الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام0%

الإمام جعفر الصادق علیه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 333

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المستشار عبد الحليم الجندي
تصنيف: الصفحات: 333
المشاهدات: 92341
تحميل: 12184

توضيحات:

الإمام جعفر الصادق علیه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92341 / تحميل: 12184
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وكل نعمة رزق. يقول عليه الصلاة والسلام (نعمتان مغبون فيهما أكثر الناس. الصحة والفراغ) فهاتان نعمتان يسأل عنهما الإنسان. والإمام يقول: « المعروف زكاة النعم ». فالمعروف زكاة واجبة لمجرد الفراغ من التبعات والسلامة من المرض.

ومن التطبيق الإسلامي للإنفاق ووجوهه المادية والمعنوية يظهر أنه العبادة الإسلامية الشاملة لكل الناس، ولكل شيء ولكل ساعة في الحياة يتاح فيها مد يد بالمودة للغير. بالعطاء أو قبول العطاء، والإقراض أو الاقتراض، ودفع الأذى، أو مجرد المعونة. بالفعل أو القول، أو بالعمل المادي، أو بمجرد الكف عن الأذى، وما إلى ذلك من أبواب التعاون بين أفراد المجتمع. سواء بالمال أو بالسعى أو بالجاه أو بمجرد الاهتمام.

واهتمام المسلم بما أهم المسلم هو الذي يهب المقرور دفئا، والمكروب برءاً، والمنكوب طمأنينة.

يقول صاحب الشريعة (من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم)

ولما حصرت الشريعة الفرائض رحمة من اللّه بعباده المكلفين، أطلقت المندوبات، لتتيح لهم أن يتطوعوا بالعمل الصالح كيفما قدروا وحيثما وفقوا - وبخاصة في إنفاق المال - ثم أكثرت الحض عليه، ثم جعلته ممكنا للجميع، وفي وجوه النشاط الإنساني جميعها.

يقول الإمام «ليعن بعضكم بعضا فإن أبانا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: «إن معونة المسلم خير وأعظم أجرا من صيام شهر واعتكافه شهرا في المسجد الحرام» وإياكم وإعسار أحد من إخوانكم المسلمين فإن أبانا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول «ليس المسلم أن يعسر مسلما. ومن أنظر مسلما أظله اللّه يوم القيامة بظله حيث لا ظل إلا ظله .»

وذات يوم قال رجل: إن بيني وبين رجل منازعة في أمر وإني أريد أن أتركه فيقال لي إن تركك ذلة. فقال الإمام (إن الذليل هو الظالم). فهو لا يرى الترك عيبا إنما العيب بالظلم، أيا كان مصدره، التارك أو المتروك له.

٣٠١

ودخل عليه عمار الساباطي فقال له: «يا عمار إنك رب مال كثير فتؤدي ما افترض عليك اللّه من الزكاة؟ قال نعم. قال فتخرج الحق المعلوم من مالك؟ قال نعم. قال: فتصل قرابتك؟ قال: نعم. قال فتصل إخوانك قال نعم. قال: يا عمار إن المال يفنى. والبدن يبلى. والعمل يبقى. والديان حي لا يموت. يا عمار. ما قدمت فلم يسبقك. وما أخرت فلن يلحقك»

والأيادي قروض، والإمام يعد بالرد المضاعف، ويعلن فضل من أعطى. ويؤثر عليه فضل الآخذ. والعرف لا يذهب بين اللّه والناس.

قال له تلميذ: إني لا أتغذى أو أتعشى إلا ومعي اثنان أو ثلاثة. أو أكثر. فأرضاه الإمام بالجزاء الموعود، وأعلن له أن فضلهم يفوق فضله. قال (فضلهم عليك أكثر من فضلك عليهم. إذا دخلوا عليك دخلوا بالرزق الكثير)(١)

والإمام يحض على دوام التواصل، إذ يجعل النعمة التي يخولها المعطي للآخذ نعمة تتكرر إذ تشكر، لتتكرر. يقول «اشكر من أنعم عليك. وأنعم على من شكرك. فإنه لا إزالة لها إذا شكرت ولا إقالة لها إذا كفرت».

والبخل قبض القادر يده عن العطاء ونفسه عن الأمل. فذلك داء البخلاء. والإمام الذي يوجب السخاء عند إقبال الدنيا وحين يفيض الخير، يوجب الرجاء والصبر عند إدبارها. فالدنيا تدور. يقول (عجبت لمن يبخل بالدنيا وهي مقبلة عليه أو يبخل بها وهي مدبرة عنه. فلا الإنفاق مع الإقبال يضره. ولا الإمساك مع الإدبار ينفعه).

___________________

(١) قارن هذا المجتمع الإسلامي الذي يقول فقهاؤه (ما المعطي عن سعة بأفضل من الآخذ لو كان محتاجا) بالمجتمع الإنجليزي الذي جاء بعد ذلك بقرون سبعة في عصر الملكة اليزابيت(١٥٥٨ - ١٦٠٣) وفيه صدرت قوانين بإعدام المتسولين وأعدم بها المئات.

٣٠٢

ففيم يقف البخلاء دورة المال أو نعمة الرجاء

والصادق يروي عن جده أمير المؤمنين «قيل يا نبي اللّه. أوفي المال حق سوى الزكاة قال نعم. بر الرحم إذا أدبرت. وصلة الجار المسلم. فما أقر بي شبعان وجاره المسلم جائع. ثم قال: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».

وفي كل مشاركة فضل، يقول صفوان بن يحيى - من أصحاب الإمام كاظم - جاءني عبد اللّه بن سنان قال: هل عندك شيء؟ قلت نعم فبعثت ابني يشتري لحما بدرهم فقال: أين أرسلت ابنك فأخبرته فقال: رده. عندك زيت؟ قلت نعم قال هات فإني سمعت أبا عبد اللّه «الصادق» يقول (هلك امرء احتقر لأخيه ما يحضره. وهلك امرؤ احتقر لأخيه ما قدمه إليه).

