المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة11%

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 343

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45029 / تحميل: 4732
الحجم الحجم الحجم
المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

أقول: انظر بعين البصيرة إلى تفاني أنصار أبي عبداللَّه الحسين: في نصرته والذّب عنه بحيث قدّموا نصرته على حياتهم، وعيالهم، وأولادهم وهم يعلمون يقيناً أنهم لن يقابلوا جيشاً تعدادهُ ثلاثون ألفاً من فرسان المصر وأبطال العرب ممّن مارسوا الحرب وعرفوها، ولكنّها المعرفة، والمحبّة، ونداء الواجب، وأداء الوظيفة والتكليف، ومن هنا صار شهداء الطّف سادات الشهداء، لا يفوقهم سابق، ولا يَلحقهم لاحق قال الشاعر:

نصروا ابنَ بنت نبيّهم طوبى لهم

نالوا بنصرته مراتبَ سامية

قد جاوروه ههنا بقبورهم

وقصورُهم يوم الجزا متحاذية(١)

قال السيد ابن طاووس(ره): قال الرّاوي: وبات الحسين(ع) وأصحابُهُ تلك الليلة ولهم دويٌّ كدويِّ النّحل، ما بين راكعٍ وساجد وقائمٍ وقاعد.

يصفهم المرحوم السيد حيدر الحليّ في احدى روائعه الخالدة:

سِمَةُ العبيدِ من الخشوعِ عليهمُ

للَّهِ إنْ ضمّتهُمُ الأسحارُ(٢)

وروى أبو حمزة الث’ُّمالي عن الإمام زين العابدين(ع) قال: قال عليّ ابن الحسين(ع) كنت مع أبي في الليلةِ التي قُتل في صبيحتها فقال لأصحابه: هذا الليل قد غشيكُمْ فاتّخذوه جُنة، فإنّ القومَ انّما يريدونني ولو

____________________

(١) من قصيدة للمرحوم الشيخ محمّد علي الأعسم(ره).

(٢) الدُّر النَّضيد: ص١٥٨.

٢٢١

قتلوني لم يلتفتوا إليكم وأنتم في حلٍّ وسعة فقالوا: واللَّهِ لا يكون هذا أبداً فقال: انكم تقتلون غداً كلّكم ولا يفلت منكم رجل قالوا: الحمدُ للَّهِ الذي شرّفنا بالقتل معك، ثمّ دع(ع) فقال لهم: ارفعوا رؤوسكم وانظروا فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة وهو يقول لهم: هذا منزلك يافلان، فكان الرّجل منهم بعد ذلك يستقبل الرّماح والسيوف بصدره ووجهِهِ ليصل إلى منزله من الجنّة(١) .

وقال الشيخ المفيد(ره): قال الإمام عليّ بن الحسين(ع): إني لجالسٌ في تلك العشيّة التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمّتي زينب تمرّضني إذ اعتزل أبي في خباء له وعنده جون مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:

يادهرُ أفٍّ لك من خليلِ

كم لك بالإشراقِ والأصيلِ

من صاحبٍ وطالبٍ قتيلِ

والدَّهرُ لا يقنَع بالقليلِ

وانّما الأمرُ إلى الجليل

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتى فهمتُها وعرفتُ ما أراد، فخنقّتني العبرة فرددتها ولزمتُ السكوت وعلمتُ أنّ البلاء قد نزل.

وأمّا عمّتي زينب فإنّها سمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأنِ النّساء الرّقّة فلم تملك نفسها أن وثبت تجرُّ ثوبَها حتى انتهت إليه فقالت: واثُكلاه ليت الموتَ أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن،

____________________

(١) نفس المهموم للمرحوم الشيخ عبّاس القمّي(ره): ص٢٣١.

٢٢٢

ياخليفةَ الماضي. وثِمالَ(١) الباقي، فنظر إليها الحسين(ع) وقال لها: ياأخيّة لا يذهبنّ بحلمك الشيطان، وترقرقت عيناه بالدّموع وقال: لو تُرك القَطا ليلاً لنام ثمّ لطمت وجهها وأهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشيةً عليها فقام إليها الإمام الحسين(ع) فصبّ على وجهها الماء وقال لها: ياأختاه تعزّي بعزاء اللَّه واعلمي أنّ أهلَ الأرض يموتون وأنّ أهلَ السّماء لا يبقون وأنّ كلّ شي‏ءٍ هالِكٌ إلّا وجهُ اللَّه الذي خلق الخلق بقدرتِهِ ثمّ قال لها: ياأخيّة إني أقسمتُ عليك فأبرّي قسمي لا تشقّي عليّ جيباً ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تَدعي بالويل والثبور إذا أنا هلكت - قضيت نحبي -، ثمّ رجع(ع) إلى مكانه، فقام الليل كلّه يصلّي ويستغفر ويدعو ويتضرّع، وقام أصحابُه كذلك يصلّون ويدعون ويستغفرون، فباتوا ولهم دويٌّ كدويِّ النّحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، وكذا كانت سجيّةُ الإمام الحسين(ع) في كثرة صلاته وكمال صفاته وكان صلوات اللَّه عليه كما وصفه إبنُه إمامُنا المهدي صلوات اللَّه عليه: للقرآن سنداً، وللأمّةِ عضداً، وفي الطّاعة مجتهداً حافظاً للعهد والميثاق ناكباً عن سبلِ الفسّاق باذلاً للمجهود طويل الرّكوع والسجود زاهداً في الدّنيا زهدَ الرّاحل عنها ناظراً إليها بعين المستوحشين منها.

____________________

(١) الثِّمال ككتاب: الغياث والذي يقوم بأمر قومه، يُقال فلانٌ ثِمالُ قومه أي غياث لهم، وفي حديث أبي طالب(ع) يمدح ابن أخيه رسول اللَّه(ص):

وأبيضَ يُستسقى الغَمامُ بوجهِهِ

ثِمالُ اليتامى عصمةٌ للأرامِلِ

مجمع البحرين: ج ٥ ص٣٣٢.

٢٢٣

وروي أنّه لما كان وقت السّحر خَفِقَ الحسين(ع) برأسه خفقةً ثمّ استيقظ فقال: أتعلمون ما رأيت في منامي الساعة؟ فقالوا: وما الذي رأيت ياابن رسول اللَّه(ص)؟ فقال: رأيت كأنّ كلاباً قد شدّت عليّ لتنهشني وفيها كلبٌ أبقع رأيته أشدّها علي أظنُّ أنّ الذي يتولّى قتلي رجلٌ أبرص من بين هؤلاء القوم(١) .

أقول: وكان ذلك اللعين هو شمر بن ذي الجوشن بعد أن سقط الإمام(ع) على الأرض جريحاً، يقول إمامنا المهدي عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف في الزيارة المرويّة عنه المعروفة ب (زيارة الناحية المقدّسة): فهويت إلى الأرض جريحاً تطؤُكَ الخيولُ بحوافرها وتعلوكَ الطغاةُ ببواترها قد رشحَ للموتِ جبينُكَ واختلفت بالإنقباضِ والإنبساطِ شمالُك ويمينك تُديرُ طرفاً خفيّاً إلى رَحلِكَ وبيتك وقد شُغلتَ بنفسِكَ عن ولدكَ وأهاليك وأسرع فرسُكَ شارداً إلى خيامِكَ قاصداَ محمحماً باكياً فلمّا رأينَ النّساءُ جوادَكَ مخزيّاً وسرجكَ عليه ملويّاً برزنَ من الخدور ناشراتِ الشعور على الخدودِ لاطمات وبالعويلِ داعيات وبعد العزّ مذلّلات(٢) .

يقول المرحوم الكعبي في ذلك:

وأقبلْنَ ربّاتُ الحجالِ وللأسى

تفاصيلُ لا يُحصي لهنَّ مفصِّلُ

فواحدةٌ تحنو عليه تضمُّهُ

وأخرى عليه بالرّداءِ تظلّلُ

وأخرى بفيضِ النّحرِ تصبَغُ وجهها

وأخرى لما قد نالها ليس تعقلُ

____________________

(١) نفس المهموم: ص٢٣٣ - ٢٣٤.

(٢) الصحيفة المهديّة للمرحوم الشيخ إبراهيم بن المحسن الكاشاني١: ص ٢١٣ - ٢١٤.

٢٢٤

وأخرى على خوفٍ تلوذُ بجنبِهِ

وأخرى تفدّيه وأخرى تقبّلُ

تكفّ الدّما عنهُ وتهملُ مثلها

دموعاً فلم تبرح تكفّ وتُهملُ

وجاءت لشمرٍ زينبُ ابنةُ فاطمٍ

تعنّفُهُ عن أمرِهِ وتعذّلُ

تقولُ له مهلاً فهذا ابنُ أحمدٍ

وشبلُ عليِّ المرتضى المتفضِّلُ

إلى أن يقول عزّ على المؤمنين والمؤمنات:

ومرّ يحزّ النّحرَ غيرَ مراقِبٍ

من اللَّهِ لا يخشى ولا يتوجّلُ

وزُلزلتِ الأرضونَ وارتجّت السما

وكادت له أفلاكها تتعطّلُ

واحسيناه واسيّداه واشهيداه..

ولسان حال اُخته العقيلة:

يخويه بيش أضمّك وين أودّيك

يخوية اشلون أصد عنّك وخليّك

تراني تحيّرت يامهجتي بيك

يخوية بيش أظلّلك امن الحر

هوت يمّه تشم كسر البضلعه

أخويه الماطبع يشبه الطبعه

غابت روحه وفزّت تودعه

اولن راسه ابراس الرّمح مزهر

* * *

لمـّن شافته صفگت بديها

اوشگت ثوبها ويلي عليها

ما تنلام من شافت وليها

فوگ الرّمح راسه يلوح بالبر(١)

* * *

____________________

(١) من النّصاريات الخالدة للمرحوم الشيخ محمّد نصار(ره).

