زبدة التفاسير الجزء ٣
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637
(١٦)
سورة النحل
مكّيّة غير ثلاث آيات نزلت في انصراف النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم من أحد، وهي:( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ) إلى آخر السورة، نزلت بين مكّة والمدينة. وهي مائة وثمان وعشرون آية بلا خلاف.
أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأها لم يحاسبه الله بالنعم الّتي أنعمها عليه في دار الدنيا، وإن مات في يوم تلاها أو ليلة كان له من الأجر كالّذي مات وأحسن الوصيّة».
وروى محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليهالسلام قال: «من قرأ سورة النحل في كلّ شهر كفي المغرم في الدنيا، وسبعين نوعا من أنواع البلاء، أهونه الجنون والجذام والبرص، وكان مسكنه في جنّة عدن، وهي وسط الجنان».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) )
ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الحجر بوعيد الكفّار، افتتح هذه السورة بوعيدهم أيضا. وروي أنّ كفّار مكّة كانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم ، من قيام الساعة أو إهلاك الله إيّاهم ـ كما فعل يوم بدر ـ استهزاء وتكذيبا، ويقولون: إن صحّ ما تقوله فالأصنام تشفع لنا وتخلّصنا منه، فنزلت:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللهِ ) أي: الأمر الموعود من الله بمنزلة الآتي المتحقّق، من حيث إنّه واجب الوقوع. وفي الحديث عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال: «إنّ أمر الله آت، وكلّ ما هو آت قريب دان».
( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) فلا تستعجلوا وقوعه، فإنّه لا خير لكم فيه، ولا خلاص لكم منه.
وقيل: لـمّا نزلت:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) (١) قال الكفّار فيما بينهم: إنّ هذا يزعم أنّ القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتّى ننظر ما هو كائن. فلمّا تأخّرت قالوا: ما نرى شيئا. فنزلت:( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ) (٢) . فأشفقوا وانتظروا قربها. فلمّا امتدّت الأيّام قالوا: يا محمّد ما نرى شيئا ممّا تخوّفنا به. فنزلت:( أَتى أَمْرُ اللهِ ) . فوثب رسول الله، ورفع الناس رؤوسهم، فنزلت:( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) فاطمأنّوا.
( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) تبرّأ وجلّ عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم، فتكون «ما» موصولة. أو عن إشراكهم، فتكون مصدريّة. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على وفق قوله:( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) . والباقون بالياء على تلوين الخطاب، أو على أن الخطاب للمؤمنين، أو لهم ولغيرهم.
( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ) بالوحي أو القرآن، فإنّه يحيي به القلوب الميّتة بالجهل. أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد. وذكره عقيب ذلك إشارة إلى
__________________
(١) القمر: ١.
(٢) الأنبياء: ١.
الطريق الّذي به علم الرسول ما تحقّق موعدهم به ودنوّه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ينزل، من: أنزل. وعن يعقوب مثله. وعنه: تنزّل، بمعنى: تتنزّل. وقرأ أبو بكر: تنزّل، على المضارع المبنيّ للمفعول، من التنزيل.
( مِنْ أَمْرِهِ ) من أجله، أو بأمره. ونظيره قوله:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) (١) أي: بأمره.( عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) ممّن يصلح للنبوّة( أَنْ أَنْذِرُوا ) بأن أنذروا، أي: أعلموا، من: نذرت بكذا، إذا علمته( أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) أي: خوّفوا أهل الكفر والمعاصي بأنّه لا إله إلّا أنا. وقوله: «فاتّقون» رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود. و «أنّ» مفسّرة، لأنّ الروح بمعنى الوحي الدالّ على القول. أو مصدريّة في موضع الجرّ بدلا من الروح، أو النصب بنزع الخافض. أو مخفّفة من الثقيلة، أي: أن الشأن لا إله إلّا أنا.
والآية تدلّ على أنّ نزول الوحي بواسطة الملائكة، وأنّ الغرض منه التنبيه على التوحيد الّذي هو منتهى كمال القوّة العلميّة، والأمر بالتقوى الّذي هو أقصى كمال القوّة العمليّة.
( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) )
__________________
(١) الرعد: ١١.
ثمّ دلّ على وحدانيّته بما ذكر ممّا لا يقدر عليه غيره، من خلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان وما يصلحه، وما لا بدّله منه من خلق البهائم، فقال:( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة، قدّرها وخصّصها بحكمته( تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) منهما، أو ممّا يفتقر في وجوده أو بقائه إليهما، ممّا لا يقدر على خلقهما.
( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) جماد لا حسّ بها ولا حراك، سيّالة لا تحفظ الوضع والشكل( فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ ) منطيق، مجادل، مكافح للخصوم( مُبِينٌ ) للحجّة بعد ما كان نطفة من منيّ، جمادا لا حسّ به ولا حركة. أو خصيم لربّه، منكر على خالقه، قائل:( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (١) ، وصفا للإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل، والتمادي في كفران النعمة.
وقيل: نزلت في أبيّ بن خلف، أتى النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم بعظم رميم وقال: يا محمّد، أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ(٢) ؟
( وَالْأَنْعامَ ) الإبل والبقر والغنم. وانتصابها بمضمر يفسّره( خَلَقَها لَكُمْ ) . أو بالعطف على الإنسان. و «خلقها لكم» بيان ما خلقت لأجله، وما بعده تفصيل له.
وهو قوله:( فِيها دِفْءٌ ) ما يدفأ به من لباس معمول من الصوف والشعر ـ كـ: ملء، اسم ما يملأ به ـ فيقي البرد.
__________________
(١) يس: ٧٨.
(٢) رمّ العظم: بلي.
( وَمَنافِعُ ) نسلها ودرّها وظهورها. وإنّما عبّر عنها بالمنافع ليتناول عوضها.
( وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) أي: تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم والألبان.
وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي، أو لأنّ الأكل منها هو المعتاد المعتمد عليه في المعاش، وأمّا الأكل من سائر الحيوانات المأكولة ـ كالصيود البرّيّة والبحريّة، كالدجاج والبطّ ـ فعلى سبيل التداوي أو التفكّه(١) .
( وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ ) زينة( حِينَ تُرِيحُونَ ) تردّونها من مراعيها إلى مراحها بالعشيّ( وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) تخرجونها بالغداة إلى المراعي، فإنّ الأفنية تتزيّن بها في الوقتين، ويجلّ أهلها في أعين الناظرين إليها، ويفرح أربابها. ونحوه:( لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ) (٢) ( يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً ) (٣) . وتقديم الإراحة لأنّ الجمال فيها أظهر، فإنّها تقبل ملأى البطون حافلة(٤) الضروع، ثمّ تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها.
( وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ ) أحمالكم( إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ ) إن لم تكن الأنعام ولم تخلق، فضلا أن تحملوها على ظهوركم إليه. فلأجل هذه الإفادة لم يقل: لم تكونوا حامليها إليه، ليطابق قوله:( وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ ) .( إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ) إلّا بكلفة ومشقّة. وأصله: النصف، كأنّه ذهب نصف قوّته بالتعب.
( إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) حيث رحمكم بخلقها لانتفاعكم، وتيسير الأمر عليكم.
( وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ ) عطف على الأنعام( لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ) أي :
__________________
(١) أي: التلذّذ والتمتّع.
(٢) النحل: ٨.
(٣) الأعراف: ٢٦.
(٤) أي: ممتلئة ضروعها لبنا.
ولتتزيّنوا بها زينة. وقيل: هي معطوفة على محلّ «لتركبوها». وتغيير النظم لأنّ الزينة بفعل الخالق، والركوب ليس بفعله. ولأنّ المقصود من خلقها الركوب، وأمّا التزيّن بها فحاصل بالعرض. وليس فيه ما يدلّ على تحريم أكل لحومها، كما استدلّ به بعض العامّة، إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غيره أصلا. وقد روى البخاري في الصحيح(١) مرفوعا إلى اسماء بنت أبي بكر قالت: أكلنا لحم الفرس على عهد رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم .
ولـمّا فصّل الحيوانات الّتي يحتاج إليها غالبا ـ احتياجا ضروريّا أو غير ضروريّ ـ أجمل غيرها، فقال:( وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ) ويجوز أن يكون إخبارا بأنّ له من الخلائق ما لا علم لنا به، من الحشرات في المفاوز والبحار. وأن يراد به ما خلق في الجنّة والنار ممّا لم يخطر على قلب بشر، ليزيد دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك، وإن طوى عنّا علمه، لحكمة ما في طيّه.
( وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) )
( وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) أي: بيان مستقيم الطريق الموصل إلى الحقّ.
فالقصد مصدر بمعنى الفاعل، وهو القاصد، يقال: سبيل قصد وقاصد، أي: مستقيم، كأنّه يقصد الوجه الّذي يؤمّه السالك لا يعدل عنه. أو المعنى: إقامة السبيل وتعديلها. أو عليه قصد السبيل، يصل إليه من يسلكه لا محالة، أي: واجب عليه هداية الطريق الموصل إلى الحقّ، كقوله:( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (٢) . والمعنى: واجب على الله في عدله بيان الطريق المستقيم، وبيان الهدى من الضلالة، والحلال من
__________________
(١) صحيح البخاري ٧: ١٢٣.
(٢) الليل: ١٢.
الحرام، لينتفع المكلّف بالهدى والحلال، ويتجنّب عن الضلالة والحرام.
والمراد بالسبيل الجنس، ولذلك أضاف إليه القصد وقال:( وَمِنْها جائِرٌ ) مائل عن القصد، أو عن الله. وغيّر الأسلوب ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيل وما لا يجوز. ولو كان الأمر كما تزعم المجبّرة لقيل: وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها، أو وعليه الجائر. أو ليعلم أنّ المقصود بيان سبيله، وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنّما جاء بالعرض.
( وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) أي: ولو شاء هدايتكم أجمعين مشيئة جبر وقسر لهداكم قسرا إلى قصد السبيل، هداية مستلزمة للاهتداء، ولكنّ القسر والإلجاء ضدّ التكليف الّذي هو مدار أعمال العباد، كما بيّن غير مرّة.
( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) )
ثمّ عدّ سبحانه نعمة اخرى دالّة على كمال قدرته ووحدانيّته، فقال:( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ) من السحاب، أو من جانب السماء( ماءً ) أي: مطرا( لَكُمْ
مِنْهُ شَرابٌ ) ما تشربونه. و «لكم» صلة «أنزل»، أو خبر «شراب»، و «من» تبعيضيّة متعلّقة به. وتقديمها يوهم حصر المشروب فيه. ولا بأس به، لأنّ مياه العيون والآبار منه، لقوله:( فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ ) (١) ، وقوله:( فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ) (٢) .
( وَمِنْهُ شَجَرٌ ) ومنه يكون شجر. قيل: معناه: لكم من ذلك الماء شراب، ومنه شرب شجر أو سقي شجر، فحذف المضاف. أو لكم من سقيه شجر، فحذف المضاف إلى الهاء في «منه». والمراد بالشجر الّذي ترعاه المواشي. وقيل: كلّ ما نبت على الأرض شجر.
( فِيهِ تُسِيمُونَ ) ترعون أنعامكم من غير كلفة والتزام مؤونة لعلفها. من: سامت الماشية إذا رعت، وأسامها صاحبها. وأصله: السومة، وهي العلامة، لأنّها تؤثّر بالرعي علامات في الأرض.
( يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ ) بذلك المطر( الزَّرْعَ ) وقرأ أبو بكر بالنون على التفخيم( وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) وبعض كلّها، إذ لم ينبت في الأرض كلّ ما يمكن من الثمار، بل كلّ الثمار في الجنّة. ولعلّ تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه، لأنّه سيصير غذاء حيوانيّا هو أشرف الأغذية، ومن هذا تقديم الزرع والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها.
( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) على وجود الصانع وكمال حكمته وقدرته، فإنّ من تأمّل أن الحبّة تقع في الأرض، وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشقّ أعلاها، ويخرج منه ساق الشجرة، وينشقّ أسفلها فيخرج منه عروقها، ثمّ ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والأكمام والثمار، ويشتمل كلّ منها على أجسام مختلفة الأشكال والطباع، مع اتّحاد الموادّ ونسبة الطبائع السفليّة والتأثيرات الفلكيّة إلى الكلّ، علم أنّ ذلك ليس إلّا بفعل فاعل مختار مقدّس عن منازعة الأضداد
__________________
(١) الزمر: ٢١.
(٢) المؤمنون: ١٨.
والأنداد، جلّت قدرته وحكمته.
( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ ) بأن هيّأها لمنافعكم( مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ ) حال من الجميع، أي: نفعكم بها حال كونها مسخّرات لله، خلقها ودبّرها كيف شاء. أو مسخّرات لـما خلقن له بأمره بإيجاده وتقديره، أو لحكمه. ويجوز أن يكون نصب «مسخّرات» بالمصدريّة، وجمع لاختلاف النوع، أي: سخّرها أنواعا من التسخير. وقرأ حفص: والنجوم مسخّرات، على الابتداء والخبر، فيكون تعميما للحكم بعد تخصيصه. ورفع ابن عامر الشمس والقمر أيضا.
( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) جمع الآية وذكر العقل، لأنّ الآثار العلويّة أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة. ولأنّها تدلّ أنواعا من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة، غير محوجة إلى استيفاء فكر، كأحوال النبات.
( وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ ) عطف على الليل، أي: وسخّر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان ونبات ومعدن( مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ) أصنافه، فإنّها تتخالف باللون غالبا( إِنَّ فِي ذلِكَ ) التسخير( لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) أنّ اختلافها في الطباع والهيئات والمناظر ليس إلّا بصنع صانع حكيم.
( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) )
ثمّ عدّد سبحانه نوعا آخر من أنواع نعمه، فقال:( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ ) جعله بحيث تتمكّنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد والغوص( لِتَأْكُلُوا مِنْهُ ) بالاصطياد( لَحْماً طَرِيًّا ) هو السمك. ووصفه بالطراوة، لأنّه أرطب اللحوم، يسرع إليه الفساد، فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه. ولإظهار قدرته في خلقه عذبا طريّا في ماء زعاق(١) .
وتمسّك به مالك والثوري على أنّ من حلف أن لا يأكل لحما حنث بأكل السمك.
وأجيب عنه بأنّ مبنى الأيمان على العرف، وهو لا يفهم منه عند الإطلاق.
ألا ترى إذا قال الرجل لغلامه: اشتر بهذه الدراهم لحما، فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار. ونظيره أنّ الله سمّى الكافر دابّة في قوله:( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٢) . ولا يحنث الحالف على أن لا يركب دابّة بركوب الكافر.
( وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ) كاللؤلؤ والمرجان، أي: تلبسها نساؤكم، فأسند إليهم لأنّهنّ من جملتهم، ولأنّهنّ يتزيّنّ بها لأجلهم.
( وَتَرَى الْفُلْكَ ) السفن( مَواخِرَ فِيهِ ) شواقّ في البحر، وقواطع لمائه. يعني: في حالة الجريان تشقّ البحر بحيزومها(٣) . من المخر، وهو شقّ الماء. وعن الفرّاء: هو صوت جري الفلك بالرياح.
( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) من سعة رزقه بركوبها للتجارة( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي: تعرفون نعم الله فتقومون بحقّها. ولعلّ تخصيصه بتعقيب الشكر، لأنّه أقوى نعمة من نعم المنعم، من حيث إنّه جعل مظانّ الهلاك سببا للانتفاع وتحصيل المعاش.
__________________
(١) الزعاق: الماء المرّ لا يطاق شربه.
