الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام0%

الإمام جعفر الصادق علیه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 333

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المستشار عبد الحليم الجندي
تصنيف: الصفحات: 333
المشاهدات: 92363
تحميل: 12184

توضيحات:

الإمام جعفر الصادق علیه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92363 / تحميل: 12184
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهو ينهى عن الظنة. فالظنين متهم. يقول «ضع أمر أخيك على أحسنه. ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا».

أما من فرط حيث تجب اليقظة فلا يلومن إلا نفسه - يقول الإمام «من كتم سره كانت الخيرة بيده» ويقول «لا تثقن بأخيك كل الثقة فإن سرعة الاسترسال لا تقال» ويقول «صدرك أوسع لسرك» و «سرك من دمك فلا تجره في غير أوداجك».

ويقول: «من خان لك خانك. ومن ظلم لك سيظلمك. ومن نم إليك سينم عليك».

ولما سئل عن الرجل العدل قال «من غض طرفه عن المحارم ولسانه عن المآتم وكفه عن المظالم».

والإخوان - عند الإمام - هم المواسون، فهم بين ثلاثة «مواس بنفسه وآخر مواس بماله وهما الصادقان في الإخاء، وآخر يأخذ منك البلغة ويريدك لبعض اللذة فلا تعده من أهل الثقة».

والإمام يأمر بالرفق بالناس. فينبه الذين يتطاولون ليتطامنوا. يقول (من الجور قول الراكب للراجل: «الطريق») فهو الراكب، وبيده الزمام، والطريق للناس كافة. وكفى الراجلين أنهم يمشون. وكفاه أنه فوق ظهر.

يقول الإمام «لا تسم الرجل صديقاً، سمة معرفة، حتى تختبره بثلاثة: تغضبه فتنظر غضبه أيخرجه عن الحق إلى الباطل. وعند الدينار والدرهم. وحتى تسافر معه».

ويقول «ثلاثة لا تعرف إلا في مواطن: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب. ولا الأخ إلا عند الحاجة» ومن التبذل تنقص الكرامة. يقول «لا تمار فيذهب بهاؤك. ولا تمزح فيجترأ عليك. ولا جهل أضر من العجب».

والغضب عند الإمام «مفتاح كل شر، بما فيه من ذبذبة للذات وزعزعة للتوازن، فعنده أن «من ظهر غضبه ظهر كيده»، بل إن «من لم يملك غضبه لم يملك عقله» في حين أن « المؤمن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل».

ويهتف الإمام بالشيعة «يا شيعة محمد. ليس منا من لم يملك نفسه عند الغضب، ويحسن صحبة من صاحبه، ومرافقة من رافقه، ومخالفة من خالفه».

٢٨١

وأي أدب للنفس والعقل كمثل ذلك الذي يعبر عنه الإمام بإحسان المخالفة - وما هو إلا الحلم والأناة، قرظهما رسول اللّه للمنذر إذ أتاه، في وفد عبد القيس، فقال له (فيك خلتان يحبهما اللّه عز وجل: الحلم والأناة).

وفي عبارات تأخذ شكل ثلاثيات، قليلة العدد جليلة الفحوى، يجمع الإمام آلاف الرذائل المدمرة في ستة أصحاب خرق. هم كالجيوب المخرورقة للمجتمع لا تبقي ولا تذر: وهم المرائي والكسلان والمسرف والمنافق والحاسد والظالم، تشتعل بنقائصهم نيران الرذالات جمعاء، وإذ يتكاثرون في كل مكان، بالعدوى والتناتج، ويستهين الناس بخطرهم على أنفس الأفراد ومقومات الجماعة وقوة الدولة. مع أن أخطارهم السلبية تتوازن في ضررها مع أعظم الإيجابيات فتفقد الأمم تماسكها.

وجمعها في صعيد واحد، وإجمالها في كلمات، آية على نفاذ البصيرة وإحسان البيان: يقول الإمام:

للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده. وينشط إذا كان الناس عنده. ويحب أن يحمد بما لم يفعل.

وللكسلان ثلاث علامات. يتواني حتى يفرط . ويفرط حتى يضيع. ويضيع حتى يأثم.

وللمسرف ثلاث علامات. يشتري ما ليس له. ويأكل ما ليس له. ويلبس ما ليس له.

وللمنافق ثلاث علامات. إذا حدث كذب. وإذا وعد أخلف. وإذا أؤتمن خان.

وللحاسد ثلاث علامات. يغتاب إذا غاب. ويتملق إذا شهد. ويشمت بالمصيبة.

وللظالم ثلاث علامات. يعصي من فوقه. ويعتدي على من دونه. ويظاهر الظالمين.

ولكل واحدة من هذه العلامات شعب يبلغ العلم بها أكثر من ألف باب.

المرأة

في فقه الإمام عناية بالغة بالنساء في الزواج والطلاق والميراث . وهي دعائم الأسرة وقوائم المجتمع. وقد عرضنا لبعضه، قبل. لكن اهتمامه الاجتماعي بالأسرة أو بالمرأة لا يقف عند الحكم الفقهي وإنما يتعداه إلى الترغيب والتهذيب بالنصح الدءوب. فمرآة المجتمع العظيم الأسرة السعيدة، وزينتها وحليتها المرأة الصالحة. وهي نصف الناس، وأم الجميع.

٢٨٢

يقول الإمام (اتقوا اللّه في الضعيفين: اليتيم والنساء).

ويقول (البنات حسنات والبنون نعم. الحسنات يثاب عليها. والنعم مسئول عنها).

وإذا كان البنات حسنات يلقى بهن المرء بارئه، فيزدنه درجات. فالإمام يجعل للأمهات درجة في طاعة أوامرهن، فيأمر بالمبادرة بطاعة الأم، إذا دعا الأبوان.

