زبدة التفاسير الجزء ٣
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637
أبو هريرة أنّهصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «تبدّل الأرض غير الأرض، فتبسط وتمدّ مدّ الأديم(١) العكاظي، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا».
وأمّا تبدّل السماء صفة فيكون بانتثار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها، وكونها أبوابا.
( وَبَرَزُوا لِلَّهِ ) من قبورهم( الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) لمحاسبته ومجازاته. وتوصيفه بالوصفين للدلالة على أنّ الأمر في غاية الصعوبة، كقوله:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) (٢) فإنّ الأمر إذا كان لواحد غلّاب لا يغالب، فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار.
( وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ ) قرن بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم في العقائد الزائغة والأعمال السيّئة، كقوله تعالى:( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ) (٣) أو بأن يقرن كلّ كافر مع شيطان كان يضلّه. وهو المنقول عن ابن عبّاس. أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال.( فِي الْأَصْفادِ ) متعلّق بـ «مقرّنين»، أو حال من ضميره. والصفد القيد. وقيل: الغلّ. وأصله الشدّ.
( سَرابِيلُهُمْ ) قمصانهم( مِنْ قَطِرانٍ ) وقطران وقطران أيضا ـ بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء ـ لغتان، وإن لم يقرأهما أحد من القرّاء العشرة. وهو ما يتحلّب من شجر يسمّى الأبهل، فيطبخ فتطلى به الإبل الجربي(٤) ، فيحرق الجرب بحرّه وحدّته. وقد تبلغ حرارته الجوف، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، وقد يستسرج به. وهو أسود اللون، منتن الريح، لزج. فتطلى به جلود أهل النار، حتّى
__________________
(١) الأديم: الجلد المدبوغ. والعكاظي منسوب إلى سوق عكاظ بمكّة في الجاهليّة.
(٢) غافر: ١٦.
(٣) التكوير: ٧.
(٤) الجربي جمع الأجرب، وهو الإبل أصابه الجرب. وهو داء يحدث في الجلد بثورا صغارا لها حكّة شديدة.
يكون طلاؤه لهم كالسراويل، ليجتمع عليهم أربع: لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. على أنّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. وكلّ ما وعد الله أو أوعد الله في الآخرة، فبينه وبين ما يشاهد من جنسه ما لا يقادر قدره، فكأنّه ما عندنا إلّا الأسامي والمسمّيات ثمّة.
وعن يعقوب: قطر آن. والقطر: النحاس أو الصفر المذاب، والآني: المتناهي حرّه. والجملة حال ثانية من مفعول «ترى»، أو حال من الضمير في «مقرّنين».
( وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) لأنّهم لم يتوجّهوا بها إلى الحقّ، ولم يستعملوا في تدبّره مشاعرهم وحواسّهم الّتي خلقت فيها لأجله، كما تطّلع على أفئدتهم، لأنّها فارغة عن المعرفة، مملوءة بالجهالات. ونظيره قوله:( أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) (١) ، وقوله:( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ) (٢) .
( لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ) أي: يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي كلّ نفس مجرمة( ما كَسَبَتْ ) أو كلّ نفس مجرمة أو مطيعة، لأنّه إذا بيّن أنّ المجرمين يعاقبون لأجرامهم، دلّ على أنّ المطيعين يثابون لطاعتهم. ويتعيّن ذلك إن علّق اللام بـ «برزوا».( إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) لا يشغله حساب عن حساب.
( هذا ) إشارة إلى القرآن، أو السورة، أو ما فيه من العظة والتذكير، أو ما وصفه من قوله:( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ ) (٣) ( بَلاغٌ لِلنَّاسِ ) كفاية لهم في الموعظة( وَلِيُنْذَرُوا بِهِ ) عطف على محذوف، أي: لينصحوا ولينذروا بما في هذا البلاغ من الوعيد. فتكون اللام متعلّقة بالبلاغ. ويجوز أن تتعلّق بمحذوف تقديره: ولينذروا به أنزل أو تلي.
__________________
(١) الزمر: ٢٤.
