زبدة التفاسير الجزء ٢
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-04-3
الصفحات: 657
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-04-3
الصفحات: 657
وكيلا لأبيه، والله سبحانه وتعالى قائم بحفظ الأشياء، كاف في ذلك، مستغن عمّن يخلفه أو يعينه.
( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) )
روي أنّ وفد نجران قالوا لنبيّناصلىاللهعليهوآلهوسلم : يا محمّد لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى. قال: وأيّ شيء أقول فيه؟ قالوا: تقول: إنّه عبد الله ورسوله. قال: إنّه ليس بعار أن يكون عبدا لله. قالوا: بلى، فنزلت:( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ ) لن يأنف ولن يذهب عزّة نفسه، من: نكفت الدمع، إذا نحّيته بإصبعك عن خدّك كيلا يرى أثره عليك( أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ) من أن يكون عبدا له، فإنّ عبوديّته شرف يتباهى به، وإنّما الاستنكاف في عبوديّة غيره( وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) الّذين قرّبهم الله تعالى ورفع منازلهم لديه. عطف على المسيح، أي: ولا يستنكف الملائكة المقرّبون أن يكونوا عبيدا لله.
واحتجّ به من زعم فضل الملائكة على الأنبياء، وقال: مساق الآية لردّ قول النصارى في رفع المسيح عن مقام العبوديّة، وذلك يقتضي أن يكون المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه، حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه.
وجوابه: أنّ الآية للردّ على عبدة المسيح وعبدة الملائكة، فلا يتّجه ذلك.
وإن سلّم اختصاصها بالنصارى فيحتمل أن يراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير، كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس. وإن أراد به التكبير فإنّه يفهم منه أنّ جميع الملائكة أفضل وأكثر ثوابا من المسيح، وهذا لا يقتضي أن يكون كلّ واحد منهم أفضل من المسيح، وإنّما الخلاف في ذلك.
( وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ ) ويترفّع عنها( وَيَسْتَكْبِرْ ) ويتعظّم بترك الإذعان بطاعته. والاستكبار دون الاستنكاف، ولذلك عطف عليه. وإنّما يستعمل حيث لا استحقاق بخلاف التكبّر، فإنّه قد يكون بالاستحقاق.( فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ ) إلى موضع جزائه( جَمِيعاً ) فيجازيهم أجمعين.
( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) )
ثمّ وعد الله سبحانه الّذين يقرّون بوحدانيّته ويعملون بطاعته، أنّه يوفّيهم أجور أعمالهم الصالحة وافيا تامّا، فقال:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) بوحدانيّة الله وبنبوّة رسوله( وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) على طاعتهم، بأن كان لهم عشر أمثالها إلى سبعين ضعفا، وإلى سبعمائة، وإلى الأضعاف الكثيرة.
والزيادة على المثل تفضّل من الله سبحانه عليهم.
وبعد وعد الموحّدين الصالحين أوعد المشركين الطالحين، فقال:( وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا ) عن الإقرار بوحدانيّته( وَاسْتَكْبَرُوا ) وتعظّموا عن الإيمان له بالطاعة والعبوديّة( فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) مؤلما موجعا( وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ ) لأنفسهم( مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا ) ينجيهم من عذابه( وَلا نَصِيراً ) ينقذهم عن عقابه. فالآية لبيان تفصيل المجازاة العامّة المدلول عليها من فحوى الكلام، فكأنّه قال: فسيحشرهم إليه جميعا يوم يحشر العباد للمجازاة. أو لبيان مجازاتهم، فإنّ إثابة مقابليهم والإحسان إليهم تعذيب لهم بالغمّ والحسرة.
( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) )
ولـمّا فصّل سبحانه ذكر الأحكام الّتي يجب العمل بها ذكر البرهان بعد ذلك، ليكون المكلّف على ثقة ويقين، فقال خطابا عامّا لجميع المكلّفين:( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) عنى به المعجزات الباهرة( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) وهو القرآن، أي: قد جاءكم دلائل العقل وشواهد النقل، ولم يبق لكم عذر ولا علّة.
وقيل: البرهان الدين أو رسول الله. وقيل: المراد من كليهما القرآن. وعن أبي عبد اللهعليهالسلام : «النور ولاية عليّ بن أبي طالبعليهالسلام ».
( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ) بوحدانيّته( وَاعْتَصَمُوا بِهِ ) وتمسّكوا بالنور الّذي أنزله إلى نبيّه( فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ ) ثواب مستحقّ قدّره بإزاء إيمانهم وعملهم، وهو الجنّة( وَفَضْلٍ ) إحسان زائد عليه، وهو تضعيف الحسنات والدرجات في الجنّة( وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ ) إلى الّذي يتفضّل به على أوليائه( صِراطاً مُسْتَقِيماً ) أي: يوفّقهم سلوك طريق من أنعم عليه من أصفيائه، الموصل إلى ثوابه العظيم وجنّات النعيم، وهو الدوام والثبات على منهاج الإسلام والطاعة.
( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦) )
ولـمّا بيّن الله في أوّل السورة بعض سهام الفرائض، ختم السورة ببيان ما بقي من ذلك، ليوافق الاختتام الافتتاح، فقال:( يَسْتَفْتُونَكَ ) أي: في الكلالة. وهو اسم للاخوة والأخوات، على ما روي عن أئمّتناعليهمالسلام . وقيل: هي ما سوى الوالد والولد. وقد مرّ(١) تفصيله في أوائل السورة. وحذفت لدلالة الجواب عليه. قالوا إنّه آخر ما نزل من أحكام الدين.
روي أنّ جابر بن عبد الله كان مريضا فعاده رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال: يا رسول الله إنّ لي كلالة فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت:( قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ) ذكر وأنثى( وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ) . ارتفع «امرؤ» بفعل يفسّره الظاهر. و «ليس له ولد» صفة له، أو حال عن المستكن في «هلك» أي: غير ذي ولد. والواو في «وله» يحتمل الحال والعطف. والمراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب، لأنّ ذكر أولاد الأمّ قد سبق(٢) في أوائل السورة، ولأنّه جعل أخاها عصبة، وقال:( فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) وابن الأمّ لا يكون عصبة. وقد مرّ في آية المواريث أنّ الأخت للأمّ لها السدس مسوّى بينها وبين أخيها.
( وَهُوَ يَرِثُها ) أي: المرء يرث أخته كلّ المال إن كان الأمر بالعكس( إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ) أي: إذا كانت غير ذات ولد، ذكرا كان أو أنثى. وقد دلّت السنّة والإجماع على أنّهم لا يرثون مع الأب.
( فَإِنْ كانَتَا ) أي: فإن كان من يرث الاخوة( اثْنَتَيْنِ ) تثنية الضمير محمولة على الخبر( فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ ) أي: ممّا ترك الأخ أو الأخت من التركة.
وفائدة الإخبار عنه باثنتين التنبيه على أنّ الحكم باعتبار العدد دون الصغر والكبر وغيرهما.
( وَإِنْ كانُوا ) وإن كان من يرث بالأخوّة. وجمع الضمير باعتبار الخبر كما
__________________
(١) راجع ص: ١٧.
(٢) راجع ص: ٢١.
مرّ.( إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً ) ذكورا وإناثا( فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) أصله: وإن كانوا إخوة وأخوات، فغلّب الذكر. والخلاف بين الفقهاء في هذه المسائل وأمثالها وفروعها مذكور في كتب الفقه، فمن أرادها فليرجع إليها.
( يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) أي: يبيّن الله لكم ضلالكم الّذي من شأنكم إذا خلّيتم وطباعكم، لتحترزوا عنه وتتحرّوا خلافه. والأصوب أنّ المضاف مقدّر، أي: كراهة أن تضلّوا. وقيل: لئلّا تضلّوا، فحذف «لا». وهو قول الكوفيّين. فالمعنى: يبيّن الله لكم جميع أحكام دينكم، كراهة أن تضلّوا أو لئلّا تضلّوا.
( وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ومن ذلك أمور معاشكم ومعادكم، فيخبركم بها في محياكم ومماتكم، على ما تقتضيه الحكمة وتوجبه المصلحة.
عن البراء بن عازب: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء:( يَسْتَفْتُونَكَ ) الآية. أورده البخاري ومسلم في صحيحهما(١) .
وقال جابر: نزلت بالمدينة. وقال ابن سيرين: نزلت في مسير كان فيه رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه.
وتسمّى هذه الآية آية الصيف، وذلك أنّ الله سبحانه أنزل في الكلالة آيتين، إحداهما في الشتاء، وهي الّتي في أوّل هذه السورة، والاخرى في الصيف، وهي هذه الآية.
