المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة11%

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 343

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45048 / تحميل: 4732
الحجم الحجم الحجم
المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

المؤرّخين منهم: ابن جرير الطّبري وابن قتيبة الدينوري واليعقوبي وغيرهم(١) .

وأمّا كنيتُهُ فهي (أبو الحسن) كما جاء في زيارته المرويّة عن أبي حمزة الثمالي أنّ الإمام أبا عبداللَّه الصّادق(ع) قال له: ضع خدّك على القبر وقل:

صلّى اللَّه عليك ياأبا الحسن ثلاثاً، بأبي أنت وأمّي أتيتُك زائراً... الخ(٢) .

وأمّا أمُّه النّجيبة فهي السيّدة ليلى بنت أبي مرّة بن مسعود الثقفي.

وكان عليّ الأكبر(ع) أشبه النّاس برسول اللَّه(ص)، ولم ينصّ المؤرّخون على مشابهة آل النبيّ(ص) له في جميع الصّفات إلّا ولده عليّ الأكبر(ع)، فعلى سبيل المثال يحدّث السّروي عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري أن السيّدة فاطمة الزهراء(ع) تشبه أباها في المِشية فإنها تميل على الجانب الأيمن مرّةً وعلى الأيسر أخرى.

وفي رواية الشيخ الصّدوق(ره) في الخصال تشهد بأنّ الحسن(ع) شابهَ جدّه رسول اللَّه(ص) في الهيبة والسؤدد والحسين(ع) شابهَهه في الجود والشجاعة.

وأخرج الحاكم النيسابوري عن أمير المؤمنين(ع) انه قال: إنّ رسول اللَّه(ص) قال لجعفر الطيّار أشبهت خَلقي وخُلقي.

____________________

(١) وللمزيد راجع كتاب (علي الأكبر) للمحقّق المقرّم: ص١٦ - ١٩.

(٢) كامل الزيارات لابن قولويه القمّي(ره) باب ٩٧: ص٢٤٠.

٢٠١

ويحدّث الشيخ الجليل الشيخ فخر الدين الطّريحي في (المنتخب) إنّ الإمام الحسين(ع) قال في حقّ الرّضيع: (اللهمّ أنت الشاهدُ على قومٍ قتلوا أشبهَ النّاس برسولك محمّد(ص)).

وهذه الشواهد كلّها لا تدلّ على مشابهة العترة الطاهرة للرسول(ص) في جميع الصفات الكريمة، لكنّ كلمة الإمام الحسين(ع) الذّهبيّة في حق ولده علي الأكبر(ع): اللهمّ اشهد أنه برز إليهم أشبهُ النّاس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولِك وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه.

ترشدُنا هذه الكلمةُ الشريفة إلى أن فقيد البيت الهاشمي كان في وقته‏مرآة الجمال النبوي(ص)، ومثالَ كماله الأسمى، وأنموذجاً من منطقه البليغ‏الرائع حتى أنّ أباه الإمام الحسين(ع) إذا اشتاق إلى رؤية جدّه المفدّى(ص)نظر إليه، والحق أنّ عليّ الأكبر(ع) شابه جدّه في أخلاقه أجمع‏كالاخلاص والشجاعة والحلم والبشاشة في العشرة ودماثة في الخُلق،ولين‏الجانب، والخشونة في ذات اللَّه تعالى، والابتعاد عن الدنايا والرّذائل(١) .

وممّا يشهد بذلك أن معاوية مع ما كان عليه من المباينة مع الهاشميين لم يسعهُ إلّا الإعتراف أمام قومه باجتماع الفضائل في (علي الأكبر(ع)) وأنه جديرٌ بالخلافة، وقابل للزّعامة الدينيّة يوم قال لمن حضر عنده من أهل الشام وغيرهم: مَن أحقُّ بهذا الأمر؟ قالوا: أنت.

فقال معاوية: لا، أولى الناس بهذا الأمر عليّ بن الحسين بن علي،

____________________

(١) علي الأكبر للمقرّم: ص٤٢.

٢٠٢

جدّهُ رسول اللَّه(ص)، وفيه شجاعة بني هاشم، وسخاء بني أميّة(١) ، وزهو ثقيف.

وهذه الكلمة الصّادرة من معاوية ترشدنا إلى أنّ عليّ الأكبر(ع) يومئذ معروف عند أهل الشام وغيرهم بأنه الجامع للقداسة الإلهية ومكارم الأخلاق بأجلى مظاهرها وإلّا فلا يعقل أن يشير معاوية بأهلية الخلافة إلى رجلٍ غير مرموق عند الناس من جميع الفضائل(٢) .

وفي الطريق إلى كربلاء بدت من الأكبر معرفةٌ وشجاعة عالية يشهد لهذا حديثُ عقبة بن سمعان حيث قال: لما كان السّحر من الليلة التي بات الإمام الحسين(ع) فيها بقصر بني مقاتل أمرنا بالإستقاء ثمّ ارتحلنا فبينا هو يسير إذ خفقَ برأسه خفقةً وانتبه يقول: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون والحمدُ للَّه ربّ العالمين، وكرّر ذلك ثلاثاً.

فأقبل إليه ابنُهُ عليُّ الأكبر وكان على فرسٍ وقال له: جعلت فداك مِمَّ استرجعت وحمدَت اللَّه؟ قال(ع): خفقت برأسي خفقةً فعنّ لي فارسٌ يقول: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمتُ أنّها أنفسُنا نُعيت إلينا. فقال عليّ الأكبر(ع): ياأبتِ ألسنا على الحق؟

فقال الحسين(ع): بلى والذي إليه مرجعُ العباد.

____________________

(١) قوله: سخاء بني أمية هو مدحٌ لقومه بما ليس فيهم حيث لم يُعرف بنو أميّة لا بشجاعة ولا كرم، وأما لماذا ذكر معاوية بني أمية هنا. فالجواب: هو لأنّ السيّدة ليلى أم علي الأكبر بنت ميمونة بنت أبي سفيان، فمعاوية بهذا خالٌ لليلى أُمّ علي الأكبر(ع).

(٢) علي الأكبر للمقرّم: ص٤٦.

٢٠٣

قال الأكبر(ع): إذاً لا نبالي أن نموت محقّين فقال له الإمام: جزاك اللَّهُ من ولدٍ خير ما جزى ولداً عن والده(١) ، وللَّه درُّ الشاعر حيث يقول:

في بأسِ حمزةَ في شجاعةِ حيدر

بإبا الحسين وفي مهابةِ أحمدِ

وتراهُ في خَلقٍ وطيبِ خلائقٍ

وجميلِ نُطقٍ كالنّبيِّ محمّدِ(٢)

قال أبو الفرج الأصفهاني وغيرُهُ: وكان أوّلُ من قُتِلَ بالطفّ من بني هاشم بعد أنصار الحسين(ع) عليَّ الأكبر بن الحسين(ع)، فإنه لما نظر إلى وحدةِ أبيه تقدّم إليه وهو على فرسٍ له يدعى ذا الجناح فاستأذنه في البراز، وكان من أصبحِ الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، فأرخى الإمام عينيه بالدّموع وأطرق ثمّ قال:

اللّهمّ اشهد أنه قد برز إليهم غلامٌ أشبهُ النّاس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه ثمّ صاح ياابن سعد قطع اللَّه رحمك كما قطعت رحمي ولم تحفظني في رسول اللَّه(ص) فلمّا فهم الإذن من أبيه شدّ على القوم وهو يقول:

أنا عليُّ بنُ الحسين بن علي

نحنُ وبيتِ اللَّهِ أولى بالنّبي

واللَّهِ لا يحكُمُ فينا ابنُ الدّعي

فقاتلَ قتالاً شديداً ثمّ عاد إلى أبيه وهو يقول: ياأبتِ العطش قد

____________________

(١) علي الأكبر: ص٦٨.

(٢) من قصيدة المرحوم الفقيه الشيخ عبدالحسين آل صادق(ره).

٢٠٤

قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فبكى الإمام(ع) وهو يقول: واغوثاه وأنى لي بالماء قاتل يابني قليلاً واصبر فما أسرع الملتقى بجدّك محمّد(ص) فيسقيك بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً، فكرّ على الأعداء يفعل بهم فعل أبيه وجدّه.

قال حميد بن مسلم الأزدي كنت واقفاً وبجنبي مرّة بن منقذ وعليّ بن الحسين يشدّ على القوم يمنةً ويسرة فيهزمهم فقال مُرّة: عليّ آثام العرب إن مرّ بي هذا الغلام لأثكلنّ أباه فقلت له: يكفيك هؤلاء الذين احتوشوه فقال: لأفعلن ومرّ بنا عليّ وهو يطرد كتيبة فطعنه برمحِهِ فانقلب على قربوس فرسه فاعتنقه فذهب به إلى جهة الأعداء فقطّعوه بالسيوف فصاح قبل أن يفارق الدنيا: السلامُ عليك ياأبتي هذا جدّي المصطفى قد سقاني بكأسه الأوفى، فشدّ الحسين(ع) حتى وقف عليه وهو مقطّعٌ بالسيوف إرْباً إرْباً فقال: قتل اللَّهُ قوماً قتلوك يابنيّ فما أجرأهم على اللَّه وعلى انتهاك حرمة الرسول ثمّ بكى وقال: على الدّنيا بعدك العفاء:

گعد عنده وشافه مغمّض العين

بدمّه سابح مترّب الخدّين

متواصل طبر والرّاس نصّين

حنه ظهره على بنيّه وتحسّر

* * *

يبويه من سمع يمّك ونينك

او من شبحت لعند الموت عينك

لثلاثين ما وصلن سنينك

وحاتفني عليك الدّهر الأكشر

____________________

(١) ابصار العين في أنصار الحسين: ص٢٢.

