المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة11%

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 343

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45026 / تحميل: 4732
الحجم الحجم الحجم
المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وكان هذا الإمام العظيم الشأن يقيمُ بنفسه مجلس عزاءِ جدِّه السبط الشهيد(ع) وذلك في داره بالمدينة حيث يدخل عليه الشعراء والقرّاء فينشئون وينشدون بين يديه المراثي المقرّحة للقلوب والأكباد. وكان يضرب السّتارَ للنساء ويأمرهنّ بالجلوس والاستماع للنّدبة.

روى المرحوم الشيخ ابن قولويه في (كامل الزّيارات) عن أبي عمارة المنشد عن أبي عبداللَّه الصادق(ع) قال: قال لي يا أبا عمارة أنشدني للعبدي(١) فأنشدته فبكى ثمّ أنشدتُهُ فبكى ثمّ أنشدته فبكى قال: فواللَّه ما زلتُ أنشده ويبكي حتى سمعتُ البكاء من الدّار فقال لي(ع) : يا أبا عَمارة من أنشد في الحسين شعراً فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى أربعين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنة، ومن أنشد في الحسين(ع) شعراً فأبكى واحداً فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنّة(٢) .

واعلم أنَّ لهذه المجالس - المآتم - فوائدَ ومنافع وبركات كثيرة جداً، وذلك إذا نظرنا إليها بعين المتفحّص البصير، وإليك طائفةً منها:

____________________

(١) هو أبو محمد سفيان بن مصعب العبديّ الكوفي، من شعراء أهل البيت: المتزلّفين إليهم بولائه وشعره، المقبولين عندهم لصدقِ نيّته وانقطاعه إليهم، عدّه‏ شيخ ‏الطائفة في ‏رجاله من أصحاب الإمام الصادق(ع) ، اُنظر: ترجمته في الغدير: ج٢ص٢٩٤.

(٢) كامل الزيارات: ص١٠٤، المطبعة المرتضوية سنة ١٣٥٦.

٢١

الأوّل: مواساة النبيّ(ص) وأهل بيته:، فإنّه حزين لقتل وُلدِهِ بلاريب، وقد دلّت عليه جملةٌ من الأحاديث، وأيُّ أمرٍ أهمُ وأوجبُ وأعظمُ فائدةً من مواساة رسول اللَّه(ص) ؟! وهل يمكن ان يكونَ المرءُ صادقاً في دعوى حبِّه للنبيّ(ص) وأهل بيته:، وهو لا يحزن لحزنهم، ولا يفرح لفرحهم، أو يتّخذ يوم حزن النبيّ(ص) يوم عيدٍ وسرور؟

الثاني: إنَّ فيها نصرةً للحق وإحياءً له، وخذلاناً للباطِل وإماتةً له، وهي الفائدة التي من أجلها أوجب اللَّهُ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المـُنكر بالقلب وباللسان وبالجوارح، فإن لم يمكن بالجوارح اقتصر على اللسان والقلب، فإن لم يمكن باللسان اقتُصِرَ على القلب.

الثالث: انها مدرسةٌ يسهل فيها التعلّم والاستفادة لجميع طبقات النّاس، فيتعلمون فيها التأريخ والأخلاق والتفسير والخطابة والشّعر واللغة وغير ذلك كثير، ووقوف السامع على بليغ الكلام من نظم ونثر زيادةً على ما فيها من تهذيب النفوس وغرس الفضيلة فيها.

الرّابع: إنّها نادٍ للوعظ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المـُنكر وما يجري هذا المجرى ففيها جلبٌ إلى طاعةِ اللَّه، وإبعادٌ عن معصيته بأحسن الطّرق وأنفعها بما يلقى فيها من المواعظ المؤثّرة، وقضايا الصّالحين والزّهاد والعبّاد وغير ذلك.

الخامس: انها من أهم السّبل في دعوةِ النّاس إلى الدّين الإسلامي ومذهب أهل البيت(ع) في جميع أنحاء المعمورة بأقوى الوسائل وأنفعها وأسهلها وأبسطها وأشدّها تأثيراً في النّفوس بما تودعه في قلوب المستمعين من بذل أهل البيت(ع)

٢٢

الذين هم رؤساءُ الدّين الإسلامي أنفسهم وأموالهم ودماءَهم في نصرة هذا الدّين الحنيف، وما تشتملُ عليه من إظهار محاسن الإسلام ومزاياه، وآياته ومعجزاته التي أبانوا عنها بأقوالهم وأفعالهم وشؤونهم وأحوالهم ممّا لا يدانيه ما تبذل عليه الأموال الطّائلة من سائر الأُمم وتتحمّل لأجله المشاق العظيمة.

السادس: إنَّ فيها عزاءً عن كلّ مصيبة، وسلوةً عن كلّ رزية، فإذا رأى الإنسان أنّ سادات المسلمين بل سادات النّاس وآل بيت المصطفى(ص) جرى عليهم من أنواع الظّلم والمصائب ما جرى هانت عليه كلُّ مصيبة وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله:

أنست رزاياكُم رزايانا التي

سلفَتْ وهوّنت الرّزايا الآتية

السابع: هي أنَّ المصلحة التي استُشهد الإمام الحسين(ع) من أجلها وفي سبيلها، والغاية السّامية التي كان يرمي في جهاده واستشهاده إليها وهي إحياء دين اللَّه تعالى، وإظهار فضائح المنافقين، هذه الغايات تقتضي استمرار هذه المآتم طول الدّهر، وإقامة التذكار لها في كلِّ عصر، وإظهارها للخاصّ والعام تقويةً لتلك المصلحة وتثبيتاً لها.

فلولا قتل الإمام الحسين(ع) لما ظهر للخاصّ والعام فسقُ يزيد بن معاوية وكفرُهُ وفجوره، وقبائحُ مَنْ مهّدَ له، ومكّنه من رقاب المسلمين، وذلك لأنَّ الذين دفعوا أهل البيت عن حقّهم ظهروا للنّاس بمظهر النّيابة عن رسول اللَّه(ص)، وتظاهروا بتأييد الدّين فخفي أمرُهُم على أكثر الناس، وبدّلوا من أحكام الشريعة ما شاؤوا واتّبعهُم على ذلك جلُّ الأمّة جهلاً أو

٢٣

رغبةً أو رهبة، وأمّروا على الاُمّة أعوانَهم وأتباعهم، وأقصوا أولياءَ اللَّه وأبعدوهم وحرموهم وساموهم أنواع الأذى من القتل والضّرب والنّفي والصّلب، ولعنوا أميرَ المؤمنين(ع) على منابر الإسلام، وأظهروا للاُمّة أنّهم هم آلُ رسول اللَّه(ص) وهم قرابتُهُ، والأحقّ بمقامه، وقد قال أهلُ الشام لبني العباس - عندما أخذوا السلطة من بني اُمية - إنّهم ما كانوا يعرفون قرابةً لرسول اللَّه(ص) إلّا بني اُميّة، ولو دام الحالُ على ذلك لأصبح الّدين أثراً بعد عين(١) .

قال الشاعر الموالي في ذلك مخاطباً الإمام الحسين(ع) :

شاطرتَ جدّكَ في الرّسالة انّها

ثمرٌ لغرسِ جهادكَ المتأخّرِ

أنتَ المجدِّدُ والنّبيُّ مؤسِّسٌ

وأبوكَ للإسلام خيرُ معمِّرِ

قبرتهُ آلُ اميّةٍ فبعثتَهُ حيّاً

ولولا كفرُهم لم يُقبَرِ

يُنقل أنّ شاباً موالياً لأهل البيت(ع) من أهل البحرين ذهب إلى بريطانيا لإكمال دراسته العلمية والحصول على شهادة عُليا، وفي أحد الأيام دخلَ احدى المكتبات العامة لأجل المطالعة، فوقعت عينُه على كتابِ مذكّرات لأحد الضبّاط الإنجليز الذي كان ضمن المجموعة التي ذهبت إلى العراق أيام الانتداب البريطاني، وإذا به يقرأ حادثة كان لها أكبر الأثر في تغيير مسيرة حياته بعد ذلك.

وحاصِلُها: انَّ هذا الضابط قد تكوّنت له صداقةٌ مع احدى العائلات الطيّبة الملتزمة دينيّاً في بغداد، وكان يزورهم بين آونةٍ واُخرى، وهم بالُمقابل يحسنون

____________________

(١) إقناع اللائم على إقامة المآتم للمرحوم السيد محسن الأمين: ص٣١٤.

٢٤

إليه ويضيّفونه في بيتهم، ويتبادلون الآراء ويتجاذبون أطراف الحديث. استمرت هذه الصّداقة حتى نهاية مدّته المعيّنة في العراق حيث قرّر العودة إلى بلاده فجاء إلى هذه العائلة زائراً كعادته وقال: إنّكم أحسنتم إليّ كثيراً طيلة هذه السنوات وكنتم لي كالأهل والأحبّة، وأنا أحبُّ أن اُجبر هذا اللطف وأقابل هذا الإحسان بدعوتكم لقضاء مدّةٍ طيّبة عندنا في بريطانيا إذا وافقتم على ذلك.

فوعدوه خيراً وطلبوا منه مهلةً لتداول الأمر بينهم ويخبروه بعد ذلك. وحدث ما كان يحبّ هذا الرّجل البريطاني حيث وافقوا على سفر الأب والاُم معه إلى بريطانيا وفعلاً سافروا جميعاً إلى هناك، وبعد وصولهم توجّهوا إلى دار الضابط وكانت واسعةً واقعةً في احدى ضواحي العاصمة، فأفرد لهما بيتاً مستقلاً كان موصولاً بداره وعيّن لهم خادماً يخدمهم وكانا لايغيبان عن نظره وتفقّده.

