مختصر كفاية المهتدي لمعرفة المهدي (عجّل الله فرجه)

مختصر كفاية المهتدي لمعرفة المهدي (عجّل الله فرجه)30%

مختصر كفاية المهتدي لمعرفة المهدي (عجّل الله فرجه) مؤلف:
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 256

مختصر كفاية المهتدي لمعرفة المهدي (عجّل الله فرجه)
  • البداية
  • السابق
  • 256 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77728 / تحميل: 10005
الحجم الحجم الحجم
مختصر كفاية المهتدي لمعرفة المهدي (عجّل الله فرجه)

مختصر كفاية المهتدي لمعرفة المهدي (عجّل الله فرجه)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

فقال الأعرابي: مال معه مروءة.

فقال الإمام:((فَإنْ أخْطأهُ ذلِك؟)) .

فقال الأعرابي: فقرٌ معه صبر.

فقال الإمام:((فَإنْ أخْطأهُ ذلِكَ؟)) .

فقال الأعرابي: فصاعقة تنزل عليه من السماء فتحرقه؛ فإنّه أهلٌ لذلك.

فضحك الإمام الحسينعليه‌السلام ورمى إليه بصرّة فيها ألف دينار، وأعطاه خاتمه وفيه فصٌّ قيمته مئتا درهم، وقال:((يا أعرابِيّ، أعْطِ الذَّهبَ إلى غُرَمائِك، واصْرِفِ الخاتَمَ في نفَقَتِكَ)) .

فأخذه الأعرابي وانصرف وهو يقول:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) (١) .

أسمعت بمثل هذا الدرس العملي والعلمي، وهذا الخُلق الرفيع، وهذه الأخلاق العالية، وهذا الأسلوب التربوي؟!

الإمام العظيمعليه‌السلام عَلِم من ذاك الأعرابي الأدب، وتوسّم فيه الفطنة وحسن التربية، فأراد أن يُعلّم الناس ومَنْ هم حوله، أو الأُمّة ومَنْ يأتي بعده، بهذا الأسلوب الحواري البسيط، الكاشف عن شفافيّة الإمامعليه‌السلام ، ومدى كرمه وتواضعه لأبناء أُمّته، لا سيما طالب الحاجة، فأخرج ما عنده من ظرف وأدب، وأعطاه ما طلب منه من مال ومتاع.

لا يُقال: إنّ في ذلك إهانة للسائل، حاشى للإمامعليه‌السلام ؛ وهو الذي يقول في

_____________________

١ - جامع الأخبار / ١٣٧، موسوعة البحار ٤٤ / ١٩٦، وسورة الأنعام / ١٢٤.

٦١

هذا الباب:((صاحبُ الحاجَةِ لَمْ يُكرِمْ وجْهَهُ عَنْ سُؤالِكَ، فَأكرِمْ وَجْهَكَ عَنْ رَدِّهِ)) (١) .

وبهذا الأسلوب وهذه الطريقة أكرم الأعرابي أيّما إكرام حين عرَّف فضله وعلمه على الملأ، وصار حديثه وقصّته من تراث وسنّة الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكفاه فخراً، ومن ناحية أُخرى فإنّه أخذ المال عن استحقاق؛ لأنّه عرف الأسئلة الثلاثة، وهذا أيضاً درس من الإمام بأن نجعل كلّ أمورنا علميّاً وثقافيّاً؛ لكي يُقدّر الإنسان بقدر علمه، ومستواه الثقافي والإيماني والروحي.

عطاء المعروف بقدر المعرفة

وهذه حادثة ورواية أُخرى عن الإمام الحسينعليه‌السلام ، ربما تكون أجمل وأكمل من الأولى، أنقلها لك عزيزي القارئ؛ حتّى لا تظنّ أن القصّة واحدة أو الرواية يتيمة.

روي أنّ أعرابياً من البادية قصد الإمام الحسينعليه‌السلام فسلَّم عليه فرَّد عليه السّلام وقال:((يا أعرابِيُّ، فيمَ قَصَدْتَنا؟)) .

قال: قصدتك في دية مسلّمة إلى أهلها.

قالعليه‌السلام :((أقَصدْتَ أحَداً قَبْلي؟)) .

قال: قصدت عتبة بن أبي سفيان فأعطاني خمسين ديناراً فرددتها عليه، وقلت له: لأقصدنَّ مَنْ هو خير منك وأكرم.

قال عتبة: ومَنْ هو خير منّي

_____________________

١ - كشف الغمة ٢ / ٢٠٨، الكلمة / ١٢٣.

٦٢

وأكرم لا أُمَّ لك؟

فقلت: إمّا الحسين بن عليّ، وإمّا عبد الله بن جعفر (ابن أبي طالب)، وقد أتيتك بدءاً لتقيم بها عمود ظهري، وتردّني إلى أهلي.

فقال الحسينعليه‌السلام :((والذي فَلَقَ الحبَّةَ، وبْرَأ النَّسَمَةَ، وَتَجَلّى بالعظَمَةِ، ما في مِلْكِ ابْنِ بنتِ نبيّكَ إلاّ مئِتا دينارِ فأعطِهِ إيّاه يا غلامُ، وإنّي أسْألُكَ عن ثلاثِ خِصالٍ إنْ أنتَ أجبتَني عنْها أتْمَمتُها خَمْسَمئةَ دينارٍ)) .

فقال الأعرابي: أكلّ ذلك احتياجاً إلى علمي، أنتم أهل بيت النُبُوَّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة؟!

فقال الإمام الحسينعليه‌السلام :((لا، ولكنْ سَمِعتُ جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: أعطوا المعروفَ بقَدَرِ المعْرِفَة)) .

فقال الأعرابي: فسلْ، ولا حول ولا قوةّ إلاّ بالله.

فقال الإمام الحسينعليه‌السلام :((ما أنْجى مِنَ الهَلَكَةِ؟)) .

فقال: التوكّل على الله.

فقالعليه‌السلام :((ما أرْوَحُ للِمُهمِّ؟)) .

فقال: الثّقة بالنفس.

فقالعليه‌السلام :((أيُّ شيءٍ خيرٌ للعبدِ في حياتهِ؟)) .

قال: عقل يزينه حلم.

فقالعليه‌السلام :((فَإنْ خانهُ ذلكَ؟)) .

فقال: مال يزينه سخاء وسعة.

٦٣

فقالعليه‌السلام :((فإنْ أخْطأهُ ذلك؟)) .

قال: الموت والفناء خير له من الحياة والبقاء.

قال الراوي: فناوله الحسين خاتمه وقال:((بعهُ بمئة دينارٍ)) . وناوله سيفه، وقال:((بعْهُ بمئتي دينارٍ، واذهبْ فقدْ أتْممتُ لكَ خمسمئة دينارٍ)) .

فأنشأ الأعرابي يقول:

قلقتُ وما هاجني مقلقُ

وما بي سقامٌ ولا موبقُ

ولكن طربتُ لآلِ الرَّسول

ففاجأني الشعرُ والمنطقُ

فأنتَ الهمامُ وبدرُ الظلام

ومُعطي الأنامَ إذا أملقوا

أبوكَ الذي فازَ بالمكرمات

فقصَّرَ عن وصفهِ السبُّقُ

وأنتَ سبقتَ إلى الطيّبات

فأنتَ الجوادُ وما تلحقُ

بكم فتحَ اللهُ بابَ الهدى

وبابُ الضلالِ بكم مغلَقُ(١)

هذه الدروس يلزم عرضها للعالم؛ لكي يعي منهج أهل البيتعليهم‌السلام .

وهناك رواية أُخرى قريبة من هذه ترويها كتب التاريخ والفضائل لم أنقلها؛ لكفاية هذا الذي نحن فيه من الدلالة التربويّة، والدروس الأخلاقيّة الرائعة للإمام الحسينعليهم‌السلام في تقدير العلم والاهتمام بالثقافة، واحترام الإنسان المتعلّم، وبكلّ تواضع وروح شفّافة وأريحيّة لا مثيل لها، فسلام الله عليك يا أبا عبد الله الحسين المظلوم.

_____________________

١ - إحقاق الحقّ ١١ / ٤٤٠، موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٧٦٤.

٦٤

الفصل الثالث: المواقف الإنسانيّة

٦٥

٦٦

الإنسان هو الإنسان في كلّ زمان ومكان، منذ آدم الأوّلعليه‌السلام وحتى آخر نسمة تطأ وجه هذه الأرض، وهو الغاية وله النهاية.

والإنسان يجب أن ينطلق من إنسانيته التي تميّزه عن الحيوانيّة التي تشمله، ولولا العقل والإرادة وإمكانيّة التعلّم والتمييز بين الحسن والقبيح، أو الخير والشرّ، لكان شأنه شأن أيّ حيوان يسرح ويمرح في المكان والزمان الذي يولد فيه.

فإنسانيّة الإنسان هي لبّه وأصله وجوهره الذي يعوّل عليه دائماً وأبداً عند التعامل معه؛ ولذا فإنّ غاية الشرائع السماويّة، والرسالات الإلهيّة، وحتى القوانين الوضعيّة، والدساتير الحكوميّة، هي الحفاظ على كرامة الإنسان، على إنسانيّة الإنسان، لتبقى في الحفظ والصوَّن، والدفاع عنها ضدّ العوادي الخارجيّة.

والله سبحانه علّمنا هذا، وأكّد عليه في كتابه حين قال:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (١) .

والرُّسل والأنبياءعليهم‌السلام جاؤوا جميعاً لهذه الغاية المقدّسة؛ ولذا

_____________________

١ - سورة الإسراء / ٧٠.

٦٧

ورد [ عن الإمام أبي الحسنعليه‌السلام ]:((حُرمةَ المؤمنِ والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عندَ الله أعظمُ من حُرمةِ الكعبة)) (١) .

وأوصياء الأنبياءعليهم‌السلام هكذا يرون، وعليه يسيرون في حياتهم كلّها؛ لأنّهم قادة المجتمع، ومكلّفون بحفظ كرامة الإنسان، وصيانة إنسانيّته من أن يتعرّض إليها أحد فيُهينها أو يذلّها، والمواقف الإنسانيّة تصبغ حياة الإمام الحسينعليه‌السلام الذي نحن في رحابه الإنساني المميّز.

