زبدة التفاسير الجزء ٣

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-05-1
الصفحات: 637
المشاهدات: 14025
تحميل: 3459


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 637 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14025 / تحميل: 3459
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-05-1
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ ) على القتال( يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) من العدوّ( وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) اللفظ لفظ الخبر، والمراد منه الأمر. وهذه عدة من الله بأنّ الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفّار بتأييد الله وعونه.

وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: تكن بالتاء في الآيتين. ووافقهم البصريّان في «وإن تكن منكم مائة».

( بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) بسبب أنّ الكفّار جهلة بالله واليوم الآخر، لا يثبتون ثبات المؤمنين، رجاء الثواب وعوالي الدرجات قتلوا أو قتلوا، ولا يستحقّون من الله تعالى إلّا الهوان والخذلان، فيقاتلون على غير احتساب ثواب كالبهائم.

عن ابن جريج: كان عليهم أن لا يفرّوا، ويثبت الواحد منهم للعشرة. وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث حمزة بن عبد المطّلب في ثلاثين راكبا، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب، فثقل ذلك عليهم وضجّوا منه. وكان ذلك الحكم مدّة طويلة، ثمّ نسخ وخفّف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين، بقولهعزوجل :( الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ) فيه(١) لغتان: الفتح، وهو قراءة عاصم وحمزة. والضمّ، وهو قراءة الباقين. والضعف ضعف البدن. وقيل: ضعف البصيرة والاستقامة في الدين، وكانوا متفاوتين فيها.

وقال في المجمع: «أراد به ضعف البصيرة والعزيمة، ولم يرد ضعف البدن، فإنّ الّذين أسلموا في الابتداء لم يكونوا كلّهم أقوياء البدن، بل كان فيهم القويّ والضعيف، ولكن كانوا أقوياء البصيرة واليقين، ولـمّا كثر المسلمون واختلط بهم من كان أضعف يقينا وبصيرة نزل:( الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ) (٢) .

__________________

(١) أي: في «ضعفا».

(٢) مجمع البيان ٤: ٥٥٧.

٦١

( فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ ) على القتال( يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) من العدوّ( وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ ) صابرة( يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ) منهم( بِإِذْنِ اللهِ ) بعلم الله أو بأمر الله( وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) بالنصر والمعونة، فكيف لا يغلبون؟ قيل: كان فيهم قلّة فأمروا بذلك، ثمّ لـمّا كثروا خفّف عنهم. وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة قبل التخفيف وبعده، للدلالة على أنّ حكم القليل والكثير واحد لا يتفاوت، لأنّ الحال قد يتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين.

واعلم أنّ هذه الآية ناسخة للأولى كما مرّ، والمعتبر في الناسخ والمنسوخ بالنزول دون التلاوة. وعن الحسن: أنّ التغليظ كان على أهل بدر، ثمّ جاءت الرخصة.

روي أنّه كان القتلى من المشركين يوم بدر سبعين، قتل منهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه سبعة وعشرين. وكان الأسرى أيضا سبعين، ولم يؤسر أحد من أصحاب رسول الله، فجمعوا الأسارى وقرنوهم في الحبال، وساقوهم على أقدامهم. وقتل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسعة رجال، منهم سعد بن خيثمة، وكان من النقباء من الأوس.

وعن محمّد بن إسحاق: استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلا، أربعة من قريش وسبعة من الأنصار، وقيل: ثمانية. وقتل من المشركين بضعة وأربعون رجلا.

وعن ابن عبّاس قال: لـمّا أمسى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر والناس محبوسون بالوثاق بات ساهرا أوّل الليل، فقال له أصحابه: مالك لا تنام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: سمعت أنين عمّي العبّاس في وثاقه. فأطلقوه فسكت، فنام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٦٢

وفي كتاب عليّ بن إبراهيم(١) : لـمّا قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط خافت الأنصار أن يقتل الأسارى، فقالوا: يا رسول الله قتلنا سبعين منهم وهم قومك وأسرتك، فخذ من هؤلاء الفداء، وقد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش.

