الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام0%

الإمام جعفر الصادق علیه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 333

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المستشار عبد الحليم الجندي
تصنيف: الصفحات: 333
المشاهدات: 92387
تحميل: 12185

توضيحات:

الإمام جعفر الصادق علیه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92387 / تحميل: 12185
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وسمع العالم الشافعي في جامع عمرو يهتز تحتانا إلى أبناء علي في الحجاز فينشد:

يا راكبا قف بالمحصب من منى

واهتف بقاعد خيفها والناهض

إن كان رفضاً حب آل محمد

فليشهد الثقلان أني رافضي

ريحانة النبي في كربلاء:

انتهى عصر معاوية بعد خلافة طالت تسعة عشر عاما وثلاثة أشهر وخمسة أيام(١) ليبدأ عصر يزيد (٦١ - ٦٤) فكان أفسد حكم. وقع فيه أفظع ظلم، وأعمق جرح في قلوب أهل الإسلام. أنهاه اللّه بإنهاء عمره وانقطاع عقبه وعقب أبيه من سجل الدولة التي سعيا لها كل ذلك المسعى.

___________________

(١) بنو أمية: معاوية(٤١ - ٦٠ (يزيد) ٦٠ - ٦٤ (معاوية بن يزيد) ثلاثة أشهر في سنة ٦٤).

بنو مروان: مدة الخلافة:

مروان بن الحكم ٦٤ - ٦٥

عبد الملك بن مروان ٦٤ - ٨٦

الوليد بن عبد ٨٦ - ٩٦

سليمان بن عبد الملك ٩٦ - ٩٩

عمر بن عبد العزيز بن مروان ٩٩ - ١٠١

يزيد بن عبد الملك ١٠١ - ١٠٥

هشام بن عبد الملك ١٠٥ - ١٢٥

الوليد بن يزيد بن عبد الملك ١٢٥ - ١٢٦

يزيد بن الوليد بن عبد الملك ١٢٦

ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك ١٢٦

مروان بن محمد بن مروان ١٢٧ - ١٣٢ هـ أو ٧٥٠ م.

٤١

وسيخلفه ابنه معاوية بن يزيد. فيعلن أنه وأهله لا يستحقون الخلافة. ويعتزل بعد نحو أشهر ثلاثة. فكان اعتزاله من تلقاء نفسه وعباراته. وهو يعتزل، شهادتين بالفعل وبالقول، من نفس بني أمية، بأنهم جائرون.

أنهى يزيد سنوات حكمه بتجريد جيش على المدينة يسفك دمها، وينتهك حرمها، في وقعة الحرة سنة ٦٣. ليقتل فيها ثمانين من صحابة الرسول. فلم يبق بعدهم على ظهر الأرض بدري واحد وقتل من قريش والأنصار ثمانمائة ومن الموالي والتابعين وسائر الناس عشرة آلاف، ثم لفظ آخر أنفاسه وجيشه يحاصر الكعبة بعد أن أحرقها وأي نهاية لبشر أفظع من هذه النهاية بل أي نهاية لدولة أبلغ في الدلالة على غضب السماء عليها

فما كان حرق الكعبة ولا قتل الصحابة وتذبيح الآلاف إلا تتابعا للأحداث التي بدأ بها السنوات الثلاثة. وختاما طبيعيا للبداية المفظعة لحكمه. وجزاء له ولدولته. ينزله بها وبنفسه.

لقد استفتح حكمه بجريمة كربلاء في يوم عاشوراء في العاشر من المحرم سنة ٦١. فوقع فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، مثله أو قريبا منه، من استشهاد أبي الشهداء: الحسين بن علي الذي دعا له النبي (اللهم إني أحبه. فأحب من يحبه)، والذي عظمه الخلفاء الراشدون والناس جميعا على مدار العصور. وهو القدوة في عطائه وعبادته وتواضعه وشجاعته في كل موقف: في «الجمل» و«صفين» و «النهروان» إلى جوار أمير المؤمنين علي وفي غزو أفريقية. وخراسان. وجرجان. والقسطنطينية. متصدا جيوش المسلمين في عهد معاوية.

كان بقية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وكانت آمال الأمة فيه آمالها في بقية الرسول.

وكان أبعد الناس عن أن يستخلف على المسلمين يزيد يزيد الصقور، يزيد الخمور كما لقبه معاصروه. فلم يكن أحد ليأمل شيئا من عهد يزيد، إلا دنيا يصيبها أو أموالا يجمعها. ولذلك رفض الحسين أن يبايعه.

٤٢

ودعا أهل الكوفة الحسين إليهم فبعث قبله مسلما ابن عمه عقيل. وخرج في أثره. فقتل عبيد اللّه بن زياد والي الكوفة مسلماً. وتخاذل أهل الكوفة عن نصرة الحسين. فمضى حتى بلغ (كربلاء) على مبعدة خمسة وعشرين ميلا من الكوفة وفي ركبه ثمانية عشر رجلا من أهل بيته وستون من شيعته.

هنالك لقيهم جيش عبيد اللّه بن زياد، على رأسه عمر بن سعد والي عبيد اللّه على الري، فأعلن لهم الحسين أنه لا يريد الحرب، وخيرهم بين ثلاث (أن تتركوني ألحق بيزيد. أو أن أعود من حيث جئت. أو أمضي إلى بعض ثغور المسلمين فأقيم فيها) ورفض ابن زياد إلا أن ينزل الحسين على حكمه، أي أن يستسلم ليصير أسيرا لابن زياد ويزيد ليصنعا فيه ما صنعاه بأهل المدينة، بعد عامين، من استرقاق الرجال والنساء.

وحاول ابن بنت رسول اللّه أن يسير بأهله في أرض اللّه الواسعة، فسدت الجيوش أمامه كل مخرج، وانقضت عليه سهام الآلاف وسيوفهم، وهو يحارب كالأسد. وتسيل جراحات جسمه وهو في السابعة والخمسين حتى استشهد(١) واستشهد رجال أهل البيت جميعا.

