المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة11%

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 343

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45030 / تحميل: 4732
الحجم الحجم الحجم
المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم

هذا ما أوصى به الحسينُ بن عليّ بن أبي طالب(ع) لأخيه محمّد المعروف (بابن الحنفية):

____________________

السّريرة حسن السّيرٍة، له ديوان شعر مطبوع إسمه - سحرُ بابل وسجع البلابل - جمعه بعد وفاته أخوه السيد هاشم، وقد ضاع كثيرٌ من شعرِهِ الذي كان ينظمه على البديهة من الأبيات القليلة.

قال السيد الأمين: رأيته في النجف، وكان شريكنا في الدرس عند الفقيه الشيخ محمد طه نجف، وقرأ أيضاً على الشيخ ميرزا حسين بن ميرزا خليل، وتوفي ونحن في النجف ورثاه الشعراء منهم الشيخ محمد السماوي صاحب كتاب - الطليعة - بقوله من قصيدة:

أيُّ فؤادٍ عليك ما احترقا

وأيُّ دمعٍ عليك ما اندفقا

ياراحلاً والكمالُ يتبعُهُ

ما أنت إلا الهلالُ قد مُحِقا

بكى عليك القريض منفجعاً

وانفجع الفضلُ فيك محترقا

وقال السماوي: رأيت السيد جعفر بعد موته في الرؤيا وسألته عن حالِهِ فقال: أمّا نحنُ أصحاب السيد مهدي القزويني فكلّنا في الجنّة.

وكان المرحوم السيد جعفر الحلي كثير المطايبة، ومن ذلك قوله وهو يخاطب أستاذه الفاضل الملا محمد الشربياني وهو على المنبر بعد الفراغ من الدرس ارتجالاً:

أشيخَ الكلِّ قد أكثرتَ بحثاً

بأصلِ براءةٍ وبإحتياطِ

وهذا فصلُ زوّارِ وسَرْطِ

فباحثنا بتنقيحِ المناطِ

والسَّرط هو الأكل والإبتلاع.

وقال على سبيل المطايبة أيضاً:

للشربيانيِّ أصحابٌ وتلمذةٌ

تجمّعوا حولَه من هاهنا وهنا

ما فيهم مَن له بالعلمِ معرفةٌ

يكفيك أفضلُ كلِّ الحاضرين أنا

وقال في رئيسي النجف آنذاك: السيد محمّد الطباطبائي، والسيد محمد القزويني:

شتّانَ بينَ محمّدٍ ومحمّدِ

ذا طبطبائيٌّ وذا قزويني

أنا أعرفُ الرّجلَ المهذّبَ منهما

باللَّهِ لا تسأل عن التعيينِ

٤١

(إنَّ الحسينَ يشهدُ أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمّداً عبدُهُ ورسوله، جاء بالحقّ من عند الحق، وانّ الجنّة والنّارَ حق، وأنّ الساعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها، وأنّ اللَّه يبعثُ مَن في القبور، وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطِراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في اُمّةِ جدّي محمّد اُريدُ أن آمرَ بالمعروف وأنهى عن المُنكر، وأسيرَ بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي‏طالب، فمن قَبِلَني بقَبولِ الحقّ فاللَّهُ أولى بالحق، ومَن ردَّ عليَّ هذا أصبرْ حتى يقضيَ اللَّهُ بيني وبينَ القوم بالحقّ وهو خيرُ الحاكمين.

وهذه وصيّتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلا باللَّه عليه توكلتُ وإليه اُنيب). ثمّ طوى الكتاب وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أخيه محمّد بن الحنفيّة ثمّ ودّعهُ وخرج(ع) من عنده(١) .

بهذه الكلمات النيّرة والمعاني العالية الواضحة أعلن الإمام الحسين(ع) سببَ النهضة وعيّنها ولم يجعلها عائمة وذلك بقوله: وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، واسيرَ بسيرةِ جدّي وأبي علي بن أبي طالب:، وعيّن ذلك ب-(إنّما) وهي أداة حصر عند النحويين فهو لم يطلب غير الإصلاح من جاهٍ أو سلطان أو سمعةٍ أو أموال كما يفعله غيرُهُ من ذوي الأطماع بعد أن يتستّروا وراءَ الشعارات اللطيفة والغايات الشريفة وإنَّما سعيهم وجهدهم لأغراضٍ دنيويّة، وغاياتٍ آنيّة، ومعلومٌ أنَّ الإمام الحسين(ع) لم يكن محتاجاً إلى جاه أو سلطان فهو سيّدُ شباب أهل الجنّة، وريحانة رسول اللَّه(ص)

____________________

(١) ثمرات الأعواد: ج١ ص١٠١.

٤٢

وابنه الذي خلّفه في اُمّته وقال في حقّه: حسينُ مني وأنا من حسين، أحبّ اللَّهُ من أحبّ حسيناً، حسينٌ سبطٌ من الأسباط(١) .

وإلى غير ذلك من أقوال النبيّ(ص) في حقّ الإمام الحسين وأخيه الإمام الحسن(ع)، وهي فضائل يعرفها المسلمون آنذاك كما يعرفون الصلوات اليوميّة وعدد ركعاتها.

يقول الشيخ أسد حيدر في كتابه (مع الحسين في نهضته): وهذه الفقرات - الوصيّة - هي تجسيدٌ لأوضاع العصر الّذي تعيشُهُ الاُمّة الإسلاميّة من جرّاء ما خلّفتهُ السياسة الاُمويّة في عهد معاوية من فسادٍ وانحطاط وضياع الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، إنّ تلك الأوضاع السّائدة وليدة استهتارٍ، وبُعدٍ عن الإلتزام بنواميس الدّين، وتغييرٍ للخطط التي أوضحها الرسول(ص) لاُمّته لمسيرتهم في الحياة(٢) .

ومن جملة الموبقات التي خرج بها معاوية بن أبي سفيان عن نهج رسول اللَّه(ص) وطريقته هي أن جَعَلَ الخلافة الإسلاميّة وراثةً في أصلاب أبنائه، فقد هلك معاوية في النصف من رجب سنة ٦٠ هجرية، وكان قبل هلاكه قد كتب وصيّةً لإبنه يزيد وهي: يا بنيّ إنّي قد كفيتك الشدَّ والتّرحال، ووطّأتُ لكَ الاُمور، وذلّلتُ لك الأعداء، وأخضعتُ لك رقابَ العرب، وجمعتُ لك ما لم يجمعُهُ أحد، فانظر أهلَ الحجاز فإنّهم أصلُك أكرم مَن قدمَ عليك منهم، وتعاهد مَن غاب، وانظر أهلَ العراق فإن سألوك أن تعزل

____________________

(١) جلاء العيون: ج٢ ص١٢.

(٢) مع الحسين في نهضته: ص٦٨ - ٦٩.

٤٣

عنهم كلَّ يومٍ عاملاً فافعل، فإنّ عزلَ عامِلٍ أيسر من أن يُشهرَ عليكَ مائة ألف سيف، وانظر أهلَ الشام فليكونوا بطانتك وعيبتَك(١) ، فإن رابكَ من عدوِّكَ شي‏ءٌ فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهلَ الشام إلى بلادهم، فإنّهم إن أقاموا بغير بلادهم تغيّرت أخلاقهم، وإني لستُ أخاف عليك أن ينازعك في هذا الأمر إلّا أربعة نفر من قريش: الحسينُ بن علي(ع) وعبداللَّه بن عمر، وعبداللَّه بن الزبير، وعبدالرّحمن بن أبي بكر، فأمّا عبداللَّه بن عمر فإنّه قد وقذته العبادة فإذا لم يبق غيره بايعك، وأمّا الحسين بن علي(ع) فهو رجل لن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، فإن خرج وظفرت به فاصفح عنه فإنّ له رحماً ماسّةً وحقّاً عظيماً وقرابةً من محمّد(ص)(٢) ، واعلم يا بني أنّ أباه خيرٌ من أبيك، وأنّ اُمّه خيرٌ من اُمّك، وأنّ جدّه خيرٌ من جدّك(٣) ، وأمّا ابن أبي بكر فإن رأى أصحابهُ صنعوا شيئاً صنع مثلهُ ليس له همّةٌ إلّا في النساء واللهو، وأمّا الذي يجثم لك جُثومَ الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإن أمكنته فرصةٌ وثب فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطّعهُ إرْباً إرْبا، واحقن دماء قومك ما استطعت(٤) .

ثمّ هلك معاوية للنّصف من رجب سنة ستين هجرية كان ابنهُ يزيد في (حوران) فأخذ الضحّاك بن قيس

أكفانه ورقى المنبر فقال بعد الحمد للَّه والثناء عليه:

____________________

(١) العَيبة: ما تجعل فيه الثياب كالصندوق، وأراد معاوية أنّهم موضع سرّك.

(٢) الكامل في التأريخ لابن الأثير: ج٤ ص٦.

(٣) ثمرات الأعواد: ج١ ص٦٥.

(٤) الكامل في التأريخ لابن الأثير: ج٤ ص٧.

(٥) حَوْران : كورة واسعة من أعمال دمشق ذكرها الحموي في (معجم البلدان) : ج ٢ ص ٣١٧.

