زبدة التفاسير الجزء ٤

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609
المشاهدات: 15149
تحميل: 3643


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 609 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15149 / تحميل: 3643
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 4

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-06-X
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يهاجر عنه.

واعلم أنّ المشهور بين الأمّة أنّ الخضرعليه‌السلام موجود في زماننا. ولا ينافيه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا نبيّ بعدي» لأنّ الخضرعليه‌السلام كان قبل نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وشرعه لو كان شرعا خاصّا، فإنّه منسوخ بشريعة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ولو كان داعيا إلى شريعة من تقدّمه من الأنبياء، فإنّ شريعة نبيّنا ناسخة لها. فلا يرد ما قيل: لا يجوز أن يكون الخضر حيّا إلى وقتنا هذا، لأنّه لا نبيّ بعد نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

( وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا

١٤١

يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧)قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) )

ثمّ بيّن سبحانه قصّة ذي القرنين، فقال:( وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) يعني: إسكندر الرومي ملك فارس والروم. وقيل: ملك الدنيا مؤمنان: ذو القرنين وسليمان، وكافران: نمرود وبختنصّر، وكان بعد نمرود.

قيل: إنّه كان عبدا صالحا ملّكه الله الأرض، وأعطاه العلم والحكمة، وألبسه الهيبة، وسخّر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه، وتحوطه الظلمة من ورائه. وقيل: كان نبيّا. وقيل: ملكا من الملائكة.

وعن عليّعليه‌السلام : «سخّر له السحاب، ومدّت له الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء ـ وهذا معنى تمكّنه في الأرض ـ وسهّل عليه المسير فيها، وذلّل له طريقها وحزونها»(١) .

وسئل عنه فقال: «أحبّ الله فأحبّه».

__________________

(١) الحزون جمع الحزن، وهو ما غلظ من الأرض.

١٤٢

وسأله ابن الكوّا ما ذو القرنين، أملك أم نبيّ؟ فقال: «ليس بملك ولا نبيّ، ولكن كان عبدا صالحا، ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات، ثمّ بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه الله فسمّي ذا القرنين، وفيكم مثله، أراد نفسه». قيل: كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه، فيحييه الله.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سمّي ذا القرنين، لأنّه طاف قرني الدنيا ـ يعني: جانبيها ـ شرقها وغربها».

وقيل: له قرنان، أي: ضفيرتان(١) . وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس، وعن وهب: لأنّه ملك الروم وفارس. وروي: الروم والترك. وعنه: كانت صفحتا رأسه من نحاس. وقيل: كان لتاجه قرنان. وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين. ويجوز أنه لقّب بذلك لشجاعته، كما يسمّى الشجاع كبشا، كأنّه ينطح أقرانه. وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره.

وعن وهب: أنّه رأى في منامه أنّه دنا من الشمس حتّى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها، فقصّ رؤياه على قومه، فسمّوه ذا القرنين.

وقيل: لأنّه كريم الطرفين، من أهل بيت الشرف من قبل أبيه وأمّه. والسائلون هم اليهود كما مرّ، سألوه امتحانا.

( قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ) خطاب للسائلين، والهاء لذي القرنين.

( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ) أي: مكّنّا له أمره من التصرّف فيها كيف شاء، فحذف المفعول( وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) أراده وتوجّه إليه، من أغراضه ومقاصده في ملكه( سَبَباً ) طريقا موصلا إليه. والسّبب ما يتوصّل به إلى المطلوب، من العلم والقدرة والآلة.

فلمّا أراد بلوغ المغرب( فَأَتْبَعَ سَبَباً ) فأتبع سببا يوصل إليه( حَتَّى إِذا بَلَغَ

__________________

(١) الضفيرة: كل خصلة مما ضفر ـ أي: نسج ـ على حدتها من الشعر.

١٤٣

مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) موضع غروبها. يعني: نهاية العمارة من جانب المغرب، لا أنّه بلغ موضع الغروب، لأنّه لا يصل إليه أحد.( وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) ذات حمأ، من: حمئت البئر إذا صارت ذات حمأة(١) .

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر: حامية، أي: حارّة. ولا تنافي بينهما، لجواز أن تكون العين جامعة للوصفين.

وعن أبي ذرّ: «كنت رديف رسول الله على جمل فرأى الشمس حين غابت، فقال: تدري يا أبا ذرّ أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّها تغرب في عين حامية».