٢٠٥

وروى أبو مخنف: عن حميد بن مسلم أنه قال: وكأني أنظر إلى امرأةٍ خرجت من المخيّم - الفسطاط - وهي تنادي ياحبيباه ياابن أخيّاه فسألت عنها فقالوا: هذه زينب بنت علي فجاءت حتى انكبت عليه فجاء الحسين إليها وأخذ بيدها إلى الفسطاط ولسان الحال:

شافه والنبل شابك علي راح

هوه فوگه وصفگ راحٍ علي راح

صاح بصوت يازينب علي راح

يخويه ظلمّت الدنيا عليّه

ولسان حال الإمام الحسين(ع):

صدّعت قلبي يابنيَّ تأسفا

وتركتني أدعو أسىً وتلهُّفا

أنا لاحقٌ بك ياشبيهَ المصطفى

فلتذهب الدّنيا على الدّنيا العفى

ما بعد يومِكَ من زمانٍ أرغدِ

* * *

أنا لم أخَل قبلي سيرديك الرّدى

فلك الفدى نفسي لو أنّك تفتدى

أتركتني شجواً أنوحُ مردّداً

يانجعةَ الحيّينِ هاشمَ والنّدى

وحمى الذّمارين العلى والسؤدَدِ(١)

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

____________________

(١) التخميس للمرحوم السيّد عبدالرّسول الكفائي.

٢٠٦

الليلة العاشرة المجلس العشرون

شهادة عبداللَّه الرّضيع

ومرضعةٍ هبّت بها لرضيعها

عواطفُ أُمٍّ أثكلتْ طفلها صبرا

رأت مهدَهُ بالحزن يطفحُ بعدَه

وقد كان فيه قبلُ يطفحُ بالبُشرى

وأثقلَ ثدييها من الدرِّ خالصٌ

على طفلها فيه تعوّدت الدرّا

فخفّت إلى مثوى الرّضيع لعلّها

ترى رمقاً فيه يُغذّى بما درّا

فلم ترَ إلّا جثّةً فوق مذبحٍ

بها عَلُقَ السّهمُ الذي ذبح النحرا

فحنّت وأحنت فوقَهُ من تعطّفٍ

أضالعَها ظِلّاً تقيه به الحرّا

وضمّتهُ مذبوحَ الوريد لصدرها

ومن دمِهِ المسفوحِ خضّبت الصّدرا

وودّت ومن أوداجِهِ تَنفَحُ الدّما

لو أنّ بذاك السهم أوداجُها تُفرا

وأضحت على مثواهُ تُفْرِغُ قلبَها

حنيناً فترثيه بما يفضلُ الشّعرا

فطوراً تناغيه وطوراً بلهفةٍ

تعانقُ جِيداً منه قد زيّن الدّرا

وتعطفُ طوراً فوقَهُ فتشمُّهُ

بمنحَرِهِ الدّامي وتلثمُهُ أخرى(١)

ولسان حال أمّه الرّباب:

يبني يعبد اللَّه اعله فرگاك

صبري انفنه ودرّن ثداياك

يادين يبني الحرملة وياك

للماي حين شبحت عيناك

گدّر بسهمه عليك وارماك

وخيّب رجاي الكان برباك

* * *

____________________

(١) القصيدة من نظم المرحوم الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي(ره).

٢٠٧

مياتم للحزن ننصب ونبني

رماني حرملة بسهمه ونبني

الطفل عاده يفطمونه ونبني

انفطم ياناس بسهام المنيه

* * *

قال اللَّه تعالى في القرآن الكريم:( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (١) .

قال الشيخ الطبرسي(ره) في (مجمع البيان):( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ) أي محنة وابتلاء وشدّة للتكليف عليكم، وشغل عن أمر الآخرة، فإنّ الإنسان بسبب المال والولد يقع في الجرائم - المعاصي -(٢) .

وقال السيد الطباطبائي(ره) في (الميزان): وكون الأموال والأولاد فتنة انما هو لكونهما زينة تنجذب إليهما النفس انجذاباً فتفتتن وتلهو بهما عمّا يهمّها من أمر آخرتها وطاعةِ ربّها قال اللَّه تعالى:( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (٣) ، والجملةُ - إنما أموالكم وأولادكم فتنة - كناية عن النّهي عن التلهّي بهما والتفريط في جنب اللَّه ويؤكّدهُ قوله تعالى:( وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٤) .

قال الشيخ الطبرسي(ره):( وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) أي ثوابٌ جزيل وهو الجنّة يعني فلا تعصوه بسبب الأموال والأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند اللَّه من الأجر والذّخر.

____________________

(١) سورة التغابن: الآية ١٥.

(٢) مجمع البيان للطبرسي: المجلد الخامس ص٣٠١.

(٣) سورة الكهف: الآية ٤٦.

(٤) الميزان للعلّامة الطباطبائي: ج ١٩ ص٣٠٨.

٢٠٨

وفي مجمع البيان عن عبداللَّه بن مسعود قال: ولا يقولنّ أحدُكُمْ أللهمّ إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس أحدٌ منكم يرجع إلى مالٍ وأهل وولدٍ إلّا وهو مشتملٌ على فتنة ولكن ليقل اللهمّ إنّي أعوذُ بك من مضلّات الفتن، قال الشاعر:

وما المالُ والأولادُ إلّا ودائعٌ

ولابُدّ يوماً أن تُردّ الودائعُ

بعد أن فهمنا - ولو على الإجمال - تفسير هذه الآية الكريمة - تعالَ معي إلى تفصيل هاتين الفتنتين - كما عبّر القرآن الكريم - :

أمّا الأموال: ففتنةٌ واضحة يعلمها الجميع، وهي كلّما ازدادت ازداد الإنسان لها حبّاً وبها تعلّقاً، وهذا الأمر وجدانيّ لا سبيل إلى إنكاره، ففي الحديث الشريف: أتى النبيَّ(ص) رجلٌ فقال: ما لي لا أُحبُّ الموت؟ فقال له: ألك مالٌ؟ قال: نعم. قال: فقدّمتَهُ؟ قال: لا. قال: فمِن ثَمّ لا تُحبّ الموت(١) .

وفي رواية أخرى قال له: قدّم مالك فإنّ قلب الرّجل مع مالِهِ إن قدّمَه أحبَّ أن يلحقَهُ وإن خلّفه أحبّ أن يتخلّف.

قال المرحوم السيّد عبداللَّه شبّر(ره) في كتابه (الأخلاق): وفي المال آفاتٌ دينيّة وهي ثلاثة أنواع:

الأول: إنّ المال يجرّ إلى المعاصي فإن الشهوات متقاضية - أي انّ الطريق إليها يكون ببذل المال - والعجز - يحولُ بين المرء والمعصية.

____________________

(١) بحار الأنوار: ج ٦ ص١٢٧.

٢٠٩

الثاني: إنّ المال يجرّ إلى التنعّم في المباحات، أقول: التنعّم بالمباحات كالأسفار لأجل السياحة والنّزهة، والبناء للدور الكبيرة، وشراء المراكب الفارهة، وخياطة الملابس المتنوّعة من الأقمشة الفاخرة وما شابه ذلك فإنّ أقلّ ما يمكن أن يقال في هذه المباحات أنها تلفٌ للوقت الثمين، والعمر الغالي وقد جاء في الحديث الشريف: أنفاسُ المرءِ مهرُ سعادته.

وفي الديوان المنسوب لأمير المؤمنين(ع):

حياتُكَ أنفاسٌ تُعدّ فكلّما

مضى نفسٌ منها انتقصت به جُزءا

ويُحييكَ ما يُفنيكَ في كلِّ حالةٍ

ويحدوك حادٍ ما يريدُ بك الهزءا(١)

الثالث: وهو الذي لا ينفكّ عنه أحد، وهو أنّه يلهيه إصلاحُ مالِهِ عن ذكرِ اللَّه تعالى، وكلُّ ما يشغل العبد عن اللَّهِ فهو خسران، قال تعالى:( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) (٢) .

ولذلك قال عيسى(ع): في المالِ ثلاثُ آفاتٍ: أن يأخُذَهُ من غير حلِّه فقيل له: فإن أخذه من حلِّه؟ قال: يضعُهُ في غير حقّه فقيل له: إن وضعَهُ في حقّه؟ قال: يشغَلُهُ اصلاحُهُ عن اللَّه تعالى(٣) .

وأمّا الأولاد: فمحنةٌ وابتلاء وشدّة في التكليف، فإنّ الإنسان مسؤولٌ

____________________

(١) من الديوان المنسوب: ص١١.

(٢) سورة المنافقون: الآية ٩.

(٣) الأخلاق للسيّد عبداللَّه شبر(ره): ص١٨٧.

٢١٠

عن صالح أولاده وطالحهم، فإنه في صالح الأولاد مثابٌ ومأجور، وفي طالحهم فإن قصّر في تربيتهم وتغذيتهم بالمعارف الدينيّة الحقّةِ كان مسؤولاً عن ذلك التقصير.

قال الشيخ القرشي حفظه اللَّه تعالى في كتابه (النظام التربوي في الإسلام): إنّ الأب مسؤولٌ عن تربيةِ أبنائه تربيةً صالحة ليكونوا قرّةَ عينٍ له في مستقبله، وكان أئمةُ أهلِ البيت: يعنون بهذه الجهة ويولونها المزيد من الاهتمام يقول الإمام أمير المؤمنين(ع) المربّي الأوّل في الإسلام لولده الإمام الحسن(ع): (وجدتُكَ بعضي بل وجدتكَ كلّي حتى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني وكأنّ الموتَ لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي)(١) .

