زبدة التفاسير الجزء ١
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-03-7
الصفحات: 639
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-03-7
الصفحات: 639
أحكامه تعالى وإيمانهم، فقال:( آمَنَ الرَّسُولُ ) أي: صدّق محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم ( بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) من الأحكام المذكورة في هذه السورة وغيرها. فهو شهادة وتنصيص من الله تعالى على صحّة إيمانه والاعتداد به، وأنّه جازم في أمره غير شاكّ فيه.
( وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ ) كلّ واحد منهم. يجوز أن يكون عطفا على الرسول، فيكون الضمير ـ الّذي التنوين نائب عنه في قوله: «كلّ» ـ راجعا إلى الرسول والمؤمنين( بِاللهِ ) أي: صدّق بثبوت وحدانيّته وصفاته، ونفي التشبيه عنه، وتنزيهه عمّا لا يليق به( وَمَلائِكَتِهِ ) أي: وبملائكته، بأنّهم معصومون مطهّرون( وَكُتُبِهِ ) أي: وبأنّ القرآن وجميع ما أنزل من الكتب حقّ وصدق( وَرُسُلِهِ ) وبجميع أنبيائه. فعلى هذا يوقف عليه.
ويجوز أن يكون مبتدأ، فيكون الضمير للمؤمنين، ومعناه: كلّ واحد منهم آمن. وبهذا الاعتبار يصحّ وقوع «كلّ» بخبره خبر المبتدأ. ويكون إفراد «الرسول» بالحكم إمّا لتعظيمه، أو لأنّ إيمانه عن مشاهدة وعيان، وإيمانهم عن نظر واستدلال.
وقرأ حمزة والكسائي: وكتابه، يعني: القرآن، أو الجنس. والفرق بينه وبين الجمع أنّه شائع مع وحدان الجنس، لا يخرج منه شيء، والجمع في جموعه، فلا يدخل تحته إلّا ما فيه الجنس من الجموع، ولذلك الكتاب أكثر من الكتب.
( لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) أي: يقولون: لا نفرّق. وقرأ يعقوب: لا يفرّق بالياء، على أنّ الفعل لـ «كلّ». والمراد اعترافهم بنفي الفرق بتصديق بعض وتكذيب بعض، كما فعله أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
( وَقالُوا سَمِعْنا ) أجبنا( وَأَطَعْنا ) أمرك( غُفْرانَكَ رَبَّنا ) اغفر لنا غفرانك، أو نطلب غفرانك( وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) وإلى جزائك وثوابك المرجع بعد الموت. وهو إقرار منهم بالبعث.
( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦) )
ثمّ بيّن سبحانه أنّه حيثما أمر ونهى لا يكلّف إلّا دون الطاقة، فقال:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) الوسع ما تسع له قدرة الإنسان ولا يضيق عليه، أي: لا يأمر ولا ينهى أحدا إلّا ما يسعه. وهذا إخبار عن عدله ورحمته.
( لَها ما كَسَبَتْ ) أي: ثواب ما اكتسبت من الطاعات، لا يثاب بطاعتها غيرها( وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) أي: عقاب ما اكتسبت من المعاصي والسيّئات، لا يؤاخذ بذنبها غيرها. وتخصيص الكسب بالخير والاكتساب بالشرّ لأنّ الاكتساب اعتمال، والشرّ تشتهيه النفس وتنجذب إليه، فكانت أجدّ في تحصيله وأعمل، بخلاف الخير.
( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا ) أي: إن لم نفعل فعلا يجب فعله على سبيل السهو( أَوْ أَخْطَأْنا ) أي: فعلنا فعلا يجب تركه من غير قصد، يعني: ترك واجب أو فعل حرام يكون سببهما النسيان والخطأ. ويحسن هذا في الدعاء على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى وإظهار الفقر إلى مسألته والاستعانة به، وإن كان مأمونا منه المؤاخذة بمثله، لاستلزامها القبح، والله تعالى منزّه عنه. ويجري ذلك مجرى قوله
فيما بعد:( وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا ) وقوله:( قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ ) (١) .
( رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً ) عبأ(٢) ثقيلا يأصر صاحبه، أي: يحبسه في مكانه، يريد به التكاليف الشاقّة( كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ) حملا مثل حملك إيّاه من قبلنا، أو مثل الّذي حملته إيّاهم، فيكون صفة لـ «إصرا».
والمراد به ما كلّف به بني إسرائيل من قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة، وخمسين صلاة في اليوم والليلة، وصرف ربع المال في الزكاة، أو ما أصابهم من الشدائد والمحن.
( رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ) من العقوبات الّتي لا تحملها الطاقة البشريّة النازلة بمن قبلنا. طلبوا الإعفاء عن التكاليف الشاقّة الّتي كلّفها من قبلهم، ثمّ عمّا نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم. والتشديد هاهنا لتعدية الفعل إلى المفعول الثاني.
( وَاعْفُ عَنَّا ) وامح ذنوبنا( وَاغْفِرْ لَنا ) واستر عيوبنا، ولا تفضحنا بالمؤاخذة( وَارْحَمْنا ) وتعطّف بنا، وتفضّل علينا( أَنْتَ مَوْلانا ) سيّدنا ونحن عبيدك، أو أنت متولّي أمورنا وناصرنا( فَانْصُرْنا ) أعنّا( عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) بالقهر لهم، والغلبة بالحجّة عليهم، فإنّ من حقّ المولى أن ينصر مواليه على الأعداء. والمراد به عامّة الكفّار.
روي عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنّ الله سبحانه قال عند كلّ فصل من هذا الدعاء: فعلت واستجبت». ولهذا استحبّ الإكثار من هذا الدعاء. ففي الحديث المشهور عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يؤتهنّ نبيّ قبلي».
__________________
(١) الأنبياء: ١١٢.
(٢) العبء ـ بكسر العين وسكون الباء ـ: الحمل والثقل من أيّ شيء كان.
وعنهعليهالسلام : «أنزل الله آيتين من كنوز الجنّة، كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل».
ومثل ذلك ما روي عنهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه، أي: كفتا قيام ليلته».
وعن عبد الله بن مسعود قال: «لمّا أسري برسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم انتهي به إلى سدرة المنتهي، فأعطي ثلثا الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمّته إلا المقحمات»(١) .
وفي تفسير الكلبي بإسناد ذكره، عن ابن عبّاس قال: «بينا رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم إذ سمع نقيضا، أي: صوتا، فرفع رأسه فإذا باب من السماء قد فتح، فنزل عليه ملك وقال: الله يبشّرك بنورين لم يعطهما نبيّا قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لا يقرأهما أحد إلّا أعطيته حاجته».
__________________
(١) أي: الذنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار، أي: تلقيهم فيها.
(٣)
سورة آل عمران
هي مدنيّة كلّها. وعدد آياتها مائتان. وعدّ الكوفي( الم ) آية، والإنجيل(١) الثانية آية، وترك( وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ ) .
روي أبيّ بن كعب، عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكلّ آية منها أمانا على جسر جهنّم».
ابن عبّاس قال: «قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة صلّى الله عليه وملائكته حتى تجب الشمس».
بريدة قال: «قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : تعلّموا سورة البقرة وسورة آل عمران، فإنّهما الزهراوان، وإنهما تظلّان صاحبهما يوم القيامة كأنّهما غمامتان، أو غيابتان، أو فرقان من طير صوافّ».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) )
__________________
(١) آل عمران: ٤٨.
واعلم أنّه سبحانه لـمّا ختم سورة البقرة بذكر التوحيد والإيمان افتتح هذه السورة بالتوحيد والإيمان أيضا، فقال:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) قيل: الألف إشارة إلى الآية العميمة، واللام إلى لقاء مرحمته العظيمة، والميم إلى محبّته القديمة. فبركة الآية في الدنيا شاملة، ونعمة لقائه ـ الّتي هي عبارة عن نهاية قرب عباده ومنزلتهم لديه ـ إلى أرباب الخصوص واصلة، وفيض محبّة الغير المتناهية في الدارين إلى أخصّ خواصّه حاصلة. وباقي وجوه الحروف المقطّعة مذكورة في صدر سورة البقرة، فليطالع ثمّة.