ويلقى على الأم في دارها واجب استثمار الزمن في خدمة الأسرة والأمة. ويفرض على المجتمع واجب إحصان أفراده بالتيسير في المهور. وعلى المرأة واجب التعاون في إنجاح الزوجية بالوفاء بحق الزوج. ويجمع بين حسن التبعل وبين حسن الجوار. فيقول: «الشؤم في المرأة كثرة صداقها وعقوق زوجها - وفي الدار ضيق ساحتها وشر جيرانها».

يقول عليه الصلاة والسلام (علموا أبناءكم السباحة والرماية ونعم لهو المرأة في بيتها المغزل) فهن مطالبات ألا يفتحن الأبواب للشيطان بالفراغ. مطالبات بأن يعملن ما يجمل بهن. والمرأة التي تمسك المغزل بيد، وتهز مهد الطفل بيد، تضم بين ذراعيها أسرة سعيدة. ولقد كان النساء آخر ما أوصى بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يقول الإمام (صلاح حال التعايش على مكيال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل) وهذه الأثلاث تتردد في مضامين ثلاثيات شتى، تجتمع وتفترق. لكنها كلها أركان لسعادة المجتمع الكبير الذي هو الأمة، والصغير الذي هو الأسرة. وقد سلف علينا في ثلاثية سابقة كيف قرن نكد الزوجية، بالنكد في الجيرة والسلطان الجائر. وهنا يستلفت الأنظار إلى ما يجب من إحسان العشرة، بالسلوك الرفيع والإنفاق اللازم. واحترام الذات حيث يقول «إن المرء يحتاج في منزله وعياله إلى ثلاث خلال يتكلفها، وإن لم يكن في طبعه ذلك: معاشرة جميلة. وسعة بتقدير، وغيرة بتحصن».

ثم يقول ليبين أثر المرأة في سلام الأسرة « ثلاث من ابتلى بهن كان طائح العقل: نعمة مولية، وزوجة فاسدة، وفجيعة نجيب» فهو يضع فسادها في منزلة بين المنزلتين. النعمة الضائعة، والفجيعة الحالة. في حين يقدمها عند صلاح حالها على فلذة الكبد والصديق الصافي إذ يقول «الأنس في ثلاثة: الزوجة الموافقة والولد البار والصديق الصافي».

٢٨٣

والرجل رأس الأسرة، لا يلقى مقاده أو مقادها إلى الزوجة، وإلا غرقت السفينة. يقول الإمام «ثلاثة من استعملها فسد دينه ودنياه. من ساء ظنه، وأمكن من سمعه، وأعطى قياده حليلته».

وفي هذه الثلاثية تجتمع سلبيات خلقية ثلاثة في دنيا الرجل. فتحل الأشباح حل الأشياء، والأصداء محل الأصوات، والنساء محل الرجال. وليس هذا عالم المسلمين.

وفي ثلاثية أخرى نرى تصنيفاً من نوع خاص «النساء ثلاثة: واحدة لك وواحدة عليك ولك. وواحدة عليك. أما التي لك فهي العذراء. والتي لك وعليك فهي الثيب. أما التي عليك فهي المتبع التي لها ولد من غيرك» وإنما ينبه الإمام الرجال ليزداد برهم بمن يمكن أن تكون لهم أو عليهم، كي يتكلفوا لها خصالا نص عليها: معاشرة جميلة وسعة بتقدير وغيرة بتحصن.

العلم

أينما ذهبت في سيرة الإمام فثم وجه العلم، والتعويل على العلماء، والتمسك بالخلق العلمي وأساليبه:

يقول لعنوان البصري: «اسأل العلماء ما جهلت وإياك أن تسألهم تعنتا وتجربة. وإياك أن تعمل برأيك شيئا. وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا. واهرب من الدنيا هربك من الأسد .).

ويقول لحمران بن أعين «العمل الدائم القليل، على اليقين، أفضل عند اللّه من العمل الكثير، على غير يقين».

وهذان القولان لعنوان وحمران نصيحتان نابعتان من منهج الإمام في الفقه وأصوله. فهو يلتزم الأشياء الثابتة والنصوص الواضحة. لأنها نقطة الارتكاز. وينصح بعدم المجازفة في طريق غير مؤكدة، يقول « العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا تزيده سرعة السير إلا بعدا».

ومن المنهج حسن التلقي وحسن الأداء فهو لا يجب المحال والعنت كما قال لعنوان «الجهل نقص في الدين والخلق ومعاملة الناس»، أو كما قال «الجهل في ثلاث: الكيد، وشدة المراء، والجهل باللّه».

٢٨٤

ويقول «ثلاثة يستدل بهن على إصابة الرأي: حسن اللقاء وحسن الاستماع وحسن الجواب» - أما البلاغة فهي «ليست بحدة اللسان ولا بكثرة الهذيان ولكنها إصابة المعنى وقصد الحجة».

وقديماً قيل: البلاغة الإيجاز. وقيل: من البلاغة حسن الاستماع.

والصادق ينبه العلماء والأدباء وكل صاحب موهبة، على أن «من أدب الأديب دفن أدبه».

إنما الطريق القاصدة طريق التقوى والاجتهاد والتأمل. يقول: «كثرة النظر في العلم تفتح العقل وكثرة النظر بالحكمة تلقح العقل» و «من أخلاق الجاهل الإجابة قبل أن يسمع ، والمعارضة قبل أن يفهم ، والحكم بما لا يعلم» و «الرجال ثلاثة عاقل وأحمق وفاجر: العاقل إن كلم أجاب. وإن نطق أصاب. وإن سمع وعى. والأحمق إن تكلم عجل ، وإن حدث ذهل ، وإن حمل على القبيح فعل والفاجر إن أئتمنته خانك وإن حدثته شانك».

ومن إجلاله وظيفة المعلم يقول (أربعة ينبغي كل شريف ألا يأنف منها. أولها خدمته لمن تعلم منه...».

