زبدة التفاسير الجزء ٣
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637
وفّيته حقّه، وتريد به وفاء بعضه ولو مجازا.
( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) )
ثمّ بيّن أنّ تكذيب هؤلاء الكفّار بالّذي آتيناك، كتكذيب أولئك بالكتاب الّذي آتيناه موسى، فقال:( لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ) فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف هؤلاء في القرآن.
( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) يعني: كلمة إنظار العذاب إلى يوم القيامة( لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) بين قوم موسى، أو بين قومك، بإنزال ما يستحقّه المبطل ليتميّز به عن المحقّ( وَإِنَّهُمْ ) وإن كفّار قومك( لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ) من القرآن( مُرِيبٍ ) موقع في الريبة.
( وَإِنَّ كُلًّا ) التنوين عوض المضاف إليه، أي: وإن كلّ المختلفين فيه، المؤمنين منهم والكافرين. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالتخفيف(١) مع الإعمال، اعتبارا للأصل.( لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ) ربّهم( رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ) اللام في «لمّا» موطّئة للقسم، والثانية للتأكيد، أو بالعكس. و «ما» مزيدة بين اللامين للفصل. والمعنى: وإنّ جميعهم والله ليوفّينّهم ربّك جزاء أعمالهم، من حسن وقبح، وإيمان وكفر.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: لـمّا بالتشديد، على أنّ أصله: لمن ما، فقلبت النون ميما للإدغام، فاجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت أولاهنّ. والمعنى: لمن الّذين
__________________
(١) أي: بتخفيف «إنّ».
يوفّينّهم ربّك جزاء أعمالهم.
( إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) فلا يفوته شيء منه وإن خفي.
( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) )
ولـمّا بيّن أمر المختلفين في التوحيد والنبوّة، وأطنب في شرح الوعد والوعيد، أمر رسوله بالاستقامة مثل ما أمر بها، فقال:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) أي: فاستقم مثل الاستقامة الّتي أمرت بها، على جادّة الحقّ، غير عادل عنها.
وهذه الاستقامة شاملة للاستقامة في العقائد، كالتوسّط بين التشبيه والتعطيل، بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين، وفي الأعمال، من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات، من غير إفراط وتفريط مفوّت للحقوق ونحوها. وهي في غاية العسر، ولذلك قالصلىاللهعليهوآلهوسلم : «شيّبتني سورة هود»، كما نقل عن ابن عبّاس أنّه قال: ما نزلت آية كانت أشدّ ولا أشقّ على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم من هذه الآية. ولهذا قال: «شيّبتني سورة هود والواقعة وأخواتهما».
وروي أنّ بعض أصحابه قال: «قد أسرع فيك الشيب. فقال: شيّبتني سورة هود. فقال: ما الّذي شيّبك منها، أقصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال: لا، ولكن قوله:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) .
وعن الصادقعليهالسلام :( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) معناه: افتقر إلى الله بصحّة العزم»(١) .
( وَمَنْ تابَ مَعَكَ ) عطف على المستكن في «استقم» وإن لم يؤكّد بمنفصل، لقيام الفاصل مقامه. والمعنى: فاستقم أنت ليستقم من تاب من الشرك
__________________
(١) رواه في الكشّاف ٢: ٤٣٣.
والكفر وآمن معك.
( وَلا تَطْغَوْا ) ولا تخرجوا عمّا حدّ لكم من حدود الله( إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) فهو مجازيكم عليه. وهو في معنى التعليل للأمر والنهي.
وفي الآية دليل على وجوب اتّباع النصوص من غير تصرّف وانحراف، بنحو قياس واستحسان.
( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) )
ثمّ نهى الله سبحانه عن المداهنة في الدين والميل إلى الظالمين، فقال:( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) ولا تميلوا إلى الّذين وجد منهم الظلم ادنى ميل، فإنّ الركون هو الميل اليسير، كالتزيّي بزيّهم، وتعظيم ذكرهم، وكذا الرضا بفعلهم، ومصاحبتهم ومداهنتهم، ومدّ العين إلى زهرتهم( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) بركونكم إليهم.
وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمّى ظلما كذلك، فما ظنّك بالركون إلى الظالمين ـ أي: الموسومين بالظلم ـ ثمّ بالميل إليهم كلّ الميل، ثمّ بالظلم نفسه، والانهماك فيه؟! وقال سفيان: في جهنّم واد لا يسلكها إلّا القرّاء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا. وعن محمّد بن مسلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء.
وقال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى الله في أرضه».
وقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برّيّة هل يسقى شربة ماء؟ قال: لا. فقيل: يموت؟ فقال: دعه يموت.
والآية أبلغ ما يتصوّر في النهي عن الظلم والتهديد عليه. وخطاب الرسول ومن معه من المؤمنين للتثبيت على الاستقامة الّتي هي العدل، فإنّ الزوال عن الاستقامة بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط.
( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ) من أنصار يمنعون العذاب عنكم. والواو للحال من قوله:( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) أي: فتمسّكم النار وأنتم على هذه الحال.( ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) أي: ثمّ لا ينصركم الله، إذ سبق في حكمه أن يعذّبكم ولا يبقي عليكم.
و «ثمّ» لاستبعاد نصره إيّاهم، وقد أوعدهم بالعذاب عليه وأوجبه لهم.
قال في المجمع: «الركون إلى الظالمين المنهيّ عنه هو الدخول معهم في ظلمهم، وإظهار الرضا بفعلهم، أو إظهار موالاتهم. فأمّا الدخول عليهم أو مخالطتهم ومعاشرتهم دفعا لشرّهم فجائز. وقريب منه ما روي عن أئمّتناعليهمالسلام »(١) .
( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ) غدوة وعشيّة. وانتصابه على الظرف، لأنّه مضاف إلى النهار، كقولك: أقمت عنده جميع النهار، وأتيته نصف النهار وأوّله وآخره.( وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) وساعات منه قريبة من النهار، فإنّه من: أزلفه إذا قربه. وهو جمع زلفة.
وصلاة الغداة صلاة الصبح، لأنّها أقرب الصلوات من أوّل النهار. وصلاة العشيّة العصر. وقيل: المغرب. وقيل: الظهر والعصر، لأنّ ما بعد الزوال عشيّ.
__________________
(١) مجمع البيان ٥: ٢٠٠.
وصلاة الزلف: العشاء الآخرة. وقيل: صلاة طرفي النهار: الغداة والظهر والعصر. وصلاة زلف الليل: المغرب والعشاء الآخرة.
وعن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «المغرب والعشاء زلفتا الليل».
( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) يكفّرنها. قال أكثر المفسّرين: إن الصلوات الخمس تكفّر ما بينها من الذنوب، لأنّ الحسنات معرّفة باللام. وقد تقدّم ذكر الصلوات.
( ذلِكَ ) إشارة إلى قوله: «فاستقم» وما بعده. وقيل: إلى القرآن.( ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ) عظة للمتّعظين.
قيل: نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري، كان يبيع التمر، فأتته امرأة فأعجبته، فقال لها: إنّ في البيت أجود من هذا التمر. فذهبت إلى بيته، فضمّها إلى نفسه وقبّلها. فقالت له: اتّق الله. فتركها وندم، فأتى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبره بما فعل. فقال: أنتظر أمر ربّي. فلمّا صلّى صلاة العصر نزلت هذه الآية. فقال: نعم، اذهب فإنّها كفّارة لـما عملت.
وروى الواحدي بإسناده عن حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيد، عن أبي عثمان، قال: «كنت مع سلمان تحت شجرة، فأخذ غصنا يابسا منها فهزّه حتّى تحاتّ ورقه، ثمّ قال: يا أبا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت: ولم تفعله؟ قال: إنّ المسلم إذا توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ صلّى الصلوات الخمس تحاتّت خطاياه كما يتحاتّ هذا الورق، ثمّ قرأ هذه الآية:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ ) إلى آخرها»(١) .
