المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة11%

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 343

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45037 / تحميل: 4732
الحجم الحجم الحجم
المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

قيل: هم محصورون في المسجد فقال: لا واللَّهِ ما هذا لمن بايعنا بعذر؟ ثمّ تحرّك زيد بمن معه حتى وصل إلى (جبانة الصيّادين) وبها خمسمائة من أهل الشام فحمل عليهم زيد في أصحابه فهزمهم ثمّ مضى حتى انتهى إلى (الكناسة) فحمل على جماعةٍ من أهل الشام فهزمهم، ثمّ إنّ زيد(ع) أخذ ذات اليمين على (مصلّى خالد بن عبداللَّه) حتى دخل وسط الكوفة فطلع عليهم أهل الشام فلمّا رآهم زيد دخل ومن معَهُ في الأزقة فالتفت زيد إلى نصر بن خزيمة قائلاً له: أتخاف أهل الكوفة أن يكونوا فعلوها حسينية؟ قال: جعلني اللَّه فداك أمّا أنا فواللَّهِ لأضربنّ بسيفى هذا معك حتى أموت.

ثمّ خرج بهم زيد يقودهم نحو المسجد فخرج إليه عبيد اللَّه بن العباس الكندي في أهل الشام فالتقوا على باب (عمر بن سعد) فانهزم عبيداللَّه بن العباس وأصحابه وتبعهم زيد(ع) حتى انتهوا إلى باب الفيل ثمّ بعث يوسف ابن عمر (وهو والي‏العراق من قبل بني أمية) الريان بن سلمة في خيل إلى دار الرزق فقاتلوا زيداً قتالاً شديداً، وسقط من أهل الشام جرحى كثيرة فرجع أهل الشام مساء الأربعاء وهم بأسوأ حال.

فلمّا كان غداة يوم الخميس دعى يوسف بن عمر العباسَ بن سعد المرّي صاحبَ شرطته وضمَّ إليه أهلَ الشام فسار بهم حتى انتهوا إلى زيد في دار الرزق، فخرج إليهم زيد(ع) وعلى مجنبته (على يمينه وشماله) نصر ابن خزيمة ومعاوية بن إسحاق فاقتتلوا قتالاً شديداً في المعركة وقتل فيها نصر بن خزيمة رحمه ‌الله تعالى.

قال سعيد بن خيثم: وكنا مع زيد في خمسمائة وأهلُ الشام اثنا عشر ألفاً

٢٨١

- وكان قد بايع زيداً أكثر من اثني عشر ألفاً فغدروا - إذ انفصل من أهل الشام رجلٌ على فرسٍ له وأخذ يشتم فاطمة الزهراء بنت رسول اللَّه(ص) وسمعه زيد فجعل يبكي حتى ابتلت لحيتُهُ وجعل يقول: أما أحدٌ يغضب لفاطمة بنت رسول اللَّه(ص)؟ أما أحدٌ يغضب للَّه؟ ثمّ تحوّل الشامي عن فرسه فركب بغلة قال: وكان الناس فرقتين نظاره ومقاتلة قال سعيد فجئت إلى رجلٍ فأخذتُ منه مشملاً(١) كان معه ثمّ استترت من خلف النظارة حتى إذا صرتُ من ورائه ضربت عنقه وأنا متمكنٌ منه بالمشمل فوقع رأسُهُ بين يدي بغلته ثمّ رميت جيفته - جثته - عن السرج فكبّر أصحاب زيد وحملوا فاستنقذوني من أيد الأعداء فأتيت زيد(ع) فجعل يقبّل بين عيني ويقول: أدركت واللَّه ثأرنا، أدركت واللَّهِ شرفَ الدنيا والآخرة وذخرها، قال: وجعلت خيل أهل الشام لا تثبت لخيلِ زيد بن علي(ع) فبعث العباس بن سعد إلى يوسف بن عمر يعلمه ما يلقى من الزيدية وسأله أن يبعث إليه النّاشبة(٢) ، فبعث إليه الرّماة فجعلوا يرمون أصحاب زيد، وقاتل معاوية بن إسحاق الأنصاري يومئذٍ قتالاً شديداً فقتل بين يدي زيد، وثبت زيد وأصحابه حتى إذا كان عند جنح الليل رُمي زيد(ع) بسهمٍ فأصاب جانب جبهتِهِ اليسرى فنزل السهم في الدّماغ فرجع ورجع أصحابُهُ، وما علم اهل الشام بإصابة زيد بل ظنّوا أن الذي أرجعهم هو الليل.

قال أبو مخنف: وأدخل زيد(ع) دور أرحب وشاكر، وجاءوا له

____________________

(١) المِشْمَل كمنبر سيفٌ قصير يتغطى بثوب / من الحاشية.

(٢) الناشبة: أصحاب النشاب من الرماة.

٢٨٢

بطبيب فقال له: إنك إن نزعت السهم من رأسك متّ قال زيد: الموت أيسرُ عليّ ممّا أنا فيه. قال: فأخذ الطبيبُ الكلبتين فانتزعه فمات صلوات اللَّه عليه قال القوم: أين ندفنُهُ؟ وأين نواريه؟ قال بعضهم: نلبسُهُ درعين ثمّ نلقيه في الماء وقال بعضهم: نحتزّ رأسَه ثمّ نلقيه بين القتلى وقال بعضهم بل نحمله إلى ساقيةٍ فندفنه فيها ثمّ نجري عليه الماء فقبلوا هذا الرّأي فحملوه ودفنوه وأجروا الماء عليه، وكان معهم عبد سندي فلمّا أصبح أتى الحكم بن الصلت فدلّهم على موضِعِ قبره فاستخرجوه، وقطعوا رأسَهُ وبعثوا به إلى الشام، وصلبوا زيداً (بالكناسة) بالكوفة وصُلِبَ معَهُ معاوية بن إسحاق، وزياد الهندي، ونصر بن خزيمة العبسي(١) .

أقول: لم يكن رأس زيد الشهيد أول رأسٍ من بني هاشم فصله بنو أمية وحملوه إلى الشام، بل فصلوا قبله رأس جدّه الحسين ورؤوس أهل بيته وأصحابه في كربلاء وحملوها إلى الشام.

قال السيد ابن طاووس في (الملهوف):

روى أن بعض التابعين لما شاهدَ رأس الحسين(ع) بالشام أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه، فلما وجدوه بعد أن فقدوه سألوه عن سبب ذلك فقال: ألا ترون ما نزل بنا ثمّ أنشأ يقول:

جاؤوا برأسِكَ يابن بنت

محمّدٍ مترمّلاً بدمائه ترميلا

وكأنما بك يابن بنت محمّد

قتلوا جهاراً عامدين رسولا

____________________

(١) مقاتل الطالبيين لأبي فرج الأصفهاني ص٩٢ - ٩٦ بتصرّف.

٢٨٣

قتلوك عطشاناً ولما يرقبوا

في قتلك التنزيلَ والتأويلا

ويكبّرون بأن قتلت وإنما

قتلوا بك التكبيرَ والتهليلا(١)

وما حال شقيقة الحسين أم المصائب زينب الكبرى:

يحسين راسك وين ما روح

يبرالي وعلى السمهري يلوح

والجسم بالطف عفته مطروح

تلعب عليه الخيل وتروح

وسافه يالمنجي فلك نوح

بالغاضريه تمسي مذبوح

وعليلك يفت الروح بالروح

اودمعه على الوجنات مسفوح

* * *

وسروا برأسِكَ في القنا وقلوبُها

تسمو إليه ووجدُها يضنيها

إِن أخّروهُ شجاهُ رؤيةُ حالِها

أو قدّموهُ فحالُهُ يشجيها

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

____________________

(١) الملهوف على قتلى الطفوف ص٢١١.

٢٨٤

الليلة السابعة المجلس الثالث

شهادة الإمام الحسن المجتبى(ع)

للَّهِ رزءٌ به كم للرشادِ هوى

ركنٌ وكم فيه بيتٌ للضلالِ بُني

رزءٌ به عرصاتُ العلم قد بقيت

دوارساً من فروضِ اللَّهِ والسُّنَنِ

لا غروَ إِن تكن الأكوانُ قد خلعت

ثوبَ ‏المحاسِن‏ من ‏حزنٍ ‏على الحَسنِ

فإنّه كانَ في الأشياءِ بهجتها

قد قامَ فيها مقامَ الرّوح في البدنِ

لم أنسَ يومَ عميد الدّينِ دس به

لجعدةَ السمَّ سرّاً عابدُ الوَثنِ

كيما تهدَّ من العليَا دعامَتها

فجرّعته الرّدى في جرعة اللبنِ

فقطعت كبداً ممّن غدا كبداً

لفاطمِ وحشاً من واحدِ الزَّمَنِ

حتى قضى بنقيعِ السُمِّ ممتثلاً

لأمر بارئهِ في السرِّ والعلنِ

من مبلغُ المصطفى والطهرَ فاطمة

أنّ الحسينَ دماً يبكي على الحسنِ

لهفى لزينبَ تدعوهُ ومقلتُها

عبرى وأدمعُها كالعارضِ الهَتُن(١)

____________________

(١) عينُ هَتُونُ الدّمع: تصبُّ الدّمع، والعارض: هو السّحاب.

والقصيدة من نظم المرحوم الشيخ عبدالحسين شكر العراقي(ره).

قال السيد الأمين(ره) في (أعيان الشيعة) المجلد ٧ ص٤٣٨:

آل شكر أسرةٌ قديمة من الأسر العربية الشهيرة بالنجف الأشرف عرفت باسم (شُكر) أحد أجوادها الأقدمين، وأصلهم من عرب الحجاز هبطوا العراق منذ قرونٍ بعيدة واستوطنوا قرية (جبة) القرية المعروفة من أعمال بغداد ذكرها الحموي وغيره من أرباب المعاجم، ثمّ انتقلوا إلى النجف الأشرف واتخذوها موطناً لهم.