و «العلم جنة . والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس. واللّه ولي من عرفه. العاقل غفور والجاهل ختور . ومن خاف العاقبة تثبت فيما لا يعلم. ومن هجم على أمر من غير علم جدع أنف نفسه». و «أكمل الناس عقلا أحسنهم خلقا».

و «الخشية طريق العلم. والعلم شعاع المعرفة وقلب الإيمان. ومن حرم الخشية لا يكون عالما».

٢٨٥

الدعاء

منهج أهل البيت في إصلاح الدينا هو المعرفة. وأولها معرفة الخالق جل شأنه بالعقل، وتثبيت الفهم بالخشوع والتقوى. فليس في غيرهما قناعة أو جدوى. يقول عليه الصلاة والسلام وعلى آله (أعوذ باللّه من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع). وفي ذات يوم ذهب قوم يقولون للإمام الصادق: ندعو. فلا يستجاب لنا فأجاب (لأنكم تدعون من لا تعرفونه) فمعرفة اللّه مطهرة للحياة. وصلة وثقى بين الرجاء والرضى وبين الدعاء والاستجابة.

والدعاء تزكية للنفس وسبيل لها إلى خالقها - بإخلاص تام - فهو ترياق من نفس الإنسان ومعراج إلى رضاء السماء بالالتجاء الكامل إلى اللّه، والانفصال في وقت الدعاء وحواليه عن الرذيلة. فإذا تعددت أوقاته، تكرر الانفصال مما يشين. وازداد العبد قربا، وأوقات قرب، من خالقه سبحانه. بالتكرار، وإخلاص النية. - ومن أجل ذلك يبرز الدعاء في مناهج الشيعة. ومؤلفاتهم كالصحيفة السجادية - نسبة إلى زين العابدين وفيها عشرات الأدعية. والبعض يسميها مزامير أهل البيت - ومصباح التهجد ومختصر المصباح وهما من مؤلفات الطوسي.

ومن ضروب التربية العصرية الإيحاء إلى الذات . وفي الدعاء إيحاء ورجاء، وتوجه إلى اللّه، وسعي لمرضاته.

وللأئمة دعوات مأثورة، تحويها صحف مشهورة، ولها مناسبات معلومة، وأوقات تمارس فيها. في الاصباح والأمسية والأيام والليالي والشهور. كأدعية ليلة الجمعة، أو رجب أو شعبان أو رمضان. وللصادق أدعية تتردد في كتب الصوفية. فيها الإيحاء العميق بالفضائل إلى نفس من يدعو، في موقف يعلم أن اللّه حاضره. وأنه المرجو سبحانه. فهي أداة إصلاح نفساني مقطوع النظير، فوق أنها نداء، يتعالى نحو السماء، في التماس المغفرة.

يقول «الشعبي» شيخ المحدثين من أهل السنة (عجبت ممن يقنط ومعه الممحاة). قيل وما الممحاة. (قال الاستغفار).

٢٨٦

ولقد كان الصادق يدعو اللّه في كل أوقاته. ومنها لقاءاته مع أبي جعفر حيث كان يدعو اللّه قبل أن يدخل عليه. فيثبت اللّه جنانه. ويحيل بطش الجبابرة إلى ما يشبه طنين الذباب. ومن المأثور عنه قوله «إن الدعاء يرد القضاء. وإن المؤمن ليذنب فيذهب بذنبه الرزق».

الفصل الثالث : المنهج الاقتصادي

« ليس خيركم من ترك آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته. خيركم من أخذ من هذه لهذه »

(حديث شريف)

المنهج الاقتصادي

ليس المنهج السياسي أو الاجتماعي - ومنهما الاقتصادي - إلا متابعة للمنهج العلمي من الواقعية وإعمال العقل والعمل للتقدم، وفق حاجات الزمن واختلاف الأقاليم، على أساس المساواة بين الناس وعمارة الدنيا بالعدل وإحسان القيام على مرافقها .

والمنهجان - سواء العلمي أو السياسي الاجتماعي - ينبعان من القرآن وتطبيقات السنة. وهما وجهان لعملة واحدة هي القيم الإسلامية. فكل ما أبعد من هذه القيم لا يكون إسلامياً وإن انتظم مسلمين. فالمسلمون لا يصلحون إلا أن يلتزموا قيم دينهم. وقد أصلها الإمام علي، وتابعه فيها الأئمة من بنيه.

ومن القيم الاجتماعية السليمة تنشأ القيم الاقتصادية المنجحة. ولذلك تتجلى الوحدة الموضوعية بين الدين والسياسة والاقتصاد، والوحدة الفنية بين علمي المالية والاقتصاد وبينهما وبين فن الإدارة، في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للأشتر النخعي.

وسنرى بعض المقولات فيه تكاد تكتب في النصف الثاني من القرن العشرين للميلاد بأيدي المصلحين الاقتصاديين العالميين. فهي عصرية أبداً لأنها إسلامية خالصة.

٢٨٧

يقول (وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم. ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم. لأن الناس عيال على الخراج وأهله . وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في جبابة الخراج. لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد. ولم يستقم أمره إلا قليلا . ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤنة عليهم فإنهم ذخر يعود عليك في عمارة بلدك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك(١) باستفاضة العدل فيهم.. فربما حدث من الأمور ما إذا عول فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم).

أما عن «نشاط الأفراد» في التجارة والصناعة والزراعة والخدمات، والبيع والشراء، وعن حرية الاتجار والانتقال والعمل كأداة للإنتاج، ففيها التعبير العلمي الرفيع عن التاجر والعامل، إذ يسميهما «المضطرب بماله» و«المترفق ببدنه». وفيها التأييد والتيسير والإشراف والمتابعة من السلطة والتعاون بين الراعي والرعية حيث يقول:

(ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً، المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه. فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح . فإنهم سلم لا تخاف بائقته. وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك. واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً . وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع. فامنع من الاحتكار...)