والجود بالموجود جود. وفي التكليف رهق. وفي كل إرهاق أذى. والسمح لا يؤذى، ولا يحس الأذى فيما هو طبيعي. ومن السماحة في الأخذ والعطاء ينتشر التواصل، بأي شيء وفي كل شيء.

فالإمام لا يتكلف لأحد. ويعلن فضل الطاعم على صاحب الطعام. قال هشام بن سالم دخلنا على أبي عبد اللّه ونحن جماعة. فتغذينا وتغذى معنا. وكنت أحدث القوم سنا. فكنت أقصر وأنا كل فقال لي (كل. أما علمت أنه تعرف مودة الرجل لأخيه بأكله طعامه).

يقول الإمام لأضيافه: «أشدهم حبا لنا أكثرهم أكلا عندنا».

وكانت «عين زياد» ضيعة له فجعلها له وللناس. يأمر وكيله بأن يثلم في كل حيطان الضيعة ثلما ليدخل الناس فيأكلوا. ويأمر كل يوم بعشر ثبنات يقعد على كل واحدة منها عشرة يطعمون. كلما قام عشرة جاء عشرة. يلقى لكل منهم بعض الرطب. أما الذين لا يجيئون من جيران الضيعة فلكل منهم مد يرسل إليه، حتى إذا جاء أوان قطع الثمار أعطى الوكلاء العمال أجورهم عنه، وأمر الإمام بالباقي فحمل إلى المدينة ففرق في أهلها، كل حسب استحقاقه.

يقول ابن أبي طيفور: رأيت عند أبي عبد اللّه ضيفا فقام يوما في بعض حوائجه فنهاه وقام بنفسه إلى هذه الحاجة وقال (نهى رسول اللّه عن استخدام الضيف).

٣٠٣

أداء حقوق الآخرين في المال

وإذا واسى الصادق أعطى فأغنى: سأله فقير فأعطاه ألف درهم فلما مضى الرجل أمر خادمه ليرجعه. قال الخادم: يا سيدي سئلت فأعطيت. فماذا بعد العطاء؟ قال (قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (خير الصدقة ما أبقت غنى) وقال للرجل: (إنا لم نغنك. فخذ هذا الخاتم فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم).

ولا مرية في أنه لم يغن الرجل ليأكل، وإنما أغناه بالمال ليعمل. فالعطاء ليس طعاما يعطى وإنما هو فرصة عمل بالتعبير الاقتصادي المعاصر. أي تمكين من أداة إنتاج تحفظ إنسانية الانسان وتزيد ثراء الجماعة.

والعطاء وفاء بحقوق. وليس مجرد أريحية. فأمير المؤمنين علي هو القائل (إن اللّه فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي الفقراء فإن جاعوا أو عروا فبظلم الأغنياء) والقائل (الفقر هو الموت الأكبر)

وسئل الباقر عن الزكاة تجب في مواضع لا يتمكن السائل من أدائها فيها فأجاب: (اعزلها فإن اتجرت بها فأنت لها ضامن. ولها الربح).

ويقول الصادق (إن اللّه عز وجل فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم - ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم. إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة اللّه عز وجل . ولكن أتوا من منعهم حقهم. ولو أن الناس أدوا حقوقهم كانوا عايشين بخير).

وبنص عنه (إن اللّه تبارك وتعالى شرك بين الفقراء والأغنياء في الأموال. فليس لهم أن يصرفوا إلى غير شركائهم).

وعلى أساس هذه النصوص يتساءل الفقهاء: هل الفقير «شريك» في ملك العين (في خصوص الزكاة)، أو أن له «مجرد حق» فيها. فالبعض على أنه شريك بمقدار حصته، والبعض على أنه صاحب حق فيها. وهو مقدار نصيبه. وصاحب النصيب من لا يملك مؤنة سنة له ولعياله. والأغنياء من يملكون ذلك المقدار.

٣٠٤

يقول الإمام الصادق (تحرم الزكاة على من يملك قوت سنة)

ولا يدع الإمام الناس، فقراء أو أغنياء، دون تنبيههم على أصل الداء، وهو الطمع. فيعالنهم بمقولة من مقولاته. التي تتناقلها الأجيال: (إن كان ما يكفيك لا يغنيك فكل ما فيها لا يغنيك).

ولحقوق الفقراء على الأغنياء عند الشيعة مصدر آخر زاخر، فوق مصدر الزكاة، وهو خمس المكاسب. واللّه تعالى يقول «(واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن للّه خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل).

والشيعة تفسر الآية تفسيرا يسع أكثر مال يكتسب. إذ يدخل فيه خمس أرباح التجارات والصناعات والإجارات والعمل والوظائف والهدية والوصية وأرباح مالك المنجم والمدخرات من الكسب الحرام إذا اختلط بالحلال ولم يتميز. فإن تميز أخرج كله. واللؤلؤ المستخرج والمواريث التي لم يؤد عنها الخمس. وذلك بعد أن يستنزل المكلف مؤنة الحفظ ومؤنة الذين يعولهم ومركبه ومسكنه ونفقات أضيافه لمدة سنة كاملة، وما زاد عن ذلك ففيه الخمس.

كتب رجل إلى الإمام الباقر: أخبرني عن الخمس أهو على جميع ما يستفيده الرجل من قليل أو كثير . وكيف ذلك؟ فكتب الإمام بخطه: «الخمس بعد المؤنة».

ولا يحمل الخمس إلى غير بلده إلا مع عدم وجود المستحق فيه. ويجوز أن تخص به طائفة واحدة. والأحوط قسمته.

والفقهاء يقررون أن للإمام نصف الخمس وأن نصفه الباقي ليتامى آل النبي ومساكينهم وفقرائهم وأبناء السبيل منهم.