٢٢٥

طأطِئوا الروسَ إنّ رأسَ حسينٍ

رفعتهُ فوق القَنا الخَطّار

لا تذوقوا المعينَ واقضوا ضمايا

بعد ظامٍ قضى بحدِّ الغِرار(١)

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

____________________

(١) من قصيدة للمرحوم الشيخ عبدالحسين شكر العراقي(ره) والغِرار: هو حدُّ السّيف.

٢٢٦

يوم العاشرالمجلس الثاني والعشرون

مقتل الإمامِ الحسينعليه‌السلام

من ذا يقدّمُ لي الجوادَ ولامتي

والصَّحْبُ صرعى والنصيرُ قليلُ

فأتتهُ زينبُ بالجوادِ تقودُهُ

والدّمعُ من ذكرِ الفراقِ يسيلُ

وتقولُ قد قطّعتَ قلبي يا أخي

حُزناً فياليتَ الجبالَ تزولُ

فلمن تنادي والحماةُ على الثرى

صرعى ومنهم لا يُبلُّ غليلُ

ما في الخيامِ وقد تفانى أهلُها

إلّا نساءٌ ولَّهٌ وعليلُ

أرأيتَ أختاً قدّمت لشقيقها

فرسَ المنونِ ولا حمىً وكفيلُ

فتبادرت منه الدّموعُ وقال يا

أختاهُ صبراً فالمصابُ جليلُ

فبكت وقالت يابن أمّي ليس لي

وعليكَ ما الصّبرُ الجميلُ جميلُ

يا نورَ عيني يا حُشاشةَ مهجتي

من للنساءِ الضّائعاتِ دليلُ

ورنت إلى نحوِ الخيامِ بعولةٍ

عظمى تصبُّ الدّمعَ وهي تقولُ

قوموا إلى التوديعِ إنّ أخي دعا

بجوادِهِ إنّ الفراقَ طويلُ

فخرجنَ ربّاتُ الخدورِ عواثراً

وغدا لها حولَ الحسينِ عويلُ

اللَّه ما حالُ العليلِ وقد رأى

تلكَ المدامعَ للوداعِ تسيلُ

فيقومُ طوراً ثمّ يبكو تارةً

وعراهُ من ذكرِ الوداعِ نحولُ

فغدا ينادي والدّموعُ بوادرٌ

هل للوصولِ إلى الحسينِ سبيلُ

هذا أبيُّ الضّيم ينعى نفسَه

يا ليتني دونَ الأبيِّ قتيلُ(١)

* * *

____________________

(١) قصيدة عصماء من نظم المرحوم الشيخ محمّد نصّار(ره) أدب الطف ج٧ ص٢٣٢، وقد تقدّمت ترجمتُهُ ص٣٤.

٢٢٧

قال الامام الحسين(ع) يوم العاشر من المحرّم في ضمن خطبةٍ له:

(ألا وإنّ الدّعيَّ بنَ الدّعي قد ركز بين اثنتين بين السلّةِ والذلّة وهيهاتَ منّا الذلّة يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُهُ والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهُرت، وأنوفٌ حميَّة، ونفوسٌ أبيّة، من أن نؤثر طاعةَ اللئام على مصارعِ الكرام، ألا وإنّي زاحفٌ بهذه الأسرة على قلّةِ العدد وخذلانِ النّاصِر)(١) .

قال الشيخ المفيد(ره) في (مسار الشّيعة):

في اليوم العاشر من المحرّم قُتِلَ سيّدُنا أبو عبداللَّه الحسين بن علي(ع) سنة ٦١ إحدى وستين من الهجرة، وهو يومٌ تتجدّد فيه أحزانُ محمّدٍ وآل‏محمّد(ص) وشيعتهم، وجاءت الرّوايةُ عن (الأئمّة) الصّادقين: باجتناب الملاذ فيه، وإقامةِ سنن المصائب، والإمساك عن الطّعام والشّراب إلى أن تزول الشّمس، والتغذّي بعد ذلك بما يتغذّى أصحابُ المصائب من الألبان وأشباهها دون اللذيذ من الطّعام والشّراب، ويستحبّ فيه زيارة المشاهد، والإكثار من الصلاة على محمّدٍ وآله(ص)، والابتهالِ إلى اللهِ تعالى باللعنةِ على أعدائهم وظالميهم.

ورُويَ من زار قبرَ الحسين(ع) يوم عاشوراء فكأنّما زار اللَّهَ في عرشه، ورويَ من زاره وبات عنده ليلة عاشوراء حتى يُصبح حشره للَّه تعالى ملطّخاً بدم الحسين(ع) في جملة الشهداء معه، ورويَ أنّه من أراد أن يقضي حقّ رسولِ اللَّه(ص) وحق أمير المؤمنين وفاطمة والحسن

____________________

(١) إبصارُ العين للمرحوم الشيخ محمّد السَّماوي ص١١.

٢٢٨

والحسين: فليزر قبر الحسين(ع) في يوم عاشوراء(١) .

فاللازم على الموالي المتأسّي بالنبيِّ الأعظم(ص) الباكي على ولدِهِ بمجرّد تذكر مصابه أن يقيم المأتم على سيّد الشهداء ويأمر مَن في دارِهِ بالبكاء عليه وليعزّ بعضهم بعضاً بالحسين(ع) فيقول كما في حديث الإمام الباقر(ع): (عظّمَ اللَّهُ أجورَنا بمصابِنا بالحسين وجعلنا وإيّاكم من الطالبين بثأرِهِ مع ولدِهِ المهديّ من آلِ محمّد(ص))(٢) .

وفي الحديث أنه دخل عبداللَّه بن سنان على أبي عبداللَّه الصادق: في يوم عاشوراء فرآه كاسف اللون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر على خدّيه كاللؤلؤ فقال له: مِمَّ بكاؤكَ يابن رسول اللَّه قال(ع): (أوَ في غفلةٍ أنت، أما علمت أنّ الحسين أُصيب في هذا اليوم ثمّ أمرَهُ أن يكون كهيئة أرباب المصائب يحلّل أزرارَهُ، ويكشف عن ذراعيه ويكون حاسراً، ولا يصوم يوماً كاملاً وليكن الإفطار بعد العصر بساعة على شربةٍ من ماء ففي ذلك الوقت تجلّت الهيجاء عن آلِ محمّد(ص)) ثمّ قال(ع): (لو كان رسول اللَّه حيّاً لكان هو المعزّى به).

وأما الإمام الكاظم(ع) فلم يُر ضاحكاً أيام العشرة وكانت الكآبةُ غالبةً عليه ويوم العاشر يوم حزنه ومصيبته.

ويقول الإمام الرّض(ع): (فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأذلّ عزيزَنا بأرض كربٍ وبلاء).

____________________

(١) مسار الشيعة: ص٢٤ - ٢٥.

(٢) كامل الزيارات: ص٣٢٦ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٢٩

وفي زيارة الناحية يقول حجّةُ آلِ محمّد عجّل اللَّه تعالى فرجَه الشريف مخاطباً جدّه الحسين: (فلأندبنكَ صباحاً ومساءاً ولأبكينّ عليك بدلَ الدّموعِ دماً)(١) .

وقال الشيخ القمّيرحمه‌الله تعالى في (مفاتيح الجنان): (وينبغي للشيعة أن يمسكوا فيه عن السّعي في حوائج دنياهم وأن لا يدخروا فيه شيئاً لمنازلهم وأن يتفرّغوا فيه للبكاء والنّياح وذكر المصائب وأن يقيموا مأتم الحسين(ع) كما يقيمونه لأعزّ أولادهم وأقاربهم)(٢) .

وها نحن نذكر هنا مصائب الإمام الحسين(ع) وما جرى عليه بعد أن قُتل أصحابُه وأهل بيته وبقي وحيداً لا ناصر له ولا معين قال الراوي: ثمّ أنّ الحسين(ع) لما نظرَ إلى مصارع أنصارِه وأهلِ بيته والتفت يميناً فلم يرَ أحداً، والتفت شمالاً فلم يرَ أحداً، استعبر واستغاث استغاثته الثانية ونادى: (هل من ذابٍ يذبّ عن حُرَمِ(٣) رسول اللَّه؟ هل من موحّدٍ يخاف اللَّه فينا؟ هل من مغيثٍ يرجو اللَّهَ في إغاثتنا؟) فلم يجبه سوى الإمام زين العابدين(ع) فمنعتهُ أمّ كلثوم لما بِهِ من المرض فقال: دعيني ياعمتاه أقاتلُ بين يدي ابن رسول اللَّه فصاح الإمام الحسين(ع): (خذيه ياأختاه لئلّا تبقى الأرض خاليةً من نسل آل محمّد(ص)

ثمّ عزم على لقاءِ القوم بنفسِهِ فجاء إلى الخيام للتوديع ثاني مرّة فنادى:

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص٢٧٣ - ٢٧٤.

(٢) مفاتيح الجنان للمرحوم الشيخ عباس القمّي: ص٢٨٨.

(٣) حُرَم رسول اللَّه: ما لا يجوز انتهاكُهُ.

٢٣٠

(يا زينب، ياأم كلثوم، ياسكينة، يا فاطمة عليكنّ مني السلام) ثمّ جعل يوصيهنّ بالصّبر والسكينة والتسليم لقضاءِ اللَّه.