ولعلّه بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك، إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء، ولذلك قال: وجدها تغرب، ولم يقل: كانت تغرب.

وقيل إنّ: ابن عبّاس سمع معاوية يقرأ: حامية، فقال: حمئة. فبعث معاوية إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين، كذلك نجده في التوراة.

( وَوَجَدَ عِنْدَها ) عند تلك العين( قَوْماً ) قيل: كان لباسهم جلود الوحش، وطعامهم ما لفظ البحر، وكانوا كفّارا، فخيّره الله بين أن يعذّبهم أو يدعوهم إلى الايمان، كما حكى بقوله:( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ) بالقتل على كفرهم( وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) بالإرشاد وتعليم الشرائع.

وقيل: خيّره الله بين القتل والأسر. وسمّاه إحسانا في مقابلة القتل.

ويؤيّد الأوّل قوله:( قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً ) أي: فاختار الدعوة وقال: أمّا من دعوته فظلم نفسه بالإصرار على كفره، أو استمرّ على ظلمه الّذي هو الشرك، فنعذّبه أنا ومن معي في الدنيا بالقتل، ويعذّبه الله في الآخرة عذابا منكرا لم يعهد مثله.

__________________

(١) الحمأة: الطين الأسود.

١٤٤

( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) وهو ما يقتضيه الإيمان( فَلَهُ ) في الدارين( جَزاءً الْحُسْنى ) الفعلة الحسنة. و «أمّا» للتقسيم دون التخيير، أي: ليكن شأنك معهم إمّا التعذيب وإمّا الإحسان، فالأوّل لمن أصرّ على الكفر، والثاني لمن تاب عنه.

وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص: جزاء، منوّنا منصوبا على الحال، أي: فله المثوبة الحسنى مجزيّا بها، أو على المصدر لفعله المقدّر حالا، أي: يجزى بها جزاء.

ونداء الله إيّاه إن كان نبيّا فبوحي، وإن كان غيره فبإلهام أو على لسان نبيّ.

( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا ) ممّا نأمر به( يُسْراً ) سهلا ميسّرا غير شاقّ. وتقديره: ذا يسر. أي: لا نأمره بالصعب الشاقّ، بل بالسهل المتيسّر، من الزكاة والخراج وغير ذلك.

( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ) ثمّ أتبع طريقا يوصله إلى المشرق( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ) يعني: الموضع الّذي تطلع الشمس عليه أوّلا من معمورة الأرض( وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً ) من جنس اللباس والبناء، فإنّ أرضهم لا تمسك الأبنية. وعن أحدهماعليهما‌السلام قال: «لم يعلموا صنعة البيوت».

وقيل: لأنّهم اتّخذوا الأسراب(١) بدل الأبنية، فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم.

وعن بعض الثقات: خرجت حتّى جاوزت الصين، فسألت عن هؤلاء، فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة. فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه ويلبس الاخرى، ومعي صاحب يعرف لسانهم. فقالوا له: جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس؟ قال: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة(٢) ، فغشي عليّ، ثمّ أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلمّا طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت. فأدخلونا سربا لهم، فلمّا ارتفع النهار خرجوا إلى البحر، فجعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم.

__________________

(١) السرب: الحفير تحت الأرض. وجمعه: أسراب.

(٢) صلصل الحليّ أو اللجام: صوّت.

١٤٥

( كَذلِكَ ) أي: أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وبسطة الملك. أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير والاختيار. ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف لـ «وجد»، أو «نجعل» أو صفة «قوم» أي: على قوم مثل ذلك القبيل الّذين تغرب عليهم الشمس في الكفر والحكم.

( وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ ) أي: علمنا ما كان عند ذي القرنين من الجنود والآلات والعدد والأسباب( خُبْراً ) علما تعلّق بظواهره وخفاياه. والمراد: أنّ كثرة ذلك بلغت مبلغا لا يحيط به إلّا علم اللطيف الخبير.

( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ) يعني: طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب، أخذا من الجنوب إلى الشمال( حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) هما جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما.

وهما جبلا أرمينية وأذربيجان. وقيل: جبلان في أواخر الشمال، في منقطع أرض الترك، من ورائهما يأجوج ومأجوج. وقيل: إنّ هذا السدّ وراء بحر الروم، على مؤخّرهما البحر المحيط.

وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر ويعقوب: بين السّدّين بالضمّ. وهما لغتان. وقيل: المضموم لـما خلقه الله بمعنى المفعول، والمفتوح لـما عمله الناس، لأنّه في الأصل مصدر سمّي به حدث يحدثه الناس. وقيل: بالعكس.

و «بين» هاهنا مفعول به، كما انجرّ على الإضافة، كقوله:( هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) (١) . وكما ارتفع في قوله:( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) (٢) لأنّه من الظروف الّتي تستعمل أسماء وظروفا.

( وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) إلّا بجهد ومشقّة، من إشارة ونحوها كما يفهم البكم، لغرابة لغتهم، وقلّة فطنتهم.

__________________

(١) الكهف: ٧٨.

(٢) الأنعام: ٩٤.

١٤٦

وقرأ حمزة والكسائي: يفقهون، أي: لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه، لتلعثمهم(١) فيه.

( قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) أي: قال مترجمهم( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ) قبيلتان من ولد يافث بن نوح. وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الجيل والديلم. وهما اسمان أعجميّان بدليل منع الصرف. وقيل: عربيّان، من: أجّ الظليم(٢) إذا أسرع. وأصلهما الهمز، كما قرأ عاصم. ومنع صرفهما للتعريف والتأنيث.( مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) أي: في أرضنا، بالقتل والتخريب وإتلاف الزروع. قيل: كانوا يخرجون في الربيع، فلا يتركون أخضر إلّا أكلوه، ولا يابسا إلّا احتملوه، وقيل: كانوا يأكلون الناس والدوابّ.

ورد في الخبر عن حذيفة قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال: «يأجوج أمّة ومأجوج أمّة، لا يموت منهم أحد حتّى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلّ قد حمل السلاح. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز. قلت: يا رسول الله وما الأرز؟ قال: شجر بالشام طوال. وصنف منهم طولهم وعرضهم سواء، وهؤلاء الّذين لا يقوم لهم خيل ولا حديد. وصنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، ولا يمرّون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إلّا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مقدّمتهم بالشام، وساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية».

وفي الكشّاف(٣) : «هم على صنفين: طوال مفرطو الطول، وقصار مفرطو القصر».

( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً ) جعلا نخرجه من أموالنا. وقرأ حمزة والكسائي: خراجا.

وكلاهما واحد، كالنول والنوال. وقيل: الخراج على الأرض والذمّة، والخرج المصدر.

__________________

(١) تلعثم في الأمر: توقّف فيه وتأنّى.

(٢) الظليم: الذكر من النعام.

(٣) الكشّاف ٢: ٧٤٦ ـ ٧٤٧.

١٤٧

( عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ) يحجز دون خروجهم علينا. وقد ضمّه من ضمّ السدّين غير حمزة والكسائي.

( قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال والملك خير ممّا تبذلون لي من الخراج، ولا حاجة بي إليه، كما قال سليمانعليه‌السلام :( فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ ) (١) . وقرأ ابن كثير: مكّنني على الأصل.

( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) أي: بقوّة فعلة وصنّاع يحسنون البناء، أو بما أتقوّى به من الآلات( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) حاجزا حصينا موثقا هو أكبر من السدّ، من قولهم: ثوب مردّم إذا كان رقاعا فوق رقاع.

( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قطعه. والزبرة القطعة الكبيرة. وهو لا ينافي ردّ الخراج والاقتصار على المعونة، لأنّ الإيتاء بمعنى المناولة. ويدلّ عليه قراءة أبي بكر: ردما ائتوني، بكسر التنوين موصولة الهمزة، على معنى: جيئوني بزبر الحديد. والباء محذوفة، حذفها في: أمرتك الخير. ولأن إعطاء الآلة من الإعانة بالقوّة، دون الخراج على العمل.

( حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) سوّى بين جانبي الجبلين، بأن أمر بتنضيدها.

وقرأ ابن كثير وابن عامر والبصريّان بضمّتين، وأبو بكر بضمّ الصاد وسكون الدال، من الصدف وهو الميل، لأنّ كلّا منهما منعزل عن الآخر، ومنه التصادف للتقابل.