___________________

(١) وكان المحرض على قتل الحسين وأهل البيت شمر بن ذي الجوشن رقيب ابن زياد على قائد الجيش. أما قاتل الحسين فالتاث عقله، وحمل الرأس الكريم إلى فسطاط القائد فصاح في وجهه - وهو مراقب من شمر بن ذي الجوشن - أشهد أنك مجنون. وحذفه بقضيب. فلقد كان المجنون يصيح والرأس في يده:

أوقر ركابي فضة وذهبا

فقد قتلت السيد المحجبا

قتلت خير الناس أما وابا

وخيرهم إذ ينسبون نسباً

٤٣

والرجال الستون الذين يتألف منهم ركبه، إلا غلاما مريضا عاجزا أن يتحرك هو ابنه زين العابدين (علي بن الحسين) وساق المجرمون الحريم. وجهز عبيد اللّه بن زياد، زينب بنت علي(١) وهذا الابن الوحيد الباقي من ذرية النبي، ومن معهما من الحريم، مع الرأس التي طالما مسح عليها، وقبل فاها، رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلى يزيد بن معاوية في دمشق.

وأعاد يزيد الوفد إلى المدينة.

إن في إنسانية البشر قابلية للفساد كهيئة قابلية المواد للهبوط إلى الأرض بقانون الجاذبية. والإسلام لذلك يرفع الناس إلى أعلى، إذ يدفع الأنفس إلى ما هو أقوم، بالعبادة اليومية على مدار الليل والنهار، وتطهير النفس على مدار العمر.

ومن الفساد ما يستغلظ فيحوج إصلاحه إلى آية من السماء مثل كسوف الشمس وخسوف القمر. وفي استشهاد أبي الشهداء آية من الآيات.

___________________

(١) اشتركت السيدة زينب أخت الحسين من أبيه وأمه معه في المعركة. وكان أثرها في مصير أهل البيت عظيما.

كانت زوجا لابن عمها عبد اللّه بن جعفر وكان قد أذن لها في الخروج مع الحسين فكانت تمرض المصابين في الصفوف أثناء القتال. ولقد هم شمر بن ذي الجوشن بقتل زين العابدين، فاحتضنته لتقتل معه، فانصرف المجرم مذموما مدحورا. ولما انتهت المعركة اقتيدت بين الأسرى إلى ابن زياد في الكوفة وإلى يزيد في دمشق ومعها زين العابدين تكلؤه بعناية اللّه على يديها لينجب، فيتسلسل منه أئمة أهل البيت الاثنا عشر، بل كل نسل الحسين من الرجال. وكانت مثال الشجاعة والبلاغة العلويتين في وجه ابن زياد ويزيد.

ولما أعيد الأسرى إلى المدينة أمر يزيد بإبعادها إلى مصر فسارت إليها، فاستقبلها أهل مصر في بلدة بلبيس على مبعدة عشرات الأميال من الفسطاط، وعلى رأس مستقبليها أمير مصر «مسلمة بن مخلد» فعاشت في مصر عاما. ثم ماتت سنة ٦٢. وقبرها في الحى المعروف باسمها وهو من أقدم أحياء القاهرة. وعلى مقربة منها حي السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن. جاءت إلى مصر مع زوجها في المائة الثانية للهجرة ولقيها الامام الشافعي ولما مات حملت جنازته إليها فصلت عليها وقالت (رحم اللّه الشافعي. إنه كان يحسن الوضوء) ويحمل اسم السيدة نفيسة حي معروف بالقاهرة، كما يحمل اسم « الحسين » المسجد الأشهر بالقاهرة والحي الذي يمجد عاصمة مصر وتتعالى فيه معاهد الجامع الأزهر وغيره من آثار الدولة الفاطمية والدولة الأيوبية ودولتي المماليك.

٤٤

كانت كربلاء قارعة رجت الأرض رجا بعيد الإسلام غضا في الأنفس، بما كان فيها من التصميم والإجماع على الاستشهاد في سبيله لقد انقضى بين يوم وفاة النبي وبين كربلاء خمسون عاما، كانت ضرورية لتدهور إحساس بعض الرجال في أجيال، تدهورا كافيا ليقتلوا ابن نبيهم وهم يصلون عليه وعلى آله الذين يقتلونهم

وحسب هؤلاء المجرمين حكما عليهم أن يقول لهم كبيرهم «يزيد ابن معاوية» وعيناه تدمعان: «قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين» .

وإنما أطلق الروع دموعه، وأنطق الفزع لسانه، بقالة رياء. فلقد كرر جنده يوم «الحرة» ما فعلوه، منذ عامين، في كربلاء. كما صنعوه مرة ثالثة إذ قذفوا الكعبة بالمنجنيق من أعلى جبل أبى قبيس. فالجريمة الأولى تدفع إلى الثانية، فالثالثة وغيرها. والجرائم يصنعها المجرمون، وتصنع المجرمين.

ويبقى هذا الرياء من يزيد، صيحة استهزاء بقوم باعوا أنفسهم للشياطين. لقاء متاع قليل، لا يلبث أن يزول. قد لا يرضى عنه من ارتكب لأجله، لكنه مأخوذ به، ولو لم يرض عنه. فالقائد الظالم مسئول عما يقع من جنده. فما يظلمون إلا بظلمه، إن لم يظلموا بأمر صريح منه.

قالوا: كان الحسين يستطيع بالمداوره أو المناورة أن يكسب الزمن، أو يستطيع بالاستسلام أن يكسب الحياة، لكنه الذي قال فيه وفي أمه وأبيه وجده، إقبال(١) :

هي بنت من هي زوج من هي أم من

من ذا يداني في الفخار أباها

ومن قبله رفض أبوه رأي المغيرة بن شعبة أن يكسب الزمن بترك معاوية على الشام حتى يبايع. فلم يقبل علي أن يناور أو يكسب الزمن.

___________________

(١) الشاعر محمد إقبال. شاعر الهند وباكستان.