أما الطبقة الأخرى. وهي التي تمثل اليد السفلى، لعجزها، ولأنها تأخذ من اليد العليا لاقتدارها، فأوامره في صددها قاطعة. يقول:

(ثم اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمني. فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً . واجعل لهم قسما من بيت مالك .).

ولقد سلف القول عن المنهج السياسي لدى أمير المؤمنين. وهو المساواة التامة بين المسلمين في العطاء وحقوق بيت المال وترك الأرضين في أيدي أصحابها بعد الفتح، وغير ذلك مما يكشف لنا منهاجه الاقتصادي بتمامه. وفيما أوضحناه إشارة إلى ما لم نعرض له بتوضيح. والنظريات تكشفها كليات. والكليات والجزئيات والتطبيقات ينتظمها جميعاً أصل ثابت من قول الرسول:

___________________

(١) فرحك.

٢٨٨

 (ليس خيركم من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه. ولكن خيركم من أخذ من هذه لهذه).

(العمل)

العمل عند الشيعة قوة الإنتاج الكبرى. ومن أجل ذلك كان العمل للمعاش فرضا على المؤمن ليحيا في هذه الدنيا. ولا يجوع فيها ولا يعرى، أو تجرفه القوى، أو يحرفه الفراغ واللهو، أو تفسده طراوة الدعة - وأول ما ينبغي له البدء بتقوية النفس، وتبرئتها من الشح والطمع، وحثها على طلب الحلال. يقول الإمام (مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب العطشان منه ازداد عطشاً) و (أربعة تذهب ضياعا. الأكل بعد الشبع والسراج في القمر، والزرع في السبخة، والصنيعة عند غير أهلها) - أما المؤمن فهو « من طاب مكسبه وحسنت خليقته ووضحت سريرته وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من كلامه، وكفى الناس شره وأنصف الناس من نفسه، وهو حسن المعونة خفيف المؤنة جيد التدبير لمعاشه ولا يلسع من جحر مرتين».

ثم يضع الإمام الضوابط للسعي في الحياة وتحصيل المعايش فيقول: «ليكن طلبك للمعيشة فوق كسب المضيع. ودون طلب الحريص الراضي بدنياه. المطمئن إليها. أنزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف المتعفف. وترفع بنفسك عن منزلة الواهن الضعيف. وتكسب ما لابد منه للمؤمنين».

وهو إذ يوصي بالإجمال في الطلب، ينادي بالحكمة في الإنفاق، فيقول «إن السرف يورث الفقر وإن القصد يورث الغنى».

وتدبير المعاش أساسي ليجتمع للمرء مال يكفي نفسه. ويفضل منه على غيره، ويؤدي به واجبه في الدين والدنيا. ومن أجل ذلك كان الصادق يعمل بيده، ويتجر، وينفق أمواله على الناس، وهو الإمام القدوة، ليوجه أنظار شيعته للعمل في الحياة الدنيا، كي يقدروا على أعباء الحياة وأداء الزكاة وصلة الرحم والإنفاق في المحتاجين. ولا يمكن المرء من كل ذلك إلا رزق يحصله من دأبه. يقول الإمام « من لم يكن فيه خصلة من ثلاث لم يعد نبيلا. من لم يكن له عقل يزينه أو جدة تعينه أو عشيرة تقصده».

٢٨٩

والصحابة العظماء كانوا يعملون ليعيشوا. وما أكثر ما عمل «علي» ليعيش - وهو تراث أهل البيت الذين لا يضيعون الزمان سدى. يقول الإمام « الأيام ثلاثة: يوم مضى لا يدرك. ويوم الناس فيه فينبغي أن يغتنموه. وغد في أيديهم أمله» وما الاغتنام إلا بالعمل الصالح للنفس وللناس. أما من قعد يلتمس عطاء الآخرين فيده هي السفلى. ومثله مثل القاعد عن العبادة. أو كالذي ينتظر الذهب والفضة تساقطان من السماء.

يقول عن القاعدين: «الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر».

والشيعة في كل مجتمعاتهم يدأبون كدأب آبائهم أو أشد ويتقلبون في البلاد بتجاراتهم ، كهيئة ما كانوا يتقلبون في الأيام الأولى مع إلزام صاحب المال المسئولية عن طريقة كسبه و أبواب إنفاقه . يقول يحيى بن معاد (مصيبتان لم يسمع بمثلهما في الأولين والآخرين للعبد في ماله عند موته: يؤخذ منه كله. ويسأل عنه كله).

وهم إلى جوار إيجابهم العمل يوجبون الاستقلال فيه. وعدالة توزيع الرزق منه. فلا يجوزون الشركة المطلقة بين اثنين في كل نشاطهما . وشرط الشركة وجود رأس المال. وهم يسمون الشركة بدونه «شركة أبدان» ولا يصححونها. لأن كل إنسان مستقل بجهده. ومنافع جهده له - فإذا أخذ من الآخر أخذ ما لا يستحق - وفي هذا حض على الاستقلال الشخصي، والسعي الخاص، حتى لا يكون أحد كلا على غيره. وكمثلهم الشافعي لا يجوز هذه الشركة. فلكل ما سعى.

وهم أعداء للتواكل - جاء أمير المؤمنين عليا العلاء الحارثي فقال: يا أمير المؤمنين أشكوا إليك أخي عاصما. لبس العباءة وتلخص من الدنيا. قال : علي به. فلما جاء قال (يا عدو نفسه. لقد استهام بك الخبيث. (الشيطان) أما رحمت أهلك وولدك. أترى اللّه أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها: أنت أهون على اللّه من ذلك) قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك قال: (ويحك إني لست كأنت. إن اللّه قد فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس).