( قالَ انْفُخُوا ) أي: قال للعملة: انفخوا في الأكوار(٢) والحديد( حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ) جعل المنفوخ فيه( ناراً ) كالنار بالإحماء( قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) أي: آتوني قطرا ـ أي: نحاسا مذابا ـ أفرغ عليه قطرا، لينسدّ الثقب الّذي فيه، ويصير جدارا مصمتا. وكانت حجارته الحديد، وطينه النحاس الذائب. فحذف المفعول الأوّل لدلالة الثاني عليه. وبه تمسّك البصريّون على أنّ إعمال الثاني من العاملين المتوجّهين نحو

__________________

(١) النمل: ٣٦.

(٢) الكور: كور الحدّاد المبنيّ من الطين. وجمعه أكوار.

١٤٨

معمول واحد أولى، إذ لو كان «قطرا» مفعول «آتوني» لأضمر مفعول «أفرغ» حذرا من الالتباس. وقرأ حمزة وأبو بكر: قال ائتوني موصولة الألف.

وقيل: حفر للأساس حتّى بلغ الماء، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب، والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم، حتّى سدّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ حتّى صارت كالنار، فصبّ النحاس المذاب على الحديد المحمى، فاختلط والتصق بعضه ببعض، وصار جبلا صلدا.

وقيل: بعد ما بين السدّين مائة فرسخ، ومقدار ارتفاع السدّ مائتا ذراع، وعرض الحائط نحو من خمسين ذراعا.

قيل: بناه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض، بكلاليب من حديد ونحاس مذاب في تجاويفها.

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ رجلا أخبره به، فقال: كيف رأيته؟ قال: كالبرد المحبّر، طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: قد رأيته».

( فَمَا اسْطاعُوا ) بحذف التاء حذرا من تلاقي متقاربين. وقرأ حمزة بالإدغام، جامعا بين الساكنين على غير حدّه.( أَنْ يَظْهَرُوهُ ) أن يعلوه بالصعود، لارتفاعه وانملاسه( وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً ) لثخنه وصلابته.

( قالَ هذا ) هذا السدّ، أو الإقدار والتمكين على تسويته( رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) على عباده( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي ) فإذا دنا وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج، أو بقيام الساعة، بأن شارف يوم القيامة( جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) مدكوكا مبسوطا مسوّى بالأرض. مصدر بمعنى المفعول. ومنه: جمل أدكّ لمنبسط السنام. وقرأ الكوفيّون: دكّاء بالمدّ، أي: أرضا مستوية.( وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) كائنا لا محالة. وإنّما يكون ذلك بعد قتل عيسى بن مريم الدجّال.

وجاء في الحديث: «أنّهم يدأبون في حفره نهارهم، حتّى إذا أمسوا وكادوا

١٤٩

يبصرون شعاع الشمس قالوا: نرجع غدا ونفتحه ونخرج، ولا يستثنون. فيعودون من الغد قد استوى كما كان، حتّى إذا جاء وعد الله قالوا: غدا نفتح ونخرج إن شاء الله، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه بالأمس، فيخرقونه ويخرجون على الناس، فينشفون المياه، ويتحصّن الناس في حصونهم منهم، فيرمون سهامهم إلى السماء فترجع وفيها كهيئة الدماء، ويقولون: قد قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء. فبعث الله عليهم نغفا(١) في أقفائهم، فيدخل آذانهم فيهلكون بها. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والّذي نفس محمد بيده إنّ دوابّ الأرض لتسمن وتسكر من لحومهم سكرا».

وفي تفسير الكلبي: إنّ الخضر واليسع يجتمعان كلّ ليلة على ذلك السدّ، يحجبان يأجوج ومأجوج عن الخروج».

( وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) )

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية: «النغف: دود يكون في أنف الغنم. منه».

١٥٠

ثمّ أخبر سبحانه عن تلك الأمم، فقال:( وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ ) وجعلنا بعض يأجوج ومأجوج حين يخرجون ممّا وراء السدّ( يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) يموجون في بعض مزدحمين في البلاد. أو يموج بعض الخلق في بعض، فيضطربون ويختلطون إنسهم وجهنّم حيارى. ويؤيّده( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) لقيام الساعة.

واختلفوا في الصور، فعن ابن عبّاس: هو قرن ينفخ فيه. وعن الحسن: هو جمع صورة، وأنّ الله سبحانه يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في الأرحام، ثمّ ينفخ فيهم الأرواح كما ينفخ في أرحام أمّهاتهم.