إذاً، إنسانيّة الإنسان هي جوهره وأصله الذي تبني عليه أعماله ونواياه، تلك هي الطينة أو الخليقة أو السّجيّة في الإنسان التي جاءت الروايات الكثيرة تعبّر عنها وتبلورها؛ لإفهامها للبشر ولذوي الخبرة والنظر.

وفي الحديث:((كلّ يعمل على شاكلته)) (٢) ، أي أصل طينته التي خُلق منها، أو الفطرة التي فطره الله عليها، ولا تبديل لخلق الله، والجوهرة المكنونة المخزونة في أعماق النفس البشرية هي إنسانيته التي تنعكس على مرآة حياته كأفعال أخلاقيّة راقية، يقدِّرها كلّ الناس في كلّ عصر ومصر.

الحسين والمساكين

ومن تلك المواقف التي تفيض بالإنسانيّة، وكلّ حياة الإمام الحسينعليه‌السلام فيّاضة بذلك، ذاك الموقف الذي تحدّثت عنه كتب السيرة، أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام مرَّ بمساكين قد بسطوا (مدّوا) كساءً لهم، وألقوا عليه كسراً من

_____________________

١ - بحار الأنوار ٥٠ / ٢٤٤، وسائل الشيعة ١٤ / ٥٣٧.

٢ - الكافي ٢ / ١٦ و ٨٥، وسائل الشيعة ١ / ٥٠.

٦٨

الخبز اليابس، فقالوا: هلمَّ يابن رسول الله، فأكل معهم، وأجاب دعوتهم، ثمّ تلا:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) (١) .

ثمّ قال:((قَدْ أجبتُكمْ فأجيبوني)) .

قالوا: نعم يابن رسول الله، ونُعمى عين، فقاموا معه حتّى أتوا منزله.

فقال للرباب (زوجته):((أخرجي ما كُنتِ تدَّخرين)) .

فأخرجت ما عندها من نقود فناولها لهم(٢) .

وفي حادثة أُخرى ترويها كتب السيرة العطرة للإمام الحسينعليه‌السلام ، والتي تفيض عذوبة ومهابة وأخلاقاً نورانيّة، أنّهعليه‌السلام مرَّ على فقراء يأكلون كسراً (خبزاً يابساً) من أموال الصدقة، فسلَّم عليهم فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم، وقال:((لولا أنَّه صدقة لأكلتُ معكم)) . ثمّ دعاهم إلى منزله، فأطعمهم وكساهم، وأمر لهم بدراهم(٣) .

نعم، لقد اقتدى المولى أبو عبد اللهعليه‌السلام بجدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسار بسيرته العطرة، واهتدى بهداه، فكان يخالط الفقراء ويجالسهم، ويفيض عليهم ببرّه وفضله وإحسانه حتّى لا يتأثّر الفقير بفقره، ولا يبطر الغني بماله.

وهذا إن دلَّ على شيء يدلّ على قمَّة التواضع، وهو درس لِمَنْ يريد قيادة الأُمّة نحو الهداية والخلاص، وفي الجانب الإنساني للإمام الحسينعليه‌السلام تتجلّى إنسانيّة الإنسان،

_____________________

١ - سورة النحل / ٢٣.

٢ - تاريخ ابن عساكر ٣ / ٥٤.

٣ - أعيان الشيعة ٤ / ١٤٠.

٦٩

ويصدّق إيمانَه اهتمامُه بالمحتاجين والفقراء في مجتمعه، ومهما بلغ الإنسان من العلم، أو اجتهد في العبادة، فإنّه لن تتحقّق إنسانيته، ولن يصح تدينه إذا ما تجاهل مناطق الضعف في المجتمع. ألم يقل ربّنا سبحانه:( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) (١) .

فالذي يهمل الأيتام، ولا يبالي بجوع الفقراء مكذّب بالدين، وغير صادق في ادّعائه التديُّن وإن بالغ في صلاته وعبادته، بل هو مستحق للويل والعذاب:( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ) (٢) .

والإمام الحسينعليه‌السلام كأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام ، كانوا يعيشون للناس أكثر ممّا يعيشون لأنفسهم، فهم مصداق الآية الكريمة:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (٣) ، وفيهم نزلت.

لقد كان الإمام الحسينعليه‌السلام طوال حياته الشريفة ملاذاً للفقراء والمحرومين، وملجأ لِمَنْ جارت عليه الأيام، وكان يثلج صدور وقلوب الوافدين إليه بهباته وعطاياه السنية.

ويقول عنه كمال الدين بن طلحة: وقد اشتهر النقل عنه أنّه كان يُكرم الضيف، ويمنح الطالب، ويصل الرحم، ويُسعف السائل، ويكسي العاري، ويُشبع الجائع، ويعطي الغارم، ويشدُّ من أزر الضعيف، ويشفق على

_____________________

١ - سورة الماعون / ١ - ٢.

٢ - سورة الماعون / ٤ - ٧.

٣ - سورة الحشر / ٩.

٧٠

اليتيم، ويغني ذا الحاجة، وقلَّ أنْ وَصَله مال إلاّ وفرَّقه، وهذه سجيّة الجواد، وشنشنة الكريم، وسمة ذي السماحة، وصفة مَنْ قد حوى مكارم الأخلاق، فأفعاله المتلوَّة شاهدة له بصفة الكرم، ناطقة بأنّه متّصف بمحاسن الشيم(١) .

ويقول المؤرّخون: أنّه كان يحمل في دجى الليل البهيم الجراب، يملؤه طعاماً ونقوداً إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين حتّى أثَّر ذلك في ظهره الشريف، وكان يُحمل إليه المتاع الكثير فلا يقوم حتّى يهب عامَّته(٢) .

زيارته للمرضى وقضاء الدين

ويروى أنّه مرض أُسامة بن زيد مرضاً شديداً، فعاده الإمام الحسينعليه‌السلام ، فلمّا استقرَّ به المجلس سمع أُسامة يقول: واغمَّاه.

فقال له الإمامعليه‌السلام :((وما غمُّكَ يا أخي؟)) .

قال: ديني، وهو ستون ألف درهم.

فقالعليه‌السلام :((هُوَ عليَّ)) .

قال: إنّي أخشى أن أموت.

فقال الإمامعليه‌السلام :((لَنْ تموتَ حتّى أقضيها عنكَ)) (٣) .

وبادر الإمامعليه‌السلام فقضاها عنه قبل موته، غاضّاً طرفه مع أنّ أُسامة كان من

_____________________

١ - حياة الإمام الحسين بن علي ١ / ١٢٨.

٢ - ريحانة الرسول / ٧١.

٣ - مناقب ابن شهر آشوب ٤ / ٦٥.

٧١

المتخلّفين عن بيعة أبيه أمير المؤمنين الإمام عليعليه‌السلام ، ولم يجازيه بالمثل وإنّما أغدق عليه الإحسان(١) .

ذاك هو الإمام الحسينعليه‌السلام ، العملاق الذي يفيض إنسانيّة لكلّ مَنْ هم حوله، أو هم من أُمّته، فإذا رأى معسراً رفع عنه عسره وفرّج عنه، وإذا مرَّ بمساكين جلس معهم وواساهم بنفسه الشريفة، وإذا اجتاز بفقراء استأنس بهم ودعاهم إلى مأدبته، فكانعليه‌السلام والد الأيتام، ومعيل الأيامى والأرامل، ومعتق العبيد والأرقّاء لوجه الله تعالى.

موقف الحسينعليه‌السلام مع جيش الحرّ

ومواقف الإمام الإنسانيّة في رحلته إلى الشهادة على صعيد كربلاء هي استثناءات عجيبة غريبة لم تتكرّر إلاّ قليلاً، وبعضها لن يتكرّر أبداً، كقصّته مع الحرّ الرياحي وكتيبة الطليعة التي كانت تعدُّ بألف فارس، حين التقوا بالركب المبارك للإمامعليه‌السلام وقد كاد العطش أن يقتلهم.

فعطف عليهم وهم يريدون قتله وسقاهم عن آخرهم، وليس الرجال فقطّ بل قالعليه‌السلام :((وَرَشِّفوا الخيلَ ترشيفاً)) . أي اسقوها قليلاً من الماء حتّى تقوى على المسير والحركة بمَنْ عليها من الفرسان في ذاك الحرّ الشديد.

وكتب السيرة تروي أنّه كان يسقي بعض الرجال والفرسان بيده الشريفة.

وإليك يا أخي الكريم هذه الرواية العجيبة والغريبة التي كلّما قرأتها تأخذني قشعريرة وحيرة من أمري مثل ذاك الموقف الإنساني، ولا عجب من أخلاقيّات

_____________________

١ - أعيان الشيعة ٤ / ١٠٤.

٧٢

الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولكن كلّ العجب من اُولئك الجفاة الغلاظ الذي عاملهم الإمام بكلّ رقّة ولطافة وإنسانيّة فقابلوه بكلّ صلافة وخساسة ودناءة وجحود، ليس للفضل والإنعام، بل لأبسط معاني الأخلاق العربيّة أو الإنسانيّة.

سارَ الإمام الحسينعليه‌السلام مِنْ بطنِ العَقَبةِ حتّى نزلَ شَراف(١) ، فلمّا كانَ السّحر أمرَ فتيانَه فاستقَوا من الماءِ فأكْثروا، ثمّ سارَ منها حتّى انتصفَ النّهارُ، فبينا هو يسيرُ إذ كبَّر رجلٌ مِن أصحابِه، فقالَ له الحسينعليه‌السلام :((الله أكبرُ، لِمَ كَبَّرتَ؟)) .

فقال: رأيتُ النخلَ.

فقالَ له جماعةٌ من أصحابه: والله إنّ هذا المكانَ ما رأينا فيه نخلةً قطُّ.

فقالَ لهم الحسينُعليه‌السلام :((فما تَرَوْنَه؟)) .

قالوا: نراه والله آذانَ الخيل.

قالعليه‌السلام :((أنا واللهِ أرى ذلكَ)) .

ثمّ قالعليه‌السلام :((ما لنا ملجأ نلجأ إليهِ فنَجْعلُهُ في ظهورنا ونستقبلُ القومَ بوجهٍ واحدٍ؟)) .