وقال المرحوم السيد جواد شبر في (أدب الطف) الجزء ٧ ص١٨٧:

٢٨٥

ولسان حالها:

أويلي اعله خويه الحسن مسموم

منّه الكبد والگلب مهموم

راح اللي گضه العمر مظلوم

وظلينه‏بعده بسودالهدوم

نبكي وتسيل دموعنه دموم

وانعه وتجاوبني أم كلثوم

* * *

عن جنادة بن أبي أميّة قال: دخلت على (الامام) الحسن بن علي بن أبي‏طالب(ع) في مرضه‏الذي‏توفي‏فيه، وبين يديه طست‏يقذف‏عليه‏الدّم‏من السمّ الذي اسقاه معاوية، فقلت له عِظني ياابن رسول اللَّه قال: (نعم استعد لسفرك وحصّل زادك قبل حلولِ أجلك، واعلم أنك تطلبُ الدنيا والموت يطلبك، ولاتحمل همَّ يومِك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه)(١) .

قال الشيخ المفيد(ره) في (الإرشاد): الامام بعد أمير المؤمنين(ع) ابنه الحسن وابن سيّدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله الطاهرين.

وكنيتُهُ أبو محمّد ولد بالمدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث

____________________

هو الشيخ عبدالحسين بن الشيخ أحمد بن شكر النجفي، توفي بطهران سنة ١٢٨٥ه، وكان والده الشيخ أحمد من العلماء المصنّفين.

رثى أهل البيت: بقصائد كثيرة تزيد على الخمسين منها روضة مرتبة على الحروف، وشعره يرويه رجال المنبر الحسيني في‏المحافل الحسينية، وله في رثاء الامام الحسين(ع) هذه القصيدة وهي من أشهر قصائده ومطلعها:

البدارَ البدارَ آلَ نزارِ

قد فنيتم ما بين بيضِ الشفارِ

(١) الأنوار البهيّة: ص٧٩.

٢٨٦

من الهجرة، وجاءت به أمّه فاطمة(ع) إلى النبيّ(ص) فسمّاه حسناً وَعَقّ عنه كبشاً(١) .

هو الولد الأول من عليٍّ وفاطمة(ع)، والسبط المبارك لرسول اللَّه(ص)، وهو مع أخيه الحسين(ع) ريحانتاه من الدنيا ففي الخبر الشريف أنّ النبيّ(ص) قال: إِنّ ابنيّ هذين ريحانتاي من الدنيا(٢) .

وكان النبيّ(ص) يحبهما، ويوصي بحبهما، ويبشّر محبّهما بالجنة ففي الخبر الشريف أنّه(ص) أخذ بيد الحسن والحسين وقال: من أحبّني وأحبَّ هذين وأباهما وأمَّهما كان معي في درجتي في الجنة يوم القيامة.

وقد نظمه أبو الحسين في نظم الأخبار فقال:

أخذ النبيُّ يدَ الحسينِ وصنوِهِ

يوماً وقالَ وصَحبُهُ في مجمَع

مَن ودّني يا قومُ أو هذين أو

أبويهما فالخلدُ مسكنُهُ معي(٣)

وروي أن الامام الحسن(ع) كان يحضر مجلس رسول اللَّه(ص) وهو ابن سبع سنين، فيسمع الوحي فيحفظه، فيأتي إلى أمّه فيلقي إليها ما حفظه، وكان أمير المؤمنين(ع) كلّما دخل على الصديقة فاطمة(ع) وجد عندها علماً بالتنزيل، فسألها عن ذلك فقالت: من ولدك الحسن(ع)، (فأحبّ أمير المؤمنين(ع) أن يستمع إلى ولده وهو يقرأُ الوحي على أمّه) فتخفى يوماً في

____________________

(١) الإرشاد: ص١٨٧.

(٢) البحار ج٤٣ ص٢٧١ ح٣٨.

(٣) المصدر السابق.

٢٨٧

البيت وقد دخل الحسن(ع) وكان قد سمع الوحي فأراد أن يلقيه إليها فارتج(١) فعجبت أمّه من ذلك فقال: لا تعجبي يا اُماه قلّ بياني وكلّ لساني لعلّ سيّداً يرعاني، فخرج أمير المؤمنين(ع) وقبّله(٢) .

ومن مناقبه العالية كان(ع) أعبدَ أهل زمانه وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حجّ حجّ ماشياً وربما مشى حافياً، وكان(ع) إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممرّ على الصراطِ بكى، وإذا ذكر العرضَ على اللَّه تعالى شهق شهقةً يُغشى عليه منها، وكان(ع) إذا قام إلى الصلاة ترتعدُ فرائصُهُ بين يدي اللَّه تعالى.

وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطرابَ السّليم وسألَ اللَّهَ الجنة وتعوّذ به من النار، وكان لا يقرأ من كتاب اللَّه تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلّا قال لبيك اللهمّ لبيك، ولم يُرَ في شي‏ءٍ من أحوالِهِ إلّا ذاكراً للَّه سبحانه.

وكان(ع) أصدقَ الناس لهجةً، وكان إذا توضأ ارتعدت مفاصلُهُ واصفرّ لونه فقيل له في ذلك فقال: حقّ على كلّ من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفرّ لونُهُ وترتعد مفاصلُهُ، وكان إذا بلغ باب المسجد رفع رأسَهُ وقال: إلهي ضيفك ببابك يامحسنُ قد أتاك المسي‏ء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميلِ ما عندك ياكريم، وكان إذا فرغ من صلاة الفجر لم يتكلّم حتى تطلع الشمس.

ولقد حجّ عليه الصلاة والسلام خمساً وعشرين حجّةً ماشياً وإِنّ

____________________

(١) أي فاضطرب، من الحاشية.

(٣) الأنوار البهيّة للمرحوم الشيخ عباس القمي: ص٧٦.

٢٨٨

النجائب(١) لتقادُ معَهُ، وقاسم اللَّهَ تعالى مالَهُ مرّتين وروي ثلاث مرّات حتى انه كان يعطى من ماله نعلاًويمسك خفاً(٢) .

ومن حمله (ع) روي أنّ رجلاً من أهل الشام رآهُ راكباً فجعل يلعنُهُ، والامام الحسن (ع) لا يردّ عليه حتى فرغ الرجل عندها أقبل الامام الحسن(ع) وسلّم عليه وتبسّم في وجههِ وقال له: أيّها الشيخ أظنك غريباً ولعلّك شبّهت فلو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كانت لك حاجة قضيناها لك، لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً، فلمّا سمع الرجل الشامي كلام الامام(ع) بكى ثمّ قال: أشهد أنك خليفة اللَّه في أرضِهِ، اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته، كنت أنت وأبوك أبغضَ خلق اللَّه إليَّ، ثمّ حوّلَ رحله إلى الامام(ع) وكان ضيفَهُ إلى أن إِرتَحلَ وصار معتقداً لمحبتهم.

وروي أنه لما مات الامام الحسن(ع) أخرجوا جنازتَهُ فحمل مروان بن الحكم سريره - جنازته - فقال له الامام الحسين(ع): تحمل اليوم جنازته وكنتَ بالأمس تجرّعه الغيظ قال: نعم كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمُهُ الجبال(٣) .

____________________

(١) النجيب مؤنثه نجيبة وجمعها نجائب: وهي كلّ نفيسٍ في نوعه كالفرس والبعير. لسان العرب ج٦

(٢) الأنوار البهيّة ص٧٥. والخف دون النعل: فكان(ع) يعطي الأحسن من مالِهِ.

(٣) الأنوار البهيّة: ص٧٧-٧٦.

٢٨٩

ومن مواعظه وكلماته الشريفة ما رواه العلّامة المجلسي(ره) في البحار منها:

قوله(ع): (القريبُ من قرّبته المودّةُ وإِن بَعُدَ نسبُهُ، والبعيدُ من باعدتهُ المودّةُ وإن قربَ نسبُهُ)(١) .

وقوله(ع): (الفرصةُ سريعة الفوت بطيئةُ العود)(٢) .

وقيل له: كيف أصبحت ياابن رسول اللَّه(ص)؟ قال: (أصبحتُ ولي ربٌّ فوقي، والنارُ أمامي، والموتُ يطلبني، والحسابُ محدقٌ بي، وأنا مرتهنٌ بعملي لا أجدُ ما أحبّ ولا أدفعُ ما أكره، والأمورُ بيد غيري، فإن شاءَ عذّبني وإن شاءَ عفا عني، فأيّ فقيرٍ أفقرُ منّي)(٣) .

وكان يقول(ع): (ياابنَ آدم إِنك لم تزل في هدم عمرِكَ منذ سقطتَ من بطن أُمّك، فخذ ممّا في يديك لما بين يديك، فإنّ المؤمنُ يتزوّد والكافرُ يتمتّع،وكان ينادي‏مع‏هذه‏الموعظة:( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) (٤) )(٥) .

ومن كراماته وكرمه ما رواه العلّامة المجلسي(ره) عن الامام الصادق عن آبائه: أنّ الامام الحسن(ع) خرج إلى مكّة ماشياً فتورّمت قدماه فقيل له لو ركبت ليسكن عنك هذاالورم فقال: كلا ولكنّا إذا أتينا المنزل(٦)

____________________

(١) بحار الأنوار ج٧٨ ص١٠٦.

(٢) البحار ج٧٨ ص١١٣.

(٣) البحار ج٧٨ ص١١٣.

(٤) سورة البقرة / ١٩٧.

(٥) البحار ج٧٨ ص١١٧.

(٦) المنزل: هو المحل الذي يرتاح فيه المسافرون على الطريق.