٤٥

وناور المغيرة فصار عاملا لمعاوية.

الحق أن الحسين قدم للمسلمين الذين تعاقبوا في آثاره على مدار الزمان، حجة بالغة من أهل بيت الرسول، إذ ينفردون في التاريخ بهذه الخصيصة التي لم يماثلهم، أو يقاربهم، فيها أهل بيت آخر في تاريخ الإنسانية: الاستشهاد في سبيل هداية البشر لما هو أقوم. وهي بعض خصائص الرسل.

منح الاستشهاد اسما لكربلاء. وخلد الأسماء التي تساقط أصحابها كالكواكب المنتثرة من السماء فوق الصحراء، لا لتنكدر، ولكن لتقدم للبشر درس الدفاع عن الحق. من فئة قليلة، واثقة في الحق سبحانه، لا تهمها أرواحها، وإنما يهمها العمل الصالح في ذاته.ولا تنظر إلى الساعة التي هي فيها، وإنما تمد أبصارها إلى مستقبل الإنسانية كله، لترتفع بالدنيا إلى مستوى أفكار الأئمة.

ولقد صدق الحسين المسلمين في كل موقف وقفه. وكان عند وصية أبيه له ولأخيه الحسن وهو يجود بأنفاسه الأخيرة (أوصيكما بتقوى اللّه ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما) فلم يبتغ الدنيا واشترى بها الآخرة . فأمس يقول (إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما).

وشملت السماء ابن النبي في كربلاء بمزيد من التأييد بمعان جليلة من جلال الإسلام ، نختار منها هنا واقعة منه وواقعة من عدوه : في الأولى أخذ إخذ أبيه فسقى جيش العدو من العين التي نزل عندها ولم يحرم الماء قاتليه(١) . وفي الأخرى ترك قائدان من القواد جيش ابن زياد، في وطيس المعركة، إلى الجماعة العزلاء حول الحسين، ليستشهدوا في الدفاع عن سيد الشهداء، بين رجاله الذين ماتوا عن آخرهم، وهم عليمون أنهم يخوضون معركة، خاسرة بكل المقاييس التي يتقايس بها المتحاربون، مظفرة بمقاييس المؤمنين.

___________________

(١) وتعلم عليهما صلاح الدين في حربه مع الصليبين يوم أرسل طيبه إلى الملك رتشارد قلب الأسد قائد الصليبيين.

وأين من قواعد الحرب الإسلامية قواعدها عند الأوربيين. إن ابقراط أبا الطب اليوناني الذي ورثت أوربة قسمه الأشهر يقسمه كل طبيب قبل أداء واجبه بالنزاهة والأمانة وعدم التعصب - لكن أبقراط علم الأوربين درسا آخر حين رفض أن يعالج مرضى الطاعون في الجيش الفارسي قائلا إن شرفه يمنعه من معالجة عدو لبلاده

٤٦

و لو عاش هؤلاء الشهداء العظماء ، سنوات أو أشهراً أخرى ، لماتوا كما يموت الآخرون لكنهم ماتوا شهداء «كربلاء»، ليحيوا في ضمير الزمان كله أمثالا للحق، وعناوين على عظمة الإسلام.

كانت كربلاء رسالة من ابن النبي للمسلمين: هي الأولى من نوعها بما تحتويه من دروس. لا تحصى، فحسبنا أن نشير إلى البعض منها. وفي الدرس الواحد جماع دروس:

وأول الدروس يتعلق بالحق ذاته. وفي الحق أعظم الدروس: أن لا يقر أحد الباطل. وأن يقدم في سبيل ذلك نفسه، وأن يكون قدوة. وألا يهاب المكثورون كثرة الظلمة. فالأمم تبقى بالمقاومة ولا تصيبها الهزيمة إن فقدت معركة، ما دامت فيها إرادة النصر، يسعى إيمانها بين يديها لتبلغ غرضها كله، إن لم يكن من فورها، فمرحلة بعد مرحلة .

وأول من تعلم على الحسين بن علي درس سنة ٦١ كان عبد اللّه ابن الزبير باستشهاده بمكة بعد أعوام عشرة، وهو مكثور بجند عبد الملك ابن مروان بعد إذ حرقوا الكعبة، كما حرقها جند يزيد بن معاوية.

وتعلم عمر بن عبد العزيز وعلم المسلمين - في مدة خلافته - أن الكلام أو الصياح، ليس الأداة المثلى للإصلاح، وإنما المواقف هي التي تهز وجدان الشعوب، فكان له أعظم المواقف إذ بدأ بنفسه وأهله فضحى فكانت فيه الأسوة الحسنة. وكلل اللّه سعيه في أقصر مدة: ثلاثين شهرا كانت كافية لإصلاح دولة أدماها نحو قرن من الفساد، ولإستاد أمة تنتظر القدوة من حكامها فلا تجدها.

٤٧

والدرس الثاني: يتعلق بجزاء السماء وبمصاير الطغاة وطرائقهم: إنهم يحسبون الدنيا تدوم ولا تدور، ولا يدركون أن (الدهر بالإنسان دوارى)، كما يقول الشاعر العربي. وتركبهم شياطين الشهوة فيخالون أنهم يمسكون كرة الأرض في قبضتهم. يصطعنون أسباب الوثوب على أعدائهم من حين لآخر، ويتحينون الفرص المواتية، ويختلقون الأعذار الزيوف، ليقطعوا دابر العدو. وكلما جد جيل جدت لهم الأعذار ولم تغنهم النذر فالذي حاوله فريق معاوية. مع علي في صفين ولم يظفر به - من إفناء شيعة علي أو من الإطاحة بأخصامه بالسم من الوجود - قد أتاحته ليزيد فرصة في كربلاء.

وللطغيان طبيعة ومنهج. ومن طبيعته أن يعمى ويصم. فلا ينظر ولا يسمع إلا ذاته وأصواته. وأما المنهج فهو الغيلة. مرة واحدة إن أمكنه، وإلا فوثبة وثبة. ولكل واحدة ما بعدها.