فقلنا له: بلى، هذا ذو حُسْم إلى جنبكَ، تَميلُ إليهِ عَنْ يَساركَ، فإنْ سبقتَ إليهِ فهو كما تُريدُ، فأخَذَ إليهِ ذاتَ اليسارِ ومِلنا معهُ، فما كان بأسرعَ من أن طلعتْ علينا هوادي الخيل (أعناقها) فتبينّاها وعدلْنا.

_____________________

١ - شراف: موضع بنجد (معجم البلدان ٣ / ٣٣١).

٧٣

فلمّا رأوْنا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأنّ أسنّتهم اليعاسيبُ (ذكور النحل)، وكأنّ راياتِهم أجنحةُ الطيرِ، فاستبقْنا إلى ذي حُسْم فسبقْناهم إليه، وأمرَ الحسينُعليه‌السلام بأبنيتهِ (خيامه) فَضُرِبَتْ له خيمةَ، وجاءَ القومُ زُهاءَ ألفِ فارسٍ معَ الحُرَّ بن يزيدَ (الرياحي) التّميمي حتّى وقفَ هو وخيلُه مُقابلَ الحسينعليه‌السلام في حَرِّ الظّهيرةِ، والحسينعليه‌السلام وأصحابُه معتمُّونَ متقلِّدون بأسيافِهم.

فقال الحسينعليه‌السلام لفتيانه:((اسْقوا القومَ، وأرْووهُمْ منَ الماء ِ، ورشِّفوا الخيلَ ترشيفاً)) .

ففعلوا وأقبلوا يملؤون القِصاعَ والطّساس(١) من الماء ثمّ يُدنونها من الفرسِ، فإذا عبَّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزِلَتْ عنه وسَقَوا آخرَ، حتّى سَقَوها (الخيل) كلَّها.

قالَ عليُّ بنُ الطعَّان المُحاربي: كنتُ معَ الحُرِّ يومئذٍ، فجئتُ في آخرِ مَنْ جاءَ من أصحابهِ، فلمّا رأى الحسينعليه‌السلام ما بي وبفرسي منَ العطشِ، قالَ:((أنِخِ الراوية)) . والراويةُ عندي السِّقاءُ، ثمَّ قالَعليه‌السلام :((يابن أخي، أنخِ الجملَ)) . فأنَخْتُهُ.

فقال:((اشربْ)) . فجعلتُ كلّما شربتُ سالَ الماءُ من السِّقاء (دون فائدة لي).

فقالَ الحسينعليه‌السلام :((اخنِثِ السِّقاءَ)) . أي أعطفْه، فلم أدْرِ كيفَ أفعلُ، فَقامَ

_____________________

١ - الطساس: جمع طسّ، وهو معرّب طست، وهو إناء معروف (مجمع البحرين ٢ / ٢١٠).

٧٤

فَخَنثَه فشربتُ وسقيتُ فرسي(١) .

أرأيت مثل هذا الفعل، أو سمعت بمثله؟!

جيشٌ يأتي إليه ليحاربه وبهذا الحجم الضخم الفخم؛ (لأنّه طليعة الجيش وعادة يكون من أفضل الفرسان والمقاتلين)، يلتقون به وهم على شفا الهلاك والهاوية (هم ودوابّهم) من شدّة العطش وحرِّ الظهيرة، فبدلاً من أن يبيدهم عن آخرهم ويغنم كلّ ما معهم من خيول وجمال ومتاع، وكان ذلك سهلاً عليه، يسقيهم ويرشف خيولهم ليقويهم على نفسه الشريفة، وعلى أصحابه الأفاضل الكرماء، وهم قادمون له ليقتلوه ومَنْ معه جميعاً، مع إنّ الحسين وأهل بيته وأصحابه كانوا بحاجة إلى هذا الماء في تلك الصحراء القاحلة.

وتنقل كتب السيرة أنّ أحد أصحابه قال لهعليه‌السلام : يا مولاي دعنا نقاتل هؤلاء ونغتنم ما هم فيه؛ فإنّ قتالهم علينا أسهل.

فقالعليه‌السلام :((ما كنت لأبدأهم بقتال)) .

إنّ هذا لعجب عجاب!

ولكن، لو تدري يا عزيزي القارئ ما الذي فعله هؤلاء وجيشهم العرموم على بطاح كربلاء، وحين التقوا بالإمام الحسينعليه‌السلام وأهله وأصحابه، وأحاطوه إحاطة السوار بالمعصم، أو القلادة بالجيد؟!

أوَ تدري أنّ أوّل سلاح استخدموه - من خِستِّهم ودناءتهم، وحقارة أنفسهم، وتفاهة قادتهم - هو التعطيش بمنع الماء عن معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ومَنْ معه

_____________________

١ - إرشاد المفيد ٢ / ٧٧ - ٧٨.

٧٥

من ثقل عظيم من نساء وأطفال وبنات آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

يسقيهم ليُقوِّيهم، ويعطِّشونه ليقتلوه! فوا عجباً ماذا يصنع الإيمان والكفر بالإنسان؟!

فهذا السلاح الدنيء الخسيس ورثه جيش ابن سعد الأموي من جدّهم معاوية بن أبي سفيان، حين حاول منع جيش الإمام عليعليه‌السلام من شرب الماء في موقعة صفين الشهيرة، ولم يسقوهم إلاّ عنوة وبحدّ السيف، وبمعركة شنيعة انتصر فيها جيش الإمام عليعليه‌السلام على أصحاب معاوية وجلوهم عن الفرات ومنعوهم منه بالقوّة والقهر.

ولو منعوهم نهائياً من الماء لأنصفوهم؛ لأنّهم أوّل مَنْ بدأ بالإساءة والخساسة، ودفع الشرّ بالشرّ ممكن، ولكنّ مناقب الإمام عليعليه‌السلام وأخلاقه الإيمانية الرائعة أبت عليه أن يُقابل الشرّ إلاّ بالخير، والسيئة إلاّ بالحسنة، والضلال إلاّ بالهُدى، وعندما قال له أصحابه: نمنعهم من الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ومنعونا، فلا حاجة لنا إلى الحرب.

أبى ذلك وقالعليه‌السلام : (دعوهم والماء، فليشربوا وليغسِّلوا وليتوضؤوا، وما لكم إلاّ السيف وساحة المعركة رجالاً نقاتل رجالاً، فاتركوا القوم والماء لنا ولهم على حدِّ سواء)(١) .

وأمّا معاوية وأصحابه فإنّهم قالوا عندما احتلّوا شطّ الفرات: (لا والله، لا ندعهم يشربون حتّى يموتوا عطشاً)(٢) .

_____________________

١ - يبدو أنّ الأخ المؤلّف قد نقل هذا الحديث بالمضمون؛ إذ النص عن الإمامعليه‌السلام هو:(( لا والله، لا اُكافيهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة؛ ففي حدّ السيف ما يُغني عن ذلك)) . (راجع ينابيع المودّة ١ / ٤٥١ ب٥١)(موقع معهد الإمامين الحسَنَين) .

٢ - يراجع مروج الذهب - للمسعودي (صفين)، وتاريخ الأُمم والملوك - للطبري، وشرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد ٣ / ٣١٨، و١٠ / ٢٥٧، وينابيع المودّة - للقندوزي باب ٥١.

٧٦

هذه المناقب العالية هي أمرٌ طبيعي وعادي في سجِّل أهل البيت الأطهارعليهم‌السلام ، وهم كتاب الله الناطق، ألم يقل أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام :((لكلِّ شيءٍ زكاة، وزكاةُ الظفرِ بعَدوِّك العفوُ عنْه)) (١) .

والإمام الحسين هو شبل الأمير عليّعليهما‌السلام ، ويزيد هو جرو معاوية، ورحم الله مَنْ قال: (وكلّ إناء بالذي فيه ينضح).

فالإمام الحسينعليه‌السلام ينضح ويفيض بالخير والنور والهداية؛ لأنّه منبعها وأصلها، فيكون كالشمس الضاحية يستفيد منها كلّ شيء؛ الجماد والنبات والحيوان، وكلّ يأخذ منها حاجته، وتبقى هي في كبد السماء عالية لا تُطال ولا تُنال حتّى بالعين المبصرة؛ لأنّها إذا حدقت فيها عميت تماماً كما أثبت العلم الحديث.

رأفة الحسينعليه‌السلام بالحيوان

ورأفة الإمامعليه‌السلام ورحمته تشمل الحيوانات مع البشر كما مرّ قبل قليل، ولكنّ القصّة العجيبة كانت مع فرسه في أحلك الظروف وأدقّها وأرقّها على قلبه الشريف، وذلك ما ترويه كتب التاريخ والسيرة عنهعليه‌السلام .

يروي أبو مخنف عن الجلودي أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام حمل على الأعور السلمي وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، وكانا في أربعة آلاف رجل على الشريعة، وأقحم الفرس على الفرات، فلمّا أولغ (دخل وخاض) الفرس برأسه ليشرب، قالعليه‌السلام :

_____________________

١ - ليالي بيشاور / ٤٦٨.

٧٧

((أنتَ عطشان، وأنا عطشان، والله لا أذوق الماءَ حتّى تشرَب)) . فلمّا سمع الفرس كلام الحسينعليه‌السلام شال (رفع) رأسه ولم يشرب، وكأنّه فَهِمَ الكلام(١) .

الإمام الحسينعليه‌السلام لا يقدِّم نفسه المقدّسة على فرسه الذي يركبه، والفرس ينفض الماء ويرفض أن يشرب قبل سيّده وصاحبه، فيا ويلهم اُولئك الغلاظ كيف كانوا يشربون ويتلذذون بماء الفرات، والإمام الحسينعليه‌السلام ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونساؤه وأطفاله وعيالات أصحابه يصرخون: العطش العطش؟!

كيف فعلوا ذلك؟ لا أدري والله العظيم إلاّ أنّني أُردّد قوله تعالى:( إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) (٢) .