وإنّما فتح الميم في المشهور، وكان حقّها أن يوقف عليها، لإلقاء حركة الهمزة عليها، ليدلّ على أنّها في حكم
الثابت، لأنّها أسقطت للتخفيف لا للدرج، فإنّ الميم في حكم الوقف، كقولهم: واحد اثنان، لا لالتقاء الساكنين بين الياء والميم، فإنّه غير محذور في باب الوقف. وقرأ أبو بكر بسكونها، والابتداء بما بعدها على الأصل.
( الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) وتفسيرهما في آية الكرسي(١) .
روي عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنّ اسم الله الأعظم في ثلاث سور: في البقرة(٢) :( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) ، وفي آل عمران:( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) ، وفي طه(٣) :( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) .
( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ) القرآن نجوما(٤) ( بِالْحَقِ ) بالعدل، أو بالصدق في إخباره، أو بالحجج المحقّقة أنّه من عند الله تعالى. وهو في موضع الحال.( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) من الكتب( وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ) جملة على موسى وعيسى
__________________
(١) راجع ص: ٤٠١.
(٢) البقرة: ٢٥٥.
(٣) طه: ١١١.
(٤) أي: متفرّقا.
( مِنْ قَبْلُ ) من قبل تنزيل القرآن. وهما لفظان أعجميّان على الصحيح. واشتقاقهما من الورى والنجل، ووزنهما تفعلة وإفعيل، تكلّف وتعسّف.( هُدىً لِلنَّاسِ ) أي: لقوم موسى وعيسى. ومن قال: نحن متعبّدون بشرائع من قبلنا، فسّره على العموم.( وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ ) يعني: القرآن. كرّر ذكره بما هو نعت له ومدح، من كونه فارقا بين الحقّ والباطل، بعد ذكره باسم الجنس، تعظيما لشأنه، أو أراد جنس الكتب السماويّة، لأنّ كلّها فرقان يفرّق بين الحقّ والباطل.
روي عن الصادقعليهالسلام قال: «الفرقان كلّ آية محكمة في الكتاب».
وقيل: المراد به الحجّة القاطعة على من حاجّ رسول الله في أمر عيسى، كما قال الكلبي ومحمد بن إسحاق والربيع بن أنس: «أنّ وفد نجران قدموا على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وكانوا ستّين راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وكان العاقب أميرهم وصاحب مشورتهم، وهم لا يصدرون إلّا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيّد صاحب رحلهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان قد شرف فيهم، وكان ملوك أهل الروم قد شرّفوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده.
فقدموا على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم المدينة، ودخلوا مسجده حين صلّى العصر، عليهم الثياب الحبرات وجبب وأردية.
يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : ما رأينا وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس، وقاموا فصلّوا في مسجد رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم . فقال الصحابة: يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : دعوهم، فصلّوا إلى المشرق.
فكلّم السيّد والعاقب رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم .
فقال لهما رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : أسلما؟
قالا: أسلمنا قبلك.
قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير.
قالا: إنْ لم يكن ولد الله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعا في عيسى.
فقال لهم النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : ألستم تعلمون أنّه لا يكون له ولد إلّا ويشبه أباه؟
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كلّ شيء يحفظه ويرزقه؟
قالوا: بلى.
قال: فهل يملك عيسىعليهالسلام من ذلك شيئا؟
قالوا: لا.
قال: ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟
قالوا: بلى.
قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلّا ما علّم؟
قالوا: لا.
قال: فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث.
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أمّه كما تحمل المرأة، ووضعته كما تضع المرأة ولدها، ثمّ غذّي كما يغذّى الصبيّ، ثمّ كان يطعم ويشرب ويحدث؟
قالوا: بلى.
قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟
فسكتوا، فأنزل الله تعالى فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.
