الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام0%

الإمام جعفر الصادق علیه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 333

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المستشار عبد الحليم الجندي
تصنيف: الصفحات: 333
المشاهدات: 92441
تحميل: 12202

توضيحات:

الإمام جعفر الصادق علیه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 333 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92441 / تحميل: 12202
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق علیه السلام

الإمام جعفر الصادق علیه السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال عبد العزيز: فيما بعد (فقلت في نفسي حسده ورب الكعبة) ثم قال عبد العزيز: ثم واللّه ما خرجت من الدنيا حتى رأيته قتلهما (محمد وأباه).

قال: فلما قال جعفر ذلك انفض القوم فافترقوا ولم يجتمعوا بعدها. وتبعه أبو جعفر وعبد الصمد (من أعمام أبي جعفر) فقالا: يا أبا عبد اللّه (جعفر الصادق) أتقول هذا؟ قال نعم. أقوله واللّه وأعلمه .

قالوا: كان أبو جعفر يسميه الصادق لصدق نبوءته.

وقالوا: دعا محمد عمرو بن عبيد زعيم المعتزلة لمبايعته فاعتل عليه وقال لا أبايع أحدا حتى أختبر عدله.

ولقد ظل أبو جعفر المنصور يذكر هذا لعمرو.

وكان جعفر الصادق إذا رأى محمد بن عبد اللّه بعد ذلك تغرغرت عيناه وقال: بنفسي هو . إن الناس ليقولون إنه المهدي. وإنه لمقتول. ليس في «كتاب علي» من خلفاء هذه الأمة .

بايع أبو سلمة الخلال للسفاح. ولم يبايع لأبي جعفر، الأخ الأكبر، لأن أمه كانت أم ولد بربرية تدعى سلامة. وبدأ حكم بني العباس في سنة ١٣٢.

وأذيع في الملأ أن محمد بن علي - أبا السفاح - موصى له بوصية من «أبي هاشم» عبد اللّه بن محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب، إذ أحس عبد اللّه أثر السم الذي سقاه دسيس من الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان (٩٨) فمال في الطريق إلى حيث مات عند محمد « بالحميمة ». وثمة من يعتقد أن الإمامة قد انتقلت بعد استشهاد الحسين إلى أخيه محمد بن الحنفية (أمه خولة بنت جعفر من بني حنيفة).

وهذه الوصية تغني بني العباس عن الخلاف مع أبناء علي، في أن يكون العباسيون من أهل البيت أو لا يكونون.

بهذا صير بنو العباس محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس إماما. فلما مات آلت الإمامة إلى ابنه إبراهيم فنودي بأنه «ابراهيم الإمام». فلما قتل ابراهيم بايعوا للسفاح سنة ١٣٢.

٦١

بين ابناء علي وبني العباس

قضى «السفاح» على الأحياء من بني أمية، وبني مروان. فاستحق في التاريخ لقبه. وأدار وجهه للإخرين. فسأل عبد اللّه بن الحسن عن ابنه محمد (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم، فلما علم باختفائهما سكت عن الطلب حينا. ثم عاجله أجله. وولى أبو جعفر سنة ١٣٦. وألح في طلبهما، فأعجزاه هربا.

وللأقرباء، أو الأصدقاء، أولية في سورة السلطة إذا عريت من خشية اللّه. وأولى الناس بالفتكة البكر منها: الأقرباء إذا خيف أن يصيروا أعداء، والأصدقاء الذين يحتمل أن يقدروا على الإيذاء . فالأولون يغري السلطان بهم الحسد أو الحقد أو الخوف من جانبه، لما يعرفون من دخائل يخشاها. أو لما يتضح لهم من عورات، أو فيهم من مطامع. أو استخفاف بالسلطان، الذي رأوه وهو سوقة، أو مطالبة السلطان لهم بإعطائه حقه، أو أكثر من حقه. والآخرون أحرى بالخوف والحذر، سدا لذريعة الوثوب وافتراض الفرص. أو شغلا لهم بأنفسهم، أو معالجة من السلطان لما يكابده من الشجن أو الفزع من جراء الحكم، أو من العجز أو الجشع أو ضيق الصدر أو الأفق وكالسلطان أعوانه. ولا يتوازن في سدة السلطة الا القليلون. وقل ما يتوازنون. وللإمام الصادق في ذلك مقولة معلمة (إذا كان لك صديق فولي ولاية فأصبته على العشر مما كان لك عليه قبل ولايته فليس بصديق سوء).

قيل لأبي جعفر «لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو» فقال: (لأن بني مروان لم تبل رممهم بعد. ونحن بين قوم قد رأونا بالأمس سوقة ونحن اليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا فى نفوسهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة).

وصاحب السلطة كراكب الأسد - على ما قال أفلاطون - يهابه الناس وهو لمركوبه أهيب.

لهذا أخذ بنو العباس أبناء علي، أخذ ظلوم غشوم، وبطشوا، وغدروا بمن حذروهم من أنصارهم وذويهم، كعبد اللّه بن علي عم المنصور. وأبي مسلم الخراساني قائدهم. وأبي سلمة الخلال وزيرهم، بمثل ما غدروا باعدائهم بعد أن أمنوهم.

٦٢

ولما أعطى أبو جعفر المنصور محمد بن عبد اللّه أمانا كتب إليه محمد ساخرا (أي أماناتك هو؟ أأمان ابن هبيرة، أو أمان عمك عبد اللّه أو أمان أبي مسلم) . فقد أعطى أبو جعفر عهودا للكل، وقتل الأول والثالث ولم يكن قد قتل الثاني بعد. لكنه كان قد حبسه من سبع سنين ليقتله بعد أن يقتل محمد بن عبد اللّه بن الحسن ذاته. فصير خلافته، كالمسبعة، لا يأمن فيها الصديق، أو العدو، أو الصياد، أو الفريسة

وزاد ضراوة أبي جعفر على أقربائه أن لواحد منهم في عنقه بيعة، على ملأ منهم. كانت حرية أن تمنعهم وتمنعه، لولا ما للشهوة من خدر يطيح بالتوازن، فسولت له نفسه أن يتخلص من البيعة بالخلاص ممن بايعه، وإن كان من قبل يمسك بركابه. بل طوعت له شهوته أن يتخلص ممن قد يشهد ضده حتى لا يراه الناس أو يسمعوه يحكي لهم ما قد رأى وقد سمع:

قال يعقوب بن عربي: (سمعت أبا جعفر يقول في أيام بني أمية ما في آل محمد أعلم بدين اللّه ولا أحق بولاية الأمر من محمد بن عبد اللّه. وبايع له وكان يعرفني بصحبته ، والخروج معه . فلما قتل حبسني عشرين سنة).

طلب أبو جعفر من عبد اللّه بن الحسن ابنيه محمدا وإبراهيم. فأنكر مكانهما، فتقاولا. وأغلظ كل لصاحبه، وانصرف الخليفة من المدينة. فبث الجواسيس يأتونه من كل مكان بأخبار بني الحسن.