(٢) القمر: ٤٨.
(٣) إبراهيم: ٤٢.
( وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ) بالنظر والتأمّل في الأدلّة المؤدّية إلى التوحيد، المثبتة في القرآن من الآيات الدالّة عليه.( وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ) ذوي العقول والنهى، فيرتدعوا عمّا يرديهم، ويتدرّعوا بما يحظيهم.
واعلم أيّها الطالب للرشاد ذخرا ليوم المعاد، أنّ في هذه الآية دلالة على أنّ القرآن كاف في جميع ما يحتاج الناس إليه من أمور الدين، لأنّ جميعها ـ جملها وتفاصيلها ـ يعلم بالقرآن، إمّا بنفسه، وإمّا بواسطة. فيجب على المؤمن المجتهد المهتمّ بأمور الدين أن يشمّر عن ساق الجدّ في طلب علوم القرآن، ليوفّق بمعرفة ما فيه من بدائع الحكمة ومواضع البيان، ويكتفي به عمّا سواه، لينال السعادة في دنياه وعقباه.
وفي قوله:( وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ) دلالة على أنّه سبحانه أراد من الناس علم التوحيد، خلافا لأهل الجبر في قولهم إنّه سبحانه أراد من النصارى إثبات التثليث، ومن الزنادقة القول بالتثنية، تعالى الله عن ذلك.
وفي قوله:( وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ) دلالة على أنّه أراد من الجميع التدبّر والتذكّر. وعلى أنّ العقل حجّة، لأنّ غير ذوي العقول لا يمكنهم الفكر والاعتبار.
واعلم أيضا أنّه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد، هي الغاية في إنزال الكتب: تكميل الرسل للناس. واستكمالهم القوّة النظريّة الّتي منتهى كمالها التوحيد.
واستصلاح القوّة العمليّة، الّذي هو التدرّع بلباس التقوى. أللَّهمّ اجعلنا من الموفّقين لهما، بحقّ نبيّك النبيه، ووليّك الوليه، وآلهما المعصومين أجمعين.
(١٥)
سورة الحجر
مكّيّة، وهي تسع وتسعون آية بالإجماع.
أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمدصلىاللهعليهوآلهوسلم ».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) )
ولـمّا ختم سبحانه سورة إبراهيمعليهالسلام بذكر القرآن، وأنّه بلاغ وكفاية لأهل الإسلام، افتتح هذه السورة بذكر القرآن، وأنّه مبيّن للأحكام، فقال:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ) إشارة إلى آيات السورة. والكتاب
هو السورة. وكذا القرآن. أو المراد بهما الكتاب والسورة جميعا. وتنكيره للتفخيم، أي: آيات المنزل الجامع بين كونه كتابا كاملا وقرآنا يبيّن الرشد من الغيّ، كاملا في البيان.
( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) ربما يتمنّى الكفّار الإسلام حين عاينوا حال المسلمين عند نزول النصر، أو عند حلول الموت، أو في القبر، أو يوم القيامة.
روى مجاهد عن ابن عبّاس قال: ما يزال الله يدخل الجنّة ويرحم ويشفع حتّى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنّة، فحينئذ يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسلمين.
وروي مرفوعا عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة، قال الكفّار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى.
قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها. فسمع اللهعزوجل ما قالوه، فأمر من كان في النار من أهل الإسلام فأخرجوا منها. فحينئذ يقول الكفّار: يا ليتنا كنّا مسلمين».
وقال الصادقعليهالسلام : «ينادي مناد يوم القيامة يسمع الخلائق: أنّه لا يدخل الجنّة إلّا مسلم، فثمّ يودّ سائر الخلق أنّهم كانوا مسلمين».
وقرأ نافع وعاصم: ربما بالتخفيف. و «ما» كافّة تكفّه عن الجرّ، فيجوز دخوله على الفعل. وحقّه أن يدخل على الماضي، لكن لـمّا كان المترقّب في أخبار الله تعالى كالماضي في تحقّقه، اجري المضارع مجرى الماضي.