وبإسناده عن أبي أمامة قال: «بينما رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في المسجد ونحن قعود معه إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله إنّي أصبت حدّا فأقمه. فقال: هل شهدت
__________________
(١) الوسيط ٢: ٥٩٥ ـ ٥٩٦.
الصلاة معنا؟ قال: نعم، يا رسول الله. قال: فإنّ الله قد غفر لك حدّك، أو قال: ذنبك»(١) .
وبإسناده عن الحارث، عن عليّ بن أبي طالبعليهالسلام قال: «كنّا مع رسول الله في المسجد ننتظر الصلاة، فقام رجل فقال: يا رسول الله إنّي أصبت ذنبا. فأعرض عنه. فلمّا قضى النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم الصلاة قام الرجل فأعاد القول. فقال النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : أليس قد صلّيت معنا هذه الصلاة وأحسنت لها الطهور؟ قال: بلى. قال: فإنّها كفّارة ذنبك»(٢) .
ورووا عن أبي حمزة الثمالي قال: «سمعت أحدهماعليهماالسلام يقول: إنّ عليّاعليهالسلام أقبل على الناس فقال: أيّ آية في كتاب الله أرجى عندكم؟
فقال بعضهم:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) (٣) .
فقال: حسنة، وليست إيّاها.
وقال بعضهم:( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ) (٤) .
قال: حسنة، وليست إيّاها.
وقال بعضهم:( يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ) (٥) الآية.
فقال: حسنة، وليست إيّاها.
وقال بعضهم:( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا ) (٦) الآية.
قال: حسنة، وليست إيّاها.
__________________
(١) الوسيط ٢: ٥٩٤ ـ ٥٩٥.
(٢) الوسيط ٢: ٥٩٥.
(٣) النساء: ٤٨ و ١١٠.
(٤) النساء: ٤٨ و ١١٠.
(٥) الزمر: ٥٣.
(٦) آل عمران: ١٣٥.
قال: ثمّ أحجم(١) الناس. فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟
فقالوا: لا والله ما عندنا شيء.
قال: سمعت حبيبي رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم يقول: أرجى آية في كتاب الله:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ) . وقرأ الآية كلّها. يا عليّ، والذي بعثني بالحقّ بشيرا ونذيرا إنّ أحدكم ليقوم من وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب، فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه، لم ينفتل(٢) وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمّه، فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك، حتّى عدّ الصلوات الخمس.
ثمّ قال: يا عليّ إنّما منزلة الصلوات الخمس لأمّتي كنهر جار على باب أحدكم، فما يظنّ أحدكم لو كان في جسده درن(٣) ، ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات، أكان يبقى في جسده درن؟! فكذلك والله الصلوات الخمس لأمّتي».
وقيل:( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) معناه: أنّ الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيّئات، فكأنّها تذهب بها.
وقيل: إنّ المراد بالحسنات التوبة، فإنّها تذهب السيّئات، بأن تسقط عقابها، لأنّه لا خلاف في أنّ العقاب يسقط عند التوبة.
( وَاصْبِرْ ) على الطاعات، وعن المعاصي( فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) عدول عن المضمر ليكون كالبرهان على المقصود ـ والّذي هو الأمر بالصبر ـ ودليلا على أنّ الصلاة والصبر إحسان دائما.
وهذه الآيات اشتملت على الاستقامة، وإقامة الصلوات، والانتهاء عن الطغيان، وعن الركون إلى الظلمة، وغير ذلك من الحسنات.
__________________
(١) أي: كفّوا وامتنعوا.
(٢) أي: لم ينصرف.
(٣) الدرن: الوسخ.
( فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) )
ولـمّا ذكر سبحانه إهلاك الأمم الماضية والقرون الخالية، عقّب ذلك بأنّهم أتوا في هلاكهم من قبل نفوسهم، ولو كان فيهم مؤمنون يأمرون بالصلاح وينهون عن الفساد لـما استأصلناهم رحمة منّا، ولكنّهم لـمّا عمّهم الكفر استحقّوا عذاب الاستئصال، فقال بيانا لذلك:( فَلَوْ لا كانَ ) أي: فهلّا كان. وقد حكوا عن الخليل كلّ «لولا» في القرآن فمعناها: هلّا، إلّا الّتي في الصافّات(١) ،( لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ ) (٢) ( وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ ) (٣) ( وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ ) (٤) .
( مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ ) من الرأي والعقل، أو أولوا فضل وخير.
وإنّما سمّي بقيّة لأنّ الرجل يستبقي أفضل ما يخرجه وأجوده، فصار مثلا في الفضل والجودة، ومنه يقال: فلان من بقيّة القوم، أي: من خيارهم. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى البقوى، كالتقيّة بمعنى التقوى، أي: ذوو بقاء على أنفسهم
__________________
(١) الصافّات: ٥٧.
(٢) القلم: ٤٩.
(٣) الفتح: ٢٥.
(٤) الإسراء: ٧٤.
وصيانة لها من العذاب.
( يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ ) لكن قليلا منهم أنجيناهم، لأنّهم كانوا كذلك. ولا يصحّ اتّصال «إلّا» إلّا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض.
( وَاتَّبَعَ ) عطف على مضمر دلّ عليه الكلام، إذ المعنى: فلم ينهوا عن الفساد واتّبع( الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ ) ما انعموا فيه من الشهوات، واهتمّوا بتحصيل أسبابها، وأعرضوا عمّا وراء ذلك( وَكانُوا مُجْرِمِينَ ) عطف على «اتّبع» أو اعتراض. ومعنى «مجرمين»: كافرين. كأنّه أراد أن يبيّن ما كان سببا لاستئصال الأمم السالفة، وهو فشوّ الظلم فيهم، واتّباعهم للهوى، وترك النهي عن المنكرات، مع الكفر.
( وَما كانَ رَبُّكَ ) وما صحّ وما استقام( لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ ) اللام لتأكيد النفي. والظلم بمعنى الشرك، أي: لا يصحّ في حكمته أن يهلك أهل القرى بسبب شركهم( وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) يتعاطون الحقّ فيما بينهم، ولا يضمّون إلى شركهم فسادا وتباغيا، كما روي عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال: «وأهلها مصلحون» أي: أنصف بعضهم بعضا، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه، ومن ذلك قدّم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقّ العباد. وقيل: الملك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم.
وقيل: معناه: وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم منه، ولكن إنّما يهلكهم بظلمهم لأنفسهم، كما قال:( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ) (١) .
وقيل: المعنى لا يؤاخذهم بظلم واحد مع أنّ أكثرهم مصلحون، ولكن إذا عمّ الفساد وظلم الأكثرون عذّبهم.
__________________
(١) يونس: ٤٤.
( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣) )
ثمّ أخبر سبحانه عن كمال قدرته، فقال:( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ) لاضطرّ الناس وقسرهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة، أي: ملّة واحدة، وهي ملّة الإسلام، كقوله:( إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ) (١) . وذلك بأن يخلق في قلوبهم العلم بأنّهم لو راموا غير ذلك لمنعوا منه. ولكن ذلك ينافي التكليف، ويبطل الغرض بالتكليف، لأنّ الغرض استحقاق الثواب، والإلجاء يمنع من استحقاق الثواب، فلذلك لم يشأ الله ذلك، بل مكّنهم من الاختيار الّذي هو أساس التكليف، ليستحقّوا الثواب، فاختار بعضهم الحقّ وبعضهم الباطل.
( وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) أي: في الأديان، يهوديّ ونصرانيّ ومجوسيّ وغير ذلك( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) أي: إلّا ناسا من المؤمنين، فإنّه سبحانه هداهم ولطف بهم ،
__________________
(١) الأنبياء: ٩٢.