ففي شأنهم قولهعزوجل :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ ) من كتبه المنزلة وغيرها من الحجج الهادية( لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) بسبب كفرهم( وَاللهُ عَزِيزٌ ) غالب لا يمنع من التعذيب( ذُو انْتِقامٍ ) لا يقدر على مثله منتقم. والنقمة عقوبة المجرم، والفعل منه: نقم بالفتح والكسر. وهو وعيد جيء به بعد تقرير التوحيد، والإشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوّة، تعظيما للأمر، وزجرا عن الإعراض عنه.
( إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) )
( إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) أيّ شيء كائن في العالم، كلّيا أو جزئيّا. وإنّما قدّم الأرض ترقّيا من الأدنى إلى الأعلى، ولأنّ المقصود بالذكر عدم خفاء ما اقترف فيها من الإيمان والطاعة والكفر والمعصية على الله تعالى، وهو كالدليل على كونه حيّا.
وقوله:( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ) أي: من الصور المختلفة المتفاوتة على أيّ صفة يشاء، من قبيح أو صبيح، ذكر أو أنثى، طويل أو قصير، كالدليل على القيّوميّة، والاستدلال على أنّه عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره.
( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) إذ لا يعلم غيره جملة ما يعلمه، ولا يقدر على مثل ما يفعله( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) إشارة إلى كمال قدرته وتناهي حكمته، وتنبيه على كون عيسى مصوّرا في الرحم، ويخفى عليه ما لا يخفى على الله، فكيف يكون ربّا كما زعم أهل وفد نجران؟!
روي عن الصادقعليهالسلام : أنّ هذه الآية دلّت على وحدانيّة الله سبحانه، وكمال قدرته، وتمام حكمته، حيث صوّر الولد في رحم الأمّ على صفة مخصوصة، وركّب فيه من أنواع البدائع من غير آلة ولا كلفة، وقد تقرّر في عقل كلّ عاقل أنّ العالم لو اجتمعوا على أن يخلقوا من الماء بعوضة، ويصوّروا منه صورة في حال ما يشاهدونه ويصرفونه، لم يقدروا على ذلك، ولا وجدوا إليه سبيلا، فكيف يقدرون على الخلق في الأرحام؟ فتبارك الله أحسن الخالقين.
( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) )
( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ ) أي: القرآن( مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ) أحكمت عبارتها، بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه( هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ ) أصله، تحمل المتشابهات عليها، وتردّ إليها. والقياس: أمّهات، فأفرد على تأويل كلّ واحدة، أو على أنّ الكلّ بمنزلة آية واحدة.
( وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) مشبّهات محتملات، لا يتّضح مقصودها ـ لإجمال أو مخالفة ظاهر ـ إلّا بالفحص والنظر، ليظهر فيها فضل العلماء، ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبّرها، وتحصيل العلوم المتوقّف عليها استنباط المراد بها، فينالوا بها وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها والتوفيق بينها وبين المحكمات معالي الدرجات. ولو كان القرآن كلّه محكمات لتعلّق به الناس بسهولة أخذه، ولأعرضوا
عمّا يحتاجون فيه إلى النظر والاستدلال. ولو فعلوا ذلك لعطّلوا الطريق الّذي يتوصّل إلى معرفة الله وتوحيده، ولكان لا يتبيّن فضل العلماء الّذين ينقّبون بقرائحهم في استخراج المعاني المتشابهة، وردّ ذلك إلى المحكم.
وأمّا قوله:( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ) (١) فمعناه: أنّها حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ. وقوله:( كِتاباً مُتَشابِهاً ) (٢) فمعناه: أنّه يشبه بعضه بعضا في صحّة المعنى وجزالة اللفظ.
و «أخر» جمع أخرى. وإنّما لم ينصرف لأنّه وصف معدول عن الآخر، ولا يلزم منه معرفته، لأنّ معناه أنّ القياس أن يعرّف ولم يعرّف، لا أنّه في معنى المعرّف، أو عن: آخر من.
( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) أي: ميل وعدول عن الحقّ، فيتّبعون ما تشابه منه كالمبتدعة( فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ) فيتعلّقون بالمتشابه الّذي يحتمل ما يذهب إليه أهل البدعة ممّا لا يطابق المحكم، ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحقّ( ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ ) طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه، فيضلّونهم( وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) وطلب أن يؤوّلوه على ما يشتهونه. ويحتمل أن يكون الداعي إلى الاتّباع مجموع الطلبتين، أو كلّ واحدة منهما على التعاقب. والأوّل يناسب المعاند، والثاني يلائم الجاهل.
( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ) الّذي يجب أن يحمل عليه( إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) والعلماء الّذين رسخوا في العلم، أي: ثبتوا فيه وتمكّنوا. ومن وقف على «الله» فسّر المتشابه بما استأثر الله تعالى بعلمه، كمدّة بقاء الدنيا، ووقت قيام الساعة، وخواصّ الأعداد كعدد الزبانية، أو بما دلّ القاطع على أنّ ظاهره غير مراد ،
__________________
(١) هود: ١.
(٢) الزمر: ٢٣.
ولم يدلّ على ما هو المراد. والوجه الأوّل مرويّ عن الباقرعليهالسلام ، قال: «كان رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم أفضل الراسخين في العلم».
( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ) استئناف موضح لحال كلّ الراسخين. والمعنى: هؤلاء الراسخون العاملون بالتأويل يقولون: آمنّا به، أي: بالمتشابه، أو حال منهم، أو خبر إن جعلته مبتدأ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) أي: كلّ واحد منه ومن المحكم من عند الله الحكيم الّذي لا يتناقض كلامه( وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) أي: لا يتلفّظ بالقرآن إلّا ذوو العقول الصافية، الخالصة عن الشوائب النفسانيّة والكدورات الشهوانيّة. وهذا مدح للراسخين بجودة الذهن، وحسن التأمّل والتفكّر والتذكّر. وإشارة إلى ما استعدّوا به للاهتداء إلى تأويله، وهو تجرّد العقل عن غواشي الحسّ.
واتّصال هذه الآية بما قبلها من حيث إنّها في تصوير الروح بالعلم وتربيته، وما قبلها في تصوير الجسد وتسويته، أو أنّها جواب عن تشبّث النصارى بنحو قوله:( وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) (١) ، كما أنّه جواب عن قولهم: لا أب له غير الله، فتعيّن أن يكون هو ابنه. وأجيب بأنّه مصوّر الأجنّة كيف يشاء، فيصوّر من نطفة أب ومن غيرها، وبأنّه مصوّره في الرحم، والمصوّر لا يكون أب المصوّر.
( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) )
قوله:( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا ) من مقال الراسخين. وقيل: استئناف. والمعنى: لا تمنعنا لطفك الّذي معه تستقيم القلوب، فتميل قلوبنا عن نهج الحقّ إلى اتّباع
__________________
(١) النساء: ١٧١.
المتشابه بتأويل لا ترتضيه( بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا ) بعد إذ لطفت بنا ووفّقتنا طريق الهداية. أو معناه: لا تختبرنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا بعد إذ أرشدتنا إلى دينك. ونظيره قوله:( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ) (١) . فأضافوا ما يقع من زيغ القلوب إليه سبحانه، لأنّه كان عند امتحانه وتشديد تكليفه. و «بعد» نصب على الظرف، و «إذ» في موضع الجرّ بإضافته إليه.
( وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) من عندك، نعمة بالتوفيق والمعونة للثبات على الحقّ، تزلفنا إليك، ونفوز بها عندك. أو مغفرة للذنوب( إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) لكلّ سؤل.
( رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ ) يجمعهم لحساب يوم أو لجزائه، كقوله تعالى:( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ) (٢) ( لا رَيْبَ فِيهِ ) في وقوع اليوم، وما فيه من الحشر والجزاء. نبّهوا به على أنّ معظم غرضهم من قولهم:( لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) ما يتعلّق بالآخرة، فإنّها المقصد الأصلي والمال الحقيقي.
( إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) أي: لا يخلف ما وعد المسلمين والكافرين من الثواب والعقاب، فإنّ الإلهيّة تنافي خلف الميعاد. والانتقال من الخطاب إلى الغيبة للإشعار بذلك، وتعظيم الموعود. واستدلّ به الوعيديّة. وأجيب بأنّ وعيد الفسّاق مشروط بعدم العفو، لدلائل قاطعة، كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا.
