المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة11%

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 343

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة
  • البداية
  • السابق
  • 343 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45024 / تحميل: 4732
الحجم الحجم الحجم
المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

المجالس الحسنة في مناسبات السَّنَة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

____________________

ولد في النجف الأشرف سنة ١٢٨٤ه ونشأ بها، وفي عام ١٢٩٨ه سافر بصحبة والدهِ إلى سامراء لتلقي العلم من الإمام الشيرازي ثمّ رجع مع أبيه سنة ١٣١١ه وعندما حلّ بسامراء أخذ الفقه والأصول من بعض الأساتذة هناك.

كان شديد الولاء لأهل البيت: عظيم التعلّق بمودّتهم، وقال يمدح الإمام أمير المؤمنين٧ من رائعة تتكون من ٩٠ بيتاً مطلعُها:

ليس يدري بكنه ذاتِكَ ما هو

يابن عمِّ النبيِّ إلا اللَّهُ

إلى أن يقول:

قلت للقائلين في أنك اللَّهُ

أفيقوا فاللَّهُ قد سوّاهُ

هو مشكاة نورِهِ والتجلّي

سرُّ قدسٍ جهلتُمُ معناهُ

قد براهُ من نوره قبل خلقِ ال

خلقِ طُرّاً وباسمِهِ سمّاهُ

وحباهُ بكلِّ فضلٍ عظيم

وبمقدارِ ما حباهُ ابتلاه

مرض في أواخر شهر ذي الحجّة الحرام من سنة ١٣٢٨ه، وانتقل إلى جوار ربّه في أول يوم من المحرّم من سنة ١٣٢٩ه ودفن بجوار والدِهِ في دارهم في النجف الأشرف.

ورثاه شقيقهُ العلامة الكبير شيخ الأدب السيّد رضا الهندي بقصيدةٍ أوّلها:

ما كان ضرَّ طوارقَ الحدثانِ

لو كان قبلكَ سهمُهُنَّ رماني

ياليت أخطاك الرّدى أو أنّه

لما أصابك لم يكن أخطاني

* * *

الشيخ قاسم الملا :

قال الشيخ محمد علي اليعقوبي في ج٤ من كتابه (البابليّات):

ولد في الحلة سنة ١٢٩٠ه كما أخبرني هو بذلك، وهو ثاني أنجال الشيخ محمّد الملّا، ولم يقم بعده من أولاده الأربع من ينوب عنه في الحِلة أدباً وخطابة سوى صاحب الترجمة فقد كان أشدّهم ملازمة له، وأوفرهم حظوةً لديه.

٨١

من اجت عد عمها حميده

گعدت تون ونّه شديده

تگله يعمي ابوي أريده

أشو سفرته صارت بعيده

يگلها وبگه يصفگ بإيده

بالكوفه أبيّك بگه وحيده

وأهل الغدر گطعوا وريده

صاحت وتجري الدّمع عل خد

يتيمة صرت اللَّه ولحّد

* * *

من كتابٍ لإمامِنا الحسين(ع) بعثه إلى أهلِ الكوفة: (إني باعثٌ إِليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلمَ بنَ عقيل)(١) .

بعد أن عرفت في المجلس السابق نسب الشهيد مسلم، ومكانتَهُ، وفضلَهُ وجهادَهُ تعال معي في هذا المجلس لنقف على قصّةِ إرساله من قبل الإمام الحسين(ع) سفيراً له لأهل الكوفة. لنأخذ الدروس والعِبر من هذا السّفير الحسيني، والمجاهد العقيلي. وننتفع من تفانيه في سبيل المبدأ والعقيدة.

قال الشيخ المفيد في (الإرشاد): ودعى الإمام الحسين(ع) مسلمَ بن عقيل فسرّحَهُ مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبداللَّه السلولي

____________________

وقال السيد جواد شبر في (أدب الطف): الشيخ قاسم من خطباء الحلة ناظماً وناثراً وخطيباً محقّقاً له شهرته الخطابيّة، عاش ٨٤ سنة حيث ودّع الحياة ليلة الأربعاء رابع ربيع الثاني سنة ١٣٧٤ه، وحمل إلى النجف بموكبٍ من الحليين، ودفن بوادي السلام، وأقيمت له الفواتح، ورثي بكثير من القصائد.

(١) الإرشاد للشيخ المفيد: ص٢٠٤.

٨٢

وعبد اللَّه وعبد الرّحمن ابني شدّاد الأرحبي وأمره بالتقوى، وكتمان أمره، واللطف، فإن رأى النّاس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك.

فأقبل مسلم حتى أتى المدينة فصلّى في مسجد رسول اللَّه(ص) وودّع من أحبّ من أهلِهِ واستأجرَ دليلين من قيس فأقبلا به يتنكبان الطريق فضلّا وأصابهما عطشٌ شديد فعجزا عن السّير فأومئا له إلى سنن الطريق بعد أن لاح لهما ذلك فسلك مسلم ذلك فنجا ومات الدليلان عطشاً. فكتب مسلم ابن عقيل من الموضع المعروف (بالمضيق) مع قيس ابن مسهر الصيداوي إلى الإمام الحسين(ع): أما بعد فإني أقبلتُ من المدينة مع دليلين فضلّا واشتدّ عليهما العطش فلم يلبثا أن ماتا فلم ننجُ إلّا بحشاشةِ أنفسِنا وذلك الماء بمكانٍ يُدعى المضيق من بطن الخبت وقد تطيّرت(١) من توجّهي هذا فإن رأيت أعفيتني وبعثت غيري والسلام.

والطيرةُ عادةٌ جاهليّة نهى عنها الإسلام. وملخّصها هو أن العربي إذا أراد سفراً يطلق طيراً في الهواء فإذا سار من اليمين إلى اليسار سُمّي البارح، وإذا سار من اليسار إلى اليمين سُمّي السّانح، وأهل الحجاز يتشاءمون بالسانح، وأهل نجد يتشاءمون بالبارح، وكانت العرب تتشاءم برؤية الأعور أو الشاة ذات القرن الواحد وما شابه ذلك، فعندما جاء الإسلام حارب هذه العادة أشدّ المحاربة حتى جاء في الحديث: (مَن أرجعتهُ الطِيرةُ عن حاجةٍ فقد أشرك) أو الحديث: (فإذا تطيّرت فامض)(٢) ، ولم يحكِ اللَّه تعالى التطيّر إلا عن أعداء الرّسل:

____________________

(١) قال الفيومي في (المصباح المنير): الطِيَرة وزن عِنَبة وهي التشاؤم. انتهى.

(٢) الشهيد مسلم للمحقّق المقرّم: ص٨٥.

٨٣

( إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَي’َمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) (١) .

وإلى هذه العادة أشار الكميت الأسدي في إحدى روائعه الخالدة:

ولا أنا ممّن يزجُرُ الطيرُ همَّهُ

أصاح غرابٌ أم تعرّض ثعلبُ

ولا السّانحاتُ البارحاتُ عشيّةً

أمرَّ سليمُ القرن أم مرَّ أعضَبُ(٢)

قال السيد المقرّم: لقّد تجلّى ممّا ذكرناه من رفع الطيرة في الشريعة الافتراء على مسلم بن عقيل في كتابه إلى الحسين(ع): إني تطيّرت من وجهتي هذه فإن رأيت أن تعفيني وتبعث غيري، فيكتب إليه الإمام: (أما بعد فقد خشيت ألا يكون الذي حملك على هذا إلّا الجبن فامض لوجهك الذي وجّهتك له)، فإنّ المتأمّل في صك الولاية الذي كتبه سيّد الشهداء لمسلم بن عقيل لا يفوته الإذعان بما يحملُهُ من الثبات والطمأنينة ورباطة الجأش إنّه لا يهاب الموت، فتلك الجملة التي جاء بها الرواة وسجّلها ابن جرير للحطِّ من مقام ابن عقيل الرفيع جاءت متفكّكة الأطراف واضحة الخلل كيف وأهل البيت ومن استضاء بأنوار تعاليمهم لا يعبأون بالطيرة ولا يقيمون لها وزناً، وليس العجب من ابن جرير إذ سجّلها ليشوّه بها مقام شهيد الكوفة كما هي

____________________

(١) سورة يس: ١٨ - ١٩.

(٢) يزجرُ الطير: أي ينهى، وسليم القرن: الذي له قرنان سالمان، والأعضب هو مكسور القرن.

٨٤

عادته في رجالات هذا البيت ولكنّ العجب كيف خفيت على بعض أهل النظر والتدقيق(١) .

ثمّ أقبل مسلم(ع) حتى دخل الكوفة فنزل في دار المختار بن أبي عبيدة، وأقبلت الشيعة تختلف إليه فكلّما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين(ع) وهم يبكون حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً، فكتب مسلم إلى الإمام الحسين(ع) يخبره بذلك ويقول: أما بعد فإنّ الرّائدَ لا يَكْذِبُ أهلَهُ وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فإذا وصلك كتابي هذا فالعجل العجل والسلام، وكان هذا الكتاب قبل مقتل مسلم بسبعٍ وعشرين يوماً(٢) .

ثمّ وصلت أخبار مسلم بن عقيل إلى والي الكوفة آنذاك وهو النعمان ابن بشير الذي كان والياً على الكوفة أيّام معاوية فأقرّه يزيد عليها فصعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه ثمّ قال: أما بعد فاتّقوا اللَّه عباد اللَّه ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة فإنّ فيها تهلك الرّجال وتسفك الدماء، وتغصب الأموال وإنّي لا أقاتلُ مَن لا يقاتلني، ولا أتحرّش بكم، ولا آخذُ بالظّنةِ ولا التّهمة ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم فواللَّهِ الذي لا إِلهَ غيرُهُ لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمُهُ بيدي... إلى آخر كلامه.

فقام إليه عبداللَّه بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية فقال له: إِنّه لا يُصلح ما ترى أيّها الأمير إلا الغشم، وإِنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين

____________________

(١) الشهيد مسلم للمحقّق المقرّم: ص٩٧ - ٩٨.