وفي صباح أحد الأيّام استيقظت الزوجة وقالت لزوجها: يا أبا فلان إني أشعرُ بضيقٍ واحتباس صدر وهمٍّ لا أعلمُ لماذا؟ فقال الزوج: وأنا كذلك أشعر بهمٍّ وحزن!! فقالت: لعلّ أحد الأولاد أصابه مكروه أو أحد الأقارب أو أحد الأصدقاء فبينما هم في هذا وأمثاله إذ صرخت المرأة قائلةً: أبا فلان عرفت السّبب!! فقال لها الرجل: وما هو باللَّه عليك؟ فقالت وقد ترقرقت دموعها: دخل علينا شهر محرّم كما أعتقد.

٢٥

فقام الرجل مسرعاً ونظر في تقويم الأيام فعرف أنّ ما تقوله زوجته صحيح وأنّهم في بداية شهر محرّم الحرام.

فقالت: أسفي على دخول هذا الشهر ونحنُ في هذا المكان البعيد حيث لانسمع قراءةً ولا نستطيع الذهاب إلى المآتم وبدأت بالبكاء والنحيب.

فقال لها الرجل: لا عليك أنا أقرأ لكِ شيئاً مما حفظته من المجالس، قومي وأحضري المنبر فقامت وجاءته بالمنبر ولبس الرّجل زيّه العربي وجلس على المنبر وبدأ يقرأ ويندب الإمام الغريب أبا عبداللَّه الحسين(ع) ويبكي والمرأة تستمع وتبكي وتندب وتعزّي فاطمة الزهراء(ع) حتى انتهى المجلس. فجلسا على الأرض فرحين حيث أدّيا حقّ ذلك اليوم من الأيام العشرة الاُولى من المحرّم.

فما مضت مدّة حتى طُرِقَ الباب وإذا بصديقهم يقول لهم: لماذا لم تخبروني بقدوم الضيوف إليكم حتى نقوم بالواجب؟!

فقال له الرجل: مَن يعرفنا هنا حتى يأتي لزيارتنا؟

فقال له: أنا رأيت بعيني الناس يدخلون هذا المكان، وهم يلبسون الملابس العربية، ورأيت معهم امرأةً محتشمة.

فبكى الرّجل حتى سالت دموعُهُ كلّ مسيل، وأخبره أنهم أقاموا مجلس عزاء الإمام الحسين(ع) كما كانوا يفعلون ذلك في العراق، وأنَّ أمثال هذه المجالس يرعاها أهل البيت عليهم الصلاة والسلام في حياتهم وبعد مماتهم.

٢٦

أقول: هذا مجلسٌ بعد رحيل أهل البيت: عن هذا العالم وهناك مجلس آخر كان في حياة الإمام أبي الحسن الرّضا (ع). وذلك عندما دخل عليه دعبل الخزاعي ومعهُ قصيدته التائيّة الخالدة.

قال السيّدُ الأمين: حكى دعبلُ الخزاعي قال: دخلت على سيدي ومولاي عليّ بن موسى الرّضا(ع) في أيام عشرة المحرّم فرأيته جالساً جِلسَةَ الحزين الكئيب وأصحابُه من حولِه فلمّا رآني مقبلاً قال لي: (مرحباً بناصرنا بيده ولسانه)، ثمّ أنّه وسّع لي في مجلسه وأجلسني إلى جنبه ثمّ قال لي: (يادعبل أُحبُّ أن تنشدني شعراً فإنّ هذه الأيّام أيّام حزنٍ كانت علينا أهل البيت وأيّام سرور كانت على أعدائنا خصوصاً بني اُميّة)، ثمّ إنّه(ع) نهض وضرب ستراً بيننا وبين حرمه وأجلس أهلَ بيته وراءَ السّتر ليبكوا على مصابِ جدّهم الحسين(ع) ، ثمّ التفت إليّ وقال لي: (يادعبل إرثِ الحسين فأنت ناصرُنا ومادُحنا ما دمت حيّاً فلا تقصِّر عن نصرنا ما استطعت)، قال دعبل فاستعبرت وسالت عبرتي وأنشأت أقول:(١)

مدارسُ آياتٍ خلَت من تلاوةٍ

ومنزلُ وحيٍ مُقفرُ العرصاتِ

لآلِ رسولِ اللَّه بالخَيفِ من مِنى

وبالبيتِ والتعريفِ والجمراتِ

منازلُ كانت للرّشادِ وللتُّقى

وللصّومِ والتطهيرِ والصّلواتِ

ديارُ عليٍّ والحسينِ وجعفرٍ

وحمزة والسجاد ذي الثفِناتِ

____________________

(١) المجالس السَّنيّة: ج١ ص٣٨.

٢٧

إلى أن قالَ معدّداً قبور بني هاشم ومعزّياً فاطمة الزهراء(ع):

فاطمُ قومي ياابنةَ الخيرِ واندبي

نجومَ سماواتٍ بأرض فلاتِ

قبورٌ بكوفانٍ واُخرى بطيبةٍ

واُخرى بفَخٍ نالها صلواتي

قبورٌ بجنبِ النهرِ من أرضِ كربلا

معرَّسُهم فيها بشطِّ فراتِ

تُوفُّوا عَطاشى بالفراتِ فليتني

توفّيتُ فيهم قبلَ حينِ وفاتي

* * *

ثمّ أفرد الحسينَ بالذّكر فقال معزّياً أُمُّه الزهراء(ع):

أفاطمُ لو خلتِ الحسينَ مجدّلاً

وقد ماتَ عطشاناً بشطِّ فراتِ

إذن للطمتِ الخدَّ فاطمُ عندَهُ

وأجريتِ دمعَ العينِ في الوجنات

* * *

يا فاطمة يم البدور

يلگبرك خفي من دون الگبور

جيبي سدر لبنك وكافور

اخبرك بصدر حسين مكسور

ظامي الكبد بالترب معفور

أيا ناعياً إن جئت طيبةً مقبلاً

فعرّج على مكسورةِ الضلعِ مُعوِلاً

وحدِّث بما مَضَّ الفؤادَ مفصّلاً

أفاطمُ لو خلت الحسينَ مجدّلاً

وقد مات عطشاناً بشطِّ فرات

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٢٨

الليلة الثانية المجلس الثالث

فضائل الإمام الحسين(ع)

رحلوا وما رحلُ أهيلُ ودادي

إلا بحسنِ تصبُّري وفؤادي

ساروا ولكن خلّفونيَ بعدهم

حُزناً أصوبُ الدّمعَ صوب عهادي

وسرتْ بقلبي المستهامِ ركابُهم

تعلو به جبلاً وتهبطُ وادي

وخلت منازلُهم فها هي بعدهم

قفرا وما فيها سوى الأوتادِ

تأوي الوحوشُ بها فسربٌ رائحٌ

بفناءِ ساحتِها وسربٌ غادي

ولقد وقفتُ بها وقوفَ مولَّهٍ

وبمهجتي للوجدِ قدحُ زنادي

أبكي بها طوراً لفرطِ صبابتي

وأصيحُ فيها تارةً وأُنادي

يادارُ أين مضى ذووكِ أما لهم

بعد الترحُّلِ عنكِ يومَ معادِ

يادارُ قد ذكّرتني بعراصِك القفرا

عراصَ بني النبيّ الهادي

لمّا سرى عنها ابنُ بنتِ محمّدٍ

بالأهل والأصحاب والأولاد

بقيت عليلتُهُ تنوحُ بعولةٍ

وتصيحُ ذابَ من الفراقِ فؤادي(١)

____________________

(١) هذه القصيدة للخطيب الأديب المرحوم السيد مهدي الأعرجي، والبيت الأخير للخطيب الأديب الشيخ محسن الفاضلي النجفي.

قال السيد جواد شبر في (أدب الطفّ) الجزء التاسع ص١٩٢:

ولد السيد مهدي في النجف الأشرف سنة ١٣٢٢ه ، ودرس فنّ الخطابة على خاله الخطيب الشهير الشيخ قاسم الحليّ، زاول نظم الشعر وعمره أربعة عشر سنة، وأول قصيدة نظمها كانت في رثاء الإمام الحسن السبط(ع):

٢٩

نعي

سار حسين وامسه الحرم مغبر

أويلي والمدينة غدت تصفر

طلعوا آل هاشم عن وطنهم

او ظل خالي حرم جدهم بعدهم

ساروا ليلهم وابعد ظعنهم

اولن صوت العليلة ابگلب محتر

____________________

قضى الزكيّ فنوحوا يامحبّيه

وابكوا عليه فذي الأملاك تبكيه

كان طيّب القلب إلى أبعد حدود الطيب، ولم يك في الناس ممن رآه ولم يهواه ويحبّه لصفائه إذ هو لا يستخفّ بأحدٍ ولا يحقدُ على مخلوق، وكان فطناً يقوم بواجبه أحسن قيام متديّن ورع لم يعبأ بالعسر الذي لازمه وألحّ عليه.

ومن طريف شعره في ذلك حيث كتب رسالة للمرجع الديني المرحوم السيد أبوالحسن الإصفهاني فقال:

جاء الشتا وليس لي من عدّةٍ

أعتدُّ فيها من طوارقِ الزّمن

وها أنا أريدُ لي عباءةً

وإنّ من أهلِ العبا أبو الحسن

وإلى جانب هذه الموهبة بالفصحى فهو ذا ملكةٍ قويةٍ بالنظم باللغة الدارجة متفنّنٌ فيها ففي الموال والأبوذية والشعر الدارج لا يجارى.

أما ولاؤه لأهل البيت: وتفانيه في حبِّهم فهو من ألمع ميزاته، ولا زلت أتمثّلُهُ في المآتم الحسينيّة يجهش بالبكاء، وقد أفنى عمره في خدمة المنبر الحسيني الشريف.