٤٤

كان معاوية سورَ العرب وعونهم قطع اللَّه به الفتنة، وملّكه على العباد وفتح به البلاد ألا إِنَّه قد مات وهذه أكفانُهُ فنحنُ مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله ثمّ هو البرزخ إلى يوم القيامة فمن كان منكم يريد أن يشهد فليحضر، ثمّ صلّى عليه الضحّاك ودفنه بمقابر باب الصغير، وأرسل إلى يزيد يعزّيه بأبيه والإسراع في القدوم ليأخذ بيعةً مجدّدة من الناس، وكتب في أسفل الكتاب:

مضى ابنُ سفيانَ فرداً لشأنه

وخُلّفتَ فانظر بعدَهُ كيف تصنعُ

أقِمنا على المنهاج واركبْ محجّةً

سَداداً فأنت المرتجى حين نفزعُ

فلمّا قرأ يزيدُ الكتاب أنشأ يقول:

جاء البريدُ بقرطاسٍ يخبّ به

فأوجسَ القلبُ من قرطاسِهِ فزعا

قلنا لك الويلُ ماذا في صحيفتكم

قال: الخليفةُ أمسى مثقلاً وجعا

مادت بنا الأرض أو كادت تميدُ بنا

كأنّ ما عزّ من أركانها انقلعا

وسار إلى دمشق فوصلها بعد ثلاثة أيّام من دفن معاوية(١) ، وكان الوالي على المدينة عند هلاك معاوية هو

الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. وعلى مكّة عمرو بن سعيد بن العاص، وعلى الكوفة النعمان بن بشير، وعلى البصرة عبيداللَّه بن زياد فلم يكن ليزيدَ همٌ بعد موت أبيه إلّا بيعة النفر الذين سمّاهم أبوه، فكتب إلى الوليد بن عتبة - عامله على المدينة - فأمره بأخذ

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص١٣٦ - ١٤٠ بتصرّف.

٤٥

البيعة عليهم أخذاً شديداً ليس فيه رخصة فلمّا وقف الوليد على الكتاب بعث إلى مروان بن الحكم فأحضره وأوقفه على كتاب يزيد واستشاره وقال كيف ترى أن نصنع بهؤلاء؟ قال: أرى أن تبعث إليهم الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطّاعة فإن لم يفعلوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية لأنّهم إن علموا وثب كلُّ واحدٍ منهم في جانب وأظهر الخلاف والمنابذة ودعا إلى نفسه، فأرسل الوليد عمر بن عثمان إلى الحسين وإلى عبداللَّه بن الزبير فوجدهما في المسجد فقال أجيبا الأمير فقالا انصرف فالآن نأتيه ثمّ قال ابن الزبير للإمام الحسين: فيما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي ليس له عادة بالجلوس فيها إلا لأمر؟!

فقال الحسين٧: (أظنّ طاغيتهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذ البيعة علينا ليزيد قبل أن يفشو في الناس الخبر)(١) .

ثمّ ذهب الإمام الحسين(ع) إلى الوليد ومعهُ ثلاثون من أهل بيته ومواليه يحملون السلاح وأوقفهم على الباب وطلب منهم الدخول إلى المجلس إذا سمعوا صوته وقد علا ليمنعونه، فدخل وبيده قضيب رسول اللَّه٩ و لما استقرّ به المجلس نعى الوليد إليه معاوية ثمّ عرض عليه البيعة ليزيد فقال(ع): مثلي لا يبايع سرّاً فإذا دعوتَ الناس إلى البيعة دعوتنا معهم فكان أمراً واحداً.

فاقتنع الوليد منه ولكنّ مروان ابتدر قائلاً: إن فارقكَ الحسين الساعة ولم يبايع لم تقدر منه على مثلها حتى تكثر القتلى بينكم احبس الرّجل حتى يبايع أو

____________________

(١) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: ص١٣٥ - ١٣٦.

٤٦

تضرب عنقَهُ فقام إليه الحسين فقال: (ياابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو؟ كذبت وأثمت ثمّ أقبل على الوليد وقال: أيّها الأمير إنّا أهلُ بيتِ النبوّة ومعدنُ الرّسالة ومختلفُ الملائكة بنا فتح اللَّه وبنا يختم، ويزيد رجلٌ شاربُ الخمور، وقاتل النّفس المحرّمة معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثلَه، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقُّ بالخلافة) وارتفعت الأصوات فدخل المجلس بنو هاشم وموالوهم وأخرجوا الإمام(ع) إلى منزله قهراً، فقال مروان للوليد عصيتني فواللَّه لا يمكنك على مثلها، قال الوليد: يامروان اخترت لي ما فيه هلاك ديني أقتل حسيناً إن لم يبايع!! واللَّه لا أظنّ امرءاً يحاسب بدمِ الحسين إلّا خفيف الميزان يوم القيامة. ولا ينظر اللَّه إليه ولا يزكّيه وله عذابٌ أليم.

وفي هذه الليلة زار الإمام الحسين(ع) قبر جدّه رسول اللَّه(ص) فسطع له نورٌ من القبر فقال: (السلام عليك يا رسول اللَّه أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك وسبطك الذي خلّفتني في اُمّتك فاشهد عليهم يانبيّ اللَّه أنّهم خذلوني ولم يحفظوني وهذه شكواي إليك حتى ألقاك) ولم يزل راكعاً وساجداً حتى الصباح.

وعند الصباح لقي مروان أبا عبداللَّه الحسين(ع) فعرّفه النّصيحةَ التي يدّخرها لأمثاله وهي البيعة ليزيد فإنّ فيها خير الدين والدّنيا فاسترجع الحسين(ع) وقال: (على الإسلام السّلامُ إذا بليت الاُمّة براعٍ مثلِ يزيد، ولقد سمعت جدّي رسول اللَّه(ص) يقول: الخلافة محرّمةٌ على آلِ أبي سفيان فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه وقد رآه أهلُ المدينة على المنبر فلم يبقروا بطنه فابتلاهم اللَّه بيزيد الفاسق)، وطال الحديث بينهما حتى انصرف مروان مغضباً.

٤٧

وفي الليلة الثانية جاء الإمام الحسين(ع) إلى قبر جدّه(ص) وصلّى ركعات ثمّ قال: (اللّهمَّ إنّ هذا قبرُ نبيّك محمّد٩ وأنا ابن بنت نبيّك وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهمّ إنّي أحبُّ المعروف وأنكر المنكر، وأسألكُ ياذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومَن فيه إلّا اخترتَ لي ماهو لك رضى ولرسولك رضى) ثمّ بكى.

و لما كان قريباً من الصّبح وضع رأسَه الشريف على القبر فغفا فرأى رسول اللَّه(ص) في كتيبةٍ من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه فضمّ الحسين إلى صدره وقبّلَ بين عينيه وقال: (حبيبي يا حسين كأنّي أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك مذبوحاً بأرضِ كربلا بين عصابةٍ من اُمّتي وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى وظمآن لا تروى وهم بعد ذلك يرجون شفاعتي لاأنالهم اللَّه شفاعتي يوم القيامة.

حبيبي يا حسين إنَّ أباك واُمَّك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك). فبكى الحسين وسأل جدّه أن يأخذه معه ويدخله في قبره:(١)

ضمّني عندكَ ياجدّاه في هذا الضريح

عَلَّني ياجَدُّ من بلوى زماني أستريح

ضاق بي ياجدُّ من فرطِ الأسى كلُّ فسيح

فعسى طودُ الأسى يندكُ بين الدكّتين

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص١٤٤ - ١٤٧.

٤٨

جدُّ صفوُالعيشِ من بعدِكَ بالأكدارِ شيب

وأشابَ الهمُّ رأسي قبل إبّانِ المشيب

فَعَلَا من داخلِ القبرِ بكاءٌ ونحيب

ونداءٌ بافتجاعٍ ياحبيبي ياحسين

* * *

أنت ياريحانةَ القلبِ حقيقٌ بالبَلا

إنّما الدّنيا أُعدّت لبلاءِ النبلا

لكن الماضي قليلٌ بالذي قد أقبلا

فاتّخذ درعين من حزمٍ وعزمٍ سابغين

* * *

ستذوقُ الموتَ ظلماً ظامياً في كربلا

وستبقى في ثراها ثاوياً منجدلا

وكأنّي بلئيم الأصلِ شمرٍ قد على

صدرَكَ الطّاهرَ بالسيفِ يحزُّ الودَجين(١)

وكأنّي بالحسين(ع) وقد مرّ على قبور الأحبّة يودّعهم، فمرّ بقبر أخيه الحسن ثمّ مرّ بقبر اُمّه الشهيدة المظلومة فوقف وسلّم عليها وإذا بالجواب وعليك السلام يا غريب الاُم وعليك السلام يا حبيب الاُم وعليك السلام يا وحيد الاُم:

____________________

(١) من منظومة في واقعة الطف للعالم الشيخ حسن الدمستاني البحراني(ره) (ت/١١٨١ه).