وقيل: «ما» نكرة موصوفة، كقوله :
ربما(١) تكره النّفوس من الأمر |
له فرجة كحلّ العقال |
__________________
(١) أي: ربّ شيء تكرهه النفوس.
ومعنى التقليل فيه: الإيذان بأنّهم لو كانوا يودّون الإسلام مرّة فبالحريّ أن يسارعوا إليه، فكيف وهم يودّونه كلّ ساعة! وقيل: تدهشهم أهوال القيامة، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الآنات من سكرتهم تمنّوا ذلك.
وقوله:( لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) حكاية ودادهم. وإنّما جيء بها على لفظ الغيبة لأنّهم مخبر عنهم، كقولك: حلف بالله ليفعلنّ. ولو قيل: لو كنّا مسلمين، وحلف بالله لأفعلنّ، لكان حسنا، لكن إيثار الحكاية هو الأحسن، لئلّا يلتبس بقول المتكلّم الحاكي.
( ذَرْهُمْ ) أي: اقطع طمعك منهم، ودعهم عن النهي عمّا هم عليه، والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة، وخلّهم( يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ) بدنياهم وتنفيذ شهواتهم( وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ) ويشغلهم أملهم وتوقّعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال عن الاستعداد للمعاد( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه. والغرض إقناط الرسول من ارعوائهم، وإيذانه بأنّهم من أهل الخذلان، فلا ينفعهم الوعظ، ولا ينجع فيهم النصح، فنصحهم بعد اشتغال بما لا طائل تحته.
وفيه إلزام للحجّة، وتحذير عن إيثار التنعّم وما يؤدّي إليه طول الأمل، ومبالغة في الإنذار منه، وتنبيه على أنّ الإنسان يجب أن يكون مقصور الهمّة على أمور الآخرة، مستعدّا للموت، مسارعا إلى التوبة، ولا يأمل الآمال المؤدّية إلى الصدّ عنها.
وروي عن أمير المؤمنينعليهالسلام أنّه قال: «أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى وطول الأمل، فإنّ اتّباع الهوى يصدّ عن الحقّ، وطول الأمل ينسي الآخرة».
وعن بعض العلماء: التمرّغ في الدنيا من أخلاق الهالكين.
( وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ) مكتوب مقدّر معيّن، وهو أجلها الّذي كتب في اللوح المحفوظ. والمستثنى جملة واقعة صفة لـ «قرية». والأصل أن
لا تدخلها الواو، كما في قوله:( وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ) (١) لكن لـمّا شابهت صورتها صورة الحال أدخلت عليها تأكيدا، للصوقها بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد وعليه ثوب.
( ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها ) موضع كتابها، أي: لم تكن أمّة فيما مضى تسبق أجلها الّذي قدّر لها، فتهلك قبل ذلك( وَما يَسْتَأْخِرُونَ ) عنه، بل إذا استوفت أجلها أهلكها الله لا محالة. وتذكير ضمير «أمّة» فيه للحمل على المعنى، فإنّها بمعنى القوم.
( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) )
( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ) نادوا النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم على التهكّم. ألا ترى إلى ما نادوه له، وهو قولهم:( إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) . ونظير ذلك قول فرعون :
__________________
(١) الشعراء: ٢٠٨.
( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) (١) . والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكّم مذهب واسع، وقد جاء في كتاب الله في مواضع، منها:( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) (٢) .
( إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) (٣) . وقد يوجد في كلام العجم. والمعنى: أنّك لتقول قول المجانين حين تدّعي أنّ الله نزّل عليك الذكر، أي: القرآن.
( لَوْ ما تَأْتِينا ) ركّبت «لو» مع «ما» كما ركّبت مع «لا» لمعنيين: لامتناع الشيء لوجود غيره، والتحضيض. والمراد ها هنا الثاني، أي: هلّا تأتينا.
( بِالْمَلائِكَةِ ) ليصدّقوك ويعضدوك على الدعوة، كقوله تعالى:( لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) (٤) . أو للعقاب على تكذيبنا لك، كما أتت الأمم المكذّبة قبل.
( إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) في دعواك.
( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ ) بالياء مسند إلى ضمير اسم الله. وقرأ حمزة والكسائي وحفص وعاصم: ننزّل بالنون. وأبو بكر: تنزّل الملائكة، بالتاء والبناء للمفعول ورفع الملائكة.( إِلَّا بِالْحَقِ ) إلّا تنزيلا ملتبسا بالحقّ، أي: بالوجه الّذي قدّره واقتضته حكمته، ولا حكمة في أن يأتيكم بصور تشاهدونها، فإنّه لا يزيدكم إلّا لبسا، ولا في معاجلتكم بالعقوبة، فإنّ علمنا يتعلّق بأنّ منكم ومن ذراريكم من سيؤمن.
وقيل: الحقّ الوحي، أو العذاب.
( وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) ممهلين مؤخّرين. «إذا» جواب لهم وجزاء الشرط مقدّر، أي: ولو نزّلنا الملائكة ما كانوا منظرين، بل عذّبوا بلا مهلة.
ثمّ زاد سبحانه في البيان، فقال:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) ردّ لإنكارهم
__________________
(١) الشعراء: ٢٧.
(٢) آل عمران: ٢١.
(٣) هود: ٨٧.
(٤) الفرقان: ٧.
واستهزائهم، ولذلك أكّده من وجوه، وهي: إيراد حرف التحقيق، وتأكيد الضمير، والإسناد إلى نفسه، وصيغة المبالغة، وتقريره بقوله:( وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) أي: من كلّ زيادة ونقصان، وتغيير وتحريف، بخلاف الكتب المتقدّمة، فإنّه لم يتولّ حفظها، وإنّما يستحفظها الربّانيّون والأحبار. ولم يكل القرآن إلى غير حفظه، ليكون إلى آخر الدهر معجزا مباينا لكلام البشر، لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان، فتنقله الأمّة عصرا بعد عصر على ما هو عليه، فيكون حجّة على الخلق.
وقيل: الضمير في «له» للنبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم ، لقوله:( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١) .
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ) يا محمّد رسلا. حذف المفعول لدلالة الإرسال عليه.( فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ) في فرقهم. جمع شيعة، وهي الفرقة المتّفقة على طريق ومذهب، من: شاعه، إذا تبعه. والمعنى: نبّأنا رجالا فيهم وجعلناهم رسلا فيما بينهم.
( وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) كما يفعل هؤلاء. وهو تسلية للنبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم . و «ما» للحال لا يدخل إلّا مضارعا بمعناه، أو ماضيا قريبا منه. وهذا على حكاية الحال الماضية.
( كَذلِكَ نَسْلُكُهُ ) ندخل الذكر( فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) والسلك إدخال الشيء في الشيء، كالخيط في المخيط، والرمح في المطعون.
( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) حال من مفعول «نسلكه». والمعنى: مثل ذلك السلك نسلك الذكر ونلقيه في قلوب المجرمين مكذّبا غير مؤمن به، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام، يعني: مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضيّة. أو يكون قوله: «لا يؤمنون» بيانا للجملة المتضمّنة للضمير.
__________________
(١) المائدة: ٦٧.
وقال بعض الأشعريّة: إنّ المعنى نسلك الاستهزاء في قلوبهم. وهذا غير صحيح، لأنّه لو كان الله قد سلك الاستهزاء في قلوبهم لسقط عنهم الذمّ والعقاب، لأنّ ذلك ليس من فعلهم، بل من فعل الله سبحانه فيهم، فلهم أن يقولوا محتجّين عليه: عتبتنا وذممتنا، وعذّبتنا بشيء أنت تخلقه فينا، وليس لنا فيه اختيار، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
ثمّ قال تهديدا لهم على تكذيبهم:( وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ) طريقتهم الّتي سنّها الله في إهلاكهم حين كذّبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم. وهو وعيد لأهل مكّة على تكذيبهم.
( وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ ) على هؤلاء المعاندين المقترحين( باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) يصعدون إليها ويرون عجائبها طول نهارهم. وتخصيص ذلك بالنهار ليكونوا مستوضحين لـما يرون. وقيل: الضمير للملائكة، أي: لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عيانا.