(٢) المصدر السابق: ص١٠٥ عن تاريخ الطبري.

٨٥

عدوّك رأي المستضعفين. فقال له النعمان: لأن أكون من المستضعفين في طاعةِ اللَّه أحبّ إليّ من أن أكون من الأعزّين في معصية اللَّه ثمّ نزل، وخرج عبداللَّه بن مسلم وكتب إلى يزيد كتاباً قال فيه: أما بعد فإنّ مسلمَ بن عقيل قد قدمَ الكوفة وبايعتهُ الشيعة للحسين بن علي بن أبي طالب فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً ينفّذ أمرك ويعمل مثلَ عملك في عدوّك فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعّف، ثمّ كتب إليه عمارةُ بن عقبة وعمر بن سعد بن أبي وقاص مثلَ ذلك، فلمّا وصلت الكتب إلى يزيد دعى سرجون مولى معاوية فقال له: ما رأيك إِنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلمَ بن عقيل يبايع له وقد بلغني عن النعمان ضعفٌ وقول سيّ‏ء فمَن ترى أن أستعمل على الكوفة فقال له سرجون: أرأيت لو يشير لك معاوية حيّاً ما كنت أخذت برأيه؟ قال: بلى فأخرج سرجون كتاباً كتبه معاوية في حياته ولّى فيه عبيداللَّه بن زياد الكوفة، فقال سرجون ليزيد: ضمّ المصرين - الكوفة والبصرة - إلى عبيداللَّه فقال يزيد: أفعل ذلك وفعلاً كتب من ساعته كتاباً ولّى عبيداللَّه بن زياد الكوفة أيضاً وهذا نصّ الكتاب:

أما بعد، فإنه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابنَ عقيل فيها يجمع الجموع ليشقّ عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تقتله أو تنفيه والسلام، فلمّا وصله الكتاب أمر عبيداللَّه بن زياد بالتجهّز بسرعة وخرج من البصرة بعد أن خلّف أخاه عثمان على البصرة وأقبل يسير ومعه شريك ابن عبداللَّه الأعور الحارثي الهمداني البصري وحشمُه وأهلُ بيته حتى دخل الكوفة

٨٦

وعليه عمامة سوداء وهو متلثّم والناس قد بلغهم إقبال الحسين(ع) إليهم فهم ينتظرون قدومَه فظنّوا حين رأوا عبيداللَّه أنه الحسين(ع) فأخذ لا يمرّ على جماعةٍ من الناس إلّا سلّموا عليه وقالوا: مرحباً بك ياابن رسول اللَّه قدمتَ خيرَ مقدم فرأى من تباشرهم بالحسين(ع) ما ساءه فقال مسلم بن عمرو الباهلي - لما أكثروا في ذلك - تأخرّوا هذا الأمير عبيداللَّه بن زياد، وسار حتى وافي القصر بالليل ومعه جماعة قد التفّوا به لا يشكّون أنه الحسين(ع). فأغلق النعمان بن بشير والي الكوفة عليه الباب وعلى خاصّته ثمّ أخرج رأسَهُ وهو يظن الحسين بالباب فقال: أنشدك باللَّه إلّا تنحيّت واللَّه ما أنا بمسلِّمٍ إِليكَ أمانتي ومالي إلى قتالك من حاجة، فقال عبيداللَّه له: افتح لا فتحت فقد طال ليلُك فقالوا: هذا ابن مرجانة والذي لا إِله غيرُه ففتح له النعمان ودخل القصر فلمّا أصبح نادى في الناس الصلاة جامعة فاجتمع الناس فخرج وحمد اللَّه وأثنى عليه ثمّ قال: أما بعد فإنّ أمير المؤمنين يزيد ولّاني مصركم وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم كالوالد البَر وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي، ثمّ أخذ الناس أخذاً شديداً.

فلمّا سمع مسلم بن عقيل(ع) مجي‏ء عبيداللَّه إلى الكوفة ومقالته التي قالها خرج من دار المختار حتى انتهى إلى دار هاني بن عروة فدخلها، وأخذت الشيعة تأتي إليه في دار هاني على تستّر واستخفاء من عبيداللَّه بن زياد(١) .

____________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد: ص٢٠٦ - ٢٠٧.

٨٧

وفي بيت الزّعيم المجاهد هاني بن عروة وقعت حادثة مهمّة سيبقى التأريخ يذكرها بفمٍ عاطر وهي: أن شريك بن عبداللَّه الحارثي جاء مع ابن‏زياد من البصرة إلى الكوفة ونزل دار هاني بن عروة، فعندما جاء مسلم(ع) ونزل معه قال شريك لمسلم (وكان شريك مريضاً آنذاك): سيأتيني ابن زياد عائداً فخذ السيف وادخل المخدع فإذا استقرّ به الجلوس اخرج إليه واقتله، والعلامة بيني وبينك هي أن أَرفع عمامتي وأضعها على الأرض. وفعلاً قام مسلم(ع) ودخل وحضر ابن زياد فعندما استقرّ به الجلوس أخذ شريك عمامته من على رأسه ووضعها على الأرض ثمّ وضعها على رأسه فعل ذلك مراراً ومسلم لم يخرج فنادى بصوتٍ عال يُسمع مسلماً:

ما الانتظارُ بسلمى لا تحيُّوها

حيُّوا سليمى وحيُّوا من يُحيِّيها

هل شربة عذبة أُسقى على ظمأٍ

ولو تلفتُ وكانت منيتي فيها

فلو أحسَّت سليمى منك داهيةً

فلستَ تأمَنُ يوماً من دواهيها

وما زال يكرّرها ثمّ صاح بصوتٍ رفيع اسقونيها ولو كان فيها حتفي، فالتفت عبيداللَّه إلى هاني وقال: ابن عمّك يخلط في علّته فقال هاني: إنّ شريكاً يهجر منذ وقع في علّته وإنه يتكلّم بما لا يعلم، فلمّا ذهب ابن زياد وخرج مسلم قال له شريك: ما منعك من قتله؟ قال: منعني شيئان:

الأول: حديث سمعته عن عمّي أمير المؤمنين(ع) عن رسول اللَّه(ص): (إنّ الإيمانَ قيدُ الفتك فلا يفتك مؤمن).

والثاني: منعتني امرأةُ هاني وأقسمت عليّ باللَّه أن لا أفعل هذا في

٨٨

دارها وبكت في وجهي فقال هاني: ياويلها قتلتني وقتلت نفسها والذي فرّت منه وقعت فيه(١) .

ولكنّ السبب المخفي في عدم فتك مسلم بابن زياد هو أنّ مسلم(ع) كان سفيراً للإمام الحسين(ع) وهذا اللون من القتل - ولو لعدوٍّ فاجرٍ فاسق - لا يناسب المنصب الذي شرّفه به الإمام(ع) يقول السيد المقرّم في ذلك:

فمسلم(ع) كبقيّة رجالات أهل هذا البيت الرّفيع أراد بفعله هذا وبقيّة أعماله أن يفيض على الأمّة دروساً أخلاقية لا تعدوه الأمة في التجنّب عن رذيلة الفتك والغدر فتستفيد به كما استفادت من كلّ فرد من شهداء الطفّ إباء ونخوة وحمية(٢) .

و لما خفي على ابن زياد مكان مسلم بن عقيل دعا رجلاً اسمه (معقل) وأعطاه ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يلقى الشيعة ويعرّفهم إنه من أهل الشام وقد أنعم اللَّه عليه بحبّ أهل البيت، وبلغه قدوم رجلٍ منهم يدعو للإمام الحسين وعنده مال يريد أن يوصله إليه.

وفعلاً جاء (معقل) ودخل الجامع الأعظم ورأى مسلمَ بن عوسجة الأسدي يصلّي وسمع الناس يقولون هذا يبايع للحسين اجتمع به وأوقفه على ما عنده فدعا له مسلم بن عوسجة بالخير والتوفيق وأخذ منه البيعة والمواثيق على الكتمان حتى لا يصل الخبر لابن زياد ثمّ أدخله على مسلم ابن عقيل في دار هاني بن عروة وسلّم المال إلى أبي ثمامة الصّائدي وكان

____________________

(١) الشهيد مسلم للمحقّق المقرّم: ص١٣٨ - ١٣٩.

(٢) المصدر السابق: ص١٤١.

٨٩

قد عيّنه مسلم لقبض الأموال ليشتري بها السّلاح، فبقي معقل يراقبهم وينقل الأخبار إلى ابن زياد عند المساء. و لما عرف ابن زياد ان مسلم مختبئ في دار هاني دعا أسماء بن خارجة ومحمّد بن الأشعث وعمرو بن الحجاج الزبيدي وسألهم عن سبب انقطاع هاني بن عروة عنه فقالوا: المرض يمنعُهُ فلم يقتنع ابن زياد فركب هؤلاء الثلاثة وسألوه المصير إلى ابن زياد وألحّوا عليه فجاء معهم و لما دخل على ابن زياد قال:

(أتتك بخائنٍ رجلاه) والتفت إلى شريح القاضي وقال:

أريدُ حباءَه ويريدُ قتلي

عذيرك من خليلك من مرادِ

ثمّ التفت إلى هاني قائلاً: أتيتَ بابن عقيل إلى دارك وجمعت له السلاح فأنكر هاني ذلك فلمّا كثر الجدال دعا ابن زياد ذلك الجاسوس (معقل) ففهم هاني أنّ الخبر أتاه من جهتِهِ فقال هاني: لم أدعه إلى منزلي وإنّما استجار بي وإذا أذنت لي أخرجته من داري فأبى ابن زياد أن يطلق سراحه إلّا أن يأتيه بمسلم، هنا صرّح هاني ابن عروة بعقيدته فقال: إنّ مسلم بن عقيل أحقُّ منك بالأمر وأنا سأقوم بحمايتك مع أهل بيتك حتى تخرجوا إلى الشام سالمين لأنّ مسلم أولى بالقيام على أمرِ الأمّة وإدارة شؤونها، فغضب ابن زياد من كلام هاني وألحّ عليه بالإتيان بابن عقيل فأفهمه هاني بأنّ هذا محالٌ عليه ويأباه دينه وعقيدته وقال: لو كان ابن‏عقيل تحت قدمي لما رفعتهما عنه، فأغلظ له ابن زياد في القول وتهدّده بالقتل فتعجّب هاني من جرأته وهو واحد ويتبع ابن عروة ثلاثون ألفاً