(٢) الأنفال: ٥٥.
(٣) في هامش النسخة الخطّية: «هو وسط الصدر. منه».
( وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ ) جبالا عالية ثابتة. واحدها راسية.( أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) كراهة أن تميل بكم، أو لئلّا تميل بكم وتضطرب. وذلك لأنّ الأرض قبل خلق الجبال فيها كانت كرة خفيفة بسيطة الطبع، وكان من شأن الكرويّات أن تتحرّك بالاستدارة كالأفلاك، وأن تتحرّك بأدنى سبب للتحريك، فلمّا خلقت الجبال على وجهها تفاوتت جوانبها، وتوجّهت الجبال بثقلها نحو المركز، فصارت كالأوتاد الّتي تمنعها عن الحركة.
وروي: أنّ الله سبحانه لـمّا خلق الأرض جعلت تمور(١) ، فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، ولم تدر الملائكة ممّ خلقت.
( وَأَنْهاراً ) أي: وجعل فيها أنهارا، لأن «ألقى» فيه معنى: جعل( وَسُبُلاً ) وطرقا( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) إلى حيث شئتم من البلاد لمقاصدكم، أو إلى معرفة الله.
( وَعَلاماتٍ ) ومعالم الطرق، وكلّ ما يستدلّ به السابلة من جبل ومنهل ونحو ذلك( وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) بالليل في البراري والبحار. والمراد بالنجم الجنس، كما يقال: كثر الدرهم في أيدي الناس. ويدلّ عليه القراءة الشاذّة: وبالنجم، بضمّتين، وضمّ وسكون، على الجمع. وعن السدّي: هو الثريّا والفرقدان وبنات النعش والجدي.
وعن ابن عبّاس: سألت رسول الله عنه فقال: الجدي علامة قبلتكم، وبه تهتدون في برّكم وبحركم.
ولعلّ الضمير لقريش، لأنّهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة، مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم. وإخراج الكلام عن سنن الخطاب، وتقديم النجم، وإقحام الضمير للتخصيص، كأنّه قيل: إنّ للناس ـ خصوصا لقريش ـ اهتداء
__________________
(١) أي: تضطرب وتتحرّك كثيرا وبسرعة من جهة إلى اخرى.
بالنجوم في أسفارهم، فكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم، فكان الشكر عليه ألزم لهم، وأوجب عليهم.
وعن الصادقعليهالسلام : «نحن العلامات، والنجم رسول الله».
وقال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الله جعل النجوم أمانا لأهل السماء، وجعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض».
( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) )
وبعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرته وتناهي حكمته، والتفرّد بخلق ما عدّد من مبدعاته، أنكر عبادة المشركين الأصنام، فقال:( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ) يعني: كيف يساوي ويستحقّ مشاركته ما لا يقدر على خلق شيء من ذلك، بل على إيجاد شيء ما.
والمراد بـ «من لا يخلق» كلّ ما عبد من دون الله، سواء كان من أولي العلم أم لا، فغلّب أولو العلم على غيرهم لشرافتهم.
أو المراد به الأصنام، فجيء بـ «من» الّذي لأولي العلم، إمّا لأنّهم سمّوها آلهة وعبدوها، فأجروها مجرى أولي العلم. ألا ترى إلى قوله على أثره:( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) . وإمّا للمشاكلة بينه وبين «من يخلق». وإمّا للتنبيه على أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم، فكيف بما لا علم عنده؟! وكان حقّ الكلام: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ لأنّه إلزام للّذين عبدوا الأوثان، وسمّوها آلهة تشبيها بالله، فجعلوا غير الخالق مثل الخالق، فكان حقّ الإلزام أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكنّه عكس تنبيها على أنّهم حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له، وسوّوا بينه وبينه، فقد جعلوا
الله من جنس المخلوقات، شبيها بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله:( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ) ، أي: أجعلتموه من جنس المخلوقات العجزة وشبّهتموه بها؟
( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أفلا تتذكّرون أيّها المشركون، فتعرفوا فساد ذلك؟! فإنّه لجلائه كالّذي حصل عند العقل بأدنى تذكّر والتفات.
( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) )
ولـمّا عدّد النعم وألزم الحجّة على تفرّده باستحقاق العبادة، نبّه العباد على أنّ ما وراء ما عدّد نعما لا تنحصر، فحقّ عبادته غير مقدور، فقال:( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ ) وإن أردتم تعداد نعم الله عليكم ومعرفة تفاصيلها( لا تُحْصُوها ) لا تضبطوا عددها، ولم يمكنكم إقصاؤها، ولا تبلغه طاقتكم، فضلا أن تطيقوا القيام بشكرها( إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ ) حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكرها( رَحِيمٌ ) لا يقطعها لتفريطكم فيه، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها.
( وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) )
ولـمّا قدّم سبحانه الدعاء إلى عبادته بذكر نعمه وكمال قدرته، عقّبه ببيان علمه بسريرة كلّ أحد وعلانيته، فقال:( وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ ) من عقائدكم وأعمالكم، فيجازيكم على حسبهما، إذ لا يخفى عليه الجليّ والخفيّ من أحوالكم. وهذا وعيد للكافر الكفور، وتزييف للشرك باعتبار العلم.
( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) )
ولـمّا نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق، بيّن أنّهم لا يخلقون شيئا، لينتج أنّهم لا يشاركونه، فقال:( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي: والآلهة الّذين يعبدونهم من دونه. وقرأ عاصم ويعقوب بالياء.( لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً ) فكيف يجوز أن يكونوا شركاء لله في الألوهيّة؟! ثمّ أكّد ذلك بأن أثبت لهم صفات تنافي الألوهيّة، فقال:( وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) لأنّها ذوات ممكنة مفتقرة الوجود إلى التخليق، والإله ينبغي أن يكون واجب الوجود.
( أَمْواتٌ ) هم أموات لا تعتريهم الحياة، أو أموات حالا أو مآلا( غَيْرُ أَحْياءٍ ) بالذات ليتناول كلّ معبود، والإله ينبغي أن يكون حيّا بالذات لا يعتريه الممات( وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) ولا يعلمون وقت بعث عبدتهم. وفيه تهكّم بالمشركين، وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم؟! والإله ينبغي أن يكون عالما بالغيوب، مقدّرا للثواب والعقاب. وفيه تنبيه على أنّ البعث من توابع التكليف، فإنّه لا بدّ للتكليف من الجزاء، وهو بعد البعث.
( إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) )
ولـمّا أقام الله سبحانه الحجج على بطلان الشرك والشركاء، ذكر المدّعى وهو الوحدانيّة، فقال:( إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) .
ثمّ بيّن ما اقتضى إصرارهم على الشرك بعد وضوح الحقّ، من عدم إيمانهم بالآخرة، فقال:( فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ ) جاحدة للحقّ، مستبعدة لـما يرد عليها من المواعظ( وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) عن الانقياد للحقّ، دافعون له من غير حجّة، فإنّ المؤمن بالآخرة يكون طالبا للدلائل، متأمّلا فيما يسمع، فينتفع به، والكافر بها يكون حاله بالعكس. يعني: أنكرت قلوبهم ما لا يعرف إلّا بالبرهان، اتّباعا للأسلاف، وركونا إلى المألوف، فإنّه ينافي النظر، واستكبرت عن اتّباع الرسول وتصديقه، والالتفات إلى قوله. والأوّل هو العمدة في هذا الباب، ولذلك رتّب عليه الآخرين.
( لا جَرَمَ ) حقّا( أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ) فيجازيهم. وهو في موضع الرفع بـ «جرم»، لأنّه فعل أو مصدر.( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) فضلا عن الّذين استكبروا عن توحيده أو اتّباع رسوله.
( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) )
ثمّ أبان سبحانه عن أحوال المشركين وأقوالهم، فقال:( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ) القائل بعضهم على التهكّم، أو الوافدون عليهم، أو المسلمون. و «ماذا» إما منصوب بـ «أنزل» بمعنى: أيّ شيء أنزل ربّكم؟ أو مرفوع بالابتداء، بمعنى: ايّ شيء أنزله ربّكم؟ فإذا نصبت فمعنى قوله:( قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) : ما تدّعون نزوله أساطير الأوّلين. وإذا رفعته فالمعنى: المنزل أساطير الأوّلين. وإنّما سمّوه منزلا على التهكّم، أو على فرض أنّه منزل فهو أساطير الأولين لا تحقيق فيه.
والقائلون قيل: هم المقتسمون الّذين اقتسموا مداخل مكّة ينفّرون عن رسول الله، إذا سألهم وفود الحاجّ عمّا أنزل على رسول الله قالوا: أحاديث الأوّلين وأباطيلهم.
( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) اللام للعاقبة. والمعنى: كان عاقبة أمرهم إذا فعلوا ذلك أن حملوا أوزار ضلالهم تامّة، فإنّ إضلالهم نتيجة رسوخهم في الضلال.
( وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ) وبعض أوزار ضلال من يضلّونهم، وهو حصّة التسبّب. يعني: حملوا أوزار إضلالهم وإغوائهم، ولم يحملوا أوزار ضلالهم.
( بِغَيْرِ عِلْمٍ ) حال من المفعول، أي: يضلّون من لا يعلم أنّهم ضلّال. وإنّما وصف بالضلال من لا يعلم، لأنّه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميّز بين المحقّ والمبطل.
( أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ) بئس شيئا يزرونه فعلهم.
عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «أيّما داع
دعا إلى الهدى فاتّبع، فله مثل أجورهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
وأيّما داع دعا إلى ضلالة فاتّبع عليه، فإنّ عليه مثل أوزار من اتّبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي: جعلوا وسائل ليمكروا بها رسل الله( فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ ) فأتاها أمره من جهة أساطين البناء الّتي بنوا عليها، بأن ضعضعت( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) وصار سبب هلاكهم( وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) لا يحتسبون ولا يتوقّعون. وهو على سبيل التمثيل لاستئصالهم.
والمعنى: أنّهم سوّوا منصوبات ليمكروا رسل الله بها، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات، كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين، فأتى البنيان من الأساطين، بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا.
وعن ابن عبّاس: المراد به نمرود بن كنعان، بنى الصرح ببابل، سمكه خمسة آلاف ذراع، وقيل: فرسخان، ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه، أو ليترصّد أمر السماء، فأهبّ الله الريح فخرّ عليه وعلى قومه فهلكوا. وقيل: ألقت رأس الصرح في البحر، وخرّ عليهم الباقي. والأوّل أليق، وأفيد للعموم، وأليق بكلام العرب، كما قالوا: أتي فلان من مأمنه، أي: أتاه الهلاك من جهة مأمنه. وذكر الفوق مع حصول العلم بأنّ السقف لا يكون إلّا من فوق للتأكيد، كما يقال: مشيت برجلي، وتكلّمت بلساني.
( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ ) ثمّ يذلّهم أو يعذّبهم بالنار، كقوله:( رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ) (١) .( وَيَقُولُ ) على سبيل التوبيخ لهم والتهجين( أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ ) تشركونهم معي في العبادة. فأضاف إلى نفسه استهزاء، أو حكاية لإضافتهم زيادة في توبيخهم. وقرأ البزّي بخلاف عنه: أين شركائي بغير
__________________
(١) آل عمران: ١٩٢.
همزة، والباقون بالهمز.( تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ) تعادون المؤمنين في شأنهم. وقرأ نافع بكسر النون، بمعنى: تشاقّونني، فإنّ مشاقّة المؤمنين كمشاقّة الله.
( قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) أي: الأنبياء أو العلماء الّذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد، فيشاقّونهم وينكرون عليهم، أو الملائكة( إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ ) الذلّة والعذاب( عَلَى الْكافِرِينَ ) وفائدة قولهم إظهار الشماتة بهم، وزيادة الإهانة.