وروي عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: سألت رسول الله عن الكلالة فقال: يكفيك أو يجزيك آية الصيف. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
__________________
(١) صحيح البخاري ٦: ٦٣، صحيح مسلم ٣: ١٢٣٧ ح ١٢.
(٥)
سورة المائدة
مدنيّة. وهي مائة وعشرون آية. وفي حديث أبيّ: من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر بعدد كلّ يهوديّ ونصرانيّ يتنفّس في دار الدنيا عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات.
وروى أبو الجارود عن الباقرعليهالسلام : «من قرأ سورة المائدة في كلّ يوم خميس لم يلبس إيمانه بظلم، ولا يشرك به أبدا».
وبإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال: «سمعت أبا عبد اللهعليهالسلام يقول: نزلت المائدة كمّلا، ونزل معها سبعون ألف ملك».
وروى العيّاشي بإسناده عن عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جدّه، عن عليٍّعليهالسلام قال: «كان القرآن ينسخ بعضه بعضا، وإنّما يؤخذ من أمر رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بآخره، وكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة، فنسخت ما قبلها، ولم ينسخها شيء. لقد نزلت عليه وهو على بغلة شهباء، وثقل عليه الوحي حتّى وقفت وتدلّى بطنها، حتّى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض، وأغمي على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى وضع يده على ذؤابة منبّه بن وهب الجمحي، ثمّ رفع ذلك عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم فقرأ علينا سورة المائدة، فعمل رسول الله وعملنا»(١) .
__________________
(١) تفسير العيّاشي ١: ٢٨٨ ح ٢.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) )
واعلم أنّه سبحانه لـمّا ختم سورة النساء بذكر أحكام الشريعة، افتتح سورة المائدة أيضا ببيان الأحكام، وأجمل ذلك بقوله: «وأوفوا بالعقود» ثمّ أتبعه بذكر التفصيل. فقال:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) الوفاء هو القيام بمقتضى العهد. وكذلك الإيفاء. يقال: وفا بعهده وأوفى بعهده، بمعنى: قام بمقتضى العهد. والعقد: العهد الموثّق. وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال.
والمراد بالعقود ما يعمّ عهود الله الّتي عقدها على عباده، وألزمها إيّاهم بالإيمان به، وطاعته فيما أحلّ لهم أو حرّم عليهم من التكاليف الشرعيّة العلميّة والعمليّة، وما يعقدون بينهم من عقود المعاملات والمناكحات والأمانات، ونحوها ممّا يجب الوفاء به أو يحسن، إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب.
ثمّ أخذ سبحانه في تفصيل العقود الّتي أمر بالوفاء بها مجملا، فقال:( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) البهيمة كلّ حيّ لا يميّز. وقيل: كلّ ذات أربع من دوابّ البرّ والبحر. وإضافتها إلى الأنعام للبيان، كخاتم فضّة. ومعناها: البهيمة من الأنعام، كقولك: ثوب خزّ. وهي الأزواج(١) الثمانية. وألحق بها الظباء وبقر الوحش، عن الكلبي. وقيل: هما المراد بالبهيمة ونحوهما ممّا يماثل الأنعام في الاجترار(٢) وعدم الأنياب. وحينئذ إضافتها إلى الأنعام لملابسة الشبه.
__________________
(١) وهي: الإبل، والبقر، والضأن، والمعز، الذكر والأنثى من كلّ منها.
(٢) اجترّ البعير: أعاد الأكل من بطنه فمضغه ثانية، وحيوان مجترّ: يجترّ طعامه.
روي عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهالسلام : «أنّ المراد بذلك أجنّة الأنعام الّتي توجد في بطون أمّهاتها إذا أشعرت، وقد ذكّيت الأمّهات وهي ميّتة، فذكاتها ذكاة أمّهاتها.
ونقل هذا عن ابن عبّاس وابن عمر. والأولى حمل الآية على الجميع.
( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) إلّا محرّم ما يتلى عليكم في القرآن، نحو قوله:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (١) الآية. أو: إلّا ما يتلى عليكم آية تحريمه.
( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ) حال من الضمير في «لكم»، أي: أحلّت لكم هذه الأشياء لا محلّين الصيد. وقال الأخفش: إنّه حال من واو «أوفوا». والصيد يحتمل المصدر والمفعول( وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) حال ممّا استكن في «محلّي الصيد». والحرم جمع حرام، وهو المحرم.( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) من تحليل أو تحريم بحسب مقتضى الحكمة والمصلحة.