( لَقالُوا ) من غلوّهم في العناد وتشكيكهم في الحقّ( إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ) سدّت عن الإبصار بالسحر، فإنّ اشتقاقه من السّكر بمعنى السدّ. ويدلّ عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف. أو حيّرت من السّكر، أي: حارت كما يحار السكران. والمعنى: أنّ هؤلاء المشركين بلغ من غلوّهم في العناد أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء، ويسّر لهم معراج يصعدون فيه إليها، وشاهدوا ملكوت السماء، أو رأو صعود الملائكة في السماء من العيان، لقالوا: هو شيء نتخايله لا حقيقة له.
( بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) بل قالوا: قد سحرنا محمّد بذلك، كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات. وإنّما قال: «إنّما» ليدلّ على أنّهم يقطعون بأنّ ذلك ليس إلّا تسكيرا لأبصارهم.
( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) )
ثمّ ذكر سبحانه دلالات التوحيد ردّا عليهم، فقال:( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) اثني عشر تسير الشمس والقمر فيها، مختلفة الهيئات والخواصّ( وَزَيَّنَّاها ) بالأشكال الحسنة والهيئات البهيّة من الكواكب المنيرة( لِلنَّاظِرِينَ ) المعتبرين المستدلّين بها على قدرة مبدعها وتوحيد صانعها.
( وَحَفِظْناها ) وحفظنا السماء( مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ) مرجوم مرميّ بالشهب، أو ملعون مشؤوم، فلا يقدر أن يصعد إليها، ويوسوس أهلها، ويتصرّف في أمرها، ويطّلع على أحوالها. وحفظ الشيء جعله على ما ينفي عنه الضياع. فمن ذلك حفظ القرآن بدرسه حتّى لا ينسى. وحفظ المال إحرازه حتّى لا يضيع. وحفظ السماء من الشيطان بالمنع حتّى لا يدخلها، ولا يبلغ إلى موضع يتمكّن فيه من استراق السمع، لـما أعدّ له من الشهاب، كما قال جلّ وعزّ:( إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) بدل( مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ ) .
واستراق السمع اختلاسه سرّا. شبّه به خطفتهم اليسيرة من قطّان السماوات، لـما بينهم من المناسبة في الجوهر، أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب وحركاتها ليخبروا بها الكهنة.
وعن ابن عباس: أنّه كان في الجاهليّة كهنة، ومع كلّ واحد شيطان، فكان يقعد من السماء مقاعد للسمع، فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض، فينزل ويخبر به الكاهن، فيفشيه الكاهن إلى الناس، فلمّا ولد عيسىعليهالسلام منعوا من ثلاث
سماوات، ولـمّا ولد محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم منعوا من السماوات كلّها بالشهب. فالشهاب من معجزات نبيّناصلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّه لم ير قبل زمانه.
وقيل: الاستثناء منقطع، أي: ولكن من استرق السمع( فَأَتْبَعَهُ ) فتبعه ولحقه( شِهابٌ مُبِينٌ ) ظاهر للمبصرين. والشهاب شعلة نار ساطعة. وقد يطلق للكواكب والسنان، لـما فيهما من البريق.
( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) )
ولـمّا تقدّم ذكر السماء وما فيها من الأدلّة والنعم، أتبعه بذكر الأرض، فقال:( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ) بسطناها طولا وعرضا( وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ) جبالا ثوابت( وَأَنْبَتْنا فِيها ) في الأرض، أو فيها وفي الجبال( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) مقدّر بمقدار معيّن وزن بميزان الحكمة. أو مستحسن مناسب، من قولهم: كلام موزون.
أو ما يوزن ويقدّر في العادة، كالفضّة والذهب. أو له وزن في أبواب النعم والمنفعة.
( وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ) تعيشون بها من المطاعم والملابس( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) عطف على معايش، أو على محلّ «لكم». كأنّه قيل: وجعلنا لكم فيها معايش وجعلنا من لستم له برازقين. ولا يجوز عطفه على ضمير «لكم»، لأنّه لا
يعطف على الضمير المجرور. والمراد به العيال والخدم والمماليك، وسائر ما يظنّون أنّهم يرزقونهم ظنّا كاذبا، فإنّ الله يرزقهم وإيّاهم.