والآن - حيث الإمام غائب - فالأقوال كثيرة في توزيع حق الإمام. وربما جاز من تعددها اختيار الإنفاق على المصالح التي تحفظ للأمة دينها وشريعتها .

والرسول عليه الصلاة والسلام يكلف المسلمين أن يقصدوا بالبر الفقراء، وأن يتطهروا بين الفقراء، ويتقوا اللّه تقوى الفقراء، يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من أراد اللّه فليطلبه عند الفقراء).

٣٠٥

كنز المال

أمير المؤمنين علي هو الذي ذكر عمر بخثور نفس رسول اللّه حتى وزع مالا كان عنده. وأعلن ساعة استخلافه أن الدولة ليس لها في المال إلا أن تقسمه في المسلمين متساويين - فرقى المنبر يقول للمسلمين عن نفسه (.. إلا وإنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح أموالكم معي. وليس لي أن آخذ درهما دونكم).

جئ ذات مساء بمال أفاءه اللّه على المسلمين، فأشار إليه وقال: اقسموه. قالوا: أمسينا فأخره إلى غد. قال: تقبلون لي أن أعيش إلى غد؟ قالوا ما بأيدينا ذلك. قال: فلا تؤخروه. فقسموه من فورهم.

ولما بعث أبو موسى إلى عمر من العراق ألف ألف درهم فرقها ففضلت فضلة فاختلفوا أين يضعها، خطب عمر الناس قائلا: أيها الناس قد فضلت لكم فضلة بعد حقوق الناس. فقام صعصعة - وهو بعد غلام شاب أسلم في حياة النبي ولم يره - وقال «يا أمير المؤمنين إنما يتشاور الناس فيما لم ينزل فيه قرآن. وأما ما نزل به قرآن فضعه مواضعه التي وضعه اللّه عز وجل فيها». فقال عمر «صدقت. أنت مني وأنا منك».

فقسمه بين المسلمين.

وصعصعة - كما أسلفنا - بطل « يوم الجمل » إلى جوار أمير المؤمنين علي. استشهد أخواه وهما يحملان الراية. ثم حملها صعصعة وانتصر.

وأبو ذر أب من آباء الشيعة العظماء، وسيرته درس تحتفي به مجالسهم وأمالي كبرائهم. ينبه الناس من قديم على خطر الفقر واقترانه بالكفر. وتعريضهما العقيدة والوطنية ووحدة الجماعة للدمار، فيقول: (إذا ذهب الفقر إلى بلد. قال الكفر خذني معك).

ولقد حرم كنز المال بحبسه عن المسلمين في بيوت الأموال، أو حرمانهم منه وتعريضهم للافتقار، فأوجب على الدولة توزيع المال في أصحاب الحق فيه من الرعية، وحرم النعيم على من يعيش بين الجياع. فإذا كان إخوة المسلم في عيشة راضية فالنعيم يباح.

٣٠٦

ولما أرسل إليه عثمان مائتي دينار مع رسول يقول: هذه من مال عثمان. وهو يقول لك إنها من صلب ماله ما خالطها حرام. قال أبو ذر: هل أعطى أحدا من المسلمين مثلما أعطاني؟ قال كلا. قال: اذهب أنت والدراهم. إنما أنا رجل من المسلمين يسعني ما يسعهم. ولست في حاجة إلى المال. قال الرسول: أصلحك اللّه إني لا أرى في بيتك قليلا ولا كثيرا. فرفع أبو ذر الوسادة وأراه قرصين من خبز الشعير وقال: بل عندي هذان وإني لغني بهما وثقتي باللّه.

ومر أبو ذر بمعاوية وهو يبني داره الخضراء فصاح به: «من أين لك هذا؟ إن كنت بنيتها من مال المسلمين فهي الخيانة. وإن كنت بنيتها من مالك فهي الإسراف». فشكاه معاوية إلى عثمان.

وظاهر من هذا النهج، النحو الاقتصادي الذي ينحوه الشيعة من تداول المال، وعدم كنزه عن الأمة ولو كان في يد الدولة، ووجوب تقسيمه في المسلمين أو العمل به لهم. والاستكثار من طرحه في التداول(١) .

___________________

(١) روى المسعودي في مروج الذهب حادث أبي ذر وكعب الأحبار في مجلس أمير المؤمنين عثمان بن عفان. قال: إن أبا ذر كان في مجلس الخليفة حين (أتى بتركة عبد الرحمن ابن عوف فنضت البدر حتى حالت بين عثمان والرجل القائم. فقال عثمان إني لأرجو لعبد الرحمن خيرا لأنه كان يتصدق ويقري الضيف وترك ما ترون. وقال كعب الأحبار صدقت يا أمير المؤمنين . فشال أبو ذر العصا وضرب بها رأس كعب. وقال: يا ابن اليهودي تقول لرجل مات وترك هذا المال إن اللّه أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة وتقطع على اللّه عهداً بذلك وأنا سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول (ما يسرني أن أموت وأدع ما يزن قيراطا) . وقال عثمان لأبي ذر: وار عني وجهك).

٣٠٧

وإنفاق الخمس الذي يجبى للإمام.

وإذا أضفنا إلى ضخامة نسبة الخمس، تحصيله عن أكثر الكسب، وتيسير حسابه على العاملين على الصدقات، والدافعين للزكوات، والإنفاق الواجب والمندوب، وإلزام القادر العمل بنفسه وبماله، ومعونة المستحقين للعون بالمال دون ربا، مع نظرة الميسرة، ومع التواصل حيثما قدر القادرون، واحتاج غير القادرين، يتجلى مبلغ ما تتفتح الميادين الواسعة أمام الجهد الإنساني في المجتمع الإسلامي لتثمير ثرائه وإغناء فقرائه، وإيلاف أنفس المسلمين فيه.

ذلك قول الإمام جعفر (لو أدى الناس زكاة أموالهم ما بات مسلم فقيرا).