وقيل: إنّه ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات. فالنفخة الأولى: نفخة الفزع.

والثانية: نفخة الصعق الّتي يصعق من في السماء والأرض بها فيموتون. والثالثة: نفخة القيام، فيحشرهم بها في قبورهم لربّ العالمين.

( فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً ) للحساب والجزاء في صعيد واحد.

( وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ) وأبرزناها وأظهرناها لهم، فرأوها وشاهدوها مع ألوان عذابها قبل دخولها.

( الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي ) أي: غفلوا عن آياتي الّتي ينظر إليها، فأذكر بالتوحيد والتعظيم، فأعرضوا عن التفكّر فيها( وَكانُوا ) فصاروا بمنزلة من يكون في عينه غطاء يمنعه من الإدراك( لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) أي: يثقل عليهم استماع ذكري وكلامي، لإفراط صممهم عن الحقّ، فإنّ الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به، وهؤلاء كأنّهم أصمت مسامعهم بالكلّيّة، فلا استطاعة بهم للسمع.

( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أفظنّوا، والاستفهام للإنكار( أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي ) وهم

١٥١

الملائكة والمسيح( مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ ) معبودين نافعهم؟ أو لا أعذّبهم به؟ فحذف المفعول الثاني كما يحذف الخبر للقرينة، أو سدّ «أن يتّخذوا» مسدّ مفعوليه.( إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً ) ما يقام للنزيل، وهو الضيف. وفيه تهكّم. ونحوه:( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) (١) . وتنبيه على أنّ لهم وراءها من العذاب ما تستحقرونه.

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) نصب على التمييز. وجمع لأنّه من أسماء الفاعلين، أو لتنوّع أعمالهم، أي: بأخسر الناس أعمالا.

( الَّذِينَ ضَلَ ) ضاع وبطل( سَعْيُهُمْ ) واجتهادهم( فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) لكفرهم وعجبهم، كالرهابنة، فإنّهم خسروا دنياهم وأخراهم. ومحلّه الرفع على الخبر المحذوف، فإنّه جواب السؤال. أو الجرّ على البدل. أو النصب على الذمّ.( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) بعجبهم واعتقادهم أنّهم على الحقّ.

روى العيّاشي بإسناده قال: «قام ابن الكوّاء إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فسأله عن أهل هذه الآية. فقال: أولئك أهل الكتاب كفروا بربّهم، وابتدعوا في دينهم، فحبطت أعمالهم.

وأهل النهر منهم ليسوا ببعيد. يعني: الخوارج»(٢) .

وفي رواية أخرى قالعليه‌السلام : «منهم أهل الحروراء»(٣) .

( أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ) بالقرآن، أو بدلائله المنصوبة على التوحيد والنبوّة( وَلِقائِهِ ) بالبعث على ما هو عليه، أو لقاء عذابه( فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) ضاعت وبطلت بكفرهم، فلا يثابون عليها، لأنّهم أوقعوها على خلاف الوجه الّذي أمرهم الله به( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ) فنزدري بهم، ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا. وقيل: لا نضع لهم ميزانا يوزن به أعمالهم، لانحباطها، لأن الميزان إنّما يوضع لأهل الحسنات والسيّئات من الموحّدين.

__________________

(١) الانشقاق: ٢٤. (٢، ٣) تفسير العيّاشي ٢: ٣٥٢ ح ٨٩، ٩٠.

١٥٢

وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمال يوم القيامة في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا.

وروي في الصحيح أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة».

( ذلِكَ ) أي: الأمر ذلك الّذي ذكرت، من حبوط أعمالهم وخسّة قدرهم. وقوله:( جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ ) جملة مبيّنة له. ويجوز أن يكون «ذلك» مبتدأ، والجملة خبره، والعائد محذوف، أي: جزاؤهم به. أو «جزاؤهم» بدله، و «جهنّم» خبره. أو «جزاؤهم» خبره، و «جهنّم» عطف بيان للخبر.( بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) أي: بسبب ذلك.

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) )

ولـمّا تقدّم ذكر حال الكافرين، عقّبه سبحانه بذكر حال المؤمنين، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) فيما سبق من حكم الله ووعده. والفردوس أعلى درجات الجنّة وأفضلها. وأصله البستان الّذي يجمع الكرم والنخيل.