وفي سنة ١٤٠ قصد أبو جعفر للحج فنزل بالمدينة. ودعا عبد اللّه بن الحسن وطالبه بولديه.

وكانا يأتيان أباهما معتمين في هيئة الأعراب فيستأذنانه في الخروج فيقول «لا تعجلا حتى تملكا. إن منعكما أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين».

ولما لم ينل أبو جعفر منالا انصرف من المدينة وأمر بحبس عبد اللّه، وأهل بيته، فبقوا في السجن ثلاث سنين في دار مروان - دار الإمارة في حكم بني أمية - حتى إذا كانت سنة ١٤٤ ولى أبو جعفر المنصور رباح بن عثمان عاملا على المدينة.

وحج في العام ذاته فتلقاه عامله بالربذة فرده إلى المدينة لإشخاص عبد اللّه ابن الحسن وأهل بيته - بما فيهم محمد بن عبد اللّه . بن عثمان - شاهد البيعة يوم الأبواء - فكانوا خمسة عشر أخذوا في محامل إلى الربذة. ونظر الإمام الصادق إليهم وعيناه تهملان حتى

٦٣

جرت دموعه على لحيته. واقتيدوا إلى الربذة في الأغلال. ومزقت السياط جسد (محمد بن عبد اللّه . بن عثمان) حتى إذا خرج أبو جعفر في محمل، ناداه عبد اللّه بن الحسن قائلا: يا أبا جعفر. واللّه ما هكذا فعلنا بأسراكم يوم بدر . فلوى أبو جعفر رأسه كبرا ولم يعرج. وحمل أهل البيت تلقاء النجف. حتى إذا دخلوا الكوفة حبسوا في قصر كان لابن هبيرة في شرقي الكوفة . وهدم عليهم البيت بعد ستين يوما. فمات الذين لم يموتوا في أثنائها. ودفن الجميع تحت الأنقاض. وشيخهم عبد اللّه في الخامسة والسبعين

وخرج محمد بن عبد اللّه لليلتين بقينا من جمادي سنة ١٤٥ فاستولى على المدينة. وخرجت المدينة بأسرها مع محمد. فكان في جيشه علماؤها الفحول. فيهم ابن هرمز شيخ مالك. وابن عجلان، وابن أبي سبرة، وعبد اللّه بن عمر العمري. ومصعب بن ثابت الزبيري. اما مالك فاكتفى في الحرب بفتياه أن بيعة المنصور كانت مكرهة، ومن أجلها أصابه ما أصابه(١) من والي أبى جعفر وابن عمه سنة ١٤٦.

وخرج مع محمد موسى وعبد اللّه ابنا الإمام جعفر الصادق.

وقصد جعفر الصادق إلى محمد في مجلس حربه قال: أتحب أن يصطلم أهل بيتك (يستأصل) قال ما أحب ذلك. قال: فإن رأيت أن تأذن لي، فإنك تعرف علتي. قال محمد: قد أذنت لك. ومضى جعفر الصادق: فالتفت محمد إلى ابني جعفر وقال لهما: الحقا بأبيكما فقد أذنت لكما. والتفت جعفر فقال: ارجعا فما كنت لأبخل بنفسي وبكما. فحاربا مع محمد أعظم حرب، وكان لعبد اللّه بلاء ممتاز.

ووجه المنصور إلى المدينة جيشا بقيادة ابن عمه، وولى عهده، عيسى بن موسى.

وفي غرة رمضان خرج إبراهيم أخو محمد واستولى على أكثر من مكان في إقليم البصرة - ثم استشهد محمد في ١٤ من رمضان سنة ١٤٥ هـ واستشهد إبراهيم(٢) عند باخمري لخمس بقين من ذي القعدة. وأرسلت رأسه إلى أبي جعفر المنصور، فطوف بها في الآفاق.

___________________

(١) مالك بن أنس - عبد الحليم الجندي - طبعة دار المعارف ص ٢٣٨ حيث تفصيل الواقعة

(٢) كان صاحب فقه وأدب. سأل عن صاحب له فقيل تركناه يريد أن يموت فضحك قوم: فقال: لقد ضحكتم منها عربية قال عز وجل (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه). يعني يكاد أن ينقض. فوثب أبو عمرو بن العلاء فقبل رأسه وقال (لا نزال واللّه بخير ما دام مثلك فينا) وأبو عمرو من أئمة اللغة الأولين.

٦٤

واستولى عيسى بن موسى على عين أبي زياد، ضيعة جعفر الصادق التي يقتات منها، ويشرك في ثمرها أهل المدينة.

وسنرى المنصور بعد عامين من انتصار عيسى بن موسى يخلعه من ولاية العهد، ويولي ابنه المهدي سنة ١٤٧. وكان قد حبس عمه عبد اللّه بن علي من سنة ١٣٨ في دار لتخر عليه فيموت سنة ١٤٧

وعبد اللّه عمه وقائده المنتصر على آخر ملوك بني أمية يوم الزاب. لكنه خرج عليه، فأرسل إليه جيشا بقيادة أبي مسلم الخراساني، ولجأ عبد اللّه إلى أخويه سليمان وعيسى فأخذا له عهدا على المنصور كتبه «ابن المقفع» وفيه (ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه فنساؤه طوالق. ودوابه حبس. وعبيده أحرار. والمسلمون في حل من بيعته) فأما «أبو مسلم» فسيدعوه أبو جعفر إلى قصره بعد أمان يعطيه إياه ثم يخرج عليه عبيده فيقتلونه أمامه.

وأما عبد اللّه بن المقفع فسيقتله والي أبي جعفر سنة ١٤٢. فيشفي صدر أبي جعفر.

روى الإمام الصادق ما كان بعد أن هدأت الأحوال. قال: (لما قتل إبراهيم بن عبد اللّه بباخمري (حسرنا عن المدينة - ولم يترك فينا محتلم حتى قدمنا الكوفة. فمكثنا فيها شهرا نتوقع القتل. ثم خرج إلينا الربيع الحاجب فقال: أين هؤلاء العلوية؟ أدخلوا على أمير المؤمنين رجلين منكم من ذوي الحجى. فدخلنا إليه أنا والحسن بن زيد فلما دخلنا عليه قال أأنت الذي تعلم الغيب؟. قلت: لا يعلم الغيب إلا اللّه. قال: أنت الذي يجبى إليه هذا الخراج؟ قلت: إليك يجبى - يا أمير المؤمنين - الخراج. قال: أتدرون لم دعوتكم؟ قلت: لا. قال: أردت أن أهدم رباعكم وأروع قلوبكم وأعقر نخلكم. وأترككم بالسراة لا يقربكم أحد من أهل الحجاز وأهل العراق. فإنهم لكم مفسدة.

قلت له: يا أمير المؤمنين إن سليمان أعطى فشكر. وان أيوب ابتلى فصبر. وان يوسف ظلم فغفر. وأنت من ذلك النسل.