وروي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر كره أخذ الفداء، حتّى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه، فقال: يا رسول الله هذا أوّل حرب لقينا فيه المشركين، والإثخان في القتل أحبّ من استبقاء الرجال.

وكذا قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك، فقدّمهم واضرب أعناقهم، ومكّن عليّا من عقيل فيضرب عنقه، ومكّنّي من فلان أضرب عنقه، فإنّ هؤلاء أئمّة الكفر. وقال أبو بكر: أهلك وقومك ؛ استبقهم وخذ منهم فدية تكون لنا قوّة على الكفّار.

وأيضا في كتاب عليّ بن إبراهيم(٢) : كان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم، وأقلّه ألف درهم. فبعثت قريش بالفداء أوّلا فأوّلا، فبعثت زينب بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فداء زوجها أبي العاص بن الربيع، وبعثت قلائد لها كانت خديجة جهّزتها بها، وكان أبو العاص ابن أخت خديجة، فلمّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك القلائد قال: رحم الله خديجة هذه قلائد هي جهّزتها بها، فأطلقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرط أن يبعث إليه زينب، ولا يمنعها من اللحوق به، فعاهده على ذلك ووفى له.

وكان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم، وأقلّه ألف درهم.

ثمّ نزلت:( ما كانَ لِنَبِيٍ ) ما استقام لنبيّ وما صحّ له( أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى )

__________________

(١) تفسير القمّي ١: ٢٧٠.

(٢) لم نجده في تفسير عليّ بن إبراهيم، والظاهر أنّه من كلام الطبريقدس‌سره ، إذ نقل أولا عن كتاب عليّ بن إبراهيم ثم عقّبه بما في المتن هنا، وحسبه المؤلّفقدس‌سره أنّه من تتمّة المنقول عن تفسير القمّي. راجع مجمع البيان ٤: ٥٥٩.

٦٣

من المشركين ليفديهم أو يمنّ عليهم. وقرأ البصريّان بالتاء.( حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) يكثر القتل ويبالغ فيه بإشاعته، حتّى يذلّ الكفر ويقلّ حزبه، ويعزّ الإسلام ويستولي أهله، من: أثخنه المرض إذا أثقله. وأصله الثخانة.

( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا ) حطامها بأخذكم الفداء. سمّي عرضا لأنّه حدث قليل اللبث. والخطاب للمؤمنين الّذين رغبوا في أخذ الفداء من الأسرى.( وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) يريد لكم ثواب الآخرة، أو سبب نيل ثواب الآخرة، من إعزاز دينه وقمع أعدائه.

( وَاللهُ عَزِيزٌ ) يغلّب أولياءه على أعدائه( حَكِيمٌ ) يعلم ما يليق بكلّ حال ويخصّه بها، ولهذا أمر بالإثخان ومنع عن الافتداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخيّر بينه وبين المنّ لـمّا تحوّلت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين.

( لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ ) أي: حكم فيه( سَبَقَ ) في اللوح بإباحة الغنائم لكم، ومن ذلك الفداء، ورفع التعذيب عن أهل بدر، أو عن قوم لم يصرّح لهم بالنهي عنه، أو عن الخطأ في اجتهادهم لأنّهم نظروا في أنّ استبقاءهم ربّما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم، وأنّ فداءهم يتقوّى به المسلمون على الجهاد في سبيل الله، وخفي عليهم أنّ قتلهم أعزّ للإسلام، وأهيب لمن وراءهم، وأفلّ لشوكتهم.

( لَمَسَّكُمْ ) لنالكم( فِيما أَخَذْتُمْ ) من الفداء( عَذابٌ عَظِيمٌ ) قال ابن زيد: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول هذه الآية: «لو نزل عذاب من السماء لـما نجا منكم غير عمر وسعد بن معاذ».

