زاد المبلغ الى بيت الله الحرام

زاد المبلغ الى بيت الله الحرام42%

زاد المبلغ الى بيت الله الحرام مؤلف:
المحقق: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 135

  • البداية
  • السابق
  • 135 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16523 / تحميل: 4723
الحجم الحجم الحجم
زاد المبلغ الى بيت الله الحرام

زاد المبلغ الى بيت الله الحرام

مؤلف:
الناشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
العربية

سلسلة زاد المبلغ

زاد المبلغ الى بيت الله الحرام

١

الكتاب: زاد المبلغ الى بيت الله الحرام

نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

إعداد: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني

الطبعة: الاول، تشرين١، ٢٠٠٩م ١٤٣٠ه

جميع حقوق الطبع محفوظة ©

٢

٣

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وأشرف الصلاة وأزكى السلام على رسول الرحمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين.

يعتبر موسم الحجّ من أهمّ المواسم العباديّة والروحيّة، التي يسعى فيها الإنسان المسلم لعتق رقبته وغفران ذنوبه، من خلال وفادته على الله - تبارك وتعالى - لأداء فريضة الحجّ، كما أنّ هذه الأيّام المباركة، فرصة جليلة وعظيمة، لنشر وتبليغ المفاهيم الدينيّة والأخلاقيّة. ومن هنا فإنّ المركز الإسلاميّ للتبليغ، عمد إلى نشر اصدار جديد تحت عنوان: "زاد المبلِّغ إلى بيت الله الحرام"، ليكون زاداً للإخوة العلماء والمبلّغين، الذين نذروا أنفسهم لخدمة حجّاج بيت الله الحرام وتعليمهم شرائط وأحكام هذه الفريضة، ودلالة مناسكها الثقافيّة والتربويّة.

وهذا الاصدار يقع ضمن سلسلة زاد المبلّغ والذي نأمل أن يلقى استحسان الأخوة المبلّغين من خلال الموضوعات التي تضمّنها وليساهم في ايجاد المادّة المناسبة والخطاب الثقافيّ الملائم لأجواء هذه الفريضة المباركة.

وقد اعتمدنا في هذا الاصدار تصديره برواية الشبليّ المرويّة عن الإمام السجّادعليه‌السلام ، ورواية معراج السعادة، لما تتضمّانه من معانٍ سامية في فهم فريضة الحجّ، ثمّ يلي هاتين الروايتين أربعة عشرة محاضرة، تتمحور حول دلالات المناسك والشعائر التي تُؤَدَّى في هذه الفريضة. وأفردنا ملحقاً موجزاً، لبعض الأماكن المقدّسة في مكّة والمدينة، والتي قد يسأل عنها المبلّغ في رحلات الحج، واختتمنا الكتاب بدعاء عرفة المستحبّ قراءته يوم عرفة، ونظراً لأهميّته وما يحتويه من مفاهيم ثقافيّة مهمّة.

وختاماً، نسأل الله أن يوفقنا وإيّاكم للعمل الصالح، وأن يتقبّل أعمالنا وأعمالكم، بأحسن القبول شاكرين للاخوة جميعاً، تعاونهم واهتمامهم، إنّه سميع مجيب.

المركز الإسلامي للتبليغ

٤

٥

رواية الشبلي:

الأبعاد والآداب المعنوية للحج

إنّ فريضة الحجّ معينٌ غنيٌ بالأبعاد والآداب المعنويّة والروحيّة، وللإطلالة على هذه الأبعاد المفضية إلى أسرارها، نورد روايتين تسلّطان الضوء عليها، بادئين بروايةٍ عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام المعروفة برواية الشبليّ، وهي التالية:

نقل السيّد عبد الله سبط المحدّث الجزائريّ في "شرح النخبة": وجدت في عدّة مواضع، أوثقها بخطّ بعض المشايخ الذين عاصرناهم مرسلاً، أنّه لمـّا رجع مولانا زين العابدينعليه‌السلام من الحجّ استقبله الشبليّ، فقالعليه‌السلام له: حججت يا شبليّ؟ قال: نعم يا ابن رسول الله، فقالعليه‌السلام : أنزلت الميقات، وتجرّدت عن مخيط الثياب، واغتسلت؟ قال: نعم، قالعليه‌السلام : فحين نزلت الميقات، نويت أنّك خلعت ثوب المعصية، ولبست ثوب الطاعة؟ قال: لا، قال: فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك،

٦

نويت أنّك تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ قال: لا، قال: فحين اغتسلت، نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟

قال: لا، قال: فما نزلت الميقات، ولا تجرّدت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت!

ثمّ قالعليه‌السلام : "تنظّفت، وأحرمت، وعقدت بالحجّ؟ قال: نعم، قال: فحين تنظّفت، وأحرمت، وعقدت الحج نويت أنّك تنظّفت بنورة التوبة الخالصة لله تعالى؟ قال:لا، قال: فحين أحرمت، نويت أنّك حرّمت على نفسك كلّ محرّم حرّمه الله - عزّ وجلّ -؟ قال: لا، قال: فحين عقدت الحجّ، نويت أنّك قد حللت كلّ عقد لغير الله؟ قال: لا، قال لهعليه‌السلام : ما تنظّفت، ولا أحرمت، ولا عقدت الحجّ!

قال لهعليه‌السلام : أَدَخَلْتَ الميقات، وصلّيت ركعتي الإحرام، ولبّيت؟ قال: نعم، قال: فحين دخلت الميقات، نويت أنّك بنيّة الزيارة؟ قال: لا، قال: فحين صلّيت الركعتين، نويت أنّك تقرّبت إلى الله بخير الأعمال من الصلاة، وأكبر حسنات العباد؟ قال: لا، قال: فحين لبّيت نويت أنّك نطقت لله سبحانه بكلّ طاعة وصمت عن كلّ معصية؟ قال: لا، قال لهعليه‌السلام : ما دخلت الميقات، ولا صلّيت، ولا لبّيت!

ثمّ قال لهعليه‌السلام : أدخلت الحرم، ورأيت الكعبة، وصلّيت؟ قال: نعم، قالعليه‌السلام : فحين دخلت الحرم نويت أنّك حرّمت على

٧

نفسك كلّ غيبة تستغيبها المسلمين من أهل ملّة الإسلام؟ قال: لا، قال: فحين وصلت مكّة، نويت بقلبك أنّك قصدت الله؟ قال: لا، قالعليه‌السلام : فما دخلت الحرم، ولا رأيت الكعبة، ولا صلّيت!

ثمّ قالعليه‌السلام : طِفْتَ بالبيت، ومسَسْتَ الأركان، وسَعَيْتَ؟ قال: نعم، قال: فحين سعيت، نويت أنّك هربت إلى الله، وعرف منك ذلك علّام الغيوب؟ قال: لا، قالعليه‌السلام : فما طفت بالبيت، ولا مسست الأركان، ولا سعيت!

ثمّ قال لهعليه‌السلام : صافحت الحجر، ووقفت بمقام إبراهيمعليه‌السلام ، وصلّيت به ركعتين؟ قال: نعم، فصاحعليه‌السلام صيحة كاد يفارق الدنيا، ثمّ قال: آهٍ آهٍ، من صافح الحجر الأسود فقد صافح الله تعالى، فانظر يا مسكين لا تضيِّع أجر ما عَظَمَ حرّمته، وتنقض المصافحة بالمخالفة، وقَبْضُ الحرام نظيرُ أهل الآثام.

ثمّ قالعليه‌السلام : نويت حين وقفت عند مقام إبراهيمعليه‌السلام ، أنّك وقفت على كلَّ طاعة، وتخلّفت عن كلّ معصية؟ قال: لا، قال: فحين صلّيت فيه ركعتين نويت أنّك صلّيت بصلاة إبراهيمعليه‌السلام وأرغمت بصلاتك أنف الشيطان؟ قال: لا، قال له: فما صافحت الحجر الأسود، ولا وقفت عند المقام، ولا صلّيت فيه ركعتين!

ثمّ قالعليه‌السلام له: أَشْرَفْتَ على بئرِ زمزم، وشرِبتَ من مائها؟ قال: نعم، قال: نويت أنّك أشرفت على الطاعة، وغضضت

٨

طرفك عن المعصية؟ قال: لا، قالعليه‌السلام : فما أشرفت عليها، ولا شربت من مائها! ثمّ قالعليه‌السلام له: أسعيت بين الصفا والمروة، ومشيت وتردّدت بينهما؟ قال: نعم، قال له: نويت أنّك بين الرجاء والخوف؟ قال: لا، قال: فما سعيت، ولا مشيت، ولا تردّدت بين الصفا والمروة! ثمّ قال: أَخَرَجْتَ إلى مِنى؟ قال: نعم، قال: نويت أنّك آمنت النّاس من لسانك، وقلبك، ويدك؟ قال: لا، قال: فما خرجت إلى مِنى!

(ثمّ) قال له: أوقفت الوقفة بِعَرَفة، وَطَلْعت جبل الرّحمة، وعرفت وادي نَمِرَة، ودعوت الله سبحانه عند المَيْلِ والجَمَرَات؟ قال: نعم. قال: هل عرفت بموقفك بعرفة معرفة الله سبحانه أمر المعارف والعلوم، وعرفت قبض الله على صحيفتك واطّلاعه على سريرتك وقلبك؟ قال: لا، قالعليه‌السلام : نويت بطلوعك جبل الرحمة أنّ الله يرحم كلّ مؤمن ومؤمنة، ويتولّى كلّ مسلم ومسلمة؟ قال: لا، قال: فنويت عند نَمِرَة أنّك لا تأمر حتى تأتمر، ولا تزجر حتى تنزجِر؟ قال: لا، قال: عندما وقفت عند العلم والنمرات، نويت أنّها شاهدة لك على الطاعات، حافظة لك مع الحفظة، بأمر ربّ السماوات؟ قال: لا، قال: فما وقفت بعرفة، ولا طلعت جبل الرحمة، ولا عرفت نمرة، ولا دعوت، ولا وقفت عند النمرات!

