زبدة التفاسير الجزء ١
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-03-7
الصفحات: 639
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-03-7
الصفحات: 639
أي: مع الدهن، وكذلك قول الداعي للمعرس: بالرفاء والبنين، معناه: أعرست ملتبسا بالرفاء والبنين.
وإنّما قدّر المحذوف متأخّرا لأنّهم يبتدؤن بالأهمّ عندهم، ويدلّ على ذلك قوله:( بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ) (١) ، وقوله:( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) فإنّه أهمّ وأدلّ على الاختصاص، وأدخل في التعظيم، وأوفق للوجود، لأنّ وجوده تعالى مقدّم على كلّ ما سواه، فينبغي أن يكون اسمه في اللفظ كذلك. وهذا وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرّك باسمه، ويحمد على نعمه، ويسأل من فضله.
وإنّما كسرت الباء ومن حقّ الحروف المفردة أن تفتح كـ «واو» العطف لاختصاصها بلزوم الحرفيّة والجرّ، بخلاف الكاف والواو واللام(٢) ، فكسرت لمشابهتها بلام الأمر ولام الجرّ داخلة على المظهر في لزوم الحرفيّة، وإن كانت الفتحة أولى بهما، ليتميّز لام الأمر عن لام التأكيد، فإنّهما يدخلان المضارع، ولام التأكيد مفتوح على أصله. ولام الجرّ يدخل المظهر والمضمر، فإذا دخل على المظهر يكون مكسورا ليتميّز عن لام الابتداء، فإنّهما يدخلان المظهر، ومفتوحا إذا دخل على المضمر، لأنّ لام الجرّ يدخل على المضمر إذا كان متّصلا، ولام الابتداء يدخل على المضمر إذا كان منفصلا، فيتحصّل التمييز بين لام الجرّ ولام الابتداء في المضمر بنفس المضمر، ولا يحتاج إلى الكسر.
وإنّما قيل: بسم الله، ولم يقل: بالله، لأنّ التبرّك والتيمّن والاستعانة بذكر اسمه، أو للفرق بين اليمين والتيمّن.
وأصل الاسم «سمو» عند البصريّين، فهو من الأسماء الّتي حذفت أعجازها
__________________
(١) هود: ٤١.
(٢) أي: لام الابتداء.
لكثرة الاستعمال، وبنيت أوائلها على السكون، وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل، لأنّ من دأبهم أن يبتدؤا بالمتحرّك ويقفوا على الساكن. ويشهد له تصريفه على: أسماء، وأسامي، وسمّى، وسمّيت. ومجيء «سمى» كـ «هدى» لغة فيه. والقلب بعيد غير مطّرد. واشتقاقه من «السموّ» لأنّه رفعة للمسمّى وشعار له. ومن «السّمة» عند الكوفيّين. وأصله: وسم، حذفت الواو وعوّضت عنها همزة الوصل ليقلّ إعلاله. وردّ: بأنّ الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم. وفي لغاته: سم وسم.
والاسم غير المسمّى، لأنّه يتألّف من أصوات متقطّعة غير قارّة، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار كالعربيّ القديم والجديد، ويتعدّد تارة كالألفاظ المترادفة، ويتّحد أخرى كالأسماء المشتركة، والمسمّى لا يكون كذلك.
ولم يكتب الألف على ما هو وضع الخطّ لكثرة الاستعمال. وطوّلت الباء عوضا عنها. وعن عمر بن عبد العزيز أنّه قال لكاتبه: طوّل الباء، وأظهر السينات، ودوّر الميم.
و «الله» أصله إله، فحذفت الهمزة وعوّض عنها حرف التعريف، ولذا قيل في النداء: يا الله بقطع الهمزة، كما يقال: يا إله، إلّا أنّه مختصّ بالمعبود بالحقّ، فإنّ الإله في أصله لكلّ معبود ثمّ غلب على المعبود بحقّ. ومعناه: أنّه الّذي يحقّ له العبادة لا غير.
واشتقاقه من أله إلاهة والوهة والوهيّة، بمعنى عبد، ومنه: تألّه، أي: صار إلها، واستأله أي: استعبد.
وقيل: من أله إذا تحيّر، إذ العقول تتحيّر في معرفته. وأصله: ولاه، فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسر عليها. أو من: ألهت إلى فلان، أي: سكنت إليه، لأنّ القلوب تطمئنّ بذكره، والأرواح تسكن إلى معرفته. أو من: أله، إذا فرغ من أمر نزل
عليه. وآلهه غيره: أجاره، إذ العائذ يفزع إليه وهو يجيره. أو من: أله الفصيل، إذا أولع بامّه، إذ العباد مولعون بالتضرّع إليه في الشدائد.
وقيل: أصله: لاه، مصدر: لاه يليه ليها ولاها، إذا احتجب وارتفع، لأنّه تعالى محجوب عن إدراك البصر، ومرتفع على كلّ شيء وعمّا لا يليق.