٩٠

من الرجال الأشداء فاستدناه ابن زياد وضرَبه على وجهِهِ حتى كسر أنفَهُ ونثرَ لحمَ خدّيه وجبينه وسال الدم على لحيته وهاني يستغيث فلا يُغاث ثمّ أمر به ابن زياد إلى الحبس(١) وعندما علم مسلم بن عقيل(ع) بذلك عجّل الخروج لعلّه يستطيع أن ينقذ حياة هاني بن عروة. فنادى المنادي بكلمة السر وهي (يامنصورُ أمِتْ)(٢) فخرج الكوفيّون وأحاطوا بقصر الإمارة وضاق الخناق على ابن زياد فلم يكن أمامَه من حيلة سوى إرعاب الناس بالقتل وترغيبهم بالمال، وفعلاً نزل جماعة من أعوان الشيطان منهم محمّد بن الأشعث وحجّار بن أبجر وشمر بن ذي الجوشن يمنّونهم العطاء مع الطّاعة، ويهدّدونهم بجند الشام الموهوم، ثمّ أشرف على الناس من أعلى القصر كثير بن شهاب حين كادت الشمس أن تغرب وقال: أيّها الناس الحقوا بأهاليكم لا تعجلوا الشرّ ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت وقد أعطى الأمير عهداً لئن بقيتم على حربكم ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريّتكم العطاء ويفرّق مقاتلتكم في مغازي الشام، وأن يأخذ البري‏ء بالسقيم والغائب بالشاهد حتى لا يبقى فيكم بقيّة من أهل المعصية إلّا ذاق وبالَ ما جنت يدُهُ، وأمثال هذه الكلمات والألفاظ.

فأخذ الأخ يخذّل أخاه، والمرأة تتعلّق بزوجها حتى يرجع، والآباء يمنعون أبناءهم عن الجهاد ويحبّذون لهم العافية فتفرّق ذلك الجمع عن مسلم(ع) حتى لم يبق

____________________

(١) الشهيد مسلم للمحقّق المقرّم: ص١٥٠ - ١٥٢ بتصرّف.

(٢) منصور هو اسم رئيس الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي(ص) يوم بدر، وكان شعار المسلمين آنذاك يامنصور أمت. (من الحاشية)

٩١

معه إلّا ثلثمائة رجل، صلّى العشاء في المسجد ومعه ثلاثون رجلاً(١) وخرج(ع) من المسجد وغاب في أزقة الكوفة لا يدري أين وكيف سينتهي به الحال حتى وصل إلى باب دار وامرأة واقفة سلّم عليها وطلب منها الماء فسقته فجلس على الباب قالت له: ألم تشرب الماء؟ قال: بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك بارك اللَّه فيك فسكت فأعادت عليه مثل ذلك فسكت فقالت له: سبحان اللَّه ياعبد اللَّه قم عافاك اللَّه إلى أهلك لا يصلح لك الجلوس على باب داري ولا أحلّهُ لك فقام وقال: ياأمة اللَّه مالي في هذا المصر أهلٌ ولا عشيرة فهل لكِ في أجرٍ ومعروف ولعلّي مكافيك بعد اليوم قالت: ياعبد اللَّه وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني قالت: أنت مسلم؟ قال: نعم. قالت: ادخل فدخل دارها:

اجت ليه العفيفة واسگته الماي

وگالت گوم شنهي گعدتك هاي

لا تگعد يروحي وماي عيناي

گوم وروح لهلك چاهلك وين

* * *

ون ونه يتگطّع منها الفواد

يهل حرّه هلي ما هم بالبلاد

غريب الدّار وهلي عنّي بعاد

وين أهلي هلي ما هم قريبين

* * *

نادت يابعد عگلي والأنفاس

كأنك هاشمي مومن عرض ناس

هله وكل الهله عل عين والراس

إِلك منزل يمسلم بين هل عين

____________________

(١) الشهيد مسلم: ص١٥٥ - ١٥٦.

٩٢

أنا مسلم وعندك ضيف هليل

فرحت طوعة ومنها الدّمع هليل

على رحب وسعة والوجه هلّل

بسرور تفضّل ومنّه عليّه

دخل دارها أفردت له حجرة عرضت عليه الطعام فلم يأكل، فما زال صافّاً قدميه للصلاة حتى عاد ولدها بلال رآها تكثر الدخول والخروج فسألها فقالت بني إِلهُ عن هذا ألحّ عليها قالت فلا تخبر أحداً من الناس بشي‏ءٍ ممّا أخبرك به؟ قال: نعم أخذت عليه الأيمان فحلف لها فأخبرته ولكن ما أصبح الصباح حتى ذهب إلى ابن زياد وأخبره الخبر. أما مسلم(ع) عندما جاءته طوعة ورأت الطعام على حاله قالت: سيدي ما أراك أكلت قليلاً ولا نمت قليلاً قال: بلى هوّمت عيناي فرأيت عمّي أمير المؤمنين في الرؤيا وهو يقول: ولدي مسلم إنك عن قريب صائرٌ إلينا فبينا هي تحادثه وإذا بوقع الخيل وإذا هو محمّد بن الأشعث ومعه خمسمائة فارس فقام مسلم وشدّ وسطه بمنطقه وحمل سيفه وتدرّع بدرعه وخرج إلى القوم وهو يرتجز:

أقسمتُ لا أُقتَلُ إلّا حُرّا

وإن رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا

أخافُ أن أُخدَعُ أو أُغرَّا

كلّ امرى‏ءٍ يوماً ملاقٍ شرّ

قاتلهم قتال الشجعان فقتل منهم مقتلةً عظيمة فأخذوا يشعلون النار بالقصب ويرمونها عليه، ويرضخونه بالحجارة فلم ينفع حتى حفروا له حفيرة وغطّوها بالتراب إنهزموا من بين يديه فسقط في الحفيرة فاجتمعوا عليه وأخرجوه فضربه محمّد بن الأشعث على فمه فسالت دماؤه على لحيته الكريمة وأخذوا سيفه

٩٣

فبكى فقال له ابن الأشعث: إنّ الذي يطلُبُ مثلَ ما تطلُبُ إذا نزل به الذي نزل بك لا يبكي عندها قال: واللَّه ما على نفسي بكيت ولكن أبكي لأهلي المقبلين أبكي لحسينٍ وآل حسين.

جاءوا به إلى قصر الامارة وأدخلوه على ابن زياد دار بينهما كلام فشتمَ اللعينُ أميرَ المؤمنين(ع) والإمام الحسن والحسين وعقيل حتى أمر أن يُصعد إلى أعلى القصر وتُضرب عنقُهُ وفعلاً ضربه الغلام فقتله ومضى إلى ربّه مظلوماً شهيداً غريباً ورميت جثّته من أعلى القصر إلى الأرض ثمّ أخرجوا هاني ابن عروة وهو ينادي وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم حتى ضُربت عنقُهُ وربطوا برجليهما الحبال وسحبوهما في الأسواق:

فإن كنت‏لاتدرين ماالموت فانظري

إلى هاني‏ءٍ في السوق وابن عقيلِ

إلى بطلٍ قد هشَّمَ السيفُ وجهَهُ

وآخرَ يَهوي من طمارٍ قتيل

أصابهما أمرُ اللعينِ فأصبحا

أحاديثَ من يسري بكلِّ سبيلِ

* * *

عاده اليستجير يكون ينجار

وعن قتله حليف الشرف ينجار

مثل مسلم صدگ بالحبل ينجار

وتتنومس بقتله أرذال اميه

و لما سمع الإمام الحسين(ع) بمصرع مسلم وذلك عندما وصلَ إلى منطقة تُعرف بـ (زرود) كأني بالإمام(ع) قام يتخطّى الأطفال حتى وقف على حميدة بنت الشهيد مسلم فأخذ يمسح على رأسها ودموعه جارية فأحست الطفلة فقالت: ياخال ياأبا عبداللَّه هل أصيب أبي بشي‏ء؟ قال لاعليك أنا أبوك وهذه النسوة أخواتك ولسان الحال:

٩٤

گلبي كسرته ياغريب الغاضرية

مثل اليتامى تمسح بكفّك عليه

* * *

تمسح على راسي ودمع‏العين همّال

كأني يتيمةالكافي‏اللَّه من هل احوال

ماعوّدتني بهل فعل من گبل ياخال

خلّيت عبراتي على خدودي جريّه

* * *

بمسحك‏ على راسي ‏تركت ‏الگلب ‏ذايب

وهذا يخالي ‏من ‏علامات ‏المصايب

گلبي تروّع حيث أبوي بسفر غايب

طوّل الغيبه يعوده اللَّه بعجل ليّه

* * *

جاني ‏الخبر عن حال مسلم يا حزينه

يگولون من قصر الإماره ذابينه

وبالحبل ‏في‏ الأسواق‏ جسمه‏ ساحبينه

وراسه يويلي راح للطاغي هديه

* * *

صرخت ‏الطفله ‏والدمع‏ بخدودها يسيح

وتگوم ‏مذعوره ‏وعلى وجه ‏الثره ‏تطيح

تلطم ‏على ‏الهامه‏ بعشرها ونوبٍ‏ تصيح

فگد الأبوياناس ‏أعظم‏ كل ‏رزيه

* * *

لم يبكها عدمُ الوثوق بعمِّها

كلّا ولا الوجدُ المبرِّحُ فيها

لكنّها تبكي مخافةَ أنَّها

تُمسي يتيمةَ عمِّها وأبيه

لاحول ولا قوة إلا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

٩٥

الليلة الخامسة المجلس التاسع

فضل أصحاب الإمام الحسين(ع)