والذي قارفه يزيد ليس مجرد سقطة وإنما كانت أم السقطات. فمن بعد كربلاء كانت وقعة الحرة، ثم كان حريق الكعبة . في سنوات ثلاثة متعاقبة. فحق عليها جزاء السماء فأوردته حتفه . والسماء تملي للظالم، حتى إذا أخذته لم تفلته.

والدرس الثالث: يتعلق بأهل البيت أنفسهم.

١ - فهم العترة الطاهرة. يدخلون الجنة مع جدهم، بعملهم، فلا يعملون إلا العمل الأصلح. والذي صنعوه في كربلاء هو الذي كان يصنعه جداهم. والذي صنعه أصحابهم معهم هو الذي كان يصنعه الصحابة - وأعظم به وبهم صنيعا وصناعا. فما هو إلا صفحات جديدة يضيفونها إلى السيرة العطرة.

٢ - وهم مثل جميع المسلمين، إن لم يكن قبل جميع المسلمين، مطالبون بالجهاد والتضحية وليس فضلهم ليسقط التكليف عنهم. كما يزعم بعض المتصوفة عن رجال من المتصوفين.

وهذا درس للمتواكلين الذين لا يقبل الإسلام تواكلهم.

٤٨

٣ - وهم يبلغون الذروة فيما يعملون: إذا حاربوا ماتوا شهداء، ولم يعطوا الدنية أو يستسلموا. لأن للمسلمين فيهم، كما كان لهم في جدهم، الأسوة الحسنة. وفي بيتهم سمقت المبادئ الكبرى. فمنهم يطلب البلاء الممتاز. ومن هذا كان صغارهم، كالكبار منهم، أبطالا يستشهدون ولا يتراجعون.

لقد أذن الحسين لصحبه في أن يعودوا تحت جنح الليل ويدعوه وحده يواجه مصيره، فلم يقبل ذلك واحد منهم. ولم يرجف المرجفون من خصومهم، حتى اليوم، بأن واحدا منهم قد تردد. بل قال له ابنه زين العابدين، وهو مريض طريح على الثرى لا يقدر على الحركة، (ألسنا على الحق) قال (بلى واللّه الذي يرجع إليه العباد) قال الفتى (فإذن لي نبالي).

والدرس الرابع: يدور حول وحدة العمل الصالح. وفيه يجتمع الحق والحقيقة في المبدأ والمنتهى وما بينهما. فإذا كانت الحقيقة أن أبناء الرسول رجال سلم وعلم وقيادة، فهم لا يدارءون وراء هذه الحقيقة، فيقعدون عن الجهاد - جنودا - للحق، أو يكتفون دونه بالعلم إذا دعا الداعي إلى الجهاد، أو يوصون بالسلم حيث الحرب واجبة لإعلاء كلمة اللّه، بل يستمسكون بالحق ويضعون الحقيقة كلها في خدمته.

والحق والحقيقة والعمل الصالح كل لا ينقسم. والأهداف العظيمة لا يبلغها الناس إلا باعمال عظيمة ووسائل سليمة.

والدرس الخامس درس في الواجب وأدائه في كل الظروف. وإن وهم المطالب به أنه غير مجد عليه أو على غيره - فهو لم يصبح واجبا إلا لأن التكليف به يحقق المصلحة العامة أو الخاصة، إن حالة وإن مؤجلة، منظورة أو غير منظورة. وهو قد أصبح واجبا لأنه فضيلة وإذا لم يكن مجديا في لحظة، أو لرجل، ففي القيام به خير للناس، وللدنيا، في الظرف ذاته أو في ظروف أخرى.

٤٩

والظروف غير المواتية لا تجعل الفضائل غير مواتية. فالفضائل مواتية أبدا، مطلوبة دائما.

وإذا كانت القدرة شرط التكليف والرخص متروكاً تقديرها للرجال، فبالمعاناة أو التضحية ينسلخ الأقوياء من مسلاخ الضعفة. ويخلع الناس على العظماء وصف العظمة.

وما المعاناة والتضحية إلا محاولات للثبات في وجه الخطر، أو لاقتحامه. فهي درجات فضل وأدوات تقدم في معترك الوجود الإنساني. تضيف إلى تياره المتدفق أسباب طهر ونقاء، وأساليب بقاء، منظورة للكثيرين، وإن عمى عنها آخرون.

والدرس السادس: يتعلق بوظيفة التاريخ. فهو يصحح العوج ويصوب الانحراف، بالاستقامة على الجادة، خضوعا للعدل. وهو قانون السماء.

إن الغلام المريض الذي بقى في خيمة أبيه يوم كربلاء (زين العابدين) سيحيا ثلاثة وثلاثين عاما حتى عام ٩٤، لتتسلسل في عقبه ذرية ترفع أعلام الإسلام عالية في ضمائر البشر. في حين أن الطاغية الذي يرسل النار والدمار على البيت العتيق بالحجاز وعلى أهل البيت، في صحراء العراق، سيزول ملكه - هو - وينقطع دابره - هو - بعد ثلاث سنين بتنازل من ابنه عن ذلك الملك. لينقطع اسم معاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن معاوية، من سجل الحوادث. وتخلد آثار أهل البيت ما تعاقب الجديدان، آية من السماء على أن دولة القتلة لم تعش. وأن دولة القتلى ستعيش أبدا. وأن دولة الظلم لا تبقى بمقاييس الزمن إلا ساعة أو هنية - أما دولة العدل فتبقى إلى قيام الساعة. وأنه تعالى صادق الوعد (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه واللّه مع الصابرين).

وما أكثر ما كانت الغلبة ببقاء أسباب الانتصار، يتحقق بها النصر في مكان آخر أو زمان آخر، بقوم يحبهم اللّه فينصرهم مهما كان عددهم، ويحبونه فيجودون بأرواحهم.