٢٩٠

فإنه يستقبلكم رجل أسود معه دهن يصلح لهذا الورم فاشتروا منه ولا تماكسوه(١) فقال له بعض مواليه ليس أمامنا منزل فيه أحد يبيع هذا الدواء؟ فقال الامام(ع): بلى إنّه أمامنا وساروا أميالاً فإذا الأسود قد استقبلهم فقال الامام لأحد مواليه: دونك‏الرجل فخذ منه الدّهن بثمنه، وفعلاً أخذه منه فقال الأسود لمن تأخذ هذا الدّهن؟

قال: للحسن بن علي بن أبي طالب: قال: انطلق بي إليه، فلمّا وصلَ‏إلى الإمام قال الرجل الأسود: ياابن رسول اللَّه أنا من مواليكم ادع اللَّه‏أن يرزقني ولداً ذكراً سويّاً يحبّكم أهلَ البيت فإني خلّفتُ امرأتي تمخض فقال: انطلق إلى منزلك فإنّ اللَّه تعالى قد وهب لك ولداً ذكراً سويّاً وهو من شيعتنا فرجع الرجل من فوره فإذا امرأته قد ولدت غلاماً سويّاً ثمّ رجع الأسود إلى الإمام الحسن(ع) ودعا له بالخير بولادة الغلام له، ثمّ ان الامام الحسن(ع) قد مسح رجليه بذلك الدهن فما قام عن موضعه حتى زال الورم(٢) .

وعرف الامام الحسن المجتبى(ع): ب (كريم أهل البيت(ع)) وهي الصفة الغالبة في حياته وإلّا فجميع أهل البيت: كرماء بطبعهم وإلى ذلك يشير الشاعر الموالي:

كريمُ أهلِ البيتِ أكرمْ به

وكلّهم بالطّبع أهلُ الكرمْ

____________________

(١) ماكَسَ: استحطه الثمن واستنقصَهُ إياه، ويسمى باللغة العامية (معاملة).

(٢) البحار ج٤٣ ص٣٢٤.

٢٩١

لكن لكلِّ منهُمُ خصلةٌ

شاعَتْ له فهو بتلك عَلَمْ(١)

ومن ذلك ما رواه العلامة المجلسي(ره) في البحار فقال: خرج (الامام) الحسن والحسين وعبداللَّه بن جعفر: حُجاجاً ففاتهُمْ(٢) أثقالُهم، فجاعوا وعطشوا فمرّوا بعجوزٍ في خباءٍ لها فقالوا: هل من شراب؟ فقالت: نعم، فنزلوا وليس لها إلّا شويهة في الخيمة فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنَها، ففعلواذلك وقالوا لها: هل من طعام؟ قالت: لا إلّا هذه فليذبحها أحدكم حتى أهيئ لكم شيئاً تأكلون، فقام إليها أحدهم فذبحها وكشطها ثمّ هيأت لهم‏طعاماً فأكلوا ثمّ أقاموا حتى أبردوا(٣) فلما أرادوا الرحيل قالوا لها: نحن‏نفرٌ من قريش نريدُ هذا الوجه، فإذا رجعنا سالمين فألمّي بنا فإنّا صانعون ‏إليكِ خيراً ثمّ ارتحلوا. وأقبل زوجُها وأخبرته عن القوم والشاة فغضب‏ الرجل وقال: ويحك تذبحين شاتي لأقوامٍ لا تعرفينهم ثمّ تقولين: نفرٌ من‏قريش ثمّ بعد مدّة ألجأتهم الحاجة لدخول المدينة، فمرّت العجوز في بعض‏طرق المدينة فرآها الامام الحسن(ع) فعرفها فقال لها: ياأمة اللَّه تعرفيني؟ قالت لا قال: أنا ضيفك يوم كذا فقالت العجوز: بأبي أنت وأمي فأمرلها الامام الحسن(ع) بألف شاة وألف دينار وبعث معها رسولاً إلى الامام‏الحسين(ع) فأمر لها بمثل ما أمر الامام الحسن(ع) وبعث معها رسولاًإلى عبداللَّه بن جعفر فأمر لها بمثل ذلك العطاء، فرجعت إلى زوجها بذلك ‏كلّه(٤) .

____________________

(١) هذان البيتان للخطيب الأستاذ الشيخ محسن الفاضلي النجفي.

(٢) بمعنى تقدّمت عليهم القافلة التي فيها الماء والطعام وتأخرو عنها.

(٣) أبردوا بمعنى زالت حرارة المس وبرد الهواء وهو الوقت المناسب للمسير.

(٤) البحار ج٤٣ ص٣٤٨.

٢٩٢

وروي عنه(ع) هذه الأبيات في السخاء:

إنّ السخاءَ على العبادِ فريضةٌ

للَّهِ يُقرأُ في كتابٍ محكمِ

وعدَ العبادَ الأسخياءَ جنانَهُ

وأعدَّ للبخلاءِ نارَ جهنّمِ

من كان لا تندى يداه بنائلٍ

للراغبين فليس ذاك بمسلم(١)

وكتب إليه أعرابي يقول:

لم يبقَ لي شي‏ءٌ يباعُ بدرهمٍ

يكفيكَ رؤيةُ منظري عن مخبري

إلّا بقايا ماءٍ وجهٍ صنتُهُ

إلّا يباعَ وقد وجدتك مشتري

فأجابه(ع):

عاجلتنا فأتاكَ وابلُ بِرِّنا

طَلّاً ولو أمهلتنا لم نقصِرِ

فخذ القليلَ وكن كأنك لم تبع

ما صِنتَهُ وكأننا لم نشترِ(٢)

أعودُ إلى الرواية الشريفة التي افتتحتُ بها المجلس عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب(ع) في مرضه الذي توفّي فيه، وبين يديه طستٌ يقذف الدم فيه، ويخرج كبده قطعةً قطعةً من

____________________

(١) البحار ج٤٣ ص٥٥٢.

(٢) معالي السبطين الطبعة الحجرية ص١٢.

٢٩٣

السم الذي أسقاه معاوية فقلت يامولاي مالك لا تعالج نفسك فقال: ياعبداللَّه بماذا أعالج الموت!؟ قلت: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون ثمّ التفت إليّ فقال: واللَّهِ لقد عهِدَ إلينا رسول اللَّه(ص) أنّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد عليٍّ وفاطمة(ع) ما منّا إلّا مسموم أو مقتول، فقلت له: عظني ياابن رسول اللَّه(ص) قال: نعم استعد لسفرك وحصّل زادك قبل حلول أجلك، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل همَّ يومك الذي لم يأتِ على يومكَ الذي أنت فيه وساق الكلام في ذكر موعظته(ع) إلى أن قال: ثمّ انقطع نفسُهُ واصفرّ لونُهُ حتى خشيتُ عليه، ودخل عليه الإمام الحسين(ع) وانكبّ عليه حتى قبّلَ رأسه وعينيه.

يقولون وفي هذه الأثناء وإذا بالصرخة على الباب فالتفت الامام الحسن إلى أخيه الحسين وهو يقول له: أبا عبداللَّه ارفع هذا الطست عنّي فلا أحبّ أن تراه أختنا زينب:

يحسين شيل الطشت عنّي

خواتك يبو السجاد اجني

يردن يشبعن شوف منّي

ويردن يخوية يودّعني

للَّه صبرُ العقيلة زينب حيث انها بعد فقد جدّها وأمّها وأبيها ها هي ترى الامام الحسن(ع) بهذه الحالة مطروحاً على فراش المنية وقد اصفرّ لونُه.

ثمّ أخذ الامام الحسن يوصي أخاه الامام الحسين(ع) وممّا قال له: إذا أنا متّ فهيّئني ثمّ وجهني إلى قبر جدّي رسول اللَّه(ص) لأجدّد به عهداً

٢٩٤

ثمّ ردّني إلى قبر جدتي فاطمة بنت أسد فادفني هناك، وستعلم ياابن أمي أنّ القوم يظنون أنكم تريدون دفني عند رسول اللَّه(ص) فيجلبون(١) في ذلك ويمنعونك منه، وباللَّه أقسم عليك أن لا تهرق في أمري محجَمَة(٢) دم، ثمّ وصّى إليه بأهله وولده وتركاته وما كان أوصى إليه أمير المؤمنين(ع) حين استخلفه(٣) .

كأني بالامام(ع) قد استقبل القبلة ومدّد يديه ورجليه وغمّض عينيه وخمد أنينُه، وعرق جبينُه وفاضت روحُهُ الطاهرة واسيداه واإِماماه وامسموماه.

والحسين ودمعته بخده جريه

حط راسه‏ بحجره ‏وگضه‏ نحبه‏ الشفيه

ينادي يبو محمد يخويه گطعت بيه

ودعتك اللَّه يالحسن ياگرة العين

عگب ذيك المصيبة وذيك الهموم

تاليها رحت والكبد مسموم

عيد أصبح لهالي الشام هل يوم

يخوية وعل هواشم أصبح أظلم

ولما قُبض الامام الحسن(ع) غسّله الامام الحسين(ع) وكفّنه وحمله على سريره وانطلق به إلى قبر جدّه ليجدّد به عهداً، ولم يشك مروان بن الحكم وبنو أمية أنّهم سيدفنونه عند رسول اللَّه(ص) فتجمّعوا ولبسوا السلاح وأقبلوا بجمعهم ولحقتهم الحميراء على بغل وهي تقول: مالي ولكم تريدون

____________________

(١) أجلَبَ القوم: تجمّعوا للحرب وضجّوا واختلطت أصواتُهم.

(٢) آلة الحجّام وهي شي‏ءٌ كالكأس، الحاشية.

(٣) الأنوار البهيّة ص٨٠.