٤٩

يحسين يابني هيّجت حزني عليّه

لأجلك بگبري لابسة ثياب العزية

أبكي عليكم ياضحايا الغاضريّه

اللَّه كاتب كربلا تحويك يحسين

* * *

يابني مصابك بالطفوف يشيّب الراس

گلي عليمن انتحب ياوافي‏الباس

لابنك علي يولا لبو فاضل العبّاس

يبگه اعله نهر العلگمي من غير كفين

* * *

حزني على البلغاضريّة تعرسونه

ياويل گلبي يوم عرسه يذبحونه

عرّيس ما شفنه بدَمّه يخضّبونه

واُمّه‏تنادي شلون هجمه‏ هجمة البين

* * *

أفاطمُ قومي ياابنة الخير واندبي

نجوم سماواتٍ بأرضِ فلاةِ

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٥٠

الليلة الثالثة المجلس الخامس

كرمُ الإمام الحسين(ع)

قد أوهنت جَلَدي الدّيارُ الخالية

من أهلها ما للدّيارِ وماليهْ

ومتى سألتُ الدّارَ عن أربابها

يُعِدُ الصّدى منها سؤالي ثانيه

كانت غياثاً للمنوب فأصبحت

لجميعِ أنواعِ النّوائبِ حاويه

ومعالمٌ أضحت مآتمَ لا تَرى

فيها سوى ناعٍ يجاوِبُ ناعيه

وردَ الحسينُ إلى العراقِ وظنّهم

تركوا النِّفاقَ إذا العراق كماهيه

ولقد دعَوهُ للعَنا فأجابهم

ودعاهُمُ لهدىً فردُّوا داعيه

قسَتِ القلوبُ فلم تَمِلْ لهدايةٍ

تبّاً لهاتيكَ القلوب القاسيه

ما ذاقَ طعمَ فراتِهِمْ حَتّى قضى

عطشاً فغُسِّلَ بالدّماءِ القانيه

يابنَ النبيّ المصطفى ووصيِّهِ

وأخا الزكيِّ ابنَ البتولِ الزاكيه

تبكيكَ عيني لا لأجلِ مثوبةٍ

لكنّما عيني لأجلِكَ باكيه

تبتلُّ منكم كربلا بدمٍ ولا

تبتلُّ منِّي بالدّموعِ الجاريه

أَنْسَتْ رزيتُكُم رزايانا التي

سلفت وهوّنت الرزايا الآتيه

وفجائعُ الأيامِ تبقى مدّةً

وتزولُ وهي إلى القيامةِ باقيه(١)

____________________

(١) هذه القصيدة العصماء من نظم العالم الكامل المرحوم الشيخ محمد علي الأعسم(ره).

قال السيد جواد شبر في (أدب الطف) ج٦ ص١٩٦:

الشيخ محمد علي الأعسم المتولد في النجف الأشرف عام ١١٥٤ه تقريباً.

٥١

ما لأجل الثواب بكيت واجره

لچن نار بصميم الگلب واجره

مصاب حسين أبد ما صار واجره

فرض كل يوم ننصبلة عزية

* * *

____________________

وهو ابن الشيخ حسين ابن الشيخ محمد الزبيدي النجفي.

وآل الأعسم أسرةٌ نجفيّةٌ كبيرة عريقة في العلم والفضل والأدب.

كان الشيخ الأعسم عالماً فاضلاً فقيهاً ناسكاً أديباً شاعراً له ديوان شعر وله مراثٍ كثيرة في الإمام الحسين(ع)، له منظومة في الرّضا، وأخرى في المواريث وثالثة في العدد ورابعة في تقدير دية القتل وخامسة في آداب الطعام والشراب المستفادة من أخبار وأحاديث أهل البيت:.

جاء في معارف الرجال أنه تتلمذ على الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء، وكان من أخلص أصحابه حتى أنه حجّ معه بيت اللَّه سنة ١١٩٩ه مع كوكبة من العلماء، وحضر الفقه على السيد مهدي بحر العلوم النجفي كما أجازه أن يروي.

وفي الطليعة قال: أخبرني السيد محسن الكاظمي الصائغ عن أبيه السيد هاشم قال: نظم المرحوم الشيخ محمد علي الأعسم قصيدته في الإمام الحسين(ع) والتي مطلعها:

قد أوهنت جلدي الديارُ الخالية

من أهلها ما للديارِ وماليه

ثمّ عرضها على ابنه الشيخ عبد الحسين فقال: أنظرها فنظرها ثمّ قال: هذه قافيةٌ قاسية فأخذها منه ثمّ صعد فصلى ووضعها تحت مصلاه فما كان إلّا أن طرق الباب سحراً وإذا بالخطيب الشيخ محمد علي القارئ وكان ممتازاً بإنشاد الشّعر الحسيني في محافل الحسين(ع) قال: إني رأيت البارحة كأني دخلت الرّوضة الحيدرية فرأيت أمير المؤمنين(ع) جالساً فسلمتُ عليه فأعطاني ورقة فيها قصيدة وقال: اقرأ لي هذه القصيدة في رثاء ولدي الحسين فقرأتها وهو يبكي فانتبهت وأنا أحفظ منها هذا البيت:

قست القلوب فلم تمِلْ لهدايةٍ

تبّاً لهاتيكَ القلوبِ القاسية

فتعجّب الشيخ وأخرج‏له الورقة التي تحت مصلّاه فدهش الشيخ محمد علي القارئ وقال: واللَّه إنها نفس الورقة بل هي هي التي أعطانيها أمير المؤمنين(ع).

توفي في النجف الأشرف سنة ١٢٣٣ ودفن في المقبرة التي هي لآل الأعسم في الصحن الشريف.

٥٢

ممّا نُسب إلى الإمام أبي عبداللَّه الحسين(ع):

إذا جادت الدّنيا عليك فجُدْ

بها على النّاسِ طُرّاً قبل أن تتفلّتِ

فلا الجودُ يُفنيها إذا هي أقبلت

ولا البُخلُ يُبقيها إذا ما تولّتِ(١)

* * *

السّخاء: هو بذل ما يُحتاج إليه عند الحاجة إلى مستحقّه بقدر الطّاقة، وهو من فعل شيم النفوس حيث تبذل ما تكسب به مدحَ العاجل والثوابَ الآجل، وتكسب به تألّف القلوب، وهو من أكبر أسباب المحبّة بين الناس.

قال رسول اللَّه(ص): (جُبِلَتْ(٢) القلوب على حبّ مَن أحسنَ إليها، وبغضِ من أساءَ إليها) وأوضح دليل على

صحّة هذا أنّا نرى الناس تذكر بثناء واحترام الأسخياء ذوي النفوس العالية الذين يُعرفون بالبذل وقضاء الحوائج وتنفيس الكربات والإحسان حيث جُبلت القلوب على حبّ مَن أحسن إليها كما قال(ص).

وفي حديث آخر عنه(ص): (السخيُّ قريبٌ من اللَّه، قريبٌ من الجنّة، قريبٌ من النّاس، بعيدٌ عن النار. والبخيلُ: بعيدٌ من اللَّه، بعيدٌ من الجنّة، بعيدٌ من النّاس، قريبٌ من النّار).

وعن ابن عبّاس: سادةُ النّاس في الدّنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء(٣) .

____________________

(١) المناقب: ج٤ ص٦٦.

(٢) الجِبِلّة: الخِلقة والطّبيعة.

(٣) نور الحقيقة لوالد الشيخ البهائي: ص٢٢٥ - ٢٢٦.

٥٣

وبيّن اللَّه تعالى ذلك في القرآن الكريم فقال في سورة الحشر:( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) .

وفي سورة الليل الآيات ٥ - ١١( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدّىَ ) .

وكان الإمام أبو عبداللَّه الحسين بن علي بن أبي طالب(ع) أكرمَ أهل زمانه. قال ابن الصبّاغ المالكي في كتابه (الفصول المهمّة): قال الشيخ كمال الدّين بن طلحة قد اشتهر النّقلُ عنه(ع) بأنّه كان يُكرم الضيفَ ويمنحُ الطّالب ويَصِلُ الرّحم وينيلُ الفقراء ويكسو العريان ويُشبع الجوعان ويُعطي الغارم ويشفق على اليتيم ويعينُ ذا الحاجة، وإنّ الكرم ثابتٌ لهؤلاء القوم حقيقةٌ ولغيرهم مجاز، إذ كلُّ واحدٍ منهم ضربَ فيه بالقدح المـُعلّى فحاز منه ما حازَ فهم بحارٌ تجاوزت الغيوثَ سماحة ويبارون الليوث حماسة ويعدلون الجبال حلماً، فهم البحورُ الزاخرة والسُحُب الهامية الماطرة. يقول الشاعر:

فما كانَ من جودٍ أتوهُ فإنّما

توارثَهُ آباءُ آبائِهم قبلُ

وهل منبتُ الخطيِّ إلّا وشيجُهُ(٢)

وتُغرسُ إلّا في مغارسها النّخلُ(٣)

____________________

(١) سورة الحشر: الآية ٩.

(٢) الوَشيج: شجرٌ تُصنع منها الرّماح.

(٣) الفصول المهمّة لابن الصبّاغ: ص١٧٦.

٥٤

وفي هذا المعنى رُوي أنَّ أعرابياً وفد المدينة فسأل عن أكرم النّاسِ فيها فُدلّ على الإمام الحسين(ع) فدخلَ المسجد فوجدَ الإمام يصلّي فوقف بإزائه وأنشأ:

لم يَخِبِ الآنَ مَن رجاكَ ومَن

حرَّكَ مِن دونِ بابِكَ الحَلقة

أنت جوادٌ وأنت معتَمَدٌ

أبوك قد كان قاتلَ الفسقَة

لولا الذي كان من أوائِلِكُم

كانت علينا الجحيمُ منطبقة

فسلّم الإمام(ع) وقال: (ياقنبر هل بقي من مال الحجاز شي‏ء؟ قال نعم أربعة آلاف دينار فقال: هاتها قد جاء من هو أحقُّ بها منّا، ثمّ لفّ الدنانير وأخرج يده من شقّ الباب حياءاً من الأعرابي وأنشأ:

خذها فإنّي إليكَ معتذرٌ

واعلم بأنّي عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا الغداةَ عصىً(١)

أمست(٢) سمانا عليك مُندَفِقة

لكنَّ ريبَ الزّمانِ ذو غِيَر

والكفُّ منّي قليلةُ النّفقة

فأخذها الأعرابي وبكى فقال له الإمام(ع): (لعلّك استقللتَ ما أعطيناك). قال: لا ولكن كيف يأكلُ الترابُ جودك(٣) .

