زبدة التفاسير الجزء ٣

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637
المشاهدات: 14028
تحميل: 3459


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 637 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14028 / تحميل: 3459
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-05-1
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وما روي عن ابن عبّاس: أنّ الرسل ظنّوا أنّهم أخلفوا ما وعدهم الله من النصر، إن صحّ فقد أراد بالظنّ ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشريّة، وأما الظنّ الّذي هو ترجيح أحد الجائزين على الآخر، فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الّذين هم أعرف الناس بربّهم، وأنّه متعال عن خلف الميعاد، منزّه عن كلّ قبيح؟! وقرأ غير الكوفيّين بالتشديد، أي: وظنّ الرسل أنّ القوم قد كذّبوهم فيما أوعدوهم.

( جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ ) النبيّ والمؤمنين. وإنّما لم يعيّنهم للدلالة على أنّهم الّذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم، لا يشاركهم فيه غيرهم. وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب: فنجّي(١) ، على لفظ الماضي المبنيّ للمفعول.( وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) إذا نزل بهم.

( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ ) في قصص الأنبياء وأممهم، أو في قصّة يوسف وإخوته( عِبْرَةٌ ) وبصيرة وموعظة( لِأُولِي الْأَلْبابِ ) لذوي العقول المبرّأة عن الشوائب، والركون إلى الحسّ وسائر الأغراض، فإنّ من تفكّر بالعقل الخالص أنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقرأ كتابا، ولا سمع حديثا، ولا خالط أهله، ثمّ حدّثهم به في حسن نظمه ومعانيه بحيث لم يقدر أحد من إتيان مثل ذلك، لعلم أنّه أوضح برهان على صحّة نبوّته.

( ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ) ما كان القرآن حديثا مفترى( وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) من الكتب الإلهيّة( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) يحتاج إليه في الدين، إذ ما من أمر دينيّ إلا وله سند من القرآن، فإنّه القانون الّذي يستند إليه السنّة والإجماع والقياس المنصوص العلّة( وَهُدىً ) من الضلال( وَرَحْمَةً ) ينال بها خير الدارين( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يصدّقونه. إنّما خصّهم بذلك لأنّهم المنتفعون به دون غيرهم.

__________________

(١) وفي قراءة اخرى: فننجّي، على لفظ المضارع.

٤٢١
٤٢٢

(١٣)

سورة الرعد

مكّيّة، وهي ثلاث وأربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ سورة الرعد اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ سحاب مضى وكلّ سحاب يكون إلى يوم القيامة، وكان يوم القيامة من الموفين بعهد الله تعالى».

وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «من أكثر قراءة الرعد لم يصبه الله بصاعقة أبدا، وإن كان مؤمنا أدخل الجنّة بغير حساب، وشفع في جميع من يعرف من أهل بيته وإخوانه».

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة يوسفعليه‌السلام بذكر قصص الأنبياءعليهم‌السلام ، افتتح هذه السورة بأنّ جميع ذلك آيات الكتاب، وأنّ الّذي أنزله هو الحقّ، فقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) )

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر ) قد فسّرناه في أوّل سورة البقرة، وبيّنّا ما

٤٢٣

قيل فيه. روي أن معناه: أنا الله أعلم وأرى.( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) يعني بالكتاب السورة. و «تلك» إشارة إلى آياتها، أي: تلك الآيات آيات السورة الكاملة، أو القرآن.

( وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) وهو القرآن. ومحلّه الجرّ بالعطف على الكتاب، عطف العامّ على الخاصّ، أو عطف إحدى الصفتين على الأخرى. أو الرفع بالابتداء، وخبره( الْحَقُ ) . والجملة كالحجّة على الجملة الأولى. وعلى الأوّل خبر مبتدأ محذوف، أي: الآيات الجامعة للوصفين هي الحقّ. وتعريف الخبر وإن دلّ على اختصاص المنزل بكونه حقّا، فهو أعمّ من المنزل صريحا أو ضمنا، كالمثبت بالقياس المنصوص العلّة والإجماع، وغير ذلك ممّا نطق المنزل بحسن اتّباعه.( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) لإخلالهم بالتأمّل والنظر فيه.

( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) )

٤٢٤

ولـمّا ذكر سبحانه أنّهم لا يؤمنون، بيّن الدليل الّذي يوجب التصديق بالخالق، فقال:( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ ) مبتدأ وخبر. ويجوز أن يكون الموصول صفة، والخبر( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) .( بِغَيْرِ عَمَدٍ ) أساطين(١) . جمع عماد، كإهاب وأهب. أو جمع عمود، كأديم وأدم.( تَرَوْنَها ) صفة لـ «عمد». أو استئناف للاستشهاد برؤيتهم السماوات كذلك.

وهو دليل على وجود الصانع الحكيم، فإنّ ارتفاعها على سائر الأجسام المساوية لها في حقيقة الجرميّة، واختصاصها بما يقتضي ذلك، لا بدّ وأن يكون بمخصّص ليس بجسم ولا جسماني، يرجّح بعض الممكنات على بعض بإرادته.

وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات الآتية.

( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) بالحفظ والتدبير. وقد مضى(٢) تفسير استوائه على العرش غير مرّة.

( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) ذلّلهما لـما أراد منهما، كالحركة المستمرّة على حدّ معيّن من السرعة تنفع في حدوث الكائنات وبقائها( كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) لمدّة معيّنة يتمّ فيها أدواره. أو لغاية مضروبة ينقطع دونها سيره، وهي:( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) (٣) .

( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) أمر ملكوته وأمور خلقه، من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة، وغير ذلك، على الوجه الّذي توجبه الحكمة( يُفَصِّلُ الْآياتِ ) يبيّنها مفصّلة في كتبه المنزلة، أو يحدث الدلائل واحدا بعد واحد( لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) لكي تتفكّروا فيها، وتتحقّقوا كمال قدرته، فتعلموا أنّ من قدر على خلق

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية: «أساطين جمع أسطون، معرّب ستون. منه».

(٢) راجع ج ٢ ص ٥٣١.

(٣) التكوير: ١ ـ ٢.

٤٢٥

هذه الأشياء وتدبيرها قدر على الإعادة والجزاء، وأنّ هذا المدبّر والمفصّل لا بدّ لكم من الرجوع إليه.

( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ) بسطها طولا وعرضا لتثبت عليها الأقدام، ويتقلّب عليها الحيوان( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ ) جبالا ثوابت، من: رسا الشيء إذا ثبت، جمع راسية. والتاء للتأنيث، على أنّها صفة أجبل، أو للمبالغة.( وَأَنْهاراً ) ضمّها إلى الجبال، لأنّ الجبال أسباب لتولّدها.

( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) متعلّق بقوله:( جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) أي: وجعل فيها من جميع أنواع الثمرات صنفين اثنين، كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، والرطب واليابس، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة. وذكر «اثنين» للتأكيد.

( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ) يلبس ظلمة الليل ضياء النهار، فيصير الجوّ مظلما بعد ما كان مضيئا. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: يغشّي بالتشديد.( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) فيها، فإنّ تكوّنها وتخصّصها بوجه دون وجه دليل على وجود الصانع الحكيم الّذي دبّر أمرها وهيّأ أسبابها.

( وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ) بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متقاربة، بعضها طيّبة، وبعضها سبخة، وبعضها رخوة، وبعضها صلبة، وبعضها يصلح للزرع دون الشجر، وبعضها بالعكس، ولو لا تخصيص قادر موقع لأفعاله على وجه دون وجه لم تكن كذلك، لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضيّة، وما يلزمها ويعرض لها بتوسّط ما يعرض من الأسباب السماويّة، من حيث إنّها متضامّة متشاركة في النسب والأوضاع.

( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ) أي: وبساتين فيها أنواع الأشجار والزروع. وتوحيد الزرع لأنّه مصدر في أصله.( صِنْوانٌ ) نخلات أصلها واحد ،

٤٢٦

فإنّها جمع صنو(١) ، وهي النخلة الّتي لها رأسان وأصلهما واحد( وَغَيْرُ صِنْوانٍ ) ومتفرّقات مختلفات الأصول. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص: زرع ونخيل وصنوان وغير صنوان بالرفع عطفا على «جنّات». وقرأ حفص: صنوان بالضمّ. وهو لغة تميم، كقنوان(٢) جمع قنو.