وقال لهنّ: (استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ اللَّهَ حافظُكُم وحاميكم، وسينجّيكم من شرّ الأعداء، ويعذّب أعداءكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النّعَم والكرامة، فلا تشكّوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقصُ من قدركم ويحبط أجركم).

قال أرباب المقاتل: انه حين بقي وحيداً وتقدّم للحرب صار يتقدّم إليه من جندِ ابن سعد من صناديد الأبطال وفرسان الرّجال واحدٌ بعد واحد فيقتله(ع)، فصاح عمر بن سعد بأصحابه: الويلُ لكم أتدرون لمن تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، فاحملوا عليه بأجمعكم حملة رجلٍ واحد.

فحملوا عليه من كلّ جانب حتى جعلوه في مثل الدائرة وهو(ع) يغوص في الأوساط ويقلب الميمنة على الميسرة حتى قتل عامّتهم، وأقام قيامتهم، ولم يزل يقتلُ في كلّ حملةٍ جملة، وفي كلّ كرّةٍ كثرة، وفي كلّ زحوفٍ اُلوف.

قال حميد بن مسلم: فواللَّهِ ما رأيتُ مكثوراً قطّ قد قُتِلُ ولدُهُ وأصحابُهُ أربطَ جأشاً ولا أمضى جَناناً ولا أشدّ إقداماً منه قط، وإن كانت الرجال لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذّئب ولقد كان يحملُ فيهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً فينهزمون من بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر.

وكان(ع) يقاتلُ في كلّ برهة فارساً على فرسه (المرتجز) واُخرى

٢٣١

على غيره، ولكنّ الظاهر أن الحجرَ المشؤوم والسّهمَ المسموم ذي الثلاث شعب وطعنة صالح بن وهب أوجبت في وجوده المقدّس ما لا يستطيع القلمُ أن يسطّره ولا اللسان أن يذكره، ولكن لما خلا سرجُ ذي الجناح من هيكل الوحي والتنزيل، أو فقل هوى على الأرض عرش الملك الجليل جعل(ع) يقاتل وهو راجل قتالاً أقعد الفوارس وأرعد الفرائص وأذهل عقولَ فرسان العرب، قال ابن الأثير(١) :

قاتل (ع) راجلاً قتال الفارس الشجاع يتّقي الرمية، ويتفرّس العودة ويشدّ على الخيل وهو يقول: (ويحكم أعلى قتلي تجتمعون؟!) ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول: (لا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم).

قال العلّامة المجلسيرحمه‌الله في البحار:

ثمّ حمل عليهم كالليث المغضب فجعل لا يلحقُ أحداً إلّا بعجه بسيفه فقتله، والسهامُ تأخذُهُ من كلّ ناحية وهو يتّقيها بنحره وصدرِه ويقول: (ياأُمّة السوء بئسما خلفتهم نبيّكم محمّداً في عترته).

ولم يزل(ع) على هذا وأمثاله حتى اقتطعوه وحالوا بينه وبين رَحْلِه فصاح: (ويحكم ياشيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لاتخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم وأنسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون) فناداه شمر: ما تقول يابن فاطمة؟

قال: (أقول أنا الذي اُقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهنّ جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرّض لحُرَمي ما دمتُ حيّ).

____________________

(١) الكامل في التأريخ ج٤ ص٧٨، طبعة دار صادر بيروت.

٢٣٢

فقال الشمر: لك ذلك يابن فاطمة ثمّ قال: اقصدوه بنفسه فلعمري لهو كفؤٌ كريم، ثمّ جعل يحملُ ويحملون عليه وهو في ذلك يطلب شربة من الماء ويتلظّى كبدُه من الظمأ، ويلوك لسانه من شدّة العطش وقد صار كالخشبة اليابسة.

ثمّ لما اشتدّ به الاعياء والعناء، وضعف عن القتال وقف ليستريح هنيئة ولكنّ طعنة سنان ابن أنس وضربة سيف بن زرعة لم يتمكن الإمام معهما حتى من الوقوف على الأرض وكان قد أعيا فقعد.

وبينا هو (ع) جالس على الرّمضاء خرج من الخيام غلامٌ كأنّ وجهَهُ فلقةُ قمر، وفي أذنيه قرطان يتذبذبان، فجعل يعدو ويركض حتى جاء إلى عمّه الحسين(ع)، وكأنه لما رأى عمّه (على) تلك الحال والدماءُ تسيلُ من جميع جوانبِه وجوارِحِه أُدهِشَ وذهل، وبينا هو واقف ينظر إلى عمّه مبهوتاً أهوى بحرُ بن كعب إلى الحسين(ع) بسيفه ليضربه، فقال له الغلام، أتضرب عمّي؟ يابن الخبيثة، فعدل بضربته إلى الغلام فأصابت يده فأطنّها من المرفق وإذا هي معلّقة، فصاح الغلام، واعمّاه فأخذه عمُّه وضمّه إليه وأجلسه في حجره، فرماه حرملةُ بن كاهل فذبحه وهو في حجر عمّه فاحتسبه عند اللَّه وقال: (هوّنَ عليّ ما نزل بي أنّه بعين اللَّه)، ثمّ انتهى به الحال(ع) أنه من كثرة نزف الدماء، ومن شدّة العطش، ومن حرارة الشمس ولفح الهجير، وترادف المصائب والرزايا لم يتمكّن حتى البقاء جالساً على الأرض فصنع له وسادةً من الرّمل ونام عليها قال بن شهرآشوب:

لمـّا صرع الحسين(ع) جعل فرسُهُ يحامي عنه، فيثب على الفارس

٢٣٣

فيخبطه على سرجه ويدوسه برجله، حتى قتل جماعة، ثمّ تمرّغ في دم الحسين(ع) ثمّ قصد الخيمة وله صهيلٌ عال، وهو يضرب بيديه الأرض ويقول في صهيله:

الظليمةُ الظليمة من أمّةٍ قتلت ابن بنت نبيّها!!

قال: فخرجت زينب بنت علي(ع) من الفسطاط تنادي:

واأخاه، واسيّداه، ليت السماءَ اُطبقت على الأرض وليت الجبال تدكدكت على السّهل، يابن سعد أيقتلُ أبو عبداللَّه وأنت تنظر إليه؟!

فصرف وجهَهُ الخبيث عنها ودموعُهُ تسيلُ على لحيته المشؤومة، والحسين في كلّ ذلك مغمىً عليه، تحاماه الناس(١) .

ثمّ نادى عمر بن سعد: أما فيكم من يذبحُ الحسين ويأتيني برأسه؟ فبدر إليه الشمر فرفسه برجله وجلس على صدره، وقبض على شيبته المقدّسة، وضربه بالسيف اثنتي عشرة ضربة واحتزّ رأسه المقدّس:

واإماماه، واسيّداه، واحسيناه، وامظلوماه

ومرَّ يحزُّ النّحرَ غيرَ مراقبٍ

من اللَّهِ لا يخشى ولا يتوجّلُ

وزُلزلت الأرضونَ وارتجّت السّما

وكادت له أفلاكُها تتعطّلُ(٢)

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

____________________

(١) إلى هنا نقلته عن (مقتل الحسين(ع)) للمرحوم آية اللَّه الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء١، تحقيق الخطيب فضيلة الشيخ هادي الهلالي.

(٢) من قصيدة عصماء للمرحوم الشيخ هاشم الكعبي.

٢٣٤

يوم الثالث عشر المجلس الثالث والعشرون

دفنُ الأجساد الطّاهرة

لم أنسَهُ اذ قام فيهم خاطباً

فاذا هُمُ لا يملكون خطابا

يدعو ألستُ أنا ابنَ بنتِ نبيّكم

وملاذَكم إذْ صرفُ دهرٍ نابا

هل جئتُ في دينِ النبيِّ ببدعةٍ

أم كنتُ في أحكامِهِ مرتابا

أم لم يوصِّ بنا النبيُّ وأودعُ

الثّقلين فيكم عترةً وكتابا

إن لم تَدينوا بالمعادِ فراجعوا

أحسابَكم ان كنتُمُ أعرابا

فغدوا حيارى لا يرونَ لوعظه

إلّا الأسنّةَ والسّهام جوابا

حتى إذا أَسِفَتْ علوجُ أميّةٍ

أن لا ترى قلبَ النبيِّ مصابا

صلّت على جسمِ الحسين سيوفُهم

فغدى لساجدةِ الظُّبى محرابا

ومضى لهيفاً لم يجد غيرَ القنا

ظِلاً ولا غيرَ النجيعِ شرابا

ظمآنَ ذابَ فؤادُهُ من غُلّةٍ

لو مَسّت الصخرَ الأصمَّ لذابا

لهفي لجسمكَ في الصعيد مجرّداً

عُريانَ تكسوهُ الدّماءُ ثيابا

تربَ الجبين وعينُ كلِّ موحّدٍ

ودّت لجسمك لو تكون تُرابا

لهفي لرأسِكَ فوق مسلوبِ القنا

يكسوهُ من أنوارِهِ جلبابا

يتلو الكتابَ على السّنانِ وإنما

رفعوا بِهِ فوقَ السنانِ كتابا(١)

____________________

(١) القصيدة العصماء هذه للمرحوم السيد رضا الموسوي الهنديرحمه‌الله تعالى.

قال المرحوم السيد جواد شبر في (أدب الطف) الجزء التاسع ص٢٤٢:

السيد رضا الهندي شيخ الأدب في العراق، العالم الجليل والمؤرّخ والبحّاثة الشّهير هو ابن

٢٣٥

نعي

ثلث تيام ظل مطروح الحسين

على الرّمضا وهو عزّ المسلمين

وحوله مطرّحه كل هله الطيبين

واصحابه الصناديد الميامين

جثث مله عشيره ولاله معين

بس زينب بگت تصفگ بالايدين

وتهيل دموعه دم على الخدّين

وتصيح بألم وبلوعات صوتين

صوتٍ يا علي يالبالغريين

وصوتٍ ياليوث الهاشميين

____________________

السيد محمد بن السيد هاشم الموسوي الهندي - ينتهي نسبُهُ إلى الإمام العاشر من أئمة أهل البيت: وهو الإمام الهادي(ع) -.