٣ - التعاون

العنصر الثالث في الاقتصاد - كما هو ظاهر من تعاليم الإمام في فصول هذا الباب - هو التعاون. وليس كمثله «منظم داخلي» أو «محرك ذاتي» للنشاط الفردي أو القومي.

ولقد مر بنا أنه واجب « قانوني » يخرج من الإيمان من بات شبعان وجاره جائع.

كما أسلفنا القواعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شرعها الإسلام وشرحها الإمام، ليخلف للأمة منهاجه الذي اعتزت به الأمة فبلغت شأوها العالي بالمنهج العلمي، العصري أبداً، والمنهج الاجتماعي الذي جعلها كالبنيان المرصوص، والمنهج الاقتصادي الذي يستعمل العلم والعمل والمال في تعاون مأمور به، أي في تكافل كامل.

ولئن مرت بها فترات مظلمة، إن مردها إلى الخروج على قواعد المنهج. وإنما عصمتها في الرجوع إلى الأمر الأول.

٣٠٨

الباب السادس : إلى الرفيق الأعلى

«الحمد للّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للناس جميع ما تحتاج إليه».

(الإمام جعفر الصادق)

الى الرفيق الأعلى

كان الإمام في لقاءاته الأخيرة مع الخليفة (أبي جعفر المنصور) يقول له «لا تعجل، لقد بلغت الرابعة والستين وفيها مات أبي وجدي». فلقد كان يحس باقتراب يومه. ويلتمس من ذلك قوة عند اللقاء. تؤيده في الصدام معه والثبات في وجهه، والدفاع عن حقوق اللّه والناس عنده، وتذكيره بالآخرة.

وهو إلى ذلك يهئ الدولة، والناس، لما بعد موته.

والناس الذين يتساءلون متى نصر اللّه، يولون وجوههم شطر الإمام. مذ قطع أبو جعفر أسباب الأمل في الأمان والاطمئنان بالنكال يصبه على من عارضه، وخص أهل البيت بكفل زاخر من عذابه. فمال الكثيرون عنه إليهم. ولم يكن باقيا من مشيختهم إلا الإمام الصادق. تهوى إليه الأفئدة من بعيد وقريب. ويتكاب عليه التلامذة من أشياخ العلماء.

ومضت الأيام، والناس بين البأساء والنعماء، والفزع والرجاء. والإمام في دروسه ومجالسه يرسي مبادئه. للأجيال القادمة. ويهدي بالقول والعمل، وبمجرد أن به حياة.

وجاء ذلك اليوم الذي قال فيه، وهو رخي البال، (الحمد للّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للناس جميع ما تحتاج إليه).

وهو إفصاح عن اكتمال المذهب الشيعي في تعاليمه، ونظام الدولة الشيعية، إن أمكن أن تظهر، والمجتمع الشيعي في كل حال. وإن شئت قلت مقالة - المجتمع الجعفري، أو مقال الفقهاء: مجتمع «الشيعة الإمامية».

٣٠٩

وجاءت ساعة الموت . وهو في تمام صحوه، وأهل البيت حافون حوله:

قالت زوجه «حميدة» أم الإمام موسى الكاظم، وكانت من البربر، لرجل من أصحابه: لو رأيت أبا عبد اللّه عند الموت لرأيت عجبا: فتح عينيه ثم قال (إن شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصلاة). أما رواية الإمام موسى الكاظم فنصها: لما حضرت أبي الوفاة قال لي (يا بني لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة).

فهذا إمام تنتهي إمامته يعهد لإمام تبدأ أيامه. فينبهه، والناس، على حقهم في شفاعة أهل البيت، وواجبهم لينالوها، بإقامة عمود الدين.

وتضيف مولاته «سالمة» ساعة الموت حسنات فتقول (غمي عليه. فلما أفاق قال: أعطوا الحسن بن علي (بن علي بن الحسين) سبعين دينارا. وأعطوا فلانا كذا، وفلانا كذا. قلت: أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك؟ قال: أتريدون ألا أكون من الذين قال عنهم اللّه عز وجل (والذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب)؟ نعم يا سالمة. إن اللّه خلق الجنة وطيب ريحها. ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم).

أجل: كان الإمام قطعة من صميم الإسلام. جده عليه الصلاة والسلام «خلقه القرآن» أما هو فخلقه «سنة جده»، وجده يعلن سنته حيث يقول «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح».

ويقول إن أول الواجبات في المال بعد الزكاة (بر الرحم إذا أدبرت).

فالإمام في ساعة الموت يوصي لمن يليه، ويذكر الشفاعة، والصلاة، وصلة الرحم، وهو يريح رائحة الجنة.

صعدت روح الإمام إلى الرفيق الأعلى في شوال ١٤٨، لتترك أبا جعفر في الفزع الأكبر. فلقد غابت عن الدنيا أسباب سلام يثق بها. ولاح في السماء نجم جديد، بإمام جديد، ليس له به عهد.

٣١٠

وأبو جعفر ليس الرجل الذي ينتظر حتى ينكشف له أمر فيه غرر. بل هو يبتدر الخطر.

قال أبو أيوب الجوزي: بعث إلي أبو جعفر المنصور في جوف الليل فدخلت عليه وهو جالس على الكرسي وبين يديه شمعة. وفي يده كتاب فلما سلمت عليه رمى الكتاب إلي، وهو يبكي، وقال: هذا ابن سليمان (والي المدينة) يخبرنا أن جعفر بن محمد قد مات. فإنا للّه وإنا إليه راجعون. قالها ثلاثا. ثم قال: وأين مثل جعفر؟ ثم قال: اكتب. فكتبت صدر الكتاب، ثم قال (اكتب إن كان قد أوصى إلى رجل يعينه فقدمه واضرب عنقه).