٥٠

والدرس السابع: درس في مبلغ ما تنجح الاستقامة ويفلح الإخلاص: فإذا كان أقرب الخطوط إلى الهدف هو الخط المستقيم وإن كان ترسمه أشد رهقا، فإن استشهاد أبي الشهداء كان الأساس السليم لقيام الصرح العظيم الذي جمع بين عمله وبين اسمه فصيرهما مبدأ. يحدث أثره في عمارة الدنيا وإصلاح الجماعة، في شكل قيام دولة، أو غلبة مذهب، أو وجود قدوة، أو ازدهار أمل، في بعث منتظر.

بهذا دارت الأفكار الدينية والمذاهب الفقهية للشيعة، سواء الإمامي منها، أو الاسماعيلي، أو الزيدي. في آفاق الحسين العالية. وبلغت أوجها في الفقه العملي القدير على التطور وفق حاجات البشر، في العبادات والمعاملات والأخلاق والنهج العلمي.

واستمسك المسلمون عموما والشيعة خصوصا، بالحسين وآله وأبنائه، واقتدوا ببطولاتهم، ومقولاتهم، فاستخرجوا منها أصولا زخارة. وبنوا عليها فروعا في الدين والاقتصاد والسياسة والاجتماع، لتقيم نظما سياسية وعلمية وفكرية واقتصادية متكاملة، هي كالنهر العظيم يجري إلى جوار النهر الذي يسبح في تياره أهل السنة.

والنهران يتجاريان، كأنهما البحران يلتقيان، على أصول الإسلام، ويعملان - كل على شاكلته - في تدعيم مبادئه.

وفي استشهاد علي بطعنة خارجي ركبته الشياطين، وفي ظلم معاوية وقومه له، حيا وميتا، وفي استشهاد الحسين وبنيه، وبني أخيه، ومن كانوا معه من الشهداء الذين ذكرناهم، والذين سنذكر البعض منهم، على أيدي الكثيرين ممن سنرى فظائعهم بعد، نمت وترعرعت عقيدة أهل الإسلام.

١ - أن عليا قبل التضحية دائما، في جوار النبي، وبعده، هو وبنوه. وأنهم ضربوا الأمثال من أنفسهم، لا بمجرد النصيحة أو الفصاحة أو السياسة، ولكن بالدم الذي يتكلم، فتكون له بلاغة الشهادة بين يدي اللّه سبحانه. فأصبحوا عنوانا على العدل المفتقد،والأمل المنتظر، وبابا للرجاء في عدل السماء، لتتدارك المسلمين برحمتها ومغفرتها.

٥١

٢ - أن المسلمين يضيفون إلى حساب الحسين، من حساب بني أمية وعمالهم وسفاحيهم، إذ أرادوا السلطة والمال وشفاء صدور قوم مبطلين. فقطعوا صلتهم باللّه يوم قطعوا رأس ابن بنت رسول اللّه. وفي حين يتراءى قتلة أمير المؤمنين علي «خوارج» كما تضافرت الأمة على وصفهم. أو «بغاة» كما سماهم أمير المؤمنين نفسه، إذ لم يخرجوا عليه إلا لفهم مخالف من أجل الدين، يتدلى قتلة الحسين إلى أدنى درك في جهنم، سفاحين أجراء. وتتعالى بطولات الحسين قدر ما تتعمق الحسرة من أجل استشهاده. فتبرز في إجماع المسلمين عليه بطلا، وفي الفكر الشيعي، حيث يضاف جهاده إلى الوصية له بالإمامة.

فهذا يوم للحسين وحده. ناله بحقه. وفيه سند لإمامة الأئمة من أبنائه: علي زين العابدين. فمحمد الباقر. فجعفر الصادق. فالباقين من الأئمة.

ظلت شجرة العدل، والعلم، والأمل، تسقى بدماء الشهداء كلما رأت السماء مصلحة للأمة. فلم تلبث الكوفة بعد نحو عام واحد من وقعة الحرة أو ثلاثة أعوام من يوم كربلاء أن هز ضميرها تقصيرها. فقامت من الفور حركة التوابين سنة ٦٤(١) بين أهل الكوفة الندامى على ما فرط منهم من تقصير. فقتلوا قتلة الحسين وقواد جيش عبيد اللّه ابن زياد. ولم تنته الندامة بقتل المختار بن عبيد زعيم التوابين سنة ٦٧،

___________________

(١) تزعمها المختار بن عبيد اللّه الثقفي قائد عمر لفتح العراق. وكان المختار بن عبيد اللّه ممن قدموا مع مسلم بن عقيل رسول الحسين إلى الكوفة فحبس ثم شفع له صهره عبد اللّه بن عمر فقبل ابن زياد الشفاعة فيه إذ لم يخف خطره. ولما خرج المختار أعلن أنه يحارب باسم محمد بن الحنفية (أخى الحسين لأبيه) ثأراً لدم الحسين. وانتصر المختار على جيوش بني أمية. ثم قتله مصعب بن الزبير سنة ٦٧. وأعلنت عليه حرب الدعايات فاتهموه بادعاء النبوة وأن من اتباعه من ينتظرون رجعته.

٥٢

بل توالت الحروب على دولة بني مروان، بقيام دولة عبد اللّه بن الزبير، وخروج الخوارج، وقيام الفتن، ومنها فتنة ابن الأشعث وقد انضم إليها العلماء. وخروج زيد بن علي زين العابدين، وخذلان أهل الكوفة له سنة ١٢١ كما خذلوا جده سنة ٦١. فاستشهد زيد ومثل برأسه(١) الخليفة هشام بن عبد الملك، ثم استشهد ابنه يحيى سنة ١٢٥.

وكان جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين شجرة باسقة تترعرع في كل ورقة من أوراقها خصيصة من خصائص أهل البيت في عصر جديد للعلم. تعاونت فيه أجيال ثلاثة متتابعة منه ومن أبيه وجده.