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً
__________________
(١) البقرة: ٢٤٦.
(٢) التغابن: ٩.
وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) )
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) عامّ في الكفرة. وقيل: المراد به وفد نجران، أو اليهود، أو مشركو العرب( لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ) أي: من رحمته على معنى البدليّة. فـ «من» في قوله: «من الله» مثل الّذي في قوله:( وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (١) . ومثله: ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ، أي: لا ينفعه جدّه من الدنيا بدلك، أي: بدل طاعتك وعبادتك وما عندك. وقيل: معناه: من عذابه شيئا، أي: لا يدفع عنهم أموالهم وأولادهم من عذاب الله شيئا( وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ) حطبها، تتّقد النار بأجسامهم.
وقوله:( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ) منصوب المحلّ بقوله: «لن تغني» أو بالوقود. والمعنى: لن تغني عنهم كما لم تغن عن أولئك، أو توقد بهم كما توقد بأولئك، كما تقول: إنّك لتظلم الناس كدأب أبيك، تريد: كظلم أبيك، وإنّ فلانا لمحارف كدأب أبيه، تريد: كما حورف أبوه. أو استئناف مرفوع المحلّ، وتقديره: دأب هؤلاء كدأبهم في الكفر والعذاب. وهو مصدر: دأب في العمل إذا كدح فيه، فنقل إلى معنى
__________________
(١) النجم: ٢٨.
ما عليه الإنسان من شأنه وحاله.
( وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) عطف على آل فرعون. وقيل: كلام مستأنف.( كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ ) حال بإضمار «قد». أو استئناف مفسّر ذاتهم وحالهم، كأنّه جواب لمن يسأل عن حالهم. أو خبر إن ابتدأت بـ( الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .
( وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ ) تهويل للمؤاخذة، وزيادة تخويف للكفرة.
( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ ) قيل: خطاب لمشركي مكّة، فإنّهم غلبوا يوم بدر. وقيل: هم اليهود جمعهم رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بعد وقعة بدر في سوق بني قينقاع، فقال: يا معشر اليهود احذروا ما نزل بقريش، وأسلموا قبل أن ينزل بكم مثل ما نزل بهم، فقد عرفتم أنّي نبيّ مرسل، فقالوا: لا يغرّنّك أنّك لقيت قوما أغمارا(١) لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، ولئن قاتلتنا لعرفت أنّا نحن الناس، فنزلت. وقد صدق الله وعده لهم بقتل قريظة، وإجلاء بني النضير، وفتح خيبر، وضرب الجزية على من عداهم، وهو من دلائل النبوّة. والمعنى: ستصيرون مغلوبين في الدنيا، وتحشرون إلى جهنّم في الآخرة.
وقرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما، على أن الأمر بأن يحكي النبيّ لهم ما أخبره به من وعيدهم بلفظه، فهو مثل قوله:( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) (٢) أي: قل لهم قولي: سيغلبون.
( وَبِئْسَ الْمِهادُ ) تمام ما يقال لهم أو استئناف، وتقديره: بئس المهاد جهنّم، أو ما يمهّدونه لأنفسهم.
( قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ ) الخطاب لقريش أو لليهود. وقيل: للمؤمنين.( فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ) يوم بدر( فِئَةٌ ) أي: فرقة( تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ) أي: في دينه وطاعته، وهم الرسول وأصحابه( وَأُخْرى ) وفرقة أخرى( كافِرَةٌ ) وهم مشركو مكّة
__________________
(١) الأغمار جمع غمر، وهو الجاهل الغرّ الذي لم يجرّب الأمور.
(٢) الأنفال: ٣٨.
( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ ) يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين، وكان عددهم قريب ألف، أو مثلي عدد المسلمين، وكان عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر. وذلك كان بعد ما قلّلهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم وتوجّهوا إليهم، فلمّا لا قوهم كثّروا في أعينهم حتى غلبوا، مددا من الله تعالى للمؤمنين. فلا منافاة بينه وبين قوله في سورة الأنفال:( وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ) (١) . أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين ـ وكانوا ثلاثة أمثالهم ـ ليثبتوا لهم، ويتيقّنوا بالنصر الذي وعدهم الله تعالى به في قوله:( فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) (٢) . ويؤيّده قراءة نافع ويعقوب بالتاء.