وقيل: إله كـ: إعاء وإشاح، فإنّ أصلهما وعاء ووشاح. ويردّه الجمع على آلهة دون أولهة.
وقيل: هو اسم غير صفة، لأنّك تصفه فتقول: إله واحد، ولا تصف به فلا تقول: شيء إله. والأظهر أنّه وصف في أصله، لكنّه لـمّا غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار كالعلم ـ مثل الثريّا والصعق ـ اجري مجراه في إجراء الوصف عليه، وامتناع الوصف به.
وقيل: أصله «لولاها» بالسريانيّة، فعرّب بحذف الألف الأخيرة وإدخال اللام عليه، وفخّم لامه إذا انفتح أو انضمّ ما قبله. وحذف ألفه لحن.
و «الرحمن» فعلان من: رحم، كغضبان من: غضب. والرحيم فعيل منه كعظيم. وفي الرحمن تأكيد من المبالغة ما ليس في الرحيم، ولذلك قيل: الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين خاصّة.
ورووا عن الصادقعليهالسلام أنّه قال: الرحمن اسم خاصّ بصفة عامّة، والرحيم اسم عامّ بصفة خاصّة.
وما روي عن عكرمة أنّه قال: الرحمن برحمة واحدة، والرحيم بمائة رحمة، فهو مقتبس من قول الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّ للهعزوجل مائة رحمة، وأنّه أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسّمها بين خلقه، بها يتعاطفون ويتراحمون، وأخّر تسعا وتسعين لنفسه، يرحم بها عباده يوم القيامة.
وروي أنّ الله قابض هذه إلى تلك فيكملها مائة يرحم بها عباده يوم القيامة.
ولا يخفى أنّ الرحمن أبلغ من الرحيم، لأنّ زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى، كما في: قطع وقطّع، وكبار وكبّار. وزيادة المعنى في الرحمن بالنسبة إلى معنى الرحيم تارة باعتبار الكمّيّة، واخرى باعتبار الكيفيّة. فعلى الأوّل قيل: يا رحمن الدنيا، لأنّه يعمّ المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة، لأنّه يخصّ المؤمن. وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، لأنّ النعم الاخرويّة كلّها جسام، وأمّا النعم الدنيويّة فجليلة وحقيرة.
وتقديم الرحمن على الرحيم، والقياس يقتضي الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، إمّا لاختصاص إطلاقه عليه سبحانه كاختصاص لفظة «الله» به، لقوله تعالى:( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ) (١) فصار كالعلم من حيث إنّه لا يوصف به غيره، لأنّ معناه: المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غيره، لأنّ ما عداه مستفيض بلطفه وإنعامه، ولأنّ الرحمن دلّ على جلائل النعم وأصولها، وذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمّة والرديف له. وإمّا لتقدّم رحمة الدنيا.
والرحمة في اللغة: رقّة القلب، وانعطاف يقتضي التفضّل والإحسان، ومنه: الرحم، لانعطافها على ما فيها، وأسماء الله تعالى إنما يؤخذ باعتبار الغايات الّتي هي أفعال دون المبادئ الّتي تكون انفعالات.
روي عن علي بن موسى الرضاعليهالسلام أنّه قال: إنّ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) أقرب إلى اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها.
وروي عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال: إذا قال المعلّم للصبيّ: قل: بسم الله الرحمن الرحيم، كتب الله براءة للصبيّ، وبراءة لأبويه، وبراءة للمعلّم.
وعن ابن مسعود: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ :
__________________
(١) الإسراء: ١١٠.
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، فإنّها تسعة عشر حرفا، ليجعل الله كلّ حرف جنّة من واحد منهم.
واعلم أنّ تخصيص تسميته سبحانه بهذه الأسماء دون سائر صفاته الاخرى ليعلم أنّ المستحقّ لأن يستعان به في مجامع الأمور هو المعبود الحقيقي الّذي هو مولى النعم كلّها؛ عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها، فيتوجّه بالتوجّه التامّ إلى جناب القدس، ويتمسّك بحبل التوفيق، ويشغل سرّه بذكره، والاستمداد به عن غيره، ويتشوّق بأن يحمد المنعم الحقيقي الّذي أعطى جميع نعم العاجلة والآجلة، ويقول :
( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري من نعمة وغيرها. والتعريف فيه للجنس، ومعناه الاشارة إلى ما يعرفه كلّ أحد من أنّ الحمد ما هو. وقيل: للاستغراق، إذ الحمد في الحقيقة كلّه له، إذ ما من خير إلّا هو موليه بوسط أو بغير وسط. وفيه إشعار بأنّه تعالى قادر حيّ مريد عالم، إذ الحمد لا يستحقّه إلّا من كان هذا شأنه.
والمدح هو الثناء على الجميل مطلقا، تقول: حمدت زيدا على علمه وكرمه، ولا تقول: حمدته على حسنه، بل مدحته. وقيل: هما أخوان.