٢٩٥

أن تدخلوا بيتي من لا أحب وجعَلَ مروان يقول: ياربَّ هيجاء هي خيرٌ من دَعَه أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف وكادت الفتنة أن تقع بين بني هاشم وبني أمية(١) ، يقولون: كان الامام الحسين(ع) يقول لبني هاشم: اللَّه اللَّه في وصيّة أخي الحسن فإنه أمرني أن لا أهرق في أمره محجمة دم ولكنه التفت وإذا بأبي الفضل العباس قد سلّ سيفه لقتال القوم حيث رموا جنازة الإمام الحسن بسبعين سهماً، فوضع الحسين يده على سيف أبي الفضل وقال: أخي أبا الفضل اغمد هذا السيف فإنّ له يوماً آخر ألا وهو يوم كربلاء:

الدنيه خاليه امن الفرح بسهام

صدگ نعش الحسن ينصاب بسهام

وبوفاضل بسل السيف بسهام

مثل عوده تگيّد بالوصيه

وعندما علم الأمويّون أن ليس من نيّة بني هاشم دفن الامام الحسن(ع) عند جدّه رسول اللَّه(ص) تركوهم حتى جدّدوا به عهداً بزيارة قبر جدّه ثمّ جاءوا به إلى البقيع ودفنوه عند قبر جدّته فاطمة بنت أسد، وجلس الامام الحسين على القبر الشريف وهو يقول:

أأدهنُ رأسي أم تَطيبُ محاسني

ورأسُكَ معفورٌ وأنت سليبُ

بكائي طويلٌ والدموعٌ غزيرةٌ

وقبرك قلبي والمزارُ قريبُ

غريبٌ وأطراف البيوت تحوطُهُ

ألا كلّ مَن تحت التراب غريب

____________________

(١) الأنوار البهيّة ص٨١.

٢٩٦

وليس حريباً من أصيب بمالِهِ ولكنّ من وارى أخاه حريبُ(١)

كأني بالهاشميين وقد تقدّموا إلى سيّدهم وزعيمهم الامام الحسين(ع) وأقاموه من قبر أخيه الامام الحسن الشهيد، وعادوا به إلى داره يحوطونه من كلّ جانب، وللحسين جلوس آخر، عند أخٍ شهيد آخر، ليت شعري من أقامه، ومن عزّاه، ومن أحاط به، وذلك عندما جلس عند أبي الفضل وقد رآه مقطوع الشمال واليمين، والسهم نابتُ في العين، والمخ سائلٌ على الكتفين عندها نادى الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوّي.

يقولون خرجت امرأة من المخيم تقوم وتقعد شابكةً عشرها على رأسها وهي تنادي: واأخاه واعباساه، عندما رآها الامام ترك أخاه على المشرعة وقرب منها وإذا بها العقيلة زينب، فأخبرها الامام بمصرع أبي‏الفضل وعزّاها.

يگلله يزينب راح عباس

راح الضيغم البيه نرفع الراس

وظل يبكي عليه الدرع والطاس

كأني بالعقيلة وقد حاولت أن تفلت من يد الامام الحسين لتأتي لمصرع كفيلها أبي الفضل والامام يقول: إلى أين يازينب:

أنا رايحه العباس أشوفه

وركب اعله زنوده كفوفه

____________________

(١) معالي السبطين ص٣٦ الطبعة الحجرية، والحريب: الذي أخذ مالُهُ كلُّهُ. لسان العرب

٢٩٧

وشيل السهم والدم أروفة

ابن والدي واشلون أعوفه

* * *

عباس تسمع زينباً تدعوك من

لي ياحماي إذا العدى نهروني

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٢٩٨

السابع عشر من صفر المجلس الرابع

شهادة الإمام أبي الحسن الرّضا(ع)

أَقوَتْ معالِمُ دينٍ أنتَ حاميهِ

وكادَ يُنسخُ ثقلٌ أنت ثانيهِ

تُغضي وقد أصبحَ الإسلام منطمسَ

الأعلامِ قد حُكسسّمت فيه أعاديه

وعاد فينا غريباً لا نصيرَ له

كأنّه وهو فردٌ في مباديه

وإنّ ديناً أقامتهُ صوارمُكُم

قد قامت اليومَ في الدُّنيا نواعيه

ألستَ تسمعُ ياابنَ الصيدِ دعوتَهُ

وهل سواكَ مجيبٌ صوتَ داعيه

ياحجّةَ اللَّه قد ضاق الخناقُ بنا

فأيَّ هولٍ من الدُّنيا نقاسيهِ

جورَ العدى أم هوانَ الغاصبينَ لنا

أم طولَ غيبةٍ مولىً عن مواليه

أكُلُّ يومٍ لكم ياابن الزّكيِّ دمٌ

يُطلُّ هدراً ولا من ثائرٍ فيه

فمن قتيلٍ قضى بين الظُبا عطشاً

وبينَ عُجفِ المطا سيقت ذراريهِ

ومن طريدٍ لكم لم يحوهِ بلدٌ

ولم يجدْ ملجأً في الأرضِ يؤويهِ

وبين مَن ماتَ صبراً بعدما سُقيت

بالسُّمِّ أحشاؤُهُ ويلٌ لساقيهِ

ياطاويَ البيدِ يرجو نيلَ مقصَدِهِ

أرحْ بطوسَ تفُز فيما ترجّيهِ

إِنزل وحيِّ بها عنّي ضريحَ عُلاً

أهلُ السماواتِ لا زالت تحييهِ

فيه عليُّ بنُ موسى لم يَخِبْ أبداً

لاجٍ إليهِ ولا راجٍ أياديهِ

أفدي غريباًعن‏الأوطانِ‏قد شحطت

بهِ النّوى عن مغانيهِ وأهليهِ

لم أنسَ مذ غالَهُ المأمونُ حيثُ غدا

يُبدي له غيرَ ما في القلبِ يُخفيه(١)

____________________

(١) هذه القصيدة العصماء من نظم المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي(ره).

قال المرحوم السيد جواد شبر(ره) في (أدب الطفّ) الجزء العاشر ص١٩٠:

٢٩٩

____________________

= ولد الشيخ محمد علي اليعقوبي في النجف الأشرف في شهر رمضان عام ١٣١٣ه ، ونشأ برعاية والده الخطيب التقي والواعظ الشهير.

هاجر والدُهُ إلى مدينة الحلّة الفيحاء فنشأ الشيخ محمد علي في مستهلّ صباه ومطلع شبابه في مدينة الأدب والشّعر وكان عندما يختار له والدُهُ القصيدة يحفظها وينشدها في الجامع الذي يصلّي فيه العلّامة السيد محمّد القزويني بمحضر من المصلّين هناك.

وفي سنة ١٣٢٩ه انتقل والده إلى رحمة ربّه فانقطع حينذاك إلى ملازمة العلّامة السيد محمّد القزويني فغمره بألطافِهِ، وأفاضَ عليه من علمِهِ وأدبهِ الجمّ وأخلاقه العالية، وكان اليعقوبي دائماً يشكر هذا الفضل.

وكان اليعقوبي في كلِّ ما يقوله من نظم ونثر سهلٌ ممتنع لا تكاد تفوته مناسبة من المناسبات إلّا ونظم فيها البيتين والثلاث أو القطعة المسكوكة كسبيكة الذهب تتداولها العقول والأفواه معجبة بها مستلذّة بترديدها مع أنه قد نظمها بلا تكلّف إنما أرسلها إرسالاً فاسمعه حين يداعب الشيخ محمّد السماوي يوم أحيل على التقاعد في عهد السيد محمد الصدر رئيس الوزراء:

قل للسماويِّ الذي

فلكُ القضاء به يدور

الناسُ تضربها الذيول

وأنت تضربك الصدور

ودخلتُ عليه مرةً أعودُهُ وكان يشكو ألماً حادّاً من عينيه ورأسه ولا أنسى أنه كان يوم ٢٧ من رجب يوم توافدت الوفود لزيارة مخصوصةٍ لأمير المؤمنين علي بن أبي‏طالب(ع) فأنشدني هو:

أبا حسنٍ عذراً إذا كنتُ لم أُطقِ

زيارةَ مثواكَ الكريم مع الناس

فلولا أذى عيني ورأسي لساقني

إليك الولا سعياً على العينِ والرأسِ

وقال:

غرستُ بقلبي حبَّ آلِ محمّدٍ

فلم أَجِنِ غيرَ الفوز من ذلك الغرسِ

ومَن حادَ عنهم واقتفى إثرَ غيرهم

فقد باعَ منه الحظَّ بالثمنِ البخسِ

وكان - رحمه‌ الله تعالى - بالاضافة إلى الخدمة المنبرية والتبليغ باللسان فقد أضاف

٣٠٠

مات‏ الرضا وصارت زلازل في أرض طوس

والحور حطوله عزه ولطمن على الروس

حطت عزيه فاطمه الزهرا بالجنان

اعله غريبٍ مات في بلدة خراسان

والسم ضاگه في عنب مع حب رمان

سم الرضا المأمون وخله الگلب محموس

* * *

واحر گلبي اعلى الذي سمّه الميشوم

وگطع فؤاده وكبدته من حر السموم

____________________

إليها الخدمة القلمية والخدمة بالبيان فقد ألف كثيراً وخلّفَ آثاراً لها قيمتُها منها:

١- البابليات وهو ثلاثة أجزاءٍ في تراجم الشعراء من أهل الحلّة طبع في سنة ١٣٧٢ه.

٢- المقصورة العلية وهي قصيدة تناهز (٤٥٠) بيتاً في سيرة أمير المؤمنين(ع) طبعت سنة ١٣٤٤ه.

٣- عنوان المصائب في مقتل الامام علي بن أبي طالب(ع) طبع سنة ١٣٤٧ه.

٤- ديوانه الذي يحتوي على ما نظمه من الشعر خلال مدة تتجاوز الأربعين عاماً طبع سنة ١٣٧٦ه.