ثمّ قالعليه‌السلام : مررت بين العلمين، وصلّيت قبل مرورك

٩

ركعتين، ومشيت بمزدلِفة، ولقطت فيها الحصى، ومررت بالمِشْعَرِ الحرام؟ قال: نعم، قال: فحين صلّيت ركعتين، نويت أنّها صلاة شكر في ليلة عشر، تنفي كلّ عسر وتيسِّر كلّ يسر؟ قال: لا، قال: فعندما مشيت بين العلَمين ولم تعدل عنهما يميناً وشمالاً، نويت أن لا تعدل عن دين الحقّ يميناً وشمالاً، لا بقلبك، ولا بلسانك، ولا بِجَوارِحِك؟ قال: لا، قال: فعندما مشيت بمزدلِفة، ولقطت منها الحصى، نويت أنّك رفعت عنك كلّ معصية وجهل، وثَبَتَّ كَلّ علم وعمل؟ قال: لا، قال: فعندما مررت بالمشعر الحرام، نويت أنّك أشعرت قلبك إشعار أهل التقوى، والخوف لله - عزّ وجلّ -؟ قال: لا، قال: فما مررت بالعلمين، ولا صلّيت ركعتين، ولا مشيت بالمزدلفة، ولا رفعت منها الحصى، ولا مررت بالمشعر الحرام!

ثمَّ قالعليه‌السلام له: وصلت منى، ورميت الجمرة، وحلقت رأسك، وذبحت هديك، وصلّيت في مسجد الخيف، ورجعت إلى مكّة، وطفت طواف الإفاضَة؟ قال: نعم، قال: فنويت عندما وصلت مِنى، ورميت الجمار، أنّك بلغت إلى مطلبك، وقد قضى ربّك لك كلّ حاجتك؟ قال: لا، قال: فعندما رميت الجمار، نويت أنّك رميت عدوّك إبليس، وغضبته بتمام حجّك النفيس؟ قال: لا، قال: فعندما حلقت رأسك، نويت أنّك تطهّرت من الأدناس ومن تبعة بني آدم وخرجت من الذنوب،

١٠

كما ولدتك أمّك؟ قال: لا، قال: فعندما صلّيت في مسجد الخيف، نويت أنّك لا تخاف إلّا الله - عزّ وجلّ - وذنبك ولا ترجو إلّا رحمة الله تعالى؟ قال: لا، قال: فعندما ذبحت هديك نويت أنّك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسّكت به من حقيقة الورع، وأنّك اتبعت سنّة إبراهيمعليه‌السلام بذبح ولده، وثمرة فؤاده، وريحان قلبه، وأحييت سنّته، لمن بعده وقربه إلى الله تعالى لمن خلفه؟ قال: لا، قال: فعندما رجعت إلى مكّة، وطفت طواف الإفاضة، نويت أنّك أفضت من رحمة الله تعالى، ورجعت إلى طاعته وتمسّكت بودِّه، وأدَّيت فرائِضه، وتقرَّبت إلى الله تعالى؟ قال: لا، قال له زين العابدينعليه‌السلام : فّما وصلت مِنى، ولا رميت الجِمار، ولا حَلَقْتَ رأسك، ولا أدَّيت نُسكَكَ، ولا صلَّيت في مسجد الخيف، ولا طفت طواف الإفاضة، ولا تقرّبت، ارجع فإنّك لم تحجّ!

فَطَفِقَ الشّبليّ يبكي على ما فرّطه في حجّه، وما زال يتعلّم حتّى حجّ من قابل بمعرفة ويقين(١) .

____________________

١- الحجّ والعمرة في الكتاب والسنّة - محمّد الريشهري - ص ٢٦٠ - ٢٦٤

١١

والرواية الثانية، هي المنسوبة للإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام ، وهي التالية:

- إذا أردت الحجّ، فجرّد قلبك لله تعالى من كلّ شاغل، وحجاب كلّ حاجب، وفوّض أمورك كلّها إلى خالقك، وتوكّل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة والخلق، وأخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحِلتِك، وأصحابك، وقوّتك وشبابك ومالك، مخافة أن يصيروا لك عدوّاً ووَبالاً، فإنَّ من ادَّعى رضا الله واعتمد على شيء، صيّره عليه عدوّاً ووَبالا، لِيعلم أنَّه ليس له قوّة، ولا حيلة، ولا لأحدٍ إلّا بعِصمة الله وتوفيقه، واستعدّ استعدادَ من لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحبة، وراعِ أوقات فرائض الله وسنن نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما يجب عليك من الأدب والاحتمال، والصبر والشكر، والشفقة والسخاء، وإيثار الزاد على دوام الأوقات.

ثمّ اغسِل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، وأَلبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع والخشوع، وأَحْرِم من كلّ شيء يمنعُك عن ذكر الله، ويحجبُك عن طاعته، ولبِّ بمعنى إجابةٍ صافية زاكية لله - عزّ وجلّ - في دعوتك له، متمسّكاً بعروته الوثقى. وَطُفْ بقلبك مع الملائكة حول العرش، كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت. وهرول هرولة من هواك وتَبَرِّيَاً من جميع

١٢

حولك وقوّتك، فاخْرُج من غفلتك وزلّاتك، بخروجك إلى مِنى، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك، ولا تستحقّه. واعترف بالخطايا بعرفات، وجدّد عهدك عند الله بوحدانيّته. وتقرّب إلى الله ذا ثقة بمزدلِفة، واصعَد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل. واذبح حُنْجُرَتَيْ الهوى والطمع عند الذبيحة.

وارمِ الشهوات والخساسة، والدناءة والذميمة، عند رَمْيِ الجمرات. واحلُقِ العيوب الظاهرة والباطنة بحلق رأسك. وادخل في أمان الله وكنفه وسَتْرِه وكَلاءَتِه، من متابعة مُرادِكَ بدخولكِ الحرم، وَزُرِ البيت متحقِّقاً، لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه، واستلِم الحَجَرَ رِضىً بِقِسْمَتِهِ وخضوعاً لعزّته. وودِّع ما سواه بطواف الوَداع. وصفِّ روحك، وسرَّك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك على الصفا. وكن ذا مروّةٍ من الله تَقِ أوصافك عند المروة، واستقِم على شروط حجّك هذا ووفاء عهدك، الذي عاهدت به مع ربّك، وأوجبته إلى يوم القيامة(١) .

____________________

١- الحجّ والعمرة في الكتاب والسنّة - محمّد الريشهري - ص ٢٥٨ - ٢٦٠

١٣

المحاضرة الأولى:

فضل فريضة الحجّ وثوابها

عن الإمام الباقرعليه‌السلام : "بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ: الصلاةُ، والصومُ، والزكاة، والحجُّ والولاية".

الهدف:

التعريف بمكانة هذه الفريضة، وبيان أهمّيتها ومكانتها في الدين، وفضلها والثواب المترتّب على أدائها.

تصدير الموضوع:

قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النّاس حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(١) .

____________________

١- آل عمران، ٩٧.

١٤

إنّ الله تعالى جعل فريضة الحجّ في مقابل الكفر في إشارة إلى عظمة هذه الفريضة، وأنّها جوهر الإيمان ومَجْمَعُ العبادات.

محاور الموضوع:

الحجّ أحد أركان الدين

عن الإمام الباقرعليه‌السلام : "بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ: الصلاةُ، والصومُ، والزكاة، والحجُّ والولاية"(١) .

وعن السيّدة الزهراءعليها‌السلام : "وجُعِلَ الحجُّ تشييداً للدّينِ"(٢) .

إنّ فريضة الحجّ هي الفريضة الوحيدة، التي أراها الله تعالى لرسوله رؤيةً، حيث مثّلها الملك الأمين جبرائيل تمثيلاً، قال تعالى: ﴿وَأَرِنا مناسِكَنا(٣) .

فضيلة الحجّ وآثاره

إنّ للحجّ فضائل وآثار، نذكر منها:

- إكرام الحاجّ بالمغفرة: عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : "الحاجُّ والمعتمرِ وَفْدُ اللهِ، وحقٌ على الله تعالى، أنّ يُكْرِمَ وفدَه، ويَحْبوهُ بالمغفرةِ"(٤) .

____________________

١- جامع أحاديث الشيعة، ج١، ص١٢٧.

٢- الموسوعة الفقهيّة الميسّرة، الشيخ الانصاري، ج١، ص٢٩.

٣- البقرة، ١٢٨.

٤- جامع أحاديث الشيعة، السيّد البروجردي، ج١٠، ص٤٤٧.

١٥

- سعادة الدنيا والآخرة: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : "من أراد دنيا وآخرة، فَلْيَؤُمَّ هذا البيت، ما أتاه عبد فسأل الله دنياً، إلّا أعطاه منها أو سأل آخرة إلّا ادّخر له منها، أيّها النّاس عليكم بالحجّ والعمرة فتابعوا بينهما، فإنّهما يغسلانِ الذنوبَ، كما يغسلُ الماءُ الدَّرَنَ، وينفيانِ الفقرَ كما تنفي النارُ خَبَثَ الحديدِ"(١) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : "عليكم بحجِّ البيتِ فَأَدْمِنوهُ، فإنَّ في إدمانِكُمُ الحجَّ دفعُ مكارِهِ الدّنيا عَنْكُمْ وأَهْوالُ يومِ القيامةِ"(٢) .

- تسكين القلوب: فعن الإمام الباقرعليه‌السلام : "الحجُّ تسكينُ القلوبَ"(٣) .