فاتّفقوا على ما هو أصول دين الحقّ، غير مختلفين فيه. والمعنى: ولا يزالون مختلفين بالباطل إلّا من رحم الله بفعل اللطف لهم، وهم الّذين يؤمنون بجميع أنبيائه ورسله وكتبه، فإنّ من هذه صورته ناج من الاختلاف بالباطل.
( وَلِذلِكَ ) إشارة إلى ما دلّ عليه الكلام الأوّل. يعني: ولذلك التمكين والاختيار الّذي كان عنه الاختلاف( خَلَقَهُمْ ) ليثيب الّذي يختار الحقّ بحسن اختياره، ويعاقب من يختار الباطل بسوء اختياره.
أو إشارة إلى الرحمة في قوله: «رحم ربّك». وعدم تأنيث اسم الاشارة باعتبار معناه، وهو الفضل والإنعام والإحسان، كقوله:( إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ ) (١) بتذكير الخبر باعتبار معناه.
وقيل: إشارة إلى الاختلاف، واللام للعاقبة. يريد: أنّ الله خلقهم وعلم أنّ عاقبتهم تؤل إلى الاختلاف المذموم، كما قال:( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ ) (٢) .
أو إشارة إلى اجتماعهم على الإيمان، وكونهم فيه أمّة واحدة، لقوله:( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٣) .
( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ) وعيده، أو قوله للملائكة:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ) من عصاتهما( أَجْمَعِينَ ) لعلمه بكثرة من يختار الباطل. ومعنى «تمّت»: وقع مخبرها على ما اخبر به، أو وجب قول ربّك، أو مضى حكم ربّك.
( وَكُلًّا ) وكلّ نبأ( نَقُصُّ عَلَيْكَ ) نخبرك به( مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ) بيان لـ «كلّا» أو بدل منه. وفائدته التنبيه على المقصود من الاقتصاص، وهو زيادة يقينه، وطمأنينة قلبه، وثبات نفسه على أداء الرسالة، واحتمال أذى الكفّار، فإنّ تكاثر الأدلّة أثبت للقلب، وأرسخ للعلم. أو مفعول، و «كلّا» منصوب
__________________
(١، ٢) الأعراف: ٥٦ و ١٧٩.
(٣) الذاريات: ٥٦.
على المصدر، بمعنى: كلّ نوع من أنواع الاقتصاص نقصّ عليك ما نثبّت به فؤادك من أنباء الرسل.
( وَجاءَكَ فِي هذِهِ ) السورة، أو الأنباء المقتصّة عليك بالأساليب المختلفة( الْحَقُ ) أي: ما هو حقّ وصدق( وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى ) وتذكرة( لِلْمُؤْمِنِينَ ) إشارة إلى سائر فوائده العامّة.
( وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) من أهل مكّة وغيرهم( اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ) على حالكم الّتي أنتم عليها، مثل قوله:( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) (١) .
( إِنَّا عامِلُونَ ) على حالنا ممّا أمرنا الله به.
( وَانْتَظِرُوا ) بنا الدوائر( إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) أن ينزل بكم نحو ما قصّ الله من النقم النازلة على أمثالكم.
( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) خاصّة، لا يخفى عليه خافية ممّا فيهما، فلا يخفى عليه أعمالكم.
وما نقل عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ورواه(٢) عنه الخاصّ والعامّ من الإخبار بالغائبات في خطب الملاحم وغيرها، وكذا ما نقل عن أولاده المعصومينعليهمالسلام من الأمور الغيبيّة، فهو متلقّى عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم ممّا اطّلعه الله عليه.
فلا معنى لنسبة من روى عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنّه يعتقد كونهم عالمين بالغيب، كما اعترض ذلك بعض المخالفين على الشيعة الإماميّة عنادا وتعصّبا وعداوة. وهل هذا إلّا سبب قبيح وتضليل لهم، بل تكفير لا يرتضيه من هو بالمذهب خبير؟ والله يحكم بينه وبينهم وإليه المصير، كما قال:( وَإِلَيْهِ ) وإلى حكمه( يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ) فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه، فينتقم لك منهم.