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) )
ثم شرع في بيان حكم آخر من الأحكام الشرعيّة المأخوذ عهدها على
__________________
(١) المائدة: ٣.
العباد، فقال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) يعني: مناسك الحجّ وأعماله.
جمع شعيرة، وهي اسم ما أشعر، أي: ما جعل شعارا. سمّي به أعمال الحجّ ومواقفه، لأنّها علامات الحجّ وأعلام النسك. وقيل: الهدايا المعلمة للذبح بمكّة.
وقيل: دين الله، لقوله:( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ) (١) أي: دينه. وقيل: فرائضه الّتي حدّها لعباده. فالمعنى: لا تحلّوا حرمات الله، ولا تتعدّوا حدوده. والأوّل أصحّ وأشهر بين المفسّرين.
وروي عن أبي جعفرعليهالسلام : أنّ العرب كانوا لا يرون الصفا والمروة من الشعائر، ولا يطوفون بينهما، فناهم الله عن ذلك بهذه الآية.
( وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) بالقتال فيه، كما قال سبحانه:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) (٢) أو بالنسيء، كقوله:( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ ) (٣) . وهو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، ويجيء(٤) تفصيل ذلك في سورة التوبة. والأشهر الحرم هي: رجب، وشوّال، وذو القعدة، وذو الحجّة.
( وَلَا الْهَدْيَ ) ما أهدي إلى الكعبة، جمع هدية، كجدي في جمع جدية السرج، وهي شيء يحشى ثم يربط تحت دفّتي السرج.
( وَلَا الْقَلائِدَ ) أي: ذوات القلائد من الهدي. وعطفها على الهدي للاختصاص وزيادة التوصية بها، فإنّها أشرف الهدي، كقوله:( وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ ) (٥) . أو القلائد نفسها. والنهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرّض للهدي، كأنّه قيل: ولا تحلّوا قلائدها، فضلا عن أن تحلّوها. ونظيره قوله:( وَلا
__________________
(١) الحج: ٣٢.
(٢) البقرة: ٢١٧.
(٣) التوبة: ٣٧.
(٤) راجع ج ٣ / ١١٠.
(٥) البقرة: ٩٨.
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ ) (١) فنهي عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. والقلائد جمع قلادة، وهي ما قلّد به الهدي من نعل أو غيره ليعلم به أنّه هدي فلا يتعرّض له.
وإحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمتها ويضيّع، وأن يحال بينها وبين المتنسّكين بها، وأن يحدث في أشهر الحجّ ما يصدّ الناس به عن الحجّ، وأن يتعرّض للهدي بالغصب أو بالمنع من بلوغ محلّه.
( وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) قاصدين لزيارته، وهم الحجّاج والعمّار( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ ) في الآخرة( وَرِضْواناً ) أي: يطلبون أن يثيبهم ويرضى عنهم.
والجملة في موضع الحال من المستكن في «آمّين»، وليست صفة، لأنّه عامل والمختار أنّ اسم الفاعل الموصوف لا يعمل. والمراد استنكار تعرّض من هذا شأنه.
وقيل: معناه يبتغون من الله رزقا بالتجارة ورضوانا بزعمهم، إذ روي أنّ الآية نزلت في رجل يقال له الحطم بن هند البكري حين أتى النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم وحده وخلّف خيله خارج المدينة، فقال: إلى ما تدعو؟ قال: أدعوا إلى شهادة أن لا إله إلّا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. فقال: حسن، فأنظرني لعلّي أسلم، ولي من أشاوره.
وكان النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قد قال لأصحابه: يدخل عليكم اليوم من يتكلّم بلسان شيطان.
فلمّا خرج قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر. فمرّ بسرح(٢) من سروح المدينة فساقه وانطلق به، ثم أقبل في عام قابل حاجّا قد قلّد هديا، فأراد رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم أن يبعث إليه، فنزلت:( وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) .
وعلى التقديرين، معنى الآية: لا تقاتلوهم، لأنّ من قاتل فقد أحلّ، فكأنّه قال: لا تحلّوا قتال الآمّين البيت الحرام، وهو بيت الله بمكّة، سمّي حراما لحرمته.
وقيل: لأنّه يحرم فيه ما يحلّ في غيره.
وعلى التقدير الأخير، فالآية منسوخة بآية( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
__________________
(١) النور: ٣١.
(٢) السرح: الماشية.