( يُسْقى ) ما ذكر من الأعناب والزروع والنخيل المختلفة( بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) في الثمر شكلا وقدرا ورائحة وطعما. وذلك أيضا من أوضح الدلالات على الصانع الحكيم، فإنّ اختلافها مع اتّحاد الأصول والأسباب لا يكون إلّا بتخصيص قادر مختار. وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب: يسقى بالتذكير، على تأويل: ما ذكر. وقرأ حمزة والكسائي: يفضّل بالياء، ليطابق قوله:( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) .

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ) دلالات( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) يستعملون عقولهم بالتفكّر فيها، ويستدلّون بها.

روي عن جابر قال: «سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعليّعليه‌السلام : الناس من شجر شتّى، وأنا وأنت من شجرة واحدة. وقرأ:( وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ ) الآية».

( وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) )

__________________

(١) الصنو: إذا خرجت نخلتان أو أكثر من أصل واحد فكلّ واحدة منها صنو، وجمعها: صنوان.

(٢) القنو: العذق، وهو من النخل كالعنقود من العنب، وجمعه: قنوان.

٤٢٧

ولـمّا تقدّم ذكر الأدلّة على أنّه سبحانه قادر على الإنشاء والإعادة، عقّبه بالتعجّب من تكذيبهم بالبعث والنشور، فقال:( وَإِنْ تَعْجَبْ ) يا محمّد من قول هؤلاء الكفّار في إنكارهم البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق( فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ) أي :

حقيق بأن يتعجّب منه، فإنّ من قدر على إنشاء ما قصّ عليك من الصنائع العجيبة والفطرة البديعة، ولم يعي بخلقهنّ، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره. والآيات المعدودة كما هي دالّة على وجود المبدأ، فهي دالّة على إمكان الإعادة، من حيث إنّها تدلّ على كمال علمه وقدرته، وقبول الموادّ لأنواع تصرّفاته.

وقوله:( أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) بدل من «قولهم»، أو مفعول له.

والفاعل في «إذا» محذوف دلّ عليه( أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) . ومعناه: أنبعث ونعاد بعد ما صرنا ترابا؟! هذا ممّا لا يمكن. وهذا القول منهم نهاية في الأعجوبة، فإنّ الماء إذا حصل في الرحم استحال علقة ثمّ مضغة ثمّ لحما، فإذا مات ودفن استحال ترابا، فإذا جاز أن يتعلّق الإنشاء بالاستحالة الأولى، فلم لا يجوز تعلّقه بالاستحالة الثانية؟!( أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ) أولئك المتمادون في كفرهم الكاملون فيه، لأنّهم كفروا بقدرته على البعث مع وجود هذه الدلالات الواضحة على صحّته

٤٢٨

( وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ) مقيّدون بالضلال تخلية وخذلانا، لا يرجى خلاصهم. أو يغلّون يوم القيامة.( وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) لا ينفكّون عنها. وتوسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفّار.

( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) بالعقوبة قبل العافية، وذلك أنّهم استعجلوا ما هدّدوا به من عذاب الدنيا استهزاء( وَقَدْ خَلَتْ ) مضت( مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ) العقوبات لأمثالهم من المكذّبين، فما لهم لم يعتبروا بها، ولم يجوّزوا حلول مثلها عليهم؟! والمثلة ـ بفتح الثاء وضمّها، كالصدقة والصدقة ـ: العقوبة، لـما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (١) . ومنه المثال للقصاص. يقال: أمثلت الرجل من صاحبه، إذا اقتصصته منه.

( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ ) أي: ظلمهم أنفسهم بالذنوب.