كيف تهنيني الحياةُ وقلبي

بعد قتلى الطّفوفِ دامِ الجِراحِ

بأبي مَن شَرَوا لِقاءَ حسينٍ

بفراقِ النُّفوسِ والأرواحِ

وقفوا يدرؤونَ سُمرَ العوالي

عنه والنّبلَ وقفةَ الأشباحِ

فوقَوهُ بيضَ الظُّبى بالنُّحورِ البـ

ـيض والنّبلَ بالوجوهِ الصِّباحِ

فئةٌ إن تعاورَ النّقعُ ليلاً

أطلعوا في سماه شُهبَ الرّماحِ

وإذا غنّتِ السيوفُ وطافت

أكؤسُ الموتِ وانتشى كلُّ صاحِ

باعدوا بين قربِهم والمواظي

وجسومِ الأعداءِ والأرواحِ

أدركوا بالحسين أكبرَ عيدٍ

فغدَوا في منى الطّفوفِ أضاحي

لستُ أنسى من بعدهم طودَ عِزٍّ

وأعاديه مثلُ سيلِ البِطاحِ(١)

* * *

گضوا حق العليهم دون الخيام

ولا خلّوا خوات حسين تنضام

لما طاحوا تفايض منهم الهام

تهاوَوا مثل مهوى النّجم من خر

* * *

هذا الرّمح بفواده تثنّه

وهذا بيه للنشّاب رنّه

وهذا الخيل صدره رضرضنه

وهذا وذاك بالهندي موذّر

* * *

____________________

(١) هذه ‏الأبيات ‏من ‏قصيدةٍ عصماء للمرحوم ‏السيد جعفر الحِلي (ره)، ومرّت ترجمته ‏في ‏ص٤٣.

٩٦

ركب غوجه وتعنّه حسين ليها

لگاها بس جثث ومسلّبيها

صبّ الدّمع وتحسّر عليها

وگال احتسب عند اللَّه وأصبر

* * *

من خطبة لأبي عبداللَّه الحسين(ع) قال: أمّا بعدُ فإني لا أعلمُ أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهلَ بيتٍ أبرَّ ولا أوصلَ من أهل بيتي فجزاكم اللَّهُ عنّي خيراً(١) .

بهذه الكلمة الذهبية الخالدة، وبهذا المدح الـمُركّز والتوثيق الذي لم يسبقهُ مثيل يُعرِّف الإمام الحسين(ع) أصحابه وأهل بيته الأوفياء.

قوله(ع): (لا أعلم أصحاباً أوفى..الخ) يعني أنّ الإمام(ع) وهو الحجّة المعصوم الوارث لعلوم جدّه وأبيه وجميع الأنبياء الذين كان علمهم بتوسّط الوحي والإلهام الإلهي لا بتعليم معلّم أو تفهيم مفهّم يقول لا أعلم أنّ هناك أصحاباً في كلّ زمان ومكان، وفي كلّ عصر ومصر أولى من أصحابي ولا أبرّ وأوفى ولا أوصل منهم، فصار أصحابه(ع) أفضل من أصحاب كلّ نبيّ ووصيّ.

ولكنّ الأفضليّة هنا هي بمقابلة المجموع بالمجموع لا بمقابلة الواحد بالواحد بمعنى أنّ مجموع أصحاب الإمام الحسين(ع) أفضل من مجموع أصحاب رسول اللَّه أو أمير المؤمنين (صلى اللَّه عليهما وآلهم)، لا بمعنى أنّ كلّ واحد من أصحاب الإمام الحسين(ع) أفضل من كلّ واحد من أصحاب رسول اللَّه(ص) فإنّ من أصحاب رسول اللَّه(ص) سلمان وأباذر وهما في

____________________

(١) إبصار العين في أنصار الحسين(ع) للمرحوم الشيخ محمد السماوي: ص٩.

٩٧

الإيمان والقرب بحيث يصعب أن يُقاس بهم واحد من أتباع الأنبياء والأوصياء، وانّ في أصحاب أمير المؤمنين(ع) مالك الأشتر وهو الآخر يصعب أن يُدانيه أحد من أصحاب الأنبياء والأوصياء وهكذا.

روى الشيخ الصدوق؛ في (علل الشرائع) عن ميثم التمّار: أنّ الحسين ابن علي(ع) سيدّ الشهداء يوم القيامة ولأصحابه على سائر الشهداء درجة(١) .

وروى الشيخ ابن قولويه؛ في (كامل الزيارات) عن أمير المؤمنين(ع) أنّه مرّ بكربلاء فطاف بها على بغلتِهِ فأنشأ يقول: (مناخ ركاب ومصارع الشهداء لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم مَن أتى بعدهم)(٢) .

ويقول المرحوم الشيخ جعفر الشوشتري: لقد تأمّلت فرأيت أنّ أفضليّة شهداء كربلاء على سائر الشُهداء ليس أمراً اعتباطياً، وحيازتهم على هذه الدرجات العالية ليس اعتباطياً بل يعود إلى كمالهم في العبودية للَّه بحيث أنّهم الأكمل في جميع المراتب، فهم سادةُ الموحّدين، وسادةُ المتيقّنين، وسادةُ المصلّين والصائمين والمزكّين والمخمّسين وسادةُ المضحّين في سبيل اللَّه تعالى(٣) .

ترى لهُمُ عند القِراعِ تباشراً

كأنّ لهم يومَ الكريهةِ عيدُ

فما وهَنوا عن نصرةِ الدِّين والهُدى

إلى أن تفانى جمعُهُم وأُبيدوا

____________________

(١) علل الشرايع: ج١ ص٢٢٧ ح ١٢.

(٢) كامل الزيارات: ص٢٧٠ ح ١٢.

(٣) فوائد المشاهد: ص٣٩٣.

٩٨

ويقول المرحوم الشيخ عباس القمّي في (نفس المهموم): أصحاب الإمام الحسين رضوان اللَّه تعالى عليهم هم سادات الشهداء يوم القيامة والرّاضون عن اللَّه تعالى وهو راضٍ عنهم، وأخبر النبي(ص) عنهم في اخباره بشهادة الحسين(ع) بقوله: وهو يومئذٍ في عصبةٍ كأنّهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل، وكأنّي أنظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم(١) .

فما أحقهم بوصفِ من قال:

للَّهِ قومٌ إذا ما الليلُ جنَّهُمُ

قاموا من الفرشِ للرّحمنِ عبّادا

ويركبون مطايا لا تملُّهُمُ

إذا هُمُ بمنادي الصبحِ قد نادى

هُمُ إذا ما بياضُ الصبح لاح لهم

قالوا من الشوقِ ليتَ الليلَ قد عادا

هُمُ المطيعون في الدّنيا لسيّدهم

وفي القيامةِ سادوا كلَّ مَن سادى

الأرضُ تبكي عليهم حين تفقدهم

لأنّهم جُعلوا للأرضِ أوتادا(٢)

تعال واُنظر إلى تفانيهم في نصرة الدين والهدى، فهذا سعيد بن عبداللَّه الحنفي قام حين جمعهم الإمام الحسين(ع) ليلة العاشر وأَذِنَ لهم بالانصراف وقال لهم: هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، قام سعيد فقال: واللَّه لا نخلّيك حتى يعلمَ اللَّهُ أنّا قد حفظنا نبيّه محمداً(ص) فيك، واللَّه لو علمت أني أُقتلُ ثمّ أحيى ثمّ أُحرق حياً ثم أذرّ يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما

____________________

(١) نفس المهموم: ص٦٢٦ - ٦٢٧.

(٢) نفس المهموم: ص٦٣٠.

٩٩

فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدة ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً، وفعلاً وفى سعيد بما قال وضمّ إلى قوله فعلاً أكسبه الثناءَ في الدنيا، وأحسن الجزاء في الآخرة، وذلك انّه لما صلّى الإمام الحسين(ع) الظهر صلاة الخوف، اقتتلوا بعد الظهر واشتدّ القتال ولما قرب الأعداء من الحسين وهو قائمٌ بمكانه تقدّم سعيد الحنفي أمام الحسين(ع) وصار هدفاً لهم يرمونه بالنّبل يميناً وشمالاً وهو قائمٌ بين يدي الإمام(ع) يقيه السهام طوراً بوجههِ وطوراً بصدره وطوراً بيديه وطوراً بجنبه فلم يصل إلى الإمام(ع) شي‏ءٌ من ذلك حتى سقط سعيد الحنفي إلى الأرض وهو يقول: اللهمّ العنهم لعنَ عادٍ وثمود، اللهمّ ابلغ نبيّك عنّي السلام وابلغه ما لقيتُ من ألمِ الجراح، فإنّي أردت ثوابك في نصرة نبيّك، ثمّ التفت إلى الإمام الحسين(ع) فقال: أَوَفَيْتُ ياابن رسول اللَّه قال: (نعم أنت أمامي في الجنّة)، ثمّ فاضت نفسُهُ النّفيسة(١) .

وهذا جون مولى أبي ذرّ الغفاري وقف أمام الإمام الحسين(ع) يستأذنه في القتال فقال له الإمام(ع): (يا جون أنت في إذنٍ منّي فإنّما تبعتنا طلباً للعافية فلا تبتلِ بطريقتن)، فوقع جون على قدمي أبي عبداللَّه يقبّلهما ويقول: ياابن رسول اللَّه(ص) أنا في الرّخاء ألحسُ قصاعكم وفي الشدّة أخذلكم إنّ ريحي لنتن، وحسبي للئيم، ولوني لأسود فتنفّس عليّ في الجنّة ليطيب ريحي، ويشرُف حسبي، ويبيض لوني، لا واللَّه لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدّم الأسود مع دمائكم، فأذن له الإمام الحسين(ع) فبرز وهو يقول:

____________________

(١) إبصار العين: ص١٢٦.