وفي رسالة الحقوق المرويّة عن الإمام زين العابدين(ع) قال: (وأمّا حقَّ ولدك فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدّنيا بخيره وشرّه، وأنك مسؤولٌ عمّا وليتَهُ من حُسنِ الأدبِ والدَّلالةِ على ربِّه عزّوجلّ، والمعونة له على طاعته، فاعمل في أمره عملَ مَن يعلم أنّه مثابٌ على الإحسانِ إليه معاقب على الإساءةِ إليه)(٢) .

إنّ الأساس الأول الذي يجب تعليمه للطّفل في سبيل التربية الصحيحة إشعارُهُ بوجود اللَّه‏والإيمان به بلسان متيسّر الفهم، فإنّ الحاجة للإيمان باللَّه تعالى موجودةٌ في باطن كلّ إنسان بفطرته الطّبيعيّة وعلى القائم بالتربية أن

____________________

(١) النّظام التربوي في الإسلام للشيخ باقر شريف القرشي: ص٨٩.

(٢) الخصال للشيخ الصّدوق(ره): ج ٢ ص٥٦٨.

٢١١

يستفيد من هذه الثروة الفطريّة، ويفهمُهُ أنّ الذي خلقنا والذي يرزقنا، والذي خلق جميع النباتات والحيوانات والجمادات، والذي خلق العالم، وأوجد الليلَ والنّهار هو اللَّهُ تعالى، انّهُ يراقب أعمالنا في جميع اللحظات فيثيبنا على الحسنات، ويعاقبنا على السيّئات.

هذا الحديث سهلٌ جداً وقابلٌ للإذعان بالنسبةِ إلى الطفل ونفسِهِ فنراه يؤمنُ بوجود اللَّه في مدّة قصيرة ويعتقد به، بهذا الأسلوب نستطيع أن نخلق في نفس الطّفل حبّ النظام والإلتزام ونحثّه على الإستقامة في السلوك وتعلّم الفضائل الخلقيّة والملكات العليا بالتّدريج(١) .

واعلم أنّ مراقبتَهُ في سنّه المبكّر، وتعويده العادات الطيّبة، وابعاده عن النزعات الشريرة تؤدي إلى سعادته ونجاحه في الدنيا والآخرة، كما أنّ اهماله وعدم مراقبته يؤدي إلى شقائه وهلاكه(٢) .

يحكى أنّ ملكاً ووزيره خرجا ذات يوم في مهمّة عسكرية، فاجتازا بصبيةٍ في طريقهم إلى الدّرس فأحبّ الملك أن يسمع منهم شيئاً يسرّه وهو في طريقه إلى تلك المهمّة، فاستوقفَ أحد الصّبيان وقال له: ما اسمُك؟ قال: فتّاح قال الملك: إلى أين تذهب؟ قال: إلى المعلّم قال: وأين تقرأ؟ قال: في قوله تعالى:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) في سورة الفتح، فاستبشر الملك بذلك وتوقّع النجاح في مهمّته ووجهته وفعلاً حصل ذلك حيث تمكن الملك من عدوّه وعاد منتصراً سالماً فقال لوزيره: مرّ بنا على المعلّم لنكرّم ذلك الطّفل

____________________

(١) الطفل بين الوراثة والتربية للمرحوم الشيخ محمد تقي فلسفي: ج١ ص٣٥٣ - ٣٥٤.

(٢) النظام التربوي في الإسلام: ص٩٦.

٢١٢

الذي تفألنا خيراً باسمه ودرسه، فمرّا على المعلّم ودخل الملك حتى إذا استقرّ به الجلوس قال للمعلّم: ادعو لنا ذاك الصّبي فناداه المعلّم قم ياعباس وقف بين يدي الملك، فجاء حتى وقف بين يديه فقال له: ما اسمك؟ قال: عباس قال: أين تقرأ؟ قال: في قوله تعالى:( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) سورة عبس قال الملك: سألتك آنفاً فقلت: فتّاح أقرأ في سورة( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) قال: أيّها الملك عندما استوقفتني وسألتني تنبّهتُ إلى ما تريد لأنّ مثلك لا يكلّم مثلي إلّا لأمرٍ معقول فأجبتك بما يسرّك قال له الملك: أحسنت ثمّ أمر أن يعطوه ديناراً فامتنع الصّبيّ عن أخذه فقال له الملك: تمتنع عن أخذ هدية الملك؟ فقال: إن أخذت الدينار سألني أبي عن مصدره فإن قلت له: أنّه منك لم يصدّقني لأنّ الملوك لا يعطون القليل، فأمر الملك بإعطائه مائة دينار ثمّ ذهب الملك وهو مأنوس من ذكاء الصبيّ ونباهته فمرّ بطريق ضيّق وإذا برجلٍ نائم في الطريق فقال له الحرّاس ابتعد عن الطريق فلم يقبل فنزلوا إليه وطلبوا منه التنحّي عن طريق الملك فأسمعهم كلاماً خشناً وبلغ ذلك الكلام إلى أذن الملك نفسه فأمرَ بتأدبيه أمام الملأ ليكون عبرةً لغيره، فنودي: إنّ الملك يأمركم أن تحضروا تأديب فلان بن فلان، فحضر الناس وإذا بالصّبي عباس حضر أيضاً وطلب مقابلةَ الملك فأذن له فعندما دخل عليه وضعَ كيس الدنانير بين يدي الملك فقال له: ما هذا؟ قال: إنّ الشخص الذي أمرتم بتأديبه هو أبي وهذه الدنانير فداءٌ لأبي فقال الملك: الدنانير لك وبارك اللَّه فيك وأبعد أباك قال إن أذن لي الملك تكلّمت قال له قل ما تريد قال: بارك اللَّه بأبي وأبعد أباه قال الملك متعجّباً: وما معنى هذا؟ قال: لأنَّ أبي أدّبني

٢١٣

فقرّبتني تربيتُهُ من الملوك وتركَهُ أبوه ولم يؤدّبه فتعرض لسخط الملوك فأكرمه الملك ثانيةً وعفا عن أبيه.

وما أحسن ما في الديوان المنسوب:

حرِّض بنيكَ على ‏الآدابِ في‏الصّغَرِ

كيما تقرَّ بهم عيناكَ في الكِبَر

وإنّما مثلُ الآدابِ تجمَعُها

في عنفوانِ‏ الصِّبا كالنّقشِ في ‏الحَجَرِ

هي الكنوزُ التي تنمو ذخائرُها

ولا يُخافُ عليها حادثُ الغِيَرِ(١)

وبعد هذا فلا يخفى أنّ الولد ريحانة بها يأنس الأبوان، وبشمّها يتمتّعان، وهو موضع شفقتهما ورحمتهما.

روي أنّ رجلاً جاء إلى رسول اللَّه(ص) فقال: ما لنا نجدُ بأولادنا ما لا يجدون بنا؟ قال: لأنّهم منكم ولستم منهم، وروي هذا المعنى عن الإمام الحسن المجتبى(ع):

وإنّما أولادُنا بيننا

أكبادُنا تمشي على الأرضِ

لو هبّتِ الرّيحُ على بعضهم

لامتنعت عيني عن الغمض

أقول: إذن ما حال الإمام أبي عبداللَّه الحسين(ع) عندما رأى طفلَه عبدَاللَّه غائرَ العينين خاوي البطن ذابل الشفتين وذلك بعد أن جفّ حليب أمّه من شدّة عطشها فأخذه الإمام(ع) وأخرجه ليطلب له قليلاً من الماء ولسان الحال:

____________________

(١) من الديوان المنسوب لأمير المؤمنين(ع): ص٦٢.

٢١٤

أختُ هاتيلي رضيعي‏ أرَهُ قبلَ ‏الفراق

فأتت بالطّفلِ لا يهدأُ والدّمعُ مراق

يتلظّى ظمأً والقلبُ‏ منه ‏في ‏احتراق

غائرَ العينينِ ‏طاوي ‏البطنِ ‏ذاوي ‏الشفتين

* * *

فبكى لما رآهُ‏ يتلظّى بأوام(١)

بدموعٍ‏ من ‏أماقٍ ‏تخجلُ ‏السُّحبَ ‏السجامِ

فأتى القومَ وفي كفّيهِ ذيّاك الغلام

وهما من ظمأٍ قلباهما كالجمرتين

* * *

فدعا في القوم ياللَّهِ من خطبٍ فظيع

نبّئوني أأنا المذنبُ أم هذا الرّضيع

لاحظوهُ‏ فعليه ‏شبهُ‏ الهادي‏ الشّفيع

لا يكن ‏شافعُكُمْ‏ خصماًلكم ‏في ‏النشأتين

* * *

عجّلوا نحوي بماءٍ أَسقِهِ هذا الغلام

فحشاهُ‏ من‏ أوامٍ ‏في ‏اضطرابٍ‏ وكِلام(٢)

فاكتفى ‏القومُ ‏عن‏ القولِ ‏بتكليمِ السهام

وإذا بالطّفلِ قد خرّ صريعاً لليدين(٣)

ويقال: إنّ المختاررحمه‌الله تعالى عندما جي‏ء له بحرملة بن كاهل قال له: أنت الذي ذبحت عبداللَّه الرّضيع؟ كيف تمكّنت من ذلك!! أو ما رقّ قلبُك له؟ قال: كانت العادة الجارية أنّ الإمام الحسين(ع) إذا أراد الحملةَ على الجيش ركب فرساً، وإذا أراد الوعظ والتحذير والتذكير ركب ناقةً له، وفي هذه المرّة جاءنا ماشياً ومعه شي‏ء يظلّلُ له من حرارة الشّمس فتكلّم

____________________

(١) الأوام: هو العطش.