ومحلّه النصب على الحال، بمعنى: ظالمين لأنفسهم. والعامل فيه المغفرة. والتقييد به دليل على جواز العفو قبل التوبة، فإنّ التائب ليس على ظلمه، كما قال المرتضىقدس‌سره : في هذا دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة، لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين، لأنّ قوله: «على ظلمهم» إشارة إلى الحال الّتي يكونون فيها ظالمين. ومن منع ذلك خصّ الظلم بالصغائر المكفّرة لمجتنب الكبائر، أو أوّل المغفرة بالستر والإمهال.

( وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ ) للكفّار، أو لمن يشاء قبل التوبة.

وعن سعيد بن المسيّب: لـمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لا عفو الله وتجاوزه لـما هنأ أحد العيش، ولو لا وعيده وعقابه لاتّكل كلّ أحد».

وتلا مطرف يوما هذه الآية فقال: لو يعلم الناس قدر رحمة الله ومغفرة الله وعفو الله وتجاوز الله لقرّت أعينهم، ولو يعلم الناس قدر عذاب الله وبأس الله ونكال

__________________

(١) الشورى: ٤٠.

٤٢٩

الله ونقمة الله ما رقأ(١) لهم دمع، ولا قرّت أعينهم بشيء.

( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) لعدم اعتدادهم بالآيات المنزلة عليه، واقتراحهم لنحو ما أوتي موسى وعيسىعليهما‌السلام ، من نحو تفجير العيون، وإحياء الموتى، وجعل الصفا ذهبا، وغير ذلك.

ولا يخفى على من له أدنى مسكة أنّ الآيات متساوية في حصول صحّة الدعوى بها، فلذا خاطبه الله سبحانه بقوله:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ) مرسل للإنذار من سوء العاقبة كغيرك من الرسل، وما عليك إلا الإتيان بما يصحّ به أنّك رسول منذر، من جنس المعجزات، لا بما يقترح عليك.

( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) عطف على «منذر» أي: إنّما أنت لكلّ قوم هاد، لأنّك مبعوث إلى الناس جميعا إلى يوم القيامة. أو يكون «هاد» مبتدأ و «لكلّ قوم» خبره.

ومعناه: لكلّ أمّة من الأمم نبيّ مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم، يهديهم إلى الحقّ، ويدعوهم إلى الصواب، ولم يجعل الله الأنبياء شرعا سواء في الآيات والمعجزات. أو قادر على هدايتهم، وهو الله.

وقرأ ابن كثير: هاد، ووال(٢) ، وواق(٣) ،( وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) (٤) بالتنوين في الوصل، وإذا وقف وقف بالياء في هذه الأربعة الأحرف حيث وقعت لا غير.

والباقون يصلون بالتنوين، ويقفون بغير ياء.

عن ابن عبّاس قال: لـمّا نزلت هذه الآية قال رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا المنذر، وعليّ الهادي من بعدي، يا عليّ بك يهتدي المهتدون».

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن

__________________

(١) رقأ الدمع: جفّ وانقطع. (٢، ٣) الرعد: ١١ و ٣٤.

(٤) النحل: ٩٦.

٤٣٠

أبي إبراهيم بن الحكم بن ظهير، عن أبيه، عن حكيم بن جبير، عن أبي بردة الأسلمي، قال: «دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالطهور وعنده عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بعد ما تطهّر فألزقها بصدره، ثمّ قال: إنّما أنت منذر. ثمّ ردّها إلى صدر عليّ، ثم قال: لكلّ قوم هاد. ثمّ قال: إنّك منارة الأنام، وغاية الهدى، وأمير القرّاء، وأشهد على ذلك أنّك كذلك يا عليّ»(١) .

( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) )

ثمّ أردف الله سبحانه ذلك بما يدلّ على كمال علمه وقدرته، وشمول قضائه وقدره، تنبيها على أنّه قادر على إنزال ما اقترحوه، وإنّما لم ينزل لعلمه بأنّ اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد، وأنّه قادر على هدايتهم جبرا وقسرا، وإنّما لم يهدهم لعلمه بمنافاة الجبر للتكليف الّذي مناطه الاختيار، فقال:( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ) «ما» مصدريّة أو موصولة، أي: يعلم حملها، أو ما تحمله على أيّ حال ،

__________________

(١) شواهد التنزيل ١: ٣٠١ ح ٤١٤.