فتبسم. وقال: أعد علي ما قلت. فأعدت، فقال: مثلك فليكن زعيم القوم وقد عفوت عنكم ووهبت لكم جرم أهل البصرة. حدثني الحديث الذي حدثتني عن أبيك عن آبائه عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قلت: حدثني أبي عن آبائه عن علي عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله: صلة الرحم تعمر الديار وتطيل الأعمار وإن كانوا كفارا. قال: ليس هذا.

٦٥

قلت: حدثني أبي . عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: الأرحام معلقة بالعرش تنادي: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني. قال: ليس هذا.

قلت: حدثني أبي. أن اللّه عز وجل يقول: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن بتها بتته. قال ليس هذا الحديث.

قلت: حدثني أبي . أن ملكا من الملوك كان في الأرض كان بقى من عمره ثلاث سنين فوصل رحمه، فجعلها اللّه ثلاثين سنة.

قال: هذا الحديث أردت. أي البلاد أحب إليك؟ فو اللّه لأصلن رحمي إليكم.

قلنا المدينة. فسرحنا إلى المدينة. وكفى اللّه مؤنته).

في هذا اللقاء دليل على ما يخشاه من بنى علي، ومن الصادق بالذات. فما يخشاه من بنى علي هو فتنة الناس إذ يجتمعون إليهم. أما ما ينعاه على الصادق - وهو الوحيد الباقي ممن يمكن أن يجتمع بنو علي، والناس، حولهم - فلقد كان خليقا أن تطيب به نفسه لما فيه من مصلحة له. وهو الادعاء على الصادق بأنه يعلم الغيب. فإنه لم يبايع لأحد يوم الأبواء. بل ذكر أنها (الخلافة) ستكون لصاحب القباء الأصفر وهو أبو جعفر.

لكن الصادق كان حاسما في رده عليه بأنه لا يعلم الغيب إلا اللّه.

وكان مما يخشاه أن يجبى إلى الصادق خراج بعض الرعية، مما يعطي للإمام، وكان الصادق في ذلك حاسما أيضاً. إذ أعلن أن الخراج لا يجبى إلا لأبي جعفر، لأنه أمير المؤمنين. قال: إليك يجبى - يا أمير المؤمنين - الخراج وجعل تسليم بإمارة المؤمنين يسبق كلمة الخراج، فهذه العبارة بيعة بتمامها. والخراج حق من بويع له.

وكان انتقال أبي جعفر من استجوابهم إلى إخبارهم بأسباب دعوتهم، نقلة من الغضب إلى غيره. ومن الاستجواب إلى الوعيد، وإلى الاستعلاء.

لكن الصادق نقله من عالم الكبرياء المظلم، إلى آيات اللّه التي تطمئن لها القلوب. فجعله - دون أن يشعر - مقارنا في موقفه بمواقف الأنبياء، لعله يهتدي بهم. وذكره كلام ربه جل وعلا. وذكره الشكر والصبر والمغفرة. وذيل ذلك كله بأنه من نسل الذين يغفرون ويشكرون ويصبرون.

٦٦

بهذا أمكن الرجل الذي قد قلبه من الصخر أن يبتسم. بل أقبل يسأل أن يتعلم. فحدثه الإمام الأحاديث، واحدا بعد واحد، حتى وقف منها عند حديث طول العمر. فلقد كان يرجو أن يطول عمر دولته، التي يخسر من أجلها في كل يوم آخرته، إلا أن يغفر اللّه له . فظن أنه بهذا الحديث يجد أمانا لنفسه، أو تخفيفا لما تكابده. وعندئذ ظهر ضعف نفسه، وجلال شأن المعلم الذي يتعلم عليه.

ولم يكد الإمام يأخذ زمام الكلام حتى راح يعلمه درسا من الدروس في البداء: وهو أن القضاء الذي يتوقف على الشرط يتحقق عند وقوع الشرط. فهذا ملك وصل رحمه فطالت عمره من ثلاث إلى ثلاثين، - وكان أبو جعفر ملكا - ولكم طالت العمر على ملك بنيه وحفدته. فلقد كان كل خلفاء بني العباس بعده منهم، ملكوا خمسة قرون، حتى دمر الظلم دولتهم.

إنما كان أبو جعفر يتداول الإمام الصادق بحذر خليق بما للصادق من كرامة عند اللّه والناس. وهو صاحب أكبر مدرسة شهدتها حواضر الإسلام في ذلك الزمان: المدينة ومكة والكوفة وبغداد والفسطاط .

وكان في الستين من العمر، يروى عنه الآلاف حديث النبي وفقه الصادق وأبيه وأجداده.

والذين يحسنون الظن بالمنصور لا يتصورون حلمه يطيش فيفقد الأمة الإمام الذي لا ينازعه ملكه. وربما جاز للذين لا يحسنون الظن، أن يخالوه يحسب حسابا للأعداد التي لا تحصى من تابعي الإمام. وقد كان أبو جعفر يحسب حساب العلماء.

ومن بطش الحكام بالعلماء ما يدمر الدول.

ومن فداء الأتباع ما يستهان فيه بعرين الأسد. لقد اقتحم الفدائيون من أتباع سنان (شيخ الجبل) خيمة صلاح الدين وهو في عسكره ليصيبوه بخناجرهم في وجهه.

ظاهر من حديث الإمام أنه حدثه في صلة ذوي الأرحام، وإن كانوا كفارا. فما أحراهم بالصلة إن كانوا غير ذلك. ويظهر مما يرويه الطبري أن أبا جعفر كان يود أيامئذ لو نسى الناس ما كان من أهل البيت في حقه. وما كان منه في حقهم.

٦٧

روى الطبري: لما أتى المنصور برأس إبراهيم بن عبد اللّه وضعه بين يديه وجلس مجلسا عاما وأذن للناس. فكان الداخل يدخل فيسلم ويتناول إبراهيم فيسيء القول فيه. ويذكر منه القبيح التماسا لرضى أبي جعفر، وأبو جعفر ممسك متغير لونه. حتى دخل جعفر بن حنظلة البهراني فسلم ثم قال (عظم اللّه أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك) فاصفر لون أبي جعفر وأقبل عليه فقال: أبا خالد. مرحبا وأهلا. فعلم الناس أن ذلك قد وقع منه. فدخلوا فقالوا مثل ما قاله جعفر بن حنظلة.

وربما دل على ذلك الميل ما يرويه عيسى بن رؤبة: لما جيء برأس إبراهيم فوضع بين يدي أبي جعفر بكى. حتى رأيت دموعه على خدي إبراهيم. ثم قال: أما واللّه إن كنت لهذا لكارها. لكنك ابتليت بي وابتليت بك.