ومن نظمه تخميسُهُ بيتين للمرحوم السيد رضا الهندي في وداع السيدة زينب لأخيها الحسين:

مرّت بهم زينبٌ لما نووا سفرا

بها العدى فأطالت منهُمُ نظرا

ومذ رأت صنوَها في الترب منعفرا

همّت لتقضي من توديعِهِ وطرا

وقد أبى سوطُ شمرٍ أن تودّعَهُ

إذا دنت منه سوطُ الشّمرِ أرجعها

ورمحُ زجرٍ ما تَبكيه قنّعَها

فلم تودّع محاميها ومفزِعَهَا

ففارقتهُ ولكن رأسُهُ معها

وغاب عنها ولكن قلبُها معَهُ

توفيرحمه‌الله تعالى سنة ١٣٥٩ه غريقاً في شط الحلة يوم الخامس من شهر رجب.

٣٠

دريضوا هنا يهلنا للعليلة

يهلنه فراگكم ماليش حيلة

يهلنا بعدكم ما نام ليلة

او عيني من بعدكم دوم تسهر

صاح حسين يافاطم دردّي

دردّي للمدينة وطن جدي

أوديلچ علي ابنيّي اوكبدي

اولابد ما يجي يمك مخبّر

ردّت للمدينة وسار أبوها

اوظلّت ترتقب عمها وأخوها

ظنّت فاطمة لنهم يجوها

أخوها والبطل عمها المشكّر(١)

____________________

(١) النصّاريات للمرحوم الشيخ محمّد نصّار.

قال المرحوم السيد جواد شبر في (أدب الطف) الجزء السابع ص٢٣٢:

الشيخ محمد بن الشيخ علي بن إبراهيم آل نصار الشيباني النجفي المعروف بالشيخ محمد نصار.

توفي١ في جمادى الآخرة سنة ١٢٩٢ه في النجف الأشرف ودفن في الصحن الشريف عند الرأس وهو من أسرة أدبٍ وعلم.

وكان فاضلاً أديباً له شعر باللغتين الفصحى والدارجة، وقلّ ما ينعقد مجلسٌ عزاءٍ للحسين(ع) فلا يقرأ فيه من شعره الدارج، ولعلّ السرّ في ذلك هو أن الناظم كان من أهل التقوى، ولشدّة حبّه لأهل البيت: سمّى كلّ أولاده باسم علي وجعل التمييز بينهم في الكنية فواحد يكنى بأبي الحسن والثاني بأبي الحسين وهكذا.

وحدّث صاحب كتاب (التكملة) فقال: عاشرته ورافقتُهُ مدّةً فكان خفيف الروح كثير الدعابة إلى تقى وديانة وتمسّك بالشّرع جداً.

ومن طريف ما حدّث به انه قال: قصدت قبر الإمام عليّ ابن موسى الرضا(ع) بخراسان في سنة ١٢٨٥ه فامتدحته بقصيدةٍ - وأنا في الطريق - على عادة الشعراء في قصدهم الملوك، واكملتها قبل دخولي المشهد الشريف بيوم واحد وكان مطلعها:

ياخليليَّ غلّسا لا تُريحا

أوشكت قبةُ الرّضا أن تلوحا

ومنها قوله:

٣١

قال الشاعرُ الموالي مخاطباً الإمام الحسين(ع):

ياصفوةَ النورين أنت زجاجةٌ

قدسيّةٌ في هيكلٍ من جوهرِ

وسلالةٌ نبويّةٌ قد أُنزلت

من جنّةِ المأوى وماءِ الكوثرِ

من أهل بيتٍ أذهبَ اللَّهُ العمى

والرّجسَ عنهم أطهراً عن أطهر

شاطرت جدَّك في الرِّسالة إنها

ثمرٌ لغرسِ جهادِكَ المتأخّر

أنت المجدِّدُ والنبيُّ مؤسِّسٌ

وأبوك للإسلام خيرُ معمِّر

ولدَ الإمامُ أبو عبداللَّه الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم الصلاة والسلام بالمدينة الطيّبة يوم الثالث من شهر شعبان للسنة الرابعة للهجرة الشريفة(١) .

قال المرحوم السيّد عبداللَّه شبّر في (جلاء العيون): المشهور بين علماء الشيعة أنّه - أي الإمام الحسين(ع) - ولد بالمدينة لثلاثٍ خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة(٢) .

____________________

إِنّ قبراً لا طفت فيه ثراهُ

منع المسكَ طيبُهُ أن يفوحا

قال؛: فلما دخلت المشهد الشريف وزرتُهُ ونمت تلك الليلة، رأيت في منامي الإمام الرضا(ع) جالساً على كرسي في روضتِهِ فسلّمت عليه وقبلت يديه فرحّب بي وأدناني وأعطاني صرّة وقال: افتحها ففيها مسك، ففتحتها فوجدت فيها فتاتاً لا رائحةَ له فقلت لا رائحة له فتبسّم(ع) وقال: ألست القائل:

إِنّ قبراً لا طفت فيه ثراهُ

منع المسكَ طيبُهُ أن يفوحا

فهذا مسك أذفر منع طيبُ ثرى قبري رائحتَهُ، فانتبهت وأنا فرح بما شاهدت.

توفيرحمه‌الله تعالى في جمادى الأولى سنة ١٢٩٢ه وقد ناهز عمرهُ الستين، ودفن في (النجف الأشرف) في رأس الساباط من الصحن الشريف بين قبر المرحومَين: ميرزا جعفر القزويني وقبر السيّد حيدر الحلي.

(١) اُنظر: مسار الشيعة للشيخ المفيد: ص٣٧.

(٢) جلاء العيون: ج٢ ص٢.

٣٢

وسمّاه النبيّ(ص) بأمر اللَّه تعالى حسيناً باسم أصغر ولدي هارون(١) وما كانت العرب تعرف اسمي الحسن والحسين حتى أنزلهما اللَّه تعالى من الجنّة لهذين الإمامين الطاهرين.

وروى ابن شهرآشوب في (المناقب): إنَّ فاطمة(ع) اعتلّت لما ولدت الحسين(ع) وجفّ لبنها فطلب رسول اللَّه(ص) مرضعاً فلم يجد فكان يأتيه فيلقمُهُ إبهامَهُ ويجعل اللَّه تعالى له في إبهام رسول اللَّه(ص) رزقاً يغذوه ففعل ذلك أربعين يوماً وليلة فنبتَ لحمُهُ من لحمِ رسول اللَّه(ص)(٢) .

وللَّه درُّ الشاعر:

للَّهِ مرتضعٌ لم يرتضع أبداً

من ثدي اُنثى ومن طه مراضعُهُ

يُعطيه إبهامَهُ طوراً وآونةً

من ريقه فاستوت منه طبائعُهُ

سرٌّ به خصَّهُ باريه إذ جُمعت

واُودعت فيه عن أمرٍ ودائعُهُ

غرسٌ سقاهُ رسولُ اللَّه من يده

فطابَ من طيبِ ذاك الأصل فارعُهُ

وروي عن أُمِّ الفضل بنت(٣) الحارث أنها دخلت على رسول اللَّه(ص) فقالت:

____________________

(١) في بعض الروايات انَّ لهارون - وصيّ النبيّ موسىعليه‌السلام - ثلاثة أولاد: شُبر وشُبير ومُشبر وبهم سمّى رسول اللَّه ‏صلى الله وعليه وآله وسلم الحسن والحسين والمحسن‏عليهم‌السلام .

(حاشية جلاء العيون)

(٢) المناقب: ج٤ ص٥٠.

(٣) زوجة العباس بن عبد المطّلب عمّ النبيّ(ص).

٣٣

يارسول اللَّه رأيت البارحة حلماً(١) منكراً قال: وما هو؟ قالت: إنّه شديد قال: وما هو؟ قالت: رأيت كأنّ قطعةً من جسدك قطعت فوضعت في حجري قال: خيراً رأيت تلدُ فاطمة(ع) غلاماً يكون في حجرك، فولدت فاطمة(ع) الحسين(ع) فكان في حجري كما قال رسول اللَّه(ص)، فدخلت يوماً على النبي(ص) فوضعته في حجره ثمّ حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول اللَّه(ص) تهرقان بالدّموع فقلت: بأبي أنت واُمّي يارسول اللَّه مالك؟ قال: أتاني جبرئيل فأخبرني أنَّ اُمّتي تقتلُ ابني هذا وأتاني بتربةٍ حمراء من تربتهِ(٢) .

وقد كان النبيّ(ص) يحبُّهُ حبّاً جمّاً. روي عن حذيفة بن اليمان قال: رأيت النبيّ(ص) آخذاً بيد الحسين بن علي(ع) وهو يقول: يا أيّها الناس هذا الحسين بن علي فاعرفوه فوالذي نفسي بيده إنّه لفي الجنة، ومحبّوه في الجنّة، ومحبّوا محبّيه في الجنة(٣) .

وروى الشيخ الصدوق؛ في الأمالي من طرق المخالفين - السُنّة - عن البراء بن عازب قال: رأيت رسول اللَّه٩ حامل الحسين(ع) وهو يقول: (اللّهمَّ إني أحبُّهُ فأحبَّه)(٤) .

____________________

(٢) الحُلُم - بالضم - : ما يراه النائم في نومه لكنّه غلب على ما يراه من الشّر والقبيح كما غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والحسن، وربما استعمل كلُّ مكان الآخر.(من الحاشية)

(٣) بحار الأنوار: ج٤٤، ص٢٣٨، ح ٣١.

(٤) جلاء العيون للسيّد عبد اللَّه شبّر: ج٢ ص١١.

(٥) المصدر السابق نفسه: ص١١.

٣٤

وروى ابن قولويه؛ من طرق المخالفين عن يعلي بن مرّة العامري قال: قال رسول اللَّه(ص): (حسينٌ منّي وأنا من حسين، أحبّ اللَّهُ مَن أحبّ حسيناً، حسينٌ سبطٌ من الأسباط)(١) .