١٠٠

كيف ترى الفجّارُ ضربَ الأسود

بالمشرفيِّ والقنا المسدَّد

يذبُّ عن آلِ النبيّ أحمد

ثمّ قاتل حتى قُتل، وقيل أنّه قتل خمساً وعشرين رجلاً، فوقف عليه الإمام الحسين(ع) وقال: (اللهمّ بيّض وجههُ، وطيّب ريحهُ، واحشره مع الأبرار وعرّف بينه وبين محمدٍ وآل محمد(ص) )، وروي عن الإمام الباقر(ع) عن أبيه زين العابدين(ع) أنّ بني أسد الذين حضروا المعركة ليدفنوا القتلى وجدوا جوناً بعد أيّام (من شهادته) تفوح منه رائحةُ المسك، وفي ذلك يقول المرحوم الشيخ محمّد السماوي:

خليليَّ ماذا في ثرى الطفِّ فانظُرا

أَجونةُ طيبٍ تبعثُ المسكَ أم جونُ

ومن ذا الذي يدعو الحسينُ لأجلهِ

أذلك جونُ أم قرابتُهُ عونُ

لَئن كانَ عبداً قبلها فلقد زكا

النِّجارُ(١) وطابَ‏ الرّيحُ وازدهرَ اللونُ(٢)

وهذا بُرير بن خُضير الهمْداني الذي كان شيخاً ناسكاً قارئاً للقرآن من شيوخ القُرّاء في الكوفة، ومن أصحاب أمير المؤمنين(ع)، وعندما خطب الإمام الحسين(ع) أصحابه حيث قال: (ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه... الخ) قام إليه أصحابه الكرام وأجابوه بما اقتضى خالص الدّين ثمّ قام برير بن خضير وقال: واللَّهِ ياابن رسول اللَّه(ص) لقد

____________________

(١) قال في المصباح المنير: النِّجار بالكسر: الأصل والحسب.

(٢) إبصار العين: ص١٠٥.

١٠١

منّ اللَّهُ بك علينا ان نُقاتل بين يديك تقطّع فيك أعضاؤنا حتى يكون جدّك يوم القيامة بين أيدينا شفيعاً لنا، فلا أفلح قومٌ ضيّعوا ابن بنت نبيّهم، وويلٌ لهم ماذا يلقون به اللَّه، وأُف لهم يوم ينادون بالويل والثبور في نار جهنّم.

وروى أبو مخنف عن عفيف بن زهير قال: خرج يزيد بن معقل فقال يابرير بن خضير كيف ترى صنعَ اللَّه بك؟ -وكان هذا بعد أن خطبهم برير ووعظهم- قال: صنع واللَّه بي خيراً وصنع بك شرّاً فقال: كذبت وقبل اليوم ما كنت كذّاباً، أتذكر وأنا أُماشيك في سكة بني دودان وأنت تقول: إنّ عثمان كان كذا، وإنّ معاوية ضالّ مضلّ، وإنّ عليّ بن أبي طالب إمامُ الحقّ والهدى قال برير: أشهدُ أنّ هذا رأيي وقولي، فقال يزيد: فإنّي أشهدُ أنّكَ من الضّالين، قال برير: فهل لك أن أباهلك؟ ولندعُ اللَّهَ أن يلعنَ الكاذب، وأن يقتلَ الُمحِقُّ المبطل، ثمّ قال: اخرج لأبارزك، قال: فخرجا فرفعا أيديهما بالمباهلة إلى اللَّه يدعوانه أن يلعن الكاذب وأن يقتلَ المحقُّ المبطلَ، ثمّ برز كلُّ واحدٍ منهما لصاحبه فاختلفا ضربتين، فضرب يزيدُ بريراً ضربةً خفيفة لم تضرُّه شيئا وضرب برير يزيد ضربةً قدّت المغفر وبلغت الدّماغ فخرّ كأنّما هوى من حالق وانّ سيف برير لثابتٌ في رأسه حتى أخرجه وهو يقول:

أنا بريرٌ وأبي خضيرُ

وكلُّ خيرٍ فله بريرُ

ثمّ طلب المـُبارزة من القوم فحمل عليه رضي بن منقذ العبدي فاعتنق بريراً فاعتركا ساعة ثمّ أنّ بريراً صرعه وجلس على صدره فجعل رضي بن منقذ يصيح بأصحابه أين أهل المصاع(١) والدّفاع، فذهب كعب بن جابر الأزدي

____________________

(١) أهل المصاع: أهل القتال.

١٠٢

ليحمل عليه فقال له عفيف بن زهير: انّ هذا برير بن خضير القاري‏ء الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد؟ فلم يلتفت وحمل عليه بالرّمح حتى طعنه في ظهره، فلمّا وجد برير مسّ الرّمح بركَ على رضي فعضّ أنفه حتى قطعه، وأنفذ الطعنة كعب حتى ألقاه عنه وقد غيّب الرّمح في ظهره ثمّ أقبل يضربه بسيفه حتى مات شهيداً رضوان اللَّه تعالى عليه، فلمّا رجع كعب بن جابر قالت له أُخته النوّار: أعنت على ابن فاطمة وقتلت سيّد القُرّاء؟! لقد أتيت عظيماً من الأمر، واللَّه لا أكلّمك من رأسي كلمة أبداً(١) .

وهذا مسلم بن عوسجة الأسدي كان رجلاً شريفاً سرّياً عابداً متنسّكاً قال ابن سعد في الطبقات: وكان صحابياً ممّن رأى رسول اللَّه(ص) وروى عنه الشعبي، وكان فارساً شجاعاً له ذكرٌ في المغازي والفتوح الإسلامية(٢) .

روى أبو مخنف عن الضحّاك بن عبداللَّه الهمداني أنّ الحسين(ع) خطب أصحابه فقال في خطبته: (إنّ القوم يطلبوني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ثمّ ليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي) فقام له أهله وتقدّمهم العباس بالكلام لِمَ نفعل ذلك لنبقى بعدكِ لا أرانا اللَّه ذلك أبداً ثمّ قام مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلّي عنك ولَمْ نُعذر إلى اللَّه في أداء حقّك أمَ واللَّهِ لا أبرح حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولا أُفارقك، ولو لم

____________________

(١) إبصار العين: ص٧٢ - ٧٣.

(٢) إبصار العين: ص٦١.

١٠٣

يكن معي سلاح أُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك، قال أبو مخنف: ولما التحم القتال حملت ميمنةُ ابن سعد على ميسرة الحسين(ع) وفي ميمنة ابن سعد عمرو بن الحجّاج الزبيدي وفي ميسرة الحسين(ع) زهير بن القين وكانت حملتهم من نحو الفرات فاضطربوا ساعة وكان مسلم بن عوسجة في الميسرة فقاتل قتالاً شديداً لم يُسمع بمثله فكان يحمل على القوم وسيفه مصلت بيمينه فيقول:

إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لُبَدْ

وإنّ بيتي في ذرى بني أسد

فمن بغاني حائدٌ عن الرّشد

وكافرٌ بدين جبّارٍ صمد

فلم يزل يضرب فيهم بسيفه حتى عطف عليه مسلم بن عبداللَّه الضبابي وعبدالرحمن بن أبي حَكارة البجلي فاشتركا في قتله، فما انجلت الغبرة إذا هم بمسلم بن عوسجة صريعاً فمشى إليه الحسين(ع) فإذا به رمق فقال له: رحمك اللَّه يامسلم (مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) ثمّ دنا منه فقال له حبيب عزّ عليّ مصرعُك يا مسلم أبشر بالجنّة فقال له مسلم بصوت ضعيف: بشّرك اللَّه بخير فقال حبيب: لولا أعلم أني في الأثر لاحقٌ بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصي إليّ بكلّ ما أهمّك، قال بلى أوصيك بهذا رحمك اللَّه (وأومى بيديه إلى الحسين(ع) ) أن تموت دونه فقال حبيب: أفعل وربّ الكعبة(١) :

____________________

(١) إبصار العين: ص٥٩.

١٠٤

وصلت يابن ظاهر منيتي

ما اوصيك بعيالي وبيتي

وان كان نيتك مثل نيتي

أريدنك تجاهد سويتي

بالحسين واولاده وصيتي

يهل تعرف عظم شاني وصيتي

هتافي مولجل اهلي وصيتي

ببو السجّاد وعياله وصيتي

واريدك تحفظ حقوق الوصيّة

* * *

نصروه أحياءاً وعند مماتهم

يوصي بنصرته الشفيقُ شفيقا

أوصى ابن عوسجةٍ حبيب قائلاً

قاتلهُمُ حتّى الحِمامَ تذوقا

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

١٠٥

الليلة الخامسة المجلس العاشر

مواقف أنصار الإمام الحسين(ع)

أرى العمرَ في صرفِ الزّمانِ يبيدُ

ويذهبُ لكن ما نراهُ يعودُ

فكن رجلاً إن تُنْضَ أثوابُ عيشِهِ

رَثاثاً فثوبُ الفخرِ منهُ جديدُ

وإيّاكَ أن تشري الحياةَ بذلّةٍ

هي الموتُ والموتُ المريحُ وجودُ

وغيرُ فقيدٍ مَن يموتُ بعزّةٍ

وكلُّ فتىً بالذلِّ عاش فقيدُ

لذاكَ نضى ثوبَ الحياة ابنُ فاطمٍ

وخاضَ عبابَ الموتِ وهو فريدُ

ولاقى خميساً(١) يملأُ الأرضَ زحفُهُ

بعزمٍ له السبعُ الطّباقُ تميدُ

وليس له من ناصرٍ غيرُ نيِّفٍ

وسبعينَ ليثاً ما هناك مزيدُ

سطت وأنابيبُ الرّماحِ كأنّها

أجامٌ(٢) وهم تحت الرّماح أسودُ

وما برحوا عن نصرةِ الدّين والهدى

إلى أن تفانى جمعُهُم وأُبيدوا(٣)

قال الشيخ محمد علي اليعقوبي في الجزء الأول من كتابه (البابليّات):

ولد في النجف الأشرف عام ١١٤١ه ونشأ فيها، وأخذ العلم عن علمائها يومئذٍ حتى ذاع صيتُهُ واشتهر ذكرُه بعلمي الأديان والأبدان، وبعد استكمال الفضيلة غادر النجف إلى الحلة وسكنها سنة ١١٧٥ه فكان أشهر أعلامها علماً وأدباً وتقوى وكرماً.

____________________

(١) الخميس: هو الجيش لأنّه خمسُ فرق وهي المقدّمة والقلب والميمنة والميسرة والسّاقة.