وأمّا الشكر فعلى النعمة خاصّة، قولا وعملا واعتقادا. فالحمد باعتبار المورد أخصّ من الشكر، وباعتبار المتعلّق أعمّ.
ولمّا كان الحمد أشيع للنعمة وأدلّ عليها، لخفاء الاعتقاد، جعل رأس الشكر والعمدة فيه، كما قالصلىاللهعليهوآلهوسلم : الحمد رأس الشكر. فالمعنى في كونه رأس الشكر: أنّ الذكر باللسان أجلى وأوضح وأدلّ على مكان النعمة، وأشيع للثناء على موليها من الاعتقاد وعمل الجوارح. ونقيض الحمد الذمّ، ونقيض الشكر الكفران.
وإنّما عدل بـ( الْحَمْدُ ) عن النصب الّذي هو الأصل في كلامهم، على أنّه من
المصادر الّتي تنصب بأفعال مضمرة، كقولهم: شكرا وعجبا ونحو ذلك، إلى الرفع على الابتداء، للدلالة على ثبات المعنى واستقراره واستمراره، دون تجدّده. وحدوثه في نحو قولك: أحمد الله حمدا، ومنه قوله تعالى:( قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ ) (١) رفع السلام الثاني للدلالة على أنّ إبراهيمعليهالسلام حيّاهم بتحيّة أحسن من تحيّتهم، لأنّ الرفع دالّ على ثبات معنى السلام دون تجدّده. فمعنى( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) : الثناء الحسن الجميل، والمدح الكامل الجزيل، للمعبود المنعم لجلائل النعم.
( رَبِّ الْعالَمِينَ ) المربّي والمالك والمنشئ للخلائق والأمم. وهو في الأصل بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، ثمّ وصف به للمبالغة كالصوم والعدل. وقيل: هو نعت من: ربّه يربّه فهو ربّ. ولم يطلق الربّ إلّا في الله وحده، ويقيّد في غيره فيقال: ربّ الدار، وربّ الضيعة، وكقوله تعالى:( ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ ) (٢) .
والعالم اسم لـما يعلم به، كالخاتم والقالب، غلب فيما يعلم به الصانع، وهو كلّ ما سواه من الأجسام والجواهر والأعراض، فإنّها ـ لإمكانها وافتقارها إلى مؤثّر واجب الوجود لذاته ـ تدلّ على وجوده. وإنّما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة. وغلّب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون، وإن كان اسما غير صفة، لدلالته على معنى العلم، فهو بمنزلة سائر أوصافهم.
وقيل: اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع.
وقيل: عنى به الناس هاهنا، فإنّ كلّ واحد منهم عالم، من حيث إنّه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض، يعلم به الصانع كما يعلم بما
__________________
(١) هود: ٦٩.
(٢) يوسف: ٥٠.
أبدعه في العالم، ولذلك سوّى بين النظر فيهما وقال:( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (١) . وفيه دليل على أنّ الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها.
ووجه إيثار هذه الصفة بين صفات الله تعالى بعد الحمد: أنّ العارف لـمّا رأى نعم الله تعالى على غيره واضحة، كما شاهد آثارها على نفسه لائحة، عرف أنّه ربّ الخلائق أجمعين، فينبغي أن يقول بعد ذلك: ربّ العالمين، ولـمّا رأى شمول فضله للمربوبين، وعموم رزقه للمرزوقين، فبالحريّ أن يقول بعده:( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) . وقد مضى تفسيرهما.
قال الرمّاني(٢) : إنّه سبحانه ذكر في البسملة العبوديّة فوصل ذلك للتنبيه بذكر النعم الّتي يستحقّ بها العبادة، وهاهنا ذكر الحمد فوصله بذكر ما يستحقّ الحمد من النعم، فليس فيه تكرار.
واعلم أنّ العارف إذا رأى بعض العباد حامدا شكورا، وبعضهم كنودا كفورا، علم أن وراءهم يوما يثاب فيه الشكور ويعاقب فيه الكفور، فلزمه أن يقول بعد هذه الأوصاف الجميلة والنعوت الجليلة:( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) . قرأه عاصم والكسائي ويعقوب، ويعضده قولهعزوجل :( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ) (٣) . وقرأ الباقون:( ملك )، لقوله تعالى:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) (٤) ، ولقوله:( مَلِكِ النَّاسِ ) (٥) ، ولما فيه من التعظيم.
__________________
(١) الذاريات: ٢١.
(٢) حكاه عنه الطبرسي في مجمع البيان ١: ٢٣.
(٣) الانفطار: ١٩.
(٤) غافر: ١٦.
(٥) الناس: ٢.
والمالك هو المتصرّف في الأعيان المملوكة كيف شاء، واشتقاقه من الملك. والملك هو المتصرّف بالأمر والنهي مشتقّ من الملك. ويوم الدين يوم الجزاء، ومنه: كما تدين تدان.
وأضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتّساع، كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار، تقديره: يا سارق متاع أهل الدار في الليل. ومعناه: مالك الأمور يوم الدين، على طريقة جعل المتوقّع الّذي لا بدّ من وقوعه بمنزلة الواقع، ومثل ذلك قوله تعالى:( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ ) (١) . أو: له الملك في هذا اليوم، على وجه الاستمرار. وعلى التقديرين تكون الإضافة حقيقيّة معدّة لوقوعه صفة للمعرفة، وإنّما تكون غير حقيقيّة إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال، فكان في تقدير الانفصال، كقولك: زيد مالك الساعة أو غدا، ولـمّا كان هاهنا بمعنى الماضي أو الاستمرار فكانت إضافة حقيقيّة تصلح أن تكون وصفا للمعرفة.
وقيل: الدين: الشريعة. وقيل: الطاعة. والمعنى: يوم جزاء الدين. وتخصيص اليوم بالإضافة إمّا لتعظيمه، أو لتفرّده تعالى بنفوذ الأمر فيه.
وهذه الأوصاف ـ الّتي هي كونه سبحانه ربّا مالكا للعالمين، لا يخرج منهم شيء من ملكوتيّته وربوبيّته، وكونه منعما بالنعم المتواترة الباطنة والظاهرة، وكونه مالكا للأمر كلّه في الدار الآخرة، بعد الدلالة على اختصاص الحمد في قوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) ـ فيها دلالة باهرة على أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحقّ منه بالحمد والثناء، بل لا يستحقّه على الحقيقة سواه، فإن ترتّب الحكم على الوصف يشعر بعلّيته له. وإذا وصل العارف الطالب إلى هذا المقام علم أنّ له خالقا ورازقا رحيما، يحيي ويميت، ويبدئ ويعيد، وهو الحيّ الّذي لا يشبهه شيء، والإله الّذي
__________________
(١) الأعراف: ٤٤.
لا يستحقّ العبادة سواه.
ولـمّا صار الموصوف بهذا الوصف كالمدرك بالعيان، والمشاهد بالبرهان، فكأنّ المعلوم المميّز بتلك الصفات العظام صار عيانا، والمعقول مشاهدا، والغيبة حضورا، فقال: يا من هذا شأنه وهذه صفاته( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) أي: نخصّك بالعبادة في كلّ الحالات( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ونخصّك بطلب المعونة في جميع المهمّات. فتقديم المفعول إنّما هو لقصد الاختصاص، ولهذا قال ابن عبّاس: معناه: نعبدك ولا نعبد غيرك.
واعلم أنّ «إيّا» ضمير منفصل للمنصوب، والكاف والهاء والياء اللاحقة به في «إيّاك» و «إيّاه» و «إيّاي» لبيان الخطاب والغيبة والتكلّم، ولا محلّ لها من الإعراب، كالتّاء في «أنت» والكاف في «أرأيتك»، إذ هي حروف عند المحقّقين، وليست بأسماء مضمرة كما قاله بعضهم. ومن عادة العرب التفنّن في الكلام، والعدول من أسلوب إلى آخر تنشيطا للسامع، فإنّ لكلّ جديد لذّة، ويسمّى هذا التفاتا. وهو قد يكون من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب، ومن الغيبة إلى التكلّم، كقوله تعالى:( حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ ) (١) ، وقوله:( وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ ) (٢) . والفائدة المختصّة به في هذا الموضع قد ذكرت آنفا.
والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل، ومنه: طريق معبّد أي: مذلّل، ولهذا لا تحسن إلّا لله سبحانه الّذي هو مولى أعظم النعم.
وقدّمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي، وليعلم منه أنّ تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة.
والضمير المستكنّ في الفعلين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري
__________________
(١) يونس: ٢٢.
(٢) فاطر: ٩.
الجماعة، أو له ولسائر الموحّدين، فأدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم، وخلط حاجته بحاجتهم لعلّها تقبل ببركتها ويجاب إليها، ولهذا شرعت الجماعة. وكرّر الضمير للتنصيص على أنّه المستعان لا غير.
وأطلقت الاستعانة ليتناول كلّ مستعان فيه. والأحسن أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض، فيكون قوله :
( اهْدِنَا ) بيانا للمطلوب من المعونة، كأنّه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) . وعلى الأوّل يكون هذا إفرادا لـما هو المقصود الأعظم.
والهداية دلالة بلطف، ولذلك يستعمل في الخير، وقوله تعالى:( فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ) (١) على التهكّم والاستهزاء. وأصلها أن يتعدّى باللام أو بـ «إلى»، كقوله:( يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (٢) ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٣) فعومل معاملة اختار في قوله:( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ ) (٤) .
والسراط ـ بالسين ـ الجادّة، من: سرط الشيء إذا ابتلعه، لأنّه يسترط المارّة إذا سلكوه، وبالصاد من قلب السين صادا لأجل الطاء، وهي اللغة الفصحى. وقرأ قنبل عن ابن كثير ورويس عن يعقوب بالسين، وحمزة بالإشمام، والباقون بالصاد.