وكان الحسنان عليهما الصلاة والسلام ريحانتا رسول اللَّه(ص) من الدّنيا، ففي الحديث عن أبي بصير عن الإمام الصّادق(ع) قال: قال رسول اللَّه(ص): (ريحانتيّ الحسن والحسين)(٢) .

بل الحسين(ع) أحبّ أهلِ الأرض لأهلِ السماء كما جاء ذلك في الحديث المروي عن النبيّ(ص) حيث قال: (من أحبّ أن ينظر إلى أحبّ أهلِ الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى الحسين(ع) )(٣) .

ومحبّة أهل السماء فضيلةٌ يشارك الحسينَ(ع) فيها جدُّهُ المصطفى وأبوه المرتضى واُمّه سيّدة النساء وأخوه المجتبى صلوات اللَّه عليهم أجمعين، ورحم اللَّه تعالى الفرزدق حيث يقول:

من معشرٍ حبُّهم دينٌ وبغضهُمُ

كفرٌ وقربُهُمُ منجىً ومعتصمُ

إن عُدَّ أهلُ التُّقى كانوا أئمتَهم

أوقيل مَن خيرُ أهلِ‏الأرض قيل: هُمُ

مقدّمٌ بعد ذكرِ اللَّه ذكرُهُمُ

في كلِّ بدءٍ ومختومٌ به الكلِمُ

____________________

(١) جلاء العيون للسيّد عبد اللَّه شبّر: ج٢ ص١٢.

(٢) المصدر السابق: ص١١.

(٣) المصدر السابق: ص١٧.

٣٥

وروى الحديث ابنُ شهرآشوب في (المناقب) عن جماعةٍ من علماء أهل السُنّة فقال: رواه الطبريان في الولاية والمناقب، والسمعاني في الفضائل بأسانيدِهم عن إسماعيل بن رجاء وعمرو بن شعيب، أنّه مرّ الحسين بن علي(ع) على عبداللَّه بن عمرو بن العاص فقال عبداللَّه: من أحبّ أن ينظر إلى أحبّ أهلِ الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى هذا المجتاز، وما كلّمتُهُ منذ ليالي صفّين، فأتى به أبو سعيد الخدري إلى الحسين(ع) فقال الإمام: أتعلم أني أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء وتقاتلني وأبي يوم صفّين واللَّه إنّ أبي لخيرٌ مني!! فاستعذر عبداللَّه من الإمام وقال: إنّ النبيّ(ص) قال لي: أطع أباك فقال له الإمام الحسين(ع): أما سمعت قول اللَّه تعالى:( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ) (١) ، وقول النبيّ(ص): (إنّما الطّاعَةُ في المعروف)، وقوله: (لاطاعة لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق)(٢) .

وأمّا عبادتُهُ(ع) فقد كان أعبَدَ أهل زمانه، وكان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة. روى بن عبد ربّه في (العقد الفريد) انّه قيل لعليّ بن الحسين(ع): ما أقلّ ولد أبيك؟ فقال(ع): (العجبُ كيف ولدتُ وكان أبي(ع) يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة(٣) ، ولقد حجّ خمساً وعشرين حِجّة ماشياً على قدميه ونجائبُهُ تقاد بين يديه)(٤) .

____________________

(١) سورة لقمان: الآية ١٥.

(٢) المناقب: ج٤ ص٧٣.

(٣) جلاء العيون: ج٢ ص٢٨.

(٤) ثمرات الأعواد: ج١ ص٤٧.

٣٦

وأمّا تواضعُهُ فإنّه(ع) مرّ بمساكين قد بسطوا كساءً لهم وألقوا عليه كسراً فقالوا: هلمَّ يابن رسول اللَّه فثنى وركه فأكلَ معهم ثمَّ تلا قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُستَكبِرِينَ)، وفي رواية اُخرى أنّه(ع) اعتذر منهم بأنّ طعامكم صدقة وهي محرّمة علينا ثمّ قال: قد أجبتكم فأجيبوني قالوا: نعم ياابن رسول اللَّه فقاموا معهُ حتى أتوا منزلَهُ فقال للجارية أخرجي ما كنت تدخرين(١) فأطعمهم وسقاهم وكساهم وأغناهم.

خُلقٌ يخجلُ النّسيمَ من اللطفِ

وبأسٌ يذوبُ منه الجمادُ

شِيَمٌ ما جُمِعْنَ في بشرٍ قطُ

ولا حاز مثلَهنَّ العبادُ

وأمّا إباؤه للضّيم فيقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة: سيّدُ أهل الإباء الّذي علّم الناس الحميّة والموت تحت ظلالِ السيوف اختياراً له على الدنيّة أبو عبداللَّه الحسين بن عليّ بن أبي‏طالب(ع)، عُرض عليه الأمان وأصحابه فأنِفَ من الذّل، وخاف من ابن زياد أن ينالَهُ بشي‏ءٍ من الهوان إن لم يقتله فاختار الموت على ذلك، وسمعتُ النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي البصري يقول: كأنَّ أبيات أبي‏تمّام في محمّد بن حُميد الطّائي ما قيلت إلّا في الحسين(ع)

وقد كانَ فوتُ الموتِ سهلاً فَرَدَّهُ

إليه الحفاظُ المرُّ والخُلُقُ الوعرُ

ونفسٌ تَعافُ الضَّيمَ حتى كأنَّه

هو الكفرُ يوم‏الرَّوْع(٢) أو دونه الكفرُ

فأثبتَ في مستنقعِ الموتِ رجلَهُ

وقال لها: من تحتِ أخمَصُكِ الحشرُ

____________________

(١) جلاء العيون: ج٢ ص٢٤.

(٢) الرّوع: الحرب.

٣٧

تتردّى ثيابَ الموتِ حمراً فما أتى

لها الليلُ‏ إلاوهي من سُندُسٍ‏ خُضرُ

ومن كلام الحسين(ع) يوم الطّف المنقول عنه نقله زينُ العابدين عليُّ ابنه(ع): (ألا وإنَّ الدّعيَ ابنَ الدّعي قد خيّرنا بين اثنتين: السّلةِ أو الذّلة، وهيهاتَ منّا الذّلة! يأبى اللَّهُ لنا ذلك ورسولهُ والمؤمنون وحجورٌ طابت وطهُرت وأنوفٌ حميّة ونفوسٌ أبيّة)(١) .

وقال سبطُ ابن الجوزي: وقد ذكر جدّي في كتاب (التبصرة) وقال: إنّما سار الحسين(ع) إلى القوم لأنّه رأى الشريعة قد دثرت فجدَّ في رفع قواعد أصلها، فلّما حصروه فقالوا له أنزل على حكم ابن زياد قال: لا أفعل واختار القتلَ على الذّل وهكذا النفوس الأبيّة ثمّ أنشد جدّي فقال:

فلمـّا رأوا بعضَ الحياةِ مذلّةً

عليهم وعزُّ الموتِ غيرُ محرَّمِ

أبَوا أن يذوقوا العيشَ والذلُّ واقعٌ

عليهم وماتوا ميتةً لم تذمَّمِ

ولا عجبٌ للأسدِ أن ظفرت بها

كلابُ الأعادي من فصيح وأعجمِ

فحربةُ وحشيٍّ سقتَ حمزةَ الرّدى

وحتفُ عليٍّ في حسام ابن ملجَمِ(٢)

ولهذا رفض الإمام الحسين البيعة ليزيد، وقرّر الخروج من المدينة، فجمعَ عياله وأهل بيته وشيعته ومضى بهم إلى مكة ولكنّه ترك ابنةً له عليلة مريضة اسمها (فاطمة) وطلب من اُمّ سلمة زوجة النبيّ(ص) رعايتها، وسار الرّكب وكأني بفاطمة العليلة تودّع الرّكب بدموعها الجارية على خدّيها ولسان الحال:

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج٣ ص٢٤٩ - ٢٥٠.

(٢) تذكرة الخواص: ص٢٧٣.

٣٨

بعدكم راح أظل بس تدمع العين

ويحگلي البكا والنوح كل حين

وگضي العمر حسرات وونين

على أهلي المشوا عنّي بعيدين

لفراگهم ما ليش تمكين

* * *

يقولون ثمّ عادت إلى الدار وإذا بها خالية موحشة فجلست عند مهد أخيها عبداللَّه الرّضيع وأخذت تهزّه وتخاطب الدار الخالية:

مشوا عني هلي لا لچ ولالي

وزماني من بعد أهلي ولالي

للزم مهد عبداللَّه ولالي

بلكن يرد وحشتهم عليه

رحلوا وما رحلُ أهيلُ ودادي

إلا بحسنِ تصبُّري وفؤادي

ساروا ولكن خلَّفوني بعدهم

حزناً أصوبُ الدَّمعَ صوبَ عهادي

لاحول ولا قوة إلا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٣٩

الليلة الثانية المجلس الرابع

الخروج من المدينة إلى مكة

وجهُ الصّباحِ عليَّ ليلٌ مظلمُ

وربيعُ أيّامي عليَّ محرَّمُ

والليلُ يشهدُ لي بأنّي ساهرٌ

إن طاب للنّاسِ الرُّقادُ فهوّموا

من قرحةٍ لو أنّها بيَلملَم

نسفَت جوانبَهُ وساخَ يلَملمُ(١)

قلقاً تقلّبني الهمومُ بمضجعي

ويغورُ فكريَ في الزّمانِ ويُتهِمُ

ما خلتُ أنَّ الدهرَ من عاداته

تَروَى‏الكلابُ به ويَظمَى الضيغَمُ

ويُقدَّمُ الأُمويُّ وهو مُؤخَّرٌ

ويُؤخَّرُ العلويُّ وهو مُقدَّمُ

مثلُ ابنِ فاطمةٍ يبيتُ مُشرَّداً

ويزيدُ في لذَّاتهِ مُتنعِّمُ

ويُضيِّقُ الدُّنيا على ابنِ محمّدٍ

حتّى تقاذَفَهُ الفضاءُ الأعظمُ

خرجَ الحسينُ من المدينةِ خائفاً

كخروج موسى خائفاً يتكتَّمُ

وقد انجلى عن مكّةَ وهو ابنُها

وبه تشرَّفَتِ الحطيمُ وزمزمُ

لم يدرِ أين يُريحُ بُدنَ ركابِهِ

فكأنّما المأوى عليه مُحرَّمُ(٢)

____________________

(١) يلملم: اسم جبل.