٢٩٠

ولكم كان رقيقا صاحب هذا الملبس الخشن إذا عامل الضعفاء . ولو كانوا غير ناس، أو كانوا من الأعداء: كان يوصي من في يده إبل الصدقة ألا يحول بين ناقة وفصيلها، وأن لا يبالغ في حلبها خشية أن يضر ذلك بوليدها. وأن لا يركب ناقة ويدع غيرها. بل يسوي في الركوب بينها وبين صاحباتها .

ولما حال بينه وبين الماء جند معاوية حاربهم عليه فأجلاهم عنه. ثم سقاهم منه ليسويهم في الماء بجنده

المضطرب بماله والمترفق بيده. أو: التجارة والصناعة

إذا كانت الحضارة الغربية لم تفطن إلى أن العمل أداة الإنتاج الأولي إلا في العصور الأخيرة فلقد طالما أعلنت ذلك السماء. والعمل التجاري أو اليدوي ميراث الأنبياء. ومن عمل الصحابة تعلم الناس جلال قدر المضطرب بماله أو المترفق بيده، أو ببدنه، كما يعبر أمير المؤمنين.

والصادق يمسك المسحاة ويعمل في بستان له، وحبات العرق تنساب كالبلور المذاب، على الجبين المزهر فيهيب به تابع له: جعلت فداك. أعطني المسحاة أكفك. فيجيبه (إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة) وكان عندئذ يلبس قميصا ويفتح الماء بالمسحاة ويقول: «إني لأعمل في بعض ضياعي ولي ما يكفيني ليعلم اللّه عز وجل أني أطلب الرزق الحلال».

وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتناوب ركوب راحلته ويقول لزميليه في السفر (علي وأبي لبابه) حينما أرادا أن يستمر راكبا في نوبتهما (ما أنتما بأقوى على المشي مني. وما أنا بأغنى عن الأجر منكما) وكان ينزل عن بغلته ليركب من يأخذ بزمامها معه ويقول لمن يريد حمل شيء بدلا منه (صاحب الشيء أولى بحمله).

أما أمير المؤمنين علي فيحمل لأهله التمر والبلح في ثوبه ويقول:

لا ينقص الكامل من كماله

ما جر من نفع إلى عياله

ويروي «علي» أن الزهراء أجرت الرحى حتى أثرت الرحى بيدها. وقمت البيت حتى اغبرت ثيابها. وأوقدت القدر حتى اسودت ثيابها وأصابها من ذلك ضر. ويقول عطاء.

٢٩١

إن كانت فاطمة لتعجن حتى أن قصتها لتصيب الجفنة.

وأي عظمة في الدنيا كعظمة اليد العليا، وهي تعمل لبناية الدنيا فتعطي.

لقد قبل رسول اللّه اليد التي تحمل المسحاة يوم أقبل من تبوك، فلقيه سعد الأنصاري فنظر إلى يد سعد وقال: «ما هذا الذي أكتب يديك»؟ فقال: يا رسول اللّه أضرب بالمر والمسحاة فأنفقه على عيالي. فقبل رسول اللّه يده وقال: «هذه يد لا تمسها النار».

ولما أعطى الرسول اليد العاملة أمانا من النار، جعل العمل عبادة. وإن ورد النص على العمل البدني. فما هي إلا إشارة لكل عمل. وهو عليه الصلاة والسلام القائل (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي الجبل فيجيء بحزمة حطب على ظهره فيبيعها. ويستغني، خير له من أن يسأل الناس. أعطوه أو منعوه).

وهو عليه الصلاة و السلام - وعلى آله - ينبه على قيمة الوقت والالتزام بالواجب والبدء بالعمل النافع فيقول (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها. وإن استطاع ألا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها).

وأي جلال كجلال رسول اللّه وهو يعمل بيده، من أجل تحرير شيخ من أشياخ الشيعة العظماء، ليحفظ الشيعة لأنفسهم وللدنيا معهم، ذلك الدرس العظيم: أن العمل والحرية صنوان. وأن كلا منهما وسيلة للآخر.

أرسل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب إلى خليسة مولاة سلمان الفارسي، وكانت قد اشترته بثلثمائة درهم من أعراب حملوه إلى يثرب. ومكث معها ستة عشر شهرا حتى قدم النبي يثرب. فسميت المدينة. فأتاه سلمان فأرسل النبي عليا إلى خليسة، بعد إذ أسلمت، لتعتق سلمان. قالت: قل للنبي إن شئت أعتقته، وإن شئت أعتقته، وإن شئت فهو لك، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعتقيه أنت» فأعتقته. فغرس لها رسول اللّه ثلثمائة فسيلة.

٢٩٢

وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (سلمان منا أهل البيت)(١) .

ومع أن الإمام الصادق يرى إنفاق المال في البر تجارة مربحة فيقول(إني لأملق أحيانا فأتاجر مع اللّه بالصدقة فيربحني وأتسع) أي أنه يوجب الإنفاق، في حالي اليسر والإملاق، ويرى علاجا للفقر أن يتعامل مع اللّه بعطائه للفقراء. فهو في الوقت ذاته يشجع الناس على العمل، والمجتمع الشيعي مجتمع العاملين لا يتسع للمتسولين والإمام الصادق - من جراء ذلك - يؤثر عطاء الذين لا يسألون الناس على الذين يسألون. ولو قام أهل الإسلام بواجب الإنفاق لما افتقر مسلم واحد.

___________________

(١) أضافه النبي إلى أهل البيت فصلا من النبي في تنازع المهاجرين والأنصار عليه إذ كان كل من الفريقين يريده واحدا منهم.

وكان سلمان في انتسابه لأهل البيت حيث أراد صاحبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فهو صاحب الرأي بحفر الخندق في يوم غزوة الخندق (الأحزاب) وعلي هو الذي قتل عمرو بن عبدود فارس العرب يوم ذاك - فلأهل البيت في هذه المعركة القدح المعلى.