وقيل: معناه: لولا كتاب من الله في القرآن أنّه لا يعذّبكم والنبيّ بين أظهركم، حيث قال:( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) (١) .

( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ ) من الفدية، فإنّها من جملة الغنائم. وقيل: أمسكوا عن

__________________

(١) الأنفال: ٣٣.

٦٤

الغنائم ولم يمدّوا أيديهم إليها بعد العتاب على الفداء، فنزلت. والفاء للتسبيب، والسبب محذوف، تقديره: أبحت لكم الغنائم فكلوا. وبنحوه تشبّث من زعم أنّ الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة.

( حَلالاً ) حال من المغنوم أو صفة للمصدر، أي: أكلا حلالا. وفائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة، ولذلك وصفه بقوله:( طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ ) في مخالفته( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ ) غفر لكم ذنبكم( رَحِيمٌ ) أباح لكم ما أخذتم.

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) )

روي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّف العبّاس أن يفدي نفسه وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث.

فقال: يا محمّد تركتني أتكفّف(١) قريشا ما بقيت.

فقال: فأين الذهب الّذي دفعته إلى أمّ الفضل وقت خروجك، وقلت لها: لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم.

فقال: وما يدريك؟

__________________

(١) تكفّف الناس: مدّ كفّه إليهم يستعطي.

٦٥

قال: أخبرني به ربّي.

قال: فأشهد أنّك صادق، لا إله إلّا الله وأنّك رسوله، والله لم يطّلع عليه أحد إلّا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابا في أمرك، وإذ أخبرتني بذلك فزال ريبي وشكّي في نبوّتك.

فنزلت:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ) أي: أيديكم قابضة عليهم. وقرأ أبو عمرو: من الأسارى. والقراءة الأولى أولى، لأنّ الأسير فعيل بمعنى المفعول، وذلك يجمع على فعلى، نحو جريح وجرحى. وقيل: وجه القراءة الثانية تشبيهه بكسالى، كما شبّهوا كسلى بأسرى.

( إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ) خلوص عقيدة وصحّة نيّة في الإيمان( يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ) من الفداء إمّا بأن يخلفكم في الدنيا أضعافه، أو يثيبكم في الآخرة. قال العبّاس: فأبدلني الله خيرا من ذلك، لي الآن عشرون عبدا، إن أدناهم ليضرب ـ أي: ليسافر ـ في عشرين ألفا، وأعطاني زمزم ما أحبّ أن لي بها جميع أموال أهل مكّة، وأنا أنتظر المغفرة من ربّكم، يعني: الموعود بقوله:( وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وروي أنّه قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضّأ لصلاة الظهر، وما صلّى حتّى فرّقه، وأمر العبّاس أن يأخذ منه، فأخذ ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير ممّا أخذ منّي، وأرجو المغفرة.

( وَإِنْ يُرِيدُوا ) يعني: الأسرى( خِيانَتَكَ ) نقض ما عاهدوك من الإسلام( فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ ) بأن خرجوا إلى بدر وقاتلوا مع المشركين، أو بأن نقضوا الميثاق المأخوذ بالعقل( فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ) أي: فأمكنك منهم كما فعل يوم بدر، وسيمكّنك منهم ثانيا إن خانوك( وَاللهُ عَلِيمٌ ) بما يقولونه، وبما في نفوسكم، وبجميع الأشياء( حَكِيمٌ ) فيما يفعله.

٦٦

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) )

ثمّ ختم الله سبحانه السورة بإيجاب موالاة المؤمنين وقطع موالاة الكافرين، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا ) أي: فارقوا أوطانهم حبّا لله تعالى ولرسوله. وهم المهاجرون من مكّة إلى المدينة.( وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ ) فصرفوها في الكراع(١) والسلاح، وأنفقوها على المحاويج( وَأَنْفُسِهِمْ ) بمباشرة القتال( فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا ) هم الأنصار آووا المهاجرين إلى ديارهم، ونصروهم على أعدائهم( أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) أي: يتولّى بعضهم بعضا في الميراث. وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب، أو بالمؤاخاة، وهذا مرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام ، ثمّ نسخ بقوله:( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) (٢) ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ) أي: من

__________________

(١) الكراع: اسم يطلق على الخيل والبغال والحمير، أو اسم لجماعة الخيل خاصّة.