(٢) آجام: هو الحصن، ومعنى البيت هو أن الرماح لكثرتها صارت كأنّها حصن وهم تحت هذا الحصن كالأسود.

(٣) القصيدة من نظم المرحوم السيد سلمان بن السيد داود الحلي (رحمهما اللَّه تعالى) الدرّ النضيد: ص١٣٥.

قال الشيخ محمد علي اليعقوبي في الجزء الأول من كتابه (البابليّات):

ولد في النجف الأشرف عام ١١٤١ه ونشأ فيها، وأخذ العلم عن علمائها يومئذٍ حتى ذاع صيتُهُ واشتهر ذكرُه بعلمي الأديان والأبدان، وبعد استكمال الفضيلة غادر النجف إلى الحلة وسكنها سنة ١١٧٥ه فكان أشهر أعلامها علماً وأدباً وتقوى وكرماً.

١٠٦

بالطف من لهيب الشّمس والحر

ذاب اوسال دم العبد والحر

وهلال وحبيب الليث والحر

هوو مثل النجوم اعله الوطيّه

* * *

(من زيارة وارث الشريفة: السلامُ عليكم يا أنصارَ أبي عبداللَّه بأبي أنتم وأمّي طِبتُمْ وطابتِ الأرضُ التي فيها دُفنتم وفُزتم فوزاً عظيماً فياليتني كنتُ معكم فأفوز معكم)(١) .

هذه الكلمات الخالدة السامية، ذات المعاني الطيّبة العالية هي من

____________________

وكان متعدّد المواهب والملكات إضافة إلى الشّعر منها جمال الخط وسرعته حتى أنه كتب كتاب (فرحة الغري) لابن طاووس في يوم واحد، ومنها الطب حتى لقّب بالحكيم وذلك لاشتهارهِ فيه، واتقانِهِ له، حتى أنه ألّف في علم الطب، كما كان سريع البديهة حاضرَ الجواب، وهو جدّ الأسرة الحِليّة المعروفة بآل السيد سليمان، وقد نبغ منهم عددٌ ليس بالقليل في الفضل والأدب ومن مشاهيرهم ولده السيد حسين، وحفيداه السيد مهدي والسيد سليمان وولده السيد حيدر الشاعر الشّهير وغيرهم.

توفي يوم الأحد ال ٢٤ من جمادي الثانية سنة ١٢١١ه بالسكتة القلبيّة، وحمل جثمانه إلى النجف الأشرف في موكبٍ مهيب مشى فيه مئات الرّجال من أشراف الحلة، وصلّى عليه إمام الطائفة يومئذٍ السيد مهدي بحر العلوم، ودفن عند إيوان العلماء مقابل مسجد عمران، وكان لنعيه صدى في الأوساط العلمية والأدبيّة ورثاه عامة أدباء النجف والحلة منهم العلامة الشهير الشيخ محمد علي الأعسم بقصيدتين مطلع الأولى:

خطوبٌ دهتني أضرمت نارَ أشجاني

وأغرت بإرسالِ المدامعِ أجفاني

ويقول في آخرها مؤرخاً عام وفاته:

وإذ عُطّلت منه المدارسُ أرّخوا

تعطّل درسُ العلمِ بعد سليمان

١٢١١

(١) المصباح للكفعمي: ص٥٠٣.

١٠٧

انشاء الإمام أبي عبداللَّه جعفر بن محمد الصادق(ع)، ومعلومٌ أنّ الإمام(ع) ما زار أصحاب جدّه الإمام الحسين(ع) بهذه الزيارة -ويعلمُ اللَّه تعالى ماذا يقول الإمام الصادق(ع) لو أراد الوقوف على شهداء الطف وزيارتهم- ولكنّه علّمَ واحداً من أصحابه وهو صفوان الجمّالرحمه‌الله تعالى هذه الزيارة الشريفة، ومن هنا يندفع الإشكال القائل كيف يفدّي الإمام المعصوم أصحاب جدّه الحسين(ع) بأبيه الإمام المعصوم خامس أئمة الحق والخلق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين الباقر(ع).

قال المحقّق المقرّم (ره): إنّ الإمام(ع) لم يكن هو المخاطِب لهم -أي‏الأصحاب- وانّما هو(ع) في مقام تعليم صفوان الجمّال عند زيارتهم‏أن يخاطبهم بذلك فإنّ الرواية تنصّ كما في (مصباح المتهجّد) للمرحوم الشيخ الطوسي أنّ صفوان استأذن الإمام الصادق(ع) في زيارةالحسين(ع) وأن يُعرّفه ما يقوله ويعمل عليه فقال له: (يا صفوان صم‏قبل خروجك ثلاثة أيام إلى أن قال: ثمّ إذا أتيت الحائر فقل: اللَّهُ أكبر ثمّ‏ساق الزيارة إلى أن قال: ثمّ اخرج من الباب الذي يلي رجلي عليّ بن الحسين‏وتوجّه إلى الشهداء وقل: السلام عليكم يا أولياء اللَّه) إلى آخر الزيارة(١) .

يقول(ع): (طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم).

أجل واللَّه لقد طابت أرواحهم كما طابت أبدانهم، وطابت نيّاتهم مثلما قويت عزائمهم، وطابت أوصافهم ونعوتهم كما طاب بعد ذلك ذكرهم والتوسّل بهم

____________________

(١) مقتل المقرّم: ص٢٥٥ الحاشية.

١٠٨

وطيّبوا الأرض التي دفنوا فيها، والتراب الذي ألقي عليهم، وشرّفت كربلاء بهم، وبأبدانهم ودمائهم، ورحم اللَّه الشاعر حيث يقول:

فيا كربلا طُلتِ السماءَ وربّما

تناول عفواً حظَّ ذي السّعيِ قاعدُ

لأنتِ وإن كنتِ الوضيعةَ نِلْتِ مِن

جوارِهُمُ ما لَمْ تنلهُ الفراقِدُ

سُرِرْتِ بهم مذا آنسوكِ وساءَني

محاريبُ منهم أوحشتْ ومساجدُ

بذا قضتِ الأيّامُ ما بين أهلِها

مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ(١)

ومن الثابت الذي لا ريب فيه هو أنّ الصفوة الطيّبة ما كانت لتنال من الحظوة والقرب لولا ملازمتها لسيّد الشهداء وأبي الأحرار الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب:، ولقد أجاد من قال فيهم:

وذوو المروّةِ والوفا أنصارُهُ

لَهُمُ على الجيشِ العظيم زئيرُ

طَهُرت نفوسُهُمُ بطيبِ أصولها

فعناصرٌ طابت لَهم وحجورُ

فتمثّلت لَهُمُ القصورُ وما بهم

لولا تمثّلتِ القصورُ قصورُ

ما شاقهُمْ للموتِ إلّا دعوةُ ال

رحمنِ لا ولدانُها والحورُ(٢)

فهذا زهير بن القين البجلي وهو رجلٌ شريفٌ في قومه شجاعٌ له مواقف مشهورة ومواطن مشهودة كان أولاً عثمانياً فحجّ سنة ستين في أهله

____________________

(١) هذه الأبيات من قصيدة عصماء للمرحوم الشيخ جعفر الخطّي البحراني(ره) - الدرّ النضيد: ص١٣١.

(٢) نفسُ المهموم: ص٦٢٩.

١٠٩

ثمّ عاد فوافق الحسين(ع) في الطريق، فهداه اللَّه تعالى وانتقل علويّاً، روى أبو مخنف عن بعض الفزاريين قال كنّا مع زهير بن القين حين أقبلنا من مكّة (إلى الكوفة) فساير الحسين(ع) فلم يكن شي‏ء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل، فإذا سار الحسين(ع) تخلّف زهير، وإذا نزل الحسين(ع) تقدّم وسار زهير، حتى نزلنا يوماً في منزل لم نجد بُداً من أن ننازله فيه، فنزل الحسين(ع) في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن نتغدّى من طعامٍ لنا إذ أقبل رسول الحسين(ع) فسلّم ودخل فقال: يا زهير بن القين إنّ أبا عبداللَّه الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه، فطرح كلُّ إنسان منّا ما في يده حتى كأنّ على رؤوسنا الطير، قال أبو مخنف: فحدّثتني دلهم بنت عمرو زوجة زهير قالت: فقلت له: أيبعثُ إليك ابنُ رسول اللَّه(ص) ثمّ لا تأتيه سبحان اللَّه، لو أتيته فسمعت من كلامه ثمّ انصرفت قالت: فذهب زهير إلى الإمام الحسين(ع)، فما لبث أن عاد مستبشراً قد أسفر وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعِهِ فقوّض وحُمِلَ إلى الحسين(ع) ثمّ قال لي: أنت طالق إلحقي بأهلك فإنّي لا أحبُّ أن يصيبك بسببي إلّا خير ثمّ قال لأصحابه: مَن أحبّ منكم أن يتبعني وإلّا فإنّه آخر العهد اني سأحدّثكم حديثاً غزونا (بلنجر)(١) ففتح اللَّهُ علينا وأصبنا غنائم فقال لنا سلمان: أفرحتم بما فتح اللَّه عليكم وأصبتم من المغانم فقلنا نعم فقال لنا: إذا أدركتم سيّد شباب آل ‏محمد(ص) الحسين(ع) فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه بما أَصبتم من المغانم.

____________________

(١) بَلَنْجَرْ: قال ياقوت الحموى في (معجم البلدان) ج١ ص٤٨٩: هي مدينة ببلاد الخزر خلف باب الأبواب قال البلاذري: فتحها سلمان بن ربيعة الباهلي.

١١٠

فأمّا أنا فإني أستودعكم اللَّه ثمّ قال واللَّه ما زال أوّل القوم حتى قتل بين يديه.