وكان حكيما. إذا خلا به رسول اللّه لم يبغ أحدا غيره. عينه عمر أميراً على المدائن عاصمة فارس فكان يوزع عطاءه على الناس (خمسة آلاف درهم) ويعمل الخوص بيده ويبيعه بثلاثة دراهم ينفق واحدا ويتصدق بواحد ويشتري خوصا جديداً بواحد. وذات يوم دخلوا عليه دار الإمارة فوجدوه يعجن بيده. قال: بعثنا الخادم في عمل فكرهنا أن نجمع عليه عملين.

رآه رجل قادما من الشام فحسبه من ضخامة جسمه حمالا. فأعطاه حملا وقال اتبعني. فحمله وتبعه. ورآه الناس فتسارعوا يحملون حمل الأمير قال: لا . فرجاه الرجل، إذ أدرك مقامه، فأبى وقال: لا حتى أبلغ منزلك. وثمة وضع الحمل في مكانه وقال (أني احتسبت بما صنعت خصالا ثلاثة: أني نفيت عني الكبر. وأعنت رجلا من المسلمين على حاجته. وإن لم تسخرني سخرت من هو أضعف مني فوقيته بنفسي).

فهو يحمل الحمل عن رجل ضعيف. ولا يخزى صاحب الحمل بتعريف نفسه. وينفي عنها الكبر وهو أمير فارس لكنه يحفظ وصية صاحبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول (أوصاني خليلي ألا يكون متاعي من الدنيا إلا كزاد الركب).

وحسبه قول أمير المؤمنين علي عنه (من لكم بمثل لقمان الحكيم).

٢٩٣

فالعمل بكل أموال الأمة يجعل الحبة الواحدة مائة جنه ذلك تقدير العزيز الحكيم في تشريعه. والصدقة تربى أو على الأقل لا تنقص. يقول عليه الصلاة والسلام (ما نقصت صدقة من مال) بل يقول (إنما ترزقون بضعفائكم).

والعمل في الصناعة والتجارة مدرسة الدنيا. ووسيلة لعمارتها بالكسب الحلال. وأداء حق المال. وهو محل إكبار المسلمين أجمعين. يتراءى في كثير من أسماء جلة الفقهاء(١) .

والصادق هو القائل: «الشاخص في طلب الحلال كالمجاهد في سبيل اللّه» والقائل: «إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا (لا) سقط من عيني».

ويقول الإمام الباقر (الصدقة لا تحل لمحترف ولا لذي مرة سوى). فالمحترف غني بحرفته. وذو القوة غني باقتداره على العمل.

والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «ملعون من ألقى كله على الناس».

سأل إبراهيم بن أدهم(١٦٢) تلميذه شقيق البلخي(١٩٥) وهما الزاهدان الشهيران: ما بدء أمرك الذي أبلغك هذا؟ قال شقيق: مررت ببعض الفلوات فرأيت طائرا مكسور الجناحين في فلاة من الأرض. فقلت أنظر من أين يرزق هذا. فقعدت بحذائه: فإذا بطير أقبل وفي منقاره جرادة فوضعها في منقار الطير مكسور الجناحين. فقلت في نفسي: إن الذي قيض هذا لهذا قادر أن يرزقني حيث كنت. فتركت التكسب واشتغلت بالعبادة.

___________________

(١) أطلقت الأوصاف من كثير من الحرف على عظماء الفقهاء الذين يحترفونها (الخصاف - القدوري - الكرابيس - القفال - الصابوني - الحلواني - النعالي - البقالي - الصفار - الجصاص التبان . الخ) - وقد عمل أئمة أهل السنة الأربعة. وعمل الصحابة التابعون.

ومن علماء الشيعة نصر بن مزاحم (مؤلف كتاب صفين) وداود بن أبي يزيد. وداود بن سرحان: كانوا عطارين. وميثم التمار يبيع التمر. ومؤمن الطاق. وخالد بن سعيد ومحمد بن خالد وصبيح بن أبي الصباح كانوا صيارفة. والشيخ آدم. كان يبيع اللؤلؤ. ورفاعة بن موسى كان نحاساً. وابن حدير كان طحانا. وعبد اللّه بن ميمون كان قداحا (يبرى القداح).

٢٩٤

قال إبراهيم: ولم لا تكون أنت الطير الصحيح الذي أطعم الطير العليل حتى تكون أفضل منه؟ أما سمعت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن «اليد العليا خير من اليد السفلى».

وخرج الإمام الصادق يسعى للرزق في يوم صائف شديد الحر. فقالوا: يا ابن رسول اللّه هذه حالك عند اللّه عز وجل، وقرابتك من رسول اللّه، وأنت تجهد نفسك في هذ اليوم فقال لمن حدثه «خرجت في طلب الرزق لأستغني عن مثلك».

ولما أخبروه يوما عن رجل يقول: لأقعدن ولأصلين ولأعبدن اللّه قال «هذا أحد الذين لا يستجاب لهم».

ولا بأس أن يجد العامل في عمله بعض مشقه، فما هي إلا زيادة في الفضيلة فيه أو الهناءة به.

جاءه من يرجوه ليدعوه اللّه ألا يجعل رزقه على أيدي العباد، فأجابه (أبى اللّه عليك ذلك. آلى اللّه ألا أن يجعل رزق العباد بعضهم من بعض، ولكن ادع اللّه أن يجعل رزقك على أيدي خيار خلقه. فإنه من السعادة. ولا يجعله على أيدي شرار خلقه. فإنه من الشقاوة).