هكذا يأمر بقتل من يجهله. ويحرمة حق المحاكمة. لمجرد أن من فحوى الوصية لرجل بعينه أنها رسالة للأمة تعلن الإمام الجديد

لكن اللّه كف بطش أبي جعفر. فرجع الجواب إليه أن الإمام أوصى إلى خمسة هم: أبو جعفر المنصور وابن سليمان، وعبد اللّه وموسى وحميدة. والأخيرون ولدا الإمام وزوجه. فليس هنا وصي بعينه. والأولان أبو جعفر ذاته وواليه. وليس إلى قتل هؤلاء من سبيل

وما كانت وصية «الصادق» لأبي جعفر وواليه إلا توصية لهما بالأمة. وتذكيرا لهما بأنهما ملاقيا اللّه مثله. وأبوجعفر أجدر خلق اللّه بأن يذكره الناس بالموت. وأن يذكروه عند الموت، إن محبين له وإن مبغضين.

ولما قرن الإمام أبا جعفر بابنيه وزوجه، كان يذكره أن يخاف اللّه فيهم وفي ذوي رحمه.

كان أبو جعفر يسابق الموت إلى من تتم الوصية إليه وحده. ففوتت عليه وصية الإمام بغيا، لم يمنعه من مقارفته تساقط دمعه، أو أن يسترجع اللّه مرات ثلاثة، وكأنه يجعل الدمع مدادا لأمر يهتبل الفرصة لإصداره، ليقطع رأس إمام جديد من أهل البيت يطاف بها في المدائن.

وأنسته شياطين الفزع والطمع، أن يذكر ما علمه الصادق من صلة الرحم، وازداد نسيانا يوم لا أحد ينسى وجرى المهدي والرشيد في أثر أبي جعفر يهتدون به، ويدسون الجواسيس ليعرفوا من يجتمع إليه الناس بعد موت الإمام - سأل سائل موسى الكاظم فقال الكاظم «إذا هدأت الرجل وانقطعت الطريق فأقبل » وسأله آخر فقال له (سل تخبر. ولا تذع. فإن أذعت فإنه الذبح).

٣١١

بل كان هشام بن سالم ينبه زملاءه الشيعة حتى لا يقعوا في خبائل أبي جعفر.

وظاهر من ذلك أن المجالس العظيمة، التي كانت تنعقد في حياة الإمام الصادق، قد ولى زمانها.

ولي الإمامة موسى الكاظم بعد أبيه فتتابع في حياته عهد الهادي ثم عهد الرشيد، واقتصر كما سيقتصر الأئمة من بعده، على العلم وإمامة الدين، دون أن يمدوا عينا أو فكراً إلى الخلافة الدنيوية. ومع هذا حبس الرشيد الإمام الكاظم حتى سنة ١٨٣. ثم أمر فأدخل الناس السجن ليروه ميتاً. ليس به آثار قتل، والشيعة يقولون: مات مسموما.

وخلف الكاظم في الإمامة ابنه علي الرضا، حتى إذا صار المأمون خليفة ولاه عهده، على رغمه، سنه ٢٠١. وأمر ابنه وبني العباس بمبايعته. فصنعوا. وزوجه من بنته «أم حبيب» في سنة ٢٠٢. كما زوج ابنه محمداً الجواد بنته «أم الفضل». إلا أن عليا الرضا مات سنة ٢٠٣ فجأة مسموما، في أكلة عنب. كما يقولون، في أثناء عودته في ركب المأمون من مرو إلى بغداد

وفي رحلة العودة هذه، وفي ركب المأمون ذاته، قتل وزيره الذي دبر له كل أمره، - الفضل بن سهل - وكان شديد التشيع.

وتوجه محمد الجواد بزوجته إلى المدينة - بعيداً من بغداد. فلما ولي المعتصم أشخصه إليها. فقدمها لليلتين بقيتا من المحرم سنة ٢٢٠. وفي نهاية السنة مات. والناس تقول في موته ما قالوه عن موت أبيه وجده وما سيقولونه في موت ابنه علي الهادي بعد أن صار إماماً استقدمه الخليفة إلى العسكر في سر من رأى حيث قصر الخلافة. فلما مات الهادي سنة ٢٥٤ – قام بالإمامة ابنه الحسن الخالص حتى سنة ٢٦٠. عام وفاته، ليخلفه ابنه

٣١٢

محمد آخر الأئمة الاثني عشر . قالوا دخل سردابا فلم يرجع. والناس ينتظرون رجوعه . وهو عند الشيعة الإمامية «المهدي المنتظر»(١) .

بهذا التاريخ يختم الأئمة الاثنا عشر حقبة من الزمن علموا فيها المسلمين العلم الذي آل إليهم عن آبائهم - عن طريق الإمام الصادق - بعيدين عن السلطة، مدركين جلال ما يقدمون للأمة، من تراث جدهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . يعضون عليه بالنواجذ، ويبرونه من الزيوف. ويتبرءون ممن غلوا فيهم(٢) .

أقامت الأمم الإسلامية الدول تترى، في القارات الثلاثة في العالم المعروف، منتسبة إلى أهل البيت من أبناء الحسين أو أبناء عمومتهم، ومجتمعات مزدهرة، وحضارات يضرب بها الأمثال، في العراق واليمن وخراسان وإيران وأفغانستان وباكستان والهند ولبنان وسورية والكويت والبحرين وشرق أفريقية وكثير سواها.

___________________

(١و٢) من الفرق الغالية - العميرية (أصحاب عمير بن بيان العجلي) عبدوا جعفر الصادق فتبرأ منهم. وصلبه يزيد بن هبيرة والي بني أمية سنة ١٢٨. ومنها أتباع أبي الخطاب الأسدي (محمد ابن أبي زينب) - زعيم الخطابية - زعم أن جعفراً إله فتبرأ منه الإمام فادعى الألوهية لنفسه. وحاربه المنصور وأسره وصلبه في الكوفة - ومنها البزيغية (أصحاب بزيغ به موسى) عبدوا جعفر الصادق (والمعمرية) أصحاب (معمر بن الخيثم) - الخياط بالكوفة. وهم فرقة من الخطابية يقولون إن النور خرج من جعفر ودخل في أبي الخطاب فصار جعفر ملاكا وأبو الخطاب إلاها.