ولد(ره) في الثامن من شهر ذي القعدة سنة ١٢٩٠ه في (النجف الأشرف)، وهاجر إلى سامراء بهجرةِ أبيه سنة ١٢٩٨ه وذلك حين اجتاح النجف وباءُ الطاعون، ومكث يواصل دروسه في سامراء، وكان موضع عناية آية اللَّه المجدّد الشيرازي لذكائه وسرعة بديهتِهِ وسعة اطلاعه، وفي النجف الأشرف واصل جهوده العلمية على أساطين العلم حتى نال درجة الاجتهاد، وشهد له مراجع الطائفة كالشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، والشيخ الشربياني والملا محمد كاظم الخراساني (صاحب الكفاية)، وقد انتدبه المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني (وكيلاً) عنه للإرشاد.

ومن روائعه التي اشتهرت وحفظها القاصي والدّاني قصيدته (الكوثرية) في مدح أمير المؤمنين(ع).

وأما الرّائعة التي ختم بها حياته وطلب أن تكون معَهُ في قبره فهي هذه القطعة الوعظية (ومطلعُها):

أرى عمري مؤذَناً بالذّهابِ

تمرُّ لياليه مرَّ السَّحابِ

كانت وفاتُهُ بالمشخاب فجأةً وذلك بعد ظهر يوم الأربعاء ٢٢ جمادى الأولى سنة ١٣٦٢ه المصادف ٢٦ مارس سنة ١٩٤٣م وحمل جثمانه على الأعناق إلى قضاء أبي صخير فالنجف في صبيحة اليوم الثاني وكان يوماً مشهوداً حتى دفن بمقبرة الأسرة الخاصّة، وأقام زعيم الحوزة العلمية السيد أبو الحسن الفاتحة على روحه في مسجد الشيخ الأنصاري(ره).

٢٣٦

تعالوا يا أهلنه ودفنوا الحسين

وشوفوا شعمل بينه خلافه البين

* * *

روي ان الامام الحسين(ع) كان كثيراً ما ينشدُ هذه الأبيات:

لئن كانت الأفعالُ يوماً لأهلها

كمالاً فحسنُ الخُلْقِ أبهى وأكملُ

وإن كانت الأرزاقُ رزقاً مقدّراً

فقلّةُ جُهدٍ المرءِ في الكسب أجمَلُ

وإن كانت الدنيا تُعَدُّ نفيسةً

فدارُ ثوابِ اللَّه أعلى وأنبلُ

وإن كانت الأموالُ للتركِ جمعُها

فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخلُ

وإن كانت الأبدانُ للموتِ اُنشِئت

فقتلُ امرئٍ بالسيفِ في اللَّهِ أفضلُ(١)

تعرّض الامام(ع) في هذه الأبيات لذكر مجموعةٍ من المفاهيم التي يحتاجُها الانسان المسلم في حياته اشدّ الإحتياج، وسأبدأُ - بعد الإستعانة باللَّه - بشرحها ولو على نحو الإختصار.

البيت الأول: ذكر فيه الامام الحسين(ع) أفعال الإنسان وأنّ أكملها وأبهاها هو حسن الأخلاق، وقد ذكر القرآنُ الكريم ذلك في معرض مدح رسول اللَّه(ص) حيث قال تعالى:( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) مع أنّ النبيّ(ص) كان عظيماً في كلّ خصاله لا يدانيه فيها أحد من الخلق، إلّا أنّه تعالى خصّ فيه هذه الخصلة الشريفة بالذكر، ووصفها ب (خُلُقٍ عظيم) لأنها أكملُ الأفعال وأحسن الخصال، وقد حفلت السنّةُ الشريفة بأحاديث جمّة

____________________

(١) الأنوار البهيّة للمرحوم الشيخ عبّاس القمّي: ص٩٨.

(٢) سورة القلم: الآية ٤.

٢٣٧

تثني وتبشّر صاحب الخلق الحسن بسعادة الدّارين منها على سبيل المثال:

عن النبيّ(ص): (ما يوضع في ميزان امرئٍ يوم القيامة أفضلُ من حسن الخُلُق)(١) . وأفضل في هذا الحديث الشريف بمعنى أثوب.

وعن الإمام الصادق(ع) عن جدّه رسول اللَّه(ص) قال: (إنّ صاحبَ الخُلُقِ الحسن له مثلُ أجرِ الصّائم القائم)(٢) .

يعني أنّ ثواب صاحب الأخلاق الحَسنة، كثوابِ المؤمن الذي يصوم نهارَه، ويقوم ليلَه ما دامَ حيّاً.

وسئل النبيّ(ص): أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: (حسنُ الخلق)(٣) .

وقال(ص): (أكثر ما تلجُ - اي تدخل - به أمّتي الجنة تقوى اللَّه وحسنُ الخلق، يعمران الديار ويزيدان في الأعمار)(٤) .

وفي الكافي عن الامام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر(ع) قال: (إنّ أكملَ المؤمنين إيماناً أحسنُهم خلقاً)(٥) .

وعن الامام أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق(ع) قال: (ما يتقدّم المؤمنُ على اللَّه عزّوجلّ بعملٍ بعد الفرائض أحبُّ إلى اللَّه تعالى من أن يسع الناس بخلقه)(٦) .

____________________

(١) الأخلاق للمرحوم السيد عبداللَّه شبّر: ص٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق: ص٥ و ٦.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

(٦) المصدر السابق نفسه.

٢٣٨

البيت الثاني: ذكر فيه الامامُ(ع) رزق اللَّه تعالى لعباده، وأكد أن الرزق مقدّرٌ فلا تصرفوا الوقت كلّه في طلبه، وانما أجملوا فيه. روي عن النبيّ(ص) قال: (اقتصدوا في الطلب فإنّ ما رُزقتموه أشدُّ طلباً لكم منكم له، وما حُرمتموه فلن تنالوه ولو حرصتم)(١) .

وقد ورد الحثّ على التكسّب في القرآن الكريم والسنّة الشريفة.

فأما القرآن الكريم فكقوله تعالى:( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاة فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٢) .

وقوله تعالى:( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (٣) .

وأما السنّة الشريفة فكثيرٌ منها:

عن النبيّ(ص) قال: (من طلب الدنيا حلالاً تعفّفاً عن المسألة، وتوسيعاً على عياله، وتعطّفاً على جاره لقيَ اللَّهَ ووجهُهُ كالقمر ليلة البدر)(٤) .

وعن الامام الصادق(ع) قال: (الكادُّ على عيالِهِ كالمجاهد في سبيل اللَّه)(٥) .

وروي أنّ النبيّ عيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام رأى رجلاً فقال له: ما تصنع؟ فقال: أتعبّد قال: ومَنْ يعولُكَ؟ قال: أخي قال: أخوك أعبدُ منك(٦) .

____________________

(١) نور الحقيقة للشيخ عز الدين الحسين بن عبد الصّمد والد الشيخ البهائي: ص١٥٨.

(٢) الجمعة: الآية ١٠.

(٣) الملك: الآية ١٥.

(٤) المحجّة البيضاء ج٣ ص١٤٠.

(٥) المحجّة البيضاء ج٣ ص١٤٣.

(٦) المحجّة البيضاء ج٣ ص١٤١.

٢٣٩

وعن أبي حمزة الثمالي عن الامام أبي جعفر الباقر(ع) قال: قال رسول اللَّه(ص) في حجّة الوداع: ألا إنّ الروح الآمين نفث في رُوعي أنّه لا تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها فاتّقوا اللَّه عزّوجلّ وأجملوا في الطّلب ولا يحملنّكم استبطاءُ شي‏ءٍ من الرزق أن تطلبوه بشي‏ءٍ من معصيةٍ اللَّه عزّوجلّ فإنّ اللَّه تبارك وتعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالاً ولم يقسّمها حراماً، فمن اتقى اللَّه عزّوجلّ وصبر أتاه اللَّه برزقه من حلِّه، ومن هتك حجابَ السّتر وعجّل فأخذ من غير حلّه قُصّ به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة(١) .

أقول: أمر النبيّ(ص) في كلامه الشريف هذا بالإجمالِ في طلب الرزق، ولم يقل اتركوا الرزق، ولا اصرفوا وقتكم وجهدكم كلّه فيه، بل أَمَرَ بالإجمال فيه.

وفي الكافي عن أبي عبداللَّه الصادق(ع) قال: (إنّ محمّد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أنّ عليّ بن الحسين(ع) يَدَعُ خَلَفاً أفضَلَ منه حتى رأيت ابنَهُ محمّد بن علي(ع) فأردتُ أن أعظه فوعظني فقال له أصحابُهُ: بأيّ شي‏ء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة فلقيني أبوجعفر محمّد بن علي - الباقر - (ع) وهو متكئ على غلامين أسودين فقلت في نفسي: سبحان اللَّه شيخٌ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا أما لأعظنّه، فدنوت منه فسلّمت عليه فردّ

____________________

(١) المحجة البيضاء ج٣ ص١٤٢.