(٢) الكِلام: بالكسر هو الجرح.

(٣) أبيات من نظم شريف لمقتل الإمام الحسين(ع) للمرحوم الشيخ حسن الدّمستاني البحراني(ره) رياض المدح والرثاء: ص٤٥٩.

٢١٥

مع ميمنة الجيش فلم يستمعوا له، فمال إلى ميسرةِ الجيش فلم يستمعوا له، فعاد إلى قلب المعسكر فقال: ياقوم لقد قتلتم أصحابي وإخوتي وأهل بيتي إن كان ذنبٌ للكبار فما ذنبُ الصّغار ثمّ أخرج ولداً ورفعه وقال: هذا عبداللَّه اسقوه شربة من الماء فإنّه إن عاش لا يضرّكم وإن مات طولبتم بدمه، فاختلف العسكر وانقسم ثلاثاً قسماً قال: اسقوه فإنه طفلٌ رضيع، وقسماً اكتفى بالبكاء لحال الرّضيع، وقسماً قال: لا تبقوا لهذا البيت صغيراً ولا كبيراً فقال لي عمر بن سعد: ياحرملة اقطع نزاع القوم قلت: أرمي الوالد أم الولد قال: بل الولد، فتنحيت جانباً ووضعت سهماً في كبد القوس ولم يرقّ قلبي له، فنظرت أين أرميه لصغره وإذا بالهواء تكشف رقبته فحكّمت السهم ورميته فذبحتُهُ من الوريد إلى الوريد وما رقّ قلبي له، فعندما أحسّ بحرارةِ السهم أخرج يديه واعتنق والده الحسين هنا رقّ قلبي له ولسان حال الحسين(ع) بعد ذبح ولده:

تلگه حسين دم الطفل بيده

شحال اليذبح بحجره وليده

سال وترس كفّه من وريده

وذبّه للسّمه وللأرض ما خرّ

* * *

عليك انفتح جفن العين وافتاك

وسهم نحرك بگلبي‏وگع وافتاك

بقتل الطفل من آمرك وافتاك

يابن كاهل شله ويَّاك أذيّه

رجع به إلى المخيّم يقولون: استقبلتهُ ابنتُهُ سكينة وما كانت تتصوّر أن تبلغ بهم القسوة إلى هذا الحدّ بحيث يقتلون الطفل الرّضيع ولسان الحال:

٢١٦

بويه الطفل للماي أخذته

بسهم العده مذبوح جبته

شنهو الذّنب خويه العملته

مذبوح ولسانك دلعته

والماي حاضر ما شربته

ولسان حال أُمّه الرباب عندما رأته مذبوحاً من الوريد إلى الوريد:

ماني أُمّك يعبد اللَّه ويبعد أمك

ما أنساك وألهج يالولد باسمك

شعب گلبي السّهم من فجّره الدمّك

ياسلواي بعدك من يسليني

* * *

ست اِشهر بعد يلما وصل عمرك

شذنب اللي جنيته او ينگطع نحرك

يابني سهم المثلث خسف بدرك

ياريت الرماك بسهم راميني

لا ضيرَ في قتل الرجال وإنما

قتلُ الرّضيع به الضميرُ يُضامُ

طلب الحسينُ الماءَ يسقي طفله

فاستقبلته من العداة سهامُ

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٢١٧

الليلة العاشرة المجلس الحادي والعشرون

الإمام(ع) وأصحابه ليلة العاشر

لا خبت مرهفاتُ آلِ عليٍّ

فهي النّارُ والأعادي وَقودُ

عقدوا بينها وبين المنايا

ودعوا ههنا توفّى العقودُ

ملأوا بالعدى جهنّمَ حتّى

قَنِعَتْ ما تقولُ هل لي مزيدُ

ومذِ اللَّهُ جلّ نادى هلمّوا

وهُمُ المسرعون مهما نودوا

نزلوا عن خيولهم للمنايا

وقصارى هذا النزولِ صعودُ

فقَضَوْا والصّدورُ منهم تلظّى

بضَرامٍ وما أُبيحَ الورودُ

سلبوهم برودَهم وعليهم

يومَ ماتوا من الحُفاظ برودُ

تركوهم على الصّعيدِ ثلاثاً

يابنفسي ماذا يُقلُّ الصّعيدُ

فوقَه لو درى هياكلُ قدسٍ

هو للحشرِ فيهُمُ محسودُ

تربةُ تعكفُ الملائكُ فيها

فركوعٌ لهم بها وسجودُ

وعلى العيسِ من بناتِ عليٍّ

نُوَّحٌ كلُّ لفظها تعديدُ

سلبتها أيدي الجُفاةِ حُلاها

فخلى معصَمٌ وعطّلَ جيدُ

وعليها السياطُ لما تلوّت

خلفتها أساورٌ وعقودُ(١)

* * *

يحيدر گوم لسيوفك وسلها

يوم الطف شعب روحي وسلها

____________________

(١) القصيدة من نظم المرحوم السيّد جعفر الحلّي(ره) الدرّ النّضيد: ص١٢١. وقد مرّت ترجمته ص٤٣.

٢١٨

گوم أنظر متن زينب وسلها

تگول سياط زجر أثرت بيّه

* * *

والسّبطُ والصَّحْبُ اولو الوفاءِ

باتوا بتلكَ الليلةِ اللّيلاءِ

لَهم دوىُّ كدويِّ النّحلِ

من ذاكرٍ للَّهِ أو مصلِّ

صلاةَ عبدٍ خاشعٍ مودّعِ

يدعوهُ بالخضوعِ والتضرّعِ

أحيَوا جميعَ الليل بالعبادة

فأدركوا سعادةَ الشّهادة(١)

قال السيد ابن طاووس(ره) في (الملهوف): ثمّ جاء الليل - ليلة العاشر فجمع الحسين(ع) أصحابَهُ، فحمد اللَّه وأثنى عليه وقال: أمّا بعدُ فإني لا أعلمُ أصحاباً خيراً منكم، ولا أهلَ بيتٍ أفضلَ وأبرَّ من أهل بيتي، فجزاكم اللَّه عنّي جميعاً خيراً، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي وتفرّقوا في سوادِ هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم فإنّهم لا يريدونَ غيري.

فقال له أخوتُهُ وأبناؤه وأبناء عبداللَّه بن جعفر: ولِمَ نفعل ذلك لنبقى بعدك لا أرانا اللَّه ذلك أبداً، وبدأهم بهذا القول العبّاس بن علي(ع) ثمّ تابعوه، ثمّ قام مسلمُ بن عوسجة وقال: نحن نخلّيك هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك هذا العدوّ، لا واللَّهِ لا يراني اللَّهُ أبداً وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمُهُ بيدي، ولو لم يكن لي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ولم أفارقك أو أموت دونك.

قال الرّاوي: وقام سعيد بن عبداللَّه الحنفي فقال: لا واللَّهِ ياابن رسول اللَّه

____________________

(١) من المقبولة الحسينيّة لآية اللَّه الشيخ هادي كاشف الغطاء(ره): ص٧٤.

٢١٩

لا نخلّيك أبداً حتى يعلم اللَّهُ أنّا قد حفظنا فيك وصيّةَ رسولهِ محمّد(ص)، لو علمتُ أنّي أقتلُ فيك ثمّ أحيى ثمّ أحرق حيّاً ثمّ أذرّى يفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حِمامي من دونك، فكيف وإنما هي قتلة واحدة ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاءَ لها أبداً.

ثمّ قام زهير بن القين وقال: واللَّهِ ياابن رسول اللَّه(ص) لوَدِدْتُ أني قتلتُ ثمّ نشرت ألف مرّة وأنّ اللَّهَ يدفعُ بذلك القتل عنك وعن هؤلاء الفتيةِ من أخوتك وولدك وأهل بيتك.

قال الراوي: وتكلّم جماعة من أصحابِهِ بمثل ذلك وقالوا: أنفُسُنا لك الفداء نقيك بأيدينا ووجوهِنا، فإذا نحنُ قتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا وقضينا ما علينا.

وقيل لمحمّد بن بشير الحضرمي في تلك الحال: قد أُسِرَ إبنُكَ بثَغر الرّي(١) فقال: عند اللَّه أحتسبُهُ ونفسي، وما كنتُ أُحِبُّ أن يؤسر وأن أبقى بعدَه فسمع الحسين(ع) قوله فقال: رحمكَ اللَّه أنت في حلٍّ من بيعتي، فاعمل في فكاكِ إبنك، فقال: أكلتني السّباعُ حيّاً إن فارقتُك فقال(ع): فأعطِ إبنك هذه البُرود(٢) يستعينُ بها في فكاكِ أخيه، فأعطاه خمسةَ أثوابٍ قيمتها ألف دينار(٣) .

____________________

(١) الثَّغْر: جمعُهُ ثُغور وهو المكان الذي يخاف منه هجوم العدوّ، وهو مأخوذ من ثغر الجدار.

والرّي: مدينة معروفة آنذاك تقع الآن جنوب طهران العاصمة.

(٢) البُرْد: ثوبٌ‏ مخطط، وقد يقال لغيرالمخطّط أيضاً، وجمعُهُ بُروْد. مجمع‏ البحرين: ج٣ص١٣.