- عدم الفقر: وعنهعليه‌السلام أنّه قال: "الحجّ ينفي الفقر"(٤) .

- استجابة الدعاء: وفي موضع آخر، قالعليه‌السلام : "الحاجّ والمعتمرُ، وفدُ الله، إن سألوهُ أعطاهُم، وإن دعَوْهُ أجابَهُم، وإن شفعُوا شفَّعَهُمْ، وإن سكتوُا ابتَدَأَهُم، ويُعَوَّضونَ بالدِّرهَمِ ألفَ ألفَ دِرْهَمٍ"(٥) .

- صحّة البدن وسعة الرزق: عن الإمام الصادقعليه‌السلام : "كان عليّ بن الحسين يقول: حجُّوا واعتمرُوا، تصحُّ أجسامُكم وتتّسعُ أرزاقُكم، ويَصْلُحُ إيمانُكم، وتَكْفُوا مؤونةُ النّاس ومؤونةَ عيالاتِكُم"(٦) .

____________________

١- جامع أحاديث الشيعة، السيّد البروجردي، ج١٠، ص١٥٦.

٢- الحجّ والعمرة في الكتاب والسنّة، الريشهري، ص١٥٤.

٣- ميزان الحكمة، الريشهري، ج١، ص٥٣٤.

٤- ميزان الحكمة، الريشهري، ج١، ص٥٣٥.

٥- موسوعة أحاديث أهل البيت، الشيخ النجفي، ج٧، ص٣١٣.

٦- جامع أحاديث الشيعة، السيّد البروجردي، ج١٠، ص١٥٧.

١٦

- ترك الحجّ لا يعادَل بمال: "رُوِيَ أنّ إعرابيّاً التقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له: يا رسول الله، إنّي خرجت أريد الحجّ ففاتَني، وأنا رجل ميِّلٌ (أي ذو مال وفير)، فمَرْنِي أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاجّ، قال: فالتفت إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أَنْظُرْ إِلى أبي قبيسٍ (جبل عالٍ في مكّة) فَلَوْ أَنَّ أَبا قبيسٍ لَكَ ذَهبةٌ حَمراءُ أَنْفَقْتَهُ في سبيلِ اللهِ، ما بَلَغْتَ ما يبلغُ الحاجُّ......"(١) .

- عدم المناظرة: عن الإمام عليّعليه‌السلام : "والله الله في بيتِ ربِّكم، لا تُخْلوه ما بقيتم، فإنَّه إن تُرِكَ لم تُناظَروا". ومعنى عدم المناظرة أنّ الله لا يُمْهِلْهُم قبل نزول العقوبة الإلهيَّة(٢) .

- خير من الدنيا: فقد ورد في الحديث الشريف: "حجّةٌ مقبولةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها"(٣) .

____________________

١- التهذيب، ج١، ص٤٤٧.

٢- الوسائل، ج٨، ص١٥.

٣- جامع أحاديث الشيعة، السيّد البروردي، ج١٠، ص١٥١.

١٧

المحاضرة الثانية:

آداب وأعمال المسجد الحرام

قال تعالى:

﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ

الهدف:

بيان مكانة مكّة، وبعض الأماكن المقدّسة فيها، وفضيلة الأعمال التي تستحبّ فيها، والثواب المترتّب عليها.

تصدير الموضوع:

قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ(١) .

____________________

١- آل عمران، ٩٦.

١٨

محاور الموضوع:

الأعمال المستحبّة في مكّة

١- الإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن: فعن الإمام السجّادعليه‌السلام : "إنَّ تسبيحةَ بِمكّة يعدل خراج العراقين ينفق في سبيل الله"(١) .

٢- ختم القرآن: فقد ورد عن الإمام السجّادعليه‌السلام : "من خَتَمَ القرآنَ بمكّة، لم يَمُتْ حتّى يَرَى رسولَ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرى مَنْزِلُه في الجنّة"(٢) .

٣- الشرب من ماء زمزم: فقد ورد في رواية الشلبيّ: ثمّ قالعليه‌السلام له: "أَشْرَفَتَ على بِئْرِ زمزمَ، وشربْتَ من مائِها؟ قال: نعم، قال: نَوَيْتَ أنّك أَشْرَفْتَ على الطّاعَةِ، وغَضَضْتَ طَرْفَك عن المعصِيةِ؟ قالَ: لا، قالعليه‌السلام : "فَما أشرفْتَ عَلَيها، ولا شَرِبْتَ من مائِها"(٣) .

ورُوي أنّه من ارتوى من ماء زمزم أحدث الله له به شفاء، وصرف عنه داء، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستهدي ماء زمزم وهو بالمدينة(٤) .

٤- الإكثار من النظر الى الكعبة: فعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :"أنّ النظرّ إلى الكعبةِ حبّاً لَهَا يهدِمُ الخطايا هدماً"(٥) .

____________________

١- المحاسن، ج١، ص٦٨-٦٩.

٢- المحاسن، ج١، ص٦٨-٦٩.

٣- الحجّ والعمرة في الكتاب والسنّة، ص٢٦٢.

٤- منتهى المطلب، العلّامة الحلّي، ج٢، ص٦٤٥.

٥- المحاسن، ج١، ص٦٨-٦٩.

١٩

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : "من أيسرَ ما ينظر إلى الكعبة أن يعطيه اللهُ بكلِّ نظرةٍ حسنةً، ومحَا عنه سيّئةً، ورفعَ لهُ درجةً"(١) .

٥- الطواف حول الكعبة ثلاثمائة وخمس وستين مرّة، فإن لم يقدر فعشر كلّ يوم، فإن لم يقدر فإثنين وخمسين طوافا مدة بقائه في مكّة.

٦- أن يدعو عند دخوله الحرم بقوله: "اللَّهمَ إنّك قلْتَ من دخَلَه كانَ آمناً، فآمنيّ مِنْ عذابِ النار".

وعند خروجه يستحبّ أن يكبّر ثلاثاً، ويقول: "اللَّهمّ لا تُجْهِدْ بلاءَنا، ربَّنا ولا تُشَمِّت بنا أعداءنا، فإنّك أنتَ الضارُّ النافعُ"(٢) .

٧- يستحبّ أن يصلّي في كلّ زاوية من زوايا البيت المقدّس ففي الحديث: "الساجدُ بمكّة كالمتشحطِّ بدمِهِ في سبيلِ اللهِ"(٣) .

أماكن مباركة في مكّة:

في مكّة ستّ بقاع مباركة، على المرء أن لا يغفل عنها:

١- الحجر الأسود: ويستحبّ التبرّك به، وتقبيله، لما ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : "أنّ الحجرَ الأسود يمين اللهَ في أرضِهِ، يصافحُ بها خلْقَهُ، كما يصافِحُ الرجلُ أخاهُ"(٤) .

____________________

١- المحاسن، ج١، ص٦٩.

٢- الحجّ والعمرة في الكتاب والسنّة،ص٨٣.

٣- المحاسن، ج١، ص٦٨-٦٩.

٤- المحاسن، ج١، ص٦٥.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

للأغراض الزائدة على ذات الواجب، كما عن الإمامية والمعتزلة، والحكماء ينكرونه جداً ويقولون: إنّ الغرض من فعله، نفس ذاته المقدّسة. والأشعريون ينكرون الغرض من أصله في أفعاله تعالى، ولكنّهم يجعلون صفاته زائدةً على ذاته، فيصح لهم إثبات اختياره من هذه الناحية، كما اعترف به كلام الأسفار المتقدّم.

ومسألة تعلّل أفعاله بالأغراض الزائدة، مسألة مهمة عويصة طويلة الذيل جداً، ومع ذلك أُهملت في الكتب الكلامية، ولكنّنا سنستوفي بحثها في المقصد الخامس إن شاء الله تعالى، وسنبرهن من العقل والقرآن على صحته، لكنّ الشأن في الابتناء المذكور، فإنّ الفعل - بناءً على زيادة الداعي على الذات - وإن كان ممكناً بالنسبة إلى الذات المذكورة، من حيث الصدور واللاصدور، كما ذكره في الأسفار، وهو يبطل مذهب الفلاسفة من نفي إمكان الفعل بالنسبة إلى الذات، لكنّه لا يثبت مذهب المتكلّمين، ما لم يتحقّق مقدورية الداعي المذكور، فإنّا لو فرضنا أنّ الداعي غير مقدور كان الفعل الصادر عنه - صدور المعلول عن علّته التامة - أيضاً غير مقدور، فأين الاختيار؟

وقد ذهب جمع كثير إلى إرجاع إرادته تعالى إلى العلم بالمنفعة والمصلحة، ولعلّه المشهور بين العدلية، ومن الواضح أنّ العلم - سواء كان عين ذاته، أو زائداً عليها وقائماً بها من الأزل - غير مقدور للواجب.

وخلاصة المقال: أنّ مجرّد إمكان الفعل صدوراً وتركاً، بلحاظ ذاته تعالى من حيث هي، لا يفي بإثبات اختيار الواجب، الذي يصرّ عليه المتكلّمون، فإنّه بمعنى له أن يفعل وله أن لا يفعل، وهذا إنّما يتحقّق في فرض مقدورية الدّاعي، وأمّا ما ادّعاه شركاء الفن وغيرهم، من الضرورة على أنّ الدّاعي لا يدعو إلاّ إلى معدوم، فهو ممّا لا سبيل لنا إلى تصديقه؛ إذ يمكن الالتزام بهذا الداعي - وهو علمه بما في الفعل من المصلحة - والقول مع ذلك بضرورة صدور الفعل عنه من جهة أدلة الحكماء الآتية، فإنّ الله قديم الذات وقديم العلم، فهو عالم أزلاً بأنّ الشيء الفلاني فيه مصلحة مثلاً، فهذا العلم القديم بما أنه علّة يستلزم قِدم المعلول. نعم لو بنينا على قول الفلاسفة من نفي الداعي، فلا يمكن أن نذهب إلى اختياره تعالى في أفعاله، كما يرومه الكلاميون، اعتماداً على ما سيجيء من دلائلهم في هذه المسألة ومسألة حدوث العالم، كما ستعلم وجهه في الدليل الثاني من أدلّة الحكماء.