٥- الذخائر وهو ديوان شعرٍ خاص يحتوي على حوالي خمسين قصيدة ومقطوعة نظمها في أهل البيت: مدحاً ورثاءاً وقد طبعت سنة ١٣٦٩ه وأوصىرحمه‌الله أن يدفن معه في قبره وقد صدره بالبيتين التاليين:

سرائرُ ودٍّ للنبيِّ ورهطهِ

بقلبي ستبدو يوم تُبلى السرائرُ

وعندي ممّا قلتُ فيهم ذَخائِرٌ

ستنفعني في يوم تفنى الذّخائرُ

توفي في فجر يوم الأحد ٢١ جمادى الثانية سنة ١٣٨٥ه الموافق ١٩٦٥/١٠/١٧م فرحمةُ اللَّه تعالى عليه.

٣٠١

وخلاه مرمي اعله الفرش ما يگدر يگوم

وذوب فؤاده من ونينه شمس الشموس

* * *

واحر گلبى اعله الذي في الفرش مطروح

مرمي على فراشه يعالج نزعة الروح

ناحت على مصابه البتوله بگلب مجروح

ياليت روحي اله فده وسكنت الرموس(١)

* * *

عن الإمام أبي الحسن علي بن محمّد الهادي(ع) قال: (من كانت له إلى اللَّه عزّوجلّ حاجة فليزر قبر جدّي الرّضا(ع) بطوس وهو على غسل، وليصلِّ عند رأسه ركعتين، وليسأل اللَّه تعالى حاجته في قنوته، فإنّه يستجيبُ له، ما لم يسأل في مأثم أو قطيعة رحم فإنّ موضعَ قبره لبقعةٌ من بقاع الجنة لايزورها مؤمنٌ إلّا أعتقَهُ اللَّهُ تعالى من النار وأحلّه دار القرار)(٢) .

ولد الإمام أبو الحسن عليّ بن موسى الرّضا(ع) في الحادي عشر من ذي القعدة يوم الخميس أو الجمعة بالمدينة سنة ١٤٨ ثمان وأربعين ومائة. وذلك بعد وفاة جدّه الإمام الصادق(ع) بأيّامٍ قليلة(٣) ، وكان الإمام الصادق(ع)

____________________

(١) الفائزيات الكبرى: ص١٨٤.

(٢) الأنوار البهيّة للمرحوم الشيخ عباس القمي(ره) ص٢٠٣.

(٣) أقول: قضى الإمام الصادق(ع) شهيداً في سنة ١٤٨هأ. وذلك في شهر شوال، إلّا أنّ

٣٠٢

يتمنى إدراكه، ففي الخبر عن الإمام موسى بن جعفر(ع) قال: سمعت أبي جعفر بن محمد(ع) غير مرّة يقول لي: إِنّ عالمَ آلِ محمّد(ص) لفي صلبك وليتني أدركتُهُ فإنّه سميّ أمير المؤمنين(ع).

أمّه ذات العلى والمجد السيّدة نجمة، ويُقالُ لها تُكْتَمْ أيضاً، وكنيتُها أمّ‏البنين، ولما ولدت الإمام الرّض(ع) لقّبها الإمام الكاظم(ع) بـ(الطاهرة)(١) .

وأمّا عبادته ومكارم أخلاقه ومعالي أموره فقد روي أنه كان يجلس في الصيف على حصير، وفي الشّتاء على مُسُحْ(٢) ، وكان يلبس الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزيّن لهم، وكان(ع) إذا صلّى الغداة - الفجر - وكان يصلّيها في أول الوقت - يسجد فلا يرفع رأسه إلى أن ترتفع الشّمس، وكان(ع) يكلّم الناس قليلاً، وكان كلامه وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن المجيد، وكان يختم القرآن في كلّ ثلاث ويقول: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاث لختمت ولكني ما مررتُ بآيةٍ قط إلّا فكّرت فيها وفي أيِّ شي‏ءٍ أنزلت، وفي أيِّ وقت ولذلك صرتُ أختم في كلِّ ثلاثةِ أيام.

وقال إبراهيم بن العباس: ما رأيت أبا الحسن الرّضا(ع) جفا أحداً بكلامه قط، ولا شتمَ أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيتُهُ يقهقهُ في

____________________

المشهور والذي عليه العمل خصوصاً في العصور المتأخرة هو يوم ٢٥ من شوال، فعلى هذا تكون المدة بين وفاة الإمام الصادق(ع) وميلاد الإمام الرضا(ع) هي ١٥ أو ١٦ يوماً واللَّه العالم.

(١) الأنوار البهيّة ص١٧٧.

(٢) المـُسُح: واحدُه المِسْح وهو الكساءُ من الشَّعْر، لسان العرب

٣٠٣

ضحكه قط بل كان ضحكُهُ التبسّم، وكان(ع) قليلَ النوم بالليل كثير السّهر، يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصّبح، وكان كثيرَ الصّيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشّهر ويقول ذلك صوم الدّهر(١) ، وكان(ع) كثير الصّدقةِ والمعروف في السرّ وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، وكان(ع) إذا جلس على الطعام أتي له بصحفة فتوضع قرب المائدة فيعمد إلى أطيب الطعام ممّا يؤتى به فيأخذ من كلّ شي‏ء شيئاً فيوضع في تلك الصحفة ثمّ يأمر بها للمساكين ثمّ يتلو هذه الآية:( فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ) (٢) .

ثمّ يقول: علمَ اللَّهُ عزّوجلّ أن ليس كلّ إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم سبيلاً إلى الجنة(٣) .

أقول: أراد(ع) أنّ اللَّه تعالى يعلم أن ليس كلّ أحد من خلقه قادراً على عتق رقة في سبيله، فجعل لهم طريقاً آخر أقل مؤنة وهو إطعام اليتامى والمساكين.

وعن موسى بن سيّاررحمه‌الله تعالى قال: كنت مع الإمام الرّضا(ع) وقد أشرف على حيطان طوس وسمعتُ واعيةً فاتبعتُها فإذا نحنُ بجنازة،

____________________

(١) قال المرجع الديني الكبير السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم (دام ظلّه) في كيفيّته: هو صوم أول خميس من الشّهر، وآخر خميس منه، وأول أربعاء من العشر وسط الشّهر، الأحكام الفقهيّة ص١٧٤.

(٢) سورة البلد، الآيات: ١١ - ١٤.

(٣) الأنوار البهيّة ص١٨٠.

(٤) قال في (لسان العرب): قال ابن الأثير: الواعيةُ: هو الصراخ على الميّت ونعيُهُ.

٣٠٤

فلمّا بصرتُ بها رأيت سيّدي وقد ثنى رجلَهُ عن فرسه ثمّ أقبل نحو الجنازة فرفعها ثمّ أقبل يلوذ بها كما تلوذ السخلةُ بأمِّها، ثمّ أقبل عليّ وقال: ياموسى بن سيّار من شيّعَ جنازةَ وليٍّ من أوليائنا خرج من ذنوبِهِ كيومِ ولدتْهُ أمُّهُ لا ذنبَ عليه. حتى إذا وضع الرّجل على شفير قبره رأيت سيّدي قد أقبل فأفرج الناس عن الجنازة حتى بدا له الميّت فوضع يده على صدرِهِ ثمّ قال: يافلانَ بن فلان أبشر بالجنة فلا خوفٌ عليك بعد هذه الساعة فقلت جعلت فداك هل تعرف الرجل؟ فواللَّه إِنّها بقعةٌ لم تطأها قبل يومكَ هذا؟ فقال لي: ياموسى بن سيّار أما علمتَ أنّا معاشر الأئمة تُعرض علينا أعمالُ شيعتنا صباحاً ومساءاً، فما كان من التقصير في أعمالهم سألنا اللَّهَ تعالى الصّفح لصاحبه، وما كان من العلو سألنا اللَّه تعالى الشكر لصاحبِهِ(١) .

أقول: إذا كانت أعمالنا تعرض على الإمام(ع) في الصّباح والمساء فالحريُّ بنا التدقيق في أفعالنا وأقوالنا حتى لا يصل إليه منّا إلّا ما يحبّه ويؤنسُه، فإنّ ما يصل إليه من أعمال أهل العالم ممّا لا يسرّه ولا يُرضيه الكثير الكثير.

ومن غرر كلماته الخالدة ما روى الشيخ القمّي(ره) عنه حيث قال(ع):

صديقُ كلِّ امرئ عقلُهُ، وعدوُّهُ جهلُهُ.

وقال(ع): (التودّدُ إلى النّاس نصفُ العقل).

وقال(ع): (يأتي على الناس زمانٌ تكون العافيةُ فيه عشرةَ أجزاء، تسعةً في اعتزال الناس، وواحدةً في الصّمت).

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج٤ ص٣٤١.

٣٠٥

وقال(ع): (إنّ اللَّه يبغض القيل والقال، وإضاعةِ المال، وكثرةِ السؤال).

أقول: أراد(ع) بكثرة السؤال طلب الحوائج من الناس بكثرة.

وروى السيد الجليل المرحوم عبدالعظيم الحسيني(ره) عن الإمام أبي‏الحسن الرّضا(ع) قال هذه الوصيّة الشريفة للشيعة: (ياعبدالعظيم أبلغ أوليائي السلام وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً، ومرهم بالصّدق في الحديث وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوتِ وتركِ الجدال فيما لا يعنيهم، واقبالِ بعضهم على بعض والمزاورة فإنّ ذلك قربة إِليّ، ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً، فإني آليت على نفسي أنّه من فعل ذلك وأسخط وليّاً من أوليائي دعوتُ اللَّهَ ليعذّبه في الدّنيا أشدّ العذاب وكان في الآخرة من الخاسرين)(١) .