روى عبادة بن الصامت عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «الجنّة مائة درجة، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنّة الأربعة، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس».

( خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً ) تحوّلا، إذ لا يجدون أطيب منها حتّى تنازعهم إليه أنفسهم. ويجوز أن يراد به تأكيد الخلود. وهذه غاية الوصف، لأنّ الإنسان في الدنيا في أيّ نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه.

١٥٣

( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠) )

واعلم أنّه قد مرّ(١) في سورة بني إسرائيل أنّ اليهود قالوا: في كتابكم:( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) (٢) ثمّ تقرؤون:( وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) (٣) ، فنزلت:( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ ) جنس البحر( مِداداً ) ما يكتب به. وهو اسم ما يمدّ به الشيء، كالحبر للدواة، والسليط(٤) للسراج.( لِكَلِماتِ رَبِّي ) لكلمات علمه وحكمته، ومقدوراته وعجائبه( لَنَفِدَ الْبَحْرُ ) لنفد جنس البحر بأسره، لأنّ كلّ جسم متناه( قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ) فإنّها غير متناهية فلا تنفد( وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ ) بمثل البحر الموجود( مَدَداً ) زيادة ومعونة، لأنّ مجموع المتناهيين متناه، بل مجموع ما يدخل في الوجود من الأجسام لا يكون إلّا متناهيا، للدلائل القاطعة على تناهي الأبعاد، والمتناهي ينفد قبل أن ينفد غير المتناهي لا محالة.

ونصبه للتمييز، كقولك: لي مثله رجلا. وهو مثل المدد معنى. والمعنى: أنّ الحكمة وإن كانت خيرا كثيرا في نفسه، لكنّه قطرة من بحر كلمات الله.

__________________

(١) راجع ص ٦٧ ـ ٦٨ ذيل الآية ٨٥ من سورة الإسراء.

(٢) البقرة: ٢٦٩.

(٣) الإسراء: ٨٥.

(٤) في هامش النسخة الخطّية: «دهن الزيت. منه».

١٥٤

( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) لا أدّعي الإحاطة على كلماته.

عن ابن عبّاس: علّم الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التواضع لئلّا يزهى على خلقه، فأمره أن يقرّ على نفسه بأنّه آدميّ كغيره، إلّا أنّه أكرم بالوحي. وهو قوله:( يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) وإنّما ميّزت عنكم بذلك. يعني: لا فضل لي عليكم إلّا بالدين والنبوّة، ولا علم لي إلّا ما علّمنيه الله تعالى.

( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ) يأمل حسن جزائه عند ربّه( فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ) خالصا لله، يتقرّب به إليه، بحيث يرتضيه( وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) من ملك أو بشر، أو حجر أو شجر. والأكثر أنّ معناه لا يرائيه.

وعن عطاء، عن ابن عبّاس: أنّ الله تعالى قال:( وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) ولم يقل: ولا يشرك به، لأنّه أراد العمل الّذي يعمل لله، ويحبّ أن يحمد عليه.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتّقوا الشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء».

وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «قال اللهعزوجل : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري فأنا منه بريء، فهو للّذي أشرك». رواه مسلم في الصحيح(١) .

وروي عن عبادة بن الصامت وشدّاد بن أوس قالا: سمعنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «من صلّى صلاة يرائي بها فقد أشرك، ومن صام صوما يرائي به فقد أشرك، ثمّ قرأ هذه الآية».

وروي أنّ جندب بن زهير قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي لأعمل العمل لله، فإذا اطّلع عليه سرّني. فقال: إنّ الله لا يقبل ما شورك فيه. فنزلت تصديقا له».

وروي: «أنّ أبا الحسن الرضاعليه‌السلام دخل يوما على المأمون فرآه يتوضّأ للصلاة والغلام يصبّ على يده الماء، فقال: لا تشرك بعبادة ربّك أحدا. فصرف المأمون الغلام، وتولّى إتمام وضوئه بنفسه».

__________________

(١) صحيح مسلم ٤: ٢٢٨٩ ح ٤٦.

١٥٥

وقيل: معناه: ولا يطلب منه أجرا. ويؤيّده ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: «ما عبدتك طمعا لثوابك، وخوفا من نارك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك».