و(المفضلية) أصحاب المفضل بن عمر الصيرفي(١٧٠) يقولون بإمامة معمر وألوهية جعفر. (والسرية) أصحاب السري بن منصور(٢٠٠) يقولون إن السري رسول جعفر. وجعفر هو اللّه والسلام والإسلام. وكانوا في الحج يقولون: لبيك يا جعفر لبيك.

ويقول ابن النديم في الفهرست إن أتباع أبي الخطاب أظهرتهم الفرقة الميمونية - أي الاسماعيلية - ويقول النوبختي(٣١٠) عن أتباع أبي الخطاب (خرج من قال بمقالته من أهل الكوفة وغيرهم إلى محمد بن اسماعيل بن جعفر فدخلوا في فرقته وسمي أتباع محمد بن إسماعيل «الاسماعيلية»).

٣١٣

ففي المغرب أقام الدولة الإدريسية إدريس بن إدريس بن عبد اللّه (أخي الشهداء الثلاثة محمد وإبراهيم ويحيى أبناء عبد اللّه بن الحسن) وكان قد فر إلى المغرب الأقصى عن طريق مصر سنة ١٧٢ هارباً من بطش الرشيد. ثم قيل: بعث إليه الرشيد من سمه.

وفي المشرق قامت دولة أخرى على يد الحسن بن زيد بن . الحسن(٢٥٠ - ٢٧٠) وأعقبه فيها أخوه. وهما فقيهان زيديان.

وقامت الدولة الساسانية بخراسان، عاصمتها بخارى في روسيا السوفيتية الآن.

وأقام أئمة الشيعة الاسماعيلية دولة كبرى في أفريقية وآسيا (الدولة الفاطمية). ثم قامت الدولة الإمامية الكبرى في إيران حيث بقيت العقيدة الإمامية والفقه الإمامي عقيدة وشريعة حتى اليوم. وسيطرت الدولة البويهية(٣٢٤ - ٤٤٧) على الخلافة العباسية بتمامها. ووضعت مراسم التشيع وأعياده. فجعلت يوم كربلاء مأتماً قومياً، ويوم الغدير عيداً إسلامياً.

وأمر معز الدولة بن بويه فكتب على المساجد في بغداد (لعن اللّه معاوية ابن أبي سفيان. ولعن من غصب فدكا. ومن منع أن يدفن الحسنفي قبر جدهعليه‌السلام ، ومن نفى أبا ذر الغفاري. ومن أخرج العباس من الشورى) فحكه الناس. فاكتفى بأن أمر أن يكتب على المساجد (لعن اللّه الظالمين لآل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) وأمر ألا يذكر في اللعن إلا معاوية.

وتحول بنو بويه عن زيديتهم، وسلكوا مسلكاً إمامياً. وولوا الشريف أبا أحمد نقابة الطالبيين وإمارة الحج. بل ولوا ابنه الشريف الرضي النيابة

عن الخلافة العباسية. ومع ذلك كان بين حين وآخر يشعر بالسخط فيجري على لسانه الشعر الذي يمجد الخلافة الإسماعيلية.

أي عذر إلى المجد إن ذل

ل غلام في غمده المشرفي

ألبس الذل في ديار الأعادي

وبمصر الخليفة العلوي

فهذا زعيم إمامي: يفاخر بخليفة اسماعيلي. وهو في الوقت ذاته قد ولى نيابة الخليفة السني.

٣١٤

عدالة السماء

والدول - كالكائنات الحية وكالأفراد والمجتمعات - تشتق قانونها من أسباب وجودها. وتلتزمه فتبقى وتسلم. أو تخرج عليه فتفقد سبباً أو أكثر من أسباب تقدمها ونمائها. وربما فقدت سبب بقائها. وكلما أصابها السقم رجعت إلى سبب وجودها تلتمس السلامة.

لقد نشأت الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي على قواعد الإسلام في السنة الأولى للهجرة. فأخضعت دول العالم المعروف في بضعة عشر عاماً، من حياة النبي وأصحابه. وأقامت المجتمع الأفضل الذي صنع على يد الرسول وعلى عينه .

وكلما أبعد المسلمون من هذ االفضل، قل الشبه في الصورة عنه في الأصل. وكلما فكروا في العودة إلى الأمر الأول ولوا وجوههم شطره. وما هو إلا عمل النبي وآله وصحبه.

فكل عمل أو بحث لإقامة الدولة المثلى لمجتمع مسلم، يتجه بالطبيعة إلى أيام النبوة، والعمل بالقرآن والسنة.

وآل النبي هم أقرب الرجال إلى الصميم من ذلك وإلى قلوب الأمة، وهم أرفع شعار يمكن تحريك الجموع به فهم أهل النبي والقرآن والسنة جميعاً. لا بالعرق وحده، وإنما بسيرتهم التي ليس لها في التاريخ نظير.

والإمام الصادق يتوهج كالنجم الثاقب في هذه السماء. فهو مدرسة العلم مع الزهادة في السلطة. وهو إمام فقه في الدين والعلم، وصاحب مناهج للدنيا. ومعلم للإصلاح والتشريع والسياسة والاقتصاد. وهي الوسائل المحركة للتقدم في جميع الأمم.

فلا عجب أن كانت دعوات الإصلاح، ودعاءات الرجاء، في كل العصور، تتلمس في علمه المدون، وسيرته التي يمجدها المسلمون، ذكريات فضائل تمشي على الأرض، وتطبيقات مفلحة، لتعاليم كفيلة بإقامة حكم صالح يرد الحكام إلى الدين. ويعيد الدين غضا في أنفس الناس كما كان في أفئدة السلف الصالح.