السادس: الظاهر من كلام المحقّق الطوسي قدّس سره، أنّ وقوع تخلّف الفعل عن الفاعل معتبر في مفهوم الاختيار، لكنّه غير مدلّل، بل الملاك هو إمكانه إمكاناً وقوعياً، وأمّا نفس التخلّف خارجاً فهو غير معتبر، نعم هنا شيء آخر وهو أنّ الممكن الوجود هل يمتنع قِدمه أو لا؟ وسيأتي بحثه

١٢١

في مسألة حدوث العالم، لكن القول بامتناعه لا يشهد على اعتبار التخلّف في الاختيار؛ إذ استحالة قِدم الممكن في نفسه شيء، ومنافاته لمفهوم الاختيار شيء آخر، ولا ربط بينهما أصلاً.

هذا ما يتعلّق بجهات البحث وتصوير المدّعى، ولنرجع الآن إلى بيان أدلّتهم فنقول: استدل الفلاسفة على دعواهم بوجوه، وإليك بيانها وتوضيحها:

الأَوّل: إنّ الواجب كما تجب ذاته تجب صفاته، فهو واجب في ذاته وصفاته، وحيث إنّ القدرة من أوصافه تعالى، فلا يعقل تفسيرها بالإمكان والصحّة.

أقول: هذه عمدة ما ينهدم به بناء المتكلّمين، نعم الأشعري يعتذر بإمكان الصفات القديمة، القائمة بذاته تعالى، الزائدة عليها، وعدم وجوبها، فهذا الوجه لا يهمّه كما هو واضح، إلاّ أنّ الكلام في صحّة هذا الاعتذار، وستعلم أنّ لبّ القول بإمكان الصفات، ليس إلاّ التزاماً بمذهب الماديين، وأمّا الاعتزالي فيمكنه التخلّص من هذه العويصة، بما يقول في غير هذا المقام، أو يُنسب إليه من إنكار الصفات رأساً، ونيابة الذات منابها في آثارها، فمعنى كونه تعالى قادراً، أنّ ذاته تفعل وتترك بلا إيجاب ذاتي.

أقول: ويرد عليه أنّ النيابة المذكورة عين قول الدهريين، كما ستقف عليه في المقصد الرابع إن شاء الله، فالشبهة باقية على حالها، ولا وزن لهذين الجوابين المذكورين، فلابدّ الالتزام إمّا بإيجابه ونفي الإمكان عن قدرته، أو بعدم وجوب قدرته. والفلسفي يستريح بقبول الشقّ الأَوّل، كما أنّ الأشعري والاعتزالي يبنيان على الثاني؛ وحيث إنّ الإمامي يرى بطلان الشقّين معاً، فيحتاج إلى طريق ثالث، لكنّني لم أرَ ذكراً له في كتبهم الموجودة عندي، بل هذه الشبهة قد أُهملت في الكتب الكلامية رأساً، مع أنّها ذات أهمّية جداً، ومغزاها أنّ القول بالاختيار المختار عند المتكلمين، لا يجامع القول بعينية الصفات، كما عليها الإمامية والحكماء. والتحقيق في الجواب: أنّ القدرة ليست هي نفس صحّة الصدور واللاصدور كما في الحيوان، فإنّ القدرة فيه من الكيفيات النفسانية؛ لأنّها صفة قائمة بذوات الأنفس، فكذا في الواجب؛ وحيث إنّ كنه الواجب وذاته يمتنع الاكتناه والإحاطة بها، استحال معرفة قدرته أيضاً، لكن يلزمها صحّة الفعل والترك، فالقدرة ليست نفس الصحّة المذكورة، لا في المخلوق ولا في الخالق، بل هي صفة تستوجب الصحة المذكورة (1) .

فنقول: إنّ الله تعالى قادر لِما استخدمناه من الدلائل، وستدري أنّ قدرته عين ذاته؛ وحيث

____________________

(1) نقل العلاّمة قدّس سره في شرح قواعد العقائد / 40: أنّ القادر عند أوائل المعتزلة مَن كان على صفة لأجله عليها يصح منه الفعل. ونفاة الأحوال قالوا: هو الذي يصحّ منه أن يفعل وأن لا يفعل.

أقول: الثاني باطل كما عرفت، والأَوّل صحيح لكنّ الصفة نفس ذاته.

١٢٢

اتّفق الباحثون من المتكلّمين والحكماء - كاتّفاق العقل والنقل - على امتناع إدراك حقيقته وعرفان ذاته، امتنع الإحاطة بحقيقة قدرته، لكن نعلم أنّ الصحّة المذكورة من لوازم قدرته وشؤون سلطانه، فإذن لا منافاة بين القول باختياره والقول بعينية صفاته، فإذن لا يكون مانع من الالتزام بها. هذا، وللمتكلم أن يرجع ويقول على سبيل النقض: إنّ تفسير القدرة بأن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، لا يجامع القول بعينية الصفات كما عليه الفلاسفة؛ إذ مرجعها حينئذٍ إلى ضرورة المشيّة واللامشيّة، وليست المشيّة عندهم إلاّ العلم بالعناية، ولا نتعقّل من مفهوم العلم إلاّ الانكشاف والإراءة، ولا يلتزم عاقل بأنّ الانكشاف نفس ذاته الواجبة، وأنّ حقيقة الواجب هو الكشف! فلابدّ أن يقولوا: إنّ الكشف لازم علمه تعالى.

الثاني: إنّ إرادته عين ذاته الواجبة فهي أيضاً واجبة، وعليه فالفعل أيضاً واجب بالنسبة إلى ذاته، ولا يمكن التخلّف أصلاً؛ لأنّه من تخلّف المعلول عن علّته التامّة، يظهر ذلك من الأسفار وحواشيها للسبزواري.

أقول: المنقول من معظم متكلّمي الإمامية ورؤساء المعتزلة، أنّ إرادته تعالى هو علمه بما في الفعل من المصلحة والمنفعة، ويعبّرون عنه بالداعي، وعليه فيتوجّه عليهم أنّ علمه عين ذاته تعالى، وتعلّقه بالأشياء ضروري، فيكون تحقّق الفعل أيضاً ضرورياً؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

وهذا هو الإيجاب الذي يدّعيه الفلاسفة، وأمّا الأشاعرة فهم وإن يروا زيادة إرادته على ذاته، لكنّهم يقولون بتعلّقها بأحد طرفي الفعل لذاتها، فلا يتحقّق اختياره تعالى على مذهبهم أيضاً، فالإرادة لازمة لذاته تعالى صادرة عنه بالإيجاب، وهي لذاتها متعلّقة بأحد طرفي الفعل، وهذا عين الإيجاب، وما أجاب في المواقف (1) بأنّ الوجوب بالاختيار، لا ينافي الاختيار، فهو مزيّف بعدم تعقّل الاختيار له تعالى على هذا المسلك.

والإنصاف أنّ ما قاله المتكلّمون في إرادته تعالى، يصام اختياره المفسّر بالصحّة المذكورة.

ثمّ إنّ عينية الإرادة مع الذات وإن توجب ضرورة الفعل وبطلان الصحّة المذكورة، إلاّ أنّها لا تثبت قِدم العالم؛ لأنّها ليست هي العلم فقط، بل العلم بالمصلحة، ولعلّها غير متحقّقة في الأزل، أو إنّ قِدم الممكن غير ممكن، فإثبات قِدم العالَم موقوف على إمكان قِدم الممكن وتحقّق المصلحة، كما لا يخفى.

لكن الذي يبطل هذا الوجه، هو ما ذهبنا إليه من حدوث إرادته تعالى، وعدم

____________________

(1) شرح المواقف 3 / 69.

١٢٣

قِدمها، ووجوبها، وعينيتها، مع الذات الأحدية الواجبة، فهذه العويصة المهمّة منحلة على أُصولنا بلا تكلف.

الثالث: إنّ الواجب الوجود واجب من جميع جهاته، فكيف يعقل الصحّة في حقه؟ ذكره صاحب الأسفار والسبزواري وغيرهما ممّن تقدّمهما.

أقول: إن أرادوا بذلك وجوب القدرة له تعالى، وعدم إمكان انفكاكها عن الذات، فهو ممّا لا خلاف فيه لأحد، حتى من الأشعري القائل بإمكان صفاته، فإنّه يرى ضرورة ثبوت القدرة الممكنة له تعالى، وإن أرادوا بذلك إثبات وجوب القدرة في نفسها وأنّها واجبة، فهذا وإن كان حقاً متيناً وبه اعتقد الإمامية، إلاّ أنّ القاعدة المستدلّ بها لا تفي بإثبات ذلك، كما يظهر لمَن لاحظها، وإن أرادوا بذلك نفي إمكان أفعاله بالنسبة إليه تعالى، وأنّها تصدر عنه تعالى ضرورةً ووجوباً، ولا يعقل الإمكان في حقه مطلقاً سواء في أفعاله وأوصافه، فهذا وإن كان هو مفاد القاعدة، لكنّنا نردّه بأنّ القاعدة المذكورة باطلة لا أساس لها أبداً، كما سلف بحثها مفصّلاً.