٢٤٠

عليّ السلام وهو يتصابُ عرقاً فقلت: أرأيت لو جاء أجلُك وانتَ على هذه الحال ما كنت تصنع؟ فقال(ع): لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعةٍ من طاعات اللَّه عزّوجلّ، أكفّ بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وانّما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصيةٍ من معاصي اللَّه فقلت: صدقت يرحمك اللَّه أردت أن أعظك فوعظتني)(١) .

يحكى أنّ رجلاً صالحاً متقياً كان يعيش في إحدى المدن المهمّة اسمه (أبوالعلى)، ذهب في يوم من الأيّام لزيارة أحد العلماء فسأله قائلاً: أيّها العالم أخبرني عن أفضل أعمال الدنيا التي تنفعني في الآخرة فقال العالم: أفضل الأعمال تقوى اللَّه تعالى، فسأَلَ الرجل ثانياً فقال: أخبرني عن أحسن الطرق التي من خلالها أستطيع الحصول على لقمة حلال فقال العالم: اللقمة الحلال تأتي بها من خلال عمل اليدين وعرق الجبين، فعندما سمع الرجل ذلك من العالم قال: إذا كان كذلك فسأدرس العلم النافع نهاراً، واشتغل بصنعةٍ ما في بيتي ليلاً، وفعلاً دام على هذا مدّة طويلةً، وفي ليلةٍ من الليالي رأى في عالم الرؤيا نفسه واقفاً على متن جبل، وفي صفحة الجبل ثقوبٌ يخرج منها الماء، وهذه الثقوب فيها الواسع والأوسع، وفيها الضيّق والأضيق حتى رأيت بعضها يقطر قطرات متوالية والآخر يقطر بين كلّ فترةٍ واخرى قطرةً واحدة، فتعجّبت ممّا رايت ولم أفهم المقصود من ذلك، فرأيت جماعةً جالسين فسألتهم عن الماء الزلال وعن الثقوب التي يخرج منها الماء، ولماذا لم تكن متساوية؟ فقال لي أحدهم: هذه أرزاق العباد،

____________________

(١) الكافي ج٥ ص٧٣.

٢٤١

منهم من قدّر اللَّه تعالى له رزقاً وافراً، ومنهم من قدّر له رزقاً قليلاً، ومنهم الوسط بين هذا وذاك فقلتُ: ومن أيّ الثقوب قدّر اللَّه تعالى رزقي؟ قال لي: أعطني اسمك واسمَ أبيك ففعلت قال: فأخرج كتاباً نظر فيه ثمّ قام وقال: رزقك من هذا الثقب قال: فنظرت واذا هي قطرات تخرج من ذلك الثقب بين فترةٍ واُخرى، فاضطربت من ذلك وقمت من نومي وانا في حالة الإضطراب وقلت: سبحان اللَّه العظيم لقد قدّر اللَّه تعالى لي بحكمته رزقاً قليلاً فشكراً له على ذلك. وبقي أبو العلى مداوماً على عمله حيث كان يشتغل بتحصيل العلم النافع نهاراً، وفي الليل بصنعةٍ يؤمّنُ منها معاشه، وكان والي البلد يخرج من قصره في بعض الليالي متنكراً بلباس الفقراء ليطلع على أحوال رعيّته وأهل بلده. وفي ليلة من الليالي مرّ الوالي وهو متنكر على بيت (أبو العلى) فسمع صوته وهو في المناجاة، فأطال الوالي الوقوف وأعجبه ما سمع، وفي الليلة الثانية جاء الوالي أيضاً ووقف عند البيت وسمع أبا العلى وهو يناجي ربّه، وهكذا جاء في الليلة الثالثة فطرق عليه الباب فأسرع أبو العلى وفتح الباب وإذا بالوالي يقول: أنا رجلٌ غريب عن هذا البلد، وفقير ليس عندي من حطام الدنيا شي‏ء، فإن كنت تحبّ الضيف فأنا ضيفك هذه الليلة فقال له: ياأخي الضيف حبيب اللَّه وهو هديّة اللَّه لعباده فمرحباً بك تفضّل.

فدخل حتى إذا استقرّ به الجلوس جاء أبو العلى ومعه طبق فيه خبز وابريق من الماء وضعه أمامه وقال: الضيف يأتي ومعه رزقه، فأكل الوالي وتحادثا ساعة ثمّ قام أبو العلى ودلّ ضيفه على فراشه لينام، وفعلاً تمدّد الوالي على الفراش ولكنّهُ لم ينم، وعاد أبو العلى إلى عمله ومناجاته،

٢٤٢

لم تمض مدّة طويلة حتى قام الوالي من فراشه وقال: أخبرنى ما هذا الذي تعمل وما سرّ هذه المناجاة؟ فأخبره أبو العلى بحاله وطلبه العلم والمنام الذي رآه، فتعجب الوالي وقال في نفسه: الواجب عليّ أن أُخْرِجَ هذا الرجل الصالح من حال الفقر الذي هو فيه، وعندما أصبح الصباح ودّعه وخرج من بيته، وذهب إلى مقرّ الوالي في القصر، فأمر طبّاخه ان يعدّ طعاماً مهمّاً ويأتي به إليه قبل وقت الإفطار، وفعلاً حُمل الطعام إلى الوالي فعندما رفع الطبق واذا هو بطعامٍ من اطعمة الملوك والأمراء، فأخرج الوالي ما جادت به نفسه من نفيس الجواهر والدرر ودسّه في الطعام وأرجع الغطاء، وأمر أن يحمل إلى بيت الرجل الفقير (أبو العلى)، وفعلاً جاء به الخادم وطرق عليه الباب فلمّا فتح أبو العلى الباب ناولَه الخادم الطعام وانصرف، فدخل أبو العلى مع الطعام إلى داخل المنزل وكشف الغطاء واذا برائحة الطعام اللذيذ الذي لم يأكل مثله قط، فهشّت نفسه ومالت إلى الطعام، فالتفت إلى نفسه وقال: إذا أكلتُ هذا الطعام فسوف لن أجد للخبز الخالي الذي آكله كلّ يوم لذةً ولا طعماً، ولذا قف امام مشتهيات نفسك ولا تعطيها كلّ ما تريد وإلّا أخذتك يميناً وشمالاً حيث المشتهيات والمكروهات وما لا تحمد عاقبته، فأنزل هذا الطعام منزلة العدم ولا تأكل منه شيئاً ثم قال: سأذهب به إلى فلان التاجر حيث وصل منزله هذه الليلة ولم يأكل شيئاً إلى الآن، وفعلاً قام ومعه ذلك الطعام وذهب إلى بيت التاجر وطرق عليه الباب وسلّم وبارك له سلامة الوصول، وقدّم له الطعام وعاد إلى بيته، فرفع التاجر الطبق واذا بطعام حسن لذيذ مدّ يده فأكل حتى وصل إلى الجواهر والدّرر فأخرجها متعجباً

٢٤٣

وعرف قيمتها العالية فقال: هذا رزقٌ ساقه اللَّه لي وهو يكفيني إلى آخر عمري، وسوف لا احتاج بعد هذا المال إلى السفر والتجارة، بل سأتفرّغ لعبادة ربي تبارك وتعالى.

وعاد أبو العلى إلى عمله ومناجاته، ومرّ الوالي على بيته في تلك الليلة فرآه على حاله لم يتغيّر منه شي‏ء، فطرق عليه الباب وقال له: وصل اليك طعام حسن أكلت منه؟ قال: لا ولكني حملته إلى رجل تاجر وصل في هذه الليلة من السفر إلى أهله عملاً بهذه الآية الكريمة( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (١) فعملت بهذه الآية وآثرته على نفسي، فكان من نصيبه لا من نصيبي، فتعجّب الوالي ممّا سمع وتيقّن أنّ الأرزاق بيد اللَّه تعالى، قدّرها بحكمته، وقسّمها بعدله، ثمّ قام وودعه وانصرف(٢) .

وفي الديوان المنسوب:

رضيتُ بما قَسَمَ اللَّهُ لي

وفوّضتُ أمري إلى خالقي

كما أحسنَ اللَّهُ فيما مضى

كذلك يُحسنُ فيما بقي(٣)

البيت الثالث: ذكر فيه الامامُ(ع) ثوابَ الآخرة وقال إنّها أعلى من ثواب الدّنيا وأنبل وأبقى.

لا شك أن الدنيا مزرعة الآخرة - كما في الحديث الشريف - فيحمل

____________________

(١) سورة الحشر: الآية ٩.

(٢) جامع التمثيل فارسي بتصرّف.

(٣) الديوان المنسوب للامام أمير المؤمنين(ع): ص٩٠.

٢٤٤

الإنسان منها ما يدّخره للآخرة، كما لا شك أنها العونُ بل نعم العون - كما في الحديث الشريف - للآخرة حيث منها يتزوّد المؤمن الأعمال الصالحة، والعبادات الرابحة، وهي - أي الدنيا - من جهة اُخرى بلاء ومحنة وفتنة، حيث حفّت بالمكاره والشهوات، فلا يعصي الإنسان ربّه إلّا فيها ففي الحديث الشريف: (من هوان الدنيا على اللَّه أنّه لا يُعصى إلّا فيها، ولا يُنال ما عنده إلّا بتركه).

ولكن ما هو المعيار الذي به نميّز الدنيا الممدوحة من المذمومة، يقول المرحوم السيد عبداللَّه شبر في كتابه (الأخلاق):

إنّ من كان مشغولاً بالعلم والعبادة والحج والصدقات وأداء الزكوات وقضاء الحوائج، وزيارة الأخوان، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وحضور الجمعة والجماعات والمواظبة على النوافل وسائر الطاعات قد يصدق عليه أنّه طالبُ الدنيا وأنّ أعماله مردودة غير مقبوله وذلك لأنه لم يَقْصُدْ بها وجه اللَّه تعالى، وربّ رجلٍ كثير المال والخدم والحشم، حسن الطعام والمشرب، وجيّد الزي والملبس ذي ديار وسيعة وعمارات عالية ونساء متعدّدة ومراكب حسنة، وهو من أهل الآخرة واعماله مقبولة وسعيه مشكور لأنه قصد بذلك وجه اللَّه تعالى، وأراد رضاه.