وحكايته لأن يكون لطفا لمن سمعه.
( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) وقرأ حمزة بالياء. وموضع الموصول يحتمل الأوجه الثلاثة.( ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) بأن عرّضوها للعذاب المخلّد( فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ) فسالموا وأخبتوا حين عاينوا الموت. وأصل الإلقاء في الأجسام، فاستعمل في إظهارهم الانقياد، إشعارا بغاية خضوعهم واستكانتهم، وأنّها كالشيء الملقى بين يدي الغالب القاهر، قائلين:( ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ) كفر وعدوان، فجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر. ويجوز أن يكون تفسيرا للسلم، على أنّ المراد به القول الدالّ على الاستسلام.
( بَلى ) أي: فتجيبهم الملائكة بلى( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) في الدنيا من الكفر والمعاصي، فهو يجازيكم عليه.
وقيل: قوله: «فألقوا السلم إلخ» استئناف ورجوع إلى شرح حالهم يوم القيامة. وعلى هذا أوّل من لم يجوّز الكذب يومئذ( ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ) بأنّا لم نكن في زعمنا واعتقادنا فاعلين سوء. واحتمل أن يكون الرادّ عليهم هو الله أو أولوا العلم. وهذا أيضا من الشماتة. وكذلك( فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ ) كلّ صنف بابها المعدّ له. وقيل: أبواب جهنّم طبقات جهنّم ودركاتها المتضمّنة أصناف عذابها.
( خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ ) جهنّم( مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) المتعظّمين عن قبول الحقّ. واللام للتأكيد.
( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) )
ولـمّا قدّم سبحانه ذكر أقوال الكافرين فيما أنزل على نبيّهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، عقّبه بذكر أقوال المؤمنين في ذلك، فقال:( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ) يعني: المؤمنين( ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً ) أي: أنزل خيرا. وفي نصبه دليل على أنّهم لم يتلعثموا(١) في الجواب، وأطبقوه على السؤال، معترفين بالإنزال، على خلاف الكفرة، فصلا بين جواب المقرّ وجواب الجاحد. فهؤلاء أطبقوا الجواب على السؤال فقالوا: خيرا، أي: أنزل خيرا. وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأوّلين، وليس من الإنزال في شيء.
روي أنّ أحياء العرب كانوا يبعثون أيّام الموسم من يأتيهم بخبر النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإذا جاء الوافد المقتسمين قالوا له ما قالوا، وإذا جاء المؤمنين قالوا له ذلك، فيخبرونه بصدقه وأنّه نبيّ مبعوث، فهم الّذين قالوا خيرا.
( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ) مكافأة في الدنيا( وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ )
__________________
(١) أي: لم يتوقفوا ولم يتأنوا. يقال: تلعثم في الأمر، أي: توقف فيه وتأنى.
أي: ولثوابهم في الآخرة خير منها. وهو وعد للّذين اتّقوا على قولهم خيرا.
ويجوز أن يكون «للّذين أحسنوا» وما بعده حكاية لقولهم، بدلا وتفسيرا لـ «خيرا»، على أنّه منتصب بـ «قالوا».( وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ ) دار الآخرة. فحذفت لتقدّم ذكرها.
وقوله:( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) خبر مبتدأ محذوف. ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح( يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ) من أنواع المشتهيات. وفي تقديم الظرف تنبيه على أنّ الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلّا في الجنّة.
( كَذلِكَ ) مثل هذا الجزاء( يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي، لأنّه في مقابلة ظالمي أنفسهم. وقيل: فرحين ببشارة الملائكة إيّاهم بالجنّة. أو طيّبين بقبض أرواحهم، لتوجّه نفوسهم بالكلّية إلى حضرة القدس.
( يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) لا يحيقكم بعد مكروه( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) إنّما يقولون ذلك لهم عند خروجهم من قبورهم. وقيل: إذا أشرف العبد على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا وليّ الله، الله يقرئك السلام ويبشّرك بالجنّة.
( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) )