فالفرس أفضل مِن كلّ مَنْ كان هناك، وهم زهاء ثلاثون ألف مقاتل على أقل التقادير، وإلاّ فإنّ بعض التواريخ تنقل مئات الألوف شربوا الماء والإمام الحسينعليه‌السلام عطشان

العباسعليه‌السلام وعطش الأطفال والنساء

ألم يسمعوا ويروا موقف ساقي عطاشى كربلاء أبي الفضل العباس (سلام الله عليه)؟!

إليكم طرفاً من قصّته الطويلة بطول قامته:

في التاريخ الإسلامي العظيم كان العباسعليه‌السلام السَّقاء، قمر بني هشام، صاحب لواء الإمام الحسينعليه‌السلام وهو أكبر إخوته، وأُمّه فاطمة بنت حزام الكلابية،

_____________________

١ - مناقب آل أبي طالب - لابن شهر آشوب ٤ / ٥٨.

٢ - سورة الفرقان / ٤٤.

٧٨

فلمّا رأى وحدة الحسينعليه‌السلام بحيث لم يبقَ معه أحد من أصحابه وأهل بيته، أتاه وقال: هل من رخصة (للبراز والقتال)؟

فبكى الحسينعليه‌السلام - وهو محتضن أخاه أبا الفضل - بكاءً شديداً.

قال:((يا أخي، أنتَ صاحِبَ لُوائي، وإذا مَضَيْتَ تَفرَّق عَسكَري)) .

فقال العباسعليه‌السلام : قد ضاق صدري وسئمت الحياة، وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين.

فقال الحسينعليه‌السلام :((إنْ كانَ ولا بدّ فاطْلبْ لِهؤلاءِ الأطفال قليلاً مِنِ الماء)) .

فمضى العباس بعد الوداع يطلب الماء من الفرات وعليه أربعة آلاف فارس، فحملوا عليه وحمل هو عليهم، وجعل يقول:

لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رقى

حتّى اُوارى في المصاليتِ لقى

نفسي لنفسِ المصطفى الطّهرِ وقا

إنّي أنا العباسُ أغدو بالسقا

ولا أخافُ الشرَّ يومَ الملتقى

ففرّقهم، حتّى إذا دخل الماء وأراد أن يشرب غرف غرفة من الماء فذكر عطش أخيه الحسين وأهل بيتهعليهم‌السلام ، فرمى الماء على الماء وقال:

يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني

وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسينُ واردُ المنونِ

وتشربينَ باردَ المعينِ

تاللهِ ما هذا فعالُ ديني

ولا فعالُ صادقِ اليقينِ

ثمّ ملأ القربة وحملها متوجّهاً نحو الخيمة، فقطوا عليه الطريق، وأحاطوا به

٧٩

من كلّ جانب، فكمن له زيد بن ورقاء الجهني من وراء نخلة، وعاونه حكيم بن الطفيل فضربه على يمينه فقدّها، فأخذ السيف بشماله وحمل عليهم، وهو يرتجز:

واللهِ إن قطعتمُ يميني

إنّي أحامي أبداً عن ديني

وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ

نجلِ النبي الطاهرِ الأمينِ

فقاتل حتّى ضعف، فكمن له عدّو الله من وراء نخلة فضربه على شماله فقطها كذلك، فقالعليه‌السلام :

يا نفسُ لا تخشي من الكفّارِ

وأبشري برحمةِ الجبّارِ

مع النبي السيّدِ المختارِ

قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا ربِّ حرَّ النارِ

ثمّ جاء سهم فأصاب القربة وأُريق ماؤها، فوقف متحيّراً؛ لا ماء حتّى يوصله إلى الخيمة، ولا يد حتّى يُحارب بها، وبينما هو كذلك وإذا بسهم أصاب عينه، ثمّ ضربه ظالم لعين بعمود من حديد على رأسه فانقلب عن فرسه، وصاح أخاه الحسينعليه‌السلام قائلاً: يا أخي أدرك أخاك.

فلمّا أتاه الحسينعليه‌السلام ورآه صريعاً على شاطئ الفرات بكى، وقال:((الآن انكَسَرَ ظَهري، وقلَّتْ حيلتي، وشَمَتَ بي عَدوّي)) .

ثمّ توجّه إلى القوم، وأنشأ يقول:

تعدَّيتمُ يا شرًّ قومٍ بفعلكم

وخالفتمُ قولَ النبيِّ محمّد

أما كانَ خيرُ الرُّسلِ وصّاكم بنا

أما نحنُ من نسلِ النبيِّ المسدَّد

أما كانتِ الزَّهراءُ أُمّيَ دونكم

أما كانَ من خيرِ البريّةِ أحمد

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

فسار، وسرت بمسيره إلى أن انحدر من الذروة وسار في أسفله، فقال: انزل، فهنا يذلّ كلّ صعب، ويخضع كل جبار، ثم قال: خلّ عن زمام الناقة.

قلت: فعلى من أخلّفها؟

فقال: حرم القائم (عليه السلام) لا يدخله إلاَّ مؤمن، ولا يخرج منه إلاَّ مؤمن.

فخلَّيتُ من زمام راحلتي، وسار وسرت معه إلى أن دنا من باب الخباء، فسبقني بالدّخول وأمرني أن أقف حتى يخرج إليّ.

ثم قال لي: أدخل، هنّأك السلامة، فدخلت فإذا أنا به جالس قد اتّشح ببردة، واتزر بأخرى، وقد كسر بردته على عاتقه، وهو كأقحوانة أرجوان قد تكاثف عليها الندى، وأصابها ألم الهوى، وإذا هو كغصنِ بانٍ، أو قضيبِ ريحانٍ، سمحٌ سخيٌّ تقيٌّ نقيٌّ، ليس بالطويل الشامخ، ولا بالقصير اللازق، بل مربوع القامة، مدوّر الهامة، صلت الجبين، أزجّ الحاجبين، أقنى الأنف، سهل الخدين، على خدّه الأيمن خال كأنّه فتات مسك على رضراضة عنبر.

فلمّا أن رأيته بادرته بالسلام، فردّ عليّ أحسن ما سلّمت عليه، وشافهني وسألني عن أهل العراق، فقلت: سيدي قد اُلبسوا جلباب الذلّة، وهم بين القوم أذلاء، فقال لي: (يا ابن المازيار لتملكونهم كما ملكوكم، وهم يومئذٍ أذلاّء) .

فقلت: سيدي لقد بُعد الوطن وطال المطلب.

فقال: (يا ابن المازيار، أبي أبو محمّد عهد إليّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم .

وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلاّ وعرها، ومن البلاد إلاّ عفرها، والله مولاكم أظهر التقية فوكلها بي، فأنا في التقية إلى يوم يُؤذن لي فأخرج) .

فقلت: يا سيدي متى يكون هذا الأمر؟

فقال: (إذا حيل بينكم وبين سبيل الكعبة، واجتمع الشمس والقمر واستدار بهما الكواكب والنجوم) .

فقلت: متى يا ابن رسول الله؟

١٦١

  فقال لي:(في سنة كذا وكذا تخرج دابة الأرض من بين الصفا والمروة، ومعه عصا موسى وخاتم سليمان، يسوق الناس إلى المحشر) .

قال: فأقمت عنده أياماً، وأذن لي بالخروج بعد أن استقصيت لنفسي وخرجت نحو منزلي. والله، لقد سرتُ من مكة إلى الكوفة ومعي غلام يخدمني فلم أرَ إلاَّ خيراً) (١) .

وهذا الحديث يؤيِّد المعنى الذي يقول بأنَّ وقت ظهور صاحب الأمر (عليه السلام) لا يعلمه إلاّ الله تعالى، فإنّه قد ذكر (عليه السلام) في جواب عليّ بن إبراهيم بن مزيار: متى يكون هذا الأمر؟ عدّة علامات، مع أنّه لا يعلم وقت ظهور تلك العلامات أيضاً، بل إنّ وقت العلامات مخفي عليه (عليه السلام) أيضاً.

وهناك الكثير ممّن سعى لذلك في حياة والد الإمام الحجة (عليه السلام) للحصول على هذه السعادة، يعني أن يتشرّف برؤية رئيس الأخيار، مثل يعقوب بن منقوش، فقد روى ابن بابويه بإسناده عن يعقوب المذكور أنّه قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليّ (عليهما السلام) وهو جالس على دكان في الدار، وعن يمينه بيت وعليه ستر مسبل، فقلت له: يا سيدي من صاحب هذا الأمر؟

فقال: (ارفع الستر) .

فرفعته، فخرج إلينا غلام خماسيٌّ، له عشر أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين، أبيض الوجه، دريّ المقلتين، شثن الكفين، معطوف الركبتين، في خده الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة؛ فجلس على فخذ أبي محمّد (عليه السلام)، ثمّ قال لي: (هذا هو صاحبكم) .

ثم وقب، فقال له: (يا بني، أدخل إلى الوقت المعلوم) .

فدخل البيت وأنا أنظر إليه؛ ثم قال لي: (يا يعقوب، انظر إلى مَن في البيت) .

____________________

(١) الغيبة / الشيخ الطوسي: ٢٦٣ - ٢٦٧.

١٦٢

فدخلت فما رأيت أحداً (١) .

وروى أيضاً عن [محمّد بن] (٢) معاوية بن حكيم ومحمّد بن أيوب بن نوح، ومحمّد بن عثمان العمري أنَّهم قالوا: عرض علينا أبو محمّد الحسن بن عليّ (عليهما السلام) ونحن في منزله، وكنّا أربعين رجلاً، فقال: (هذا إمامكم من بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرَّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا. أما إنَّكم لا ترونه بعد يومكم هذا) (٣) .

وأمّا معجزاته (عليه السلام) التي ظهرت من حين ولادته إلى هذا اليوم، فهي كثيرة، سوى ما سوف تظهر من زماننا إلى حين ظهوره (عليه السلام)، ومن ذلك الوقت إلى أوان وفاته (عليه السلام).

ونحن نكتفي في هذا المختصر بنقل القليل من معجزاته التي قد ظهرت منه (عليه السلام) من قبل، وقد رواها قطب الملة والدين الراوندي (عليه الرحمة) في كتاب "الخرائج والجرائح"، وقد نقل مضمون عباراتها صاحب "كفاية المؤمنين" ، كما ذكرها الشيخ المفيد وغيره في كتبهم.

