين قال له عبيداللَّه ابن زياد: أليس قد قتل اللَّهُ عليّاً؟ فقال الإمام(ع): كان لي أخٌ أكبرُ منّي يسمّى عليّاً فقتلتموه(٣) .

ولقد وصف الإمام السجّاد(ع) بالأصغر والشّهيد بالأكبر جماعةٌ من

____________________

(١) المصدر السابق نفسه: ص١٢.

(٢) من مقدّمة كتبها المرجع المرحوم السيّد النجفي المرعشي(ره) على كتاب (علي الأكبر) للمرحوم المقرّم.

(٣) علي الأكبر: ص١٦.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343