والصادق بهذا التنبيه يلفت النظر إلى أن التعامل يقتضي وجود طرفين، والسعيد من صلح طرفه الآخر. وهو فوق ذلك يكمل نقصا لدى كثير من الصالحين الذين يفوتهم أن خوض الغمرات للرزق، مع النجاة من ارتكاب الإثم في تحصيله، درجة أعلى في الفضل - بل هو يبصرهم بالمكروه الذي يلقاه الناس إذ يبتغون غضارة العيش أو نضارة الحياة.

يقول (ليس من أحد وإن ساعدته الدنيا بمستخلص غضارة عيش إلا من خلال مكروه).

والغضارة نضارة ووضاءة وصلاح بال، لا يمكن أن تكون بمعدى عن المكاره، ومنها الإيجابي الذي يستوجب النضال، ومنها سلبي، يتراءى فيما يفقده المرء من ذات نفسه بإضعاف قدرته على التحمل، أو منعها من العمل، أو مصير ذاته إلى الترهل. ومنها ما يتقاضاه الناس من أعراض الناضرين إذ يمسون أغراضا لسهام الكلام.

٢٩٥

وإنما ينضر اللّه عبدا سمع مقال الرسول ووعاه أسلوبا في الحياة، وما هو إلا الجد وأداء الواجب. والاقتصاد في مظاهر الرفاه. وهو أقوم وأسلم.

وينضر الإمام وجه العمل ذاته ليزيد العامل قوة، ويزيد الأداء أناقة، وصلات المتعاملين وثاقة، حيث يقول (كل ذي صناعة مضطر إلى ثلاث خصال يجتلب بها الكسب: أن يكون حاذقا بعمله. مؤديا للأمانة. مستميلا لمن استعمله).

ولما ختم الخصال الثلاثة بالاستمالة كان يوجه من استعمل غيره أو استعمله غيره: ليدخل قلب عميله في حسابه. فهذا درس إسلامي اجتماعي في المحبة، مثلما أنه درس اقتصادي في إحسان الصناعة ووثاقة العلاقة. ولباقة الأخذ. ولياقة العطاء. والحياة كلها أخذ وعطاء.

التجارة

روى المعلى بن خنيس تابع الإمام(١) : رآني أبو عبد اللّه وقد تأخرت عن السوق فقال: اغد إلى عزك.

قال معاذ قلت لأبي عبد اللّه هممت أن أدع السوق قال «إذن يسقط رأيك ولا يستعان بك على شيء».

وقال لمن ترك التجارة «لا تتركها فإن تركها مذهبة للعقل اسع على عيالك و إياك أن يكونوا هم السعاة عليكم».

___________________

(١) قتله داود بن علي - أمير المدينة لأبي جعفر المنصور - وصادر ما تحت يديه، من أموال كانت أموال الإمام الصادق، في نوبة من نوبات البطش التي اجتاحت المدينة وأهل البيت، بتهمة أنه لم يدل داود على اثنين من العلويين كان يبحث عنهما - وقصد الإمام إلى دار الإمارة يصيح في وجه داود بل يتهدده (قتلت مولاي وأخذت مالي . أما علمت أن الرجل لا ينام على الحرب)؟ فتنصل داود من المسؤلية وأمر بقتل القاتل فصاح هذا الأخير (يأمرونني بقتل الناس فإذا أمرت بقتلهم قتلوني).

٢٩٦

وسأل عن تلميذ له: ما حبسه عن الحج؟ فقيل قل شيئه. فاستوى جالسا - وكان متكئا - وقال: لا تدعوا التجارة فتهونوا.

وكسب المال من حله وإنفاقه في محله واجبان على المسلم. والتجارة ممارسة وتعامل، أي مران على الشئون العامة والخاصة. والتاجر أعلى عينا بالأمور. وأقدر على مد يد العون للآخرين - وفي الاضطراب في الأسواق إثراء للجماعة، وتخطيط مشترك للمعايش، وهو قبل ذلك امتحان مستمر للنزاهة والبعد عن المحرمات.

وعناية الشيعة بتوضيح الحلال والحرام في التجارة ظاهرة في نصوص الفقه. فالمحرم مما يكتسب به. أنواع:

١ - الأعيان النجسة كالخمر.

٢ - الآلات المحرمة . كآلات القمار.

٣ - ما يقصد به المساعدة على المحرم كبيع السلاح لأعداء الدين.

٤ - ما لا ينتفع به كالمسوخ.

٥ - الأعمال المحرمة كالغناء عدا المغنية لزف العرايس، إذا لم تغن بالباطل ويدخل عليها الرجال، والنوح بالباطل: أما بالحق فجائز. وهجاء المؤمنين. وتعليم السحر والكهانة.

٦ - الأجرة على القدر الواجب من تغسيل الأموات.

ولا بأس بالرزق من بيت المال. وكذا على الأذان. أما جوائز الظالم فمحرمة إن علمت بعينها، والولاية من العادل جائزة. وربما وجبت. والولاية من الجائر محرمة، إلا مع الخوف، - فلو تيقن التخلص من المأثم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استحبت.

وكما يعمل الإمام بيده ليتعلم الناس، يتجر بماله ليعلمهم دروسا في التجارة - بالتطبيق العملي الذي تشهده الملايين فتتعلم. وهو أجدى عليها من أن تعطي ملايين تنفقها ولا تتعلم.

٢٩٧

دعا يوما مولاه مصادف فأعطاه ألف دينار وقال له تجهز حتى تخرج إلى مصر فإن عيالي قد كثروا. فتجهز بمتاع. وخرج مع التجار حتى إذا دنوا من مصر، استقبلتهم عير خارجة منها، فسألوهم عن المتاع الذي يحملونه ما حاله في مصر، وما متاع العامة؟ فعلموا منهم أن ليس بمصر منه شيء. فتحالفوا على ألا ينقصوا من ربح دينار دينارا . ووسع عليهم في الربح. ثم فصلت العير عن مصر إلى المدينة بالكسب العميم. ودخل مصادف على مولاه ومعه كيسان في كل منهما ألف دينار. وقال: جعلت فداك. هذا رأس المال وهذا الربح.