ورواية اُخرى في نفس المعنى، أنّ أعرابياً جاء إلى الإمام الحسين(ع) فقال:

____________________

(١) الظاهر أنّ العصى كناية عن الأمر والحكم.

(٢) لعلّ المعنى لو كان في سيرنا هذه الغداة ولاية وحكم أو قوّة لأمست يدُ عطائنا عليك مندفقة وتكون السماء كناية عن يد الجود والعطاء.

(٣) جلاء العيون: ج٢ ص٢٤.

٥٥

ياابن رسول اللَّه ضمنت ديةً كاملة(١) وعجزتُ عن أدائِها فقلت في نفسي أسألُ أكرمَ الناس، وما رأيتُ أكرمَ من أهل بيتِ رسول اللَّه(ص) فقال الإمام(ع): (ياأخا العرب أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلثَ المال، وإن أجبت عن اثنين أعطيتك ثلثي المال، وإن أجبتَ عن الكلّ أعطيتُكَ الكل).

فقال الأعرابي: ياابن رسول اللَّه أمثلُكَ يسألُ مثلي وأنت من أهلِ العلم والشرف؟! فقال الإمام(ع): (بلى سمعتُ جدّي رسول اللَّه(ص) يقول: المعروف بقدر المعرفة، فقال الاعرابي: سل عمّا بدالك، فإن أجبتُ وإلّا تعلّمتُ منك ولا قوّةَ إلّا باللَّه.

فقال الإمام(ع): أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال الأعرابي: الإيمانُ باللَّه فقال الإمام(ع): فما النّجاةُ من الهلكة؟ قال الأعرابي: الثقةُ باللَّه، فقال الإمام(ع): فما يَزينُ الرّجل؟ قال: علمٌ معه حِلم قال: فإن أخطأه ذلك؟ قال الأعرابي: مالٌ معه مروءة قال الإمام(ع): فإن أخطأهُ ذلك؟ قال: فقرٌ معه صبر فقال الإمام(ع): فإن أخطأه ذلك؟ فقال الأعرابي: فصاعقةٌ تنزل عليه من السماء وتحرقهُ فإنّه أهلٌ لذلك.

فضحكَ الإمام(ع) ورمى بصرّةٍ إليه فيها ألفُ دينار، وأعطاه خاتمه وفيه فصٌّ قيمتُهُ مائتا درهم وقال: ياأعرابي أَعطِ الذّهبَ إلى غُرمائك، واصرف الخاتم في نفقتك)، فأخذ الاعرابي ذلك وقال:

____________________

(١) الدية الكاملة ألف دينار لقتل الخطأ.

٥٦

( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .(١) .(٢) وفي بعض الروايات فأنشأ الأعرابي يقول:

طَرَبتُ وما هاجَ لي معبقُ

ولا لي مقامٌ ولا مَعْشقُ

ولكن طَرَبْتُ لآلِ الرّسول

فلذّ لي الشِّعرُ والمنطقُ

هُمُ الأكرمونَ هُمُ الأنجبون

نجومُ السماءِ بهم تُشرقُ

سبقتَ الأنامَ إلى الصّالحات

وأنت الجوادُ فلا تُلحقُ

أبوكَ الذي سادَ بالمَكْرُماتِ

فقصَّرَ عن سبقِهِ السُبَّقُ

به فتح اللَّهُ بابَ الرّشاد

وبابُ الفسادِ بكم يُغلَقُ(٣)

وفي مثل اليوم الثاني من شهر محرّم سنة ٦١ للهجرة نزل الإمام الحسين(ع) مع مَن كان معه من أهل بيته وأصحابه أرض كربلاء(٤) .

أقول: نزلوا كربلاء ورايات الهاشميين ترفرف على رؤوس الهاشميات فكلّما رفعت واحدةٌ منهنّ رأسها رأت راية أبي الفضل العباس هو واخوته وبقيّة آل أبي طالب يحوطون بالعائلة الكريمة ولكن حرّ قلبي لها كيف خرجت من كربلاء شمرٌ عن يمينها وزجرٌ عن شمالها، وكلّما رفعت واحدةٌ منهنّ رأسها رأت رؤوس حماتِها على الرّماحِ العالية:

هذي نساؤُكَ مَن يكون إذا سرت

في الأسرِ سائقُها ومَن حاديها

أيسوقُها زجرٌ بضربِ متونها

والشمرُ يحدوها بسَبِّ أبيها

____________________

(١) سورة الأنعام: الآية ١٢٤.

(٢) بحار الأنوار: ج٤٤، ص١٩٦.

(٣) ثمرات الأعواد: ج١ ص١٣.

(٤) الملهوف للسيّد ابن طاووس: ص١٣٩.

٥٧

عجباً لها بالأمسِ أنتَ تصونُها

واليومَ آلُ اُميّةٍ تبديها

* * *

مشينة والدمع يجري اعله الخدود

وهموم الگلب حملان وتزود

عگب هذا الولي المعروف بالجود

وعگب ذاك الأخو المگطوع الزنود

وعگب شبه النبي العترب ممدود

وعگب ذيك الأقمار الصيد الأسود

شمر يحدي بضعنة وناگتي يگود

* * *

فكم دعت زينبٌ والدّمعُ منهملُ

هذي الطفوفُ وفيها بالحشا شُعَلُ

أبكي على سادة بالطّف قد قُتلوا

بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا

وخلَّفوا في سويدا القلبِ نيرانا

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٥٨

الليلة الثالثة المجلس السادس

الخروج من مكّة المـُكرّمة

فداءٌ لمثواكَ من مضجَعِ

تنوَّرَ بالأبلجِ(١) الأَرْوَعِ(٢)

بأعبقَ من نفحات الجنا

نِ رَوْحاً ومن مِسكها أضوَعِ

ورعياً ليومِكَ يومِ الطّفوفِ

وسَقياً لأرضِكَ من مصرعِ

وحزناً عليكَ بحبسِ النُّفوسِ

على نهجِكَ النيِّرِ المهيَعِ(٣)

وصوناً لمجدِكَ من أَن يُذالَ

بما أنت تأباه من مبدعِ

فيا أيّها الوَترُ في الخالدين

فذّاً إلى الآنَ لم يُشفَعِ

تعاليتَ من مُفزعٍ للحتوف

فبورِك قبرُكَ من مَفزعِ

تلوذُ الدُّهورُ فمن سجّدٍ

على جانبيه ومن ركّعِ

شمَمتُ ثراكَ فهبّ النّسيمُ

نسيمُ الكرامةِ من بلقعِ(٤)

وعفّرتُ خدّي بحيث استراح

خدٌّ تفرّى ولم يضرعِ

وحيثُ سنابِكُ خيلِ الطغاةِ

جالَت عليه ولم يخشعِ

وطفتُ بقبركَ طوفَ الخيالِ

بصومعةِ الملهَم المبدعِ

كأنّ يداً من وراءِ الضريحِ

حمراءَ مبتورةِ الإصبَعِ

____________________

(١) الأبلَج: هو الوضّاء.

(٢) الأروع: مَن يعجُبك بحسنهِ أو شجاعته.

(٣) الـمَهْيَع: البيّن الواضح.

(٤) البلقع: الأرض القفرة.

٥٩

تُمَدُّ إلى عالَم بالخنوع

والضيمِ ذي شَرقٍ(١) مترعِ

لتبدِلَ منه جديَبَ الضَّميرِ

بآخرَ معشوشِبٍ مُمرع

فيابنَ البتولِ وحسبي بها

ضماناً على كلِّ ما أدَّعي

ويابنَ التي لم يضَعْ مثلُها

كمثلِكَ حملاً ولم يُرضع

ويابنَ البطينِ بلا بطنةٍ

ويابنَ الفتى الحاسِرِ الأنزعِ

وياغصنَ هاشم لم ينفتح

بأزهرَ منكَ ولم يُفرعِ

وياواصلاً من نشيدِ الخلودِ

ختامَ القصيدةِ بالمطلعِ(٢)

* * *

____________________

(١) ذي شرق: ذي غصّة.

(٢) هذه الأبيات من قصيدةٍ عصماء للشاعر الكبير محمّد مهدي الجواهري.

قال السيد داخل السيد حسن في الجزء الأول من كتابه (من لا يحضره الخطيب):

ولد الشاعر محمد مهدي الجواهري فى حدود سنة ١٩٠٠م (في النجف الأشرف)، وهو ينتمي إلى أسرةٍ علميةٍ عريقة تعرف بأسرة آل صاحب الجواهر، وهو من أبرز شعراء العراق بل العرب المعاصرين قاطبةً.

له ديوان مطبوع في أربع مجلدات، وقصيدته العينية هذه هي من أروع ما قيل في الإمام الحسين(ع) وقد كتب منها خمسة عشر بيتاً على الباب الذّهبي في مشهد الإمام الحسين(ع)، ويقول الأستاذ الباحث محمد سعيد الطريحيّ في كتابه (أجراس كربلاء) إنّ الجواهري حدّثه عن اعتزازه الكبير بهذه القصيدة وقال له: إنها زادي إلى الآخرة.