ولقد ترك أبو جعفر الذين تواروا عنه ممن خرجوا مع محمد وإبراهيم، ومنهم الحسين بن زيد. وكان الحسين قد تربى في بيت جعفر الصادق بعد قتل زيد. وكان يسمى «ذا الدمعة الكبيرة» لكثرة بكائه على أبيه وأخيه يحيى. ولم يسائل أبو جعفر ولدي جعفر الصادق عبد اللّه وموسى» وقد خرجا مع محمد. وترك علماء المدينة. وترك عيسى بن زيد إذ توارى عنه. ولما قيل له من حرسه أو من المنافقين: ألا تطلبه ؟ قال لا. واللّه لا أطلب منهم رجلا بعد محمد وإبراهيم: أنا أجعل لهم ذكرا؟

ومن ناحية أخرى ففقه الإمام الصادق يعلم الناس طاعة الإمام العادل. والصادق هو القائل. (لا يستغني أهل بلدة عن ثلاثة يفزع إليهم في أمر دنياهم وآخرتهم. فقيه عالم ورع. وأمير خير مطاع. وطبيب بصير ثقة، فإن عدموا ذلك كانوا همجا).

وهو فقه في طاعة الخليفة العادل أو الأمير الخير. وأبو جعفر يتمنى أن يظهر في الناس كذلك.

والصادق يقول - ولا نحسبه يقصد إلا أبا جعفر وأبناء عمه - (ما تثبت الدنيا إلا على بني العم المتعاطفين بالبر المتعلقين بالأدب المجتمعين على التناصر). فهذه يد ممدودة بالسلام من الإمام. ودرس للرعية لتسلم العنان لأمير خير. وما أحرى أبي جعفر أن يكونه.

وفي سنة ١٤٧ عزم المنصور وهو راجع من موسم الحج أن يسير الإمام الصادق من المدينة إلى العراق فاستعفاه الإمام فلم يعفه وحمله معه. ولكن الصادق كان يقبل عليه بمقدار فليست دنيا أبي جعفر لتجدر بالمقاربة.

٦٨

وفي ذات يوم أرسل إلى الصادق. لماذا لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس فأجابه (ما عندنا ما نخافك عليه ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له. ولا أنت في نعمة فنهنيك عليها. ولا نعدها نقمة فنعزيك عليها. فلم نغشاك)؟ ويجيب أبو جعفر: تصحبنا لتنصحنا ويجيب الإمام (من أراد الدنيا فلا ينصحك ومن أراد الآخرة فلا يصحبك) فالذي يريد الدنيا يسير في ركب صاحبها فلا يقول كلمة للّه. والذي يريد الآخرة يعتزل مجالس رجل يعجزه عمله ويعميه أمله عن طريق الآخرة.

وصدق «جعفر الصادق» ولم يكذب أبو جعفر المنصور

فلقد كان أحوج الناس إلى النصيحة. وكانت صحبة الصادق له أمانا من النار.

دخل عليه سفيان الثوري يوما فقال له: اتق اللّه فقد ملأت الأرض ظلما وجورا فطأطأ رأسه وقال: ارفع حاجتك.. قال سفيان: حج عمر فقال للخازن كم أنفقنا من بيت المال قال: بضعة عشر درهما. وأرى هنا أموالا لا تطيق الجمال حملها .

وخرج سفيان.

ولما راجع المنصور كاتبه ليقتل سفيان قال له (اسكت يا أنوك (أحمق). فما بقى على الأرض من يستحي منه غير «مالك» وسفيان)(١) وإذا كان هذان الإمامان اللذان ليس في الأرض غيرهما، تلميذين في مجلس الإمام الصادق. يلتمسان علمه ويترسمان هديه. فما أحوج الخليفة إلى أن يقارب مجلس الصادق بأن يدعوه إلى مجلسه.

___________________

(١) يروي مالك أنه استدعاه فدخل فوجد عنده ابن أبي ذؤيب(١٥٩) والقاضي ابن سمعان فسأل مالكا عن حكمه (حكم المنصور) هو عدل أم جور؟ فاستعفاه مالك من الجواب. فسأل ابن سمعان عن حكمه فأثنى عليه. فسأل ابن أبي ذؤيب فأجاب: أنت واللّه عندي شر الرجال استأثرت بمال اللّه ورسوله وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين وأهلكت الضعيف وأتعبت القوي. وأمسكت أموالهم. فما حجتك غدا بين يدي اللّه) قال المنصور: ويحك. ما تقول: قال: رأيت أسيافاً وإنما هو الموت ولابد منه. عاجله خير من آجله.

قال مالك. ثم خرجا وجلست. فقال المنصور: أجد رائحة الحنوط عليك؟ قلت أجل لما نمى إليك عني ما نمي وجاءني رسولك ظننت أنه القتل . قال: أو ما تراني أسعى في أود الإسلام وإعزاز الدين عائذا باللّه . يا أبا عبد اللّه انصرف إلى مصرك راشدا مهديا. وإن احببت ما عندنا فنحن ممن لا يؤثر عليك أحدا. قلت إن يجبرني على ذلك أمير المؤمنين فسمعا وطاعة وان يخيرني اخترت العافية . قال انصرف إلى أهلك معافى مكلوءا. =

٦٩

= فلما أصبحنا أمر بصرر دنانير في كل صرة خمسة آلاف درهم ثم دعا برجل من شرطته فقال له: تدفع إلى كل رجل منهم صرة. أما مالك إن أخذها فبسبيله. وإن ردها عليك فلا جناح عليه. وإن كان ابن سمعان ردها، فأتني برأسه وان أخذها فهي عافيته. وإن أخذها ابن أبي ذؤيب فأتني برأسه وإن ردها عليك فسبيله.

قال مالك: أما ابن سمعان فأخذها وسلم. وأما ابن أبي ذؤيب فردها وسلم. وأما أنا فكنت واللّه محتاجا إليها فأخذتها. ثم رحل أبو جعفر متوجها إلى العراق.

وروى مالك أنه استدعاه يوماً وعبيد اللّه بن طاووس بن كيسان. وكان طاووس فقيه اليمن حتى مات في سنة ١٠٦ (طاووس بن كيسان تلميذ ابن عباس جد أبي جعفر) قال أبو جعفر: حدثني حديث أبيك. قال عبيد اللّه حدثني أبي أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه اللّه في سلطانه فأدخل عليه الجور في حكمه. قال مالك فضممت ثيابي خوفاً من أن يصيبني دمه . فقال المنصور ناولني هذه الدواة . ثلاث مرات. فلم يفعل. قال أبو جعفر لم لا تناولني؟ قال أخاف أن تكتب بها معصية فأكون قد شاركتك فيها. قال: قوما عني. ذلك ما كنا نبغي. قال مالك فما زلت أعرف لابن طاووس فضله منذ ذلك اليوم.

ويروي الإمام الشافعي حول أساطين جامع عمرو عن عمه محمد بن علي بن شافع مثل ذلك. عندما قال له ابن أبي ذؤيب أخذت المال من غير حله وجعلته في غير أهله وأن المنصور رد عليه بقوله واللّه لولا أنا لأخذت أبناء الفرس والروم والديلم هذا المكان منك فو اللّه لولا أني أعلم أنك صادق لقتلتك.