__________________
(١) فصّلت: ٤٠.
(٢) انظر الأحاديث الغيبيّة ٢: ١٢٩ وبعدها.
وقرأ نافع وحفص: يرجع على البناء للمفعول.
( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) فإنّه كافيك أمرهم وناصرك عليهم. وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكّل تنبيه على أنّ التوكّل إنّما ينفع العابد.( وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) أنت وهم، فيجازي ما تستحقّه. وقرأ نافع وابن عامر وحفص هنا وفي آخر النمل بالياء.
روي عن كعب الأحبار أنّه قال: خاتمة التوراة خاتمة هود.
(١٢)
سورة يوسف
آيها مائة وإحدى عشرة آية بالإجماع.
أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «علّموا أرقّاءكم سورة يوسف، فإنّه أيّما مسلم تلاها وعلّمها أهله وما ملكت يمينه هوّن الله تعالى عليه سكرات الموت، وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلما».
وروى أبو بصير عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: «من قرأ سورة يوسف في كلّ يوم أو في كلّ ليلة، بعثه الله يوم القيامة وجماله مثل جمال يوسف، ولا يصيبه فزع يوم القيامة، وكان من خيار عباد الله الصالحين. وقال: إنّها كانت في التوراة مكتوبة».
وروى إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد اللهعليهالسلام عن أبيه عن آبائه قال: قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تنزلوا نساءكم الغرف، ولا تعلّموهنّ الكتابة، ولا تعلّموهنّ سورة يوسف، وعلّموهنّ المغزل وسورة النور».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) )
ولـمّا ختم الله تعالى سورة هود بذكر قصص الرسل، افتتح هذه السورة بأنّ من تلك القصص قصّة يوسف وإخوته، وأنّها من أحسن القصص، فقال:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) «تلك» إشارة إلى آيات السورة، وهي المراد بالكتاب، أي: تلك الآيات آيات السورة الظاهر أمرها في الإعجاز، أو الواضحة معانيها، أو المبيّنة لمن تدبّرها أنّها من عند الله، أو لليهود ما سألوا، إذ روي أنّ علماءهم قالوا لكبراء المشركين: اسألوا محمّدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر، وعن قصّة يوسف؟ فنزلت.
( إِنَّا أَنْزَلْناهُ ) أي: الكتاب( قُرْآناً عَرَبِيًّا ) بدل من الهاء، أو حال. وهو في نفسه إمّا توطئة للحال الّتي هي «عربيّا»، كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، فإنّ «رجلا» توطئة للحال، وهو «صالحا». أو هو الحال، لأنّه مصدر بمعنى مفعول، أي: مقروءا، و «عربيّا» صفة له. أو حال من الضمير في القرآن. أو حال بعد حال.
وفي كلّ ذلك خلاف.
وسمّى البعض قرآنا، لأنّه في الأصل اسم جنس يقع على الكلّ والبعض.
وصار علما للكلّ بغلبة الاسميّة، كالنجم للثريّا.
( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) علّة لإنزاله بهذه الصفة، أي: أنزلناه مجموعا أو مقروءا بلغتكم كي تفهموه وتحيطوا بمعانيه، أو تستعملوا فيه عقولكم، فتعلموا أنّ اقتصاصه كذلك ممّن لم يتعلّم القصص معجز لا يتصوّر إلّا بالإيحاء.
( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) أحسن الاقتصاص، لأنّه اقتصّ على أبدع أسلوب وأعجب نظم. وهو مصدر، تقول: قصّ الحديث يقصّه قصصا، كقولهم: شلّه يشلّه شللا إذا طرده. أو «فعل» بمعنى مفعول، كالنقض والسّلب، ونحوه النّبأ والخبر بمعنى: المنبأ والمخبر به، أي: أحسن ما يقصّ، لاشتماله على الحكم والآيات، والعبر والنكت، وسائر العجائب الّتي ليست في غيرها. واشتقاقه
من: قصّ أثره، إذا اتّبعه، لأنّ الّذي يقصّ الحديث يتّبع ما حفظ منه شيئا فشيئا، كما يقال: تلا القرآن إذا قرأه، لأنّه يتلو ـ أي: يتبع ـ ما حفظ منه آية بعد آية.