الرابع: ما سلف في عبارة الأسفار وإليك بيانه الآخر، قال: ثمّ إنّك إذا حقّقت حكمت بأنّ الفرق بين المريد وغير المريد - سواء كان في حقّنا أو في حقّ الباري تعالى - هو ما أشرنا إليه، فإنّ إرادتك ما دامت متساوية النسبة إلى وجود المراد وعدمه، لم تكن صالحةً لرجحان أحد ذينك الطرفين على الآخر، وإذا صارت إلى حد الوجوب لزم منه الوقوع، فإذن الإرادة الجازمة حقّاً يتحقّق عند الله... إلخ.

أقول: هذا مأخوذ من كلام الرازي في محكي المباحث المشرقية، كما نقله هو في بعض فصول بحث إرادة الله تعالى، واللاهيجي أيضاً في مبحث إرادته تعالى من شوارقه، وجوابه: أنّ الوجوب الناشئ من قِبل الإرادة والاختيار، لا ينافي الاختيار بل يؤكّده، وهذا خارج عن محل الكلام كما هو واضح للمبتدئين، وأمّا وجوب الإرادة نفسها فقد أشرنا إلى أنّ إرادته تعالى كإرادة بقية الفاعلين حادثة، كما سيأتي بحثهما.

الخامس: ما ذكره أيضاً صاحب الأسفار بقوله: وممّا يدلّ على ما ذكرنا - من أنّه ليس مَن شرط كون الذات مريداً وقادراً إمكان أن لا يفعل - أنّ الله تعالى إذا علم أنّه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني، فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه جهلاً، وذلك محال، والمؤدّي إلى المحال محال، فعدم وقوع ذلك الفعل محال فوقوعه واجب... مع أنّ الله مريد وقادر عليه.

أقول: وهذا التلفيق من مثله عجيب جداً، أَلم يعلم أنّ هذا الدليل لو تمّت دلالته على مرامه، لعمّ جميع الفاعلين من الحيوان وغيره؟ فيبطل الاختيار رأساً، ولا يصحّ تفسير القدرة بصحّة الصدور واللاصدور حتى في القادر، الذي يفعل بداع زائد على ذاته، وقدرة زائدة على ذاته، مع

١٢٤

أنّه صرّح - في غير مورد - بصحّة التفسير المذكور في غير الواجب.

وحلّ هذه الشبهة، أنّ الله كما يعلم بصدور الفعل عن نفسه أو عن غيره، كذلك يعلم بصدوره عنه اختياراً، وأنّ تركه ممكن له ذاتاً ووقوعاً، فلو فرضا عدم إمكان الترك للزم جهله تعالى وهو محال، والمستلزم للمحال محال.

ثمّ إنّ هذه الشبهة مشهورة ذكرها الجبريون في قِبال العدلية، وسنرجع إليها في مباحث المقصد الخامس إن شاء الله.

السادس: ما ذكره هو أيضاً، من أنّ الفاعل قادراً، إنّما يكون فاعلاً بالفعل حال صدور الفعل عنه، وفي تلك الحال يستحيل أن يصدق عليه أنّه شاء أن لا يفعل فلم يفعل... إلخ.

أقول: وهذا منه غريب وخبط عظيم، فقد خُلط عليه محلّ البحث؛ ولذا أصرّ على أنّ هذا الوجه يثبت مرامه، ولا يدري أنّ الوجوب الناشئ عن الإرادة بعد تحقّقها اختياراً، غير وجوب الفعل بالنسبة إلى ذات الفاعل، كيف والأَوّل عامّ يشمل جميع الفاعلين، والثاني خاصّ بمَن كان فعله لا لصفة زائدة ولا لداعٍ زائد، كما صرّح به مراراً؟ وإنْ كان اكتفى في بعض كلماته، بصدور الفعل عن علم وإرادة في صدق المختار، ولو في غير الله تعالى، بل ادّعى أنّه لا يقال مثل هذا الفاعل في العرف العامّي ولا الخاصّي: إنّه فاعل غير مختار.

أقول: بطلانه واضح؛ لأنّ إطلاق المختار على مثله اصطلاح فلسفي، والعرف لا يقول له المختار قطعاً، كما اعترف به ابن سينا وغيره أيضاً.

السابع: قد ثبت قِدم العالَم في طبيعيات الفلسفة، وهو لا يمكن إلاّ عن مُفيض تام الفاعلية. نقله المحقّق الطوسي عن الحكماء في محكي شرحه على الإشارات ردّاً على الرازي.

أقول: هذا الوجه باطل صغرى وكبرى. أمّا الصغرى؛ فلِما يأتي من حدوث العالم بشراشره، وأمّا الكبرى؛ فلِما تقدّم من أنّ المعتبر في مفهوم المختار، هو إمكان تخلّف فعله عنه، لا وقوعه خلافاً لشركاء الفن أو معظمهم، فقِدم العالَم لا يكشف عن صحّة مقصودهم، كما أنّ حدوثه على نحو مطلق لا يدلّ على اختياره، كما يأتي إن شاء الله.

الثامن: الاختيار بالمعنى الذي يعتقده المتكلّمون، يستدعي زيادة الداعي الذي يفعل بوجوده ولا يفعل بعدمه، وليكون الفعل بالنسبة إلى ذات الفاعل ممكن الصدور واللاصدور، وهي - أي زيادة الداعي على ذاته - تستلزم الاستكمال المحال في حقّه تعالى. يستفاد من الأسفار والشوارق.

أقول: استلزام الاستكمال باطل جداً، كما ستعرفه في المقصد الخامس إن شاء الله.

وأعجب من ذلك ما ذكره ابن سينا على ما في الأسفار: عند المعتزلة أنّ الاختيار يكون

١٢٥

بداعٍ أو بسبب، والاختيار بالداعي يكون اضطراراً، واختيار الباري وفعله ليس بداعٍ، انتهى. وقَبِله صاحب الأسفار أيضاً فكرّره في كتابه.

أقول: وهذا الكلام عندي لا يستحقّ ردّاً ولا جواباً؛ لأنّه مثل أن يقال: إذا كانت الشمس طالعة فالليل موجود!

التاسع: إنّ تعلّق القدرة بأحد الضدّين، إمّا لذاتها بلا مرجّح فيستغني الممكن عن المرجّح، فإنّ نسبة ذات القدرة إلى الضدّين على السوية، فيلزم سدّ باب إثبات الصانع؛ لجواز ترجّح وجود الممكن حينئذٍ على عدمه، وأيضاً يلزم قِدم الأثر؛ لأنّ الواجب وقدرته وتعلّقها أزلي مع أنّ أثر المختار حادث، وإمّا لا لذاتها بل بمرجّح خارجي، ولا يجب الفعل مع ذلك المرجّح وإلاّ لزم الإيجاب، بل كان جائزاً هو وضدّه، فيحتاج إلى مرجّح آخر ويلزم التسلسل في المرجّحات.

العاشر: إنّ إرادة الله وقدرته، متعلقتان من الأزل إلى الأبد، بترجّح الحادث المعين، وإيجاده في وقت معيّن، والتغيّر في صفاته محال، فوجود ذلك الحادث في ذلك الوقت واجب، فهو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار. نقلهما بعضهم عن الفلاسفة (1) .

الحادي عشر: إنّ ما لم يجب لم يوجد، فلابدّ من أن يكون الله تعالى موجباً - بكسر الجيم - فإنّه موجِد، وليس موجَباً - بفتح الجيم - كما زعم المتكلمون وينسبونه إلى الحكماء. يظهر ذلك من كلام السبزواري المتقدّم.

أقول: أمّا الوجه التاسع فنختار وجوب الفعل، ولكن ليس هذا من الإيجاب المتنازع فيه كما مرّ غير مرّة؛ ضرورة جريان هذا الوجوب في جميع الفاعلين، بخلاف الثاني، فإنّه لا يشمل الفاعل من الحيوان.

وبالجملة: الكلام في وجوب الفعل عليه من جهة وجوب إرادته له وجوباً ذاتياً، لا في وجوبه الناشئ من تعلّق إرادته، وإن كانت غير ذاته بل كانت ممكنةً أو حادثة، وهذا ظاهر لا ستر عليه. وأجاب الناقل ومَن تبعه عنه بشيء أسخف من أصل الشبهة، ولا يليق بنا أن نتعرّض له، ومنه ظهر بطلان الوجه الأخير أيضاً، وأنّ الله تعالى على مذهبهم فاعل موجَب - بفتح الجيم - ولا يُستشم منه رائحة الاختيار له تعالى لا عقلاً ولا عرفاً، فإصرار السبزواري وغيره على أنّه موجِب - بالكسر - لا موجَب - بالفتح - واستيحاشهم من التصريح بما هو صميم مذهبهم من إيجابه وعدم اختياره، شيء عجيب جداً، لا ندري ما الذي دعاهم إلى إخفاء مسلكهم في هذا المقام؟

____________________

(1) شرح المواقف 3 / 44، 46.

١٢٦

هذا كلّه بناءً على تمامية القاعدة القائلة: إنّ ما لم يجب لم يوجد في الأفعال الاختيارية المباشرية، وأمّا بناءً على عدم تماميتها فالأمر واضح، وأمّا حديث لزوم التسلسل في المرجّحات، فليس إلاّ دليلاً آخر على تلك القاعدة ونفي الأولوية، وسنرجع إليها في المقصد الخامس.

وأمّا الوجه العاشر فجوابه: أنّ قدرته متعلّقة بجميع التروك والأضداد، فليس الترجّح مستند إليها، وإلاّ لزم التناقض والجمع بين الضدين، بل هو مستند إلى إرادته، التي ليست هي إلاّ إحداثه، وتعلّق الإرادة بهذا المعنى من الأزل محال، بل تعلّق القدرة بالفعل قديم غير مستلزم للوقوع، وتعلّق الإرادة حادث وموجب للوقوع لكنّها قابلة للتغيّر، فافهم جيداً.

ويناسب المقام مباحث أُخر، سنتعرض لها إن شاء الله في مباحث الإرادة، وحدوث العالم، وتعلّل أفعال الله بالأغراض؛ إذ هذه المباحث لها اشتراك وارتباط شديد كما يعرفه الراسخون.