توفي الجواهري في دمشق سنة ١٩٩٩م، ودفن في ضاحية السيدة زينب(ع).

٦٠

روي أنّ الإمام الحسين(ع) قال قبل خروجه من مكّة إلى العراق: (الحمدُ للَّه ما شاءَ اللَّه ولا قوّة إلّا باللَّه، وصلّى اللَّه على رسوله وآله وسلم، خُطّ الموتُ على وُلْدِ آدَمَ مخطَّ القِلادةِ على جيدِ الفتاة، وما أولهني(١) إلى أسلافي اشتياقَ يعقوبَ إلى يوسفَ، وخيرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه كأنّي بأوصالي تقطّعُها عسلان(٢) الفلوات بين النواويس وكربلا، فيَمْلأنَّ منّي أكراشاً جوْفاً وأجربة سُغُباً، لا محيصَ عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضى اللَّهِ رضانا أهلَ البيت، نصبرُ على بلائه ويوفّينا أجورَ الصّابرين لن تَشذّ عن رسول اللَّهِ لُحمتُه، بل هي مجموعةٌ له في حضيرةِ القدس تَقَرُّ بهم عينُهُ، ويُنجزُ بهم وعدُهُ، مَن كان باذلاً فينا مهجته، موطّناً على لقاءِ اللَّهِ نفسه فليرحلْ معنا فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء اللَّه تعالى)(٣) .

وكان خروج الإمام الحسين(ع) من مكّة متوجّهاً إلى العراق يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجّة فطاف بالبيت سبعاً وسعى بين الصّفا والمروة وأحلّ من إحرامِهِ وجعلها عمرةً لأنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يقبض عليه بمكّة ويرسل إلى يزيد بن معاوية، فخرج(ع) مبادراً بأهله وولده ومن انضمّ إليه من أهل البصرة والحجاز من شيعته ولم يكن قد بلغه بعدُ خبر مسلم بن عقيل(ع)(٤) .

وهذه الخطبة الشريفة صريحةٌ في تكذيب من يدّعي أن الإمام الحسين(ع) لم يكن يعلم بالمصير الذي ينتظرُهُ، وأنّه خرج طالباً للحكم والسلطان.

____________________

(١) ما أولهني: ما أشدّ اشتياقي.

(٢) عسلان الفلوات: ذئابُها.

(٣) الملهوف للسيّد ابن طاووس: ص١٢٦.

(٤) جلاء العيون: ج٢ ص١٤٢ بتصرّف.

٦١

فقوله(ع): (وكأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلانُ الفلوات بين النواويس وكربلاء) لهوَ تصريح واضح وإِخبارٌ أكيد عن المـُستقبل الذي ينتظرُه وأهل بيته وليس فيه إلّا القتل في سبيل اللَّه تعالى، وإعلاء كلمته، وسقي شجرة الإسلام الذّابلة - ببدع الأمويينَ - بدمه ودماءِ أهل بيته وأصحابه.

وأمّا أنّه خرج طالباً للخلافة والزّعامة فادّعاءٌ باطلٌ بعد علم الإمام(ع) - كما صرّح في خطبته المتقدّمة - بالمصير الذي سيؤولُ إليه أمرُهُ وهو الشهادة ثمّ أنَّ الخلافة والسلطنة قد ترفع من كان دانياً، وتقدّم من كان متأخّراً، وتظهر نسبَ من كان خاملاً وأين هذا من بعض فضائل الإمام الحسين(ع) فلقد كان - لعمري - سلطانَ الدهر، وإمامَ الزّمان، وحجّة اللَّه على عباده ناهيك عن نسبه الوضّاح فهو ابن النبيّ المصطفى، وعليّ المرتضى، وفاطمة الزهراء وخديجة الغرّاء، وهو مع أخيه المجتبى سيدا شباب أهل الجنّة، وريحانتا رسول اللَّه(ص)، وما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيرُهُ بينهم:

من معشر حبُّهُمْ دينٌ وبغضهُمُ

كفرٌ وقربُهُمُ منجىً ومعتَصمُ

إن عُدَّ أهلُ التُّقى كانوا أئمّتهم

أو قيلَ مَنْ خيرُ أهل‏ الأرض قيل: هُمُ

مقدّمٌ بعد ذكر اللَّهِ ذكرُهُمُ

في كلِّ بدءٍ ومختومٌ به الكَلِمُ(١)

وما أحسن ما تنبّه إليه ونبّه عليه المرحوم الشّهيد السيد محمّد الصدر

____________________

(١) أبيات من قصيدة الفرزدق الخالدة في مدح الإمام زين العابدين(ع).

٦٢

حيث حذَّر من تخيّل أهداف لنهضة الإمام الحسين(ع) كان مصيرها الفشل حيث لم تتحقّق فإنّ ذلك يقلّل من رفعة وسمو واقعة الطفّ فقال: أن يكون الهدفُ أمراً متحقّقاً إمّا في الحال أو في الاستقبال، ولا يجوز أن نطرح - لنهضة الإمام الحسين(ع) - هدفاً فاشلاً وغير متحقِّق أو غير قابل للتحقيق، فإنّ ذلك خلاف الحكمة الإلهيّة ولا يمكن أن ننسب ما هو فاشل وعاطل إلى الحكمة الإلهيّة، مثال ذلك: انّ الإمام الحسين(ع) لو كان قد استهدف من - نهضته المباركة النصر العسكري العاجل أو إزالة حكم بني‏اُميّة أو ممارسة الحكم في المجتمع فعلاً فهذه ونحوها من الأهداف التي لم تتحقّق وكان مصيرها الفشل وذلك لأنّها لم تحدث ولم يكن من الممكن أن تحدث، اذن فهذه كلّها لم تكن هدفاً للإمام وإِنْ تخيّلها البعض(١) .

روى الشيخ المفيد؛ في (الإرشاد) عن الفرزدق أنّه قال: حججتُ بأمّي في سنة ستين فبينما أنا أسوق بعيرها حتى دخلت الحرم إذ لقيت الحسين(ع) خارجاً من مكّة فأتيتُهُ وسلّمت عليه وقلت له: أعطاك اللَّه سؤلك وأمّلك فيما تحب بأبي أنت واُمّي ياابن رسول اللَّه ما أعجلك عن الحج؟ قال: (لو لم أعجل لأُخذت ثمّ قال لي من أنت)؟ قلت: رجلٌ من العرب ولا واللَّه ما فتّشني - ما سألني - أكثر من ذلك، ثمّ قال: (أخبرني عن النّاس خلفك) فقلت: الخبيرَ سألت، قلوبُ الناس معك وسيوفهم عليك والقضاء ينزل من السماء واللَّهُ يفعل ما يشاء قال: (صدقتَ للَّهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ وكلّ يوم ربّنا هو في شأن إن نزل القضاء بما

____________________

(١) اُنظر: كتاب أضواء على ثورة الإمام الحسين(ع): ص٥٨.

٦٣

نُحب فنحمد اللَّه على نعمائه وهو المُستعانُ على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرّجاء فلم يُبعَدْ(١) مَن كان الحقُّ نيّتَهُ والتقوى سيرتَهُ)، فقلت له: أجل بلّغك اللَّهُ ما تُحب وكفاك ما تحذر وسألتهُ عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني وحرّك راحلته وقال: السلام عليك ثمّ افترقنا(٢) . ثمّ سار(ع) حتى إذا وصل إلى (زرود) علم بمقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وقد شوهدا وهما يجرّان في السوق بأرجلهما فقال(ع): (إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون). فنظر إلى بني عقيل فقال: (ما ترون فقد قُتلَ مسلم) فقالوا: واللَّه لا نرجع حتى نصيبَ ثارَنا أو نذوق ما ذاق فقال الإمام: (لا خير في العيش بعد هؤلاء) ثمّ سار حتى انتهى إلى (زبالة) فأتاه خبر عبداللَّه بن يقطر فأخرج كتاباً فقرأه عليهم:

(بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم أما بعد فإنّه قد أتانا خبرٌ فضيع قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبداللَّه بن يقطر وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف في غير حرج ليس معَهُ ذمام) فتفرّق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه وإنّما فعل ذلك لأنّه(ع) علم أنَّ الأعراب الّذين اتّبعوه إنّما اتّبعوه وهم يظنّون أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعةُ أهله فكره أن يسيروا معهُ إلّا وهم يعلمون على ما يقدمون، ثمّ سار(ع) حتى نزل (شِراف) فلمّا كان في السّحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا ثمّ سار منها حتى انتصف النّهار فبينا هو يسير اذ كبّر رجلٌ من أصحابه فقال له الإمام الحسين(ع):

____________________

(١) أي من الخير والنجاح والفلاح. (من الحاشية)

(٢) جلاء العيون: ج٢ ص١٤٤.