( بِما أَوْحَيْنا ) مصدريّة، أي: بإيحائنا( إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ) يعني: السورة.
ويجوز أن يكون «هذا» مفعول «نقصّ» على أن «أحسن القصص» نصب على المصدر.
ثمّ علّل لكونه موحى، فقال:( وَإِنْ كُنْتَ ) وإنّ الشأن كنت( مِنْ قَبْلِهِ ) قبل إيحائنا هذه القصّة إليك( لَمِنَ الْغافِلِينَ ) عنها، ولم تخطر ببالك، ولم تقرع سمعك قطّ. و «إن» هي المخفّفة من الثقيلة، واللام هي الفارقة.
( إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) )
ثمّ ابتدأ بقصّة يوسف، فقال:( إِذْ قالَ يُوسُفُ ) منصوب بتقدير: اذكر. أو بدل من «أحسن القصص» ـ إن جعل مفعولا ـ بدل الاشتمال، لأنّ الوقت يشتمل على ما يقصّ فيه. ويوسف عبريّ، ولو كان عربيّا لصرف.
( لِأَبِيهِ ) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمعليهمالسلام . وعن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».
( يا أَبَتِ ) أصله: يا أبي، فعوّض عن الياء تاء التأنيث، لتناسبهما في الزيادة، ولذلك قلبها هاء في الوقف ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. وكسرها، لأنّها عوض حرف يناسب الكسرة، إلّا ابن عامر فإنّه فتحها في كلّ القرآن، لأنّها حركة أصلها، أو لأنّه كان: يا أبتا، فحذف الألف وبقي الفتحة. وإنّما جاز: يا أبتا، ولم يجز: يا أبتي، لأنّه جمع بين العوض والمعوّض. وإنّما لم تسكن التاء كأصلها، وهو: يا أبي، لأنّ التاء حرف صحيح نزّل منزلة الاسم، فيجب تحريكها، ككاف الخطاب.
( إِنِّي رَأَيْتُ ) من الرؤيا لا من الرؤية، لقوله:( لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ ) ، وقوله:( هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ ) .( أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) .
روي عن جابر أنّ يهوديّا جاء إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم فقال: «أخبرني يا محمّد عن النجوم الّتي رآهنّ يوسف. فسكت، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك. فقال: إن أخبرتك فهل تسلم؟ قال: نعم. قالعليهالسلام : جريان، والطارق، والذيّال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروح، والفرغ، ووثاب، وذو الكتفين، رآها يوسفعليهالسلام ، والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له. فقال اليهوديّ: إي والله إنّها لأسماؤها».
وعن ابن عبّاس: أنّ يوسف رأى في المنام ليلة الجمعة ليلة القدر أحد عشر كوكبا نزلن من السماء فسجدن له، ورأى الشمس والقمر نزلا من السماء فسجدا له، فالشمس والقمر أبواه، والكواكب إخوته الأحد عشر.
وقيل: الشمس أبوه، والقمر خالته، وذلك أنّ أمّه راحيل قد ماتت.
ويجوز أن يكون الواو في «والقمر والشمس» بمعنى «مع» أي: رأيت الكواكب مع الشمس والقمر. وأخّر الشمس والقمر ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص، بيانا لفضلهما واستبدادهما بالمزيّة على غيرهما من الطوالع ،
كما أخّر جبرئيل وميكائيل عن الملائكة ثمّ عطفهما عليها لذلك.
وقوله:( رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) كلام مستأنف لبيان حالهم الّتي رآهم عليها ـ على تقدير سؤال ـ وقع جوابا، كأنّه قال له يعقوب: كيف رأيتها؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين، فلا تكرير. وإنّما أجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم.