وفذلكة الآية: الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معيّنين ـ مختلفة الأجزاء في الوضع، محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة، مع جواز أن لا تكون كذلك ـ على كمال قدرته، وتناهي حكمته، والتفرّد في الألوهيّة، والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك، ليوحّدوه ويعبدوه.
ثمّ بالغ في ذلك وقال:( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ) أي: وما من شيء إلّا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه. فضرب الخزائن مثلا لاقتداره على كلّ مقدوراته، أو شبّه مقدوراته بالأشياء المخزونة الّتي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد.
وقيل: المراد به الماء الّذي منه النبات، وهو مخزون عنده تعالى إلى أن ينزله، ونبات الأرض وثمارها إنّما ينبت بماء السماء.
( وَما نُنَزِّلُهُ ) وما نوجده وما نعطيه، أو ما ننزّل المطر في بقاع الأرض( إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) نعلم أنّه مصلحة. فحدّه الحكمة، وتعلّقت به المشيئة، فإنّ تخصيص بعضها بالإيجاد في بعض الأوقات، مشتملا على بعض الصفات والحالات، لا بدّ له من مخصّص حكيم.
ويؤيّد التفسير الثاني قوله:( وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ ) حوامل. شبّه الريح التي جاءت بخير ـ من إنشاء سحاب ماطر ـ بالحامل، كما شبّه ما لا يكون كذلك بالعقيم. أو ملحقات للشجر أو السحاب. ونظيره الطوائح، بمعنى المطيحات، في قوله: ومختبط ممّا تطيح الطوائح.
( فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ ) فجعلناه لكم سقيا( وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ ) قادرين متمكّنين من إخراجه. نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله :
( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ) . أو حافظين في الغدران والعيون والآبار، ثم نخرجه منها بقدر الحاجة، ولا يقدر أحد على إحراز ما يحتاج إليه من الماء في موضع.
وذلك أيضا يدلّ على المدبّر الحكيم، كما تدلّ حركة الهواء في بعض الأوقات من بعض الجهات على وجه ينتفع به الناس، فإنّ طبيعة الماء تقتضي الغور، فوقوفه دون حدّ لا بدّ له من سبب مخصّص.
( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي ) بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها( وَنُمِيتُ ) بإزالتها. وقد أوّل الحياة بما يعمّ الحيوان والنبات. وتكرير الضمير للدلالة على الحصر.( وَنَحْنُ الْوارِثُونَ ) الباقون إذا هلك الخلق كلّه. وهو استعارة من وارث الميّت، لأنّه يبقى بعد فناء الموروث منه، ومنه قولهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «واجعله الوارث منّا».
أو المراد: نحن الوارثون جميع الأشياء كلّها إذا مات الخلائق، فتصير جميع الأشياء كلّها راجعة إلينا ننفرد بالتصرّف فيها.
( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) )
ثمّ بيّن كمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فقال:( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) من استقدم ولادة وموتا ومن استأخر من الأوّلين والآخرين. أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد. أو من تقدّم في الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة أو تأخّر، لا يخفى علينا شيء من أحوالكم.
وقيل: رغّب رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في الصفّ الأول، وقال: «خير صفوف الرجال أولها، وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرّها أوّلها».
وقالصلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الله وملائكته يصلّون على الصفّ المقدّم». فازدحم الناس، وكانت دور بني
عذرة بعيدة عن المسجد، فقالوا: لنبيعنّ دورنا، ولنشترينّ دورا قريبة من المسجد، حتى ندرك الصفّ المقدّم، فنزلت هذه الآية.
فعلى هذا يكون المعنى: أنّا نجازي الناس على نيّاتهم.
وقيل: إنّ امرأة حسناء كانت تصلّي خلف رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فتقدّم بعض القوم لئلّا ينظر إليها، وتأخّر بعض ليبصرها، فنزلت الآية المذكورة. فقال:( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) لا محالة للجزاء.