اذن صار بيدنا المعيار لمعرفة الدنيا الممدوحة والمذمومة وهو:

الدنيا - المذمومة - عبارة عن كلّ شي‏ءٍ يوجب البعد عن اللَّه وان كان صلاة وصوماً وحجاً وجهاداً وانفاقاً وزهداً وقناعة، والآخرة - الدنيا الممدوحة - كل شي‏ء يوجب القرب من اللَّه تعالى وان كان مالاً ونساءاً وخدماً وحشماً(١) .

____________________

(١) الأخلاق للمرحوم السيد عبداللَّه شبر: ص١٧٨ - ١٧٩ بتصرّف.

٢٤٥

وفي الرواية عن الامام محمد الباقر(ع) قال: (مَن طلب الرزقَ في الدنيا استعفافاً عن الناس وسعياً على أهله وتعطّفاً على جاره لقى اللَّه عزوجلّ ووجهُهُ مثلُ القمر ليلة البدر).

هذا الحديث الشريف يؤكد الحقيقة التالية: وهي أنّ طلب الدنيا - الرزق - لحفظ ماء الوجه أو التوسعة على العيال، وصلة الرحم والجيران، هو من أعمال الآخرة وصاحبها مأجور مثاب له عند اللَّه تعالى الأجر الجزيل، وفي هذا المعنى جاءت الرواية عن الامام الصادق(ع) حيث قال له رجل: واللَّه إنّا لنطلب الدنيا ونحبّ أن نؤتاها فقال له الامام(ع): (تحبّ ان تصنع بها ماذا؟) قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها وأتصدّق بها وأحجّ وأعتمر فقال(ع): (ليس هذا طلبُ الدنيا هذا طلب الآخرة)(١) .

ولنختم هذا الباب بحديث عن النبيّ(ص) حيث يذكر فيه ثواب الدنيا والآخرة فيقول: (ما الدنيا في الآخرة إلّا كَمِثْلِ ما يجعل أحدكم اصبعَهُ في اليم - البحر - فلينظر بم يرجع إليه من الأصل)(٢) .

يعني ان الدنيا هي قطرة والآخرة هي البحر العميق الغير متناهي، فليت شعري أي عاقل يترك هذا الثواب العظيم الدائم، ويأخذ بالحقير الزائل مع ما فيه من المحن والبلوى.

____________________

(١) الأخلاق للمرحوم السيد عبداللَّه شبّر: ص١٨٠.

(٢) المصدر السابق: ص١٨٤.

٢٤٦

البيت الرّابع:

وإن كانت الأموالُ للتّركِ جمعُها

فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخَلُ

ذكر فيه الامام(ع) الأموال وقال إنها تبقى ويموتُ صاحبُها، فاذا كان الحال كذلك، فلماذا يبخل الإنسان ببذل هذا المال الزائل في وجوه الخير الباقية!!

وما أشار له الامام الحسين(ع) هو عينُ الحق حيث ان المال بيد الإنسان الغني عارية يتصرّف به زماناً ثمّ يرحل عنه ويتركه فيذهب إلى غيره وهكذا قال الشاعر:

إنما الدّنيا عواري

والعواري مستَردَّة

شدّةٌ بعد رخاءٍ

ورخاءٌ بعد شدَّة

وباستطاعة المرء الغني ان يشتري الجنّة الباقية بالأموال الفانية، ويكسب رضا اللَّه القدير بالمال القليل الحقير، يحكى أنّ عبداللَّه بن المبارك كان ولعاً بالحجّ شديد المداومة عليه في كلّ عام قال: ففي بعض السنين لما قرب التأهّبُ للحجّ تأهّبتُ انا أيضاً، فقمتُ وشددتُ على وسطي كيساً فيه خمسمائة دينار وخرجتُ إلى سوق الإبل لأشتري جمالاً للحج فلم أرَ ما يصلح للطريق فرجعت إلى منزلي فرأيت امرأة جالسة على المزبلة وقد أخذت دجاجة ميّتة وهي تنتف ريشها من حيث لا يشعر بها أحد، فدنوت منها وقلت: لِمَ تفعلين هكذا يا أمةَ اللَّه؟ فقالت: امضِ لشأنك واتركني فقلت:

٢٤٧

سألتك باللَّه إلّا ما أعلمتيني بحالك، قالت: اذ ناشدتني باللَّه اعلم أني امرأة علوية من بنات الامام علي(ع) ولي ثلاث بنات علويات صغار وقد مات زوجي ولنا ثلاث ليال بأيّامهنّ لم نأكل شيئاً وليس عندنا شي‏ء، وقد خرجتُ عنهنّ وهنّ يتضوّرن جوعاً لألتمس لهنّ شيئاً فلم يقع في يدي غير هذه الدجاجة الميّتة فأردت اصلاحها لنأكلها فقد حلّت لنا الميتة، قال: فلمّا سمعتُ ما قالت وقف شعري واقشعرّ جلدي وقلت في نفسي: يابن المبارك وأيُّ حجِّ أعظمُ من هذا؟ فقلت: أيتها العلوية انّ هذه الدجاجة حُرّمت عليكم إفتحي حجرك حتى أعطيك شيئاً من النفقة ثمّ فتحت الكيس وصببتُ الدنانير في حجرها بأجمعها، فقامت مسرورة عجلة ثمّ دعت لي خيراً وانصرفت، فرجعتُ إلى منزلي وقد نزع اللَّه ارادة الحج من قلبي فلزمت منزلي واشتغلت بالعبادة حتى خرجت قوافلُ الحج متوجّهةً إلى مكة فودّعتهم مع الناس، فلمّا عاد الحجّاج خرجت أيضاً لإستقبالهم فصافحتهم، وكنت لا ألقى أحداً فأقول له: جعل اللَّه حجّك مبروراً، وسعيك مشكورا حتى يقول: يابن المبارك الم تكن معنا ألم أشاهدك في الطواف، وآخر يقول الم أشاهدك في منى، وآخر يقول: ألم أشاهدك في عرفات وهكذا فتعجّبت من ذلك غاية التعجّب، فلمّا رجعت إلى منزلي وبتّ تلك الليلة رأيت في منامي رسول اللَّه(ص) وهو يقول لي: يابن المبارك انّك لما أعطيت الدنانير لإبنتنا وفرّجت كربها واصلحت شأنها وشأن ايتامها بعث اللَّه ملكاً على صورتك فهو يحجّ في كلّ عام، ويجعل ثواب الحج لك إلى يوم القيامة، فما عليك ان حججتَ بعد أو لم تحج فإنّ ذلك الملك لا يترك الحج عنك إلى يوم القيامة(١) .

____________________

(١) كشكول البحراني ج٢ ص٢٨١.

٢٤٨

البيت الخامس:

وإن تكن الأبدانُ للموتِ اُنشئت

فقتلُ امرئٍ بالسيف في اللَّهِ أفضل

ذكر فيه(ع) الموت وقال إنّ النهاية الحتمية لكلّ انسان هي الموت، وخروج الإنسان من عالم الدنيا إلى البرزخ، إلّا انّ القتلَ في سبيل اللَّه تعالى هو أفضل أنواع الموت.

وفي حتمية الموت صرّح القرآن الكريم وذلك كقوله تعالى:( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ ) (١) وقوله تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) (٢) وقوله تعالى:( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٣) .

وأمّا الأحاديث الشريفة الواردة عن النبي وآله المعصومين صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين فقد كان الكثيرُ منها يتحدث عن الموت وحتميته، فعن‏النبي(ص) قال: (إنّ روح القدس نفثَ في رُوْعي: أحبب ما أحببت فإنّك مفارقُه، وعِش ما شئت فإنك ميّت، واعمل ما شئت فإنّك مجزى به)(٤) .

____________________

(١) الرحمن: الآية ٢٦ - ٢٧.

(٢) العنكبوت: الآية ٥٧.

(٣) الجمعة: الآية ٨.

(٤) أعلام الدين في صفات المؤمنين للديلمي: ص٢٤٢.

٢٤٩

ومن خطبة الامام الحسين(ع) قبل خروجه من مكة إلى العراق قال: (خُطّ الموتُ على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة).

وفي الديوان المنسوب لأمير المؤمنين(ع):

الموتُ لا والداً يُبقي ولا ولداً

هذا السّبيلُ إلى أن لا ترى أحداً

كان النبيُّ ولم يَخْلُد لأمّتِهِ

لو خلّدَ اللَّهُ خلقاً قبلَهُ خَلَدا

للموتِ فينا سهامٌ غيرُ خاطئةٍ

من فاتهُ اليومَ سهمٌ لم يفُتهُ غدا(١)

وكتب رجلُ لأحد الزهّاد هذا البيت وأراد منه الجواب عليه:

الموتُ بابٌ وكلُّ الناسِ يدخلُهُ

يا ليتَ شعري بعد الباب ما الدّارُ

فأجابه بهذين البيتين:

الدّارُ جنَّةُ عدنٍ إن عملت بما

يُرضي الإلهَ وأن خالفتَ فالنّارُ

هما محلّانِ ما للنّاسِ غيرُهما

فانظر لنفسِكَ أيَّ الدار تختارُ(٢)

أقول: إذا كان الموت حتماً في رقاب العباد المخلوقين، فإنّ أشرفه وأفضله القتلُ في سبيل اللَّه تعالى كما قال الامام الحسين(ع) وفعل حيث

____________________

(١) الديوان المنسوب: ص٤٨.