أما عمرو بن عبيد فكان أبو جعفر المنصور يستقيله بالترحاب وينشد في نزاهته الشعر (كلكم يمشي رويد. كلكم طالب صيد غير عمرو بن عبيد) وهو زعيم المعتزلة الذين يطلقون ألسنتهم في الملوك والصحابة. دخل عليه فقال له (إن اللّه أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها واذكر ليلة تتمخص عن يوم لا ليلة بعده) قال الربيع بن يونس حاجب المنصور: يا عمرو غممت أمير المؤمنين. قال عمرو للمنصور (إن هذا صحبك عشرين سنة لم ير لك عليه أن ينصحك يوماً واحداً. وما عمل وراء بابك بشيء من كتاب اللّه ولا سنة نبيه) قال أبو جعفر المنصور: فما أصنع قلت لك خاتمي في يدك فتعال وأصحابك فاكفني. قال عمرو: لا. أدعنا بعد لك، تسخ أنفسنا بعونك، ببابك ألف مظلمة اردد منها شيئا نعلم أنك صادق. ولما مات عمرو كان أول واحد من الرعية، وآخر واحد، ينظم في رثائه الخليفة شعراً. ومن أبياته:

وإذا الرجال تنازعوا في شبهة

وصل الحديث بحجة وبيان

ولو ان هذا الدهر أبقى صالحا

أبقى لنا عمراً أبا عثمان

والجاحظ من تعصبه لزعيمه يقول فيه (إن عبادته تفي بعبادة عامة الفقهاء والمحدثين).

وستبقى صلة المعتزلة بالدولة العباسية طويلا بعد وفاة عمرو وأبي جعفر لأن المعتزلة يمدون إلى بني العباس سببا علميا وسببا سياسا قالوا: إن واصلا (وهو زعيمهم مع أخي زوجته عمرو ابن عبيد) أخذ أصوله عن أبي هاشم (٩٨) عبد اللّه بن محمد بن الحنفية - بن علي بن أبي طالب وكان أبو هاشم قدريا مثلهم - ينفي القدر - ويضيفون أن محمد بن علي من عبد اللّه بن عباس تعلم على أبي هاشم وتلقى منه الوصية بالإمامة بعده - دون بني علي بن أبي طالب - عندما أحس أبو هاشم بدنو أجله إذ دس السم إليه سليمان بن عبد الملك.

٧٠

الحق أن أبا جعفر كان من فزعه من الآخرة وحاجته إلى رضى الرعية صادق الرغبة في التقرب إلى العلماء، ومن أجل ذلك كان يرضى منهم ما يصك مسامعه من النقد وإن كان لا يستجيب له.

طلب ذلك من صديقه عمرو بن عبيد، والمعافري(١) ، فاعتزلاه لكثرة الظلم على بابه كما قالا له. وهز ضميره ابن أبي ذؤيب وتوعده بجهنم. وكمثله صنع ابن طاووس فقبل استعفاء الصديقين. وأقر صدق ابن أبي ذؤيب(٢) فقال له: لولا أنني أعلم أنك صادق لقطعت عنقك، كما ارتاح لابن طاووس مع رفضه أن يطيعه مخافة أن تؤدى طاعته إلى المشاركة في معصية.

ولقد رفض أبو حنيفة أن يجلس للقضاء في دولته بحجة الخوف من أن يظلم الناس إرضاء لحاشية يحب أبو جعفر أن يكرمها. وما إكرام الحاشية إلا الحكم لمصلحتها فيما ترتكب من مظالم، لحساب صاحب السلطان أو نتيجة إغضائه. وهذا رد فقهي من إمام أهل الرأي يتضمن التنديد بأبي جعفر وصحبته.

وصحبة الظالم وجه مشاركة في الحكم، وربما في الظلم، بتوطيد الأمور للظالم أو بتمكينه أن يبلغ غرضه، أو تقديم مصلحته على مصلحة المحكومين. وفيها شهادة له في الناس. فهي شركة خاسرة في الدنيا والآخرة.

___________________

(١) لما استخلف أبو جعفر قصد إليه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري قادماً من القيروان وكان زميلا له في عهد الطلب، فعرض عليه المقام ببغداد. وقال له كيف رأيت ما وراء بابنا؟ فأجابه: رأيت ظلما فاشيا وأمرا قبيحاً. قال: لعله فيما بعد من بابي. فأجابه: بل كلما قربت استفحل الأمر وغلظ. قال: ما يمنعك أن ترفع ذلك إلينا وقولك مقبول عندنا؟ فأجابه: رأيت السلطان سوقا. وإنما يرفع إلى كل سوق ما ينفق فيها. قال: كأنك كرهت صحبتنا؟ فأجابه: ما يدرك المال والشرف إلا من صحبتكم. ولكني تركت عجوزاً. وإني أحب مطالعتها.

(٢) يفضل أحمد بن حنبل ابن أبي ذؤيب على مالك لمجاهرته بالحق في وجه أبي جعفر. وتقدير الشافعي لابن أبي ذؤيب يتراءى في رأي تلميذه أحمد. وفي رواية الشافعي عن عمه في صدده. أما تقدير مالك فكان عن مشاهدة أو مشاركة.

٧١

والإمام الصادق هو القائل (أيما مؤمن قدم مؤمنا إلى قاض أو سلطان جائر، فقضى عليه بغير حكم اللّه، فقد شركه في الإثم) وعلي يقول (فاك خيانة أن تكون أمينا للخونة)

وذات يوم دخل زياد الفندي على الصادق فقال له: وليت لهؤلاء؟ - يقصد أصحاب السلطان - قال: نعم. لي مروة وليس وراء ظهري مال. وإنما أواسي إخواني من عمل السلطان. فقال (يا زياد. أما إذ كنت فاعلا، فإذا دعتك نفسك إلى ظلم الناس عند القدرة على ذلك فاذكر قدرة اللّه عز وجل على عقوبتك وذهاب ما أتيت إليهم عنهم، وبقاء ما أتيت إلى نفسك عليك).

وفي واحد من اللقاءات يقول الصادق لأبي جعفر (لقد بلغت ثلاثة وستين، وفيها مات أبى وجدي) ليعلن له الاستخفاف بالموت الذي يتهدد الناس به، وأن الإمامين اللذين قضيا - زين العابدين والباقر - لم يعمرا أكثر مما عمر، ولكل أجل كتاب. فماذا يهاب؟ إنه يطلق إعلانه بلغة عالية، وفي هدوء قادر على أن يطفئ جذوة رجل خصم. وفي توكل على اللّه يبلغه مأمنه. فهو إذا واجهه واجهه واللّه معه.

أرسل إليه أبو جعفر ذات يوم رزام بن قيس يدعوه للقائه، ففصلا عن المدينة، حتى بلغا النجف فنزل جعفر عن راحلته فأسبغ الوضوء وصلى ركعتين ثم رفع يديه وهو يقول: (اللهم بك أستفتح، وبك أستنجح، وبمحمد عبدك ورسولك أتوسل. اللهم سهل حزونته وذلل لي صعوبته وأعطني من الخير أكثر مما أرجو واصرف عني من الشر أكثر مما أخاف).