قال الصادق: إن هذا الربح كثير. ماذا صنعتم؟ فحدثه كيف سألوا وكيف توافقوا وكيف باعوا.

قال الصادق: سبحان اللّه تحلفون باللّه على قوم ألا تبيعوا أو يربح الدينار دينارا

ثم أخذ واحدا من الكيسين فقال: هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في الربح. ثم قال: «يا مصادف. مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال».

هكذا بورك لمصر في متاع الإمام. لكن الإمام لم يقبض درهما من أموال مصر. أن قد أساء البيع الوكلاء. مذ كانوا محتكرين. ولا «يحتكر إلا خاطئ». وهذا أول الدروس. وهي كثيرة. منها أن زيادة الجهد واجبة عند كثرة العيال. وأن ترك ما فيه شبهة هو الحق، وأن النظر إلى الأمة كلها واجب. وهو أوجب على العلماء والرعاة.

كان إذا جاع الناس صنع صنيع آبائه فأخذ جرابا فيه الخبز واللحم والدراهم على عاتقه، فذهب إلى ذوي الحاجات من أهل المدينة فقسمها فيهم وهم لا يعرفونه، حتى إذا مات افتقدوه فعلموا أنه «الإمام الصادق».

وما جاع قادر إلا ذكر البطون الخاوية.

وفي سعة أرزاق الحمقى عبرة للعقلاء. يقول الإمام: (إن اللّه تعالى وسع أرزاق الحمقى ليعتبر العقلاء ويعلموا أن الدنيا لا ينال ما فيها بعمل ولا حيلة).

٢٩٨

و(كم من طالب للدنيا لم يدركها. ومدرك لها قد فارقها. فلا يشغلنك طلبها عن عملك. والتمسها من معطيها. ومالكها. فكم من حريص على الدنيا قد صرعت . ما الدنيا؟ هل الدنيا إلا أكل أكلته أو ثوب لبسته. أو مركب ركبته؟)

ولا تعاب القلة وإنما تعاب الرذيلة. ومنها التظاهر والإعلان الكاذب. والصدق صفة المتعاملين مع اللّه، والقليل مع الصدق كثير. ومن ثمة بركات اللّه. في النفس والعقل والمال، للصادقين.

والصادق يعد بهذا كله في كلمته الجامعة «من أراد اللّه بالقليل من عمله أظهر اللّه منه أكثر مما أراد».

يقول لمن ساعد - بغير أجر - في عمل لم يجد صاحبه مالا ليكري من يساعده فيه (أما أنك إن تساعد أخاك أحب إلي من طواف أسبوع في البيت).

وترى من ذلك بروز «العمل الصالح» في أبواب العبادة وتقديمه بين النوافل.

والصادق يخصص بعض ماله للإصلاح أياً كان وجهه.

تشاجر رجلان على ميراث فمر بهما المفضل بن عمر - صاحب الإمام - فدعاهما إلى منزلة فأصلح بينهما بأربعمائة دينار من جيبه، حتى إذا استوثق كل منهم من صاحبه، قال المفضل: إنها ليست من مالي إن الإمام أمرني إذا رأيت اثنين من اصحابنا يتنازعان أن أصلح بينهما من ماله.

٢ - المال

هذه القوة الكبرى للإنتاج وهي العمل، تعاونها قوة أخرى هي المال، شريطة أن يستعمل. فإذا لم يستعمل تنقصته الزكاة عاما بعد عام حتى تقضي عليه. ومن أجل ذلك صار مباحا الاتجار في مال اليتيم لحسابه حتى لا يأكله الزمن - وإنما يستعمل المال في التجارة وفي الصناعة والزراعة وسائر الوجوه. فلا يكنز ولا يؤخذ عليه ربا، بل بتواصل المسلمون فيه بالمعروف.

٢٩٩

سئل الصادق: لم حرم اللّه الربا؟ وأجاب: لئلا يتمانع الناس المعروف). والمعروف مطلوب في العلاقات العادية والمالية وبين جميع المتعاملين، في القروض ونظرة الميسرة أو المشاركة في مخاطر الاتجار أوالاستصناع والمزارعة والخدمات، وسواها، لتجري الأرزاق لهم، من اللّه، على أيديهم.

وأول الواجبات في المال أن يكون أداة تعمير للدنيا باستثماره، وللأنفس بمشاركة المحتاجين إليه، سواء للعمل به أو للعيش منه. وألا يكون وسيلة للاستعلاء وإنما وسيلة للتواصل. يتأدى بها المسلم إلى العمل الصالح. ومن الأوليات في هذه الواجبات الاقتصاد والترفق:

يقول الإمام «أيما أهل بيت أعطوا حظهم من الرفق فقد وسع اللّه عليهم في الرزق والرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال». والرفق لا يعجز عن شيء. والتبذير لا يبقي معه شيء.

وفي القليل كفاية مع القناعة. والكثير لا يغني مع السرف .

وفي المعنى ذاته يقول الصادق « ضمنت لمن أقتصد الا يفتقر» وإنما يفتقر من يتجاوز الحدود، ويبعثر قواه، ويخسر أشياءه.

وبالرفق في الأمور تجري الحياة بين الناس على نسق مقبول. يقول الإمام «من كان رفيقا في أمره نال ما يريده من الناس».

واللّه تعالى يحب الرفق في الأمر كله.

العبادة وانفاق المال

يكاد أكثر ما جمع من تعاليم الإمام في الأبواب الاجتماعية والاقتصادية، يتجه بفحواه شطر هذا الوجه من وجوه العبادة.

واللّه تعالى يصف المتقين في محكم كتابه، في أول صفحاته، بأنهم (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون).

٣٠٠