ومن كريم أخلاقه(ع) ما رواه الشيخ المجلسي(ره) في البحار بسنده إلى اليسع بن حمزة قال: كنت أنا في مجلس أبي الحسن الرّضا(ع) أحدّثه وقد اجتمع إليه خلقٌ كثير يسألونه عن الحلالِ والحرام، إذ دخل عليه رجلٌ فقال له: السلامُ عليك ياابن رسول اللَّه(ص) أنا رجل من محبيك ومحبّي آبائك وأجدادك: مصدري من الحج وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحله، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي، وللَّه عليّ إذا بلغت بلدي تصدّقت بالذي تعطيني عنك فلستُ موضعَ صدقة فقال له: اجلس رحمك اللَّه، وأقبل على الناس يحدّثهم حتى تفرّقوا، وبقي هو وسليمان والجعفري وخثيمة وأنا فقال: أتأذنون لي في الدخول؟ فقال له سليمان: قدّم اللَّهُ أمرك،

____________________

(١) الأنوار البهيّة ص١٨٦.

٣٠٦

فقام فدخل الحجرة وبقي مدّة ثمّ خرج وردّ الباب وأخرج يدَه من أعلى الباب وقال: أين الخراساني؟ فقال: ها أنا ذا فقال: خذ هذه المأتي دينار واستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرّك بها ولا تتصدّق بها عنّي، واخرج فلا أراك ولا تراني ثمّ خرج(ع) فقال له سليمان: لقد أجزلت ورحمت فلماذا سترت وجهك عنه؟ فقال: مخافةَ أن أرى ذلّ السؤال في وجهِهِ لقضائي حاجته أما سمعت حديث رسول اللَّه(ص): المستترُ بالحسنة تعدلُ سبعين حجّة، والمذيعُ بالسيئةِ مخذولٌ والمستتر بها مغفورٌ له، أما سمعتَ قول الأوّل:

متى آتِهِ يوماً لأطلُبَ حاجةً

رجعتُ إلى أهلي ووجهي بمائه(١)

أقول: هنا قَضَى الإمام(ع) حاجة رجلٍ من محبيه في حياته، وهناك كرامة أخرى حيث قضى الإمامُ(ع) حاجةَ امرأة مريضة من محبيه بعد وفاته وإليك الكرامة، ففي كتاب - كرامات رضوية - تأليف المرحوم الشيخ علي أكبر مروّج الإسلام، وتحت عنوان - الكرامة السادسة - قال: تزوّج أحد المؤمنين واسمه علي أكبر النجار امرأةً شابةً مؤمنة في مدينة مشهد المقدسة الإيرانية وذلك في حدود سنة ١٩٦٤م، ولم تمضِ على زواجهما مدّة حتى مرضت المرأة بالمرض المعروف - بالحصبة - ولازمت على أثر ذلك الفراش، وبعد مراجعة الأطباء واستعمال الدواء تحسّنت حالتُها ولكن وبسبب ترك الحمية ومخالفة ارشادات الأطباء عاد إليها المرضُ ثانيةً

____________________

(١) البحار ج٤٩ ص١٠١، ح ١٩.

٣٠٧

وبشكلٍ قوي هذه المرة حيث انتهى الحال بها إلى موت - توقّف - قدميها ويدها اليمين حتى عجزت عن الحركة فضلاً عن القيام والقعود.

وبقيت على هذا الحال مدة ٧ أشهر قضتها في مراجعة الأطباء ولم تحصل على الفائدة المرجوّة حتى وُصِفَ لها طبيب ألماني يمتاز بالخبرة ويستعمل الآلات الطبية الحديثة، وبعد مراجعته كتب لها دواءاً تستعمله ظناً منه أنه شخّص المرض وسيدفعه بهذا الدواء إلّا أن حالتها تدهورت أكثر حتى اُصيب وجهها بالشلل ولم تستطع فتح فمها حيث أطبقت الأسنان على الأسنان وتحيّروا في طعامها ودوائها، فأرجعوها إلى الطبيب الألماني فلمّا نظر إليها قال ليس لهذه المرأة دواء عند الأطباء خذوها إلى الأطباء الروحانيين ليعالجوها بالأدعية والتوسلات الشرعية.

واستمرت هذه الحالة عندها (ع) أيام ما كانت تقدر على تناول الطعام والدواء ولا حتى الكلام وكادت أن تهلك من شدّة المرض وصعوبة العلاج.

يقول الزوج ونحن في هذه الفترة لم نترك مراجعة الأطباء ومشاورتهم حتى استقرّ رأيهم على إعطائها جرعة قوية من الدواء عن طريق الوريد باستعمال الأبر لعلّهم يوفّقوا في ارجاع الوجه إلى حالته الطبيعيّة، وفعلاً تمكنوا من ذلك حيث عاد وجهها إلى حالته الأولى وتمكنت من فتح فمها لأجل الطعام والدواء وحتى الكلام أيضاً غير أنّ بقية البدن بقي على حاله حيث ما كانت تقدر أن تحرّك يدها ولا قدميها وباتت ملقاة في احدى زوايا المنزل يائسة من شفائها، وقد تركنا مراجعة الأطباء لأجل أنهم عجزوا عن مداواتها يقول الزوج وفي ليلةٍ من الليالي نادتني زوجتي وشكرتني على

٣٠٨

صبري معها وهي مريضة واعتذرت لي بسبب المتاعب التي سببتها لي وقالت إنك لم ترَ مني خيراً أبداً ولكنك طوقتني بجميلٍ لا أنساه لك أبداً، ولي منك طلبٌ أخير إن سمحت به قلت وما هو؟ قالت الليلة المقبلة هي ليلة الجمعة وأريد منك أن تنقلني إلى حرم سيدي ومولاي الامام أبي الحسن الرّضا(ع) وتضعني قريب الضريح الشريف وتتركني هناك لأطلب من الامام(ع) شفائي أو موتي ونجاتي ممّا أنا فيه فقلت يكون إن شاء اللَّه تعالى ما تريدين.

وفعلاً حملتها في الليلة المقبلة ومعنا أمّها حتى أوصلتها إلى حرم الامام أبي الحسن الرضا(ع) ووضعتها قرب ضريح الامام(ع) وعدت إلى المنزل، وقالت لها أمّها أنا ذاهبة إلى مسجد النساء لأستريح قليلاً تقول الزوجة المريضة فبقيت وحدي وتوجّهت إلى الإمام(ع) بقلبي وروحي وجميع حواسي وقلت له سيّدي ياأبا الحسن أيّها الامام الرؤوف أطلب منك شفائي أو موتي وخلاصي ممّا أنا فيه ثمّ بكيتُ كثيراً فبينا أنا كذلك ولا أدري أنائمة أنا أم مستيقظة إذ رأيت الضريح الشريف قد انفتح وخرج منه سيّدٌ جليل عليه ثيابٌ خضرٌ تعلوه الهيبة والنور تكلّم معي بلغتي - التركية - وقال: قومي فلم أجبه فقال ثانيةً: قومي فلم أجبه فقال ثالثة: قومي قلت سيدي كيف أقوم وأنا مريضة لا أقدر الوقوفَ على قدمي قال: قومي واذهبي إلى مسجد -گوهرشاد واسبغي الوضوء وصلّي هناك ثمّ عودي واجلسي هنا.

تقول سمعت منه هذا وعدت إلى نفسي وإذا أنا لا زلت قريب الضريح

٣٠٩

والنساءُ الزائرات حولي ولكني لم أجد في بدني ألماً أبداً، ورأيت يدي اليمنى تتحرّك حتى أني قمت ووقفت على قدمي كأيّ إنسان سالم معافى ولم أصدق ذلك حتى مشيت خطوات داخل حرم الامام(ع) عندها تيقّنت أنّ الامام الرضا(ع) نظر إليّ ثمّ ذهبت مسرعةً لاُبشّر أمي فعندما نظرت إليّ قلت لها أماه إنَّ ضامن الغرباء منّ عليّ بالشفاء فقامت وضمّتني إلى صدرها طويلاً غير مصدّقة ما تشاهده عيناها، وبكينا من شدّة الفرح والسرور ساعةً كاملة(١) .

أقول: عاش الامام الرضاعليه‌السلام في خراسان مدّة قصيرة من عمره الشريف، ولكنّها كانت من أشدّ الفترات وطأةً عليه حتى أنه(ع) تمنى الموت لأجل الخلاص ممّا هو فيه، روى الشيخ الصدوق(ره) عن علي بن إبراهيم عن ياسر الخادم قال: كان الرض(ع) يقول في دعائه: اللهمّ إن كان فرجي مما أنا فيه بالموت فعجّل لي الساعة، ولم يزل مغموماً مكروباً إلى أن قبض صلوات اللَّه وسلامه عليه(٢) .

أمّا كيفيّة مقتله(ع) فقد روى الشيخ الصدوق(ره) في (عيون الأخبار) عن أبي الصلت الهروي قال قال لي الإمام(ع): ياأبا الصلت غداً أدخلُ على هذا الفاجر - يعني المأمون فإن أنا خرجت وأنا مكشوف الرّأس فتكلّم أكلّمك، وإن أنا خرجت وأنا مغطى الرّأس فلا تكلّمني قال أبو الصلت: فلمّا أصبحنا من الغد لبس ثيابه وجلس في محرابه ينتظر فبينما هو كذلك إذ

____________________

(١) كرامات رضوية ج١ ص٩٩.

(٢) الأنوار البهيّة ص١٩٥.