والصراط المستقيم هو الدين الحقّ الّذي لا يقبل الله عن العباد غيره. وإنّما سمّي الدين صراطا لأنّه يؤدّي لمن يسلكه إلى الجنّة، كما أنّ الصراط يؤدّي لمن يسلكه إلى مقصده. والمعنى المراد من( اهْدِنَا ) : زدنا هدى بمنح الألطاف، كقوله تعالى:( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) (٥) . ورووا عن أمير المؤمنين أنّ معناه: ثبّتنا.
__________________
(١) الصافّات: ٢٣.
(٢) الإسراء: ٩.
(٣) الشورى: ٥٢.
(٤) الأعراف: ١٥٥.
(٥) محمد: ١٧.
وهداية الله تنوّع أنواعا لا تحصى، لكنّها تنحصر في أجناس مترتّبة.
الأوّل: إفاضة القوى الّتي بها يتمكّن العبد من الاهتداء إلى مصالحه، كالقوّة العقليّة، والحواسّ الباطنة، والمشاعر الظاهرة.
والثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحقّ والباطل، والصلاح والفساد، وإليه أشار بقوله:( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) (١) ، وقوله:( فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) (٢) .
والثالث: الهداية بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وعناه بقوله:( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) (٣) ، وقوله:( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (٤) .
والرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر، ويريهم الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام والمنامات الصادقة، وهذا مختصّ بالأنبياء والأولياء، وإليه أشار بقوله :
( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (٥) ، وبقوله:( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (٦) .
ثمّ أراد أن يبيّن سبحانه أنّ الصراط المستقيم هو طريق المؤمنين فقال على سبيل البدليّة:( صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) وهو في حكم تكرير العامل، فكأنّه قال: اهدنا صراط الّذين أنعمت عليهم. وفائدة هذا البدل التوكيد، لـما فيه من التثنية والتكرير، والإشعار بأنّ الصراط المستقيم بيانه وتفسيره: صراط من خصّهم الله بعصمته، وأمدّهم بخواصّ نعمته، واحتجّ بهم على بريّته من الأنبياء والأولياء
__________________
(١) البلد: ١٠.
(٢) فصّلت: ١٧.
(٣) الأنبياء: ٧٣.
(٤) الإسراء: ٩.
(٥) الأنعام: ٩٠.
(٦) العنكبوت: ٦٩.
والصدّيقين والشهداء والصالحين، وهم الّذين ذكرهم الله تعالى في قوله:( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ) (١) فيكون ذلك شهادة لصراطهم بالاستقامة على آكد الوجوه، كما تقول: هل أدلّك على أكرم الناس فلان؟ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم من قولك: هل أدلّك على فلان الأكرم؟ لأنّك بيّنت كرمه مجملا أوّلا، ومفصّلا ثانيا، وأوقعت فلانا تفسيرا للأكرم فجعلته علما في الكرم، فكأنّك قلت: من أراد رجلا جامعا للكرم فعليه بفلان، فهو المعيّن لذلك لا غير.
وأطلق الإنعام ليشمل كلّ إنعام. والإنعام: إيصال النعمة، وهي في الأصل الحالة الّتي يستلذّها الإنسان، فأطلقت لـما يستلذّه من النعمة.
وقرأ حمزة «عليهم» بضمّ الهاء وإسكان الميم، نظرا إلى أصله المفرد وهو «هم». وكذلك: لديهم، وإليهم. وقرأ يعقوب بضمّ كلّ هاء قبلها ياء ساكنة، في التثنية والجمع المذكّر والمؤنّث، نحو: عليهما، وفيهما، وعليهم، وفيهم، وعليهنّ، وفيهنّ. وقرأ الباقون «عليهم» وأخواتها بالكسر أمنا من اللبس. وأهل الحجاز وصلوا الميم انضمّت الهاء قبلها أو انكسرت.
ونعم الله ـ وإن كانت لا تحصى، كما قال تعالى:( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ) (٢) ـ تنحصر في جنسين: دنيويّ، وأخرويّ.
والأوّل قسمان: موهبي، وكسبي. والموهبي قسمان: روحانيّ، كنفخ الروح فيه، وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق. وجسمانيّ، كتخليق البدن والقوى الحالّة فيه، والهيئات العارضة له من الصحّة وكمال الأعضاء. والكسبيّ كتزكية النفس عن الرذائل، وتحليتها بالأخلاق الحسنة، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة، وحصول الجاه والمال.
__________________
(١) النساء: ٦٩.
(٢) النحل: ١٨.
والثاني: أن يعفو ما فرط عنه، ويرضى عنه، ويبوّئه في أعلى علّيّين مع الملائكة المقرّبين أبد الآبدين.
والمراد هنا هو القسم الأخير وما يكون وصلة إلى نيله، فإنّ ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر.