[حكاية يعقوب الغساني]:

قال صاحب كتاب "الخرائج" : روي عن يعقوب بن يوسف الضّراب الغساني في منصرفه من أصفهان، قال: حججت في سنة إحدى وثمانين ومائتين، وكنت مع قوم مخالفين من أهل بلدنا. فلمّا قدمنا مكة، نزلنا داراً في سوق الليل تسمَّى دار الرضا (عليه السلام)، وفيها عجوز سمراء، فسألتها: ما تكونين من أصحاب هذه الدار؟

____________________

(١) كمال الدين / الشيخ الصدوق ٢: ٤٣٧ / باب ٤٣ / ح٥.

(٢) هكذا في الترجمة، ولا توجد هذه الزيادة في المصدر.

(٣) كمال الدين / الشيخ الصدوق ٢: ٣٣٥.

١٦٣

قالت: أنا من مواليهم [وعبيدهم] أسكننيها الحسن بن عليّ (عليهما السلام).

فكنا إذا انصرفنا من الطواف تغلق الباب.

فرأيت غير ليلة ضوء السراج، ورأيت الباب قد انفتح، ولا أرى أحداً فتحه من أهل الدار، ورأيت رجلاً ربعة، أسمر، يميل إلى الصفرة، ما هو قليل اللحم، يصعد إلى غرفة في الدار حيث تكون العجوز تسكن، وكانت تقول لنا: إنَّ لي في الغرفة ابنة لا تدعوا أحداً يصعد إليها.

فأحببت أن أقف على خبر الرجل، فقلت للعجوز: إنِّي أحب أن أسألك.

قالت: وأنا أريد أن أُسرّ إليك، فلم يتهيَّأ من أجل أصحابك.

فقلت: ما أردت أن تقولي؟

فقالت: يقول لك - يعني صاحب الدار - ولم تذكر أحداً [باسمه]: (لا تخاشننّ أصحابك وشركاءك، ولا تلاحّهم، فإنّهم أعداؤك، ودَارِهِم) .

فلم أجسر أن أراجعها؛ فقلت: أيّ أصحابي؟

قالت: شركاؤك الذين في بلدك، وفي الدار معك.

وقد كان جرى بيني وبين مَن معي في الدار عنت في الدين، فسعوا بيّ حتى هربت واستترت بذلك السبب، فوقفت على أنّها عنت أولئك.

وكنت نذرت أن ألقي في مقام إبراهيم عشرة دراهم ليأخذها مَن أراد الله، فأخذت عشرة دراهم فيها ستة رضوية وقلت لها: ادفعي هذه إلى الرجل.

فأخذت [الدراهم] وصعدت، وبقيت ساعة ثم نزلت؛ فقالت: يقول لك: (ليس لنا فيها حق، اجعلها في الموضع الذي نذرت ونويت، ولكن هذه الرضوية خذ منّا بدلها وألقها في الموضع الذي نويت) .

ففعلت (١) .

____________________

(١) الخرائج والجرائح ١: ٤٦١ / ح٦. والرواية مروية بشكل أكثر تفصيل في الغيبة / الشيخ الطوسي: ٢٧٣ / تحت رقم ٥٣٨.

١٦٤

[ملاقاة يوسف الجعفري للحجة (عليه السلام)]:

وروى أيضاً عن يوسف بن أحمد الجعفري أنَّه قال: حججتُ سنة ست وثلاثمئة، ثمَّ جاورت بمكة ثلاث سنين، ثم خرجت عنها منصرفاً إلى الشام، فبينا أنا في بعض الطريق، وقد فاتتني صالة الفجر، فنزلت من المحمل وتهيَّأت للصلاة، فرأيتُ أربعة نفر في محمل، فوقعت أعجب منهم، فقال لي أحدهم: ممّ تعجب؟ تركت صلاتك.

فقلت: وما علمك بذلك منّي؟

فقال: تُحب أن ترى صاحب زمانك؟

قلت: نعم، فأومأ إليّ أحد الأربعة، فقلت: إنّ له دلائل وعلامات؟

فقال: أيّما أحب إليك: أن ترى الجمل صاعداً إلى السماء، أو ترى المحمل صاعداً؟

فقلت: أيّهما كان فهي دلالة، فرأيت الجمل وما عليه يرتفع إلى السماء، ولكن الرجل أومأ إلى رجل به سمرة، وكأنّ لونه الذهب، بين عينيه سجّادة (١) .

[حكاية محمّد بن إبراهيم بن مهران]:

وروى أيضاً عن محمّد بن إبراهيم بن مهران أنَّه قال: أعطى جماعة من الشيعة إلى أبي عدة بدرات من الدنانير والدراهم ليوصلها إلى الإمام أبي محمّد العسكري (صلوات الله عليه)، فخرجت معه مشيِّعاً له عدة مراحل حتى بعُدنا عن وطننا منزلين أو ثلاثة، فإذا به ليلاً يتغيّر تغيّراً شديداً وتظهر على وجهه علامات الموت، فطلبني وأوصاني وقال: عندي دنانير ودراهم كثيرة، وهي أمانات من شيعة أهل البيت، فسلّمها لوكلاء الإمام الحسن العسكري، وأنا أرى الموت يحوم حولي، وأنا أعلم أنّه لا يبرء ذمتي أحد غيرك من هذه

____________________

(١) الخرائج والجرائح ١: ٤٦٦ و٤٦٧ / ح١٣.

١٦٥

الأمانات، ووصيتي إليك أن تأخذ هذا المال (عليه السلام) فتطيِّب خاطري من هذا الغم.

فاستجبت لأمر أبي في أن أُوصل هذا المال لوكلاء الإمام الحسن العسكري (صلوات الله عليه)، فمات أبي بعد أن أدّى الوصية.

فتوجّهت إلى العراق بعد موت أبي، وبعد أن قطعت المنازل وطويت المراحل فإذا بي يوماً أسمع أثناء سفري خبر المحنة، وهو وفاة صاحب العسكر والإمام الحادي عشر (عليه صلوات الله الملك الأكبر)، ففكرت في نفسي: أنّ أبي أوصى أن أوصل هذا المال إليه (عليه السلام)، وقد توفّى، ولا أعرف مَن هو خليفته ووصيه، ولم يوصني أبي بشيء غير ذلك، فما هو الحل لهذا؟ فانقدح في ذهني أخيراً أن أحمل هذا المال إلى العراق، ولا أخبر أحداً، فإن وضح لي شيء أنفذته، وإلاّ أنفقته وتصدّقت به وقصفت به.

فقدمت العراق، فاكتريت داراً على الشط وبقيت أياماً، فإذا أنا برسول معه رقعة فيها: (يا محمّد بن إبراهيم، معك عدة صرر ذهباً، عددها كذا، وفي جوف كل واحدة من تلك الصرار العدد الفلاني من الدنانير والدراهم، فإذا أردت أن تؤدّي وصية أبيك، فعليك أن تسلّم جميع ذلك المال إلى رسولنا) .

فعندما سمعت هذا الخبر الصحيح، والدليل الصريح، فلم أجد بُداً غير تسليم ذلك المال وكل ما كان معي إلى رسول مجمع المفاخر والمحامد (عليه السلام).

وبقيت منتظراً أن أحصل على خبر منه بوصول المال، كما كنت أرجو أن أصل إليه، وأطلب منه أن أقوم بما كان يقوم به أبي ببعض أموره.

وبعد عدة أيَّام من إرسال ذلك المال، جاءتني رقعة مضمونها: (يا محمّد، قد وصل جميع ما كنت قد أرسلته، وقد أقمناك مقام أبيك، فعليك ألاَّ تخرج عن جادة الشريعة الغرّاء، وطريق الملّة البيضاء).

١٦٦

وحينما قرأت هذا التوقيع ابتهجت وفرحت كثيراً، ورجعت عن دار السلام بغداد إلى بيتي (١) .

____________________

(١) أقول: هذا ملَّخص ترجمة الحديث الذي نقله المؤلف مترجماً من "كفاية المؤمنين" والذي هو ترجمة "الخرائج" ، ولكن فيه اختلافات مع ما هو موجود في المصدر المطبوع، وكذلك مع ما هو موجود في المصادر الأخرى التي روت الخبر، فقد رواه الشيخ الكليني في الكافي ١: ٥١٨ / ح٥؛ والطوسي في الغيبة: ١٨٢ - ٢٣٩؛ والشيخ المفيد في الإرشاد ٢: ٣٥٥؛ والراوندي في الخرائج ١: ٤٦٢ و٤٦٣؛ والطوسي في إعلام الورى بأعلام الهدى: ٤١٧ / ط١.

وبما أنّ المؤلف قد نقل الخبر عن خرائج الراوندي فإليك ما فيه، قال:

ما روي عن محمّد بن إبراهيم بن مهزيار قال: شككت عند مضي أبي محمّد (عليه السلام)، وكان اجتمع عند أبي مال جليل فحمله وركب السفينة، وخرجت مع مشيّعاً له، فوعك.

فقال: ردّني فهو الموت، واتَّق الله في هذا المال. وأوصى إليّ، ومات.

وقلت: لا يوصي أبي شيء غير صحيح، أحمل هذا المال إلى العراق ولا أخبر أحداً، فإن وضح لي شيء أنفذته، وإلاّ أنفقته، فاكتريت داراً على الشطّ وبقيت أياماً، فإذا أنا برسول معه رقعة فيها: يا محمّد، معك كذا وكذا. حتى قصّ عليّ جميع ما معي، وما لم أحط به علماً ممّا كان معي، فسلّمت المال إلى الرسول، وبقيت أياماً لا يرفع لي رأس، فاغتممت، فخرج إليّ: (قد أقمناك مقام أبيك، فأحمد الله تعالى) .

الخرائج والجرائح / الراوندي ١: ٤٦٢ و٤٦٣ / ح٧.