ثم ركب راحلته حتى إذا بلغا قصر المنصور، أعلم المنصور بمكانه. فلم يحجبه قليلا أو كثيرا، بل تفتحت الأبواب. ورفعت الستر. فلما قرب من المنصور قام إليه فتلقاه. وأخذ بيده وما شاه. حتى انتهى به إلى مجلسه. ثم أقبل عليه يسأله عن حاله.

وذات يوم عزم المنصور على حاجبه الربيع بن يونس أن يدعوه، وكانت تبرق في أساريره بوارق الخطر. فلما خرج من اللقاء بسلام سأل الربيع الإمام الصادق عن الدعاء الذي دعا به ربه فأكرمه اللّه في لقاء المنصور. فأخبره به. فالصادق يستحضر رضى بارئ السماء في كل آونة وتعينه السماء.

٧٢

ومع ذلك السلام الذي نشده الصادق وعلمه، يروي الطبري أن المنصور لما عزم الحج - في آخر أيامه - دعا ريطة بنت أبي العباس زوج المهدي، وكان زوجها بالري، فأوصاها بما شاء ودفع إليها مفاتيح غرفة بها خزانته، وأمرها ألا تسلمها إلى المهدي إلا عندما يجيء نبأ موت المنصور. فلما مات ذهبت ريطة والمهدي ففتحا الغرفة فإذا بقتلى من بني علي في آذانهم رقاع. فيها أنسابهم. وهم بين شيوخ وشباب وأطفال. فلما رأى المهدي ذلك ارتاع. فحفرت لهم مقبرة دفنوا فيها ثم بنى عليها دكانا.

لم يكن المنصور يكتفي بأن يقول مقالة لويس الرابع عشر بعد ثمانية قرون «أنا الدولة». ذلك المقال الذي نبذه واستهجنه الساسة والمؤرخون في الشرق والغرب، بل كان المنصور يدعى دعوى أبعد وأشد. كان يخطب فيقول: «إنما أنا سلطان اللّه في الأرض» فيجمع في يده ما عجز عنه الأباطرة والبابوات جميعا فإنما تقاسم الإمبراطور والكنيسة الأشياء، في القرن التاسع للميلاد، فصار لقيصر ملك الأرض وللكنيسة مملكة السماء. أما أبو جعفر المنصور فادعى في الأرض سلطان السماء. وأي شيء يستبعد على صاحب هذه الدعوى

وأبو جعفر - مع ذلك - ليس إلا واحد من المستبدين الذين يزخر ثبت التاريخ بخطاياهم أو ضحاياهم.

إليك مثلا واحدا من تاريخ الدولة التي تلقى إليها الديمقراطية الغربية مقاليدها: لقد أرسل (هنري الأول) ملك إنجلترا فرسانه يقتلون (توماس) بيكت رئيس أساقفة لندن من أجل خلافه معه في ولاية العهد لابنه في الثلث الأخير من القرن الثاني عشر. وفي الثلث الأول من القرن السادس عشر بعث (هنري الثامن) ملك إنجلترا (توماس) ولزي رئيس أساقفة يورك إلى السجن ريثما يصدر عليه حكم الإعدام فمات قبل أن يعدم. ثم أرسل إلى المقصلة (توماس) مور كبير قضاته من أجل خلافهما له في زواجه وطلاقه.

ولقد كان فزع المنصور من أجل دولته حريا أي يخرجه عن الاتزان فيستحوذ عليه الشيطان، لولا إمساك الإمام الصادق بالأعنة كلها كلما لقيه، فكان يضعه في موضع النصفة.

٧٣

والذين يهابون لقاء الملوك ضعفاء عن إخفاء دخائلهم، من البغض أو الحسد أو الخوف. والذين ليس في قلوبهم من ذلك شيء يشجعون. أما الأئمة فاللّه معهم. وهو حسبهم . وأين من هذا الذي معه مالك الأرض والسماء، ملوك دولة أو إقليم

من أجل ذلك يشجع الرجال الصدق إذ يستشهدون. ومن أجله نظر الصادق إلى أبي جعفر في شجاعة وصدق. فكان يلزمه القصد والنصفة.

ولا عجب إذا كان أبو جعفر في دخيلة نفسه، يريد ليحفظ ظاهر الأمر في وقار من لا يسفك الدم، إلا بقدر. والصادق حجة له في ثبات حكمه، مذ كان لا يرى بيعة غيره.

وأبو جعفر عليم بما يجري في ملكه: وهو من مطالع حكمه يستعمل العسس في كل اتجاه. فلم يلبث سنين حتى أصبح يعلم بكاء بنت مالك ابن أنس من الجوع في داخل الدار، وهي وأبوها يكتمانه إلا على اللّه سبحانه

وأبو جعفر هو القائل عن أوتاد حكمه: ما أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم. وهم أركان الدولة لا يصلح الملك إلا بهم. أما أحدهم فقاض لا تأخذه في اللّه لومة لائم. والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي. والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية. ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات يقول: آه آه قيل ما هو يا أمير المؤمنين قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة.

الفصل الثاني : الرجلان

«يا بني: إن الذين حولنا لو يعلمون عن علي ما نعلم تفرقوا عنا إلى أولاده».

عبد العزيز بن مروان

الرجلان

الحق أن الاختلاف كان شديدا بين الإمام جعفر الصادق وبين الخليفة أبي جعفر المنصور: في طبيعتهما وطريقتهما وغاياتهما.

٧٤

هذا صاحب سلطان. فيه شركاء متشاكسون، تركبه هموم الدنيا، وتلبس جلده شياطينها. يترابع لينحني الناس له، ويجمع دنياهم في قبضته. شحيح النفس منقبض اليد، «دوانيقي»، يحسب بالدرهم والدانق(١) تبدو منه صعقات السلطان عند الفزع. وتحوله مطامعه من الدماثة إلى الشراسة. فلا يطمئن له أحد. أقام دولته على أشلاء الأعداء، وفزع الأقرباء، وجماجم أهل البيت. في خزائنه

أما الإمام فرجل سلم لكل رجل: يتواضع ليرفع الناس كلهم، ولا تستعبده الدنيا قيد أنملة. يعطي ولا يأخذ. ويحيي أنفس الناس، بالعطاء المسماح من العلم، والجاه، والمال. (ما قال لا قط إلا في تشهده). فهكذا كان أبوه وجده.

والحق كذلك أن المنصور - بنجاحه في إقامة أكبر دولة في التاريخ الوسيط - يعتبر واحدا من ثلاثة لا يعرف لهم التاريخ الإسلامي رابعا. ولا ينزل بهم التاريخ العالمي عن أعظم المؤسسين للدول.

أولهم معاوية بن أبي سفيان، وثانيهم عبد الملك بن مروان. مصايرهم متشاكلة. ووسائلهم متشابهة، وخصامهم لأهل البيت أساس دولتهم. ونجاحهم في دنيا السلطة مقطوع القرين:

بدأوا علماء، وانتهوا ملوكا كالملوك الأعاجم والإسلام فضل من اللّه، يسخر لخدمته من يشاء. ولو مال عن الجادة رجل، فإنما يخذل نفسه ولا يصيب الإسلام بسوء.