٣١٥

ويتراءى مصداق هذه الحقيقة «للقانون الطبيعي» للإسلام، أو للطبيعة الدينية للمجتمع المسلم، في قيام الدولة العباسية بدعوى «تصحيح التاريخ» وبشعار «الدعوة إلى الرضا من آل محمد». فلما أجهضت هذه الدولة مبادئها بخعت نفسها. فصارت ملكا عضوداً خيراته للملوك.

فلم يك معدى عن إعادة التصحيح بالعودة إلى رسالة النبي وتعاليمه وآله.

وإنما انحرفت الدولة الإسلامية في تجاربها التي أقامتها الدول الأموية والمروانية والعباسية لغصبها حقوق أهل البيت، ونصبها العداء لهم، في موجة انصراف الحكام، عن مصالح الأمة وشريعتها، إلى شهواتهم. فتصحيح التاريخ يبدأ بإقرار حق علي وأبناء النبي والعمل بالشريعة.

والتاريخ خاضع لقانون الطبيعة أو قانون الحركة (لكل فعل رد فعل. مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه).

والحقائق الكبرى فى التاريخ، كالظواهر العظمى في الطبيعة، لا تخفى. والذي يخفي الحرارة أو البرودة لا يبغته الغليان أو التجمد، أو رعدة الحمى أو رعشة البرد. والذي يخفي الضغط الجوي لا يأخذه الانفجار أخذ الفجاءة.

«وعمر بن عبد العزيز» «والمأمون» هما الانفجاران المحتومان في دولتي بني مروان وبني العباس. لأنهما الممثلان الصادقان للضمير الإسلامي، في الدولة أو الجماعة أو الأفراد، أو في العلم أو الحكم أو العدل أو الجهاد، على رأس المائة الأولى ورأس المائة الثانية.

أما عمر فنما في أكناف بيت طالما حاول طمس فضائل علي. فلما شب عن الطوق أصبح يعلن للناس إسرار أبيه له أن الناس لو عرفوا فضائل علي لانصرفوا إليه عن دولتهم، حتى إذا ولي إمرة المدينة أبطل سب علي على المنابر. وكان عمر يرزح تحت الرقابة الشديدة من الخليفة الوليد، والسباق المجنون من الحجاج لظلم بني علي، مع استرضاء بني مروان للحجاج، حتى ليعزل الوليد عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه، لإرضاء الحجاج ابن يوسف الثقفي.

٣١٦

فلما ولي عمر الخلافة أقسم أن يتخذها طريقاً إلى الجنة. فرد لأهل البيت مظالمهم وأعاد لهم « فدكا ». وبعث إليهم عشرة آلاف دينار ليعوضهم عما سلبهم سابقوه. وكانت الشهور الثلاثون - مدة خلافته - تلقى على كاهل رجل هزل الورع جسده، أعباء الدين والدنيا، يدرك أن أيامه معدودات، ويتهمه أهله بأنه يوشك أن يخرج الخلافة منهم إلى بني علي(١) .

بل أعلن عمر أنه لو استطاع لعهد بالخلافة لمن كان مثله، فقال: «لو كان لي من الأمر شيء لاستخلفت أعيمش بني تيم القاسم بن محمد بن أبي بكر». وهو العليم أن محمدا ترعرع في حجر «علي» قبل أن يستخلف. وأنه حارب معه معاوية. فلما ولاه مصر، باء بدمه قواد معاوية. فهو عدو بني أمية من كل وجه. وأن «القاسم» همزة الوصل بين الصديق وبين «أهل البيت». بنته أم فروة تحت جناح الباقر، وابنهما «جعفر الصادق» في عنفوان صباه، أمل تتجه الأبصار تلقاءه.

وأما «المأمون» فعبقري العلم، سواء العلم الديني من أصول وفقه ودين وحديث، أو العلم العام، وفيه التاريخ والفلسفة والعلوم التطبيقية والرياضية

___________________

(١) أتى «العمري» مالكا فقال له: يا أبا عبد اللّه. بايعني أهل الحرمين. وأنت ترى سيرة أبي جعفر فما ترى؟ فقال له مالك: أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلا صالحا؟ قال: لا أدري. قال مالك لكني أنا أدري: إنما كانت البيعة ليزيد (بن عبد الملك) بعده، فخاف عمر إن ولي رجلا صالحا أن لا يكون ليزيد بد من القيام، فتقوم هجمة ويفسد مالا يصلح .

٣١٧

والفلكية حيث له في جوار قصره مرصد يرصد فيه النجوم. وهو بطل حروب «ورجل دولة» عالمي. لا يعرف التاريخ، من عهد اليونان والرومان حتى الآن، ملكا بلغ مبالغه في كل أولئك مجتمعا. وهو يقف في القمة من الدولة العباسية. فمن بعده بدأ الانحدار. وكانت الأعوام السبعون التي انصرفت من عمرها وانحرفت في إبانها تشير إلى الحاجة إلى عقل عبقري فيه إنصاف، ليحدث عودا على بدء. فأعلن تشيعه. بل عهد من بعده لإمام الشيعة في عصره. بل زوجه وابنه من بنتين له(١) .

ولقد كان حقيقاً أن يبلغ غرضه لولا أن الإمام «علياً الرضا» مات فجأة، كمثل ما كان السياسيون في العهد العباسي يموتون فجأة ولولا أن المأمون رأى أن يأمن في سربه انتقاضات أهله، بعد إذ حاربوه بجيوشهم لمدة عامين، من جراء تشيعه. لكان قد ولى عهده، بعد علي الرضا زوج بنته الأخرى، الإمام التاسع محمداً الجواد.