ولكن الشيخ الصدوق (عليه الرحمة) قد نقل القضية بشكل آخر في كتاب كمال الدين: ٤٨٦ و٤٨٧ / ح٨؛ حدّثنا محمّد بن الحسن (رضي الله عنه) عن سعد بن عبد الله، عن عليّ بن محمّد الرّازي المعروف بعلاّن الكليني قال: حدّثني محمّد بن جبرئيل الأهوازي، عن إبراهيم ومحمّد ابني الفرج، عن محمّد بن إبراهيم بن مهزيار أنّه ورد العراق شاكّاً مرتدّاً، فخرج إليه:

(قل للمهزياري قد فهمنا ما حكيته عن موالينا بناحيتكم، فقل لهم: أمَا سمعتم الله (عزّ وجلّ) يقول: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) هل أمر إلاَّ بما هو كائن إلى يوم القيامة، أوَ لَم تروا أنّ الله (عزّ وجلّ) جعل لكم معاقل تأوون إليها، وأعلاماً تهتدون بها من لدن آدم (عليه السلام) إلى أن ظهر الماضي أبو محمّد (صلوات الله عليه)، كلّما غاب علم بدا علم، وإذا أفل نجم طلع نجم.

فلّما قبضه الله إليه، ظننتم أنّ الله (عزّ وجلّ) قد قطع السبب بينه وبين خلقه، كلا ما كان ذلك ولا يكون حتى تقوم الساعة ويظهر أمر الله (عزّ وجلّ) وهم كارهون. =

١٦٧

وروى أيضاً أبو عقيل عيسى بن نصر: أنّ علي بن زياد الصيمري كتب يلتمس كفناً.

فكتب: (إنّك تحتاج إليه في سنة ثمانين) .

فمات في سنة ثمانين، وبعث إليه بالكفن قبل موته (١) .

وقد ذكر في الدفاتر الصحيحة، وفي كتب الآثار الصريحة؛ أنَّه قد خرجت التوقيعات في زمن الغيبة الصغرى من عند صاحب الزمان (عليه صلوات الملك المنان)، وقد اختص جماعة بإظهار تلك التوقيعات، وكان يتمّ إعلان تلك التوقيعات العظيمة البركات بأمره (عليه السلام) إلى كثير من شيعته فيحذّر

____________________

= يا محمّد بن إبراهيم، لا يدخلنّك الشكّ فيما قدمت له، فإنّ الله (عزّ وجلّ) لا يخلّي الأرض من حجة؛ أليس قال لك أبوك قبل وفاته: أحضر الساعة من يعيّر هذه الدنانير التي عندي، فلمّا أبطئ ذلك عليه، وخاف الشيخ على نفسه الوحا، قال لك: عيّرها على نفسك، وأخرج إليك كيساً كبيراً، وعندك بالحضرة ثلاثة أكياس وصرّة فيها دنانير مختلفة النقد فعيَّرْتها، وختم الشيخ بخاتمه وقال لك: اختم مع خاتمي، فإن أعش فأنا أحق بها، وإن أمت فاتّق الله في نفسك أوّلاً ثمّ فيّ، فخلّصني وكنْ عند ظنِّي بك. أخرج (رحمك الله) الدنانير التي استفضلتها من بين النقدين من حسابنا، وهي بضعة عشر ديناراً واستردّ من قبلك، فإنّ الزمان أصعب ممَّا كان، وحسبنا الله ونعم الوكيل) .

قال محمد بن إبراهيم: وقدمت العسكر زائراً فقصدت الناحية، فلقيتني امرأة وقالت: أنت محمّد بن إبراهيم؟

فقلت: نعم.

فقالت لي: انصرف فإنَّك لا تصل في هذا الوقت، وارجع الليلة فإنّ الباب مفتوح لك فادخل الدار واقصد البيت الذي فيه السراج، ففعلت وقصدت الباب فإذا هو مفتوح، فدخلت الدّار وقصدت البيت الذي وصفته، فبينا أنا بين القبرين أنتحب وأبكي إذ سمعت صوتاً وهو يقول: (يا محمد، اتقِ الله وتب من كلّ ما أنت عليه فقد قلّدت أمراً عظيماً) . كمال الدين: ٤٨٦ / ح٨.

(١) الخرائج والجرائح / للراوندي ١: ٤٦٣ / ح٨.

١٦٨

الخَلق من المنهيّات ويحرّضهم على الأوامر، وتعلم جميع مصالح العباد من توقيعاته كعبة أرباب السداد.

ويعدُّ كل توقيع من تلك التوقيعات بنفسه معجزة؛ وهي كثيرة لا يسع مجموعها هذا المختصر، وقد تقدَّم قليل منها في هذه السطور، وسوف يأتي بعضها إنشاء الله تعالى في هذا السفر.

روي عن محمّد بن يعقوب بن عليّ بن محمّد قال: خرج نهي عن زيارة مقابر قريش [والمقصود من مقابر قريش مرقد الإمامين الكاظمين (عليهما السلام) المنور] وقبر الحسين (عليه السلام). فلمّا كان بعد أشهر [زارها رجلان من الشيعة، فدعاهما] الوزير الباقطاني وزجرهما، فقالا [لخادمه]: لاق بني الفرات والبرسيّين وقل لهم: لا تزوروا مقابر قريش، فقد أمر الخليفة أن يقبض على كلّ من زار (١) .

وبعد حدوث هذه الواقعة علمٍ سبب منعه لزيارة مقابر قريش الذي ورد في توقعيه (عليه السلام).

[حكاية القاسم بن العلاء]:

الرواية الأخرى: روى الشيخ المفيد عن أبي عبد الله الصفواني قال: رأيت القاسم بن العلاء وقد عمّر مائة سنة، وسبع عشرة سنة، منها ثمانون سنة صحيح العينيين لقى العسكريّين (عليها السلام) وحجب بعد الثمانين، وردّت عليه عيناه قبل وفاته بسبعة أيام؛ وذلك إنِّي كنت بمدينة (أرّان) من أرض آذربايجان، وكان لا تنقطع توقيعاته صاحب الأمر (عليه السلام) عنه على يد أبي جعفر العمري، وبعده على يد أبي القاسم بن روح، فانقطعت عنه المكاتبة نحواً من شهرين، وقلق لذلك.

فبينا نحن عنده نأكل إذ دخل البوّاب مستبشراً، فقال له: فيج العراق

____________________

(١) الخرائج والجرائح ١: ٤٦٥ / ح١٠.

١٦٩

ورد - ولا يسمى بغيره - فسجد القاسم، ثم دخل كهل قصير يرى أثر الفيوج عليه، وعليه جبّة مضرّبة، وفي رجله نعل محاملي، وعلى كتفه مخلاة.

فقام إليه القاسم فعانقه، ووضع المخلاة، ودعا بطشت وماء، وغسل يده، وأجلسه إلى جانبه، فأكلنا وغسلنا أيدينا، فقام الرجل وأخرج كتاباً أفضل من نصف الدرج، فناوله القاسم، فأخذه وقبّله ودفعه إلى كاتب له يقال له (أبو عبد الله بن أبي سلمة) ففضّه وقرأه وبكى حتى أحس القاسم ببكائه، فقال: يا أبا عبد الله خيرّ، خرج فيّ شيء ممّا يكره؟

قال: لا.

قال: فما هو؟

قال: ينعى الشيخ إلى نفسه بعد ورود هذا الكتاب بأربعين يوماً، وأنّه يمرض اليوم السابع بعد وصول الكتاب، وأنّ الله يردّ عليه عينيه بعد ذلك، وقد حمل إليه سبعة أثواب.

فقال القاسم: على سلامة من ديني؟

قال: في سلامة من دينك.

فضحك؛ وقال: وما أؤمِّل بعد هذا العمر؟!

فقام الرجل الوارد، فأخرج من مخلاته ثلاثة أزر، وحبرة يمانية حمراء، وعمامة، وثوبين ومنديلاً، فأخذه القاسم، وكان عنده قميص خلعه عليه عليّ النقي (عليه السلام).

وكان للقاسم صديق في أمور الدنيا، شديد النصب، يقال له (عبد الرحمن بن محمد الشيزي) وافى إلى الدار، فقال القاسم: اقرؤا الكتاب عليه، فإنّي أحب هدايته.

قالوا: هذا لا يحتمله خلق من الشيعة، فكيف عبد الرحمن؟!

فأخرج إليه القاسم الكتاب وقال: اقرأه.

١٧٠

فقرأه عبد الرحمن إلى موضع النعي، فقال للقاسم: يا أبا عبد الله، اتّقِ الله، فإنّك رجل فاضل في دينك، والله يقول: ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) (١) ، وقال: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ) (٢) .

قال القاسم: فأتم الآية: ( إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) (٣) مولاي هو المرضيّ من الرسول.

ثمّ قال: أعلم أنّك تقول هذا، ولكن أرَّخ اليوم، فإنْ أنا متُّ بعد هذا اليوم، أو متّ قبله، فاعلم أنّي لست على شيء، وإنْ أنا متّ في ذلك اليوم فانظر لنفسك.

فأرّخ عبد الرحمن اليوم وافترقوا، وحُمّ القاسم يوم السابع، واشتدّت العلّة به إلى مدّة، ونحن مجتمعون يوماً عنده، إذ مسح بكمّه عينيه، وخرج من عينه شبه ماء اللحم، ثم مدّ بطرفه إلى ابنه، فقال: يا حسن، إليّ، ويا فلان! إليّ.

فنظرنا إلى الحدقتين صحيحتين.

وشاع الخبر في النّاس، فانتابه الناس من العامّة ينظرون إليه.

وركب القاضي إليه، وهو: أبو السائب عتبة بن عبيد الله المسعودي، وهو قاضي القضاة ببغداد، فدخل عليه وقال له: يا أبا محمّد ما هذا الذي بيدي؟

وأراه خاتماً فضَّة فقرّبه منه؛ فقال: عليه ثلاثة أسطر لا يمكنني قراءتها، وقد قال لمّا رأى ابنه الحسن في وسط الدار قاعداً: (اللَّهُم ألهم الحسن طاعتك، وجنّبه معصيتك) قالها ثلاثاً، ثم كتب وصيته بيده.

وكانت الضِّياع التي بيده لصاحب الأمر (عليه السلام)، كان أبوه وقفها عليه.

____________________

(١) لقمان: ٣٤.

(٢) الجن: ٢٦.

(٣) الجن: ٢٧.