ولما استمسك بإمامته وقنع بمنصبه التعليمي، علا قدره في أعين طلاب السلطة. وأمنوا جانبه. واتخذوا من زهده فيها شهادة لهم ضد من ينازعونهم.

لكنه كان الغرض الذي تنجذب إليه الأنظار: فهو يمثل العقيدة الدينية التي يقاس بفضائلها عمل الحكام في الإسلام، وما يتبعه من رضى العامة عنهم، أو سخطها عليهم.

وهو - بوجه خاص - حجر الزاوية من صرح (أهل البيت) ترنو إليه أبصار الذين يدعون الخلافة بدعوى أنهم من «أهل البيت».

وهو مقيم في المدينة، العاصمة الأولة، والدائمة، للإسلام، يتحلق فيها المتفقهة، حول علماء الإسلام في مسجد الرسول، يحملون بأيديهم مصابيح السنة، أو يعلنون شرعية الحكومة أو عدمها، وحسن السيرة أو فسادها، وإقرار أهل العلم أو إنكارهم. وهي أمور أساسية، تحرص عليها الدولة العادلة، وتتجنب الاتهام بمخالفتها أي دولة.

___________________

(١) لم تمض أعوام حتى دالت دولة بني مروان، ونبش العباسيون قبور معاوية وابنه يزيد وعبد الملك بن مروان فلم يجدوا فيها ما يصنعون فيه مثلة. أما قبر هشام فوجدوا فيه جثة هشام لم تبل بعد، فصنعوا فيها أكثر مما صنع برأس زيد. إذ أمر السفاح بضربها بالسياط وصلبها وحرقها وتذريتها في الهواء.

٥٣

وإذا كانت دمشق قد أدارت ظهرها لمدينة الرسول، أو كانت بغداد قد فتحت أبوابها على العالم، وأوصدتها دون أهل المدينة، فالمسلمون يأتون إلى مدينة الرسول كل عام، خفافا وعلى كل ضامر، إذ يحجون إلى البيت العتيق بمكة، ويزورون قبر الرسول ويشهدون آثاره في المدينة.

وإذا كان الخليفة المنصور يقول عن نفسه: «إنما أنا سلطان اللّه في الأرض» فهو يحس وطأة «سلطان الدين والعلم» في المدينة، حيث إمام المسلمين غير منازع «جعفر بن محمد» الذي يصفه الناس - وأبو جعفر المنصور في طليعتهم - «بالصادق».

ومن أوصافه كذلك: «الطاهر» و «الفاضل» و «الصابر».

الباب الثاني : بين السلطان والإمام

«السلطان كراكب الأسد»

«يهابه الناس، وهو لمركوبه أهيب»

أفلاطون

مقدمة:

آلت الخلافة إلى بني العباس سنة ١٣٢ وكان «السفاح» أول خلفائهم، ثم مات فخلفه أبو جعفر المنصور، ليبقى في الخلافة اثنين وعشرين عاما(١٣٦ - ١٥٨) وطد فيها أركان الدولة العباسية، وأخضع الخارجين عليها في كل أرجاء «الإمبراطورية» فهي لم تعد دولة دينية كما دعوا لها منذ بثوا دعاتهم من فاتحة القرن. ولم تصر «للرضا من آل محمد» كما كانوا يدعون. بل غصبوا حق أبناء علي، كما كان بنو علي عند قيامها عاجزين عن تولي السلطة. وكان أحقهم بها - وهو جعفر بن محمد - عازفا عنها، عارفا أن مهمة حياته هي تعليم المسلمين.

٥٤

وجرت الأمور مجراها الطبيعي للغالبين على السلطة، يطوون أضالعهم على الخوف والحقد والحذر. ويشرعون أسلحتهم في كل مكان للدفاع عن دولتهم. وكان ذوو القربى في طليعة الأعداء. فاستعرت الشحناء بين الأقرباء. ثم سالت الدماء. وجعفر الصادق، بعزوفه واستعلائه، بعيد عن المذابح. لكن بعده عنها، لا يقيه بطش خليفة حذر، متنمر، تدعوه إلى المواجهة الشرسة ما توسوس له هواجسه مخافة أهل البيت وشيعتهم. وكان توفيق السماء حليف الإمام في مواجهاته، وإن بقيت الدولة على حذرها، تنزل بأهل البيت العذاب والاسترهاب والحبس والقتل للخلاص منهم - مع التظاهر بالعدل فيهم، حتى تقطع دابرهم.

الفصل الأول : بين السلطان والإمام

«إنما أنا سلطان اللّه في الأرض»

(أبو جعفر المنصور)

أهل البيت

اختلف أهل التأويل في صدد أهل البيت»، وهم يفسرون قوله تعالى في سورة الأحزاب (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا، وإن كنتن تردن اللّه ورسوله والدار الآخرة فإن اللّه أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) ثم يوجه الخطاب في الآيات ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ ، - وفي الأخيرتين يقول - لنساء النبي - (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى. وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن اللّه ورسوله. إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات اللّه والحكمة إن اللّه كان لطيفا خبيرا).

٥٥

وإذ كان التطهير هو الدرجة العليا للبشر. والاختصاص به بين المسلمين يجعل لأهل البيت حقوقا وامتيازات تؤهل لإمامة الدين، وإمامة الدنيا، أي خلافة الدين والدنيا، وكان ثمة سنن مروية في تفضيل علي وبنيه وجعلهم من الأمة مجعل الأوصياء أو الأئمة وهذا شأن لا يسلمه بنو أمية، ولا بنو مروان، ولا بنو العباس، ولا كثير من قريش، فقد ذهب الفقهاء عموما، والمفسرون خصوصا، مذاهب شتى في تعريف أهل البيت، يمكن تحصيلها فما يلي:

١ - قال الشيعة: إن أهل البيت هم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين. يؤيدهم في ذلك حديث أم سلمة أم المؤمنين أن النبي أجلس الأربعة حوله على كساء له وضعه فوق رءوسهم وأومأ بيده اليمنى إلى ربه ثم قال (اللهم هؤلاء أهل البيت. فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا).