وروي عن ابن عبّاس أنّ المراد من( الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) هم الّذين كانوا أتباع موسى وعيسى ومطيعين لأوامرهما ونواهيهما. ويؤيّد ذلك قولهعزوجل بعد ذلك بدلا منه:( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) يعني: اليهود، لقوله تعالى:( مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ) (١) ( وَلَا الضَّالِّينَ ) يعنى: النصارى، لقوله تعالى:( قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً ) (٢) . والمعنى: أنّ المنعم عليهم هم الّذين سلموا من غضب الله والضلال. ويحتمل أن يكون صفة له، وإن كان «غير» لا يقع صفة للمعرفة ولا يتعرّف بالإضافة إلى المعرفة، لأنّ( الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) لا تعيين فيه، كقوله :
... ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني
ولأنّ( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) و( الضَّالِّينَ ) خلاف المنعم عليهم، فليس في «غير» إذن الإبهام الّذي أبى له أن يتعرّف، فتعيّن تعيّن الحركة من غير السكون.
والمعنى: أنّهم جمعوا بين نعمة العصمة وبين السلامة من غضب الله والضلالة. وقال الحسن: إنّ الله تعالى لم يبرئ اليهود عن الضلالة بإضافة الضلال إلى النصارى، ولم يبرئ النصارى عن الغضب بإضافة الغضب إلى اليهود، بل كلّ واحدة من الطائفتين مغضوب عليهم وضالّون، إلّا أنّ الله يخصّ كلّ فريق بسمة يعرف بها ويميّز بينه وبين غيره بها وإن كانوا مشتركين في صفات كثيرة.
وقيل: المراد بالمغضوب عليهم والضالّين جميع الكفّار، وإنّما ذكروا بالصفتين
__________________
(١، ٢) المائدة: ٦٠ و ٧٧.
لاختلاف الفائدتين.
ويتّجه أن يقال: المغضوب عليهم العصاة، والضالّون الجاهلون بالله تعالى، لأنّ المنعم عليهم من وفّق للجمع بين معرفة الحقّ لذاته والخير للعمل به، فكان المقابل له من اختلّ إحدى قوّتيه العاقلة والعاملة، والمخلّ بالعمل فاسق مغضوب عليه، لقوله تعالى في القاتل عمدا:( وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ ) (١) ، والمخلّ بالعلم جاهل ضالّ، لقوله تعالى:( فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ ) (٢) .
واعلم أنّ الغضب عبارة عن ثوران النفس لإرادة الانتقام، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية على ما مرّ(٣) . فمعنى غضب الله: إرادة الانتقام منهم وإنزال العقاب بهم، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده. ومحلّ «عليهم» الاولى نصب على المفعوليّة. ومحلّ «عليهم» الثانية رفع على الفاعليّة، و «لا» مزيدة لتأكيد ما في «غير» من معنى النفي، فكأنّه قال: لا المغضوب عليهم ولا الضّالين، ولذلك جاز: أنا زيدا غير ضارب، كما جاز: أنا زيدا لا ضارب، وإن امتنع: أنا زيدا مثل ضارب. وأصل الضلال الهلاك، ومنه:( وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) (٤) أي: أهلكها. والضلال في الدين هو الذهاب عن الحقّ.
وأعجب بضلالة أهل الخلاف أنّهم يقولون: «آمين» في آخر الفاتحة مع أنّهم لم يثبتوه في المصاحف، ويتركون البسملة في أوّلها وأوائل سائر سور القرآن مع أنّهم يثبتونها في مفاتيح جميع السور! وماذا إلّا الضلال بعد الحقّ، فهم خارجون عن الصراط المستقيم، داخلون في غضب الله، وآيسون عن رحمة الرحمن الرحيم، مستوجبون السخط والعذاب الأليم، كاليهود والنصارى وسائر أهل الجحيم.
__________________
(١) النساء: ٩٣.
(٢) يونس: ٣٢.
(٣) في ص: ٢٤.
(٤) محمّد: ٨.
(٢)
سورة البقرة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) )
مدنيّة إلّا آية، وهي قوله تعالى:( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ) (١) الآية، فإنّها نزلت بمنى في حجّة الوداع. وهي عند الكوفيّين مائتان وستّ وثمانون آية.
أبيّ، عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : من قرأ سورة البقرة فصلوات الله عليه ورحمته، واعطي من الأجر كالمرابط في سبيل الله سنة لا تسكن روعته. قال: يا أبيّ، مر المسلمين أن يتعلّموا سورة البقرة، فإنّ تعلّمها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة. قلت: يا رسول الله، ما البطلة؟ قال: السحرة.
وقال النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : من قرأ البقرة وآل عمران جاء يوم القيامة تظلّانه على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين.
وروى سهل بن سعد قال: قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّ لكلّ شيء سناما وسنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهارا لم يدخل في بيته شيطان ثلاثة أيّام، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخل في بيته شيطان ثلاث ليال.
__________________
(١) البقرة: ٢٨١.
وسئل النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : أيّ سور القرآن أفضل؟ قال: البقرة؛ قيل: وأيّ آي البقرة أفضل؟ قال: آية الكرسي.