(٢) القصيدة من نظم المرحوم السيد جعفر الحلّي الدر النضيد: ص٣٠٨.

قال المرحوم السيد محسن الأمين العاملي في (أعيان الشيعة) المجلد الرابع ص٩٧:

ولد يوم النصف من شعبان سنة ١٢٧٧ في قريةٍ من قرى العذار تعرف بقرية السادة، وتوفي فجأةً في النجف الأشرف في شهر شعبان لسبعٍ بقين منه سنة ١٣١٥ه ودفن هناك.

كان -رحمه‌الله تعالى - فاضلاً أديباً محاضراً شاعراً قويّ البديهة حسن العشرة صافي

٤٠

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم

هذا ما أوصى به الحسينُ بن عليّ بن أبي طالب(ع) لأخيه محمّد المعروف (بابن الحنفية):

____________________

السّريرة حسن السّيرٍة، له ديوان شعر مطبوع إسمه - سحرُ بابل وسجع البلابل - جمعه بعد وفاته أخوه السيد هاشم، وقد ضاع كثيرٌ من شعرِهِ الذي كان ينظمه على البديهة من الأبيات القليلة.

قال السيد الأمين: رأيته في النجف، وكان شريكنا في الدرس عند الفقيه الشيخ محمد طه نجف، وقرأ أيضاً على الشيخ ميرزا حسين بن ميرزا خليل، وتوفي ونحن في النجف ورثاه الشعراء منهم الشيخ محمد السماوي صاحب كتاب - الطليعة - بقوله من قصيدة:

أيُّ فؤادٍ عليك ما احترقا

وأيُّ دمعٍ عليك ما اندفقا

ياراحلاً والكمالُ يتبعُهُ

ما أنت إلا الهلالُ قد مُحِقا

بكى عليك القريض منفجعاً

وانفجع الفضلُ فيك محترقا

وقال السماوي: رأيت السيد جعفر بعد موته في الرؤيا وسألته عن حالِهِ فقال: أمّا نحنُ أصحاب السيد مهدي القزويني فكلّنا في الجنّة.

وكان المرحوم السيد جعفر الحلي كثير المطايبة، ومن ذلك قوله وهو يخاطب أستاذه الفاضل الملا محمد الشربياني وهو على المنبر بعد الفراغ من الدرس ارتجالاً:

أشيخَ الكلِّ قد أكثرتَ بحثاً

بأصلِ براءةٍ وبإحتياطِ

وهذا فصلُ زوّارِ وسَرْطِ

فباحثنا بتنقيحِ المناطِ

والسَّرط هو الأكل والإبتلاع.

وقال على سبيل المطايبة أيضاً:

للشربيانيِّ أصحابٌ وتلمذةٌ

تجمّعوا حولَه من هاهنا وهنا

ما فيهم مَن له بالعلمِ معرفةٌ

يكفيك أفضلُ كلِّ الحاضرين أنا

وقال في رئيسي النجف آنذاك: السيد محمّد الطباطبائي، والسيد محمد القزويني:

شتّانَ بينَ محمّدٍ ومحمّدِ

ذا طبطبائيٌّ وذا قزويني

أنا أعرفُ الرّجلَ المهذّبَ منهما

باللَّهِ لا تسأل عن التعيينِ

٤١

(إنَّ الحسينَ يشهدُ أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمّداً عبدُهُ ورسوله، جاء بالحقّ من عند الحق، وانّ الجنّة والنّارَ حق، وأنّ الساعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها، وأنّ اللَّه يبعثُ مَن في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطِراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في اُمّةِ جدّي محمّد اُريدُ أن آمرَ بالمعروف وأنهى عن المُنكر، وأسيرَ بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي‏طالب، فمن قَبِلَني بقَبولِ الحقّ فاللَّهُ أولى بالحق، ومَن ردَّ عليَّ هذا أصبرْ حتى يقضيَ اللَّهُ بيني وبينَ القوم بالحقّ وهو خيرُ الحاكمين.

وهذه وصيّتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلا باللَّه عليه توكلتُ وإليه اُنيب). ثمّ طوى الكتاب وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة ثمّ ودّعهُ وخرج(ع) من عنده(١) .

بهذه الكلمات النيّرة والمعاني العالية الواضحة أعلن الإمام الحسين(ع) سببَ النهضة وعيّنها ولم يجعلها عائمة وذلك بقوله: وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، واسيرَ بسيرةِ جدّي وأبي علي بن أبي طالب:، وعيّن ذلك ب-(إنّما) وهي أداة حصر عند النحويين فهو لم يطلب غير الإصلاح من جاهٍ أو سلطان أو سمعةٍ أو أموال كما يفعله غيرُهُ من ذوي الأطماع بعد أن يتستّروا وراءَ الشعارات اللطيفة والغايات الشريفة وإنَّما سعيهم وجهدهم لأغراضٍ دنيويّة، وغاياتٍ آنيّة، ومعلومٌ أنَّ الإمام الحسين(ع) لم يكن محتاجاً إلى جاه أو سلطان فهو سيّدُ شباب أهل الجنّة، وريحانة رسول اللَّه(ص)

____________________

(١) ثمرات الأعواد: ج١ ص١٠١.

٤٢

وابنه الذي خلّفه في اُمّته وقال في حقّه: حسينُ مني وأنا من حسين، أحبّ اللَّهُ من أحبّ حسيناً، حسينٌ سبطٌ من الأسباط(١) .

وإلى غير ذلك من أقوال النبيّ(ص) في حقّ الإمام الحسين وأخيه الإمام الحسن(ع)، وهي فضائل يعرفها المسلمون آنذاك كما يعرفون الصلوات اليوميّة وعدد ركعاتها.

يقول الشيخ أسد حيدر في كتابه (مع الحسين في نهضته): وهذه الفقرات - الوصيّة - هي تجسيدٌ لأوضاع العصر الّذي تعيشُهُ الاُمّة الإسلاميّة من جرّاء ما خلّفتهُ السياسة الاُمويّة في عهد معاوية من فسادٍ وانحطاط وضياع الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، إنّ تلك الأوضاع السّائدة وليدة استهتارٍ، وبُعدٍ عن الإلتزام بنواميس الدّين، وتغييرٍ للخطط التي أوضحها الرسول(ص) لاُمّته لمسيرتهم في الحياة(٢) .

ومن جملة الموبقات التي خرج بها معاوية بن أبي سفيان عن نهج رسول اللَّه(ص) وطريقته هي أن جَعَلَ الخلافة الإسلاميّة وراثةً في أصلاب أبنائه، فقد هلك معاوية في النصف من رجب سنة ٦٠ هجرية، وكان قبل هلاكه قد كتب وصيّةً لإبنه يزيد وهي: يا بنيّ إنّي قد كفيتك الشدَّ والتّرحال، ووطّأتُ لكَ الاُمور، وذلّلتُ لك الأعداء، وأخضعتُ لك رقابَ العرب، وجمعتُ لك ما لم يجمعُهُ أحد، فانظر أهلَ الحجاز فإنّهم أصلُك أكرم مَن قدمَ عليك منهم، وتعاهد مَن غاب، وانظر أهلَ العراق فإن سألوك أن تعزل

____________________

(١) جلاء العيون: ج٢ ص١٢.

(٢) مع الحسين في نهضته: ص٦٨ - ٦٩.

٤٣

عنهم كلَّ يومٍ عاملاً فافعل، فإنّ عزلَ عامِلٍ أيسر من أن يُشهرَ عليكَ مائة ألف سيف، وانظر أهلَ الشام فليكونوا بطانتك وعيبتَك(١) ، فإن رابكَ من عدوِّكَ شي‏ءٌ فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهلَ الشام إلى بلادهم، فإنّهم إن أقاموا بغير بلادهم تغيّرت أخلاقهم، وإني لستُ أخاف عليك أن ينازعك في هذا الأمر إلّا أربعة نفر من قريش: الحسينُ بن علي(ع) وعبداللَّه بن عمر، وعبداللَّه بن الزبير، وعبدالرّحمن بن أبي بكر، فأمّا عبداللَّه بن عمر فإنّه قد وقذته العبادة فإذا لم يبق غيره بايعك، وأمّا الحسين بن علي(ع) فهو رجل لن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، فإن خرج وظفرت به فاصفح عنه فإنّ له رحماً ماسّةً وحقّاً عظيماً وقرابةً من محمّد(ص)(٢) ، واعلم يا بني أنّ أباه خيرٌ من أبيك، وأنّ اُمّه خيرٌ من اُمّك، وأنّ جدّه خيرٌ من جدّك(٣) ، وأمّا ابن أبي بكر فإن رأى أصحابهُ صنعوا شيئاً صنع مثلهُ ليس له همّةٌ إلّا في النساء واللهو، وأمّا الذي يجثم لك جُثومَ الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإن أمكنته فرصةٌ وثب فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطّعهُ إرْباً إرْبا، واحقن دماء قومك ما استطعت(٤) .