(٢) الأنفال: ٧٥.

٦٧

تولّيهم في الميراث. وقرأ حمزة: ولايتهم بالكسر. قال الزجّاج: هي بفتح الواو من النصرة والنسب، وبالكسر هي بمنزلة الإمارة. ووجه الكسر أنّه شبّه تولّي بعضهم بعضا بالصناعة والعمل، لأنّ كلّ ما كان من هذا الجنس مكسور، كالصياغة والكتابة، فكأنّ الرجل بتولّيه صاحبه يباشر أمرا ويزاول عملا.

( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ ) أي: وإن طلب المؤمنون الّذين لم يهاجروا منكم النصرة لهم على الكفّار( فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين( إِلَّا عَلى قَوْمٍ ) من المشركين( بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) عهد، فلا يجوز لكم نصرهم عليهم، لأنّهم لا يبتدؤن بالقتال، إذ الميثاق مانع من ذلك( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) في الميراث أو المؤازرة. وهو بمفهومه يدلّ على نهي المسلمين عن موالاة الكفّار ومعاونتهم، وإن كانوا أقارب( إِلَّا تَفْعَلُوهُ ) أي: إلّا تفعلوا ما أمرتم به من تواصل المسلمين وتولّي بعضهم بعضا حتّى في التوارث، وقطع العلائق بينكم وبين الكفّار، وجعل قرابتهم كلا قرابة في التوارث( تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ ) تحصل فتنة عظيمة فيها، وهي ضعف الايمان وظهور الكفر( وَفَسادٌ كَبِيرٌ ) في الدين.

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥) )

٦٨

ولـمّا قسّم المؤمنين ثلاثة أقسام، بيّن أنّ الكاملين في الايمان منهم هم الّذين حقّقوا إيمانهم، فقال:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ) . ثمّ وعد لهم الموعد الكريم بقوله:( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) لا تبعة ولا منّة فيه، وذلك لأنّهم حقّقوا إيمانهم بالهجرة والنصرة، والانسلاخ من الأهل والمال لأجل الدين. وليس بتكرار، لأنّ هذه الآية واردة للثناء عليهم والشهادة لهم مع الموعد الكريم، والآية الأولى للأمر بالتواصل.

ثمّ ألحق بهم في الأمرين من سيلحق بهم ويتّسم بسمتهم، فقال:( وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ ) من بعد فتح مكّة. وقيل: من بعد إيمانكم.( وَهاجَرُوا ) بعد هجرتكم( وَجاهَدُوا ) في الجهاد وبذل الأموال فيه( مَعَكُمْ ) أيّها المؤمنون. يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله:( وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ) (١) فألحقهم الله بهم تفضّلا منه وترغيبا، فقال:( فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ) أي: من جملتكم أيّها المهاجرون والأنصار، وحكمهم كحكمكم في وجوب موالاتهم ونصرتهم وإن تأخّر إيمانهم وهجرتهم.

( وَأُولُوا الْأَرْحامِ ) وأولوا القرابات( بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) في حكمه، أو في اللوح، أو في القرآن. وهذا نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة كما مرّ آنفا. وفيه دلالة على أن من كان أقرب إلى الميّت في النسب كان أولى بالميراث.

( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) من المواريث والحكمة، في إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة أوّلا، واعتبار القربة ثانيا.

__________________

(١) الحشر: ١٠.

٦٩
٧٠

(٩)

سورة التوبة

( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) )

مدنيّة، وآياتها مائة وتسع وعشرون.

ولها أربعة(١) عشر اسما :

البراءة، لأنّها مفتّحة بها، ونزلت بإظهار البراءة من الكفّار.