وعن أم سلمة أن الآية نزلت والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتها وإنها عندئذ كانت على باب البيت فقالت: أنا يا رسول اللّه من أهل البيت ؟ وأنه قال (وإنك إلى خير وأنت من أزواج النبي) وعنها أنها قالت: يا رسول اللّه أدخلني معهم. وأنه قال (إنك من أهلي).

٢ - وقال البعض: بل عنى اللّه بذلك أزواج النبي. والحجة في ذلك توجيه الخطاب إليهن. ونقلوا ذلك عن ابن عباس، تلميذ علي، وشيعته، وعامله - وذهبوا إلى أن « البيت » أريد به مساكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣ - وقال فريق: بل إن (أهل النبي) هم أهل بيته. ولو كان أهل البيت هم زوجاته فقط لكان النص (ليذهب عنكن الرجس) لا (عنكم) كما هو النص في الآية. فدخل في ذلك رجال. وأهل النبي - بدلالة السنن التي أشرنا إلى بعضها - هم فاطمة وعلي والحسن والحسين ويؤيد ذلك قول الآية (ويطهركم). وهذا يوافق الرأي الأول.

٤ - وإذا دخل الرجال فهم - كما قال فريق آخر - بنو هاشم. والبيت يراد به بيت النسب. فيدخل في ذلك أعمام النبي، وفيهم بنو العباس وبنو أبي طالب.

٥٦

٥ - ويتوسع محيي الدين بن عربي(٥٦٠) - في الفتوحات المكية - فيدخل «الفارسي» في أهل البيت. إذ الرسول يقول (سلمان منا أهل البيت) ويضيف ابن عربي أن جميع ما يصدر عن أهل البيت معفو عنهم فيه. فهم مطهرون بالنص. معصومون. وإن توجهت عليهم الأحكام الشرعية. ويذكر البعض قول الرسول (سألت ربي أن لا يدخل النار أحدا من أهل بيتي فأعطانا ذلك) وقوله يا فاطمة. تدرين لم سميت فاطمة؟ فقال علي لم سميت؟ قال عليه الصلاة والسلام (إن اللّه عز وجل قد فطمها وذريتها من النار يوم القيامة)

٦ - وفريق يرى أن أبناء علي من الزهراء هم الذرية المقصودة في سورة الطور حيث قوله - جل ثناؤه (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) ورووا عن ابن عباس أن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (إن اللّه ليرفع ذرية المؤمن إليه في درجته).

وبهذا ترتفع ذرية النبي - وهي ذرية علي من الزهراء - فتلتحق بالنبي. وهذا المعنى تفيده الآية ٢٣ من سورة الرعد (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) فأهل البيت ذرية داخلة الجنة مع جدها عليه الصلاة والسلام.

٧ - وهذا فريق يوسع فيشمل ذوي القربى، وتشمل آل محمد، بقوله تعالى في سورة الشورى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى).

وقال قوم إن للنبي قرابة في كل بطن من بطون قريش، وإن كان أخص القرابة هم الذرية.

وظاهر أن كل هذه الأفراق على أن ذرية علي من فاطمة من أهل البيت، وأن الخلاف فيما عدا ذلك، فيرجح البعض أن القرآن والسنة الشارحة يجعلان أهل البيت هم ذرية النبي من علي وفاطمة، وهما، ومعهما أمهات المؤمنين رضوان اللّه عليهن.

لكن الشيعة يقولون قولا واحدا: إن الذرية وحدها وعليا وفاطمة هم أهل البيت ، بدلالات شتى من الحديث ثابت منها أن النبي طفق ستة أشهر - بعد نزول آية التطهير - يمر وقت صلاة الفجر على بيت فاطمة فينادي (الصلاة يا أهل البيت. إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). فهذا نص. وأنص منه حديث أم سلمة. إذ أفصح عنهم. واستبعد سواهم.

٥٧

وفي بعض الروايات أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدخل عليا وفاطمة وابنيهما تحت الكساء ثم جعل يقول «اللهم إليك لا إلى النار وأنا وأهل بيتي. اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي - وفي رواية وحامتي - اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا).

وسيظل وصف أهل البيت قضية بين بني العباس وبني علي. فهو من مسوغات الخلافة واستمرار الرضى عنها. سأل الرشيد يوما الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق: بم قلتم نحن ذرية رسول اللّه وأنتم بنو علي؟ قال: قال تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى) وليس لعيسى أب، وإنما ألحق بذرية الأنبياء من قبل أمه. وكذلك ألحقنا بالنبي أمنا فاطمة. وزيادة على ذلك قال عز وجل (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين) ولم يدع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مباهلة النصارى غير علي وفاطمة والحسن والحسين.

ولم يكن لوصف أهل البيت كبير خطر، في دنيا الملوك من بني أمية، فلقد غلبوا أهل البيت على أمرهم جهارا نهارا، برماحهم، واستقرار الأمور لهم - لكن الدولة في عهد بني العباس قامت على شعار الدعوة «للرضا من آل محمد» دون تسمية أحد بذاته.

ولما أقبلت جيوش خراسان يقودها أبو مسلم الخراساني، بالدولة الجديدة، بعد ربع قرن من الإعداد السري، كان مقدمها استجابة لهذا الشعار.

كتب أبو مسلم الخراساني أيامئذ إلى الإمام جعفر الصادق (إني قد أظهرت الكلمة ودعوت الناس عن بني أمية إلى موالاة «أهل البيت». فإن رغبت فلا مزيد عليك) وأجاب جعفر الصادق معلنا فلسفته (ما أنت من رجالي. ولا الزمان زماني).(١)

___________________

(١) خرج عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب على بني مروان سنة ١٢٧ في الري بخراسان ثم استسلم لأبي مسلم بعد إذ ظفر الأخير بجيوش بني مروان. وكتب إليه يستعطفه بقوله (من الأسير بين يديه بلا ذنب إليه ولا خلاف عليه. فان الناس من حوضك رواء ونحن منه ظماء رزقنا اللّه منك التحنن فإنك أمين مستودع ورائد مصطنع. والسلام عليكم ورحمة اللّه) ولم يطلقه أبو مسلم. بل أورده حتفه. وقيل سمه.