٤٣١

ذكورة وأنوثة، وتماما وخداجا(١) ، وحسنا وقبحا، وطولا وقصرا، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقّبة.

( وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ) نقصها وازديادها. أو ما تنقصه وما تزداده في الجنّة، والمدّة، وأقصى مدّة الحمل وأقلّها، وعدد الولد، فإنّ الرحم يشتمل على واحد واثنين وثلاثة وأكثر. وقال الشافعي: أخبرني شيخ باليمن أنّ امرأته ولدت بطونا، في كلّ بطن خمسة. وقيل: المراد نقصان دم الحيض وازدياده.

و «غاض» جاء متعدّيا ولازما. يقال: غاض الماء وغضته أنا. ومنه:( وَغِيضَ الْماءُ ) (٢) . وكذا: ازداد. يقال: زدته فزاد بنفسه، وازداد، وازددت منه كذا.

ومنه: قوله تعالى:( وَازْدَادُوا تِسْعاً ) (٣) . فإن جعلتهما لازمين تعيّن أن تكون «ما» مصدريّة. وإسنادهما إلى الأرحام على المجاز، من قبيل تسمية الشيء بما يجاوره، أو تسمية المحاط بما يحيط به.

( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه، كقوله تعالى:( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) (٤) ، فإنّه تعالى خصّ كلّ حادث بوقت وحال معيّنين، وهيّأ له أسبابا مسوقة إليه، تقتضي ذلك على ما توجبه الحكمة.

( عالِمُ الْغَيْبِ ) الغائب عن الحسّ( وَالشَّهادَةِ ) الحاضر له( الْكَبِيرُ ) العظيم الشأن، الّذي لا يخرج عن علمه شيء( الْمُتَعالِ ) المستعلي على كلّ شيء بقدرته. أو الّذي كبر عن نعت المخلوقين وتعالى عنه.

__________________

(١) خدجت الدابّة: ألقت ولدها ناقص الخلق أو قبل تمام الأيّام. فهي خادج، وولدها خدوج، وجمعه خداج.

(٢) هود: ٤٤.

(٣) الكهف: ٢٥.

(٤) القمر: ٤٩.

٤٣٢

ثمّ قرّر كمال علمه وشموله بقوله:( سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ) في نفسه( وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ) لغيره( وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ) طالب للخفاء في مختبأ بالليل ومظلمة( وَسارِبٌ ) وذاهب في سربه بالفتح، أي: في طريقه. يقال: سرب في الأرض سروبا، إذا برز في ذهابه، أي: بارز في الذهاب( بِالنَّهارِ ) بحيث يراه كلّ أحد. فهو عطف على «من» أو «مستخف»، على أنّ «من» في معنى الاثنين، كأنّه قال: سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار.

( لَهُ ) لمن أسرّ أو جهر أو استخفى أو سرب( مُعَقِّباتٌ ) ملائكة تعتقب في حفظه. جمع معقّبة، من: عقّبه مبالغة: عقبه، إذا جاء على عقبه، كأنّ بعضهم يعقّب بعضا، أو لأنّهم يعقّبون أقواله وأفعاله، فيكتبونها ويحفظونها. أو من: اعتقب، فأدغمت التاء في القاف. والتاء للمبالغة، أو لأنّ المراد بالمعقّبات جماعات.

( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) من جوانبه، أو من الأعمال ما قدّم وأخّر( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) من بأسه ونقمته متى أذنب باستمهالهم، أي: مسألتهم ربّهم أن يمهله رجاء أن يتوب وينيب. أو استغفارهم له. أو يحفظونه من المضارّ. قال كعب: لو لا أنّ الله وكلّ بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم، لتخطّفتكم الجنّ. أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله تعالى.

وعن الحسن: هم أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر. وهو معنى قوله تعالى:( إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) (١) . وقد روي ذلك أيضا عن أئمّتناعليهم‌السلام .