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم ) اختلف في هذه الحروف المقطّعة المفتتح بها السور، فورد عن أئمّتناعليهمالسلام أنّها من المتشابهات الّتي استأثر الله بعلمها ولا يعلم تأويلها غيره.
وروت العامّة عن أمير المؤمنينعليهالسلام أنّه قال: إنّ لكلّ كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.
وعن الشعبي: أنّ لله في كلّ كتاب سرّا، وسرّه في القرآن حروف التهجّي في أوائل السور.
وقال الأكثرون في ذلك وجوها :
منها: أنّها أسماء للسور يعرف كلّ سورة بما افتتحت به.
ومنها: أقسام أقسم الله تعالى بها، لكونها مباني كتبه، ومعاني أسمائه وصفاته، واصول كلام الأمم كلّها.
ومنها: مفاتيح أسماء اللهعزوجل وصفاته، لقول ابن عبّاس في «الم»: معناه: أنا الله أعلم، و( المر ) معناه: أنا الله أعلم وأرى، و( المص ) معناه: أنا الله أعلم وأفصل. والكاف من( كهيعص ) من كافي، والهاء من هادي، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق.
ومنها: أنّ كلّ حرف منها يدلّ على مدّة قوم وآجال آخرين بحساب الجمل، كما قاله أبو العالية متمسّكا بما روي أنّهصلىاللهعليهوآلهوسلم لـمّا أتاه اليهود تلا عليهم «الم» البقرة فحسبوه وقالوا: كيف ندخل في دين مدّته إحدى وسبعون سنة؟! فتبسّم رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقالوا: فهل غيره؟ فقال: المص والر والمر. فقالوا: خلطت علينا فلا ندري بأيّها نأخذ، فإنّ تلاوته إيّاها بهذا الترتيب عليهم وتقريرهم على استنباطهم
دليل على ذلك.
ومنها: أنّ المراد بها أنّ هذا القرآن الّذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف الّتي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم، فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنّه من عند الله، لأنّ العادة لم تجر بأنّ الناس يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم.
وعند المحقّقين أنّ هذه الفواتح وغيرها من الألفاظ الّتي يتهجّى بها أسماء مسمّياتها حروف الهجاء الّتي ركّبت منها الكلم. وحكمها أن تكون موقوفة كأسماء الأعداد، تقول: ألف لام ميم، كما تقول: واحد اثنان ثلاثة، فإذا وليتها العوامل أعربت فقيل: هذه ألف، وكتبت لاما، ونظرت إلى ميم.
ثمّ إنّه سبحانه ذكرها مفردة وثنائيّة وثلاثيّة ورباعيّة وخماسيّة، إيذانا بأنّ المتحدّى به مركّب من كلماتهم الّتي أصولها كلمات مفردة ومركّبة من حرفين فصاعدا إلى خمسة، وتنبيها على أنّ المتلوّ عليهم كلام منظوم ممّا ينظمون به كلامهم، فلو كان من عند غير الله لـما عجزوا من أوّلهم إلى آخرهم ـ مع تظاهرهم وقوّة فصاحتهم ـ عن الإتيان بما يدانيه، وإشعارا بأنّ أوّل ما يقرع الأسماع مستقلّ بنوع من الإعجاز، فإنّ النطق بأسماء الحروف مختصّ بمن خطّ ودرس، فأمّا من الامّي الّذي لم يخالط الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة والتلاوة، سيّما وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنّه، وهو أنّه إذا تأمّلت ما أورده الله تعالى في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر اسما إن لم تعدّ الألف فيها حرفا برأسها، وهي: الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون، في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم إذا عدّ فيها الألف.
ثمّ إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أنواع
الحروف. بيان ذلك: أنّ فيها من المهموسة نصفها: الصاد والكاف والهاء والسين والحاء، ومن المجهورة نصفها: الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون، ومن الشديدة نصفها: الألف والطاء والكاف والقاف، ومن الرخوة نصفها: اللام والراء والميم والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون، ومن المطبقة نصفها: الصاد والطاء، ومن المنفتحة نصفها: الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون، ومن المستعلية نصفها :
القاف والصاد والطاء، ومن المنخفضة نصفها: الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون، ومن حروف القلقلة نصفها: القاف والطاء.
ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف الّتي ألغى الله ذكرها من هذه الأنواع المعدودة مكثورة بالمذكورة(١) ، فسبحان الّذي دقّت في كلّ شيء حكمته! وقد علمت أنّ معظم الشيء وجلّه ينزّل منزلة كلّه، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأنّ اللهعزوجل عدّد على العرب الألفاظ الّتي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجّة إيّاهم.
وممّا يدلّ على أنّه تعمّد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم، أنّ الألف واللام لـمّا تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكرّرتين، وهي فواتح سورة البقرة، وآل عمران، والروم، والعنكبوت، ولقمان، والسجدة، والأعراف، والرّعد، ويونس، وإبراهيم، وهود، ويوسف، والحجر.