٣١٠

دخل عليه غلام المأمون فقال له: أجب أمير المؤمنين، فلبس نعلَهُ ورداءه وقام يمشي وأنا أتبعُهُ حتى دخل على المأمون وبين يديه طبق عليه عنب وأطباق فاكهة، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه، فلمّا أبصر الرضا(ع) قام إليه فعانقه وقبل بين عينيه وأجلسه معه ثمّ ناوله العنقود وقال ياابن رسول اللَّه ما رأيت عنباً أحسنَ من هذا فقال له الامام(ع): ربما كان عنباً حسناً يكون من الجنة فقال له كل منه فقال له: تعفيني منه فقال لابُدّ من ذلك وما يمنعك منه لعلّك تتهمُنا بشي‏ء فناوله العنقود فأكل منه الإمام الرضا(ع) ثلاث حبّات ثمّ رمى به وقام فقال المأمون إلى أين؟ فقال: إلى حيث وجهتني، فخرج(ع) مغطى الرّأس فلم أكلّمه حتى دخل الدار فأمر أن يغلق الباب ثمّ نام على فراشه مهموماً محزوناً فبينما أنا كذلك إذ دخل عليّ شابٌ حسن الوجه قطط(١) الشّعر أشبه الناس بالامام الرّضا(ع) فبادرت إليه فقلت له: من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال: الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق فقلت له: ومَن أنت؟ فقال لي: أنا حجة اللَّه عليك ياأبا الصّلت، أنا محمّد بن علي ثمّ مضى نحو أبيه فلمّا نظر إليه الامام الرّضا(ع) ضمّه إلى صدره وقبّل ما بيه عينيه(٢) .

أويلي اعله الرضا من طاح بخراسان

بعيد الدار والأحباب والخوّان

اجه بهمّه الجواد او من حضر يمّه

شاف السم يولي مأثّر بجسمه

شبگ فوگه يودعه او قبله وشمه

وغده دمع العيون امن الحزن غدران

____________________

(١) قال الفيومي في (المصباح المنير) شعرٌ قَطَطْ بفتحتين: شديد الجعود.

(٢) عيون أخبار الرّضا للشيخ الصدوق(ره) ج٢ ص٢٤٣.

٣١١

قال أبو الصلت الهروي: رأيت الامام الرضا(ع) يسارُّ ولده - وكأنه يوصيه بوصاياه - لم أفهم ما يقول له آجركم اللَّه فلم يقم الامام الجواد من عند والده المفدّى إلى أن قضى نحبَهُ ومضى إلى ربّه مسموماً غريباً شهيداً واإماماه واسيّداه:

فائزي

لمن گضه ضامن الجنة تزلزل الكون

والمصطفى أمسى ابوسط الگبر محزون

* * *

او مكسورة الأضلاع في الروضة حزينه

اتنادي الرضا ثامن اولادي سامينه

مدري شحال ابنه محمد عگب عينه محزون

ومصاب الأبوا عله الولد ميهون

* * *

ضاگت على اولادي بلاد اللَّه الوسيعة

كل يوم ينصابون بمصيبة وفجيعه

نصبوا مآتمكم على أولادي يشيعه

وخلّوا الدمع يهمل او فوگ الخد مهتون

بوجهي هل دهر ما يوم بسّم

ومن وجدي غديت انلظم بالسم(١)

مثل الرضا الضامن مات بالسم

يحگ نبكي عليه صبح ومسيه

* * *

وقبرٌ بطوسٍ يالها من مصيبةٍ

ألحّت على الأحشاءِ بالزفراتِ

إلى الحشرِ حتى يبعث اللَّه قائماً(٢)

يفرّج عنّا الهمَّ والكُرباتِ

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

____________________

(١) السّم هنا بمعنى ابرة الخيّاط.

(٢) من المناسب تبديل هذا اللقب الشريف إلى لقب (حجّةً) تخفيفاً على المستمعين من القيام، وحتى يبقى خشوع المستمعين وشجاؤهم إذا أراد الخطيب إطالة المجلس أكثر من هذا.

٣١٢

العشرون من صفر المجلس الخامس

يوم الأربعين

قم جدّدالحزنَ ‏في‏ العشرينَ من ‏صفرِ

ففيه ردّت رؤوسُ الآلِ للحفرِ

يازائري بقعةً أطفالُهُم ذُبحت

فيها خذوا تربَها كحلاً إلى البصرِ

والهفتا لبناتِ الطهرِ حين رنت

إلى مصارعِ قتلاهنّ والحفرِ

رمينَ بالنفسِ من فوقِ النياقِ على

تلك القبورِ بصوتٍ هائلٍ ذَعِر

فتلك تدعو حسيناً وهي لاطمةٌ

منها الخدودَ ودمعُ العين كالمطرِ

وتلك تصرخُ واجدّاه واأبتاه

وتلك تصرخُ وايتماه في الصغرِ

فلو تروا أمَّ كلثومٍ مناشدةً

ولهى وتلثمُ تربَ الطفِّ كالعِطْرِ

يادافني الراس عند الجثة احتفظوا

باللَّهِ لا تنثروا ترباً على قمرِ

لا تغسلوا الدمَ عن أطرافِ لحيتهِ

خلّوا عليه خضابَ الشيبِ والكِبَرِ

لا تُخرجوا أسهماً في جسمِهِ نشِبَتْ

خوفاً يفورُ دماً يطمو على البشرِ(١)

نعي

من لاح الگبر سحت دموع العين

ونادت ويل گلبي ذاك گبر حسين

الجثة بالگبر والراس اصيحن وين

على راس الرّمح مدّه يبارينه

* * *

اويلي لاح گبر حسين لعيوني

يهلنه للمدينة امشوا وخلّوني

أخافن لن بني هاشم ينشدوني

شگولن لليگول حسينكم وينه

____________________

(١) هذه القصيدة العصماء من نظم المرحوم السيّد هاشم السبتري البحراني(ره).

٣١٣

لفن يم الگبر ودموعهن تهمي

وزينب صارخه وتصيح يابن امي

وسكنه تندب العباس ياعمي

من ذل اليسر لگبوركم جينه

* * *

روي عن الامام أبي محمد الحسن بن علي العسكري(ع) أنه قال: (علاماتُ المؤمن خمسٌ: صلاةُ احدى وخمسين، والجهرُ ببسمِ اللَّه الرّحمن الرّحيم، والتختّمُ في اليمين، وتعفيرُ الجبين، وزيارةُ الأربعين)(١) .

الأولى: وهي صلاة احدى وخمسين في اليوم والليلة عبارة عن سبعة عشرة ركعة فريضة، وأربعة وثلاثين ركعة نافلة، والفرائض هي الصبح والظهرين والعشاءين واعدادها معروفة واضحة، وأما النوافل فهي ثمان للظهر قبلها وثمان للعصر قبلها، وأربع للمغرب بعدها، واثنان من جلوس للعشاء بعدها تعدّان ركعة واحدة، وركعتان للصبح قبلها، وإحدى عشرة ركعة نافلة الليل ثمان هي نافلة الليل ثمّ الشفع والوتر، وبإضافاتها إلى الفرائض يكون المجموع احدى وخمسين ركعة، وهذا ما اختصت به الفرقة الناجية التابعة لأهل البيت:، فإنّ أهل السنة - المخالفين - وإن وافقوهم بعدد الفرائض إلّا أنهم افترقوا في النوافل ففي كتاب (فتح القدير) لإبن همام الحنفي ج١ ص٣١٤ قال إنها ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، واثنان بعدها، وأربع قبل العصر وإن شاء ركعتين، وركعتان بعد المغرب، وأربع قبل العشاء وأربع بعدهاوإن شاء ركعتين فهذه ثلاثة وعشرون ركعة، واختلفوا في نافلة الليل إنها ثمان ركعات أو ركعتان أو ثلاث عشرة ركعة أو

____________________

(١) مقتل المقرم١ ص٤٧٣ عن تهذيب الشيخ الطوسي(ره).

٣١٤

أكثر، فالمجموع من نوافل الليل والنهار مع الفرائض لا يكون احدى وخمسين، فاذا تكون احدى وخمسين من مختصات الفرقة الحقة الإمامية لا غير(١) .

الثانية: وهي الجهرٌ بالبسملة فإنّ الشيعة - الإماميّة - تديّنوا إلى اللَّه تعالى به وجوباً في الصلاة الجهرية واستحباباً في الصلاة الاخفاتية تمسكاً بأحاديث أئمتهم عليهم الصلاة والسلام، وفي ذلك يقول الفخر الرازي: ذهبت الشيعة إلى أنّ من السنّةِ الجهرُ بالتسمية - البسملة - في الصلاة الجهريّة والإخفاتية وجمهور الفقهاء - السنّة - يخالفونهم، وقد ثبت بالتواتر أنّ عليّ بن أبي طالب كان يجهرُ بالتسمية ومن اقتدى في دينه بعليِّ فقد اهتدى والدليل عليه قول النبيّ(ص): (اللهمّ أدر الحقّ مع عليٍّ حيث دار).

وخالف أهلُ السنّة في مسألةِ الجهر بالبسملة وقالوا: الجهرُ غير مسنون في الصلاة(٢) .

الثالثة: وهي التختّم باليمين وقد التزم به الإماميّةُ تديّناً برواياتِ أئمتهم: وخالفهم جماعةٌ من أهل السنّة.

هذا وقد وردت الروايات الشريفة المروية عن النبيّ وآله (ص) وهي تحثّ المؤمنين التختّمَ باليمين، وأن لا تخلو اليد من خاتم فصّه عقيق منها:

عن الامام الصادق(ع): (ما رفع كفٌّ إلى اللَّه عزّوجلّ أحبّ إليه من كفّ فيها خاتمٌ عقيق)(٣) .

____________________

(١) و(٢) مقتل المقرّم ص٤٧٧.

(٣) عدّة الدّاعي لابن فهد الحِلّي(ره) ص١١٨.

٣١٥

وعن أمير المؤمنين(ع): (تختّموا بالعقيق يبارك اللَّهُ عليكم وتكونوا في أمنٍ من البلاء)(١) .