ثمّ هلك معاوية للنّصف من رجب سنة ستين هجرية كان ابنهُ يزيد في (حوران) فأخذ الضحّاك بن قيس

أكفانه ورقى المنبر فقال بعد الحمد للَّه والثناء عليه:

____________________

(١) العَيبة: ما تجعل فيه الثياب كالصندوق، وأراد معاوية أنّهم موضع سرّك.

(٢) الكامل في التأريخ لابن الأثير: ج٤ ص٦.

(٣) ثمرات الأعواد: ج١ ص٦٥.

(٤) الكامل في التأريخ لابن الأثير: ج٤ ص٧.

(٥) حَوْران : كورة واسعة من أعمال دمشق ذكرها الحموي في (معجم البلدان) : ج ٢ ص ٣١٧.

٤٤

كان معاوية سورَ العرب وعونهم قطع اللَّه به الفتنة، وملّكه على العباد وفتح به البلاد ألا إِنَّه قد مات وهذه أكفانُهُ فنحنُ مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله ثمّ هو البرزخ إلى يوم القيامة فمن كان منكم يريد أن يشهد فليحضر، ثمّ صلّى عليه الضحّاك ودفنه بمقابر باب الصغير، وأرسل إلى يزيد يعزّيه بأبيه والإسراع في القدوم ليأخذ بيعةً مجدّدة من الناس، وكتب في أسفل الكتاب:

مضى ابنُ سفيانَ فرداً لشأنه

وخُلّفتَ فانظر بعدَهُ كيف تصنعُ

أقِمنا على المنهاج واركبْ محجّةً

سَداداً فأنت المرتجى حين نفزعُ

فلمّا قرأ يزيدُ الكتاب أنشأ يقول:

جاء البريدُ بقرطاسٍ يخبّ به

فأوجسَ القلبُ من قرطاسِهِ فزعا

قلنا لك الويلُ ماذا في صحيفتكم

قال: الخليفةُ أمسى مثقلاً وجعا

مادت بنا الأرض أو كادت تميدُ بنا

كأنّ ما عزّ من أركانها انقلعا

وسار إلى دمشق فوصلها بعد ثلاثة أيّام من دفن معاوية(١) ، وكان الوالي على المدينة عند هلاك معاوية هو

الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. وعلى مكّة عمرو بن سعيد بن العاص، وعلى الكوفة النعمان بن بشير، وعلى البصرة عبيداللَّه بن زياد فلم يكن ليزيدَ همٌ بعد موت أبيه إلّا بيعة النفر الذين سمّاهم أبوه، فكتب إلى الوليد بن عتبة - عامله على المدينة - فأمره بأخذ

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص١٣٦ - ١٤٠ بتصرّف.

٤٥

البيعة عليهم أخذاً شديداً ليس فيه رخصة فلمّا وقف الوليد على الكتاب بعث إلى مروان بن الحكم فأحضره وأوقفه على كتاب يزيد واستشاره وقال كيف ترى أن نصنع بهؤلاء؟ قال: أرى أن تبعث إليهم الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطّاعة فإن لم يفعلوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية لأنّهم إن علموا وثب كلُّ واحدٍ منهم في جانب وأظهر الخلاف والمنابذة ودعا إلى نفسه، فأرسل الوليد عمر بن عثمان إلى الحسين وإلى عبداللَّه بن الزبير فوجدهما في المسجد فقال أجيبا الأمير فقالا انصرف فالآن نأتيه ثمّ قال ابن الزبير للإمام الحسين: فيما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي ليس له عادة بالجلوس فيها إلا لأمر؟!

فقال الحسين٧: (أظنّ طاغيتهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذ البيعة علينا ليزيد قبل أن يفشو في الناس الخبر)(١) .

ثمّ ذهب الإمام الحسين(ع) إلى الوليد ومعهُ ثلاثون من أهل بيته ومواليه يحملون السلاح وأوقفهم على الباب وطلب منهم الدخول إلى المجلس إذا سمعوا صوته وقد علا ليمنعونه، فدخل وبيده قضيب رسول اللَّه٩ و لما استقرّ به المجلس نعى الوليد إليه معاوية ثمّ عرض عليه البيعة ليزيد فقال(ع): مثلي لا يبايع سرّاً فإذا دعوتَ الناس إلى البيعة دعوتنا معهم فكان أمراً واحداً.

فاقتنع الوليد منه ولكنّ مروان ابتدر قائلاً: إن فارقكَ الحسين الساعة ولم يبايع لم تقدر منه على مثلها حتى تكثر القتلى بينكم احبس الرّجل حتى يبايع أو

____________________

(١) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: ص١٣٥ - ١٣٦.

٤٦

تضرب عنقَهُ فقام إليه الحسين فقال: (ياابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو؟ كذبت وأثمت ثمّ أقبل على الوليد وقال: أيّها الأمير إنّا أهلُ بيتِ النبوّة ومعدنُ الرّسالة ومختلفُ الملائكة بنا فتح اللَّه وبنا يختم، ويزيد رجلٌ شاربُ الخمور، وقاتل النّفس المحرّمة معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثلَه، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقُّ بالخلافة) وارتفعت الأصوات فدخل المجلس بنو هاشم وموالوهم وأخرجوا الإمام(ع) إلى منزله قهراً، فقال مروان للوليد عصيتني فواللَّه لا يمكنك على مثلها، قال الوليد: يامروان اخترت لي ما فيه هلاك ديني أقتل حسيناً إن لم يبايع!! واللَّه لا أظنّ امرءاً يحاسب بدمِ الحسين إلّا خفيف الميزان يوم القيامة. ولا ينظر اللَّه إليه ولا يزكّيه وله عذابٌ أليم.

وفي هذه الليلة زار الإمام الحسين(ع) قبر جدّه رسول اللَّه(ص) فسطع له نورٌ من القبر فقال: (السلام عليك يا رسول اللَّه أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك وسبطك الذي خلّفتني في اُمّتك فاشهد عليهم يانبيّ اللَّه أنّهم خذلوني ولم يحفظوني وهذه شكواي إليك حتى ألقاك) ولم يزل راكعاً وساجداً حتى الصباح.

وعند الصباح لقي مروان أبا عبداللَّه الحسين(ع) فعرّفه النّصيحةَ التي يدّخرها لأمثاله وهي البيعة ليزيد فإنّ فيها خير الدين والدّنيا فاسترجع الحسين(ع) وقال: (على الإسلام السّلامُ إذا بليت الاُمّة براعٍ مثلِ يزيد، ولقد سمعت جدّي رسول اللَّه(ص) يقول: الخلافة محرّمةٌ على آلِ أبي سفيان فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه وقد رآه أهلُ المدينة على المنبر فلم يبقروا بطنه فابتلاهم اللَّه بيزيد الفاسق)، وطال الحديث بينهما حتى انصرف مروان مغضباً.

٤٧

وفي الليلة الثانية جاء الإمام الحسين(ع) إلى قبر جدّه(ص) وصلّى ركعات ثمّ قال: (اللّهمَّ إنّ هذا قبرُ نبيّك محمّد٩ وأنا ابن بنت نبيّك وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهمّ إنّي أحبُّ المعروف وأنكر المنكر، وأسألكُ ياذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومَن فيه إلّا اخترتَ لي ماهو لك رضى ولرسولك رضى) ثمّ بكى.

و لما كان قريباً من الصّبح وضع رأسَه الشريف على القبر فغفا فرأى رسول اللَّه(ص) في كتيبةٍ من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه فضمّ الحسين إلى صدره وقبّلَ بين عينيه وقال: (حبيبي يا حسين كأنّي أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك مذبوحاً بأرضِ كربلا بين عصابةٍ من اُمّتي وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى وظمآن لا تروى وهم بعد ذلك يرجون شفاعتي لاأنالهم اللَّه شفاعتي يوم القيامة.

حبيبي يا حسين إنَّ أباك واُمَّك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك). فبكى الحسين وسأل جدّه أن يأخذه معه ويدخله في قبره:(١)

ضمّني عندكَ ياجدّاه في هذا الضريح

عَلَّني ياجَدُّ من بلوى زماني أستريح

ضاق بي ياجدُّ من فرطِ الأسى كلُّ فسيح

فعسى طودُ الأسى يندكُ بين الدكّتين

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص١٤٤ - ١٤٧.

٤٨

جدُّ صفوُالعيشِ من بعدِكَ بالأكدارِ شيب

وأشابَ الهمُّ رأسي قبل إبّانِ المشيب

فَعَلَا من داخلِ القبرِ بكاءٌ ونحيب

ونداءٌ بافتجاعٍ ياحبيبي ياحسين

* * *

أنت ياريحانةَ القلبِ حقيقٌ بالبَلا

إنّما الدّنيا أُعدّت لبلاءِ النبلا

لكن الماضي قليلٌ بالذي قد أقبلا

فاتّخذ درعين من حزمٍ وعزمٍ سابغين

* * *

ستذوقُ الموتَ ظلماً ظامياً في كربلا

وستبقى في ثراها ثاوياً منجدلا

وكأنّي بلئيم الأصلِ شمرٍ قد على

صدرَكَ الطّاهرَ بالسيفِ يحزُّ الودَجين(١)

وكأنّي بالحسين(ع) وقد مرّ على قبور الأحبّة يودّعهم، فمرّ بقبر أخيه الحسن ثمّ مرّ بقبر اُمّه الشهيدة المظلومة فوقف وسلّم عليها وإذا بالجواب وعليك السلام يا غريب الاُم وعليك السلام يا حبيب الاُم وعليك السلام يا وحيد الاُم:

____________________

(١) من منظومة في واقعة الطف للعالم الشيخ حسن الدمستاني البحراني(ره) (ت/١١٨١ه).