وقيل: هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها ـ أي: هذه الآية ـ عند مضجعه كان له نورا في مضجعه يتلألأ إلى مكّة، حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتّى يقوم. فإن كان مضجعه بمكّة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور، حشو ذلك ملائكة يصلّون عليه حتّى يستيقظ».

ومثله ما روى الشيخ أبو جعفر بن بابويهرحمه‌الله بإسناده عن عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّعليه‌السلام قال: «ما من عبد يقرأ «قل إنّما أنا بشر مثلكم» إلى آخر الآية، إلّا كان له نورا في مضجعه إلى بيت الله الحرام، فإن كان من أهل البيت الحرام كان له نورا إلى بيت المقدس».

وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «ما من أحد يقرأ آخر الكهف عند النوم إلّا يتيقّظ في الساعة الّتي يريدها».

قيل في وجه اتّصال( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ) بما قبلها: إنّه لـمّا تقدّم الأمر والنهي والوعد والوعيد، عقّب ذلك سبحانه ببيان أنّ مقدوراته لا تتناهى، وأنّه قادر على ما يشاء في أفعاله وأوامره على حسب المصالح، فمن الواجب على المكلّف أن يمتثل أمره ونهيه، ويثق بوعده، ويتّقي وعيده.

تمّت هذه المجلّدة بحمد الله وحسن توفيقه ،

والصّلاة على محمد وآله الطيّبين الطاهرين

١٥٦

(١٩)

سورة مريم

مكّيّة بالإجماع. وهي ثمان وتسعون آية. وفي حديث أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر بعدد من صدّق بزكريّا وكذّب به، وبيحيى ومريم وعيسى وموسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل عشر حسنات، وبعدد من دعا الله في الدنيا، وبعدد من لم يدع الله».

وقال الصادقعليه‌السلام : «من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتّى يصيب ما يغنيه في ماله وولده، وكان في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم، وأعطي من الأجر في الآخرة ملك سليمان بن داود في الدنيا».

واعلم أنّه سبحانه لـمّا ختم سورة الكهف بذكر التوحيد والدعاء إليه، افتتح هذه السورة بذكر الأنبياء الّذين كانوا على تلك الطريقة، بعثا على الاقتداء بهم، وحثّا على الاهتداء بهديهم، فقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) )

١٥٧

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص ) أمال أبو عمرو الهاء، لأنّ ألفات أسماء التهجّي عنده ياءات. وابن عامر وحمزة الياء. والكسائي وأبو بكر كليهما. ونافع بين بين.

ونافع وابن كثير وعاصم يظهرون دال الهجاء عند الذال، والباقون يدغمونها.

وقد ذكرنا في أوّل سورة البقرة اختلاف العلماء في حروف المعجم الّتي في أوائل السور، وشرحنا أقوالهم هناك. وقيل هاهنا: إنّها اسم هذه السورة، أو اسم القرآن.

وحدّث عطاء بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ «كاف» من كريم، و «ها» من هاد، و «يا» من حكيم، و «عين» من عليم، و «صاد» من صادق.

وفي رواية عطاء والكلبي عنه: أنّ معناه: كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريّته، صادق بوعده، فإنّ كلّ واحدة من هذه الحروف تدلّ على صفة من صفات اللهعزوجل .

وعند بعضهم أنّ الياء إشارة إلى: يا من يجير ولا يجار عليه. وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في دعائه: «أسألك يا كهيعص يا حمسق».

( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ ) خبر ما قبله إن أوّل بالسورة أو القرآن، فإنّه مشتمل عليه. أو خبر محذوف، أي: هذا المتلوّ ذكر رحمة ربّك. أو مبتدأ حذف خبره، أي: فيما يتلى عليك ذكر رحمة ربّك.( عَبْدَهُ ) مفعول الرحمة أو الذكر، على أنّ الرحمة فاعل الذكر على الاتّساع، كقولك: ذكرني جود زيد( زَكَرِيَّا ) بدل من «عبده»، أو عطف بيان له.

والمراد بالرحمة إجابته إيّاه حين دعاه وسأله الولد. وزكريّا اسم نبيّ من أنبياء بني

١٥٨

إسرائيل، كان من أولاد هارون بن عمران.

( إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ) دعا ربّه دعاء خفيّا. والإخفاء والجهر وإن كانا سيّان عند الله، لكن الإخفاء أشدّ إخباتا وأكثر إخلاصا. وفي الحديث: «خير الدعاء الخفيّ، وخير الرزق ما يكفي».