(٣) الملهوف: ص١٥٣ - ١٥٤.

٢٢٠

أقول: انظر بعين البصيرة إلى تفاني أنصار أبي عبداللَّه الحسين: في نصرته والذّب عنه بحيث قدّموا نصرته على حياتهم، وعيالهم، وأولادهم وهم يعلمون يقيناً أنهم لن يقابلوا جيشاً تعدادهُ ثلاثون ألفاً من فرسان المصر وأبطال العرب ممّن مارسوا الحرب وعرفوها، ولكنّها المعرفة، والمحبّة، ونداء الواجب، وأداء الوظيفة والتكليف، ومن هنا صار شهداء الطّف سادات الشهداء، لا يفوقهم سابق، ولا يَلحقهم لاحق قال الشاعر:

نصروا ابنَ بنت نبيّهم طوبى لهم

نالوا بنصرته مراتبَ سامية

قد جاوروه ههنا بقبورهم

وقصورُهم يوم الجزا متحاذية(١)

قال السيد ابن طاووس(ره): قال الرّاوي: وبات الحسين(ع) وأصحابُهُ تلك الليلة ولهم دويٌّ كدويِّ النّحل، ما بين راكعٍ وساجد وقائمٍ وقاعد.

يصفهم المرحوم السيد حيدر الحليّ في احدى روائعه الخالدة:

سِمَةُ العبيدِ من الخشوعِ عليهمُ

للَّهِ إنْ ضمّتهُمُ الأسحارُ(٢)

وروى أبو حمزة الث’ُّمالي عن الإمام زين العابدين(ع) قال: قال عليّ ابن الحسين(ع) كنت مع أبي في الليلةِ التي قُتل في صبيحتها فقال لأصحابه: هذا الليل قد غشيكُمْ فاتّخذوه جُنة، فإنّ القومَ انّما يريدونني ولو

____________________

(١) من قصيدة للمرحوم الشيخ محمّد علي الأعسم(ره).

(٢) الدُّر النَّضيد: ص١٥٨.

٢٢١

قتلوني لم يلتفتوا إليكم وأنتم في حلٍّ وسعة فقالوا: واللَّهِ لا يكون هذا أبداً فقال: انكم تقتلون غداً كلّكم ولا يفلت منكم رجل قالوا: الحمدُ للَّهِ الذي شرّفنا بالقتل معك، ثمّ دع(ع) فقال لهم: ارفعوا رؤوسكم وانظروا فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة وهو يقول لهم: هذا منزلك يافلان، فكان الرّجل منهم بعد ذلك يستقبل الرّماح والسيوف بصدره ووجهِهِ ليصل إلى منزله من الجنّة(١) .

وقال الشيخ المفيد(ره): قال الإمام عليّ بن الحسين(ع): إني لجالسٌ في تلك العشيّة التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمّتي زينب تمرّضني إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جون مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:

يادهرُ أفٍّ لك من خليلِ

كم لك بالإشراقِ والأصيلِ

من صاحبٍ وطالبٍ قتيلِ

والدَّهرُ لا يقنَع بالقليلِ

وانّما الأمرُ إلى الجليل

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتى فهمتُها وعرفتُ ما أراد، فخنقّتني العبرة فرددتها ولزمتُ السكوت وعلمتُ أنّ البلاء قد نزل.

وأمّا عمّتي زينب فإنّها سمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأنِ النّساء الرّقّة فلم تملك نفسها أن وثبت تجرُّ ثوبَها حتى انتهت إليه فقالت: واثُكلاه ليت الموتَ أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن،

____________________

(١) نفس المهموم للمرحوم الشيخ عبّاس القمّي(ره): ص٢٣١.

٢٢٢

ياخليفةَ الماضي. وثِمالَ(١) الباقي، فنظر إليها الحسين(ع) وقال لها: ياأخيّة لا يذهبنّ بحلمك الشيطان، وترقرقت عيناه بالدّموع وقال: لو تُرك القَطا ليلاً لنام ثمّ لطمت وجهها وأهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشيةً عليها فقام إليها الإمام الحسين(ع) فصبّ على وجهها الماء وقال لها: ياأختاه تعزّي بعزاء اللَّه واعلمي أنّ أهلَ الأرض يموتون وأنّ أهلَ السّماء لا يبقون وأنّ كلّ شي‏ءٍ هالِكٌ إلّا وجهُ اللَّه الذي خلق الخلق بقدرتِهِ ثمّ قال لها: ياأخيّة إني أقسمتُ عليك فأبرّي قسمي لا تشقّي عليّ جيباً ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تَدعي بالويل والثبور إذا أنا هلكت - قضيت نحبي -، ثمّ رجع(ع) إلى مكانه، فقام الليل كلّه يصلّي ويستغفر ويدعو ويتضرّع، وقام أصحابُه كذلك يصلّون ويدعون ويستغفرون، فباتوا ولهم دويٌّ كدويِّ النّحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، وكذا كانت سجيّةُ الإمام الحسين(ع) في كثرة صلاته وكمال صفاته وكان صلوات اللَّه عليه كما وصفه إبنُه إمامُنا المهدي صلوات اللَّه عليه: للقرآن سنداً، وللأمّةِ عضداً، وفي الطّاعة مجتهداً حافظاً للعهد والميثاق ناكباً عن سبلِ الفسّاق باذلاً للمجهود طويل الرّكوع والسجود زاهداً في الدّنيا زهدَ الرّاحل عنها ناظراً إليها بعين المستوحشين منها.

____________________

(١) الثِّمال ككتاب: الغياث والذي يقوم بأمر قومه، يُقال فلانٌ ثِمالُ قومه أي غياث لهم، وفي حديث أبي طالب(ع) يمدح ابن أخيه رسول اللَّه(ص):

وأبيضَ يُستسقى الغَمامُ بوجهِهِ

ثِمالُ اليتامى عصمةٌ للأرامِلِ

مجمع البحرين: ج ٥ ص٣٣٢.

٢٢٣

وروي أنّه لما كان وقت السّحر خَفِقَ الحسين(ع) برأسه خفقةً ثمّ استيقظ فقال: أتعلمون ما رأيت في منامي الساعة؟ فقالوا: وما الذي رأيت ياابن رسول اللَّه(ص)؟ فقال: رأيت كأنّ كلاباً قد شدّت عليّ لتنهشني وفيها كلبٌ أبقع رأيته أشدّها علي أظنُّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجلٌ أبرص من بين هؤلاء القوم(١) .

أقول: وكان ذلك اللعين هو شمر بن ذي الجوشن بعد أن سقط الإمام(ع) على الأرض جريحاً، يقول إمامنا المهدي عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف في الزيارة المرويّة عنه المعروفة ب (زيارة الناحية المقدّسة): فهويت إلى الأرض جريحاً تطؤُكَ الخيولُ بحوافرها وتعلوكَ الطغاةُ ببواترها قد رشحَ للموتِ جبينُكَ واختلفت بالإنقباضِ والإنبساطِ شمالُك ويمينك تُديرُ طرفاً خفيّاً إلى رَحلِكَ وبيتك وقد شُغلتَ بنفسِكَ عن ولدكَ وأهاليك وأسرع فرسُكَ شارداً إلى خيامِكَ قاصداَ محمحماً باكياً فلمّا رأينَ النّساءُ جوادَكَ مخزيّاً وسرجكَ عليه ملويّاً برزنَ من الخدور ناشراتِ الشعور على الخدودِ لاطمات وبالعويلِ داعيات وبعد العزّ مذلّلات(٢) .

يقول المرحوم الكعبي في ذلك:

وأقبلْنَ ربّاتُ الحجالِ وللأسى

تفاصيلُ لا يُحصي لهنَّ مفصِّلُ

فواحدةٌ تحنو عليه تضمُّهُ

وأخرى عليه بالرّداءِ تظلّلُ

وأخرى بفيضِ النّحرِ تصبَغُ وجهها

وأخرى لما قد نالها ليس تعقلُ

____________________

(١) نفس المهموم: ص٢٣٣ - ٢٣٤.

(٢) الصحيفة المهديّة للمرحوم الشيخ إبراهيم بن المحسن الكاشاني١: ص ٢١٣ - ٢١٤.

٢٢٤

وأخرى على خوفٍ تلوذُ بجنبِهِ

وأخرى تفدّيه وأخرى تقبّلُ

تكفّ الدّما عنهُ وتهملُ مثلها

دموعاً فلم تبرح تكفّ وتُهملُ

وجاءت لشمرٍ زينبُ ابنةُ فاطمٍ

تعنّفُهُ عن أمرِهِ وتعذّلُ

تقولُ له مهلاً فهذا ابنُ أحمدٍ

وشبلُ عليِّ المرتضى المتفضِّلُ

إلى أن يقول عزّ على المؤمنين والمؤمنات:

ومرّ يحزّ النّحرَ غيرَ مراقِبٍ

من اللَّهِ لا يخشى ولا يتوجّلُ

وزُلزلتِ الأرضونَ وارتجّت السما

وكادت له أفلاكها تتعطّلُ

واحسيناه واسيّداه واشهيداه..

ولسان حال اُخته العقيلة:

يخويه بيش أضمّك وين أودّيك

يخوية اشلون أصد عنّك وخليّك

تراني تحيّرت يامهجتي بيك

يخوية بيش أظلّلك امن الحر

هوت يمّه تشم كسر البضلعه

أخويه الماطبع يشبه الطبعه

غابت روحه وفزّت تودعه

اولن راسه ابراس الرّمح مزهر

* * *

لمـّن شافته صفگت بديها

اوشگت ثوبها ويلي عليها

ما تنلام من شافت وليها

فوگ الرّمح راسه يلوح بالبر(١)

* * *

____________________

(١) من النّصاريات الخالدة للمرحوم الشيخ محمّد نصار(ره).