(٢) نور الحقيقة: ص٢٨٣.

٢٥٠

قتل في سبيل اللَّه شهيداً بل وسيداً للشهداء على الإطلاق، إلّا أنّ الذي يُقرح القلبَ، ويصدعُ الفؤادَ هو بقاؤُهُ مع أهل بيته وأصحابه ثلاثة أيام على أرض المعركة من غير دفن. قال السيد المقرّم في المقتل: وفي اليوم الثالث عشر من المحرّم أقبل زينُ العابدين(ع) لدفن أبيه الشهيد(ع) لأنّ الإمامَ لا يلي أمرَهُ إلّا امامٌ مثلُه(١) ، ولما اقبل الامام السجّاد(ع) وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى متحيّرين لا يدرون ما يصنعون، ولم يهتدوا إلى معرفتهم وقد فرّق القومُ بين رؤوسهم وابدانهم، فأخبرهم(ع) عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة واوقفهم على اسمائهم كما عرّفهم بالهاشميين من الأصحاب فارتفع البكاء والعويل، وسالت الدّموعُ منهم كلّ مسيل ونشرت الأسديّات الشعور ولطمن الخدود، ثمّ مشى الامام زين العابدين(ع) إلى جسدِ أبيه واعتنقه وبكى بكاءاً عالياً وأتى إلى موضع القبر ورفع قليلاً من التراب فبان قبرٌ محفور وضريحٌ مشقوق فبسط يديه تحت ظهره وقال: (بسم اللَّه وباللَّه وفي سبيل اللَّه وعلى ملّة رسول اللَّه صدق اللَّهُ ورسوله ما شاء لا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العظيم) وانزله وحده ولم يشاركه بنو أسد فيه وقال لهم: (إنّ معي من يعينني)، ولما اقرّه في لحدِهِ وضع خدّه على منحرِه الشريف قائلاً: (طوبى لأرضٍ تضمّنت جسدك الطاهر، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة والآخرة بنورك مشرقة، أما الليلُ فمسهّد والحزنُ سرمد حتى يختار اللَّه لأهل بيتك دارَك التي انت بها مقيم وعليك مني السلام يابن رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته)(٢) .

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص٤١٤ عن اثبات الوصيّة للمسعودي.

(٢) المصدر نفسه: ص٤١٦.

٢٥١

سمعتُ بعض الرّاثين يقول: عندما انزل الامام زين العابدين(ع) جسدَ أبيه في القبر خرج قبل ان يهيل عليه التراب منحني الظهر باكياً حزيناً حتى جلس على الأرض ورفع منها شيئاً قال بعض بني اسد: حققنا النظر واذا به رفع اصبع الحسين المقطوع ليرجعه إلى جسده الشريف:

يحفّار گبره زين وسعه

ولمّن تنزله لتضعضعة

من حيث كلّه عظام گطعة

يخفاك ضلع أمه البضعة

ضلعه الأصل وحسين فرعه

ودوّر على مگطوع اصبعه

باللَّه عليك الكفة رجعة

ثمّ مشى الامام زين العابدين(ع) إلى عمّه العباس(ع) فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين اطباق السماء، وابكت الحور في الجنان، فوقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلاً: (على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم وعيك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة اللَّه وبركاته)، ثم حمله وحده وقال: (إنّ معي من يعينني)(١) .

سمعت بعض الراثين يقول: بعد ان دفن الامام زين العابدين(ع) أباه سيّد الشهداء(ع) جاءه بعض بني اسد فقال: انّ على الشريعة جسداً كلّما رفعنا منه جانباً سقط منه جانب آخر فجاء مسرعاً إلى مصرع عمّه أبي ‏الفضل:

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص٤١٧.

٢٥٢

إجة يبكي ويصيح بصوت يا عم

عگب عينك علينة تراكم الهم

شافة مگطعينة وسابح بدم

لا يسرة ولا يمنة ولا راس

* * *

هوه فوگه يشم نحره ويحاكيه

ويهل دموع عينة ويصفگ ايديه

(هذا الخفت منه طحت بيه)

على الدنيا العفا بعدك يعباس

* * *

يقولون: ثمّ انه(ع) أراد ان ينصرف بعد ان دفن الشهداء فقال له بعض بني أسد: بالذي أكرمك بهذه الكرامة من أنت؟ فأرخى لثامَه وبان وجهُهُ الكريم فوقع بنو أسد على أقدامه وهم يعزّونه بأبيه وأعمامه واخوانه وشيعته وهو يبكي ولسان الحال:

أبكيهُمُ بدموعٍ ليس تنقطعُ

مدى الزّمانِ ولا اذ ذاك أرتدِعُ

يا لائمي لا تلمني كيف أمتنعُ

نذرٌ عليَّ لئن عادوا وإن رجعوا

لأزرعنّ طريقَ الطفّ ريحانا

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٢٥٣

الخامس والعشرون من محرّم ‏المجلس الرابع والعشرون

شهادة الإمام زين العابدين(ع)

بأبي ابيَّ الضّيم لا يُعطي العدى

حذرَ المنية منهُ فضلَ قيادِ

بأبي فريداً أسلمَتهُ يدُ الرّدى

في دار غربته لجمع أعادي

حتى هوى ثبت الجنان إلى الثرى

من فوق مفتول الذّراع جوادِ

يا رأسَ مفترسِ الضياغم في الوغى

كيف انثنيتَ فريسةَ الأوغادِ

ما أن بقيتَ من الهوان على الثرى

ملقىً ثلاثاً في ربىً ووهادِ

إلّا لكي تقضي عليك صلاتَها

زمرُ الملائكِ فوقَ سبعِ شدادِ

لهفي لرأسك وهو يُرفعُ مشرقاً

كالبدر فوق الذّابل الميّادِ

يتلو الكتابَ وما سمعت بواعظٍ

اتخذَ القنا بدلاً عن الأعوادِ

والهفتاهُ على خُزانةِ علمك الـ

سجّادِ وهو يُقادُ في الأصفادِ

ما لي أراكَ ودمعُ عينك جامدٌ

أو ما سمعت بمحنةِ السجّادِ

ويصيحُ واذلاهُ أينَ عشيرتي

وسراةُ قومي أين أهل ودادِ

منهم خلت تلك الدّيارُ وبعدهم

نَعَبَ الغرابُ بفرقتي وبعادِ

أترى يعودُ لنا الزّمانُ بقربِهم

هيهاتَ ما للقربِ من ميعادِ(١)

____________________

(١) هذه القصيدة العصماء للمرحوم الشيخ أحمد النحوي.

قال السيد الأمين١ في (أعيان الشيعة) المجلد الثالث ص٤٦:

هو أبو المعالي أحمد بن علي بن قدامة قاضي الأنبار النحوي شيخٌ فاضل فقيه جليل يروي عن المفيد والمرتضى والرّضي، وهو من مشايخ الإجازة، وله من الكتب كتاب في علم القوافي، وكتاب في النحو، توفي في شهر شوال سنة ٤٨٦ه.

٢٥٤

سمعنه العليل يعالجونه

صبح ومسه يتفگدونه

وعن حاله دايم ينشدونه

مشفنه العليل يگيّدونه

وبحبال خشنه يربطونه

ومن فوگ ناگة يسيرونه

ذاك الإمام التّعرفونه

زين العباد التودّونه

* * *

ولد الامام أبوالحسن علي بن الحسين(ع) زين العابدين بالمدينة يوم الخميس الخامس من شعبان سنة ثمان وثلاثين من الهجرة في ايّام جده امير المؤمنين(ع)، وذلك قبل شهادته بسنتين(١) .

أمّه السيدة شاه زنان بنت كسرى يزدجرد بن شهريار بن كسرى ويقال إنَّ اسمها (شهربانو)، وكان اميرُ المؤمنين(ع) ولي حُريث بن جابر الحنفي جانباً من المشرق فبعث إليه ابنتي يزدجرد بن شهريار فنحلَ ابنه الحسين(ع) شاه زنان منهما فأولدها زين العابدين(ع)، ونحلَ الاُخرى محمّد بن أبي بكر فولدت له القاسم بن محمد بن أبي بكر، فهما ابنا خالة(٢) .

روي عن النبيّ(ص) قال: (للَّهِ من عباده خيرتان، فخيرته من العرب قريش، ومن العجم فارس) وكان الامام عليّ بن الحسين(ع) يقول: (أنا ابنُ الخيرتين) لأنّ جدّه رسول اللَّه(ص) وأمّه بنت يزدجرد الملك، وأنشأ أبوالأسود الدؤلي:

____________________

(١) كشف الغمة في معرفة الأئمة ج٢ ص٦١٩، والإرشاد للشيخ المفيد: ص٢٥٣.

(٢) الإرشاد للشيخ المفيد: ص٢٥٣.

٢٥٥

وإنّ غلاماً بين كسرى وهاشمٍ لأكرمُ من نيطت عليه التمائمُ(١)

كنيتُهُ: فالمشهور أبوالحسن، ويقال أبومحمد.

وامّا لقبه: فكان له القاب كثيرة كلّها تطلق عليه، أشهرُها زين العابدين، وسيّدُ العابدين، والزّكي، والأمين، وذو الثفنات(*) .