هذا ما استدلّ به أصحاب الفلسفة لإثبات مرامهم، ولم ندع شيئاً منه مهملاً، وقد دريتَ أنّ الإنصاف العقلي يحكم بعدم تمامية دلالة دلائلهم، بل وبعضها خارج عن محلّ النزاع رأساً، فحينئذٍ إن تمّ أدلة المتكلّمين على مذهبهم لَما كان بأساً ومانعاً من الالتزام به، وكذا لو ثبت من الشرع ما يدلّ عليه؛ إذ المسألة قابلة للتعبّد الشرعي ولا محذور فيه أصلاً، فإنّ الاختيار وهو كيفية القدرة، ممّا لا يتوقّف عليه حجّية كلام الشارع حتى يلزم الدور ونحوه، فالآن نرجع إلى أدلّتهم، فقد استدلّوا على مذهبهم بوجوه:

الأَوّل: لو لم يكن مختاراً للزم إمّا قِدم العالَم أو حدوث القديم، وكلا الأمرين محال، فيمتنع المقدّم المذكور بامتناع التالي. بيان الملازمة: أنّ أثر الموجب لا ينفكّ عنه، فهو وأثره مقارنان في الخارج، فإذا لم يكن الواجب مختاراً جاز تأخّر فعله عنه، ولوجب تحقّقهما - أي الله والعالَم - إمّا في الأزل أو في الحدوث، وأمّا بطلان التالي فامتناع حدوث الواجب واضح، كما أنّ حدوث العالم مبيّن كما يأتي في محلّه. وبالجملة: أنّ حدوث العالم دليل على اختيار خالقه.

الثاني: إنّ الإيجاب الذي اصطلح عليه الحكماء باسم الاختيار نقص؛ لعدم تمكّنه حينئذٍ من الترك أو الفعل، بل صدور أحد الطرفين واجب عليه، والنقص عليه محال اتّفاقاً وعقلاً، كما يأتي بحثه إن شاء الله في المقصد الآتي.

الثالث: إنّه لو لم يكن مختاراً للزم أحد الأمور الأربعة: إمّا نفي الحادث بالكلّية، أو عدم استناده إلى المؤثّر، أو التسلسل، أو تخلّف الأثر عن المؤثّر الموجب التام، وبطلان اللوازم دليل بطلان الملزوم. بيان الملازمة: أنّه إمّا أن لا يوجد حادث أو يوجد، فإن لم يوجد فهو الأمر الأَوّل، وإن وجد فإمّا أن لا يستند إلى موجد أو يستند، فإن لم يستند فهو الثاني، وإن استند فإمّا أن لا

١٢٧

ينتهي إلى قديم أو ينتهي، فإن لم ينتهِ فهو الثالث أي التسلسل؛ وذلك لأنّه إذا استند إلى مؤثّر غير قديم ولا منتهٍ إليه، فلابدّ هناك من مؤثّرات حادثة غير متناهية مع كونها مترتّبةً مجتمعة، وهو تسلسل محال اتّفاقاً؛ وإن انتهى فلابدّ قديم يوجب حادثاً بلا واسطة من الحوادث؛ دفعاً للتسلسل فيها، سواء كانت مجتمعةً أو متعاقبة، فيلزم الرابع.

الرابع: إنّه تعالى لو لم يكن مختاراً لاستحال تغيّر الموجودات، وتبدّل الكائنات بالمرة، فإنّه يتبع تغيّر العلّة وتبدّلها، وهو في حقّ الواجب مستحيل، فثبت أنّه مختار.

الخامس: إنّه لو كان موجِباً لوجب تحقّق جميع الموجودات الممكنة، في درجة واحدة، بلا تقدّم وتأخر بينها، فإنّها متساوية النسبة إلى العلّة، أعني بها ذاته المقدسة، والتخصيص الواقع يكون ترجيحاً بلا مرجّح، بل ترجّحاً من دون مرجّح.

السادس: الآيات القرآنية الدالة على ذلك، مثل قوله تعالى: ( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) (1) ، وقوله: ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (2) ، وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) (3) ، وقوله: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) (4) وأمثالها من الآيات الصريحة في المدعى.

السابع: الأخبار المتواترة عن النبي الأعظم وآله الكرام (صلى الله عليه وعليهم أجمعين)، مثل ما ورد في أنّه يمحو ويثبت، ويقدّم ويؤخّر وله البداء، ونحو ذلك.

الثامن: الضرورة الدينية على اختياره، بل تقدّم عن العلاّمة الحلي قدّس سره أنّه الفارق بين الإسلام والفلسفة، بل ادّعى الجرجاني والقوشجي والأصبهاني اتّفاق المليّين قاطبةً على ذلك كما مرّ.

هذا ما وقفنا عليه في كتبهم من الأدلّة على اختياره تعالى.

أقول: أمّا الوجه الأَوّل، فهو موقوف على ثبوت أمرين، الأَوّل: حدوث العالم كما هو ظاهر، الثاني: إمكان أزلية الممكن؛ إذ لو استحال وجود الممكن في الأزل، وتحتّم مسبوقية الممكن بالعدم، لَما كشف حدوث العالم عن الاختيار.

وبالجملة: حدوث العالم بمجرّده، وإن كان يبطل قول الفلاسفة بقِدمه، إلاّ أنّه لا ينفع المتكلّمين ما لم يحرز إمكان أزليته، حتى يكون عدم تحقّقه مستنداً إلى إرادة الفاعل دون المانع

____________________

(1) إبراهيم 14 / 19.

(2) النحل 16 / 40.

(3) الحج 22 / 14.

(4) الرعد 13 / 39.

١٢٨

في نفس المفعول، وستعرف إن شاء الله في محلّه امتناع أزليته، فهذا الدليل - بما له من الاشتهار - غير تام، وأنّ الحدوث لا يثبت الاختيار، كما أنّ الاختيار أيضاً لا يدلّ على الحدوث، خلافاً لِما توهّمه الرازي في محكي شرح الإشارات، فإنّا قد ذكرنا إمكان مقارنة فعله معه من حيث هو مختار.

وأمّا الوجه الثاني، فأجاب عنه الفلاسفة بمنع عقد الوضع، وأنّ صدور الفعل مع العلم والإرادة ليس بإيجاب، وإن لم يكن هناك التمكّن من تركه، بل ذكروا أنّه كمال الاختيار وأفضل أنحاء الصنع، بل لا اختيار إلاّ لمَن يفعل لذاته بذاته، وأمّا مَن يفعل لداعٍ زائد فهو مضطرّ في صورة الاختيار، فالواجب - عزّ مجده - موجب بكسر الجيم لا بفتحه.

أقول: إنكار الإيجاب مع نفي التمكّن تناقض بحت وتهافت واضح، ومهما قالوا في توجيهه وتصحيحه، فلا يخلو هو من جهالة أو تجاهل أو إغفال، ولا يكون الواجب على مذهبهم، إلاّ موجَباً بفتح الجيم لا بكسره، وتحريف الكلم عن مواضعه غير نافع، فالصحيح أن يمنع عقد الحمل، وأنّ الإيجاب المذكور ليس بنقص، بل هو ممّا أثبته الأدلة العقلية المتقدّمة.

وأمّا الوجه الثالث، فإتمام شقّه الرابع موقوف على حدوث العالم بشراشره، وإلاّ أمكن ردّه بوجود ممكن قديم مختار يؤثّر في الحوادث، وهو معلول الواجب الموجب، أو الالتزام بوجود حوادث غير متناهية على ما ذكره أرباب الفلسفة.

وبالجملة: هذا الوجه راجع إلى الوجه الأَوّل ولا مزية له غير الزيادة في العبارة.

وأمّا الوجه الرابع والخامس، فصحّتهما موقوفة على بطلان ما ذكره الفلاسفة، في ارتباط الحادث بالقديم؛ إذ لو صحّ ما ذكروه لا يبقى مجال لهما، على أنّ القابل في نفسه أيضاً قاصر عن التحقّق في مرتبة واحدة.

وأمّا الوجه السادس، فيمكن أن يجاب عنه بأنّ مفاد الآيات المذكورة وقوع الفعل عند إرادته، وهذا ممّا لا خلاف فيه لأحد، وإنّما الكلام في تحديد إرادته وأنّها واجبة أو لا، وهل للواجب قبل وجود الفعل تمكّن من تركه أو لا؟ لكن الإنصاف أنّ القرآن - بظواهره لا بنصوصه - يدلّ على اختياره تعالى، فإنّ مَن أُلقي عليهم خطابات القرآن - وهم عامّة الناس - لا يفهمون من بعض الآيات المذكورة وأمثاله إلاّ التمكّن المذكور، لكن لا حجّية للظهور في قبال الأدلة العقلية، فهذا الوجه موقوف على عدم تمامية شيء من دلائل الفلاسفة.

وأمّا الثامن فالإنصاف أنّه غير بعيد، فإنّ اختياره تعالى - بنحو يدعيه المتكلّمون - ممّا ارتكز في أذهان المسلمين، رجالهم ونسائهم، جاهلهم وعالمهم، صغيرهم وكبيرهم، وهذا الارتكاز لا يكون مستنداً إلاّ إلى الدين وطريقة الشارع، فالثابت من الدين هو ذلك، وقد عرفت

١٢٩

أنّ ما قيل في امتناعه وبطلانه كان مزيّفاً ضعيفاً، فإذن يتعيّن تعييناً تعبّدياً لا عقلياً التديّن والاعتقاد بهذا المسلك؛ لِما مرّ في فوائد المدخل من إقرار العقل بتصديق قول المعصوم.