وأنّه ذكر ثلاث مفردات، وهي: «ق» «ن»(٢) «ص» في ثلاث سور، لأنّها توجد في الأقسام الثلاثة: الاسم والفعل والحرف.
وأربع ثنائيّات، وهي: «طه» و «يس» و «طس» و «حم» لأنّها تكون في
__________________
(١) أي مغلوبة بالكثرة، أي المذكورة غالبة على غير المذكورة، ومنه: كاثرة، أي غالبة بالكثرة.
(٢) وهي في مفتتح سورة القلم:( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ) .
الحرف بلا حذف كـ «بل»، وفي الفعل بحذف كـ «قل»، وفي الاسم بغير حذف كـ «من»، وبحذف كـ «دم» في تسع سور، لوقوع الثنائي في كلّ واحد من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه: الفتحة والضمّة والكسرة. ففي الأسماء: من وإذ وذو. وفي الأفعال: قل وبع وخف. وفي الحروف: إن ومن ومذ.
وثلاث ثلاثيّات، وهي: «الم» و «الر» و «طسم» لمجيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة، فإنّ سور( الم ) ستّ، و( الر ) خمس، و( طسم ) اثنان، تنبيها على أنّ اصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر، عشرة منها للأسماء، وثلاثة للأفعال.
ورباعيّتين، وهما:( المص ) و( المر ) .
وخماسيّتين، وهما:( كهيعص ) و( حم عسق ) تنبيها على أنّ لكلّ منهما أصلا كجعفر وسفرجل، وملحقا كقردد وحجنفل. ولم تعدّ بأجمعها في أوّل القرآن، لـما فيه من إعادة التحدّي، وتكرير التنبيه، والمبالغة فيه.
ولمّا كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعيّة ذكر من الزوائد العشرة الّتي تجمعها «اليوم تنساه» سبعة أحرف منها تنبيها على ذلك.
وقيل في مفتتح هذه السورة: إنّ الألف من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج، واللام من طرف اللسان وهو وسطها، والميم من الشفة وهي آخرها، جمع بينها تنبيها على أنّ العبد ينبغي أن يكون أوّل كلامه وأوسط كلامه وآخر كلامه ذكر الله.
وقيل: إنّ الألف إشارة إلى الله، واللام إلى جبرئيل، والميم إلى محمد. فيكون المعنى: أنّ الله سبحانه نزّل بواسطة جبرئيل إلى محمدصلىاللهعليهوآلهوسلم .
( ذلِكَ الْكِتابُ ) . وهو مصدر سمّي به المفعول للمبالغة، أو فعال بني للمفعول كاللباس، ثم اطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنّه ممّا يكتب. وأصل الكتب الجمع، ومنه: الكتيبة.
وقيل: «ذلك» إشارة إلى «الم» إن أوّل بالمؤلّف من هذه الحروف أو فسّر بالسورة أو القرآن، فإنّه لـمّا تكلّم به وتقضّى أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعدا فأشير إليه بما يشار به إلى البعيد. وتذكيره متى أريد بـ «الم» السورة لتذكير الكتاب، فإنّه خبره أو صفته الّذي هو هو. أو إلى الكتاب، فيكون صفته. والمراد به الكتاب الموعود إنزاله بقوله:( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) (١) ، أو في الكتب المتقدّمة.
فإن جعلت هذه الحروف المقطّعة أسماء الله أو القرآن أو السور كان لها حظّ من الإعراب، إمّا الرفع على الابتداء، أي: المؤلّف من هذه الكلمات متحدّي به، أو الخبر، أي: هذا المتلوّ المتحدّى به مؤلّف من هذه الكلمات، أو النصب بتقدير فعل القسم ونزع الخافض على طريقة: الله لأفعلنّ بالنصب، فإنّ أصله أقسم بالله، فنزع الخافض واعمل فعل القسم فيه، أو الجرّ على إضمار حرف القسم.
وإن أبقيتها على معانيها، فإن قدّرت بالمؤلّف من هذه الحروف كان في حيّز الرفع بالابتداء أو الخبر على ما مرّ. وإن جعلتها مقسما بها يكون كلّ كلمة منها منصوبا بنزع الخافض، أو مجرورا بتقدير حرف الجرّ على اللغتين في: الله لأفعلنّ، وتكون جملة قسميّة بالفعل المقدّر له.
وإن جعلتها أبعاض كلمات أو أصواتا منزّلة منزلة حرف التنبيه، لم يكن لها محلّ من الإعراب، كالجمل المبتدأة والمفردات المعدودة.
وقال في جوامع البيان: إن جعلت( الم ) اسما للسورة ففيه وجوه: أحدها: أن يكون( الم ) مبتدأ، و( ذلِكَ ) مبتدأ ثانيا، والكتاب خبره، والجملة خبر المبتدأ الأوّل. فيكون المعنى: أنّ ذلك هو الكتاب الكامل الّذي يستأهل أن يسمّى كتابا، كأنّ ما سواه من الكتب ناقص بالإضافة إليه، كما تقول :
__________________
(١) المزّمّل: ٥.