لقد أخطأ معاوية في إقامة دولته وفي حربه. وكان لزاما أن يقوده خطؤه إلى أن يجعل الدولة. «هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل» فيكون ابنه يزيد أشأم وألأم خلف لسلف. لكن أحدا لا يتنازع في أن دولته - وإن لم تمثل دولة الدين - قد انتشرت في البر والبحر ونشرت الإسلام وجاهد في غزواتها الصحابة وبنوهم والعلماء والفقهاء، بل غزا وجاهد فيها بين جيوش المسلمين أبو الشهداء، الحسين بن علي، في فتح أفريقية وغزو جرجان وطبرستان والقسطنطنية.

___________________

(١) الدانق سدس درهم.

٧٥

ومعاوية هو الذي مهد لدولة ابن عمه مروان بن الحكم.

وعبد الملك بن مروان هو المؤسس الحقيقي للدولة المروانية التي أينعت فروعها بالأندلس وأبقت الإسلام في أوربة ثمانمائة عام، لتهيئ للحضارة الحديثة أن تنطلق من جامعات الأندلس وجوامعها. وهو عم عمر بن عبد العزيز وصهره.

وعمر: خامس الراشدين في مدة خلافته. الذي كتب لعامله على المدينة يوم ولى الخلافة: اقسم في ولد فاطمة رضوان اللّه عليهم عشرة آلاف دينار فقد طالما تخطتهم حقوقهم. وقال معلنا حق علي وباطل بني أمية ومروان (كان أبي(١) إذا خطب فنال من علي تلجلج. فقلت يا أبت إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيرا؟) قال: أو فطنت إلى ذلك؟ يا بني إن الذين حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم تفرقوا عنا إلى أولاده .).

لكن أبا جعفر كان أثقل الثلاثة حملا. إذا كان معاوية وعبد الملك قد سبقاه ففصلا بين الدين والدولة فجزءا نظرية الدولة الإسلامية، وكان هو قد سار على الدرب الذي اختطاه، إن المعارك التي خاضها من أجل دولته كانت أوسع مدى.

ففزعه من أبي مسلم وجنده لم يكن إلا رجع الصدى لصوت يتصايح في آفاق حياته، وأعماق ذاته: أنهم سرقوا الدولة من أبناء علي. ومن هنا خوفه المستمر من انتقاض أهل خراسان الذين جاءوا لمبايعة «الرضا من آل محمد». وأهل البيت أولى منه في أنظار الذين جاءوا به وبأخيه إلى السلطة.

___________________

(١) عبد العزيز بن مروان بن الحكم، عينه عبد الملك على مصر وأفريقية. وهو الذي بنى مدينة حلوان ضاحية الفسطاط - القاهرة. وفيها عاش عمر بن عبد العزيز زمانا. وجيوش أفريقية هي التي فتحت الأندلس بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير.

٧٦

وخوفه من أعضاء بيته أشد. فلقد كان عمه عبد اللّه بن علي قائد جيش الشام، لكنه خرج عليه، وأخمد فتنته أبو مسلم الخراساني، حتى إذا استسلم - على عهد - حبسه أبو جعفر ليقتله بعد زمن من قتله أبا مسلم ذاته. وكذلك غدر بعيسى بن موسى الذي انتصر على محمد وإبراهيم فسلبه حقه في ولاية العهد، وولى ابنه المهدي عهده. فكان غدره كهيئة ما غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد الأشدق في ولاية العهد، قائلا: (ما اجتمع فحلان في شول إلا أخرج أحدهما صاحبه)

وما كان نقض معاوية عهده مع الحسن بن علي، إلا درس المعلم الأول للرجلين: أن يستعملا الزمن. وأن ينتهزا الفرص. وأن يحركا الحوادث بدهاء: وأن يقطفا الثمر: ثمرة ثمرة. وأبو جعفر لا يتردد في إعلان التشابه بينهم وفي تعطشه للدم. فيعلن في الناس أن (الملوك ثلاثة: معاوية وكفاه زيادة. وعبد الملك وكفاه حجاجه. وأنا. ولا كفاة لي)

كأنما لم يكن فيما سفكه كفاية. فكان يريد أن يسفك له دما أكثر سفاحون أصغر

الواقع أن أزمات أبي جعفر كانت آخذة بخناقه من كل صوب. فهي في نفسه، وفي بيته، وفي دولته، وفي صلته بالأمة: أن كانت القوة العسكرية التي أجاءته إلى الحكم، قد تخلت عنه بل حملت السلاح ضده. وكانت القوة الفكرية التي قامت عليها الدولة، قد صار أصحابها فرائس له. وكانت القوة العصبية، قوة أسرته، تترنح بخروج عمه عبد اللّه وقتله. وبمغامراته للاستئثار لبنيه بالخلافة دون سائر أهله.

فإذا كان ثمة من أحبه، فإن حبهم كان أقبح من البغض، مذ كانوا يؤلهونه، فيكفرون أنفسهم ويفضحونه، بل كادوا يقتلونه، يوم أحاط الراوندية بقصره فلم يمكنه اللّه منهم إلا بمساعدة عدو كان يطلب رأسه، هو معن بن زائدة الشيباني. وكان معن حريا أن يقتله في وطيس المعركة. حتى الذي أنجاه كان عدوا له

وفي سنة ١٤٥ انتفضت خراسان فقتلت جيوشه من أهلها سبعين ألفا وأسرت بضعة عشر ألفا.

ولم يكن شغله بالجيوش المحاربة في المشرق أو في جزيرة العرب أهم أشغاله. ففي افريقية خرج عليه محمد بن الأشعث والى افريقية، فجرد عليه جيشا بقيادة الأغلب بن سالم، وسيقتل الأغلب بعد سنين سنة ١٥٠. ولم ينهزم الخوارج إلا بعد أن خاضوا ثلثمائة وخمسة وسبعين وقعة وأمام جيش قوامه خمسون ألفا.

٧٧

كل أولئك وهو من شح نفسه، ومن اصطحاب جماجم أهل البيت في خزائنه، في أمر مريج. يحسب أن كل صيحة عليه هي العدو: وأن كل خروج عليه يدعو الجميع ليخرجوا. وهم على خروج قادرون.

مع كل ذلك نجح أبو جعفر بالحذر والغدر ومعاجلة الخصوم. فاستبقى دولته لتكون أطول الدول الإسلامية عمرا. وأبعدها في الحضارة العالمية أثرا.

لكن التاريخ - وقانونه الاستقامة - وطبيعة الأشياء - وقانونها (لكل فعل رد فعل، مساو له في المقدار، ومضاد له في الاتجاه) - لم يتركا أبناءه وحفدته دون عقاب. وكأنما كان طول عمر دولته تطويلا للعقاب عليهم وتكثيرا لمن ينزل بهم.