٦٤

(اللَّهُ أكبر لمَ كبّرت)؟ قال رأيت النّخل فقال له جماعة من أصحابه واللَّه إنّ هذا المكان ما رأينا فيه نخلةً قط فقال له الإمام: (فما ترونَه)؟ قالوا نراه واللَّه آذان الخيل وأسنّة الرّماح قال(ع): (أنا واللَّه أرى ذلك مالنا ملجأ نلجأ إليه فنجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجهٍ واحد)؟ فقلنا له: بلى هذا هو ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإن سبقت إليه فهو كما تريد فأخذ إليه ذات اليسار وملنا معه فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل وإذا هو جيش زهاء ألف فارس مع الحرّ بن يزيد الرياحي التميمي حتى وقف هو وخيلُهُ مقابل الحسين(ع) في حرّ الظهيرة والإمام وأصحابه متقلّدون أسيافهم فقال لفتيانه: (اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفا) ففعلوا وكان آخر من وصل من أصحاب الحرّ هو عليّ بن الطعّان المحاربي فلمّا رأى الإمام الحسين ما به وبفرسه من العطش قال له: (أنِخ الرّاوية) - والراوية تعني الجمل بلغة الحجاز، والسِّقاء بلغة الكوفة - فلم يعرف كيف يشرب فقال له(ع): (أنِخ الجمل) ففهمَ ولكنه لم يستطع الشرب فقال له الإمام: (اخنث السّقاء) أي اعطفه فلم يدر كيف فقام الإمام بنفسه وسقاه الماء فارتوى وارتوى فرسُهُ، وهنا يخاطب أحد العلماء الإمام الحسين(ع) في ذلك فيقول:

سقيتَ عِداكَ الماءَ منكَ تحنُّناً

بأرضِ فلاةٍ حيثُ لا يُوجَدُ الماءُ

فكيف إذا تلقى مُحِبِّيكَ في غدٍ

عَطاشى من‏ الأجداثِ ‏في‏ لهفةٍ جاؤوا(١)

ثمّ حضر وقت صلاة الظّهر فأمر الإمام الحسين(ع) الحجّاج بن مسروق

____________________

(١) هذان البيتان للسيّد الحجّة ثقة الإسلام السيد محمّد الكشميري١. مقتل الحسين للمقرّم.

٦٥

أن يؤذّن فلمّا حضرت الإقامة خرج الإمام فحمد اللَّه وأثنى عليه ثمّ قال: (أيّها النّاس إنّي لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسُلُكم أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام لعلّ اللَّه أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم وإن لم تفعلوا وكنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئتُ منه إليكم) فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحدٌ منهم بكلمة فقال الإمام(ع) للمؤذّن: (أقم)، فأقام الصلاة فقال للحرّ: (أتريد أن تصلّي بأصحابك)؟ قال: لا بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك فصلّى بهم الإمام(ع) فدخل الإمام وانصرف الحُرُّ إلى مكانه ثمّ صار وقت العصر أمر الإمام الحسين(ع) أن يتهيَّأوا للرحيل ففعلوا ثمّ أمر مناديه فنادى بصلاة العصر وأقام فصلّى الإمام ثمّ سلّم وانصرف إليهم بوجهه فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد أيّها النّاس فإنّكم ان تتّقوا اللَّه وتعرفوا الحقّ لأهلهِ تكن أرضى للَّه عنكم ونحن أهل بيت محمّد(ص) وأولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أبيتم إلّا الكراهية لنا والجهل بحقّنا وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم انصرفت عنكم) فقال له الحر: أنا واللَّه لا أدري ما هذه الكتب والرّسل التي تذكر فقال الإمام(ع) لعقبة بن سمعان: (أخرج الخرجين الذين فيهما كتبهم إليّ)، فأخرج خُرجين مملوئين صحفاً فنثرت بين يديه فقال الحرُ: إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك إلّا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيداللَّه بن زياد فقال له الإمام(ع): (الموتُ أدنى إليك من ذلك) ثمّ قال لأصحابه: (قوموا فاركبو) فركبوا

٦٦

وانتظروا حتى ركبت نساؤهم، فلمّا أرادوا الانصراف حال القوم بينهم وبين الانصراف فقال الإمام(ع) للحرّ: (ثكلتكَ اُمُّكَ ما تريد)؟ قال له الحرّ: أما لو غيرُك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكرَ اُمّه بالثُّكل كائناً مَن يكون، ولكن واللَّه مالي إلى ذكر اُمّك من سبيل إلّا بأحسن ما نقدرُ عليه فقال له الإمام: (فما تريد)؟ قال: إذن واللَّه لا أدعُك فترادّ القول ثلاث مرّات فلمّا كثر الكلام بينهما قال له الحرّ: إني لم أومر بقتالك إنّما أمرت إلّا أُفارقك حتى أقدمك الكوفة فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة تكون بيني وبينك وسطاً حتى أكتب إلى الأمير عبيداللَّه فلعلّ اللَّه أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشي‏ءٍ من أمرك، فتياسرَ عن الطريق والحرُّ يسايرُهُ وهو يقول للإمام(ع): إني أذكرّك اللَّه في نفسك فإني أشهدُ لئن قاتلت لتُقْتَلَنّ فقال له الإمام(ع): (أفبالموت تخوّفني وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه):

سأمضي ومابالموت عارٌ على‏ الفتى

إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما

وواسى الرّجالَ الصّالحين بنفسهِ

وفارق مثبوراً وخالفَ مجرما

فإن عُشتُ لم أندم وإن مِتُّ لم أُلَمْ

كفى بك ذُلاً أن تعيشَ وتُرْغما(١)

ثمّ التفت الإمام الحسين(ع) لأصحابِهِ وقال: (من منكم يعرف الطريق على غير الجادّة فقال الطرمّاح أنا ياابن رسول اللَّه(ص) فقال له الإمام: تقدّم أمام الرّكب فتقدّم وجعل يرتجز ويقول:

____________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد(ره): ص٢٢٢ - ٢٢٤.

٦٧

ياناقتي لا تذعَري من زجري

واسر بنا قبل طلوعِ الفجرِ

بخيرِ فتيانٍ وخيرِ سفرِ

آلِ رسولِ اللَّهِ آلِ الفخرِ

السادةِ البيضِ الوجوهِ الزُّهَرِ

الضاربينَ بالسيوفِ البترِ

الطاعنينَ بالرِّماحِ السُّمر

يامالكَ النّفعِ معاً والضُّرِ

أيّد حسيناً سيّدي بالنصر

على الطّغاةِ من بقايا الكفرِ

حتى وصلوا كربلاء ونزلوا بها ولسان حال العقيلة زينب:

طلعنة بشملنه امن المدينة

والناس كانوا حاسدينه

وللغاضريه من لفينه

اجتنه العده ودارت علينه

والكاتبتنه اغدرت بينه

وروحي بگت ولهه وحزينه

ناديت ياعزنه وولينه

يحسين سدّر بالضعينه

وشوف الجموع اگبلت لينه

اوما غير قتلك رايدينه

ومن تنقتل ياهو يحمينه

ناداها يختي اوجرت عينه

هيهات نرجع للمدينه

لابد يزينب تشوفينه

فوگ الرّمال امذبّحينه

وتتيسّر عزيزتي سكينه

* * *

نزل وبكربلا خيامه نصبها

ولعد الموت راياته نصبها

عليه امقدّر من اللَّه نصبها

مصارعهم بهل التربه الزكيّه

* * *

ياقوم مااسم الأرض قالوا نينوى

قال اوضحوا عنها بغيرِ خفاءٍ

٦٨

قالوا تسمّى كربلا فتنفَّسَ الصُّعَدا

وقالَ هُنا حلولُ فناءِ

حطّوا الرّحالَ فذا محطُّ رحالِنا

وهنا تكونُ مصارعُ الشُّهداءِ

وبهذه الأطفالُ تذبحُ والنّسا

تعلوا على قَتَبٍ بغيرِ وطاءِ

وبهذِهِ تتفتّتُ الأكبادُ مِن

حرِّ الظّما وحرارةِ الرَّمضاءِ

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٦٩

الليلة الرابعة المجلس السابع

حياة مسلم بن عقيل(ع)

حَكَمَ الإلهُ بما جرى في مسلمٍ

واللَّهُ ليسَ لحكمهِ تبديلُ

خذلوهُ وانقلبوا إلى ابنِ سميّةٍ

وعن ابنِ فاطمةٍ يزيدُ بديلُ

آوتهُ طوعةُ مذ أتاها والعِدى

من حولِهِ عدواً عليه تجولُ

فأحسَّ منها إبنُها بدخولها

في البيت أنّ البيتَ فيه دخيلُ

فمضى إلى ابنِ زيادَ يُسرعُ قائلاً

بشرى الأمير فتىً نماهُ عقيلُ

فدعى الدعيُّ جيوشَه فتحزّبت

يقفو على أثرِ القبيلِ قبيلُ

وأتت إليه فغاص في أوساطها

حتّى تفلّلَ عرضُها والطوّلُ

يسطو بصارمه الصّقيلِ كأنّه

بطُلى الأعادي حدُّهُ مصقولُ

حتى هوى بحفيرةٍ صُنَعت له

أهوت عليه أسنّةٌ ونصولُ

فاستخرجوهُ مثخَناً بجراحِهِ

والجسمُ من نزفِ الدّماءِ نحيلُ

سل ما جرى جُمَلاً ودع تفصيلَه

فقليلُهُ لم يُحصِهِ التّفصيلُ

قتلوهُ ثمّ رموهُ من أعلى البِنا

وعلى الثّرى سحبوهُ وهو قتيلُ

ربطوا برجليه الحبالَ ومثَّلوا

فيه فليتَ أصابني التمثيلُ

مذ فاجأ النَّاعي الحسينَ علت على

فقدانِ مسلم رنّةٌ وعويلُ

وله ابنةٌ مسحَ الحسينُ برأسها

واليتمُ مسحُ الرأسِ فيه دليلُ

لمـّا أحسّت يتمَها صرخت ألا

ياوالدي حزني عليك طويلُ

قال الحسينُ أنا زعيمٌ بعدَه

لا تحزني وأبٌ لكِ وكفيلُ

٧٠

قد مات والدُها فأمّلت البقا

في العمِّ لكن فاتها المأمولُ(١)

لسان حال اليتيمة حميدة بنت مسلم مع الحسين(ع):

يعمي اعله ابويه أرد أنشدك

سولفلي عنّه وآنه عندك

أشوفن خبر منّه مضهدك

مقتول كأنّه وحگ جدّك

لـمّن سمعها جذب ونّه

وگال اِلها جاني الخبر عنّه

مقتول بالكوفه أظنّه

وگطعت الرّجه وأيّست منّه

* * *

____________________

(١) من قصيدة للمرحوم السيّد صالح الحلي، الشهيد مسلم للمقرّم، ص٢١٦.