والتوبة، لكثرة ما فيها من ذكر التوبة، كقوله تعالى:( وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ) (٢) ( فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) (٣) .

والفاضحة، لأنّها فضحت المنافقين بإظهار نفاقهم.

__________________

(١) ذكر الشارحقدس‌سره ثلاثة عشر اسما فقط، وسقط الرابع عشر من قلمه، وهو ـ كما في تفسير البيضاوي ٣: ٥٨ ـ المخزية، لـما فيها مما يخزي المنافقين.

(٢) التوبة: ١٥ و ٧٤ و ١١٨.

(٣) التوبة: ١٥ و ٧٤ و ١١٨.

٧١

والمبعثرة، لأنّها تبعثر عن أسرار المنافقين، أي: تبحث عنها.

والمنقّرة لذلك، لأنّ التنقير بمعنى البحث والتفتيش.

والمقشقشة، لأنّها تبرئ من آمن بها من النفاق والشرك، لـما فيها من الدعاء إلى الإخلاص. يقال: قشقشه إذا برّأه، وتقشقش المريض من علّته إذا برىء منها وأفاق.

والبحوث، لأنّها تتضمّن ذكر المنافقين والبحث عن سرائرهم.

والمدمدمة، أي: المهلكة، ومنه قوله:( فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ ) (١) .

والحافرة، لأنّها حفرت عن قلوب المنافقين ما كانوا يسرّونه.

والمثيرة، لأنّها أثارت مخازيهم ومقابحهم.

والمنكّلة، لأنّها تنكّلهم.

والمشرّدة، إذ تشرّدهم.

وسورة العذاب، لأنّها نزلت بعذابهم.

وإنّما تركت التسمية فيها، لأنّها نزلت لرفع الأمان، وبسم الله أمان، كما ورد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: «لم ينزل بسم الله الرحمن الرحيم راس سورة براءة، لرفع الأمان وللسيف».

وهذا منقول عن سفيان بن عيينة. واختاره أبو العبّاس المبرّد.

وقيل: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزلت عليه سورة أو آية بيّن موضعهما، وتوفّي ولم يبيّن موضعها.

وكانت قصّتها تشابه قصّة الأنفال وتناسبها، لأنّ في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذها، فضمّت إليها، ولهذا سمّيتا قرينتين، وتعدّان السابعة من السبع الطوال.

وقيل: لـمّا اختلفت الصحابة في أنّهما سورة واحدة ـ وهي سابعة السبع

__________________

(١) الشمس: ١٤.

٧٢

الطوال ـ أو سورتان تركت بينهما فرجة، ولم يكتب «بسم الله» لقول من قال: هما سورة واحدة.

ويؤيّد الأوّل ما روي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال: «الأنفال وبراءة واحدة».

وروي ذلك عن سعيد بن المسيّب، عن أبيّ بن كعب، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له».

الخبر بتمامه مضى ذكره في صدر سورة الأنفال(١) .

وروى الثعلبي بإسناده عن عائشة، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «ما نزل عليّ القرآن إلّا آية آية وحرفا حرفا، خلا سورة البراءة وقل هو الله أحد، فإنّهما نزلتا ومعهما سبعون ألف صفّ من الملائكة».

وعلى قول من قال إنّهما سورتان قيل: ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الأنفال بإيجاب البراءة من الكفّار، افتتح هذه السورة بأنّه تعالى ورسوله بريئان منهم، كما أمر المسلمين بالبراءة منهم في سورة الأنفال، فقال:( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ ) أي: هذه براءة. و «من» ابتدائيّة متعلّقة بمحذوف تقديره: واصلة من الله( وَرَسُولِهِ ) أي: انقطاع منهما للعصمة، ورفع الأمان، وخروج من العهود. ويجوز أن تكون براءة مبتدأ، لتخصّصها بصفتها، والخبر قوله:( إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) كما تقول: رجل من قريش في الدار. والمعنى: أنّ الله ورسوله برئا من العهد الّذي عاهدتم به المشركين.