كان من لوازم السلطة أو علامات عدم الثقة بالنفس أو بالغير أن تتراءى من أبي جعفر في لقائه لأهل البيت أو التعامل معهم نزعات المستوفز الحذر، أو مظاهر الاستعلاء عند مواجهة الأعداء، أو من يضعهم في مواضع الأعداء. لكن الإمام «الصادق» كان يمسك بالزمام فيرد الخليفة دائما إلى حيث يطلب الموعظة، أو العلم.

ومن إمساك الزمام في أحد هذه اللقاءات إمساك الخليفة ذاته أن يميل على أهل البيت. فيقول له (لا تقبل في رحمك وأهل الرعاية من أهل بيتك من حرم اللّه عليه الجنة وجعل مأواه النار. فإن النمام شاهد زور وشريك إبليس في الإغراء بين الناس. فقد قال اللّه تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) ونحن أنصار وأعوان. وللملك دعائم وأركان، ما أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وأمضيت في الرعية أحكام القرآن، وأرغمت بطاعتك اللّه أنف الشيطان. وإن كان يجب عليك في سعة فهمك وكثرة علمك ومعرفتك بآداب اللّه أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. فإن الكافي ليس بالواصل. إنما الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها. فصل رحمك يزد اللّه في عمرك، ويخفف عنك الحساب يوم حشرك).

ويقول المنصور: قد صفحت عنك لقدرك. وتجاوزت عنك لصدقك. فحدثني عن نفسي بحديث أتعظ به ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات.

وبهذا السؤال انتشل المنصور نفسه من موقع قاطع الرحم، إلى موضع المواسي لذوي القرابة، ومكانة طالب الموعظة، فأدلى بها إليه الإمام.

٧٨

قال (عليك بالحلم فإنه ركن العلم. واملك نفسك عند أسباب القدرة. فإنك إن تفعل ما قدرت عليه كنت كمن شفى غيظا وداوى حقدا، وأحب أن يذكر بالصولة. وأعلم أنك إن عاقبت مستحقا لم يكن غاية ما توصف به إلا العدل. والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر).

تلك آداب اللّه، وأسباب الحكم الصالح، وملاك السيطرة للحاكم المسلم على قلوب الرعية.

وظاهر أن أبا جعفر كان يتظاهر بالاستعلاء إذ يدعى الصفح، وليس لديه تهمة. ولو كانت عنده تهمة للصادق لما طلب الموعظة إليه.

وللملوك سماعات، أو أبواق دعايات، منتشرة في الرعية، تلتقط موجات الرضا والغضب، والهدوء والقلق، وتبث نظائرها، حسب الحاجة. والنمامون كثر، كالفراشات التي تدور حول النور، تلتمس الدفء أو الظهور. ولأبي جعفر جهاز لا يني عن استعماله ليروع خصومه، أو ليجعلهم في قبضة يده.

فلقد يدس من أجهزته دسيسا بعد دسيس على بني الحسن، والحسين، مثل أن يدعو ابن مهاجر ذات يوم فيقول له: خذ هذا المال وإيت المدينة والق عبد اللّه بن الحسن وجعفر بن محمد (الصادق) وأهل بيتهم وقل لهم إني رجل من خراسان من شيعتكم وقد وجهوا إليكم هذا المال. فادفع إلى كل واحد منهم على هذا الشرط. كذا وكذا. فإذا قبض المال فقل إني رسول. وأحب أن تكون معي خطوطكم بقبض ما قبضتموه مني . وذهب ابن مهاجر. فلما رجع قال له أبو جعفر ما وراءك؟ قال: أتيت القوم وهذه خطوطهم ما خلا جعفر بن محمد. قال لي يا هذا: اتق اللّه ولا تغرن أهل بيت محمد. فإنهم قريبو العهد بدولة بني مروان. وكلهم محتاج. فقلت وما ذاك أصلحك اللّه. فقال ادن مني. فدنوت فأخبرني بجميع ما جرى بيني. وبينك كأنه ثالثنا.

قال المنصور: يا ابن مهاجر إنه ليس من أهل بيت نبوة إلا وفيهم محدث. وإن جعفر بن محمد محدثنا اليوم.

فالصادق يكشف للمنصور ودسيسه، حقائق يعلمونها، وينبههما على ألا يورطا أهل البيت من جراء حاجاتهم. يريد لأهله السلامة. وللخليفة الاستقامة، وللأمة الطمأنينة. وفي كل ذلك خير لأبي جعفر المنصور.

٧٩

ولقد كان المنصور - نفسه - يجعل الصادق حجة من حججه، وإذا فاخر أهل البيت فاخرهم به كتب إليه محمد بن عبد اللّه (النفس الزكية) يدعوه ليبايعه، وعيره بأمهات العباسيين لأنهن أمهات ولد. وأم المنصور بربرية تدعى سلامة، يتردد اسمها على ألسنة الذين فاخروه. فتولى المنصور كبره في الرد على محمد. ولم يدع الفرصة تفوته ليستفيد حجة من مكانة الإمام الصادق. قال فيما قال (وما ولد فيكم بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أفضل من علي بن الحسين زين العابدين. وهو لأم ولد. ولهو خير من جدك حسن ابن حسن. وما كان فيكم بعده مثل محمد بن علي الباقر وجدته أم ولد، ولهو خير من أبيك. ولا مثل ابنه جعفر. وجدته أم ولد، وهو خير منك).

وغض المنصور طرفه عن أن أم الولد في شجرة الباقر « شاة زنان » بنت كسرى ملك الفرس. وأين منها - بعد إذا أسلمت - سلامة

على أن اللقاءات - أو الاحتكاكات - بين الرجلين لا تتوقف.

فهذان قطبان. لكل منهما عالمه. وهما ضدان لهما مستويان. والشرف فيهما لرجل الدين والزهد والعلم. والملوك أحوج إلى العلماء من العلماء إلى الملوك.

وأبو جعفر حريص غدر، يسلط على الصادق من وقت لآخر، وفي مكان بعد آخر، وجوها من التهديد لشخصه والاتهام لولائه والإزراء بعلمه.

يقول له ذات يوم في لقاء له بالكوفة: أنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وفسادك على أهل البيت من بني العباس. وما يزيدك اللّه بذلك إلا شدة حسد ونكد، وما تبلغ به ما تقدره. فيجيبه الصادق: (واللّه ما فعلت شيئا من ذلك. ولقد كنت في ولاية بني أمية - وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم، وأنه لا حق لهم في هذا الأمر - فو اللّه ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني شيء مع جفائهم الذي كان لي. وكيف أصنع هذا الآن. وأنت ابن عمي. وأمس الخلق بي رحما. وأكثر عطاء وبرا فكيف أفعل هذا) والصادق بهذا يسجل للخليفة بره. ويقدر له أولية ذوي الأرحام عنده في البر بهم، ويقرر له حقه في الخلافة. وليس للمنصور فوق ذلك طلبات وبهذا يستل الضغن من صدره، ليدعه في ميدانه الذي يسره اللّه له.

٨٠