قال الأديب الخطيب الحاج الشيخ محمد باقر الإيرواني النجفي في ترجمة المرحوم السيد صالح الحلي في كتابه (ديوان شعراء الحسين(ع)):

هو أبو المهدي السيد صالح بن محمد بن حسين الحسني الحسيني الحِلي خطيبٌ شهير، وأديبٌ جري‏ء، وأستاذ متبحّر، ولد في مدينة الحِلّة في العراق عام ١٢٩٠ه، وبعد أن نشأ وترعرع وبلغ الثامنة عشر من العمر هاجر إلى دار العلم - النجف الأشرف - واتّجه لطلب العلم من أهلِهِ وذويه فقرأ المقدّمات على أساتذة أعلام منهم الشيخ عبدالحسين الجواهري والشيخ سعيد الحلّي، ثمّ درس علم الأصول على السيد عدنان السيد شبّر والشيخ علي بن الشيخ باقر الجواهري والشيخ ملّا كاظم الخراساني - صاحب الكفاية - ، وتناول الفقه من فقهاء بارزين منهم الشيخ جواد محيي الدين وغيره، ويقول في مكان آخر من ترجمته:

وقد وصفه العلّامة المرحوم الشيخ محمّد السماوي في كتابه (الطليعة) فاضلٌ مشاركٌ في العلوم شديد العارضة، وخطيبٌ بارعٌ في فنّ الخطابة، ونائحٌ إذا ذكر الحسين(ع) أذاب القلب وأجراه من العين، ومحاضرٌ حسن المحاضرة لطيف المذاكرة جميل المعاشرة وتكفيه فخراً شهادة بعض العباقرة فيه بقوله: انه خطيب العلماء، وعالم الخطباء.

توفّي في النجف الأشرف في ٢٩ شوال ليلة السبت عام ١٣٥٩ه، ودفن في (مقام المهدي) بوادي السلام في النجف الأشرف.

٧١

روى الشيخ الصدوق؛ في (الأمالي) عن ابن عباس قال: قال عليٌّ أمير المؤمنين(ع) لرسول اللَّه(ص): يا رسول اللَّه إنّك لتحبّ عقيلاً قال: اي واللَّه إني لأحبُّهُ حبّين حبّاً له وحبّاً لحبِّ أبي طالب له، وإنّ ولَده لمقتولٌ في محبّة ولدك فتدمع عليه عيونُ المؤمنين وتصلّي عليه الملائكة المقرّبون، ثمّ بكى رسول اللَّه(ص) حتّى جرت دموعُهُ على صدره ثمّ قال إلى اللَّهِ أشكو ما تلقى عترتي من بعدي(١) .

السّفير مسلم هو ابن عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلّب الهاشمي، وعقيل والد مسلم علّامة نسّابة كان أنسب قريش وأعلمهم بأيّام الناس وأخبارهم وكان سريع البداهة حاضرَ الجواب، فطناً ذكيّاً يتوقّد فطنةً ويُقطّر حماسة، وكان من الأساتذة المدرّسين لعلوم العرب الرّائجة في ذلك العصر توضع له طنفسة - سجّادة - في مسجد رسول اللَّه(ص) ويستند إلى سارية من سواري المسجد فيجتمع إليه طلّاب هذه العلوم العربيّة فيحملون عنه علمَ النّسب والشعر وأخبار الناس وأيّامها يعني علم التأريخ العربي، ولعقيل يداً في الحديث والفقه والتفسير، وكان مكفوفاً مديدَ القامة مفخراً للأماجد، يقول حسّان بن ثابت الأنصاري في رثاء جعفر الطيّار:

وما زال في الإسلام من آلِ هاشمٍ

دعائمُ عزٍّ لا تُرامُ ومفخرُ

بهاليلُ منهم جعفرٌ وابنُ اُمهِّ

عليٌّ ومنهمُ أحمدُ المتخيَّرُ

وحمزةُ والعبّاسُ منهُمْ ومنهُمُ

عقيلٌ وماءُ العودِ من حيثُ يُعصَرُ(٢)

____________________

(١) آمالي الشيخ الصدوق؛ المجلس السابسع والعشرون: ص١١١ الحديث ٣.

(٢) سفير الحسين للعلّامة الشيخ عبد الواحد المظفّر: ص٥ - ٦.

٧٢

ويقول المحقّق المقرّم في حقّه: لقد كان عقيلُ بن أبي طالب أحد أغصان الشجرة الطيّبة ومّمن رضي عنهم رسول اللَّه(ص)، فإنّ النظرة الصحيحة في التأريخ تفيدنا اعتناقه الإسلام أوّل الدعوة وكان هذا مجلبةً للحبِّ النبوي حيث اجتمعت فيه شرائط الولاء، من رسوخ الإيمان بجوانحه، وعمل الخير بجوارحه، ولزوم الطاعة في أعماله، واقتفاء الصّدق في أقواله فقول النبيّ(ص): (إنّي أحبّ عقيلاً حبّين حبّاً له وحبّاً لحبّ أبي‏طالب له)، إنّما هو لأجل هاتيك المآثر، اذاً فحسب عقيل من العظمة هذه المكانة الشامخة(١) .

واُمّه أُمّ ولد تسمّى (عُليّة) أصلها من النبط ومن أشرافهم، والنبطُ هم سكّان العراق القدماء(٢) .

ولد مسلم بن عقيل(ع) في دار أبيه المعروفة (بدار عقيل) في المدينة ثمّ صارت بعد ذلك مقبرة لآل أبي طالب وهي في أوّل البقيع، ولم تعرف سنةُ ولادته تحقيقاً(٣) ، نعم لم ينص ولا واحد من المؤرّخين على سنة ميلاده ولكنّ المحقّقين حاولوا معرفة ذلك - ولو تقريباً - فكانت النتيجة هي انّ عمر الشهيد مسلم حين بعثه الإمام الحسين(ع) سفيراً له إلى أهل الكوفة قد تجاوز الخمسين عاماً.

يقول المحقّق المرحوم السيد عبدالرزاق الموسوي المقرّم:

____________________

(١) الشهيد مسلم للعلّامة المرحوم السيّد عبدالرزاق المقرّم: ص٢٥.

(٢) سفير الحسين: ص٧.

(٣) سفير الحسين: ص١٢.

٧٣

جعل الإمام أمير المؤمنين(ع) على ميمنةِ جيشهِ في صفّين الإمامين الحسن والحسين وعبداللَّه بن جعفر ومسلم بن عقيل ومن المعلوم أنّ مَن يجعله أمير المؤمنين(ع) في صفّ الحسن والحسين(ع) البالغين نحواً من خمس وثلاثين سنة لابُدّ وأن يقاربَهم في السّن، وحينئذٍ لا أقل أن يقدّر عمر مسلم ابن عقيل بالثلاثين وتكون ولادته سنة سبع أو تسع للهجرة وله يوم شهادته أكثر من خمسين سنة(١) . ويقول أيضاً: وإذا أخذنا بنصّ الواقدي كانت المسافة أبعد قال: لما دخل المسلمون مدينة (البهنسا)(٢) بعد حصارٍ طويل دخل مسلم بن عقيل في جملة الهاشميين وهو يقول:

ضناني الحربُ والسهرُ الطّويلُ

وأقلقني التسهّدُ والعويلُ

فواثارات جعفر مع عليٍّ

وما أبدى جوابُكَ ياعقيلُ

سأقتلُ بالمهنّد كلَّ كلبٍ

عسى في الحربِ أن يَشفى الغليلُ

وكان فتح البهنسا أيام عمر بن الخطّاب، فإنّ من يخرج في صفّ المجاهدين أيام ابن الخطّاب لابُدّ وأن يبلغ على الأقل عشرين سنة وحينئذٍ تكون ولادته في أوائل الهجرة.

وأما وصفه فقد قال الفاضل الدربندي في (أسرار الشهادة): بنفسي شجاعاً.

____________________

(١) الشهيد مسلم بن عقيل: ص٥٠ - ٥٢.

(٢) قال الحموي في (معجم البلدان) البَهْنَسا: مدينة بمصر من الصعيد الأدنى غربي النيل.

٧٤

ويقول الصّديق في شأنه: أرسلَ الحسين(ع) مسلم ابن عقيل إلى الكوفة وكان مثلَ الأسد، ولقد كان من قوّته أنّه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت، ويقول العدوُّ في حقّه(١) : ياابن زياد أتظنّ أنّك بعثتني إلى بقّالٍ من بقاقلةِ الكوفة أو جرمقان(٢) من جرامقةِ الحيرة، ألم تعلم أنّك بعثتني إلى أسدٍ ضرغام وسيفٍ حسام في كفِّ بطلٍ همام من آل خير الأنام، وقال الزركلي في الأعلام: مسلمُ بن عقيل المقتول سنة ٦٠ه الموافق سنة ٦٨٠م تابعي من ذوي الرأي والعلم والشجاعة.

