زبدة التفاسير الجزء ٤

زبدة التفاسير9%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609

  • البداية
  • السابق
  • 609 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15941 / تحميل: 4596
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٦-X
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

يهاجر عنه.

واعلم أنّ المشهور بين الأمّة أنّ الخضرعليه‌السلام موجود في زماننا. ولا ينافيه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا نبيّ بعدي» لأنّ الخضرعليه‌السلام كان قبل نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وشرعه لو كان شرعا خاصّا، فإنّه منسوخ بشريعة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ولو كان داعيا إلى شريعة من تقدّمه من الأنبياء، فإنّ شريعة نبيّنا ناسخة لها. فلا يرد ما قيل: لا يجوز أن يكون الخضر حيّا إلى وقتنا هذا، لأنّه لا نبيّ بعد نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

( وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا

١٤١

يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧)قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) )

ثمّ بيّن سبحانه قصّة ذي القرنين، فقال:( وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) يعني: إسكندر الرومي ملك فارس والروم. وقيل: ملك الدنيا مؤمنان: ذو القرنين وسليمان، وكافران: نمرود وبختنصّر، وكان بعد نمرود.

قيل: إنّه كان عبدا صالحا ملّكه الله الأرض، وأعطاه العلم والحكمة، وألبسه الهيبة، وسخّر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه، وتحوطه الظلمة من ورائه. وقيل: كان نبيّا. وقيل: ملكا من الملائكة.

وعن عليّعليه‌السلام : «سخّر له السحاب، ومدّت له الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء ـ وهذا معنى تمكّنه في الأرض ـ وسهّل عليه المسير فيها، وذلّل له طريقها وحزونها»(١) .

وسئل عنه فقال: «أحبّ الله فأحبّه».

__________________

(١) الحزون جمع الحزن، وهو ما غلظ من الأرض.

١٤٢

وسأله ابن الكوّا ما ذو القرنين، أملك أم نبيّ؟ فقال: «ليس بملك ولا نبيّ، ولكن كان عبدا صالحا، ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات، ثمّ بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه الله فسمّي ذا القرنين، وفيكم مثله، أراد نفسه». قيل: كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه، فيحييه الله.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سمّي ذا القرنين، لأنّه طاف قرني الدنيا ـ يعني: جانبيها ـ شرقها وغربها».

وقيل: له قرنان، أي: ضفيرتان(١) . وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس، وعن وهب: لأنّه ملك الروم وفارس. وروي: الروم والترك. وعنه: كانت صفحتا رأسه من نحاس. وقيل: كان لتاجه قرنان. وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين. ويجوز أنه لقّب بذلك لشجاعته، كما يسمّى الشجاع كبشا، كأنّه ينطح أقرانه. وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره.

وعن وهب: أنّه رأى في منامه أنّه دنا من الشمس حتّى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها، فقصّ رؤياه على قومه، فسمّوه ذا القرنين.

وقيل: لأنّه كريم الطرفين، من أهل بيت الشرف من قبل أبيه وأمّه. والسائلون هم اليهود كما مرّ، سألوه امتحانا.

( قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ) خطاب للسائلين، والهاء لذي القرنين.

( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ) أي: مكّنّا له أمره من التصرّف فيها كيف شاء، فحذف المفعول( وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) أراده وتوجّه إليه، من أغراضه ومقاصده في ملكه( سَبَباً ) طريقا موصلا إليه. والسّبب ما يتوصّل به إلى المطلوب، من العلم والقدرة والآلة.

فلمّا أراد بلوغ المغرب( فَأَتْبَعَ سَبَباً ) فأتبع سببا يوصل إليه( حَتَّى إِذا بَلَغَ

__________________

(١) الضفيرة: كل خصلة مما ضفر ـ أي: نسج ـ على حدتها من الشعر.

١٤٣

مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) موضع غروبها. يعني: نهاية العمارة من جانب المغرب، لا أنّه بلغ موضع الغروب، لأنّه لا يصل إليه أحد.( وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) ذات حمأ، من: حمئت البئر إذا صارت ذات حمأة(١) .

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر: حامية، أي: حارّة. ولا تنافي بينهما، لجواز أن تكون العين جامعة للوصفين.

وعن أبي ذرّ: «كنت رديف رسول الله على جمل فرأى الشمس حين غابت، فقال: تدري يا أبا ذرّ أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّها تغرب في عين حامية».

ولعلّه بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك، إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء، ولذلك قال: وجدها تغرب، ولم يقل: كانت تغرب.

وقيل إنّ: ابن عبّاس سمع معاوية يقرأ: حامية، فقال: حمئة. فبعث معاوية إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين، كذلك نجده في التوراة.

( وَوَجَدَ عِنْدَها ) عند تلك العين( قَوْماً ) قيل: كان لباسهم جلود الوحش، وطعامهم ما لفظ البحر، وكانوا كفّارا، فخيّره الله بين أن يعذّبهم أو يدعوهم إلى الايمان، كما حكى بقوله:( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ) بالقتل على كفرهم( وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) بالإرشاد وتعليم الشرائع.