وتوسيط الضمير للدلالة على أنّه القادر والمتولّي لحشرهم، والعالم بحصرهم ـ مع كثرتهم وتباعد أطراف عددهم ـ لا غير.
وتصدير الجملة بـ «إنّ» لتحقيق الوعد، والتنبيه على أنّ ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدلّ على صحّة الحكم، كما صرّح به بقوله:( إِنَّهُ حَكِيمٌ ) باهر الحكمة، متقن في أفعاله( عَلِيمٌ ) وسع علمه كلّ شيء.
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) )
ولـمّا ذكر سبحانه الإحياء والإماتة والنشأة الثانية، عقّبه ببيان النشأة الأولى، فقال:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ ) طين يابس يصلصل ـ أي: يصوّت إذا نقر ـ وهو غير مطبوخ، فإذا طبخ فهو فخار. وقيل: هو من: صلصل إذا أنتن، تضعيف: صلّ، فإنّه يقال: صلّ اللحم وأصلّ إذا أنتن.
( مِنْ حَمَإٍ ) طين تغيّر واسودّ من طول مجاورة الماء. وهو صفة صلصال، أي: كائن من حمإ( مَسْنُونٍ ) مصوّر، من: سنّة الوجه، أي: صورته. أو مصبوب مفرّغ لييبس، كالجواهر المذابة تصبّ في القوالب، من السنّ وهو الصبّ، كأنّه أفرغ الحمأ فصوّر منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتّى إذا نقر صلصل، ثمّ غيّر ذلك طورا بعد طور، حتّى سوّاه ونفخ فيه من روحه. أو منتن، من: سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فإنّ ما يسيل بينهما يكون منتنا، ويسمّى السنين.
( وَالْجَانَ ) أبا الجنّ. وقيل: إبليس. ويجوز أن يراد به الجنس، كما هو الظاهر من الإنسان، لأنّ تشعّب الجنس لـمّا كان من شخص واحد خلق من مادّة واحدة، كان الجنس بأسره مخلوقا منها. وانتصابه بفعل يفسّره قوله:( خَلَقْناهُ ) من قبل خلق الإنسان( مِنْ نارِ السَّمُومِ ) من نار الحرّ الشديد النافذ في المسامّ.
وقيل: هي نار لا دخان لها، والصواعق يكون منها. ولا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة، كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجرّدة، فضلا عن الأجساد المؤلّفة الّتي الغالب فيها الجزء الناري، فإنّها أقبل لها من الّتي الغالب فيها الجزء الأرضي. وقوله:( مِنْ نارِ ) باعتبار الغالب، كقوله:( خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ) (١) .
قيل: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من سموم النار الّتي خلق الله منها الجانّ.
ومساق الآية كما يدلّ على كمال قدرته وبيان بدء خلق الثقلين، فهو كالتنبيه على المقدّمة الثانية الّتي يتوقّف عليها إمكان الحشر، وهو قبول الموادّ للجمع والإحياء.
واعلم أنّ أصل آدمعليهالسلام كان من تراب، وذلك قوله:( مِنْ تُرابٍ ) (٢) . ثمّ جعل التراب طينا، وذلك قوله:( خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ) (٣) . ثمّ ترك ذلك الطين حتّى تغيّر واسترخى، وذلك قوله:( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) ثمّ ترك حتّى جفّ، وذلك قوله:( مِنْ صَلْصالٍ ) . فهذه الأقوال لا تناقض فيها، إذ هي إخبار عن حالاته المختلفة، كما قال تعالى:( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ ) واذكر وقت قوله:( لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً ) يعني: آدم.
وسمّي بشرا لأنّه ظاهر الجلد، لا يواريه شعر ولا صوف.
__________________
(١) الروم: ٢٠.
(٢) آل عمران: ٥٩.
(٣) الأنعام: ٢.
( مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) .
( فَإِذا سَوَّيْتُهُ ) عدّلت خلقته وكمّلته، وهيّأته لنفخ الروح فيه( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) حتى جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي.