هذا هو إذن مسلم بن عقيل سفير الإمام الحسين(ع) إلى أهل الكوفة. الفقيه، والمجاهد، والشجاع، والثابت على المبدأ الحقّ، قال الشاعر في حقّه:

تصفّحتُ أخبارَ السّفارةِ لم أجد

سفيراً يداني مسلمَ بن عقيلِ

أرى ذكرَهُ حيّاً وإن غابَ شخصُهُ

لدى كلِّ دورٍ في الحياةِ وجيلِ

فتىً ينتقيه السبطُ سبطُ محمّدٍ

متى تسمحُ الدّنيا له بمثيلِ(٣)

فعلى مثلِ مسلم فليبكِ الباكون ويضجّ الضاجّون كيف لا وقد بكى عليه الرسول الأعظم(ص) قبل أن يقتل وعدّ البكاءَ عليه من علائم الإيمان كما في الحديث الّذي صدّرنا به هذا المجلس حيث قال أمير المؤمنين(ع) لرسول اللَّه(ص):

____________________

(١) هذه الكلمة قالها محمّد بن‏الأشعث قائدالجيش الذي قاتل مسلم بن عقيل(ع). الشهيد مسلم: ص١٦٥.

(٢) جرامقةُ الشام: أنباطُها، واحدهم جُرْمُقاني. (لسان العرب)

(٣) سفير الحسين للشيخ عبد الواحد المظفّر، وأبيات الشعر له(ره).

٧٥

(أتحبُّ عقيلاً؟ قال: اي واللَّه أحبّه حبّين حبّاً له وحبّاً لحبّ أبي طالبٍ له وإنّ ولده -أي مسلم لمقتولٌ في محبّة ولدك - أي الحسين(ع) - تدمع عليه عيون المؤمنين وتصلّي عليه الملائكة المقرّبون) ثمّ بكى رسول اللَّه وقال: (إلى اللَّه أشكو ما تلقى عترتي من بعدي)، وهذا النصّ كافٍ في رجحان البكاء عليه، فإنَّ إخبار النبي(ص) عن بكاء المؤمنين وارد لبيان كون البُكاء محبوباً للرسول حيث رتّب البُكاء على شهادة مسلم النّاتجة عن محبّة الإمام الحسين(ع)، ثمّ قرن النبيّ(ص) البُكاء على مسلم بصلاةِ الملائكة المقرّبين، وهل يصحّ القول بأنّ صلاةَ الملائكة عليه غير محبوبة للَّه سبحانه، فإذاً بكاء المؤمنين وصلاة الملائكة على مسلم بن عقيل المترتبان على شهادته ممّا يرغب فيه الرّسول وهو محبوبٌ للَّه سبحانه(١) .

فعلى مثل مسلم فليبكِ المؤمنون كما بكى رسول اللَّه(ص)، فإنّه(ع) قُتل غريباً، وقُتل وحيداً، وقُتل عطشاناً وذلك عند ما جي‏ء به إلى قصر الإمارة فرأى على باب القصر قُلّةً(٢) مبرّدة فقال: اسقوني من هذا الماء فقال له مسلمُ بن عمرو الباهلي: لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم قال مسلم(ع): من أنت؟ قال: أنا مَن عرف الحقّ إذ أنكرتَهُ ونصحَ لإمامِهِ اذ غششتَهُ فقال له ابن عقيل: لاُمِّك الثُّكل ما أقساك وأفظّك!! أنت ياابن باهله أولى بالحميم ثمّ جلس وتساند إلى حائط القصر، فبعث عمارة ابن عقبة بن أبي معيط غلاماً له يدعى قيساً فأتاه بالماء وكلّما أراد

____________________

(١) الشهيد مسلم: ص١٩٣.

(٢) القُلّة: الجرّة أو الكوز.

٧٦

مسلم(ع) أن يشرب امتلأ القدح دماً وهكذا الثانية وفي الثالثة ذهب ليشرب فامتلأ القدح دماً وسقطت فيه ثناياه(١) فتركه وقال: لو كان من الرزق المقسوم لشربتُهُ.

وخرج غلام ابن زياد فأدخله عليه فلم يسلّم فقال له الحرسي: ألا تسلّم على الأمير؟ قال له: اسكت إنّه ليس بأمير فقال ابن زياد: سلّمت أو لم تسلّم إنّك مقتول فقال مسلم: إن قتلتني فلقد قَتل من هو شرٌّ منك من هو خيرٌ منّي وبعد فإنّك لا تدع سوءَ القتلة ولا قُبح المـُثلة وخبثَ السَّريرة ولؤمَ الغلبة لأحدٍ أولى بها منك فقال ابن زياد: لقد خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة قال مسلم: كذبت إنّما شقّ العصا معاوية وابنُه يزيد، والفتنة ألقحها أبوك، وأنا أرجو أن يرزقني اللَّهُ الشهادة على يد شرّ بريّته، ودار بينهما كلام مثل ما تقدّم حتى أمر ابن زياد رجلاً شاميّاً أن يصعد بمسلم(ع) إلى أعلا القصر ويضرب عنقه ويرمي رأسَهُ وجَسدَهُ إلى الأرض، وفعلاً أصعَدهُ إلى أعلا القصر وهو يسبّح اللَّه ويهلّلُهُ ويكبّر ويقول: اللّهمَّ احكم بيننا وبين قومٍ غرّونا وخذلونا وكذّبونا، وتوجّه نحو المدينة وسلّم على الحسين(ع)(٢) .

صعدوا بمسلم والدّمع يجري من العين

اتوجّه بوجه للحجاز يخاطب حسين

____________________

(١) الثّنايا: هي أسنان مقدّم الفم.

(٢) الشهيد مسلم: ص١٨٦ - ١٨٨.

٧٧

يحسين انا مقتول ردّوا لا تجوني

خانوا هل الكوفه عگب ما بايعوني

وللفاجر ابن زياد كلهم سلّموني

محزون ونتو ياهلي عنّي بعيدين

* * *

ياليت هل الدّم الذي يجري على الگاع

مسفوح بين ايديك يامكسور الضلاع

يحسين منّك ما حضيت بساعة وداع

بيني وبينك ياحبيبي فرّگ البين

وأشرف به الشامي على موضع الحذّائين وضرب عنقَهُ ورمى برأسه وجسدهِ إلى الأرض، وامسلماه، واسيّداه، واشهيداه، واغريباه.

المگدّر جره وشاعت أخباره

رموه الگوم من قصر الإماره

وهاني انقتل بعده وبگت داره

مظلمة ولا بعد واحد يصلها

* * *

مصيبتهم مصيبه تصدع الأجبال

ومن گبل المشيب تشيب الأطفال

شفت ميّت يجرّونه بالحبال

يصاحب لا تظن صارت مثلها

* * *

عگب هذااطلعت مذحج امن الدّور

وشگت لعد هاني ومسلم گبور

بس جثة حسين بيوم عاشور

ظلّت بالشمس والدم غسِلْها

* * *

٧٨

ياسائلاً وشظايا القلب في شجن

هل جهَّزوا لقتيلٍ مات ممتَحنِ

أجبتُهُ بفوُادٍ خافقٍ وَهِنِ

ما غسَّلوهُ ولا لَفَّوه في كفنِ

يوم الطفوف ولا مدُّوا عليه ردا

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٧٩

الليلة الرابعة المجلس الثامن

مسلم سفيرُ الإمام الحسين(ع)

بكتكَ دماً يابنَ عمِّ الحسين

مدامعُ شيعتِكَ السّافحة

ولا برحت هاطلاتُ العيون

تحييكَ غاديةً رائحة

لأنّكَ لم تَروَ من شربةٍ

ثناياك فيها غدت طائحة

رموكَ من القصر إذ أوثقوك

فهل سَلِمَتْ فيك من جارحة

وسحباً تُجَرُّ بأسواقِهِم

ألستَ أميرَهُمُ البارحة

أتقضي ولم تبككَ الباكيات

أما لكَ في المصر من نائحة

لئن تقضي نحباً فكم في زرود

عليك العشيّةَ من صائحة

وكم طفلةٍ لك قد أعولت

وجمرتُها في الحشا قادحة

يعزّزها السبطُ في حجرِهِ

لتغدوَ في قربِهِ فارحة

فأوجعها قلبُها لوعةً

وحسّت بنكبتها القارحة

تقولُ مضى عمُّ مني أبي

فمن ليتيمتِهِ النّائحة(١)

____________________

(١) الأبيات السبعة الاُولى من هذه القصيدة للمرحوم السيد باقر الهندي، والأبيات الأربعة الأخيرة للمرحوم الشيخ قاسم الملّا الحِلي. الشهيد مسلم: ص٢٠٩.

قال السيد جواد شبر في (أدب الطف) الجزء الثامن ص٢٢٤:

السيد باقر ابن السيد محمّد ابن السيد هاشم الهندي الموسوي النجفي، عالمٌ فاضلٌ، وأديبٌ شاعر ظريف لطيف حسن الأخلاق حلو المعاشرة له مراثي كثيرة في أهل البيت: لا زالت تُقرأ وتعاد في مجالس العزاء، ويحفظها الجم الكثير من رواد المجالس حتى العوام، وسمعت من علماء النجف الأشرف أنه كان إذا حدّث لا يملّ حديثه، وينظم الشعر باللغتين الفصحى والدارجة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343