وَجَدْتُمُوهُمْ ) (١) . ولم ينسخ من المائدة غير هذه الآية. وهذا قول أكثر المفسّرين.
وقيل: لم ينسخ من هذه السورة شيء ولا من هذه الآية، لأنّه لا يجوز أن يبدأ المشركين بالقتال إلّا إذا قاتلوا. وهو قول ابن جريج والحسن، ويروى عن الباقرعليهالسلام .
وهو أيضا موافق لـما ورد أنّ المائدة آخر ما نزلت.
قالصلىاللهعليهوآلهوسلم : «أحلّوا حلالها، وحرّموا حرامها».
وأيضا التخصيص خير من النسخ.
وذكر أبو مسلم أنّ المراد به الكفّار الّذين كانوا في عهد النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلمّا زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر، ودخلوا في حكم قوله تعالى:( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) (٢) .
( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) إذن في الاصطياد بعد زوال المحرّم وهو الإحرام، فهو إباحة بعد الحظر، كأنّه قيل: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا.
( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ ) لا يحملنّكم أو لا يكسبنّكم( شَنَآنُ قَوْمٍ ) شدّة بغضهم وعداوتهم. «جرم» مثل «كسب» في تعديته إلى مفعول واحد واثنين، تقول: جرم ذنبا وجرمته إيّاه، وكسب شيئا وكسبته إيّاه. والشنآن مصدر أضيف إلى المفعول أو الفاعل.
وقرأ ابن عامر وإسماعيل عن نافع وابن عيّاش عن عاصم بسكون النون. وهو أيضا مصدر كالليّان(٣) ، أو نعت بمعنى: بغيض قوم. وفعلان في النعت أكثر.
وقوله:( أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) متعلّق بـ «شنآن» أي: لأن صدّوكم عنه عام الحديبية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة، على أنّه شرط معترض، وجوابه محذوف أغنى عنه قوله: «لا يجر منّكم».
__________________
(١) التوبة: ٥.
(٢) التوبة: ٢٨.
(٣) ليّان مصدر: لوى يلوي أمره عنّي، أي: طواه وأخفاه.
( أَنْ تَعْتَدُوا ) بالانتقام. وهو ثاني مفعولي «يجرمنّكم». والمعنى: لا يحملنّكم بغض قوم على الاعتداء عليهم بالانتقام منهم، لصدّهم إيّاكم عن المسجد الحرام، وهو منع أهل مكّة رسول الله والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة.
( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) بأن يعين بعضكم بعضا على العفو والإغضاء ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى.( وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) للتشفّي والانتقام.
والأولى أن يكون محمولا على العموم، فيتناول كلّ برّ وتقوى، أي: كلّ عمل أمر الله به، واتّقاء كلّ ما نهاهم عنه، وكلّ إثم وظلم.
ثمّ أمر بالتقوى وأوعد لمن تعدّى حدوده، فقال:( وَاتَّقُوا اللهَ ) باجتناب كلّ المناهي والمحارم( إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) لأنّ ناره لا يطفى حرّها، ولا يخمد جمرها، فانتقامه أشدّ.
( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) )
ثمّ بيّن سبحانه ما استثناه في الآية المتقدّمة بقوله:( إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) ، فقال خطابا لجميع المكلّفين:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) هي ما فارقه الروح من غير
تذكية شرعيّة. واستثنى النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم من ذلك السمك والجراد بقوله: «أحلّ لكم ميتتان ودمان».
( وَالدَّمُ ) أي: الدم المسفوح، لقوله تعالى:( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) (١) . وكان أهل الجاهليّة يصبّونه في الأمعاء ويشوونها، ويقولون: لم يحرم من فزد له، أي: فصد له.
( وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) خصّ اللحم وإن كان شحمه وكلّ أجزائه محرّما، لأنّه المقصود بالأكل، وغيره تابع.
( وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ) أي: رفع الصوت لغير الله به، وهو قولهم: باسم اللات والعزّى عند ذبحه.
( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) الّتي ماتت بالخنق، سواء كان بخنق غيرها أو اختنقت من نفسها لعارض.
( وَالْمَوْقُوذَةُ ) المضروبة بنحو خشب أو حجر ـ ونحو ذلك من المثقل ـ حتّى تموت، من: وقذته إذا ضربته.
( وَالْمُتَرَدِّيَةُ ) الّتي تردّت من علوّ أو في بئر فماتت به( وَالنَّطِيحَةُ ) الّتي نطحتها اخرى فماتت به. والتاء فيها للنقل.