٢٢٥

طأطِئوا الروسَ إنّ رأسَ حسينٍ

رفعتهُ فوق القَنا الخَطّار

لا تذوقوا المعينَ واقضوا ضمايا

بعد ظامٍ قضى بحدِّ الغِرار(١)

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

____________________

(١) من قصيدة للمرحوم الشيخ عبدالحسين شكر العراقي(ره) والغِرار: هو حدُّ السّيف.

٢٢٦

يوم العاشرالمجلس الثاني والعشرون

مقتل الإمامِ الحسينعليه‌السلام

من ذا يقدّمُ لي الجوادَ ولامتي

والصَّحْبُ صرعى والنصيرُ قليلُ

فأتتهُ زينبُ بالجوادِ تقودُهُ

والدّمعُ من ذكرِ الفراقِ يسيلُ

وتقولُ قد قطّعتَ قلبي يا أخي

حُزناً فياليتَ الجبالَ تزولُ

فلمن تنادي والحماةُ على الثرى

صرعى ومنهم لا يُبلُّ غليلُ

ما في الخيامِ وقد تفانى أهلُها

إلّا نساءٌ ولَّهٌ وعليلُ

أرأيتَ أختاً قدّمت لشقيقها

فرسَ المنونِ ولا حمىً وكفيلُ

فتبادرت منه الدّموعُ وقال يا

أختاهُ صبراً فالمصابُ جليلُ

فبكت وقالت يابن أمّي ليس لي

وعليكَ ما الصّبرُ الجميلُ جميلُ

يا نورَ عيني يا حُشاشةَ مهجتي

من للنساءِ الضّائعاتِ دليلُ

ورنت إلى نحوِ الخيامِ بعولةٍ

عظمى تصبُّ الدّمعَ وهي تقولُ

قوموا إلى التوديعِ إنّ أخي دعا

بجوادِهِ إنّ الفراقَ طويلُ

فخرجنَ ربّاتُ الخدورِ عواثراً

وغدا لها حولَ الحسينِ عويلُ

اللَّه ما حالُ العليلِ وقد رأى

تلكَ المدامعَ للوداعِ تسيلُ

فيقومُ طوراً ثمّ يبكو تارةً

وعراهُ من ذكرِ الوداعِ نحولُ

فغدا ينادي والدّموعُ بوادرٌ

هل للوصولِ إلى الحسينِ سبيلُ

هذا أبيُّ الضّيم ينعى نفسَه

يا ليتني دونَ الأبيِّ قتيلُ(١)

* * *

____________________

(١) قصيدة عصماء من نظم المرحوم الشيخ محمّد نصّار(ره) أدب الطف ج٧ ص٢٣٢، وقد تقدّمت ترجمتُهُ ص٣٤.

٢٢٧

قال الامام الحسين(ع) يوم العاشر من المحرّم في ضمن خطبةٍ له:

(ألا وإنّ الدّعيَّ بنَ الدّعي قد ركز بين اثنتين بين السلّةِ والذلّة وهيهاتَ منّا الذلّة يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُهُ والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهُرت، وأنوفٌ حميَّة، ونفوسٌ أبيّة، من أن نؤثر طاعةَ اللئام على مصارعِ الكرام، ألا وإنّي زاحفٌ بهذه الأسرة على قلّةِ العدد وخذلانِ النّاصِر)(١) .

قال الشيخ المفيد(ره) في (مسار الشّيعة):

في اليوم العاشر من المحرّم قُتِلَ سيّدُنا أبو عبداللَّه الحسين بن علي(ع) سنة ٦١ إحدى وستين من الهجرة، وهو يومٌ تتجدّد فيه أحزانُ محمّدٍ وآل‏محمّد(ص) وشيعتهم، وجاءت الرّوايةُ عن (الأئمّة) الصّادقين: باجتناب الملاذ فيه، وإقامةِ سنن المصائب، والإمساك عن الطّعام والشّراب إلى أن تزول الشّمس، والتغذّي بعد ذلك بما يتغذّى أصحابُ المصائب من الألبان وأشباهها دون اللذيذ من الطّعام والشّراب، ويستحبّ فيه زيارة المشاهد، والإكثار من الصلاة على محمّدٍ وآله(ص)، والابتهالِ إلى اللهِ تعالى باللعنةِ على أعدائهم وظالميهم.

ورُويَ من زار قبرَ الحسين(ع) يوم عاشوراء فكأنّما زار اللَّهَ في عرشه، ورويَ من زاره وبات عنده ليلة عاشوراء حتى يُصبح حشره للَّه تعالى ملطّخاً بدم الحسين(ع) في جملة الشهداء معه، ورويَ أنّه من أراد أن يقضي حقّ رسولِ اللَّه(ص) وحق أمير المؤمنين وفاطمة والحسن

____________________

(١) إبصارُ العين للمرحوم الشيخ محمّد السَّماوي ص١١.

٢٢٨

والحسين: فليزر قبر الحسين(ع) في يوم عاشوراء(١) .

فاللازم على الموالي المتأسّي بالنبيِّ الأعظم(ص) الباكي على ولدِهِ بمجرّد تذكر مصابه أن يقيم المأتم على سيّد الشهداء ويأمر مَن في دارِهِ بالبكاء عليه وليعزّ بعضهم بعضاً بالحسين(ع) فيقول كما في حديث الإمام الباقر(ع): (عظّمَ اللَّهُ أجورَنا بمصابِنا بالحسين وجعلنا وإيّاكم من الطالبين بثأرِهِ مع ولدِهِ المهديّ من آلِ محمّد(ص))(٢) .

وفي الحديث أنه دخل عبداللَّه بن سنان على أبي عبداللَّه الصادق: في يوم عاشوراء فرآه كاسف اللون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر على خدّيه كاللؤلؤ فقال له: مِمَّ بكاؤكَ يابن رسول اللَّه قال(ع): (أوَ في غفلةٍ أنت، أما علمت أنّ الحسين أُصيب في هذا اليوم ثمّ أمرَهُ أن يكون كهيئة أرباب المصائب يحلّل أزرارَهُ، ويكشف عن ذراعيه ويكون حاسراً، ولا يصوم يوماً كاملاً وليكن الإفطار بعد العصر بساعة على شربةٍ من ماء ففي ذلك الوقت تجلّت الهيجاء عن آلِ محمّد(ص)) ثمّ قال(ع): (لو كان رسول اللَّه حيّاً لكان هو المعزّى به).

وأما الإمام الكاظم(ع) فلم يُر ضاحكاً أيام العشرة وكانت الكآبةُ غالبةً عليه ويوم العاشر يوم حزنه ومصيبته.

ويقول الإمام الرّض(ع): (فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأذلّ عزيزَنا بأرض كربٍ وبلاء).

____________________

(١) مسار الشيعة: ص٢٤ - ٢٥.

(٢) كامل الزيارات: ص٣٢٦ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٢٩

وفي زيارة الناحية يقول حجّةُ آلِ محمّد عجّل اللَّه تعالى فرجَه الشريف مخاطباً جدّه الحسين: (فلأندبنكَ صباحاً ومساءاً ولأبكينّ عليك بدلَ الدّموعِ دماً)(١) .

وقال الشيخ القمّيرحمه‌الله تعالى في (مفاتيح الجنان): (وينبغي للشيعة أن يمسكوا فيه عن السّعي في حوائج دنياهم وأن لا يدخروا فيه شيئاً لمنازلهم وأن يتفرّغوا فيه للبكاء والنّياح وذكر المصائب وأن يقيموا مأتم الحسين(ع) كما يقيمونه لأعزّ أولادهم وأقاربهم)(٢) .

وها نحن نذكر هنا مصائب الإمام الحسين(ع) وما جرى عليه بعد أن قُتل أصحابُه وأهل بيته وبقي وحيداً لا ناصر له ولا معين قال الراوي: ثمّ أنّ الحسين(ع) لما نظرَ إلى مصارع أنصارِه وأهلِ بيته والتفت يميناً فلم يرَ أحداً، والتفت شمالاً فلم يرَ أحداً، استعبر واستغاث استغاثته الثانية ونادى: (هل من ذابٍ يذبّ عن حُرَمِ(٣) رسول اللَّه؟ هل من موحّدٍ يخاف اللَّه فينا؟ هل من مغيثٍ يرجو اللَّهَ في إغاثتنا؟) فلم يجبه سوى الإمام زين العابدين(ع) فمنعتهُ أمّ كلثوم لما بِهِ من المرض فقال: دعيني ياعمتاه أقاتلُ بين يدي ابن رسول اللَّه فصاح الإمام الحسين(ع): (خذيه ياأختاه لئلّا تبقى الأرض خاليةً من نسل آل محمّد(ص)

ثمّ عزم على لقاءِ القوم بنفسِهِ فجاء إلى الخيام للتوديع ثاني مرّة فنادى:

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص٢٧٣ - ٢٧٤.

(٢) مفاتيح الجنان للمرحوم الشيخ عباس القمّي: ص٢٨٨.

(٣) حُرَم رسول اللَّه: ما لا يجوز انتهاكُهُ.

٢٣٠

(يا زينب، ياأم كلثوم، ياسكينة، يا فاطمة عليكنّ مني السلام) ثمّ جعل يوصيهنّ بالصّبر والسكينة والتسليم لقضاءِ اللَّه.