( رَأْيَ الْعَيْنِ ) رؤية ظاهرة معاينة مكشوفة.
( وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ ) نصره، كما أيّد المسلمين في بدر( إِنَّ فِي ذلِكَ ) أي: في التقليل والتكثير، أو غلبة القليل عديم العدّة على الكثير شاكي السلاح( لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ ) لعظة لذوي البصائر. وقيل: لمن أبصرهم.
( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) )
( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ) أي: المشتهيات. جعل الله سبحانه الأعيان الّتي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها، وإيماء على
__________________
(١) الأنفال: ٤٤.
(٢) الأنفال: ٦٦.
أنّهم انهمكوا في محبّتها حتى أحبّوا شهوتها. والمزيّن هو الله سبحانه بما جعل في الطباع من الميل إليها، ابتلاء وتشديدا للتكليف، كقوله:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ ) (١) . أو لأنّه يكون وسيلة إلى السعادة الأخرويّة إذا كان على وجه يرتضيه الله، أو لأنّه من أسباب التعيّش وبقاء نوع الإنسان. وعن الحسن: زيّنها الشيطان لهم، لأنّا لا نعلم أحدا أذمّ لها من خالقها. وعند الجبائي: للشهوة المباحة هو الله تعالى(٢) ، للشهوة المحرّمة هو الشيطان.
ثمّ بيّن الشهوات بقوله:( مِنَ النِّساءِ ) قدّمهنّ لأنّ الفتنة بهنّ أعظم، كما قال النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء». وقال: «النساء حبائل الشيطان». وقال أمير المؤمنينعليهالسلام : «المرأة شرّ كلّها، وشرّ ما فيها أنّه لا بدّ منها، وهي عقرب حلوة اللسعة».
ثمّ ثنّى بقوله:( وَالْبَنِينَ ) لأنّ حبّهم داع إلى جمع الحرام.
ثمّ ثلّث بقوله:( وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ) لأنّهما ـ لكونهما وسيلة إلى تحصيل سائر المقاصد والمطالب ـ أحبّ إلى الناس من غيرهما من الأمتعة الدنيويّة. والقنطار المال الكثير. وقيل: سبعون ألف دينار. وقيل: مائة ألف دينار. وقيل: ملء مسك ثور. واختلف في أنّه فعلال أو فنعال. والمقنطرة مأخوذ منه للتأكيد، كقولهم: بدرة مبدّرة، وألف مؤلّفة.
( وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ) المعلمة. وهي من السومة، وهي العلامة، أو المرعيّة من: أسام الدابّة وسوّمها. ولـمّا كانت الخيل أشرف الحيوانات بعد الإنسان قدّمها على قوله:( وَالْأَنْعامِ ) وهي: الإبل والبقر والغنم. ولشرف الحيوانات على الجمادات قدّمها على قوله:( وَالْحَرْثِ ) وهو جنس المزروعات.
__________________
(١) الكهف: ٧.
(٢) أي: المزيّن هو الله تعالى.
( ذلِكَ ) إشارة إلى ما ذكر( مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) أي: ما يتمتّع بها الإنسان في زمان الحياة الدنيويّة( وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) أي: المرجع. وهو تحريض على استبدال ما عنده من اللذّات الحقيقيّة الأبديّة بالشهوات الناقصة الفانية.
( قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) )
ثمّ استأنف كلاما مقرّرا، وتقريره: أنّ ثواب الله خير من مستلذّات الدنيا، فقال:( قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ) أي: من متاع الدنيا ومستلذّاتها( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ ) اللام متعلّقة بـ «خير». واختصّ المتّقين لأنّهم المنتفعون به. ويجوز أن يكون خبرا لقوله:( جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ) ، أو يكون استئنافا لبيان ما هو خير، ويرتفع بالخبر على تقدير: هو جنّات( وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ) ممّا يستقذر وينفر من النساء( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ) . قرأ أبو بكر بضمّ الراء حيث كان إلّا الثاني(١) من المائدة، وهو قوله:( رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) . وهما لغتان.( وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ) أي: بأعمالهم، فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، أو بأحوال الّذين اتّقوا، فلذلك أعدّ لهم جنّات.