( وَما أَكَلَ السَّبُعُ ) أي: وما أكل منه السبع فمات. وهو يدلّ على أنّ جوارح الصيد إذا أكلت ممّا اصطادته لم تحلّ إلّا نادرا، للرواية.
( إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ ) إلّا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرّة من الأمور المذكورة، سوى ما لا يقبل الذكاة من الخنزير والميتة.
وعن الباقر والصادقعليهماالسلام : «أدنى ما يدرك به الذكاة أن يدركه يتحرّك أذنه أو ذنبه، أو تطرف عينه».
__________________
(١) الأنعام: ١٤٥.
والذكاة في الشرع بقطع الحلقوم والمريء بمحدّد. والموت وإن كان متصوّرا بسبب آخر غير الأسباب المذكورة، لكن لـمّا كانوا في الجاهليّة لا يعدّون الميّت إلّا ما مات حتف أنفه من دون شيء من هذه الأسباب، فأعلمهم الله تعالى بذكر هذه الأمور أنّ حكم الجميع واحد، وأنّ وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة فقط.
( وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ) هو واحد الأنصاب، وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت، يعبدونها ويذبحون عليها، ويعدّون ذلك قربة. و «على» بمعنى اللام، أو على أصلها بتقدير: وما ذبح مسمّى على الأصنام. وقيل: النصب جمع واحدها نصاب.
قال ابن جريج: ليست النصب أصناما، إنّما الأصنام ما تصوّر وتنقش، بل كانت أحجارا منصوبة حول الكعبة، وكانت ثلاثمائة وستّين حجرا ـ وقيل: كانت ثلاثمائة منها لخزاعة ـ فكانوا إذا ذبحوا أنضحوا(١) الدم على ما أقبل من البيت، وشرحوا(٢) اللحم وجعلوه على الأحجار. فقال المسلمون: يا رسول الله كان أهل الجاهليّة يعظّمون البيت بالدم، فنحن أحقّ بتعظيمها. فأنزل الله تعالى:( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ) (٣) الآية.
( وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) أي: وحرّم عليكم الاستقسام بالأقداح. وذلك أنّهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها: أمرني ربّي، وعلى الآخر: نهاني ربّي، وعلى الثالث: غفل. فإن خرج الآمر مضوا على ذلك، وإن خرج الناهي تجنّبوا عنه، وإن خرج الغفل أجالوها ثانيا. فمعنى الاستقسام: طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم لهم بالأزلام. وهي جمع الزلم كجمل، أو زلم كصرد.
__________________
(١) أي: رشّوا الدم.
(٢) شرح اللحم، أي: قطعه قطعا طوالا.
(٣) الحجّ: ٣٧.
وهي قداح لا ريش له.
وقيل: هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة. وذلك أنّ في الجاهليّة كانت عشرة أنفس يجتمعون ويشترون جزورا ويقسمونه على القدح العشرة. فالفذّ له سهم، والتوأم سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستّة أسهم، والمعلّى له سبعة أسهم، والسفيح والمنيح والوغد لا أنصباء لها. وكانوا يدفعون القداح إلى رجل فيجيلها، وكان ثمن الجزور على من تخرج هذه الثلاثة الّتي لا أنصباء لها. وهو القمار الّذي حرّمه اللهعزوجل .
وهذا القول رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقينعليهماالسلام .
والقرعة الشرعيّة المنقولة عن صاحب الشرع وأمنائه المعصومينعليهمالسلام مستثناة منه.
وقيل: هي كعاب فارس والروم الّتي كانوا يتقامرون بها. وهذا القول منقول عن مجاهد. وقيل: هي الشطرنج. وهذا منقول عن أبي سفيان بن وكيع.
( ذلِكُمْ فِسْقٌ ) إشارة إلى الاستقسام وكونه فسقا، لأنّه دخول في علم الغيب، وضلال باعتقاد أنّ ذلك طريق إليه، وافتراء على الله تعالى إن أريد بـ «ربّي»: الله، وجهالة وشرك إن أريد به الصنم. أو في الميسر المحرّم، أو إشارة إلى تناول ما حرّم عليهم.
( الْيَوْمَ ) لم يرد به يوما بعينه، وإنّما أراد الزمان الحاضر وما يتّصل به من الأزمنة الآتية، كقولك: كنت بالأمس شابّا وأنت اليوم أشيب. فلا يريد بالأمس اليوم الّذي قبل يومك، ولا باليوم يومك. وقيل: أراد يوم نزولها، وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة عرفة حجّة الوداع. والمعنى: الآن إلى آخر الدهر.
( يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) أي: من إبطاله ورجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث وغيرها. أو يئسوا من أن يغلبوا على دينكم، لأنّ الله تعالى وفي بوعده من
إظهاره على الدين كلّه( فَلا تَخْشَوْهُمْ ) أن يظهروا عليكم بعد إظهار الدين وزوال الخوف منكم، إذا انقلبوا مغلوبين بعد أن كانوا غالبين( وَاخْشَوْنِ ) وأخلصوا الخشية لي.
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) بالنصر والإظهار على الأديان كلّها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرائع وجميع ما تحتاجون إليه في تكليفكم، من الحلال والحرام والفرائض والأحكام، على وجه لا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم.
( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) بالهداية والتوفيق، وأعطيتكم من العلم والحكمة ما لم يعط قبلكم نبيّ ولا أمّة. أو بإكمال الدين، أو بفتح مكّة وهدم منار الجاهليّة.
وقال في الجامع: «معناه: وأتممت عليكم نعمتي بولاية عليّ بن أبي طالبعليهالسلام . ثم قال: روي عن الباقر والصادقعليهماالسلام : أنّه إنّما نزلت بعد أن نصب النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم عليّا عليهم السّلام علما للأنام يوم غدير خمّ منصرفا من حجّة الوداع، وهي آخر فريضة أنزلها الله، لم ينزل بعدها فريضة»(١) .
( وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ ) اخترته لكم( دِيناً ) من بين الأديان، وهو الدين عند الله لا غير.
وقال في المجمع: «وقد حدّثنا السيّد العالم أبو الحمد بن نزار الحسيني، قال: حدّثنا أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني(٢) ، قال: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي، قال: أخبرنا أبو بكر الجرجاني، قال: حدّثنا أبو أحمد البصري، قال: حدّثنا أحمد بن عمّار بن خالد، قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: حدّثنا قيس بن الربيع، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري: أنّ رسول
__________________
(١) جوامع الجامع ١: ٣٥٩.
(٢) شواهد التنزيل: ١: ٢٠١ ح ٢١١.
اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم لـمّا نزلت هذه الآية قال: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي، وولاية عليّ بن أبي طالب من بعدي. وقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، أللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله»(١) .
وقوله:( فَمَنِ اضْطُرَّ ) متّصل بذكر المحرّمات، وما بينهما اعتراض لـما يوجب التجنّب عنها، وهو أنّ تناولها فسوق، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامّة والإسلام المرضيّ. والمعنى: فمن دعته الضرورة إلى تناول شيء من هذه المحرّمات( فِي مَخْمَصَةٍ ) في مجاعة( غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ ) غير مائل له ومنحرف إليه، بأن يأكلها تلذّذا أو مجاوزا حدّ الرخصة، نحو قوله تعالى:( غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ) (٢) ( فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) لا يؤاخذه بأكله.
( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) )
ولـمّا قدّم سبحانه ذكر المحرّمات عقّبه بذكر ما أحلّ، فقال:( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ) «ماذا» مبتدأ و «أحلّ لهم» خبره، أي: أيّ شيء حلّ لهم من المطاعم، كأنّهم حين تلا عليهم المآكل المحرّمة سألوا عمّا أحلّ لهم منها. ولم يقل: ماذا أحلّ لنا، حكاية لـما قالوه، لأنّ «يسألونك» بلفظ الغيبة، وهذا كما تقول: أقسم زيد ليفعلنّ. ولو قيل: لأفعلنّ وأحلّ لنا، لجاز.
__________________
(١) مجمع البيان ٣: ١٥٩.
(٢) البقرة: ١٧٣، الأنعام: ١٤٥.
( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) وهو كلّ ما لم يأت تحريمه في الكتاب والسنّة( وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ) عطف على الطيّبات إن جعلت «ما» موصولة على تقدير: وصيد ما علّمتم، وجملة شرطيّة إن جعلت شرطا، وجوابها «فكلوا».
والجوارح كواسب الصيد على أهلها من سباع الطير والبهائم، فحذف لدلالة قوله: «ممّا أمسكن» عليه، ولأنّه جواب عن سؤال السائل عن الصيد.
وقيل: الجوارح الكلاب فقط. وهذا منقول عن ابن عمر والضحّاك والسدّي.