روى أبو مخنف عن الضحّاك بن عبداللَّه المشرقي قال: لما كانت الليلة العاشرة خطب الحسين(ع) أصحابه وأهل بيته فقال في كلامه: (هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً وليأخذ كلّ رجلٍ منكم بيد رجل من أهل بيتي فإنّ القوم انّما يطلبوني) فقام زهير بن القين فقال: واللَّه لوددتُ أني قتلتُ ثمّ نشرت ثمّ قُتلت حتى أُقتل كذا ألف قتلة وأنّ اللَّه يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفسِ هؤلاء الفتية من أهل بيتك، وما زال زهير مأنوساً بحضرة وخدمة الإمام الحسين(ع) حتى صار يوم العاشر وقُتِلَ جمعٌ من الأصحاب الأوفياء وصلّى الإمام(ع) بأصحابه صلاة الخوف فلمّا فرغ منها تقدّم زهير فجعل يُقاتل قتالاً لم يُرَ مثلُهُ، ولم يُسمع بشبهِهِ وأخذ يحمل على القوم وهو يقول:

أنا زهيرٌ وأنا ابنُ القين

أذودكم بالسيفِ عن حسينِ

ثمّ رجع فوقف أمام الحسين(ع) وقال له:

فدتك نفسي هادياً مهديا

اليوم ألقى جدّكَ النبيّا

وحسناً والمرتضى عليّا

وذا الجناحينِ الشهيدَ الحيّا

فكأنّه ودّع الإمام(ع) بهذه الكلمات وعاد إلى القتال، فشدّ عليه كثير ابن عبداللَّه الشعبي ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه، قال السّروي في المناقب: لما صرع وقف عليه الإمام الحسين(ع) فقال: (لا يبعدنّك اللَّه

١١١

يازهير، ولعن اللَّهُ قاتليكَ لعنَ الذين مسخوا قردةً وخنازير)(١) .

وهذا سعيد بن مرّة التميمي ممّن رزق الشهادة بين يدي الإمام الحسين(ع) مع نفرٍ من أهل البصرة، وكان سعيدُ شاباً له من العمر تسعة عشر سنة فإنّه لما سمع بأنّ الحسين(ع) استنصر أشراف أهل البصرة في كتبه أقبل إلى أمّه صبيحة عرسه وصاح: أُمّاه عليّ بلامة حربي وفرسي قالت: وما تصنع بها قال: أُمّاه لقد ضاق صدري وأُريد أن أمضي إلى خارج البساتين فقالت له: ولدي انطلق إلى زوجتك ولاطفها فقال: أُمّاه لا يسعني ذلك فبينما هم كذلك إذ أقبلت زوجتُه وقالت: إلى أين تريد ياابن العمّ؟ قال: أنا ذاهبٌ إلى من هو خيرٌ منّي ومنك فقالت: ومن هو خيرٌ منك ومنّي؟ فقال لها: ذاك سيدي ومولاي الحسين بن علي(ع)، فلمّا سمعت أُمّه بذلك بكت وقالت: ولدي جزاك اللَّه عن الحسين خيراً، ولكن ولدي أما حملتك في بطني تسعة أشهر؟ قال: بلى، قالت: أما سهرت الليالي في تربيتك؟ قال: بلى، وأنا لست منكراً لحقّك عليّ، قالت: إذاً عندي وصيّة، قال: وما هي يااُمّاه؟ قالت: ولدي إذا أدركت سيّد شباب أهل الجنّة اقرأه عنّي السلام وقل له: فليشفع لي يوم القيامة فقال لها: يا اُمّاه وأنا اُوصيك بوصيّة قالت: وما هي ولدي؟ قال: إذا رأيت شاباً لم يتهنّأ بشبابه وعرّيساً لم يتهنّأ بعرسه فاذكري عرسي وشبابي.

قال الراوي: ثمّ ودّعها وودّع زوجته وخرج من البصرة، وأقبل يجدّ السير في الليل والنهار وسمع في الطريق أنّ الإمام الحسين(ع) نزل كربلاء، فجعل يجدّ

____________________

(١) ابصار العين: ص٩٨ - ٩٩.

١١٢

السير حتى وافى كربلاء وكان ذلك في يوم العاشر من المحرّم والإمام الحسين(ع) وحيداً فريداً قد قُتل أهلُه وأصحابُه فلمّا رآه الإمام الحسين(ع) قال: (سعيدٌ هذه)؟ قال: نعم سيّدي قال: (ما قالت لك أُمّك ياسعيد)؟ قال: سيدي تقرؤك السلام قال الإمام(ع): (عليك وعليها السلام ياسعيد انّ امّك مع أمّي في الجنة)، ثمّ قال سعيد: سيدي أتأذن لي أن أسلّم على بنات رسول اللَّه(ص)؟ قال: نعم، فأقبل سعيد حتى وقف بإزاء الخيام ونادى: السلام عليكم يا آل بيت رسول اللَّه فصاحت امرأة وعليك السلام فمن أنت؟ قال: سيّدتي أن خادمكم سعيد بن مرّة التميمي جئت لنصرة سيدي الحسين، فقالت: يا سعيد أما تسمع الحسين ينادي هل من ناصر؟ هل من معين؟ قال: ثمّ رجع إلى الإمام الحسين(ع) ووقف يستأذن للبراز فأذن له الإمام فحمل على القوم وجعل يُقاتل حتى قتلَ جمعاً كثيراً فعطفوا عليه حتى قتلوه، و لما قتل سعيد مشى إليه الإمام فجلس عنده وأخذ رأسه ووضعه في حجره وجعل يمسح الدم والتراب عن وجههِ وهو يقول: (أنت سعيد كما سمّتك أُمّك سعيدٌ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة)(١) .

وهذا وهب بن حبّاب الكلبي وكان نصرانياً فأسلم على يدي الإمام الحسين(ع) وكانت معه أمّه وزوجتُه فقالت أُمّه: قم يا بنيّ فانصر ابن بنت رسول اللَّه(ص)، فقال: أفعل يا اُمّاه ولا أقصّر، فبرز وهو يقول:

إن تنكروني فأنا ابنُ الكلبي

سوف تروني وترونَ ضربي

وحملتي وصولتي في الحربِ

أدركُ ثاري بعد ثار صحبي

____________________

(١) ثمرات الأعواد للمرحوم السيد علي الهاشمي: ج١ ص١٧٠.

١١٣

وأدفع الكربَ أمامَ الكربِ

ليسَ جهادي في الوغى باللّعْبِ

ثمّ حمل ولم يزل يُقاتل حتى قتل جماعةً ثمّ رجع إلى اُمّه وزوجته وقال: يا أُمّاه أرضيت؟ قالت: ما رضيت حتى تُقتل بين يدي الحسين(ع)، فقالت امرأته: باللَّه عليك لا تفجعني بنفسك فقالت أُمّه: يا بُني اُعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة، فرجع إلى الميدان ولم يزل يُقاتل حتى قطعت يداه، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأُمّي يا وهب قاتل دون الطيّبين عترة المصطفى(ص)، فقال لها: كنت تنهينني عن القتال والآن جئت تقاتلين معي، قالت: يا وهب لا تلمني إنّ واعية(١) الحسين كسرت قلبي، فقال: ما الذي سمعتي منه؟ قالت: رأيته جالساً بباب الخيمة وهو ينادي واقلّة ناصراه، فبكى وهب بكاءاً كثيراً وقال لزوجته: ارجعي إلى النساء رحمك اللَّه فأبت فصاح وهب: سيّدي أبا عبداللَّه ردّها إلى الخيمة، فردّها الإمام إلى الخيمة، ثمّ اجتمع القوم على وهب وأردوه قتيلاً رضوان اللَّه تعالى عليه(٢) .

وهكذا قُتل الواحد بعد الآخر حتى تفانوا عن آخرهم وبقي الإمام(ع) بعدهم وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين وجعل ينظر يميناً وشمالاً فلم يرَ أحداً من أصحابه إلّا مَن صافح الترابُ جبينَه وقطع الحِمامُ أنينَه فنادى: (يامسلمَ بنَ عوسجة ويا حبيبَ بنَ مظاهر ويا زهير بن القين ويا عباس بن علي ويا علي الأكبر ويا فلان ويا فلان يا أبطال الصّفا ويا فرسانَ الهيجا مالي أُناديكم لا

____________________

(١) الواعية: هي الصّوت.

(٢) مقتل المرحوم الشيخ عبدالزهراء الكعبي: ص٣٩.

١١٤

تجيبون وأدعوكم فلا تسمعون أنيامٌ أرجوكم تنتبهون أم حالت بينكم وبين سيّدكم منيّتكم وهذه بنات الرسول لفقدكم قد علاهنّ النحول فقوموا عن نومتكم أيّها الكرام وادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام).

لما رأى السبطُ أصحابَ الوفا قُتلوا

نادى أبا الفضلِ أين الفارسُ البطلُ

وأين مَن دوني الأرواحَ قد بذلوا

بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا

وخلّفوا بسويدا القلبِ نيرانا

ما بالهم لا يجيبوني أما سمعوا

ولو رأوني وحيداً ما الذي صنعوا

بل‏ هم ‏سُكارى‏ بكاساتِ ‏الرّدى كرعوا

نذرٌ عليّ لئن عادوا وإن رجعوا

لأزرعنّ طريق الطفِّ ريحانا

* * *

ليش انادي وما تجيبون النده

رحتوا عنّي ودارت عليّه العده

أدري بيني وبينكم حال الرّده

وعلي صالت بالغضب عدوانها

ياعلي الأكبر يقاسم ياحبيب

ياهلال الوغه وانوه اعله المغيب

ليش انادي وما حصل منكم مجيب

صاح من يحمي الحرم وخدورها

* * *

أحبّتنا مَن للضعائن بعدكم

فليت فدتكم ياكرامُ الضعائنُ

لاحول ولا قوة إلّا باللَّه العليّ العظيم

وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون والعاقبة للمتقين

١١٥

الليلة السادسة المجلس الحادي عشر

الصحابي الجليل حبيب بن مظاهر الأسدي

كلّما تعذلانِ زدتُ نحيبا

يا خليليَّ إنْ ذكرتُ حبيبا

ياحبيبَ القلوبِ رزؤُكَ مهما

ذكرتهُ الرّاثونَ شقّ القلوبا

ياوحيداً حاميتَ دون وحيدٍ

حيثُ لا ناصراً يُرى أو مجيبا

بعتَ نفساً نفيسةً فاشتراها

باريُ النّفس منك والرّبحُ طوبى

إنْ نصرتَ الحسينَ غيرُ عجيبٍ

إنْ تخلّفتَ عنه كان عجيبا

ياوزيرَ الحسينِ حزتَ مقاماً

كلُّ آنٍ يزدادُ عَرفاً وطيبا

كم عن السبطِ قد كشفت كروباً

بعد ما قد لقيتَ منهم كروبا

إنّ يوماً أُصِبْتَ فيه ليومٌ

أيُّ قلبٍ لذكره لن يذوبا

إنْ هجرتَ الدّيارَ صرتَ بدارٍ

فيه جاورتَ حيدراً والحبيبا

الغريبُ الذي يموتُ ذليلاً

ليس من ماتَ في الإباءِ غريبا

قدّسَ اللَّهُ تربةً قد حوتهُ

سِرُّ قدسٍ حوت وليثاً مَهيبا(١)