وعن ابن جبير وقتادة ومجاهد: أنّها الملائكة يتعاقبون، تعقّب ملائكة الليل ملائكة النهار، وملائكة النهار ملائكة الليل، وهم الحفظة، يحفظون على العبد عمله.

وقيل: إنّهم الأمراء والملوك في الدنيا، الّذين يمنعون الناس عن المظالم ،

__________________

(١) الإسراء: ٧٨.

٤٣٣

ويكون لهم الأحراس والشرط يحفظونهم. وهذا مرويّ عن عكرمة، ومرويّ عن ابن عبّاس أيضا. وتقديره: ومن هو سارب بالنهار، له أحراس وأعوان يحرسونه.

وقيل: «من» بمعنى الباء. وقيل: «من أمر الله» صفة ثانية لـ «معقّبات».

( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) من العافية والنعمة( حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) من الأحوال الجميلة إلى الأحوال القبيحة.

عن ابن عبّاس: إذا أنعم الله على قوم فشكروها زادهم، وإذا كفروا سلبهم.

وإلى هذا المعنى

أشار أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله: «إذا أقبلت عليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلّة الشكر».

( وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فلا رادّ له. والعامل في «إذا» ما دلّ عليه الجواب.( وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) ممّن يلي أمرهم، فيدفع عنهم السوء.

( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) )

٤٣٤

ثمّ أخبره سبحانه وتعالى عن كمال قدرته، فقال:( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً ) من أذاه( وَطَمَعاً ) في الغيث. وانتصابهما على العلّة بتقدير المضاف، أي: إرادة خوف وطمع، أو بتأويلهما بالإخافة والإطماع. أو على الحال من البرق، كأنّه في نفسه خوف وطمع، أو المخاطبين على إضمار «ذو». أو إطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل للمبالغة. وقيل: يخاف المطر من يضرّه، ويطمع فيه من ينفعه.

( وَيُنْشِئُ السَّحابَ ) الغيم المنسحب في الهواء( الثِّقالَ ) بالماء. وهو جمع ثقيلة. يقال: سحابة ثقيلة وسحاب ثقال، كما يقال: امرأة كريمة ونساء كرام. وإنّما وصف به السحاب، لأنّه اسم جنس في معنى الجمع.

( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ ) ويسبّح سامعوه( بِحَمْدِهِ ) ملتبسين به، فيضجّون بـ «سبحان الله والحمد لله». وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يقول: «سبحان من يسبّح الرّعد بحمده».

وعن عليعليه‌السلام أنّه كان يقول: «سبحان من سبّحت له إذا اشتدّ الرعد».

أو يدلّ الرعد بنفسه على وحدانيّته تعالى وكمال قدرته، ملتبسا بالدلالة على فضله ونزول رحمته.

وعن ابن عبّاس: أنّ اليهود سألت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الرعد ما هو؟ فقال: «ملك موكّل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب».

والمخاريق: جمع مخراق، وهو الخشب، أو الخرقة الملفوفة الّتي يلعب بها الصبيان. والمراد هنا آلة يزجر بها الملائكة ليسوقه.

وقالت المتصوّفة: الرعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم، والمطر بكاؤهم.

( وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) من خوف الله تعالى وإجلاله. وقيل: الضمير للرعد.

( وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) فيهلكه( وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ ) حيث يكذّبون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة، والتفرّد

٤٣٥

بالألوهيّة، وإعادة الناس ومجازاتهم.

والجدال التشدّد في الخصومة، من الجدل(١) ، وهو الفتل. والواو إمّا لعطف الجملة على الجملة، أو للحال، فإنّه روي: «أنّ عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاصدين لقتله، فأخذه عامر بالمجادلة، ودار أربد من خلفه ليضربه بالسيف، فتنبّه له الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أللَّهمّ اكفنيهما بما شئت.

فأرسل الله تعالى على أربد صاعقة فقتلته، ورمى عامرا بغدّة فمات في بيت سلوليّة. وكان يقول: غدّة كغدّة البعير، وموت في بيت سلوليّة. فنزلت هذه الآية».

والغدّة طاعون الإبل، قلّما سلم منه. وسلوليّة امرأة من قبيلة بني سلول، وهم موصوفون بالذلّ.

( وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) شديد المماحلة والمماكرة والمكائدة لأعدائه، من: محل بفلان، إذا كايده وعرّضه للهلاك. ومنه: تمحّل إذا تكلّف استعمال الحيلة.

ولعلّ أصله المحل، بمعنى القحط. والمعنى: أنّه شديد المكر بأعدائه، يأتيهم بالهلاك من حيث لا يحتسبون.

وقيل: فعال من المحل بمعنى القوّة.

وقيل: مفعل من الحول أو الحيلة، أعلّ على غير قياس.

ويجوز أن يكون بمعنى شديد الفقار، فيكون مثلا في القوّة والقدرة، كقولهم: فساعد الله أشدّ، وموساه(٢) أحدّ.

وما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام معناه: شديد الأخذ، وعن قتادة: شديد القوّة، يقوّي القولين الأخيرين.

( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ ) الدعاء الحقّ، فإنّه الّذي يحقّ أن يعبد، أو يدعى إلى

__________________

(١) جدل الحبل: فتله، أي: لواه.

(٢) الموسى: آلة من فولاذ يحلق بها.

٤٣٦

عبادته دون غيره. أوله الدعوة المجابة، فإنّ من دعاه أجابه. ويؤيّده ما بعده.

والحقّ على الوجهين ما يناقض الباطل. وإضافة الدعوة إليه لكونها مختصّة به، وبينهما ملابسة، وهو بمعزل عن الباطل. أو على تأويل دعوة المدعوّ الحقّ الّذي يسمع ويجيب.

وعن الحسن: الحقّ هو الله، وكلّ دعاء إليه دعوة الحقّ. وعن ابن عبّاس: أنّ دعوة الحقّ هي كلمة التوحيد.

والمراد بالجملتين إن كانت الآية عامّة، وعيد الكفرة على مجادلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحلول محاله بهم، وتهديدهم بإجابة دعاء الرسول عليهم. أو المراد بيان ضلالهم وفساد رأيهم. وإن كانت في عامر وأربد، فالمراد أنّ إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله، وإجابة لدعوة رسوله.

( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) أي: يدعوهم المشركون، فحذف الراجع. أو والمشركون الّذين يدعون الأصنام، فحذف المفعول، لدلالة «من دونه» عليه.( لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ) من الطلبات( إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ ) أي: إلّا استجابة كاستجابة الماء من بسط كفّيه إليه( لِيَبْلُغَ فاهُ ) يطلب منه أن يبلغه( وَما هُوَ بِبالِغِهِ ) لأنّه جماد لا يشعر بدعائه، ولا ببسط كفّيه، ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر على إجابته والإتيان بغير ما جبل عليه. وكذلك ما يدعونه من جماد، فإنّه جماد لا يحسّ بدعائهم، ولا يستطيع إجابتهم، ولا يقدر على نفعهم.

وقيل: شبّهوا في قلّة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، فبسط كفّيه ليشربه ناشرا أصابعه، فلم تلق كفّاه منه شيئا، ولم يبلغ طلبته من شربه.

( وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) إلّا في ضياع وخسار وباطل.

( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) طائعين وكارهين، أو

٤٣٧

لطوعهم ولكراهتهم. ويحتمل أن يكون السجود على حقيقته، فإنّه يسجد له الملائكة والمؤمنون من الثقلين طوعا حالتي الشدّة والرخاء، والكفرة كرها حال الشدّة والضرورة، فإنّهم لا يمكنهم أن يمتنعوا من الخضوع لله تعالى، لـما يحلّ بهم من الآلام والأسقام.

( وَظِلالُهُمْ ) ويسجد له ظلال من فيهما بالعرض. وأن يراد بالسجود انقيادهم لإحداث ما أراده منهم من أفعاله، شاؤا أو كرهوا، وانقياد ظلالهم لتصريفه إيّاها بالمدّ والتقليص على وفق مشيئته.