وعن سليمان الأعمش قال: كنت مع أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد(ع) على باب أبي جعفر المنصور فخرج من عنده رجلٌ مجلود بالسوط فقال لي الامام(ع): ياسليمان انظر ما فصّ خاتمه؟ فقلت يابن رسول اللَّه فصّه غير عقيق فقال: ياسليمان انه لو كان عقيقاً لما جُلِد بالسوط قلت: يابن رسول اللَّه زدني قال: هو أمانٌ من قطع اليد قلت: يابن رسول اللَّه زدني قال: هو أمانٌ من إراقة الدم - القتل - قلت: زدني قال: إنّ اللَّه يحبّ أن ترفع إليه في الدعاء يدٌ فيها فصٌّ عقيق قلت: زدني قال: العجب كلّ العجب من يدٍ فيها فصّ عقيق كيف تخلو من الدنانير والدراهم قلت: زدني قال: إنّه أمانٌ من كلّ بلاء قلت: زدني قال: إنّه أمانٌ من الفقر(٢) .

الرابعة: وهي تعفيرُ الجبين، والتعفيرُ في اللغة هو وضع الشي‏ء على العَفَرْ(٣) وهو التراب، سواء كان في سجود الصلاة - حيث لابدّ من وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه والتراب أفضل - أو سجدة الشكر التي تكون بعد كل فريضةٍ أو نافلة قال السيد الحكيم في (الأحكام الفقهيّة):

يستحبّ سجدة الشكر بعد كلّ فريضة أو نافلة، وفي الخبر الصحيح عن الصادق(ع) أنه قال: (سجدة الشكر واجبة على كلّ مسلم تُتِمُّ بها

____________________

(١) عدّة الدّاعي ص١١٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) العَفْر والعَفَر مصدران: ظاهر التراب، المنجد.

٣١٦

صلاتك وترضي بها ربّك وتَعجَبُ الملائكةُ منك). والأفضل سجدتان يفصل بينهما بتعفير الخدّين أو الجبينين أو الجميع مقدّماً الأيمن على الأيسر، ويجزي أن يقول فيها: (شكراً للَّه) ثلاث مرّات(١) .

وأهل السنّة لم يلتزموا بالتعفير في الصلاة أو سجدة الشكر بعدها(٢) .

الخامسة: وهي زيارة الأربعين التي أرشد أئمة أهل البيت: شيعتهم ومواليهم إلى الحضور في مشهد الغريب المظلوم سيّد الشهداء(ع) لإقامة العزاء وتجديد العهد بذكرِ ما جرى عليه من القساوةِ التي لم يرتكبها أيُّ أحدٍ يحمل شيئاً من الإنسانية فضلاً عن الدين، والحضور عند قبر الامام الحسين(ع) يوم الأربعين من مقتله من أظهر علائم الإيمان.

والعجبُ كلّ العجب ممن يحاول صرف هذه العبارة الشريفة (وزيارة الأربعين) عن معناها - وهو زيارة الامام الحسين(ع) يوم الأربعين وهو العشرين من صفر - إلى زيارة أربعين مؤمناً مع عدم وجود إشارة تشير إليه، ولا قرينة تساعدُ عليه ليصحّ الإتيان بالألف واللام للعهد وذلك في كلمة (الأربعين) مع أنّ زيارة أربعين مؤمناً ممّا حثّ عليها الإسلام فهي من علائمه عند الشيعة والسنّة وليست هي من مختصات الشيعة ليمتازوا بها عن غيرهم، وأمّا زيارة الامام الحسين(ع) يوم الأربعين من قتله فهي من مختصات المؤمنين الموالين لأهل البيت:، وممّا يدعو إليها الإيمان الخالص، ويؤكدها الشوق الحسيني، ومعلوم عند الجميع أن الذين يحضرون

____________________

(١) الأحكام الفقهية لمرجع الطائفة السيّد محمّد سعيد الحكيم (دام ظلّه) ص١١٦.

(٢) مقتل المقرّم ص٤٨٠.

٣١٧

في كربلاء لزيارة الأربعين هم خصوص شيعة الامام الحسين(ع) السائرين على أثره.

ولم يفهم العلماء الأعلام من السلف الصالح من هذا الحديث المبارك (وزيارة الأربعين) غير زيارة الامام الحسين(ع) بعد مضيّ أربعين يوماً على مقتله منهم: شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي في (التهذيب)، والعلامة الحلي في (المنتهى)، وابن طاووس في (الإقبال)، والعلامة المجلسي في (البحار)، والشّيخ يوسف البحراني في (الحدائق)، والشيخ عباس القمّي في (المفاتيح).

وقد نصّ الشيخ المفيد(ره) على استحباب زيارة الامام الحسين(ع) في العشرين من صفر في كتابه (مسار الشيعة)، والعلّامة الحلي(ره) في (التذكرة)، وملا محسن الفيض الكاشاني(ره) في (تقويم المحسنين) وغيرهم(١) .

أقول: ما زال المؤمنون (بيض اللَّه وجوههم) يتجمعون حول قبر أبي‏عبداللَّه الحسين: في كلّ عام يوم الأربعين وهم يتزاحمون على استلام الضريح الشريف بكلّ شوق ولهفة:

يتزاحمونَ على استلامِ مشاعِر

من دون روعتها الصفا والمشعَرُ

ركبوا لها الأخطارَ حتى لو غدت

تُبرى الأكفّ أو الجماجمُ تُنثَرُ

وافوكَ (يومَ الأربعين) وليتهم

حضروكَ يوم الطفِّ إذ تستنصر

____________________

(١) مقتل المقرّم ص٤٨٠ - ٤٨٢ بتصرّف.

٣١٨

وجدوا سبيلَكُمُ النجاةَ وإنّما

نصبوا لها جسرَ الولاءِ ليعبُروا(١)

وفي مثل هذا اليوم وصل الامام زين العابدين(ع) ومعه العائلة إلى كربلاء فوجدوا جابر بن عبداللَّه الأنصاري هناك قد ورد لزيارة قبر الامام الحسين(ع).

قال الأعمش بن عطية، خرجت مع جابر بن عبداللَّه الأنصاري زائراً قبر الحسين(ع)، فلمّا ورد كربلاء دنا من شاطئ الفرات فاغتسل ثمّ خرج وقد ائتزر بإزار وارتدى بآخر، ثمّ فتح صرّة فيها طيب فنثرها على بدنه ثمّ مشى إلى القبر الشريف حافياً، وكان لا يخطو خطوة إلّا ذكر اللَّهَ تعالى فيها، حتى إذا دنا من القبر قال: المسنيه يابن عطيه قال: فألمستُهُ القبر فخرَّ على القبر مغشياً عليه، فرششتُ عليه الماء فلمّا أفاق صاح: ياحسين ياحسين حتى قالها ثلاثاً ثمّ قال: حبيبٌ لا يجيبُ حبيبَه ثمّ قال: وأنى لك بالجواب وقد شخبت أوداجُكَ على أثباجك(٢) وفُرّقَ بين رأسِكَ وبدنك. أشهدُ أنك ابنُ سيّدِ النبيين، وابنُ سيّدِ الوصيين، وابنُ حليفِ التقى وسليلِ الهدى، وخامسُ أصحابِ الكسا، وابن فاطمة الزهراء سيّدة النساء، وكيف لا تكون كذلك، وقد غذّتك كفُّ سيّدِ المرسلين، وربّيتَ في حجور المتّقين، ورضعت من ثدي الإيمان، وفُطمت بالإسلام، فَطِبتَ حيّاً وطبت ميّتاً، غيرَ أن قلوبَ المؤمنين غيرُ طيّبةٍ لفراقكَ، ولا شاكّةٍ في حياتكَ فعليك سلامُ اللَّهِ ورضوانه، وأشهد أنك قد مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا

____________________

(١) من قصيدة للعلامة الشيخ عبد المهدى مطر النجفي.

(٢) الثبج: ما بين الكاهل إلى الظهر - الحاشية -

٣١٩

ثمّ أجال ببصره نحو قبور الشهداء وقال: السلامُ عليكم أيتها الأرواحُ التي حلّت بفناء قبر الحسين(ع) وأناخت برحله، أشهدُ أنكم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وجاهدتم الملحسدين وعبدتم اللَّه حتى أتاكم اليقين.

قال ابن عطية: رأيت سواداً قد أقبل فقلت لجابر اني أرى سواداً عظيماً مقبلاً علينا من ناحية الشام فالتفت جابر إلى غلامِهِ وقال له: انطلق وانظر ما هذا السواد، فإن كانوا من أصحاب عبيداللَّه بن زياد ارجع إلينا حتى نلتجئ إلى مكان، وإن كان هذا سيدي ومولاي زينَ العابدين فأنت حرٌّ لوجه اللَّه، فانطلق الغلام فما كان بأسرع من أن عاد وهو يلطم وجهَهُ وينادي: قم ياجابر واستقبل حُرَمَ اللَّه وحُرَمَ رسولِهِ فهذا سيدي ومولاي عليّ بن الحسين قد أقبل بعمّاتِهِ وأخواته ليجدّدوا العهدَ بزيارةِ الحسين(ع)، فقام جابر ومن معَهُ واستقبلوهم بالبكاء والعويل الذي يكاد الصخر أن يتصدّع منه، فلمّا وقع بصر الامام على جابر قال له: أنت جابر بن عبداللَّه الأنصاري قال نعم سيدي أنا جابر قال: ياجابر هاهنا ذُبحت أطفالُنا(١) ، ياجابر هاهنا أُحرقت خيامُنا ياجابر هاهُنا قُتلت رجالُنا، هاهنا سُبيت نساؤُنا:

يجابر شگلك ما لي لسان

على وجوههن فرّن النسوان

وبثيابهن تلهب النيران

لبالهن بالهيمة وليان

لگنهم ضحايا على التربان

____________________

(١) ثمرات الأعواد للمرحوم السيد علي الهاشمي١ ج٢ ص٥٥ - ٥٧.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343