وقد نبّه بهذه الآية على مراتب نعمه، فأدناها متاع الدنيا، وأعلاها رضوان
__________________
(١) المائدة: ١٦، والأول هو الآية (٢) منها.
الله، لقوله تعالى:( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) (١) ، وأوسطها الجنّة ونعيمها.
( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا ) أي: صدّقنا بالله ورسوله( فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ) استرها علينا وتجاوزها عنّا( وَقِنا عَذابَ النَّارِ ) . والموصول موضع جرّ، لكونه صفة للمتّقين، أو للعباد، أو موضع رفع، أو نصب على المدح. وفي ترتيب السؤال على مجرّد الإيمان دليل على أنّه كاف في استحقاق المغفرة أو الاستعداد لها.
ثمّ بيّن صفاتهم الحسنة وسماتهم السيّئة بقوله:( الصَّابِرِينَ ) على فعل ما أمرهم الله به، وترك ما نهاهم عنه( وَالصَّادِقِينَ ) في إيمانهم وأقوالهم( وَالْقانِتِينَ ) المطيعين. وقيل: الدائمين على العبادة( وَالْمُنْفِقِينَ ) أموالهم في سبيل الله( وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ ) أي: المصلّين وقت السحر. وقيل: الّذين تنتهي صلاتهم إلى وقت السحر، ثمّ يستغفرونه ويدعون. وتوسيط الواو بين الصّفات للدلالة على استقلال كلّ واحد منها وكمالهم فيها، أو لتغاير الموصوفين بها.
وحصر هذه الصفات لمقامات السالك على أحسن ترتيب، فإنّ معاملته مع الله تعالى إمّا توسّل وإمّا طلب. والتوسّل إمّا بالنفس، وهو منعها عن الرذائل، وحبسها على الفضائل، والصّبر يشملهما. وإمّا بالبدن، وهو إمّا قول، وهو الصدق، وإمّا فعل، وهو القنوت الّذي هو ملازمة الطاعة. وإمّا بالمال، وهو الإنفاق في سبيل الخير. وأمّا الطلب فبالاستغفار، لأنّ المغفرة أعظم المطالب، بل الجامع لها. وتخصيص الأسحار، لأنّ الدعاء فيها للمتهجّدين أقرب إلى الإجابة، لأنّ العبادة حينئذ أشقّ، والنفس أصفى، والقلب أجمع، سيّما للمتهجّدين.
__________________
(١) التوبة: ٧٢.
( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) )
ثمّ بيّن وحدانيّته بنصب الدلائل الدالّة عليها، وإنزال الآيات الناطقة بها، فقال:( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) شبّه سبحانه دلالته على وحدانيّته بالأفعال الّتي لا يقدر عليها غيره، والآيات الناطقة بتوحيده، مثل سورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما، بشهادة الشاهد في البيان والكشف. وكذلك قوله:( وَالْمَلائِكَةُ ) بالإقرار بها( وَأُولُوا الْعِلْمِ ) بالإيمان بها والاحتجاج عليها. فشبّه إقرار الملائكة وأولي العلم بشهادة الشاهد في الكشف والبيان.
( قائِماً بِالْقِسْطِ ) مقيما للعدل فيما يقسم للعباد من الأرزاق والآجال، وفيما يأمر به عباده من الإنصاف والعمل على التسوية فيما بينهم. وانتصابه على أنّه حال مؤكّدة من اسم الله، كقوله:( وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً ) (١) . وإنّما جاز إفراده بها، ولم يجز: جاء زيد وعمرو راكبا، لعدم اللبس، كقوله تعالى:( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً ) (٢) .
( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) كرّره للتأكيد، ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلّة التوحيد، والحكم به بعد إقامة الحجّة، وليبني عليه قوله:( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فيعلم أنّه الموصوف بهما.
__________________
(١) البقرة: ٩١.
(٢) الأنبياء: ٧٢.