واما مناقبُهُ ومزاياه وصفاته فكثيرة جداً منها:

عن طاووس الفقيه اليماني قال: رأيتُه - اي الامام السّجاد(ع) - يطوف من العشاء إلى السّحر ويتعبّد، فلمّا لم يرَ أحداً رمقَ السماءَ بطرفِه وقال: إلهي غارت نجومُ سماواتك، وهجعت عيونُ أنامِك، وأبوابُكَ مفتّحاتٌ للسائلين، جئتك لتغفرَ لي وترحمني وتريني وجهَ جدّي محمّد(ص) في عرصات القيامة، ثم بكى وقال: وعزّتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتُك اذ عصيتُك وانا بك شاكٌّ ولا بنكالِكَ جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض ولكن سوّلت لي نفسي، وأعانني على ذلك سترُك المرخى عليَّ، فالآن من عذابك من يستنفذني؟ وبحبل مَن أعتصمُ ان قطعتَ حبلَك عنّي؟ فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يديك اذ قيلَ للمخفّين جوزوا، وللمثقلين حطّوا، أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آنَ لي أن أستحي من ربّي؟ ثمّ بكى(ع) وهو يقول:

___________________

(١) بحار الأنوار ج٤٦ ص٣.

(*) ذو الثّفنات: واحدها ثفنة، وهو ما يلامس الأرض من الأعضاء كالركبتين والجبهة، فأطلقوا هذا على الامام زين العابدين(ع) حتى صار لقباً له، وذلك لكثرةِ عبادتِه وسجودِه بحيث كان الموكّل يقصّ الجلد الغليظ من جبهتِه وركبتيه في السنة مرّتين.

٢٥٦

أتُحرقني بالنار يا غايةَ المنى

فأين رجائي ثمّ أين محبّتي

أتيتُ بأعمالٍ قباحٍ زريّةٍ وما

في الورى خلقٌ جنى كجنايتي

ثمّ بكى وقال: (سبحانك تُعصى كأنك لا تُرى، وتحلُم كأنك لم تُعصَ، تتودّد إلى خلقك بحسن الصنيع كأنّ بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيّدي الغنيّ عنهم)، ثمّ خرّ إلى الأرض ساجداً.

قال طاووس: فدنوت منه، ورفعت رأسه ووضعتُه في حجري وبكيت حتى جرت دموعي على خدِّه، فاستوى جالساً وقال: (مَن ذا الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟) فقلت: أنا طاووس يابن رسول اللَّه ما هذا الجزعُ والفزع؟ ونحن يلزمُنا أن نفعل مثلَ هذا ونحنُ عاصون جانون، أبوك الحسين بن علي وأمّك فاطمة الزهراء وجدّك رسول اللَّه(ص) قال: فالتفت إليَّ وقال: (هيهاتَ هيهات يا طاووس دع عنّي حديثَ أبي وأمّي وجدّي، خلق اللَّه الجنّة لمن أطاعَه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاهُ ولو كان ولداً قرشياً، أما سمعت قوله تعالى:( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) (١) واللَّهِ لا ينفعُكَ غداً إلّا تقدمةٌ تقدّمها من عملٍ صالح)(٢) .

قال الشاعر:

____________________

(١) المؤمنون: الآية ١٠١.

(٢) بحار الأنوار ج٤٦ ص٨١.

٢٥٧

لعمرُكَ ما الإنسانُ إلّا ابنُ دينه

فلا تترك التّقوى اتكالاً على النسب

فقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارسٍ

وقد وضعَ الشركُ النسيبَ أبا لهب

وفي سنةٍ حجّ هشام بن عبدالملك فلم يقدر على استلام الحجر الأسود لكثرة الزّحام، فنُصبَ له منبرٌ فجلس عليه وأطاف به أهلُ الشام، فبينما هو كذلك اذ اقبلَ عليّ بن الحسين(ع) وعليه إزارٌ ورداء، من أحسنِ الناس وجهاً، وأطيبهم رائحة، بين عينيه أثرُ السجود، فجعل يطوف فاذا بلغ إلى موضع الحجر الأسود تنحى الناس عنه هيبةً له ليستلمه، فقال رجلٌ شامي لهشام: مَن هذا يا امير؟ فقال لا أعرفُهُ، قال هذا لئلا يرغب أهل الشام فيه، وكان الفرزدقُ حاضراً فقال: لكني أنا أعرفُه فقال الشامي: من هو يا أبافراس؟ فقال مرتجلاً:

يا سائلي أين حلَّ الجودُ والكرمُ

عندي جوابٌ إذا طلّابُهُ قدّموا

هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَهُ

والبيتُ يعرفُهُ والحِلُّ والحرَمُ

هذا ابنُ خيرِ عبادِ اللَّهِ كلِّهُمُ

هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلَمُ

هذا عليٌّ رسولُ اللَّهِ والدُهُ

أمست بنورِ هداهُ تهتدي الأمَمُ

هذا ابنُ سيّدةِ النسوان فاطمةٍ

وابنُ الوصيِّ الذي في سيفه نَقَمُ

اذا رأتهُ قريشٌ قال قائلُها

الى مكارمِ هذا ينتهي =الكرمُ

وليس قولُك من هذا بضائرِهِ

العُربُ تعرفُ من أنكرتَ والعجَمُ

من معشرٍ حبُّهمُ دينٌ وبغضُهُمُ

كفرٌ وقربُهُمْ منجىً ومعتصَمُ

مقدّمٌ بعد ذكر اللَّهِ ذكرُهُمُ

في كلّ فرضٍ ومختومٌ به الكَلِمُ

إن عُدُّ أهلُ التّقى كانوا أَئمَّتَهُمْ

او قيل مَن خيرُ اهل الأرضِ قيل هُمُ

٢٥٨

يُستدفعُ السوءُ والبلوى بحبِّهِمُ

ويُستزادُ بهِ الإحسانُ والنِّعَمُ

ما قال (ل) قطُّ إلّا في تشهُّدِهِ

لولا التشهّدُ كانت لاؤُهُ نعَمُ

لو يعلمُ الرّكنُ من قد جاءَ يلثمُهُ

لخرَّ يلثِمُ منهُ ما وطى القدَمُ

إلى آخر القصيدة العصماء هذه، فغضب هشام ومنع جائزته وقال له: ألا قلت فينا مثلَها قال: هاتِ جدّاً كجدّه، وأباً كأبيه، وأمّاً كأمّه حتى أقول فيكم مثلَها، فحبسوه بعُسفان بين مكّة والمدينة، فبلغ ذلك الامام عليَّ بن الحسين(ع) فبعث إليه باثني عشر ألف درهم وقال: (اعذرنا ياأبافراس فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به)، فردّها الفرزدق وقال: ياابن رسول اللَّه(ص) ما قلتُ الذي قلت إلّا غضباً للَّه ولرسول، وما كنت لأرزق عليه شيئاً، فردّها إليه الامام(ع) وقال: (بحقي عليك لما قبِلتَها فقد رأى اللَّه مكانك وعلِمَ نيّتك فقبله).

وجعل الفرزدق يهجو هشام بن عبدالملك وهو في الحبس، فكان ممّا هجاه به قوله:

أيحبسُني بين المدينةِ والتي

اليها قلوبُ الناسِ يهوى منيبُها

يقلّبُ رأساً لم يكن رأسَ سيّدٍ

وعيناً له حولاءَ بادٍ عيوبُها

فاُخبر هشام بذلك فأخرجه من الحبس(١) .

وممّا روي عن الإمام زين العابدين(ع) من الكلمات الشريفة:

(مَن كرُمت عليه نفسُهُ هانت عليه الدّنيا، وفي نسخة - هانت عليه شهواتُه)(٢) .

____________________

(١) بحار الأنوار ج٤٦ ص١٢٤.

(٢) البحار ج٧٨ ص١٣٥.

٢٥٩

وقال(ع): (لا يقلُّ عملٌ مع تقوى، وكيف يَقِلُّ ما يُتقبَّلُ)(١) .

وقال(ع): (المؤمنُ من دعائه على ثلاث، إمّا أن يُدّخرَ له، وإمّا أن يُعجّلَ له، وإمّا أن يُدفعَ عنه بلاءاً يُريدُ أن يصيبَهُ)(٢) .

وقال(ع): (ما استغنى أحُدٌ باللَّهِ إلا افتقرَ الناسُ إليه)(٣) .

وجاء رجلٌ إليه يشكو حالَه فقال(ع): (مسكينٌ ابنُ آدم له في كلّ يومٍ ثلاثُ مصائب لا يعتَبِرُ بواحدة منهنّ ولو اعتبر بواحدةٍ منهنّ لهانت عليه المصائبُ وأمرُ الدُّنيا، فأمّا المصيبةُ الأولى فاليومُ الذي ينقصُ من عمُرِهِ قال: وإن أصابَهُ نقصانٌ في مالِهِ اغتمَّ به، والدّرهَمُ يخلفُ عنه والعمرُ لا يردُّهُ شي‏ء، والثانية أنه يستوفي رزقَهُ فإن كان حلالاً حوسبَ عليه، وإن كان حراماً عوقب عليه، والثالثةُ أعظمُ من ذلك، قيل: وما هي؟ قال: ما من يومٍ يُمسي إلّا وقد دنا من القبرِ مرحله لا يدري أعلى الجنةِ أم على النار)(٤) .

وله (ع) كلمةٌ ذهبيّة خالدة قالها بعد ان حضرته المنية، وذلك بعد أن سمّه هشام بن عبدالملك وكان ذلك في ملكِ الوليد بن عبدالملك، عن الامام أبي جعفر الباقر(ع) قال: (لما حضرت أبي الوفاة ضمّني إلى صدره وقال: يابُنيّ أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه أوصاه

____________________

(١) البحار ج٧٨ ص١٣٥.

(٢) البحار ج٧٨ ص١٣٨.

(٣) البحار ج٧٨ ص١٦١.

(٤) البحار ج٧٨ ص١٦٠.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343