قال في الكشّاف: «معناه: وأحييته، وليس ثمّ نفخ ولا منفوخ، وإنّما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه»(١) .
وقال في الأنوار: «أصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر، ولـمّا كان الروح يتعلّق أوّلا بالبخار اللطيف المنبعث من القلب، وتفيض عليه القوّة الحيوانيّة، فيسري حاملا لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن، جعل تعلّقه بالبدن نفخا، وإضافة الروح إلى نفسه للتشريف»(٢) .
( فَقَعُوا ) فاسقطوا( لَهُ ساجِدِينَ ) أمر من: وقع يقع.
( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) أكّد بتأكيدين للمبالغة في التعميم، ومنع توهّم احتمال التخصيص.
وقيل: أكّد بالكلّ للإحاطة، وبأجمعين للدلالة على أنّهم سجدوا مجتمعين دفعة. وفيه بحث، إذ لو كان الأمر كذلك كان الثاني حالا لا تأكيدا.
( إِلَّا إِبْلِيسَ ) إن جعل منقطعا اتّصل به قوله:( أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) أي: ولكن إبليس امتنع أن يسجد معهم واستكبر. وإن جعل متّصلا كان استئنافا، على أنّه جواب سائل قال: هلّا سجد؟ فقيل: أبى أن يكون من الساجدين.
واستثنى إبليس من الملائكة، لأنّه كان بينهم مأمورا معهم بالسجود، فغلّب اسم الملائكة ثمّ استثنى بعد التغليب، كقولك: رأيتهم إلّا هذا. وقد سبق(٣) القول في
__________________
(١) الكشّاف ٢: ٥٧٧.
(٢) أنوار التنزيل ٣: ١٦٨.
(٣) راجع ج ١ ص ١٢٣ ذيل الآية (٣٤) من سورة البقرة.
أنّ إبليس هل كان من الملائكة أو لم يكن؟ باختلاف العلماء فيه، وما لكلّ واحد من الفريقين من الحجج في سورة البقرة، فلا معنى للإعادة هاهنا.
( قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ ) حرف الجرّ محذوف، أي: أيّ غرض لك في أن لا تكون( مَعَ السَّاجِدِينَ ) لآدم؟!( قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ ) اللام لتأكيد النفي، أي: لا يصحّ منّي وينافي حالي أن أسجد( لِبَشَرٍ ) جسمانيّ كثيف وأنا جسم لطيف( خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) وهو أخسّ العناصر، وخلقتني من نار وهي أشرفها. استنقص آدمعليهالسلام باعتبار النوع والأصل. وقد سبق(١) الجواب عنه في سورة الأعراف.
( قالَ فَاخْرُجْ مِنْها ) أي: من السماء، أو الجنّة، أو زمر الملائكة. وقيل: من الرئاسة.( فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) مطرود من الخير والكرامة، مبعد من الرحمة، فإنّ من يطرد يرجم بالحجر. أو شيطان يرجم بالشهب. وهو وعيد يتضمّن الجواب عن شبهته.
( وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ ) هذا الطرد والإبعاد( إِلى يَوْمِ الدِّينِ ) ضرب يوم الدين حدّا للعنة، إمّا لأنّه أبعد غاية يضربها الناس ـ كقوله:( ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) (٢) ـ في التأبيد. وإمّا أن يراد: أنّك مذموم مدعوّ عليك باللعنة في السماوات والأرض إلى يوم الدين من غير أن تعذّب، فإذا جاء ذلك اليوم عذّبت بما ينسى اللعن معه. أو لأنّ اللعنة إلى يوم الدين يناسب أيّام التكليف. وما في قوله:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٣) بمعنى آخر، وهو العذاب الأليم والعقاب العظيم.
( قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي ) فأخّرني. والفاء متعلّقة بمحذوف دلّ عليه «فاخرج
__________________
(١) راجع ج ٢ ص ٤٩٨ ذيل الآية (١٢) من سورة الأعراف.
(٢) هود: ١٠٧.
(٣) الأعراف: ٤٤.