خلاصة المقال في تنقيح المقام

قد استبان ممّا ذُكر أنّ النظرية الفلسفة المذكورة لا تتمّ إلاّ بأُمور:

1 - كون إرادته عين ذاته، وإلاّ كان الفعل بالنظر إلى ذاته المقدّسة ممكن الصدور واللاصدور.

2 - كون الغرض من فعله نفس ذاته، وإلاّ لكان وجوب الفعل بلحاظ ذلك الغرض دون ذاته.

3 - قِدم العالم إذا أمكن أزلية الممكن.

فإذا لم يثبت واحد من هذه الأُمور فقد انهدم بناؤهم من أساسه، ولكن لا يلزم منه صحّة قول المتكلّمين، كما يظهر من مراجعة ما سبق، نعم إذا ثبت حدوث العالم وأزلية الممكن، ثبت اختياره تعالى؛ إذ عدمه في الأزل مستند حينئذٍ إلى إرادته تعالى، فيكون الواجب متمكّناً من الفعل والترك، فتأمل.

فمجرّد بطلان قول الفلاسفة لا يكشف عن صحّة قول المتكلّمين، فإنّها موقوفة على إمكان صدور الفعل وعدمه بالنسبة إلى ذاته تعالى، وإلى داعيه، وعدم كون الإرادة واجبة، نعم الوجوب الناشئ من الإرادة - المسمّى بالوجوب السابق - لا ينافي الاختيار، فإذن اختياره تعالى وإن كان ثابتاً من جهة الشرع كما مرّ، إلاّ أنّه غير ثابت من جهة العقل؛ لِما عرفت من عدم تمامية أدلّة أرباب الكلام.

هذا، والذي يدلّ على حقية مذهبهم هو قاعدة الملازمة المتقدّمة، فإنّ القدرة الواجبة - التي تستلزم التمكّن وصحّة الصدور واللاصدور - ممكنة الثبوت للواجب؛ لِما عرفت من بطلان دلائل الفلاسفة، فهي إذن ثابتة له، فهو قادر مختار أي له أن يفعل وله أن لا يفعل.

ويمكن أن يستدلّ أيضاً، بأنّ الاختيار بهذا المعنى كمال للقادر بلا شك، وأنّ ما يزعمه أهل الفلسفة نقص له، وحيث إنّه جامع لجميع الكمالات، بل لا كمال إلاّ وهو معطيه ولا سبيل للنقص إليه، فهو مختار بالمعنى الذي أثبته الكلاميون لا غير، والله الهادي.

تنبيه

اختياره بهذا المعنى وإن ادّعاه المتكلّمين بأجمعهم، بل مرّ أنّه ضروري من دين الإسلام، لكنّه لم يتديّن به - حقّ التديّن - إلاّ الطائفة الإمامية، الذين أخذوا أُصولهم وفروعهم من آل محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين)، فإنّ الاعتزاليين قالوا بالثابتات الأزلية، والأشعريين بالقدماء

١٣٠

الثمانية، ولا شك أنّ الواجب بالنسبة إليها موجَب، كما صرّح به أنفسهم، فتأمل.

فأعظم الله جزاء الإمام الصادق من أئمة أهل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث أدّب أتباعه على سلوك صراط الحق ونهج الصدق.

الناحية الثالثة: في عموم قدرته

المدّعى: أنّ الواجب الوجود قادر على كلّ ممكن (1) تحقّق في الخارج أم لا، والدليل على ذلك وجوه:

1 - إنّ الممكن - كما علمت ممّا مضى - لا يقتضي الوجود ولا العدم ولو بنحو الأولوية، بل هما متساويان إليه، يوجد لوجود المرجّح ويعدم بعدم المرجّح، فإذن هو محتاج إلى غيره في الوجود والعدم، هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى، أنّ الممكن لا يعقل أن يبقى على حالة الاستواء في الخارج؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين، وإنّما هي بلحاظ نفسه، وعليه فكل ممكن إمّا موجود وإمّا معدوم، وقد قرّرنا أنّ كل موجود محتاج إلى وجود المرجّح، وكلّ معدوم مفتقر إلى عدمه، وليس هذا المرجّح إلاّ إرادة الواجب عزّ اسمه؛ لانتهاء سلسلة الموجودات إليها، فيستنتج من هذه المسائل، أنّ الممكنات بأسرها محتاجة إلى الله تعالى أزلاً وأبداً، وأنّ الله هو المفيض القابض، وحيث تقدّم أنّ فاعليته تعالى بنحو الاختيار والتمكّن دون الجبر والإيجاب، فقد اتّضح أنّه قادر على كلّ ممكن، وكلّ ممكن مقدور له، وهذا دليل إنّي متين قوي على المطلوب.

2 - إنّ القدرة ثابتة له في الجملة على ما مرّ، وبما أنّها عين ذاته المقدّسة، فهي غير محدودة، فإنّ التناهي من خصائص الإمكان ونواقض الوجوب، كما يأتي في المقصد الثالث إن شاء الله، وعليه فقد ثبت عدم تناهي قوته وقدرته، وهذا هو معنى عمومها وتعلّقها بكل ممكن، فتدبّر.

3 - القدرة العميمة ممكنة الثبوت له تعالى، وما أمكن في حقّه وجب كما سلف.

4 - العجز - ولو في بعض الموارد - نقص، وهو ممتنع عليه. ذكره بعضهم.

5 - لو لم يكن قادراً على الإطلاق لكان محتاجاً - ولو في مورد - إلى غيره، فهو إن كان ممكناً لزم الدور، فإنّ الممكن في حدوثه وبقائه، وفي وجوده وأفعاله، محتاج إلى الواجب، وإن

____________________

(1) قال مَن في قلبه مرض في مختصر تحفة الاثني عشر / 81: إنّ الله قادر على كل شيء، خالف الشيخ أبو جعفر الطوسي والشريف المرتضى وجمع كثير من الإمامية في ذلك، فإنّهم قالوا: إنّ الله لا يقدر على عين مقدور العبد.

أقول: النسبة كاذبة، كما تعرف من مراجعة الصفحة الآتية، في الوجه التاسع، وقد ذكرنا في المطلب الثالث من عنوان تنوير عقلي:: 36 مراد العلَمينِ: الشيخ الطوسي والسيد المرتضى قدّس سرهما.

١٣١

كان واجباً فأدلة التوحيد تنفيه.

أقول: هذا الوجه ينفي المحتاج إليه دون الحاجة، ولا ملازمة بينهما قطعاً.

6 - إنّ علم الواجب فعلي، فإنّه عين ذاته، التي هي عين حيثية العلّية لكلّ شيء، وعلمه تعلّق بكلّ شيء، فقدرته تعلّقت بكلّ شيء. ذكره السبزواري في شرح المنظومة، وكذا الوجه الآتي.

وفيه: ما يأتي من أنّ إرادته زائدة على ذاته.

ويرد أيضاً على قوله: (وعلمه تعلّق بكل شيء) أنّه مصادرة محضة، فإنّ تعلّق علمه الفعلي، الذي هو إرادته بشيء فرع مقدوريته، وكون الواجب قادراً عليه وهو أَوّل الكلام، وإن شئت فقل: إنّه مستلزم للدور؛ بداهة توقّف الإرادة على شمول القدرة، فلو عُكس لدار، فافهم.

7 - إنّ الإيجاد فرع الوجود، وإذ لا وجود حقيقي للممكنات في ذواتها؛ إذ الممكن من ذاته أن يكون ليس، وله من علّته أن يكون أَيس، فلا إيجاد حقيقي لها، فإذن كما لا وجود إلاّ وهو ترشّح من لديه، كذلك لا حول ولا قوة إلاّ بالله العظيم.

أقول: هذا بيان متين، لكن مع أنّه أخص من المدّعى - حيث لا يجري في الممكن غير الموجود - راجع إلى الوجه الأَوّل.

8 - ما قيل إنّه المشهور، من أنّ المقتضي للقدرة هو الذات لوجوب استناد صفاته إلى ذاته، والمصحّح للمقدورية هو الإمكان؛ لأنّ الوجوب والامتناع يحيلان المقدورية، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السوية، وإذا ثبت قدرته على بعضها تثبت على كلها.

ويُزيّف بأنّ مجرّد كون الإمكان مصحّحاً لا علّة موجبة، غير كافٍ لإثبات المقدورية؛ لاحتمال توقّفها على شرط مفقود، وإن أُريد من المصحّح العلية، فيفسده أنّ الإمكان علّة للاحتياج دون المقدورية، وإلاّ كانت العلل الموجبة مؤثّرات بالاختيار.

9 - الضرورة المذهبية والإجماع والكتاب والسنّة بأجمعها تدل على ذلك، ذكره بعض المتكلّمين من أصحابنا.

أقول: الاستدلال بالنقل لا محذور فيه في المقام كما يظهر بالتدبّر، غير أنّ الإجماع التعبّدي غير متحقّق قطعاً، كما يظهر وجهه ممّا سبق، وأمّا الكتاب فيحتمل أن قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1) ونحوه ناظر إلى كلّ شيء موجود، فيكون أخص من المدّعى، نعم قوله تعالى: ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ

____________________

(1) فاطر 35 / 1.

١٣٢

الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1) يمكن أن يكون شاملاً للمقام، لكنّه ظهور غير قطعي. وأمّا الضرورة فهي غير بعيدة، فتأمل.

مطالب مهمّة

المطلب الأَوّل:

قد نسبوا الخلاف في هذه المسألة إلى طوائف من الناس، وأنّهم ينكرون عموم قدرة الله تعالى على كل ممكن.