وهو المرويّ عن أئمّتناعليهمالسلام ، فإنّهم قالوا: هي الكلاب المعلّمة خاصّة، أحلّه الله تعالى إذا أدركه صاحبه وقد قتلته، لقوله:( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ. )
وروي: «كلّ شيء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلّا الكلاب المعلّمة، فإنّها تمسك على صاحبها».
وقال: «إذا أرسلت الكلب المعلّم، فاذكر اسم الله عليه، فهو ذكاته، وهو أن تقول: بسم الله والله أكبر».
وعند فقهائنا مطلق الذكر كاف. وعند الجمهور من الفقهاء أنّ الجوارح بمعنى الكواسب مطلقا، أعمّ من أن يكون من سباع الطير والبهائم. والصحيح ما قال الأئمّة المعصومونعليهمالسلام ، فإنّ الحقّ معهم حيث داروا، لا مع غيرهم.
وروى عليّ بن إبراهيم(١) في تفسيره بإسناده عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: «سألته عن صيد البزاة والصقور والفهود والكلاب؟ فقال: لا تأكل إلّا ما ذكّيت إلّا الكلاب. قلت: فإن قتله؟ قال: كل، فإنّ الله يقول:( وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ) .
( مُكَلِّبِينَ ) مؤدّبين إيّاه الصيد ومضرّيه(٢) به. مشتقّ من الكلب. وانتصابه على الحال من «علّمتم». وفيه دلالة على أنّه لا يكون التعليم إلّا للكلب. والكلب
__________________
(١) تفسير عليّ بن إبراهيم ١: ١٦٢.
(٢) ضرّى الكلب بالصيد: عوّده إيّاه وأغراه به.
وإن أطلق على كلّ سبع، لقولهعليهالسلام : «اللهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك»(١) لكنّه حقيقة في هذا المعهود، فيكون الاشتقاق منه، فيكون مقيّدا مخصّصا لمطلق الجوارح. ولذلك قسّم أصحابنا صيد الجوارح إلى قسمين: ما أدرك ذكاته فلا يحلّ إلّا بالتذكية مطلقا، وما لم يدرك ذكاته إن كان مقتول الكلب فهو حلال، وإلّا فهو حرام، صيد أيّ الجوارح كان، كما نقل عن الباقر والصادقعليهماالسلام .
ويؤيّد ما قلناه ما روي أنّ جبرئيل نزل إلى النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم فوقف بالباب فاستأذن، فأذن له فلم يدخل، فخرج النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم إليه وقال: قد أذنّا لك. فقالعليهالسلام : إنّا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب. فنظروا فإذا في بعض بيوتهم كلب، فقالصلىاللهعليهوآلهوسلم : لا أدع كلبا بالمدينة إلّا قتلته، فهربت الكلاب حتى بلغت العوالي. فلمّا نزلت الآية قالوا: يا رسول الله كيف نصيد بها وقد أمرت بقتلها؟ فسكت رسول الله، فجاءه الوحي بالإذن في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها. فاستثنى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث، وأذن باتّخاذها.
( تُعَلِّمُونَهُنَ ) حال ثانية أو استئناف( مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ ) من علم التكليف.
وفيه دلالة على كون التعليم أمرا مستفادا كيفيّته من الشارع، فقال أصحابنا نقلا عن أئمّتهم أنّ التعليم يحصل بأمور، ألف: الاسترسال إذا أغري. بـ: الانزجار إذا زجر.
ج: أن لا يعتاد أكل الصيد. د: الاستمرار على ذلك غالبا، ولا اعتبار بالندرة نفيا وإثباتا.
( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) وهو ما لم تأكل منه، لقولهعليهالسلام لعديّ بن حاتم: «إن أكل منه فلا تأكل، إنّما أمسك على نفسه».
وإليه ذهب أكثر أصحابنا والفقهاء.
( وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ ) الضمير لـ «ما علّمتم». والمعنى: سمّوا عليه عند إرساله. أو لـما أمسكن، بمعنى: سمّوا عليه إذا أدركتم ذكاته.( وَاتَّقُوا اللهَ ) في محرّماته، ولا تقربوا ما نهاكم عنه( إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) فيؤاخذكم بما جلّ ودقّ.
__________________
(١) في الكشّاف ١: ٦٠٦، قال بعد نقل الحديث: فأكله الأسد. ومعه يتمّ الاستشهاد بالحديث.