وإنّما علّقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين، للدلالة على أنّه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم، وإن كانت صادرة بإذن الله واتّفاق الرسول، فإنّهما برئا الآن منها. وذلك أنّهم عاهدوا مشركي العرب فنكثوا إلّا أناسا، منهم بنو ضمرة وبنو كنانة، فأمرهم بنبذ العهد إلى الناكثين، وأمهل المشركين أربعة أشهر

__________________

(١) راجع ص: ٥.

٧٣

ليسيروا أين شاؤا، فقال خطابا للمشركين:( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) شوّال وذي القعدة وذي الحجّة والمحرّم، آمنين أين شئتم، وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها.

وقيل: إنّ براءة نزلت في شوّال سنة تسع من الهجرة، وفتح مكّة سنة ثمان.

وقيل: كان ابتداؤها من النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، لأنّ التبليغ كان يوم النحر.

وهو الأصحّ، لأنّه مرويّ عن أبي عبد اللهعليه‌السلام .

وقال ابن عبّاس: إنّما أجّلهم الأشهر الأربعة من شوّال إلى آخر المحرّم، لأنّ هذه الآية نزلت في شوّال.

قال في الكشّاف: «كان نزول براءة سنة تسع من الهجرة، وفتح مكّة سنة ثمان، وكان الأمير عتّاب بن أسيد، فأمّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر على موسم الحجّ سنة تسع، ثمّ أتبعه عليّاعليه‌السلام راكبا العضباء ـ وهي ناقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ليقرأها على أهل الموسم. فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر. فقال: لا يؤدّي عنّي إلّا رجل منّي. فلمّا دنا عليٌّعليه‌السلام سمع أبو بكر الرغاء فوقف، فقال: هذا رغاء ناقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور.

وروي: أنّ أبا بكر لـمّا كان ببعض الطريق هبط جبرئيل، فقال: يا محمّد لا يبلّغ رسالتك إلّا رجل منك، فأرسل عليّاعليه‌السلام . فرجع أبو بكر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله أشيء نزل من السماء؟ قال: نعم، فسر وأنت على الموسم، وعليّ ينادي بالآي. فلمّا كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدّثهم عن مناسكهم. وقام عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيّها الناس إنّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليكم. فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية. وعن مجاهد ثلاث عشرة آية. ثمّ قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك. ولا يطوف بالبيت عريان. ولا يدخل الجنّة إلّا كلّ نفس مؤمنة. وأن يتمّ كلّ

٧٤

ذي عهد عهده. فقالوا عند ذلك: يا عليّ أبلغ ابن عمّك أنّا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنّه ليس بيننا وبينه عهد إلّا طعن بالرماح وضرب بالسيوف»(١) انتهى كلامه.

وقال في المجمع: «روى عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن الباقرعليه‌السلام قال: خطب عليّعليه‌السلام الناس يوم النحر، واخترط سيفه فقال: لا يطوفنّ بالبيت عريان، ولا يحجّنّ بالبيت مشرك، ومن كانت له مدّة فهو إلى مدّته، ومن لم يكن له مدّة فمدّته أربعة أشهر، وقرأ عليهم سورة براءة»(٢) .

وقيل: إنّه أخذها من أبي بكر قبل الخروج ودفعها إلى عليّعليه‌السلام ، وقال: لا يبلّغ عنّي إلّا أنا أو رجل منّي.

وروى أصحابنا: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولّاه ايضا الموسم، وأنّه حين أخذ البراءة من أبي بكر رجع أبو بكر.

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن سماك بن حرب، عن أنس بن مالك: «أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث ببراءة مع أبي بكر إلى أهل مكّة، فلمّا بلغ ذا الحليفة بعث إليه فردّه، وقال: لا يذهب بهذا إلّا رجل من أهل بيتي، فبعث عليّاعليه‌السلام »(٣) .

وتحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ، وأبيح قتال المشركين فيها بعد ذلك.

( وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ) لا تفوتونه وإن أمهلكم( وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ ) أي: مذلّهم في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالعذاب الأليم.

__________________

(١) الكشّاف ٢: ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

(٢) مجمع البيان ٥: ٣ ـ ٤.

(٣) شواهد التنزيل ١: ٣٠٥ ح ٣٠٩.

٧٥

( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) )

ولـمّا أخبر بثبوت البراءة أخبر بعد ذلك بوجوب الإعلام بما ثبت، فقال:( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ ) أي: إعلام منهما إليهم. فعال بمعنى الإفعال، أي: الإيذان، كالأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء. والمراد من الناس الناكثون، أو جميع الناس من عاهد منهم ومن لم يعاهد. ورفعه كرفع براءة بعينه على الوجهين، فالجملة معطوفة على مثلها.

( يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) قيل: يوم النحر، لأنّ فيه تمام الحجّ ومعظم أفعاله، ولأنّ الإعلام كان فيه، ولما روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجّة الوداع، فقال: هذا يوم الحجّ الأكبر.

وروي أنّ عليّاعليه‌السلام أخذ رجل بلجام دابّته فقال: ما الحجّ الأكبر؟ فقال: يومك هذا، خلّ عن دابّتي. وقيل: يوم عرفة، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحجّ عرفة».

ووصف بالحجّ الأكبر لأنّ العمرة تسمّى الحجّ الأصغر. أو لأنّ المراد بالحجّ ما يقع في ذلك اليوم من أعماله، فإنّه أكبر من باقي الأعمال. أو لأنّ ذلك الحجّ اجتمع فيه المسلمون والمشركون، ووافق عيده أعياد أهل الكتاب، ولم يتّفق ذلك

٧٦

قبله ولا بعده، فعظم في قلب كلّ مؤمن وكافر، وظهر فيه عزّ المسلمين وذلّ المشركين.

( أَنَّ اللهَ ) أي: بأنّ الله، حذف الباء تخفيفا.( بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) أي: من عهودهم( وَرَسُولِهِ ) عطف على الضمير المستكن في «بريء»( فَإِنْ تُبْتُمْ ) من الكفر والغدر( فَهُوَ ) فالتوب( خَيْرٌ لَكُمْ ) من الإقامة عليهما، لأنّكم تنجون به من خزي الدنيا وعذاب الآخرة( وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) عن التوبة، أو تبتم على التولّي والإعراض عن الإسلام والوفاء( فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ) غير سابقين الله هربا، ولا فائتين أخذه وعقابه. وفي هذا إعلام بأنّ الإمهال ليس بعجز، بل إنّما هو لإظهار الحجّة والمصلحة.

ثمّ أوعدهم بعذاب الآخرة فقال:( وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) في الآخرة. وذكر البشارة مكان النذارة للتهكّم.

وقوله:( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) استثناء من المشركين أو استدراك، فكأنّه قيل لهم بعد أن أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين: ولكن الّذين عاهدوا منهم( ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً ) من شروط العهد أصلا ولم ينكثوه، أو لم يقتلوا منكم ولم يضرّوكم قطّ( وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً ) من أعدائكم( فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ) إلى تمام مدّتهم الّتي وقع العهد إليها، ولا تجروهم مجرى الناكثين، ولا تجعلوا الوفيّ كالغادر( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) تعليل وتنبيه على أنّ إتمام عهدهم من باب التقوى.