٤٩

يحسين يابني هيّجت حزني عليّه

لأجلك بگبري لابسة ثياب العزية

أبكي عليكم ياضحايا الغاضريّه

اللَّه كاتب كربلا تحويك يحسين

* * *

يابني مصابك بالطفوف يشيّب الراس

گلي عليمن انتحب ياوافي‏الباس

لابنك علي يولا لبو فاضل العبّاس

يبگه اعله نهر العلگمي من غير كفين

* * *

حزني على البلغاضريّة تعرسونه

ياويل گلبي يوم عرسه يذبحونه

عرّيس ما شفنه بدَمّه يخضّبونه

واُمّه‏تنادي شلون هجمه‏ هجمة البين

* * *

أفاطمُ قومي ياابنة الخير واندبي

نجوم سماواتٍ بأرضِ فلاةِ

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٥٠

الليلة الثالثة المجلس الخامس

كرمُ الإمام الحسين(ع)

قد أوهنت جَلَدي الدّيارُ الخالية

من أهلها ما للدّيارِ وماليهْ

ومتى سألتُ الدّارَ عن أربابها

يُعِدُ الصّدى منها سؤالي ثانيه

كانت غياثاً للمنوب فأصبحت

لجميعِ أنواعِ النّوائبِ حاويه

ومعالمٌ أضحت مآتمَ لا تَرى

فيها سوى ناعٍ يجاوِبُ ناعيه

وردَ الحسينُ إلى العراقِ وظنّهم

تركوا النِّفاقَ إذا العراق كماهيه

ولقد دعَوهُ للعَنا فأجابهم

ودعاهُمُ لهدىً فردُّوا داعيه

قسَتِ القلوبُ فلم تَمِلْ لهدايةٍ

تبّاً لهاتيكَ القلوب القاسيه

ما ذاقَ طعمَ فراتِهِمْ حَتّى قضى

عطشاً فغُسِّلَ بالدّماءِ القانيه

يابنَ النبيّ المصطفى ووصيِّهِ

وأخا الزكيِّ ابنَ البتولِ الزاكيه

تبكيكَ عيني لا لأجلِ مثوبةٍ

لكنّما عيني لأجلِكَ باكيه

تبتلُّ منكم كربلا بدمٍ ولا

تبتلُّ منِّي بالدّموعِ الجاريه

أَنْسَتْ رزيتُكُم رزايانا التي

سلفت وهوّنت الرزايا الآتيه

وفجائعُ الأيامِ تبقى مدّةً

وتزولُ وهي إلى القيامةِ باقيه(١)

____________________

(١) هذه القصيدة العصماء من نظم العالم الكامل المرحوم الشيخ محمد علي الأعسم(ره).

قال السيد جواد شبر في (أدب الطف) ج٦ ص١٩٦:

الشيخ محمد علي الأعسم المتولد في النجف الأشرف عام ١١٥٤ه تقريباً.

٥١

ما لأجل الثواب بكيت واجره

لچن نار بصميم الگلب واجره

مصاب حسين أبد ما صار واجره

فرض كل يوم ننصبلة عزية

* * *

____________________

وهو ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد الزبيدي النجفي.

وآل الأعسم أسرةٌ نجفيّةٌ كبيرة عريقة في العلم والفضل والأدب.

كان الشيخ الأعسم عالماً فاضلاً فقيهاً ناسكاً أديباً شاعراً له ديوان شعر وله مراثٍ كثيرة في الإمام الحسين(ع)، له منظومة في الرّضا، وأخرى في المواريث وثالثة في العدد ورابعة في تقدير دية القتل وخامسة في آداب الطعام والشراب المستفادة من أخبار وأحاديث أهل البيت:.

جاء في معارف الرجال أنه تتلمذ على الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء، وكان من أخلص أصحابه حتى أنه حجّ معه بيت اللَّه سنة ١١٩٩ه مع كوكبة من العلماء، وحضر الفقه على السيد مهدي بحر العلوم النجفي كما أجازه أن يروي.

وفي الطليعة قال: أخبرني السيد محسن الكاظمي الصائغ عن أبيه السيد هاشم قال: نظم المرحوم الشيخ محمد علي الأعسم قصيدته في الإمام الحسين(ع) والتي مطلعها:

قد أوهنت جلدي الديارُ الخالية

من أهلها ما للديارِ وماليه

ثمّ عرضها على ابنه الشيخ عبد الحسين فقال: أنظرها فنظرها ثمّ قال: هذه قافيةٌ قاسية فأخذها منه ثمّ صعد فصلى ووضعها تحت مصلاه فما كان إلّا أن طرق الباب سحراً وإذا بالخطيب الشيخ محمد علي القارئ وكان ممتازاً بإنشاد الشّعر الحسيني في محافل الحسين(ع) قال: إني رأيت البارحة كأني دخلت الرّوضة الحيدرية فرأيت أمير المؤمنين(ع) جالساً فسلمتُ عليه فأعطاني ورقة فيها قصيدة وقال: اقرأ لي هذه القصيدة في رثاء ولدي الحسين فقرأتها وهو يبكي فانتبهت وأنا أحفظ منها هذا البيت:

قست القلوب فلم تمِلْ لهدايةٍ

تبّاً لهاتيكَ القلوبِ القاسية

فتعجّب الشيخ وأخرج‏له الورقة التي تحت مصلّاه فدهش الشيخ محمد علي القارئ وقال: واللَّه إنها نفس الورقة بل هي هي التي أعطانيها أمير المؤمنين(ع).

توفي في النجف الأشرف سنة ١٢٣٣ ودفن في المقبرة التي هي لآل الأعسم في الصحن الشريف.

٥٢

ممّا نُسب إلى الإمام أبي عبداللَّه الحسين(ع):

إذا جادت الدّنيا عليك فجُدْ

بها على النّاسِ طُرّاً قبل أن تتفلّتِ

فلا الجودُ يُفنيها إذا هي أقبلت

ولا البُخلُ يُبقيها إذا ما تولّتِ(١)

* * *

السّخاء: هو بذل ما يُحتاج إليه عند الحاجة إلى مستحقّه بقدر الطّاقة، وهو من فعل شيم النفوس حيث تبذل ما تكسب به مدحَ العاجل والثوابَ الآجل، وتكسب به تألّف القلوب، وهو من أكبر أسباب المحبّة بين الناس.

قال رسول اللَّه(ص): (جُبِلَتْ(٢) القلوب على حبّ مَن أحسنَ إليها، وبغضِ من أساءَ إليها) وأوضح دليل على

صحّة هذا أنّا نرى الناس تذكر بثناء واحترام الأسخياء ذوي النفوس العالية الذين يُعرفون بالبذل وقضاء الحوائج وتنفيس الكربات والإحسان حيث جُبلت القلوب على حبّ مَن أحسن إليها كما قال(ص).

وفي حديث آخر عنه(ص): (السخيُّ قريبٌ من اللَّه، قريبٌ من الجنّة، قريبٌ من النّاس، بعيدٌ عن النار. والبخيلُ: بعيدٌ من اللَّه، بعيدٌ من الجنّة، بعيدٌ من النّاس، قريبٌ من النّار).

وعن ابن عبّاس: سادةُ النّاس في الدّنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء(٣) .

____________________

(١) المناقب: ج٤ ص٦٦.

(٢) الجِبِلّة: الخِلقة والطّبيعة.

(٣) نور الحقيقة لوالد الشيخ البهائي: ص٢٢٥ - ٢٢٦.

٥٣

وبيّن اللَّه تعالى ذلك في القرآن الكريم فقال في سورة الحشر:( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) .

وفي سورة الليل الآيات ٥ - ١١( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدّىَ ) .

وكان الإمام أبو عبداللَّه الحسين بن علي بن أبي طالب(ع) أكرمَ أهل زمانه. قال ابن الصبّاغ المالكي في كتابه (الفصول المهمّة): قال الشيخ كمال الدّين بن طلحة قد اشتهر النّقلُ عنه(ع) بأنّه كان يُكرم الضيفَ ويمنحُ الطّالب ويَصِلُ الرّحم وينيلُ الفقراء ويكسو العريان ويُشبع الجوعان ويُعطي الغارم ويشفق على اليتيم ويعينُ ذا الحاجة، وإنّ الكرم ثابتٌ لهؤلاء القوم حقيقةٌ ولغيرهم مجاز، إذ كلُّ واحدٍ منهم ضربَ فيه بالقدح المـُعلّى فحاز منه ما حازَ فهم بحارٌ تجاوزت الغيوثَ سماحة ويبارون الليوث حماسة ويعدلون الجبال حلماً، فهم البحورُ الزاخرة والسُحُب الهامية الماطرة. يقول الشاعر:

فما كانَ من جودٍ أتوهُ فإنّما

توارثَهُ آباءُ آبائِهم قبلُ

وهل منبتُ الخطيِّ إلّا وشيجُهُ(٢)

وتُغرسُ إلّا في مغارسها النّخلُ(٣)

____________________

(١) سورة الحشر: الآية ٩.

(٢) الوَشيج: شجرٌ تُصنع منها الرّماح.

(٣) الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ص١٧٦.

٥٤

وفي هذا المعنى رُوي أنَّ أعرابياً وفد المدينة فسأل عن أكرم النّاسِ فيها فُدلّ على الإمام الحسين(ع) فدخلَ المسجد فوجدَ الإمام يصلّي فوقف بإزائه وأنشأ:

لم يَخِبِ الآنَ مَن رجاكَ ومَن

حرَّكَ مِن دونِ بابِكَ الحَلقة

أنت جوادٌ وأنت معتَمَدٌ

أبوك قد كان قاتلَ الفسقَة

لولا الذي كان من أوائِلِكُم

كانت علينا الجحيمُ منطبقة

فسلّم الإمام(ع) وقال: (ياقنبر هل بقي من مال الحجاز شي‏ء؟ قال نعم أربعة آلاف دينار فقال: هاتها قد جاء من هو أحقُّ بها منّا، ثمّ لفّ الدنانير وأخرج يده من شقّ الباب حياءاً من الأعرابي وأنشأ:

خذها فإنّي إليكَ معتذرٌ

واعلم بأنّي عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا الغداةَ عصىً(١)

أمست(٢) سمانا عليك مُندَفِقة

لكنَّ ريبَ الزّمانِ ذو غِيَر

والكفُّ منّي قليلةُ النّفقة

فأخذها الأعرابي وبكى فقال له الإمام(ع): (لعلّك استقللتَ ما أعطيناك). قال: لا ولكن كيف يأكلُ الترابُ جودك(٣) .