١٧١

وكان فيما أوصى ابنه: إن أُهِّلت إلى الوكالة فيكون قوتك من نصف ضيعتي المعروفة بـ (فرجيدة)، وسائرها ملك لمولانا (عليه السلام).

فلمَّا كان يوم الأربعين وقد طلع الفجر، مات القاسم، فوافاه عبد الرحمن يعدو في الأسواق حافياً حاسراً، وهو يصيح: (يا سيداه)، فاستعظم الناس ذلك منه؛ فقال لهم: اسكتوا، فقد رأيت ما لم تروا. وتشيّع، ورجع عمّا كان عليه.

فلمّا كان بعده مدّة يسيرة، ورد كتاب على الحسن ابنه من صاحب الزمان يقول فيه: (ألهمك الله طاعته، وجنبّك معصيته. وهو الدعاء الذي دعا لك به أبوك) (١) .

[حكاية ابن أبي سورة عن أبيه الزيدي]:

ومن معجزاته (عليه السلام) ما رواه ابن أبي سورة عن أبيه [أنّه قال: كان أبي من مشايخ الزيدية في الكوفة، وقد اشتهر عنه في الخبر تشيّعه، فسألت يوماً أبي عن سبب ترك الزيدية] (٢) .

قال: كنت خرجت إلى قبر الحسين (عليه السلام) أعرّف عنده. فلمّا كان وقت العشاء الآخرة، صلّيت، وقمت فابتدأت أقرأ الحمد، وإذا شابٌ حسن الوجه عليه جبّة سيفيّة، فابتدأ أيضاً قبلي، وختم قبلي.

فلمّا كان الغداة، خرجنا جميعاً من باب الحائر. فلمّا صرنا إلى شاطئ الفرات، قال لي الشاب: (أنت تريد الكوفة، فامضِ) .

فمضيت في طريق الفرات، وأخذ الشاب طريق البر.

قال أبو سورة، ثم أسفت على فراقه، فاتّبعته، فقال لي: (تعال) .

____________________

(١) الخرائج والجرائح ١: ٤٦٧ - ٤٧٠ / فقرة ١٤.

(٢) هذه الزيادة في الترجمة، ولا توجد في المصدر المطبوع.

١٧٢

فجئنا جميعاً إلى أصل حصن المسناة، فنمنا جميعاً، وانتبهنا، وإذا نحن على الغري على جبل الخندق، فقال لي: (أنت مضيق، ولك عيال، فامض إلى أبي طاهر الزراري، فسيخرج إليك من داره، وفي يده الدم من الأضحية، فقل له: شابّ من صفته كذا وكذا يقول لك: أعط هذا الرجل صرّة الدنانير الّتي عند رِجْل السرير مدفونة) .

قال: فلمّا دخلت الكوفة مضيت إليه، وقلت ما ذكر ليّ الشاب.

فقال: سمعاً وطاعة. وعلى يده دم الأضحية (١) .

[وبعدما اطلعت على أحوال هذا الشاب ازدادت محبّته في قلبي يوماً بعد يوم، ولم أعرف مَن يكون، إلى أن قال لي أخيراً: أُحدّثك أنّ هذا الشاب الذي تتحدث عنه إنّه الحجة بن الحسن (عليه السلام)، ومن بعد ذلك اخترت مذهب أهل البيت (عليهم السلا)] (٢) .

وروى نحو هذه الرواية أبو ذر أحمد بن محمّد بن أبي سورة، وهو أحمد بن محمّد بن الحسن بن عبيد الله التميمي، قال: [ضعت ليلة في برِّ العرب، فإذا بي أرى شاباً، فاتبعت أثره فمشيت أقداماً فرأيت نفسي] (٣) على مقابر مسجد السهلة، فقال: (هو ذا منزلي) .

ثمّ قال لي: (تمرّ أنت إلى ابن الزراري عليّ بن يحيى فتقول له: يعطيك المال بعلامة أنّه كذا وكذا، وفي موضع كذا ومغطّى بكذا.

فقلت: من أنت؟

قال: (أنا محمّد بن الحسن) .

ثم مشينا حتى انتهينا إلى النواويس في السحر، فجلس وحفر بيده، فإذا الماء قد خرج، وتوضأ ثم صلّى ثلاث عشرة ركعة.

فمضيت إلى الزراري، فدققت الباب، فقال: من أنت؟

____________________

(١) الخرائج والجرائح ١: ٤٧٠ و٤٧١ / فقرة ١٥.

(٢) هذه الزيادة في الترجمة، ولا توجد في المصدر المطبوع.

(٣) هذه الزيادة في الترجمة، ولا توجد في المصدر المطبوع.

١٧٣

فقلت: أبو سورة.

فسمعته يقول: مالي ولأبي سورة؟!

فلمّا خرج وقصصت عليه القصة، صافحني، وقبّل وجهي، ووضع يده بيدي، ومسح بها وجهه، ثم أدخلني الدار، وأخرج الصّرة من عند رِجْل السرير، فدفعها إليّ، فاستبصر أبو سورة، وبرئ من الزيدية (١) .

وقال مترجم "الخرائج" بعد نقل هذه المعجزة: الحاصل أنّ هذه الرواية، والرواية التي قبلها واحدة، ولكن فيها بعض الزيادات.

[حكاية محمّد بن هارون]:

والرواية الأخرى عن محمّد بن هارون الهمداني، قال:

كان للناحية عليّ خمسمائة دينار، فضقت بها ذرعاً، ثم قلت في نفسي [ليلة] (٢) : لي حوانيت اشتريتها بخمسمئة دينار وثلاثين ديناراً، قد جعلتها للناحية بخمسمئة دينار [يعني أؤدّيها وأسلّمها إلى وكلاء صاحب الزمان (عليه السلام) فأؤدّي ديني، فخرجت صباحاً من الدار قبل أن أحدِّث أحداً بما أردت في نفسي، فرأيت محمّد بن جعفر، فقال: هل قرّرت الليلة في نفسك أن تعطي الحوانيت؟ قال: نعم، فمن أين علمت؟ قال: لقد وَصَل اليوم توقيع صاحب الزمان (عليه وعلى آبائه صلوات الرحمن) وفيه] (٣) : أقبض الحوانيت من محمّد بن هارون بخمسمئة دينار التي لنا عليه (٤) .

[فعندما سمعت هذا الكلام من محمّد بن جعفر أجريت معه البيع الشرعي] (٥) .

____________________

(١) الخرائج والجرائح / الراوندي ١: ٤٧١ و٤٧٢ / فقرة ١٥.

(٢) هذه الزيادة في الترجمة، ولا توجد في المصدر المطبوع.

(٣) هذه الزيادة في الترجمة، ولا توجد في المصدر المطبوع، وبدل الجملة الثانية: (ولا - والله - ما نطقت بذلك. فكتب (عليه السلام) إلى محمّد بن جعفر: اقبض... الحديث).

(٤) راجع القصة في الخرائج ١: ٤٧٢ / فقرة ب١٦.

(٥) هذه الزيادة في الترجمة، ولا توجدي في المصدر المطبوع.

١٧٤

[حكاية أبي الحسن المسترق]:

والرواية الأخرى عن أبي الحسن المسترق قال: كنت يوماً في مجلس الحسن بن عبد الله بن حمدان ناصر الدولة، فتذاكرنا أمر الناحية، قال: كنت أزري عليها، إلى أن حضرت مجلس عمّي الحسن يوماً، فأخذت أتكلم في ذلك؛ فقال: يا بني! قد كنت أقول بمقالتك هذه إلى أن ندبت لولاية قم حين اُستصعبت على السلطان، وكان كل مَن ورد إليها من جهة السلطان يحاربه أهلها، فسلّم إلي جيش وخرجت نحوها.

فلمَّا بلغت إلى ناحية طزر، خرجت إلى الصيد، ففاتتني طريدة، فاتّبعتها، وأوغلت في أثرها، حتى بلغت إلى نهر، فسرت فيه، وكلّما أسير يتّسع النهر. فبينما أنا كذلك إذ طلع عليّ فارس تحته شهباء، وهو متعممٌ بعمامة خزّ خضراء، لا أرى منه إلاّ عينيه، وفي رجليه خفّان أحمران، فقال لي: (يا حسين)

فلا هو أمّرني ولا كنّاني؛ فقلت: ماذا تريد؟

قال: (لِم تزري على الناحية؟ ولِمَ تمنع أصحابي خمس مالك؟)

وكنت الرجل الوقور الذي لا يخاف شيئاً، فأرعدت منه وتهيّبته؛ وقلت له: أفعل - يا سيدي - ما تأمر به.

فقال: (إذا مضيت إلى الموضع الذي أنت متوجه إليه، فدخلته عفواً، وكسبت ما كسبته، تحمل خمسه إلى مستحقه) .

فقلت: السمع والطاعة.

فقال: (امض راشداً) .

ولوى عنان دابته، وانصرف، فلم أدرِ أي طريق سلك، وطلبته يميناً وشمالاً فخفي عليّ أمره، وازددت رعباً وانكفأت راجعاً إلى عسكري وتناسيت الحديث.

فلمّا بلغت قم، وعندي أنّي أريد محاربة القوم، خرج إليّ أهلها وقالوا:

١٧٥

كنّا نحارب مَن يجيئنا بخلافهم لنا، فأما إذا وافيت أنت، فلا خلاف بيننا وبينك؛ ادخل البلدة، فدبّرها كما ترى.

فأقمت فيها زماناً، وكسبت أموالاً زائدة على ما كنت أقدّر، ثم وشى القوّاد بيّ إلى السلطان، وحُسدت على طول مقامي، وكثرة ما اكتسبت، فعُزلت، ورجعت إلى بغداد. فابتدأت بدار السلطان وسلّمت عليه، وأتيت إلى منزلي، وجاءني محمّد بن عثمان العمري، فتخطّى الناس حتى اتكأ على تكأتي، فاغتظت من ذلك، ولم يزل قاعداً ما يبرح، والناس داخلون وخارجون، وأنا أزداد غيظاً.

فلمّا تصّرم الناس وخلا المجلس، دنا إليَّ وقال: بيني وبينك سرّ سامعه.

فقلت: قل.

فقلا: صاحب الشهباء والنهر يقول: (قد وفينا بما وعدنا) .