وقوله:( بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) ظرف لـ «يسجد». والمراد بهما الدوام. أو حال من الظلال. وتخصيص الوقتين لأنّ الامتداد والتقلّص أظهر فيهما. والغدوّ جمع غداة، كقنيّ جمع قناة. والآصال جمع اصيل. وهو ما بين العصر والمغرب. وقيل: الغدوّ مصدر.

( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) )

لـمّا بيّن سبحانه في الآية الأولى أنّه المستحقّ للعبادة، وأنّ له من في السماوات والأرض، عقّبه بما يجري مجرى الحجّة على ذلك، فقال:( قُلْ ) يا محمّد لهؤلاء الكفّار( مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) خالقهما ومدبّرهما ومتولّي

٤٣٨

أمرهما، فإذا استعجم(١) عليهم الجواب، ولم يمكنهم أن يقولوا: الأصنام( قُلِ اللهُ ) أجب عنهم بأنّ ربّهما الله، إذ لا جواب لهم سواه، ولأنّه البيّن الّذي لا مراء فيه. أو لقّنهم الجواب به.

( قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ) أي: ألزمهم بأن اتّخاذهم منكر بعيد عن مقتضى العقل، فإنّهم( لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ) لا يقدرون أن يجلبوا إليها( نَفْعاً وَلا ضَرًّا ) ولا يدفعوا عنها ضرّا، فكيف يستطيعون إنفاع الغير ودفع الضرّ عنه، وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب؟ فما أبين ضلالتكم! وهو دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتّخاذهم أولياء رجاء أن يشفعوا لهم.

ثمّ ضرب سبحانه لهم مثلا بعد إلزام الحجّة، فقال:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى ) أي: المشرك الجاهل بحقيقة العبادة والموجب لها. وقيل: المعبود الغافل عنكم.

( وَالْبَصِيرُ ) والموحّد العالم بذلك، أو المعبود المطّلع على أحوالكم.

ثمّ زاد في الإيضاح بقوله:( أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ ) الشرك والتوحيد. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالياء.

( أَمْ جَعَلُوا ) الهمزة للإنكار، أي: بل أجعلوا( لِلَّهِ شُرَكاءَ ) ؟ وقوله:( خَلَقُوا كَخَلْقِهِ ) صفة لـ «شركاء» داخلة في حكم الإنكار( فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) خلق الله وخلقهم.

والمعنى: أنّهم ما اتّخذوا لله شركاء خالقين مثله حتّى يتشابه عليهم الخلق، فيقولوا: هؤلاء خلقوا كما خلق الله، حتّى يقولوا: قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه، فاستحقّوا العبادة كما استحقّها. ولكنّهم اتّخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلا عمّا يقدر عليه الخالق.

( قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) لا خالق غيره فيشاركه في العبادة. جعل الخلق

__________________

(١) أي: صعب واستبهم، أو عجزوا عن الجواب.

٤٣٩

موجب العبادة ولازم استحقاقها، ثم نفاه عمّن سواه، ليدلّ على قوله:( وَهُوَ الْواحِدُ ) المتوحّد بالألوهيّة والربوبيّة( الْقَهَّارُ ) الغالب على كلّ شيء، وما عداه مربوب مقهور.

استدلّت المجبّرة بقوله:( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله، لأنّ ظاهر العموم يقتضي دخول أفعال العباد فيه. وبقوله:( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ ) . قالوا: لأنّه أنكر أن يكون خالق خلق كخلقه.

وأجيبوا عن ذلك: بأنّ الآية وردت حجّة على الكفّار، ولو كان المراد ما قالوا لكان فيها حجّة لهم على الله، لا له عليهم، لأنّه إذا كان الخالق لعبادتهم الأصنام هو الله، فلا يتوجّه التوبيخ إلى الكفّار، ولا يلحقهم اللوم بذلك، بل يكون لهم أن يقولوا: إنّك خلقت فينا ذلك، فلم توبّخنا على فعل فعلته فينا؟ فيبطل حينئذ فائدة الآية. وأيضا عند الأكثر معنى الخلق الاختراع، ولا يقدر العباد عليه، وما أسند إلى العباد هو الفعل والإحداث.

( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) )

٤٤٠