وقيل: قيّد النداء به لئلّا يهزؤا به على طلب الولد وقت الشيخوخة، فيقولوا: انظروا إلى الشيخ الهمّ يسأل الولد على الكبر. أو لئلّا يطّلع عليه مواليه الّذين خافهم. أو لأنّ ضعف الهرم أخفى صوته.

واختلف في سنّة حينئذ، فقيل: ستّون. وقيل: سبعون. وقيل: خمس وسبعون.

وقيل: خمس وثمانون. وقيل: تسع وتسعون.

ثمّ فسّر النداء بقوله:( قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) أي: ضعف. وتخصيص العظم لأنّه دعامة البدن وقوامه وأصل بنيانه، فإذا وهن تساقطت قوّته. ولأنّه أصلب ما فيه، فإذا ضعف كان ما وراءه أضعف. وتوحيده لأنّ الواحد هو الدالّ على معنى الجنس، وقصده إلى أنّ هذا الجنس الّذي هو العمود والقوام وأشدّ ما تركّب منه الجسد قد أصابه الوهن. ولو جمع لكان يفيد معنى آخر، وهو أنّه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلّها.

( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) أدغم أبو عمرو السين في الشين. شبّه الشيب في بياضه وإنارته بشواظ(١) النار، وانتشاره وفشوّه في الشعر وأخذه منه كلّ مأخذ باشتعالها.

ثمّ أخرجه مخرج الاستعارة، وأسند الاشتعال إلى الرأس الّذي هو مكان الشيب ومنبته مبالغة. وجعله مميّزا إيضاحا للمقصود. واكتفى باللام عن الإضافة، للدلالة على أنّ علم المخاطب بتعيّن المراد يغني عن التقييد. ولهذا فصحت هذه الجملة، وشهد لها بالبلاغة.

( وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِ ) بدعائي إيّاك فيما مضى( شَقِيًّا ) محروما، بل كلّما دعوتك استجبت لي. وهو توسّل بما سلف معه من الاستجابة، وتنبيه على أنّ المدعوّ له

__________________

(١) الشواظ: لهب لا دخان فيه.

١٥٩

وإن لم يكن معتادا فإجابته معتادة، وأنّه تعالى عوّده بالإجابة وأطمعه فيها، ومن حقّ الكريم أن لا يخيب من أطمعه. والمعنى: أنّك ما خيّبتني فيما سألتك، ولا حرّمتني الاستجابة.

وعن بعضهم: أنّ محتاجا سأله وقال: أنا الّذي أحسنت إليّ وقت كذا. فقال: مرحبا بمن توسّل بنا إلينا، فقضى حاجته.

( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ ) يعني: بني عمّه. وعن ابن عبّاس: هم الكلالة. وكانوا أشرار بني إسرائيل، فخاف على الدين أن يغيّروه، ويبدّلوا على أمّته أحكام ملّته.( مِنْ وَرائِي ) من بعد موتي. وعن ابن كثير: بالمدّ والقصر(١) وفتح الياء. وهذا الظرف لا يتعلّق بـ «خفت»، لفساد المعنى، لأنّ بعد الموت لا يكون الخوف، ولكن بمحذوف، أو بمعنى الولاية في الموالي، أي: خفت فعل الموالي، وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي، أو خفت الّذين يلون الأمر من ورائي.

( وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ) لا تلد( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ) من صلبي، يليني ويكون أولى بميراثي، فإنّ مثل هذه الهيئة لا يرجى إلّا من فضلك وكمال قدرتك، فإنّي وامرأتي لا نصلح للولادة.

( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) صفتان له. وجزمهما أبو عمرو والكسائي على أنّهما جواب الدعاء. والمراد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمعليهم‌السلام ، فإنّ زكريّا كان من ولد هارون، وهو من ولد لاوي بن يعقوب. وقيل: يعقوب أخو زكريّا، أو أخو عمران بن ماثان من نسل سليمان.

واختلف في معنى هذا الإرث، فقيل: معناه: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوّة. وقيل: يرثني نبوّتي ونبوّة آل يعقوب. وقيل: يرثني الحبورة، فإنّه كان حبرا، ويرث من آل يعقوب الملك.

__________________

(١) أي: وراي.

١٦٠