وقال لهنّ: (استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ اللَّهَ حافظُكُم وحاميكم، وسينجّيكم من شرّ الأعداء، ويعذّب أعداءكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النّعَم والكرامة، فلا تشكّوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقصُ من قدركم ويحبط أجركم).

قال أرباب المقاتل: انه حين بقي وحيداً وتقدّم للحرب صار يتقدّم إليه من جندِ ابن سعد من صناديد الأبطال وفرسان الرّجال واحدٌ بعد واحد فيقتله(ع)، فصاح عمر بن سعد بأصحابه: الويلُ لكم أتدرون لمن تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، فاحملوا عليه بأجمعكم حملة رجلٍ واحد.

فحملوا عليه من كلّ جانب حتى جعلوه في مثل الدائرة وهو(ع) يغوص في الأوساط ويقلب الميمنة على الميسرة حتى قتل عامّتهم، وأقام قيامتهم، ولم يزل يقتلُ في كلّ حملةٍ جملة، وفي كلّ كرّةٍ كثرة، وفي كلّ زحوفٍ اُلوف.

قال حميد بن مسلم: فواللَّهِ ما رأيتُ مكثوراً قطّ قد قُتِلُ ولدُهُ وأصحابُهُ أربطَ جأشاً ولا أمضى جَناناً ولا أشدّ إقداماً منه قط، وإن كانت الرجال لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذّئب ولقد كان يحملُ فيهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً فينهزمون من بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر.

وكان(ع) يقاتلُ في كلّ برهة فارساً على فرسه (المرتجز) واُخرى

٢٣١

على غيره، ولكنّ الظاهر أن الحجرَ المشؤوم والسّهمَ المسموم ذي الثلاث شعب وطعنة صالح بن وهب أوجبت في وجوده المقدّس ما لا يستطيع القلمُ أن يسطّره ولا اللسان أن يذكره، ولكن لما خلا سرجُ ذي الجناح من هيكل الوحي والتنزيل، أو فقل هوى على الأرض عرش الملك الجليل جعل(ع) يقاتل وهو راجل قتالاً أقعد الفوارس وأرعد الفرائص وأذهل عقولَ فرسان العرب، قال ابن الأثير(١) :

قاتل (ع) راجلاً قتال الفارس الشجاع يتّقي الرمية، ويتفرّس العودة ويشدّ على الخيل وهو يقول: (ويحكم أعلى قتلي تجتمعون؟!) ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول: (لا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم).

قال العلّامة المجلسيرحمه‌الله في البحار:

ثمّ حمل عليهم كالليث المغضب فجعل لا يلحقُ أحداً إلّا بعجه بسيفه فقتله، والسهامُ تأخذُهُ من كلّ ناحية وهو يتّقيها بنحره وصدرِه ويقول: (ياأُمّة السوء بئسما خلفتهم نبيّكم محمّداً في عترته).

ولم يزل(ع) على هذا وأمثاله حتى اقتطعوه وحالوا بينه وبين رَحْلِه فصاح: (ويحكم ياشيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لاتخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم وأنسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون) فناداه شمر: ما تقول يابن فاطمة؟

قال: (أقول أنا الذي اُقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهنّ جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحُرَمي ما دمتُ حيّ).

____________________

(١) الكامل في التأريخ ج٤ ص٧٨، طبعة دار صادر بيروت.

٢٣٢

فقال الشمر: لك ذلك يابن فاطمة ثمّ قال: اقصدوه بنفسه فلعمري لهو كفؤٌ كريم، ثمّ جعل يحملُ ويحملون عليه وهو في ذلك يطلب شربة من الماء ويتلظّى كبدُه من الظمأ، ويلوك لسانه من شدّة العطش وقد صار كالخشبة اليابسة.

ثمّ لما اشتدّ به الاعياء والعناء، وضعف عن القتال وقف ليستريح هنيئة ولكنّ طعنة سنان ابن أنس وضربة سيف بن زرعة لم يتمكن الإمام معهما حتى من الوقوف على الأرض وكان قد أعيا فقعد.

وبينا هو (ع) جالس على الرّمضاء خرج من الخيام غلامٌ كأنّ وجهَهُ فلقةُ قمر، وفي أذنيه قرطان يتذبذبان، فجعل يعدو ويركض حتى جاء إلى عمّه الحسين(ع)، وكأنه لما رأى عمّه (على) تلك الحال والدماءُ تسيلُ من جميع جوانبِه وجوارِحِه أُدهِشَ وذهل، وبينا هو واقف ينظر إلى عمّه مبهوتاً أهوى بحرُ بن كعب إلى الحسين(ع) بسيفه ليضربه، فقال له الغلام، أتضرب عمّي؟ يابن الخبيثة، فعدل بضربته إلى الغلام فأصابت يده فأطنّها من المرفق وإذا هي معلّقة، فصاح الغلام، واعمّاه فأخذه عمُّه وضمّه إليه وأجلسه في حجره، فرماه حرملةُ بن كاهل فذبحه وهو في حجر عمّه فاحتسبه عند اللَّه وقال: (هوّنَ عليّ ما نزل بي أنّه بعين اللَّه)، ثمّ انتهى به الحال(ع) أنه من كثرة نزف الدماء، ومن شدّة العطش، ومن حرارة الشمس ولفح الهجير، وترادف المصائب والرزايا لم يتمكّن حتى البقاء جالساً على الأرض فصنع له وسادةً من الرّمل ونام عليها قال بن شهرآشوب:

لمـّا صرع الحسين(ع) جعل فرسُهُ يحامي عنه، فيثب على الفارس

٢٣٣

فيخبطه على سرجه ويدوسه برجله، حتى قتل جماعة، ثمّ تمرّغ في دم الحسين(ع) ثمّ قصد الخيمة وله صهيلٌ عال، وهو يضرب بيديه الأرض ويقول في صهيله:

الظليمةُ الظليمة من أمّةٍ قتلت ابن بنت نبيّها!!

قال: فخرجت زينب بنت علي(ع) من الفسطاط تنادي:

واأخاه، واسيّداه، ليت السماءَ اُطبقت على الأرض وليت الجبال تدكدكت على السّهل، يابن سعد أيقتلُ أبو عبداللَّه وأنت تنظر إليه؟!

فصرف وجهَهُ الخبيث عنها ودموعُهُ تسيلُ على لحيته المشؤومة، والحسين في كلّ ذلك مغمىً عليه، تحاماه الناس(١) .

ثمّ نادى عمر بن سعد: أما فيكم من يذبحُ الحسين ويأتيني برأسه؟ فبدر إليه الشمر فرفسه برجله وجلس على صدره، وقبض على شيبته المقدّسة، وضربه بالسيف اثنتي عشرة ضربة واحتزّ رأسه المقدّس:

واإماماه، واسيّداه، واحسيناه، وامظلوماه

ومرَّ يحزُّ النّحرَ غيرَ مراقبٍ

من اللَّهِ لا يخشى ولا يتوجّلُ

وزُلزلت الأرضونَ وارتجّت السّما

وكادت له أفلاكُها تتعطّلُ(٢)

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

____________________

(١) إلى هنا نقلته عن (مقتل الحسين(ع)) للمرحوم آية اللَّه الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء١، تحقيق الخطيب فضيلة الشيخ هادي الهلالي.

(٢) من قصيدة عصماء للمرحوم الشيخ هاشم الكعبي.

٢٣٤

يوم الثالث عشر المجلس الثالث والعشرون

دفنُ الأجساد الطّاهرة

لم أنسَهُ اذ قام فيهم خاطباً

فاذا هُمُ لا يملكون خطابا

يدعو ألستُ أنا ابنَ بنتِ نبيّكم

وملاذَكم إذْ صرفُ دهرٍ نابا

هل جئتُ في دينِ النبيِّ ببدعةٍ

أم كنتُ في أحكامِهِ مرتابا

أم لم يوصِّ بنا النبيُّ وأودعُ

الثّقلين فيكم عترةً وكتابا

إن لم تَدينوا بالمعادِ فراجعوا

أحسابَكم ان كنتُمُ أعرابا

فغدوا حيارى لا يرونَ لوعظه

إلّا الأسنّةَ والسّهام جوابا

حتى إذا أَسِفَتْ علوجُ أميّةٍ

أن لا ترى قلبَ النبيِّ مصابا

صلّت على جسمِ الحسين سيوفُهم

فغدى لساجدةِ الظُّبى محرابا

ومضى لهيفاً لم يجد غيرَ القنا

ظِلاً ولا غيرَ النجيعِ شرابا

ظمآنَ ذابَ فؤادُهُ من غُلّةٍ

لو مَسّت الصخرَ الأصمَّ لذابا

لهفي لجسمكَ في الصعيد مجرّداً

عُريانَ تكسوهُ الدّماءُ ثيابا

تربَ الجبين وعينُ كلِّ موحّدٍ

ودّت لجسمك لو تكون تُرابا

لهفي لرأسِكَ فوق مسلوبِ القنا

يكسوهُ من أنوارِهِ جلبابا

يتلو الكتابَ على السّنانِ وإنما

رفعوا بِهِ فوقَ السنانِ كتابا(١)

____________________

(١) القصيدة العصماء هذه للمرحوم السيد رضا الموسوي الهنديرحمه‌الله تعالى.