وكانت خلافة المأمون تمثل حكماً يحاول أن يستقر على «أساس ديني». وهذا ظاهر في عهده لعلي الرضا. وعلى «أساس علمي» وهذا ظاهر في عمله لإلزام الناس برأي المعتزلة. وعلى «سند سياسي». ليقدر على مقاومة تيارات تتناوشه من شتى الجهات، سياسية كالوافدة من الفرس والروم، أو عائلية كنزاعات أهله، أو فكرية كالقضايا التي آلت إلى المسلمين من مواريث اليهودية والمسيحية. يحمل ألوية الجدال فيها المعتزلة . والمأمون من كبرائهم.

ولما فقد الذين جاءوا بعده قدرتهم على التوازن بين الزوابع، كهيئة توازنه، آلت الدولة إلى الترك، وتتابع تقسيمها أقاليم ودولا. ولم يعد للدين في الدول الجديدة الكلمة العليا، بل أصبحت للمعايش والأرزاق ومداراة الحكام. وبهذا دب التدهور في الأفراد، والمجتمعات والدولة. وأفسدت الدولة الفرد وأفسد الفرد، بدوره، الدولة.

___________________

(١) وفي سنة ٢١١ أمر المأمون فنودي (برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير وفضله على أحد من الصحابة). كما أمر بتفضيل الإمام علي. وأنه أفضل الناس بعد رسول اللّه. وأوصى أخاه المعتصم بقوله (وهؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي. فأحسن صحبتهم. وتجاوز عن مسيئهم. واقبل من محسنهم. وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها. فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى).

٣١٨

ومن تصحيح التاريخ للأشياء كانت أول دولة استقلت عن بني العباس في القرن الثاني دولة إدريس بن إدريس بن عبد اللّه في المغرب فدولة الحسن بن زيد في المشرق.

وتتابعت الدول في القرن الثالث بخراسان ومصر وأفريقية وفي اليمن حيث ملك القاسم بن إبراهيم(٢٤٦ - ٢٨٦) وإليه تنسب الزيدية القاسمية. ثم الهادي بن القاسم وإليه ينسب الهادوية. وبقيت دولة الشيعة باليمن حتى إعلان الجمهورية سنة ١٩٦٢ للميلاد.

وفي القرن الرابع قامت دولة بني بويه ٣٢٤ - ٤٤٧ - ٩٤٥ - ١٠٥٥ وهي شيعة زيدية في العراق وفارس حيث عاصمتهم شيراز. وقام الحمدانيون في العراق والشام ٣١٧ - ٣٥٨. وهم شيعة إمامية يذكر الإسلام لهم الدفاع عنه ضد غزوات الإمبراطورية الرومانية من بيزنطة. وتدين لهم الأمة العربية بأحسن أشعار أبي الطيب المتنبي، وبشعر أبي فراس الحمداني، وفلسفة الفارابي فيلسوف المسلمين - المعلم الأول عند العرب - أو المعلم الثاني في العالم حيث أرسطو هو المعلم الأول.

وفي القرن الخامس كان بنو حمود بالأندلس(٤٠٧ - ٤٤٧) وهم من أبناء الأدارسة - وفي القرن السادس كان ابن تومرت (. . بن عبد الرحمن . بن محمد بن الحسن بن علي) مؤسس دولة الموحدين، وكانت خطبة الجمعة عندهم تشتمل على الصلاة عليه باعتباره (الإمام المرحوم المهدي (المعلوم) وإن كانت دولته ودولة الأدارسة أو بني حمود، أو الدولة الفاطمية، تحكم شعوباً سنية. ولا شك أن كبرى الدول التي أقامها الشيعة كانت الدولة الفاطمية (الاسماعيلية).

الاسماعيلية(١)

قامت الدولة الفاطمية (نسبة إلى فاطمة الزهراء) في المغرب ثم مصر منتسبة إلى «اسماعيل» بن الإمام جعفر الصادق، وكان قد مات في حياة الصادق.

والاسماعيلية ينفون ذلك. ومنهم من يقول إن أباه ادعى موته اتقاء لأذى أبي جعفر المنصور له.

___________________

(١) ويلقبون - في مراجع أهل السنة - القابا أخرى. أهمها «الباطنية».

٣١٩

وفي أواخر القرن كان عبد اللّه بن ميمون القداح(١٩٨) من أتباع الخطابية، ينشر دعوة لنفسه بالبلاد. فأجابه حمدان بن الأشعث - قرمط - ثم مات القداح، فخلفه أبناؤه ودعوا لأنفسهم باعتبار أنهم من ولد عقيل. ثم هرب أحفاده إلى المغرب في أفريقية. وبجهدهم أو جهد (منصور اليمن - ابن حوشب - ٢٦٦) في بلاد المغرب ظهر عبيد اللّه المهدي مؤسس الدولة الفاطمية سنة ٢٩٨ لتبقى دولة عظمى حتى سنة ٥٦٧. فتحت جيوشها فسطاط مصر في ١٧ شعبان سنة ٣٥٨ (٧ - ٧ - ٩٦٩). وفي ليلة الفتح وضع جوهر الصقلى قائد الجيش حجارة الأساس لمدينة القاهرة. وتم بناؤها في رمضان سنة ٣٧١.

وفتح الأزهر للصلاة في الشهر ذاته وهو يوافق يونيو - يوليو سنة ٩٧٢. وفي صفر سنة ٣٦٥ عقد القاضي أبو علي الحسن بن النعمان أول حلقاته في الجامع الأزهر، فكان أول مدرس فيه - فدرس للناس مختصر أبيه في فقه آل البيت.

وفي سنة ٣٦٦ عين أبو علي بن النعمان قاضياً للقضاة. فعرفت مصر هذه الوظيفة لأول مرة.

هكذا نشأ الأزهر معهداً شيعياً. ثم صار جامعة لكل علوم الإسلام. وهكذا نشرت الدولة الفاطمية ألوية الإسلام وعلوم الشيعة في مصر والشام والحجاز ووسط آسيا، وأقامت مدينة القاهرة، وأنشأت الجامع الأزهر، وخطب لها في مكة والمدينة على المنابر.

٣٢٠