فذكرت الحديث [وارتعدت] (١) من ذلك، وقلت: السمع والطاعة.

فقمت فأخذت بيده، ففتحت الخزائن، فلم يزل يخمّسها، وإلى أن خمّس شيئاً كنت قد نسيته ممّا كنت قد جمعته، وانصرف ولم أشك بعد ذلك، وتحققت الأمر.

فأنا منذ سمعت هذا من عمّي أبي عبد الله زال ما كان اعترضني من شك (٢) .

[حكاية أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه]:

وروى أيضاً عن أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه قال:

لمّا وصلت بغداد في سنة تسع وثلاثين وثلاثمئة للحج، وهي السنة التي ردّ القرامطة فيها الحجر إلى مكانه من البيت؛ كان أكبر همي الظفر بمَن ينصب الحجر؛

____________________

(١) في المصدر: وارتعت. (المركز).

(٢) الخرائج والجرائح / للراوندي ١: ٤٧٢ - ٤٧٥ / فقرة ١٧.

١٧٦

لأنَّه يمضي في أثناء الكتب قصّة أخذه وأنّه ينصبه في مكانه الحجة في الزمان، كما في زمان الحجاج وضعه زين العابدين (عليه السلام) في مكانه فاستقر.

فاعتللت علّة صعبة خفتُ منها على نفسي، ولم يتهيَّأ لي ما قصدت له، فاستنبت المعروف بابن هشام، وأعطيته رقعة مختومة، أسأل فيها عن مدّة عمري، وهل تكون المنيّة في هذه العلّة، أم لا؟

وقلت: همّي إيصال هذه الرقعة إلى واضع الحجر في مكانه، وأخذ جوابه، وإنّما أندبك لهذا.

قال: فقال المعروف بابن هشام: لمّا حصلت بمكة وعزم على إعادة الحجر، بذلت لسدنة البيت جملة تمكّنت معها من الكون بحيث أرى واضع الحجر في مكانه، وأقمت معي منهم مَن يمنع عنّي ازدحام الناس، فكلّما عمد إنسان لوضعه اضطرب ولم يستقم، فأقبل غلام اسمر اللون، حسن الوجه، فتناوله ووضعه في مكانه، فاستقام كأنّه لم يُزل عنه.

وعَلَت لذلك الأصوات، وانصرف خارجاً من الباب؛ فنهضت من مكاني أتبعه، وأدفع الناس عنّي يميناً وشمالاً، حتى ظُنّ بن الاختلاط في العقل، والناس يفرجون لي، وعيني لا تفارقه، حتّى انقطع عن الناس، فكنت أسرع السير خلفه، وهو يمشي على تؤده ولا أُدركه.

فلمّا حصل بحيث لا أحد يراه غيري، وقف والتفت إليّ، فقال: (هاتِ ما معك) .

فناولته الرقعة؛ فقال من غير أن ينظر فيها:

قل له: (لا خوف عليك في هذه العلة، ويكون ما لا بدّ منه بعد ثلاثين سنة) .

قال أبو القاسم: فأعلمني بهذه الجملة.

فلمّا كان سنة تسع وستين، اعتل أبو القاسم، فأخذ ينظر في أمره،

١٧٧

وتحصيل جهازه إلى قبره، وكتب وصيته، واستعمل الجدّ في ذلك؛ فقيل له: ما هذا الخوف، ونرجو أن يتفضل الله تعالى بالسلامة، فما عليك مخوفة؟

فقال: هذه السنة التي خُوّفت فيها.

فمات في علّته (١) .

[وأجاب داعي الحق بعد ثلاثة أيام من وصيته (عليه رحمة الله الملك العبود)] (٢) .

[حكاية الزراري]:

والرواية الأخرى عن أبي غالب الزراري قال:

تزوَّجت بالكوفة امرأة من قوم يقال لهم: (بنو هلال)، خزّازون، وحصلت لها منزلة من قلبي، فجرى بيننا كلام اقتضى خروجها من بيتي غضباً، ورِمت ردّها، فامتنعت عليّ؛ لأنَّها كانت في أهلها في عزّ وعشيرة، فضاق لذلك صدري، وتجهَّزت إلى السفر، فخرجت إلى بغداد أنا وشيخ من أهلها، فقدمناها وقضينا الحق في واجب الزيارة، وتوجّهنا إلى دار الشيخ أبي القاسم بن روح، وكان مستتراً من السلطان، فدخلنا وسلّمنا، فقال: إن كان لك حاجة فاذكر اسمك هاهنا. وطرح إليّ مدرجة كانت بين يديه؛ فكتبت فيها اسمي واسم أبي، وجلسنا قليلاً، ثمّ ودّعناه، وخرجت إلى سُرّ مَن رأى للزيارة، وزرنا وعُدنا، وأتينا دار الشيخ، فأخرج المدرجة التي كنت كتبت فيها اسمي وجعل يطويها على أشياء كانت مكتوبة فيها إلى أن انتهى إلى موضع اسمي، فناولنيه، فإذا تحته مكتوب بقلم دقيق:

(أمَّا الزراري في حال الزوج أو الزوجة، فسيصلح الله - أو: فأصلح الله - بينهما) .

____________________

(١) الخرائج والجرائح / للراوندي ١: ٤٧٥ - ٤٧٨ / الفقرة رقم ١٨.

(٢) هذه الزيادة في الترجمة، ولا توجد في المصدر المطبوع.

١٧٨

وكنت عندما كتبت اسمي أردت أن أسأله الدعاء لي بصلاح الحال مع الزوجة، ولم أذكره، بل كتبت اسمي وحده، فجاء الجواب كما كان في خاطري، من غير أن أذكره.

ثم ودّعنا الشيخ وخرجنا من بغداد حتى قدمنا الكوفة، فيوم قدومي، أو من غده، أتاني إخوة المرأة، فسلّموا عليّ واعتذروا إليّ ممّا كان بيني وبينهم من الخلاف والكلام، وعادت الزوجة على أحسن الوجوه إلى بيتي، ولم يجرِ بيني وبينها خلاف ولا كلام مدّة صحبتي لها، ولم تخرج من منزلي بعد ذلك إلاّ بإذني حتّى ماتت (١) .

يقول أحد علماء الإمامية في كتابه الذي ألَّفه في مناقب العترة الطاهرة (عليهم السلام): نقل المعتقدون ببقاء الإمام المهدي (عليه السلام) قصصاً في شمول فيضه (عليه السلام) شيعته، وشفاء مرضاهم، وانتفاع الخلق به، وقضاء حوائج المحتاجين - لو جمعت لكانت كتابا كبيراً. ومنها حكايتان نقلهما صاحب "كشف الغمة" ، وهما مشهورتان، وإنّه قال: إنّني أنقل هاتين الحكايتين لقرب زمانهما إلينا؛ ولأنِّي سمعتها من إخواني الثقاة، صحيحي القول، وأنّ هذين الشخصين الذين وقعت الحكايتين لهما قد توفِّيا. وإنّي وإن لم أكن أراهما، ولكنِّي رأيت أبناءهما، وليس عندي شك في وقوع هاتين الحكايتين.

وقد نقل الجاني هاتين الحكايتين في كتاب "الشواهد النبوة" وإحدى هاتين الحكايتين (٢) :

____________________

(١) الخرائج والجرائح / للراوندي ١: ٤٧٩ و٤٨٠ / ح٢٠.

(٢) هكذا النص في الترجمة. وأمَّا في "كشف الغمة" المطبوع ٢: ٤٩٣، النص على النحو التالي:

وأنا أذكر من ذلك قصّتين قَرُب عهدهما من زماني، وحدَّثني بها جماعة من ثقات إخواني: كان في البلاد الحلِّية... إلخ، وسوف نقتصر في الأصل على ذكر القصّتين كما جاء في "كشف القمة" دون الإشارة إلى فوارق الترجمة.

١٧٩

[حكاية إسماعيل بن الحسن الهرقلي]:

كان في البلاد الحلّية شخص يقال له: إسماعيل بن الحسن الهرقلي، من قرية يقال لها: هرقل؛ مات في زمانه وما رأيته، حكى لي ولده شمس الدين، قال: حكى لي والدي:

إنّه خرج فيه - وهو شباب - على فخذه الأيسر توثة مقدار قبضة الإنسان، وكانت في كل ربيع تشقَّق ويخرج منها دم وقيح، ويقطعه ألمها عن كثير من أشغاله؛ وكان مقيماً بهرقل، فحضر الحلّة يوماً ودخل إلى مجلس السعيد رضي الدين عليّ بن طاوس (رحمه الله) وشكا إليه ما يجده منها، وقال: أُريد أن أداويها.

فأُحضر له أطباء الحلّة، وأراهم الموضع؛ فقالوا: هذه التوثة فوق العرق الأكحل وعلاجها خطر، ومتى قطعت خيف أن ينقطع العرق فيموت.

فقال له السعيد رضي الدين (قدِّست روحه): أنا متوجِّه إلى بغداد، وربَّما كان أطباؤها أعرف وأحذق من هؤلاء، فاصحبني.

فأُصعد معه، وأُحضر الأطباء، فقالوا كما قال أولئك.

فضاق صدره، فقال له السعيد: إنّ الشرع قد فسح لك في الصلاة في هذه الثياب، وعليك الاجتهاد في الاحتراس، ولا تغرِّر بنفسك؛ فالله تعالى قد نهى عن ذلك ورسوله، فقال له والدي: إذا كان الأمر على ذلك، وقد وصلت إلى بغداد، فأتوجّه إلى زيارة المشهد الشريف بسُرَّ مَن رأى (على مشرفه السلام)، ثم أنحدر إلى أهلي.

فحسّن له ذلك، فترك ثيابه ونفقته عند السعيد رضي الدين، وتوجَّه.

قال: فلمَّا دخلت المشهد، وزرت الأئمّة (عليهم السلام)، ونزلت السرداب، واستغثت بالله تعالى وبالإمام (عليه السلام)، وقضيت بعض الليل في السرداب، وبتٌّ في المشهد إلى الخميس، ثم مضيت إلى دجلة، واغتسلت، ولبست ثوباً نظيفاً، وملأت إبريقاً كان معي، وصعدت أُريد المشهد.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256