* * *

أحبيبُ أنت إلى الحسينِ حبيبُ

إن لم ينط نسبٌ فأنت نسيبُ

يامرحباً بابنِ المظاهرِ بالوَلا

لو كان ينهضُ بالوَلا الترحيبُ

شأنٌ يشقُّ على الضَّراح(٢) مرامُهُ

بعدٌ وقبرُك والضّريحُ قريبُ

بأبي المفدّي نفسَهُ عن رَغبةٍ

لم يرعَها التّرهيبُ والتّرغيبُ

____________________

(١) القصيدة من نظم المرحوم السيد صالح الحلي. وقد مرّت ترجمتُهُ ص٧٤.

(٢) الضَّراح: هو العالي الشاهق.

١١٦

هو سيّدُ أصحاب الإمام الحسين(ع) الذي كان لواؤهم بيده يوم كربلاء، وهو العالم العارف المتفاني في حبّ أهل بيت نبيّه(ص)، والحافظ المحافظ على وصيّة رسول اللَّه(ص) لأمّته حيث قال: إني تارك فيكم الثّقلين كتابَ اللَّه وعترتي أهلَ بيتي، ما إن تمسكّتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، وكان صحابياً(١) أدرك النبي(ص) وسمع حديثه، ثمّ انقطع حبيب رضوان اللَّه عليه بعد رحيل رسول اللَّه(ص) إلى أمير المؤمنين(ع) وشارك في حروبه الثلاثة الجمل، وصفّين، والنهروان، وكان موضع عناية الإمام أمير المؤمنين(ع) حيث تفضّل عليه وعلّمه العلم النافع، وكرّمه ببعض أسراره، وذلك لما عَلِمَ الإمامُ(ع) طيبَ ذاتِه، وصلاح سريرته، وسلامة نيّته.

قال السيّد الأمين؛ في (أعيان الشيعة): كان حبيب من الرجال السبعين الذين نصروا الحسين(ع) ولقوا جبال الحديد واستقبلوا الرّماح بصدورهم، والسيوف بوجوههم، وهم يعرض عليهم الأمان والأموال فيأبون ويقولون لا عذر لنا عند رسول اللَّه(ص) إنْ قُتلَ الحسين ومنا عين تطرف حتى قُتّلوا حوله رحمهم اللَّه تعالى(٢) .

____________________

(١) لم يكن حبيب بن مظهّر الأسدي الصحابي الوحيد الذي نال الشهادة مع الإمام الحسين(ع) في واقعة الطّف بل كان مع أربعة آخرين، يقول المحقّق الشيخ السماوي في (ابصار العين): قتل من أصحاب رسول اللَّه(ص) مع الإمام الحسين(ع) خمسةُ نفر في الطّف، أنس بن الحرث الكاهلي، ذكره جميع المؤرّخين، وحبيب بن مظّهر الأسدي، ذكره ابن حجر، ومسلم بن عوسجة الأسدي ذكره ابن سعد في الطبقات، وفي الكوفة هاني بن عروة المرادي، فقد ذكره الجميع انه قارب الثمانين من العمر، وعبداللَّه بن يقطر الحميري، ذكره ابن حجر، وكان لدة الحسين(ع) أي ولد في نفس سنة ميلاد الحسين(ع).

(٢) أعيان الشيعة - المجلد الرابع: ص٥٥٣.

١١٧

وفي مجالس المؤمنين عن روضة الشهداء أنّه قال: حبيب بن مظاهر رجلٌ ذو جمال وكمال، وفي يوم وقعة كربلاء كان عمره ٧٥ سنة وكان يحفظ القرآن كلّه، ويختمُهُ في كلّ ليلة من بعد صلاة العِشاء إلى طلوع الفجر(١) .

وقال الشيخ السماوي في (ابصار العين): قال أهلُ السيَر أنّ حبيباً نزل الكوفة وصحب أمير المؤمنين(ع) في حروبه كلّها، وكان من خاصّته وحملة علومه.

ومن جملة العلوم التي تعلّمها حبيب رضوان اللَّه عليه من أمير المؤمنين(ع) هو علم البلايا والمنايا، وهو علم شريف يعرف فيه آجال الناس والحوادث والفتن والوقائع، قال الشيخ السماوي في (ابصار العين): روى الكشّي عن فضيل بن الزبير قال مرّ ميثم التمّار على فرسٍ له فاستقبله حبيب بن مظاهر الأسدي فتحادثا ثمّ قال حبيب: لكأني بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق -في الكوفة- قد صلبَ في حبّ أهل بيت نبيّه، فتبقر بطنُهُ على الخشبة، فقال ميثم: واني لأعرفُ رجلاً أحمر له ضفيرتان يخرج لنصرةِ ابن بنت نبيّه فيقتل ويجالُ برأسه في الكوفة ثمّ افترقا فقال أهل المجلس ما رأينا أكذبَ من هذين، فلم يفترق المجلس -لم يتفرّق الناس- حتى أقبل رُشَيدُ الهَجَري فطلبهما فقالوا افترقا وسمعناهما يقولان كذا وكذا فقال رشيد رحمَ اللَّه ميثماً نسيَ شيئاً

____________________

(١) اعيان الشيعة - المجلد الرابع: ص٥٥٤.

١١٨

وهو أنّه يزاد في عطاء الذي يجي‏ء بالرأس مائة درهم ثمّ ذهب فقال القوم هذا واللَّهِ أكذبُهم، فما ذهبت الأيام والليالي حتى رأينا ميثماً مصلوباً على باب عمرو ابن حريث وجي‏ء برأس حبيب وقد قتل مع الإمام الحسين(ع)، ورأينا كلّ ما قالوا(١) .

وروى الشيخ المجلسي(ره) في (البحار) عن عليّ بن الحكم قال: من أصفياء أصحاب عليّ أمير المؤمنين(ع) عمرو بن الحَمقْ الخزاعي، وميثم التمّار، ورُشَيْد الهَجَري وحبيب بن مظاهر، ومحمّد بن أبي بكر(٢) .

ومّما زاد في شرفه وعلوِّ رتبته دفنُهُ بعد شهادته عند رأس الإمام الحسين(ع) متميّزاً عن بقية الشهداء، وكان ذلك بأمر الإمام زين العابدين(ع)، فصارَ وكأنّه بوّاب الحسين(ع) بعد شهادته يبدأ به الدّاخل وينتهي به الخارج من الحائر الحسيني الشريف.

حكى أحد العُلماء أنّ رجلاً صالحاً رأى حبيب بن مظاهر الأسدي في الرؤيا فقال له: سيدي يا حبيب لقد حزت الخير من جوانبه كلّها فأنت صحابيّ أدركت رسول اللَّه(ص) وسمعت حديثه ثمّ جئت إلى الكوفة ولازمت أمير المؤمنين(ع) وشاركت في حروبه كلّها، ثمّ صاحبت الإمام الحسين(ع) ونلت الشهادة بين يديه فأنتم سادات الشهداء لا يسبقكم سابق ولا يلحقكم لاحق، وهذا قبرك بعد الموت -الشهادة- فأنت باب

____________________

(١) ابصار العين: ص٥٧.

(٢) اعيان الشيعة - المجلد الرابع: ص٥٥٤.

١١٩

الحسين(ع) يدخل الزائر فيسلّم عليك أولاً ولا يخرج حتى يسلّم عليك ثانياً، ومكانك في اعلا عليّين مع الأنبياء والصدّيقين وحسن أولئك رفيقا، فهل بقي في قلبك شي‏ء؟ أم هل بقيت لك أمنية تتمنّاها بعد هذا الإكرام؟ قال حبيب: نعم أتمنى أن أعود إلى الدنيا وأحضر مع المؤمنين في مجلس الحسين وأبكي مع الباكين وأندب مع النادبين.

وروى الطبري في تأريخه وتبعهُ ابنُ الأثير أنّ حبيب بن مظاهر كان من جملة الذين كتبوا إلى الإمام الحسين(ع) لما امتنع من بيعة يزيد وخرج إلى مكّة، وكانت صورة الكتاب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم لحسين بن علي(ع) من سليمان بن صُرد والمـُسيّب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب ابن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلامٌ عليك(١) فإنّما نحمد إليك اللَّه الذي لا إله إلّا هو، أمّا بعد: فالحمدُ للَّه الذي قصمَ عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها وغصبها فيأها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارَها وجعل مال اللَّه دُوْلةً بين جبابرتها وأغنيائها فبعداً له كما بعُدت ثمود، إنّه ليس علينا إمامٌ فأقبل لعلّ اللَّه يجمعنا بك على الحق، والنعمان(٢) بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعةٍ ولا نخرج معه إلى عيد ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام ان شاء اللَّه والسلام ورحمة اللَّه وبركاته عليك(٣) .

____________________

(١) المقصود من العدو هنا هو معاوية بن أبي سفيان.

(٢) النعمان بن بشير الأنصاري كان والياً على الكوفة أيام معاوية، فأقرّه عليها يزيد بعد هلاك معاوية.

(٣) أعيان الشيعة - المجلد الرابع: ص٥٥٤.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343