والمراد بهم بنو كنانة وبنو ضمرة وأشباههم، فإنّهم قد بقي من أجلهم تسعة أشهر، فأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإتمامها لهم، لأنّهم لم يظاهروا على المؤمنين، ولم ينقضوا عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أو المراد أهل هجر وأهل البحرين وأيلة ودومة الجندل، فإنّ لهعليه‌السلام عليهم عهودا بالصلح والجزية، ولم ينبذ إليهم بنقض عهد ولا حاربهم بعد، لأنّهم لم ينقضوا العهود، وكانوا أهل ذمّة إلى أن مضى لسبيلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٧٧

( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) )

ثمّ بيّن سبحانه الحكم في المشركين بعد انقضاء المدّة، فقال:( فَإِذَا انْسَلَخَ ) انقضى. وأصل الانسلاح خروج الشيء ممّا لابسه، من سلخ الشاة( الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ) الّتي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها. وقيل: هي رجب وذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم، ثلاثة سرد، وواحد فرد. وهذا مخلّ بالنظم، لأنّ اللام في الأشهر الحرم إشارة إلى أربعة أشهر في قوله:( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) فصرفه إلى غيرها مخلّ بالنظم، وأيضا مخالف للإجماع.

( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) الناكثين، وضعوا السيف فيهم( حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) من حلّ أو حرم( وَخُذُوهُمْ ) وأسروهم. والأخيذ الأسير.( وَاحْصُرُوهُمْ ) واحبسوهم. أو حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام. أو امنعوهم من التصرّف في البلاد.( وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) كلّ ممرّ وطريق ترصدونهم، أي: ضيّقوا المسالك عليهم لئلّا يتبسّطوا في البلاد، فتتمكّنوا من أخذهم. والأمر للتخيير. وانتصابه على

٧٨

الظرف، كقوله:( لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) (١) . وهذا ناسخ لكلّ آية وردت في الصلح والإعراض عنهم.

( فَإِنْ تابُوا ) من الشرك بالإيمان( وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ ) تصديقا لتوبتهم وإيمانهم. والمعنى: قبلوا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأنّ عصمة الدم لا تقف على إقامة الصلاة وأداء الزكاة، فثبت أنّ المراد به القبول.( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) فدعوهم ولا تتعرّضوا لهم بشيء من ذلك، أو دعوهم يحجّوا ويدخلوا المسجد الحرام. وفيه دليل على أنّ تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلّى سبيله( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) تعليل للأمر، أي: فخلّوهم، لأنّ الله غفور رحيم، غفر لهم ما قد سلف من كفرهم وغدرهم، ووعد لهم الثواب بالتوبة.

( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) المأمور بالتعرّض لهم( اسْتَجارَكَ ) استأمنك وطلب منك جوارك. و «أحد» رفع بفعل يفسّره ما بعده، لا بالابتداء، لأنّ «إن» من عوامل الفعل لا تدخل على غيره. فتقدير الكلام: وإن استجارك أحد( فَأَجِرْهُ ) فأمّنه( حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ) ويتدبّره، ويطّلع على حقيقة الأمر( ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) موضع أمنه بعد ذلك ـ يعني: داره الّتي يأمن فيها ـ إن لم يسلم، ثمّ قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة. وهذا الحكم ثابت في كلّ وقت. وعن الحسن: هي محكمة إلى يوم القيامة. وإنّما خصّ كلام الله لأنّ معظم الأدلّة فيه.

( ذلِكَ ) الأمن أو الأمر بالاجارة( بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ) بسبب أنّهم قوم جهلة لا يعلمون ما الايمان، وما حقيقة ما تدعوهم إليه؟ فلا بدّ من أمانهم ريثما يسمعون ويتدبّرون.

وعن سعيد بن جبير: «جاء رجل من المشركين إلى عليّعليه‌السلام فقال: إن أراد الرجل منّا أن يأتي محمّدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله، أو يأتيه لحاجة

__________________

(١) الأعراف: ١٦.

٧٩

قتل؟ قال: لا، لأنّ الله يقول:( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ) الآية».

وعن السدّي والضحّاك: هي منسوخة بقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (١) .

( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) )

ولـمّا أمر سبحانه بنبذ العهود إلى المشركين، بيّن أنّ العلّة في ذلك ما ظهر منهم من الغدر، وأمر بإتمام العهد لمن استقام على الأمر، فقال :

__________________

(١) التوبة: ٥.

٨٠