عن وهب: أنّ يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أنّ إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة، فإذا عصا صغيرة تثب عليها حتّى اقتلعتها وغلبتها. فوصف ذلك لأبيه، فقال: إيّاك أن تذكر هذا لإخوتك. ثمّ رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له، فقصّها على أبيه. فقال له: لا تقصّها عليهم، فيبغوا لك الغوائل.
وقيل: كان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة. وقيل: ثمانون.
وقال في الكشّاف(١) والأنوار(٢) : «إنّ يعقوبعليهالسلام عرف دلالة الرؤيا على أنّ يوسف يبلغه الله مبلغا من الحكمة، ويصطفيه للنبوّة، ويفوّقه على إخوته، وينعم عليه بشرف الدارين، كما فعل بآبائه، فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم».
( قالَ يا بُنَيَ ) تصغير ابن، صغّره للشفقة أو لصغر السنّ، لأنّه كان ابن اثنتي عشرة سنة. وقرأ حفص هاهنا وفي الصافّات(٣) بفتح الياء.( لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً ) فيحتالوا لإهلاكك حيلة.
قال في الأنوار: «الرؤيا كالرؤية، غير أنّها مختصّة بما يكون في النوم، ففرّق بينهما بحرفي التأنيث، كالقربة والقربى. وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيّلة إلى الحسّ المشترك. والصادقة منها إنّما تكون باتّصال النفس بالملكوت ،
__________________
(١) الكشّاف ٢: ٤٤٤.
(٢) أنوار التنزيل ٣: ١٢٧.
(٣) الصافّات: ١٠٢.
وهي عالم المجرّدات، لـما بينهما من التناسب، عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فتتصوّر بما فيها ممّا يليق بها من المعاني الحاصلة هناك. ثمّ إنّ المتخيّلة تحاكيه بصورة تناسبه، فترسلها إلى الحسّ المشترك، فتصير مشاهدة. ثمّ إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى، بحيث لا يكون التفاوت إلّا بالكلّية والجزئيّة، استغنت الرؤيا عن التعبير، أي: وقع ما رآه بعينه، وإلّا احتاجت إليه»(١) .
وإنّما عدّي «كاد» باللّام، وهو متعدّ بنفسه، لتضمّنه معنى فعل يتعدّى به، وهو: يحتالوا، ليفيد معنى الفعلين تأكيدا، ولذلك أكّد بالمصدر، وعلّل بقوله:( إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ظاهر العداوة، لـما فعل بآدم وحوّاء، فلا يألوا جهدا في تسويلهم، وإثارة الحسد فيهم، حتّى يحملهم على الكيد.
روى أبو حمزة الثمالي عن زين العابدينعليهالسلام : «أنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشا فيتصدّق به، ويأكل هو وعياله منه، وأنّ سائلا مؤمنا صوّاما اعترّ(٢) ببابه عشيّة جمعة عند أوان إفطاره، وكان مجتازا غريبا، فهتف على بابه واستطعمهم وهم يسمعون، فلم يصدّقوا قوله. فلمّا يئس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر، وشكا جوعه إلى الله تعالى، وبات طاويا، وأصبح صائما حامدا لله. وبات يعقوب وآل يعقوب بطانا، وأصبحوا وعندهم فضلة من طعامهم، فابتلاه الله سبحانه بيوسفعليهالسلام ، وأوحى إليه أن استعدّ لبلائي، وارض بقضائي، واصبر للمصائب.
فرأى يوسف هذه الرؤيا في تلك الليلة».
( وَكَذلِكَ ) أي: وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالّة على شرف وعزّ، وكمال نفس وكبرياء شأن( يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ) للنبوّة والملك، أو لأمور عظام. والاجتباء من: جبيت الشّيء إذا حصّلته لنفسك.
__________________
(١) أنوار التنزيل ٣: ١٢٧.
(٢) اعترّ به: أتاه للمعروف من غير أن يسأل. والمعترّ: الفقير.