٥٨

وفي الوقت ذاته بعد أبو سلمة الخلال - الملقب بوزير آل محمد، والذي سيصبح وزيرا للسفاح أول خلفاء بني العباس - إلى جعفر الصادق، وعبد اللّه بن . «الحسن»، وعمرو الأشرف، من أبناء علي، مع رجل من موالي أبي سلمة قائلا له: إن أجاب جعفر فلا تذهب إلى غيره، وإن لم يجب فاقصد إلى عبد اللّه. فإن أجاب فأبطل كتاب عمرو. وذهب الرسول إلى جعفر فقال: مالي ولأبي سلمة، وهو شيعة لغيري. ووضع الكتاب في النار حتى احترق - وأبى أن يقرأه. قال الرسول: ألا تجيبه ؟ قال: قد رأيت الجواب.

ثم مضى الرسول إلى عبد اللّه. فقرأ الكتاب. وقصد إلى جعفر الصادق ينبئه بورود الكتاب إليه من شيعته بخراسان. قال الصادق له: ومتى كان لك شيعة بخراسان؟ أأنت وجهت أبا مسلم إليهم ؟ هل تعرف أحدا منهم باسمه ؟ فكيف يكونون شيعتك وهم لا يعرفونك وأنت لا تعرفهم

قال عبد اللّه: كأن هذا الكلام منك لشيء؟

قال الصادق: قد علم اللّه أني أوجب النصح على نفسي لكل مسلم. فكيف أدخره عنك؟ فلا تمن نفسك فإن الدولة ستتم لهؤلاء.

وذات يوم دخل على جعفر الصادق سدير الصيرفي قال: يا أبا عبد اللّه. ما يسعك القعود. قال لم ؟ قال لكثرة أنصارك . مائة ألف. مائتي ألف. فتساءل الإمام عن عدد المخلصين منهم. وأبدى زهدا وبصرا بالعواقب.

والحق أن زين العابدين وابنه وحفيده وبنيهم لم يتجهوا إلى أن تكون لهم «دولة». ومن ذلك قول الكاظم لهشام بن الحكم (يا هشام كما تركوا لكم الحكمة اتركوا لهم الدنيا).

ولما خرج زيد بن زين العابدين على هشام كان خروجه ثورة طارئة. والمنهج الزيدي غير منهج الإمام جعفر. وثورة زيد لم يسبقها إعداد بل استجاب لأهل الكوفة فخذلوه كما خذلوا جده. وإنما الذي فكر ودبر وأنفذ الدعاة، وتابع الدعوة، هم بنو العباس.

وإبراهيم الإمام يكتب إلى واحد من دعاته في خراسان (. وإن استطعت ألا تبقي في خراسان من يتكلم العربية فافعل) وهو تعطش للدم في سبيل السلطة، وسفك لدماء العرب خاصة، لا يقول به واحد من الأئمة.

٥٩

وكان بنو هاشم قد اجتمعوا قبل ذلك بالأبواء - مكان في أعلى المدينة - والقدور تغلي في خراسان، والجو يزخر بالنذر، فعلى الذين يرسلون الدعاة إلى خراسان، والذين تجري الدعوة لهم، أن يتدارسوا أمورهم، ليعرفوا لمن تؤول الأمور. فمثل فرع العباس بن عبد المطلب عم النبي إبراهيم الإمام (بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس)، وأخوه أبو جعفر (المنصور). وعمهما صالح بن علي. ومثل فرع بني علي بن أبي طالب، عبد اللّه بن الحسن (بن الحسن بن علي) وابناه محمد وإبراهيم. ومحمد بن عبد اللّه بن . عثمان ابن عفان (لأن أمه من بني الحسن بن علي) وهو أخو عبد اللّه لأمه.

وأجمع الفرعان على «محمد بن عبد اللّه بن الحسن» الملقب بالنفس الزكية لورعه الكامل وعلمه المشهود به. بل قد تحمس له أبو جعفر، وكان يومئذ يلبس قباء أصفر. ولما حج محمد لقى أبا جعفر فبايعه مرة أخرى. بالمسجد الحرام ذاته.وأمسك أبو جعفر بركابه يومذاك وراح يقول للناس: هذا مهدينا أهل البيت.

وإذ لم يكن لبيت الحسين ممثل في اجتماع يوم الأبواء بعث عبد اللّه بن الحسن إلى كبيرهم جعفر بن محمد فحضر واعترض على بيعة محمد بن عبد اللّه.

قال: لا تفعلوا. فإن هذا الأمر لم يأت بعد. لا ندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك. وفي رواية أخرى أنه أضاف: إن كنت ترى أن ابنك هذا هو المهدي فليس به. وإن كنت إنما تريد أن تخرجه غضبا للّه وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. فإنا واللّه لا ندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك(١) .

فغضب عبد اللّه وقال: لقد علمت خلاف ما تقول. ولكن يحملك على هذا الحسد لابني(٢) .

قال جعفر: واللّه ماذاك يحملني. ولكن هذا وأخوته وأبناؤهم دونكم . إنها واللّه ما هي إليك ولكن لهم. وإن ابنيك لمقتولان. ثم نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال: «أرأيت صاحب القباء الأصفر» - «أبا جعفر» - قال نعم: قال: فإنا واللّه نجده يقتله. قال عبد العزيز: أيقتل محمدا؟ قال نعم.

___________________

(١) وليس في نص الروايتين بيعة من جعفر الصادق لعبد اللّه أو لابنه محمد، كما وهم البعض، وإنما فيهما تفضيل للأب على الابن مع رفض البيعة.

(٢) وفي رواية أخرى أنه أضاف (وواللّه ما أطلعك اللّه على غيبه).

٦٠