ورواية اُخرى في نفس المعنى، أنّ أعرابياً جاء إلى الإمام الحسين(ع) فقال:

____________________

(١) الظاهر أنّ العصى كناية عن الأمر والحكم.

(٢) لعلّ المعنى لو كان في سيرنا هذه الغداة ولاية وحكم أو قوّة لأمست يدُ عطائنا عليك مندفقة وتكون السماء كناية عن يد الجود والعطاء.

(٣) جلاء العيون: ج٢ ص٢٤.

٥٥

ياابن رسول اللَّه ضمنت ديةً كاملة(١) وعجزتُ عن أدائِها فقلت في نفسي أسألُ أكرمَ الناس، وما رأيتُ أكرمَ من أهل بيتِ رسول اللَّه(ص) فقال الإمام(ع): (ياأخا العرب أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلثَ المال، وإن أجبت عن اثنين أعطيتك ثلثي المال، وإن أجبتَ عن الكلّ أعطيتُكَ الكل).

فقال الأعرابي: ياابن رسول اللَّه أمثلُكَ يسألُ مثلي وأنت من أهلِ العلم والشرف؟! فقال الإمام(ع): (بلى سمعتُ جدّي رسول اللَّه(ص) يقول: المعروف بقدر المعرفة، فقال الاعرابي: سل عمّا بدالك، فإن أجبتُ وإلّا تعلّمتُ منك ولا قوّةَ إلّا باللَّه.

فقال الإمام(ع): أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال الأعرابي: الإيمانُ باللَّه فقال الإمام(ع): فما النّجاةُ من الهلكة؟ قال الأعرابي: الثقةُ باللَّه، فقال الإمام(ع): فما يَزينُ الرّجل؟ قال: علمٌ معه حِلم قال: فإن أخطأه ذلك؟ قال الأعرابي: مالٌ معه مروءة قال الإمام(ع): فإن أخطأهُ ذلك؟ قال: فقرٌ معه صبر فقال الإمام(ع): فإن أخطأه ذلك؟ فقال الأعرابي: فصاعقةٌ تنزل عليه من السماء وتحرقهُ فإنّه أهلٌ لذلك.

فضحكَ الإمام(ع) ورمى بصرّةٍ إليه فيها ألفُ دينار، وأعطاه خاتمه وفيه فصٌّ قيمتُهُ مائتا درهم وقال: ياأعرابي أَعطِ الذّهبَ إلى غُرمائك، واصرف الخاتم في نفقتك)، فأخذ الاعرابي ذلك وقال:

____________________

(١) الدية الكاملة ألف دينار لقتل الخطأ.

٥٦

( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .(١) .(٢) وفي بعض الروايات فأنشأ الأعرابي يقول:

طَرَبتُ وما هاجَ لي معبقُ

ولا لي مقامٌ ولا مَعْشقُ

ولكن طَرَبْتُ لآلِ الرّسول

فلذّ لي الشِّعرُ والمنطقُ

هُمُ الأكرمونَ هُمُ الأنجبون

نجومُ السماءِ بهم تُشرقُ

سبقتَ الأنامَ إلى الصّالحات

وأنت الجوادُ فلا تُلحقُ

أبوكَ الذي سادَ بالمَكْرُماتِ

فقصَّرَ عن سبقِهِ السُبَّقُ

به فتح اللَّهُ بابَ الرّشاد

وبابُ الفسادِ بكم يُغلَقُ(٣)

وفي مثل اليوم الثاني من شهر محرّم سنة ٦١ للهجرة نزل الإمام الحسين(ع) مع مَن كان معه من أهل بيته وأصحابه أرض كربلاء(٤) .

أقول: نزلوا كربلاء ورايات الهاشميين ترفرف على رؤوس الهاشميات فكلّما رفعت واحدةٌ منهنّ رأسها رأت راية أبي الفضل العباس هو واخوته وبقيّة آل أبي طالب يحوطون بالعائلة الكريمة ولكن حرّ قلبي لها كيف خرجت من كربلاء شمرٌ عن يمينها وزجرٌ عن شمالها، وكلّما رفعت واحدةٌ منهنّ رأسها رأت رؤوس حماتِها على الرّماحِ العالية:

هذي نساؤُكَ مَن يكون إذا سرت

في الأسرِ سائقُها ومَن حاديها

أيسوقُها زجرٌ بضربِ متونها

والشمرُ يحدوها بسَبِّ أبيها

____________________

(١) سورة الأنعام: الآية ١٢٤.

(٢) بحار الأنوار: ج٤٤، ص١٩٦.

(٣) ثمرات الأعواد: ج١ ص١٣.

(٤) الملهوف للسيّد ابن طاووس: ص١٣٩.

٥٧

عجباً لها بالأمسِ أنتَ تصونُها

واليومَ آلُ اُميّةٍ تبديها

* * *

مشينة والدمع يجري اعله الخدود

وهموم الگلب حملان وتزود

عگب هذا الولي المعروف بالجود

وعگب ذاك الأخو المگطوع الزنود

وعگب شبه النبي العترب ممدود

وعگب ذيك الأقمار الصيد الأسود

شمر يحدي بضعنة وناگتي يگود

* * *

فكم دعت زينبٌ والدّمعُ منهملُ

هذي الطفوفُ وفيها بالحشا شُعَلُ

أبكي على سادة بالطّف قد قُتلوا

بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا

وخلَّفوا في سويدا القلبِ نيرانا

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٥٨

الليلة الثالثة المجلس السادس

الخروج من مكّة المـُكرّمة

فداءٌ لمثواكَ من مضجَعِ

تنوَّرَ بالأبلجِ(١) الأَرْوَعِ(٢)

بأعبقَ من نفحات الجنا

نِ رَوْحاً ومن مِسكها أضوَعِ

ورعياً ليومِكَ يومِ الطّفوفِ

وسَقياً لأرضِكَ من مصرعِ

وحزناً عليكَ بحبسِ النُّفوسِ

على نهجِكَ النيِّرِ المهيَعِ(٣)

وصوناً لمجدِكَ من أَن يُذالَ

بما أنت تأباه من مبدعِ

فيا أيّها الوَترُ في الخالدين

فذّاً إلى الآنَ لم يُشفَعِ

تعاليتَ من مُفزعٍ للحتوف

فبورِك قبرُكَ من مَفزعِ

تلوذُ الدُّهورُ فمن سجّدٍ

على جانبيه ومن ركّعِ

شمَمتُ ثراكَ فهبّ النّسيمُ

نسيمُ الكرامةِ من بلقعِ(٤)

وعفّرتُ خدّي بحيث استراح

خدٌّ تفرّى ولم يضرعِ

وحيثُ سنابِكُ خيلِ الطغاةِ

جالَت عليه ولم يخشعِ

وطفتُ بقبركَ طوفَ الخيالِ

بصومعةِ الملهَم المبدعِ

كأنّ يداً من وراءِ الضريحِ

حمراءَ مبتورةِ الإصبَعِ

____________________

(١) الأبلَج: هو الوضّاء.

(٢) الأروع: مَن يعجُبك بحسنهِ أو شجاعته.

(٣) الـمَهْيَع: البيّن الواضح.

(٤) البلقع: الأرض القفرة.

٥٩

تُمَدُّ إلى عالَم بالخنوع

والضيمِ ذي شَرقٍ(١) مترعِ

لتبدِلَ منه جديَبَ الضَّميرِ

بآخرَ معشوشِبٍ مُمرع

فيابنَ البتولِ وحسبي بها

ضماناً على كلِّ ما أدَّعي

ويابنَ التي لم يضَعْ مثلُها

كمثلِكَ حملاً ولم يُرضع

ويابنَ البطينِ بلا بطنةٍ

ويابنَ الفتى الحاسِرِ الأنزعِ

وياغصنَ هاشم لم ينفتح

بأزهرَ منكَ ولم يُفرعِ

وياواصلاً من نشيدِ الخلودِ

ختامَ القصيدةِ بالمطلعِ(٢)

* * *

____________________

(١) ذي شرق: ذي غصّة.

(٢) هذه الأبيات من قصيدةٍ عصماء للشاعر الكبير محمّد مهدي الجواهري.

قال السيد داخل السيد حسن في الجزء الأول من كتابه (من لا يحضره الخطيب):

ولد الشاعر محمد مهدي الجواهري فى حدود سنة ١٩٠٠م (في النجف الأشرف)، وهو ينتمي إلى أسرةٍ علميةٍ عريقة تعرف بأسرة آل صاحب الجواهر، وهو من أبرز شعراء العراق بل العرب المعاصرين قاطبةً.

له ديوان مطبوع في أربع مجلدات، وقصيدته العينية هذه هي من أروع ما قيل في الإمام الحسين(ع) وقد كتب منها خمسة عشر بيتاً على الباب الذّهبي في مشهد الإمام الحسين(ع)، ويقول الأستاذ الباحث محمد سعيد الطريحيّ في كتابه (أجراس كربلاء) إنّ الجواهري حدّثه عن اعتزازه الكبير بهذه القصيدة وقال له: إنها زادي إلى الآخرة.

توفي الجواهري في دمشق سنة ١٩٩٩م، ودفن في ضاحية السيدة زينب(ع).

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343