أقول: الظاهر أنّه لا مخالف في المقام أصلاً، وأنّ الكلّ متّفقون على الكلّية المذكورة، وإنّما نزاعهم في امتناع بعض الأشياء وعدمه، فالبحث صغروي، وبعبارة واضحة: أنّ قدرته تعالى لا تتعلّق بالواجب والممتنع، فإنّ ضرورة الوجود أو العدم يبطل تعلّق القدرة، التي هي ما تلزمه صحة الصدور واللاصدور، فمتعلّقها هو الممكن لا غير، فيقال: هذا ممكن، وكل ممكن مقدور لله تعالى، والكبرى كما أنّها قطيعة عقلاً وفاقية قولاً، والصغرى مختلف فيها، وهذا الخلاف ليس بعزيز، بل هو منتشر في كثير من المسائل العلمية، إذا تقرّر ذلك فإليك بيان تلك الموارد، التي وقع الخلاف في إمكانها وامتناعها:

المورد الأَوّل: عدم صدور الكثير من الواحد الحقيقي، فلا يمكن أن يصدر عن الواجب البسيط أكثر من شيء واحد بلا توسّط أمر آخر، ادّعاه الحكماء وأصرّوا عليه، وأنكره أرباب الكلام وشدّدوا عليهم النكير، وإليك بيان هذه القاعدة المشهورة بـ (الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد) من كتاب الأسفار: قال مؤلّفها (2) :

البسيط إذا كان ذاته بحسب الحقيقة البسيطة علّةً لشيء، كانت ذاته محض علّة ذلك الشيء، بحيث لا يمكن للعقل تحليلها إلى ذات وعلّة؛ لتكون علّيتها لا بنفسها من حيث هي، بل بصفة زائدة، أو شرط، أو غاية، أو وقت، أو غير ذلك، فلا يكون مبدأ بسيطاً بل مركّباً، فالمراد من المبدأ البسيط، أنّ حقيقته التي بها يتجوهر ذاته هي بعينها كونه مبدأً لغيره، وليس ينقسم إلى شيئين يكون بأحدهما تجوهر ذاته، وبالآخر حصول شيء آخر عنه، كما أنّ لنا شيئين نتجوهر بأحدهما، وهو النطق ونكتب بالآخر هو صفة الكتابة، فإذا كان كذلك صدر عنه أكثر من واحد، ولا شك أنّ معنى مصدر كذا غير معنى مصدر غير كذا - فتقوّم ذاته من معنيين مختلفين، هو خلاف المفروض، فافهم هذا ودع عنك الإطنابات التي ليس فيها كثير فائدة، وإيّاك أن تفهم من لفظ

____________________

(1) يس 36 / 81.

(2) الأسفار 2 / 214.

١٣٣

الصدور وأمثاله الأمر الإضافي، الذي لا يتحقّق إلاّ بعد شيئين؛ لظهور أنّ الكلام ليس فيها، بل كون العلّة بحيث يصدر عنها المعلول، فإنّه لابدّ أن تكون للعلّة خصوصية، بحسبها يصدر عنها المعلول المعيّن دون غيره، وتلك الخصوصية هي المصدر في الحقيقة، وهي التي يعبّر عنها بالصدور، ومرّة بالمصدرية، وطوراً بكون العلّة بحيث يجب عنها المعلول؛ وذلك لضيق الكلام عمّا هو المرام، حتى أنّ الخصوصية أيضاً لا يراد بها المفهوم الإضافي، بل أمر مخصوص له ارتباط وتعلّق بالمعلول المخصوص، ولا شك في كونه موجوداً ومتقدّماً على المعلول المتقدّم على الإضافة العارضة لهما، وذلك قد يكون نفس العلّة إذا كانت العلّة علّةً لذاتها، وقد يكون زائداً عليها، فإذا فرض العلّة بما هي به علّةً بسيطاً حقيقياً، يكون معلوله أيضاً بسيطاً حقيقياً، وبعكس النقيض، كلّ ما كان معلوله فوق واحد ليس بعضها بتوسّط بعض، فهو منقسم الحقيقة إمّا في ماهية أو في وجود، انتهى كلامه.

وقال في موضع آخر ردّاً على الرازي: إنّ المصدرية بالمعنى المذكور نفس ماهية العلة البسيطة، والماهية من حيث هي ليست إلاّ هي، فإذا كان البسيط الحقيقي مصدراً لـ «1» مثلاً، ولِما ليس «1» مثلاً، كانت مصدريته لِما ليس «1» غير مصدريته لـ «1» التي هي نفس ذاته، فتكون ذاته غير ذاته وهذا هو التناقض.

قال تلميذه في شوارقه (1) : إنّ الفاعل المستقل إذا كان واحداً من جميع الجهات، بحيث لا يكون فيه كثرة الأجزاء، ولا كثرة الوجود والمهية، ولا يكون متّصفاً بصفة حقيقية زائدة في الخارج، أو اعتبارية زائدة في العقل، ولا يتوقّف فعله على شرط وآلة وقابل، فلا يمكن أن يصدر عنه في مرتبة واحدة إلاّ معلول واحد، سواء كان الفاعل موجباً أو مختاراً اختياره وإرادته نفس ذاته، والحكماء يسمّون مثل هذا المختار الفاعل بالرضاء، وأمّا إذا كان إرادته واختياره زائدةً على ذاته، وهو الذي يسمّونه الفاعل بالقصد فهو خارج عمّا نحن فيه؛ لأنّ فيه اثنينية بالفعل، سواء تعدّد إرادته أو تعلّقها أو لا، فلا يكون واحداً من جميع الجهات.

أقول: لو سلّمنا هذه القاعدة، وفرضنا صحّة دليلها كما هو الصحيح، لم يصحّ إجراؤها في المقام؛ لأنّ فاعليته تعالى - كما سيأتي في محلّه - بالعلل الغائية الزائدة على ذاته، وإن شئت فقل: الممكن لابدّ من مسبوقية وجوده بعدمه، ولا ربط ولا سنخية بين الوجود البحت والعدم المحض، وإنّما يوجِد الواجب ما يوجده بلا ربط واقتضاء ذاتي، بل من أجل المصالح والغايات، فحينئذٍ الواجب الوجود عزّ اسمه غير مشمول لهذه القاعدة باعتراف الفلاسفة، فتدبّر جيداً.

هذا، وقد مرّ أنّ الفلاسفة لم يقدروا على إثبات أنّ ماهيته إنيّته، فمن هذه الجهة أيضاً لا

____________________

(1) الشوارق 1 / 191.

١٣٤

يمكن إجراء القاعدة على الواجب، هذا كله بناءً على مسلك العدلية أو معظمهم، وأمّا بناءً على مسلك الأشاعرة القائلة بزيادة الصفات فالأمر أوضح، لكن الالتزام بمقالة الحكماء أسهل وأهون من الميل إلى هذه النظرية الرديئة الباطلة، بمراتب بالقياس إلى النواميس العقلية.

وأمّا ما قيل، من أنّ في القرآن ألف آية أو قريب منه تدل على بطلان المقالة المزبورة، فهو ممنوع، فتدبّر جيداً.

المورد الثاني: القبائح فإنّها غير مقدورة لله تعالى؛ إذ إتيانها مع العلم بقبحها سفه، وبدونه جهل، وكلاهما محال على الله سبحانه، نسبوه إلى النظام وأتباعه.

أقول: وكان هذا المسكين لم يعلم أنّ مفاد هذا البيان أنّها لا تصدر عنه لحكمته، لا أنّها غير مقدورة، فالقبيح مقدور له تعالى، فيمكنه إدخال الأنبياء في النار مثلاً، لكنّه لا يفعل لمخالفته لحكمته البالغة.

وأمّا ما أجاب به الأشعريون من أنّه لا قبح بالنسبة إليه، فله التصرّف في ملكه كيف يشاء، فهو في سخافته كأصل الشبهة، كما ستعرفه في محله إن شاء الله.

المورد الثالث: الإتيان بمثل أفعالنا فإنّها إمّا طاعة أو معصية أو سفه، والكل محال.

أقول: إذ لا آمر له تعالى ليصدق الطاعة والمعصية في حقّه، وهو عالم فلا يتصوّر السفاهة فيه، نقل هذا عن البلخي ومَن تبعه، وفيه: أنّ المحال هو صدق هذه العناوين أي الطاعة والمعصية لا نفس الأفعال، نعم لابدّ من اشتمالها على مصلحة، ولكن المصلحة لا تستلزم عنوان الطاعة بلا إشكال، وإنّما هو في أفعالنا بلحاظها إلى أمر الله تعالى، نعم لا يمكن له أن يفعل مثل جملة من أفعالنا المحتاجة إلى الجسم كالتكلّم، والتفكّر، والتحرّك، والركوع، والسجود ونحوها، وذلك واضح ولعلّهم أيضاً أرادوا ذلك.

المورد الرابع: الإتيان بعين مقدورنا ومفعولنا، بعين دليل التمانع المذكور في مبحث التوحيد. نسب ذلك الجبائيينِ وأتباعهما. ويزيّف بأنّ التأثير في فرض مزاحمة قدرة العبد وربّه، مستند إلى إرادة الله تعالى فإنّها أقوى، وهذا واضح بل مشاهد في تزاحم إرادتي الممكنينِ، فإذا حرّك أحد جسماً إلى جانب، والآخر حرّكه إلى جانب آخر، يكون الترجيح مع الأقوى، نعم هاهنا شيء آخر وهو أنّ الله تعالى لا يمكنه الإتيان بعين أفعالنا، وإلاّ لم تكن الأفعال أفعالنا بل هي أفعاله، وهذا مثل عدم قدرته على إيجاد ابن زيد من غير زيد، أو إيجاد العرض بغير معروضه، وهكذا، فمعنى أنّه قادر على جميع الأشياء، أنّه قادر عليها إمّا بلا واسطة أو بواسطة، وهذا بيّن جداً.

المورد الخامس: ما علم الله عدم وقوعه لاستحالة وقوعه، وكذا ما علم أنّه يقع لوجوبه.

١٣٥