قال المرحوم السيد جواد شبر في (أدب الطف) الجزء التاسع ص٢٤٢:

السيد رضا الهندي شيخ الأدب في العراق، العالم الجليل والمؤرّخ والبحّاثة الشّهير هو ابن

٢٣٥

نعي

ثلث تيام ظل مطروح الحسين

على الرّمضا وهو عزّ المسلمين

وحوله مطرّحه كل هله الطيبين

واصحابه الصناديد الميامين

جثث مله عشيره ولاله معين

بس زينب بگت تصفگ بالايدين

وتهيل دموعه دم على الخدّين

وتصيح بألم وبلوعات صوتين

صوتٍ يا علي يالبالغريين

وصوتٍ ياليوث الهاشميين

____________________

السيد محمد بن السيد هاشم الموسوي الهندي - ينتهي نسبُهُ إلى الإمام العاشر من أئمة أهل البيت: وهو الإمام الهادي(ع) -.

ولد(ره) في الثامن من شهر ذي القعدة سنة ١٢٩٠ه في (النجف الأشرف)، وهاجر إلى سامراء بهجرةِ أبيه سنة ١٢٩٨ه وذلك حين اجتاح النجف وباءُ الطاعون، ومكث يواصل دروسه في سامراء، وكان موضع عناية آية اللَّه المجدّد الشيرازي لذكائه وسرعة بديهتِهِ وسعة اطلاعه، وفي النجف الأشرف واصل جهوده العلمية على أساطين العلم حتى نال درجة الاجتهاد، وشهد له مراجع الطائفة كالشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، والشيخ الشربياني والملا محمد كاظم الخراساني (صاحب الكفاية)، وقد انتدبه المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني (وكيلاً) عنه للإرشاد.

ومن روائعه التي اشتهرت وحفظها القاصي والدّاني قصيدته (الكوثرية) في مدح أمير المؤمنين(ع).

وأما الرّائعة التي ختم بها حياته وطلب أن تكون معَهُ في قبره فهي هذه القطعة الوعظية (ومطلعُها):

أرى عمري مؤذَناً بالذّهابِ

تمرُّ لياليه مرَّ السَّحابِ

كانت وفاتُهُ بالمشخاب فجأةً وذلك بعد ظهر يوم الأربعاء ٢٢ جمادى الأولى سنة ١٣٦٢ه المصادف ٢٦ مارس سنة ١٩٤٣م وحمل جثمانه على الأعناق إلى قضاء أبي صخير فالنجف في صبيحة اليوم الثاني وكان يوماً مشهوداً حتى دفن بمقبرة الأسرة الخاصّة، وأقام زعيم الحوزة العلمية السيد أبو الحسن الفاتحة على روحه في مسجد الشيخ الأنصاري(ره).

٢٣٦

تعالوا يا أهلنه ودفنوا الحسين

وشوفوا شعمل بينه خلافه البين

* * *

روي ان الامام الحسين(ع) كان كثيراً ما ينشدُ هذه الأبيات:

لئن كانت الأفعالُ يوماً لأهلها

كمالاً فحسنُ الخُلْقِ أبهى وأكملُ

وإن كانت الأرزاقُ رزقاً مقدّراً

فقلّةُ جُهدٍ المرءِ في الكسب أجمَلُ

وإن كانت الدنيا تُعَدُّ نفيسةً

فدارُ ثوابِ اللَّه أعلى وأنبلُ

وإن كانت الأموالُ للتركِ جمعُها

فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخلُ

وإن كانت الأبدانُ للموتِ اُنشِئت

فقتلُ امرئٍ بالسيفِ في اللَّهِ أفضلُ(١)

تعرّض الامام(ع) في هذه الأبيات لذكر مجموعةٍ من المفاهيم التي يحتاجُها الانسان المسلم في حياته اشدّ الإحتياج، وسأبدأُ - بعد الإستعانة باللَّه - بشرحها ولو على نحو الإختصار.

البيت الأول: ذكر فيه الامام الحسين(ع) أفعال الإنسان وأنّ أكملها وأبهاها هو حسن الأخلاق، وقد ذكر القرآنُ الكريم ذلك في معرض مدح رسول اللَّه(ص) حيث قال تعالى:( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) مع أنّ النبيّ(ص) كان عظيماً في كلّ خصاله لا يدانيه فيها أحد من الخلق، إلّا أنّه تعالى خصّ فيه هذه الخصلة الشريفة بالذكر، ووصفها ب (خُلُقٍ عظيم) لأنها أكملُ الأفعال وأحسن الخصال، وقد حفلت السنّةُ الشريفة بأحاديث جمّة

____________________

(١) الأنوار البهيّة للمرحوم الشيخ عبّاس القمّي: ص٩٨.

(٢) سورة القلم: الآية ٤.

٢٣٧

تثني وتبشّر صاحب الخلق الحسن بسعادة الدّارين منها على سبيل المثال:

عن النبيّ(ص): (ما يوضع في ميزان امرئٍ يوم القيامة أفضلُ من حسن الخُلُق)(١) . وأفضل في هذا الحديث الشريف بمعنى أثوب.

وعن الإمام الصادق(ع) عن جدّه رسول اللَّه(ص) قال: (إنّ صاحبَ الخُلُقِ الحسن له مثلُ أجرِ الصّائم القائم)(٢) .

يعني أنّ ثواب صاحب الأخلاق الحَسنة، كثوابِ المؤمن الذي يصوم نهارَه، ويقوم ليلَه ما دامَ حيّاً.

وسئل النبيّ(ص): أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: (حسنُ الخلق)(٣) .

وقال(ص): (أكثر ما تلجُ - اي تدخل - به أمّتي الجنة تقوى اللَّه وحسنُ الخلق، يعمران الديار ويزيدان في الأعمار)(٤) .

وفي الكافي عن الامام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر(ع) قال: (إنّ أكملَ المؤمنين إيماناً أحسنُهم خلقاً)(٥) .

وعن الامام أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق(ع) قال: (ما يتقدّم المؤمنُ على اللَّه عزّوجلّ بعملٍ بعد الفرائض أحبُّ إلى اللَّه تعالى من أن يسع الناس بخلقه)(٦) .

____________________

(١) الأخلاق للمرحوم السيد عبداللَّه شبّر: ص٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق: ص٥ و ٦.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

(٦) المصدر السابق نفسه.

٢٣٨

البيت الثاني: ذكر فيه الامامُ(ع) رزق اللَّه تعالى لعباده، وأكد أن الرزق مقدّرٌ فلا تصرفوا الوقت كلّه في طلبه، وانما أجملوا فيه. روي عن النبيّ(ص) قال: (اقتصدوا في الطلب فإنّ ما رُزقتموه أشدُّ طلباً لكم منكم له، وما حُرمتموه فلن تنالوه ولو حرصتم)(١) .

وقد ورد الحثّ على التكسّب في القرآن الكريم والسنّة الشريفة.

فأما القرآن الكريم فكقوله تعالى:( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاة فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٢) .

وقوله تعالى:( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (٣) .

وأما السنّة الشريفة فكثيرٌ منها:

عن النبيّ(ص) قال: (من طلب الدنيا حلالاً تعفّفاً عن المسألة، وتوسيعاً على عياله، وتعطّفاً على جاره لقيَ اللَّهَ ووجهُهُ كالقمر ليلة البدر)(٤) .

وعن الامام الصادق(ع) قال: (الكادُّ على عيالِهِ كالمجاهد في سبيل اللَّه)(٥) .

وروي أنّ النبيّ عيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام رأى رجلاً فقال له: ما تصنع؟ فقال: أتعبّد قال: ومَنْ يعولُكَ؟ قال: أخي قال: أخوك أعبدُ منك(٦) .

____________________

(١) نور الحقيقة للشيخ عز الدين الحسين بن عبد الصّمد والد الشيخ البهائي: ص١٥٨.

(٢) الجمعة: الآية ١٠.

(٣) الملك: الآية ١٥.

(٤) المحجّة البيضاء ج٣ ص١٤٠.

(٥) المحجّة البيضاء ج٣ ص١٤٣.

(٦) المحجّة البيضاء ج٣ ص١٤١.

٢٣٩

وعن أبي حمزة الثمالي عن الامام أبي جعفر الباقر(ع) قال: قال رسول اللَّه(ص) في حجّة الوداع: ألا إنّ الروح الآمين نفث في رُوعي أنّه لا تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها فاتّقوا اللَّه عزّوجلّ وأجملوا في الطّلب ولا يحملنّكم استبطاءُ شي‏ءٍ من الرزق أن تطلبوه بشي‏ءٍ من معصيةٍ اللَّه عزّوجلّ فإنّ اللَّه تبارك وتعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالاً ولم يقسّمها حراماً، فمن اتقى اللَّه عزّوجلّ وصبر أتاه اللَّه برزقه من حلِّه، ومن هتك حجابَ السّتر وعجّل فأخذ من غير حلّه قُصّ به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة(١) .

أقول: أمر النبيّ(ص) في كلامه الشريف هذا بالإجمالِ في طلب الرزق، ولم يقل اتركوا الرزق، ولا اصرفوا وقتكم وجهدكم كلّه فيه، بل أَمَرَ بالإجمال فيه.

وفي الكافي عن أبي عبداللَّه الصادق(ع) قال: (إنّ محمّد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أنّ عليّ بن الحسين(ع) يَدَعُ خَلَفاً أفضَلَ منه حتى رأيت ابنَهُ محمّد بن علي(ع) فأردتُ أن أعظه فوعظني فقال له أصحابُهُ: بأيّ شي‏ء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة فلقيني أبوجعفر محمّد بن علي - الباقر - (ع) وهو متكئ على غلامين أسودين فقلت في نفسي: سبحان اللَّه شيخٌ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا أما لأعظنّه، فدنوت منه فسلّمت عليه فردّ

____________________

(١) المحجة البيضاء ج٣ ص١٤٢.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343