وقيل: خيّره الله بين القتل والأسر. وسمّاه إحسانا في مقابلة القتل.

ويؤيّد الأوّل قوله:( قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً ) أي: فاختار الدعوة وقال: أمّا من دعوته فظلم نفسه بالإصرار على كفره، أو استمرّ على ظلمه الّذي هو الشرك، فنعذّبه أنا ومن معي في الدنيا بالقتل، ويعذّبه الله في الآخرة عذابا منكرا لم يعهد مثله.

__________________

(١) الحمأة: الطين الأسود.

١٤٤

( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) وهو ما يقتضيه الإيمان( فَلَهُ ) في الدارين( جَزاءً الْحُسْنى ) الفعلة الحسنة. و «أمّا» للتقسيم دون التخيير، أي: ليكن شأنك معهم إمّا التعذيب وإمّا الإحسان، فالأوّل لمن أصرّ على الكفر، والثاني لمن تاب عنه.

وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص: جزاء، منوّنا منصوبا على الحال، أي: فله المثوبة الحسنى مجزيّا بها، أو على المصدر لفعله المقدّر حالا، أي: يجزى بها جزاء.

ونداء الله إيّاه إن كان نبيّا فبوحي، وإن كان غيره فبإلهام أو على لسان نبيّ.

( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا ) ممّا نأمر به( يُسْراً ) سهلا ميسّرا غير شاقّ. وتقديره: ذا يسر. أي: لا نأمره بالصعب الشاقّ، بل بالسهل المتيسّر، من الزكاة والخراج وغير ذلك.

( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ) ثمّ أتبع طريقا يوصله إلى المشرق( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ) يعني: الموضع الّذي تطلع الشمس عليه أوّلا من معمورة الأرض( وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً ) من جنس اللباس والبناء، فإنّ أرضهم لا تمسك الأبنية. وعن أحدهماعليهما‌السلام قال: «لم يعلموا صنعة البيوت».

وقيل: لأنّهم اتّخذوا الأسراب(١) بدل الأبنية، فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم.

وعن بعض الثقات: خرجت حتّى جاوزت الصين، فسألت عن هؤلاء، فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة. فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه ويلبس الاخرى، ومعي صاحب يعرف لسانهم. فقالوا له: جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس؟ قال: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة(٢) ، فغشي عليّ، ثمّ أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلمّا طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت. فأدخلونا سربا لهم، فلمّا ارتفع النهار خرجوا إلى البحر، فجعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم.

__________________

(١) السرب: الحفير تحت الأرض. وجمعه: أسراب.

(٢) صلصل الحليّ أو اللجام: صوّت.

١٤٥

( كَذلِكَ ) أي: أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وبسطة الملك. أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير والاختيار. ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف لـ «وجد»، أو «نجعل» أو صفة «قوم» أي: على قوم مثل ذلك القبيل الّذين تغرب عليهم الشمس في الكفر والحكم.

( وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ ) أي: علمنا ما كان عند ذي القرنين من الجنود والآلات والعدد والأسباب( خُبْراً ) علما تعلّق بظواهره وخفاياه. والمراد: أنّ كثرة ذلك بلغت مبلغا لا يحيط به إلّا علم اللطيف الخبير.

( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ) يعني: طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب، أخذا من الجنوب إلى الشمال( حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) هما جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما.

وهما جبلا أرمينية وأذربيجان. وقيل: جبلان في أواخر الشمال، في منقطع أرض الترك، من ورائهما يأجوج ومأجوج. وقيل: إنّ هذا السدّ وراء بحر الروم، على مؤخّرهما البحر المحيط.

وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر ويعقوب: بين السّدّين بالضمّ. وهما لغتان. وقيل: المضموم لـما خلقه الله بمعنى المفعول، والمفتوح لـما عمله الناس، لأنّه في الأصل مصدر سمّي به حدث يحدثه الناس. وقيل: بالعكس.

و «بين» هاهنا مفعول به، كما انجرّ على الإضافة، كقوله:( هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) (١) . وكما ارتفع في قوله:( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) (٢) لأنّه من الظروف الّتي تستعمل أسماء وظروفا.

( وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) إلّا بجهد ومشقّة، من إشارة ونحوها كما يفهم البكم، لغرابة لغتهم، وقلّة فطنتهم.

__________________

(١) الكهف: ٧٨.

(٢) الأنعام: ٩٤.

١٤٦

وقرأ حمزة والكسائي: يفقهون، أي: لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه، لتلعثمهم(١) فيه.

( قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) أي: قال مترجمهم( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ) قبيلتان من ولد يافث بن نوح. وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الجيل والديلم. وهما اسمان أعجميّان بدليل منع الصرف. وقيل: عربيّان، من: أجّ الظليم(٢) إذا أسرع. وأصلهما الهمز، كما قرأ عاصم. ومنع صرفهما للتعريف والتأنيث.( مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) أي: في أرضنا، بالقتل والتخريب وإتلاف الزروع. قيل: كانوا يخرجون في الربيع، فلا يتركون أخضر إلّا أكلوه، ولا يابسا إلّا احتملوه، وقيل: كانوا يأكلون الناس والدوابّ.

ورد في الخبر عن حذيفة قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال: «يأجوج أمّة ومأجوج أمّة، لا يموت منهم أحد حتّى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلّ قد حمل السلاح. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز. قلت: يا رسول الله وما الأرز؟ قال: شجر بالشام طوال. وصنف منهم طولهم وعرضهم سواء، وهؤلاء الّذين لا يقوم لهم خيل ولا حديد. وصنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، ولا يمرّون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إلّا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مقدّمتهم بالشام، وساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية».

وفي الكشّاف(٣) : «هم على صنفين: طوال مفرطو الطول، وقصار مفرطو القصر».

( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً ) جعلا نخرجه من أموالنا. وقرأ حمزة والكسائي: خراجا.

وكلاهما واحد، كالنول والنوال. وقيل: الخراج على الأرض والذمّة، والخرج المصدر.

__________________

(١) تلعثم في الأمر: توقّف فيه وتأنّى.

(٢) الظليم: الذكر من النعام.

(٣) الكشّاف ٢: ٧٤٦ ـ ٧٤٧.

١٤٧

( عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ) يحجز دون خروجهم علينا. وقد ضمّه من ضمّ السدّين غير حمزة والكسائي.

( قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال والملك خير ممّا تبذلون لي من الخراج، ولا حاجة بي إليه، كما قال سليمانعليه‌السلام :( فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ ) (١) . وقرأ ابن كثير: مكّنني على الأصل.

( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) أي: بقوّة فعلة وصنّاع يحسنون البناء، أو بما أتقوّى به من الآلات( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) حاجزا حصينا موثقا هو أكبر من السدّ، من قولهم: ثوب مردّم إذا كان رقاعا فوق رقاع.

( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قطعه. والزبرة القطعة الكبيرة. وهو لا ينافي ردّ الخراج والاقتصار على المعونة، لأنّ الإيتاء بمعنى المناولة. ويدلّ عليه قراءة أبي بكر: ردما ائتوني، بكسر التنوين موصولة الهمزة، على معنى: جيئوني بزبر الحديد. والباء محذوفة، حذفها في: أمرتك الخير. ولأن إعطاء الآلة من الإعانة بالقوّة، دون الخراج على العمل.

( حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) سوّى بين جانبي الجبلين، بأن أمر بتنضيدها.

وقرأ ابن كثير وابن عامر والبصريّان بضمّتين، وأبو بكر بضمّ الصاد وسكون الدال، من الصدف وهو الميل، لأنّ كلّا منهما منعزل عن الآخر، ومنه التصادف للتقابل.

( قالَ انْفُخُوا ) أي: قال للعملة: انفخوا في الأكوار(٢) والحديد( حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ) جعل المنفوخ فيه( ناراً ) كالنار بالإحماء( قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) أي: آتوني قطرا ـ أي: نحاسا مذابا ـ أفرغ عليه قطرا، لينسدّ الثقب الّذي فيه، ويصير جدارا مصمتا. وكانت حجارته الحديد، وطينه النحاس الذائب. فحذف المفعول الأوّل لدلالة الثاني عليه. وبه تمسّك البصريّون على أنّ إعمال الثاني من العاملين المتوجّهين نحو

__________________

(١) النمل: ٣٦.

(٢) الكور: كور الحدّاد المبنيّ من الطين. وجمعه أكوار.

١٤٨

معمول واحد أولى، إذ لو كان «قطرا» مفعول «آتوني» لأضمر مفعول «أفرغ» حذرا من الالتباس. وقرأ حمزة وأبو بكر: قال ائتوني موصولة الألف.

وقيل: حفر للأساس حتّى بلغ الماء، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب، والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم، حتّى سدّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ حتّى صارت كالنار، فصبّ النحاس المذاب على الحديد المحمى، فاختلط والتصق بعضه ببعض، وصار جبلا صلدا.

وقيل: بعد ما بين السدّين مائة فرسخ، ومقدار ارتفاع السدّ مائتا ذراع، وعرض الحائط نحو من خمسين ذراعا.

قيل: بناه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض، بكلاليب من حديد ونحاس مذاب في تجاويفها.

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ رجلا أخبره به، فقال: كيف رأيته؟ قال: كالبرد المحبّر، طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: قد رأيته».

( فَمَا اسْطاعُوا ) بحذف التاء حذرا من تلاقي متقاربين. وقرأ حمزة بالإدغام، جامعا بين الساكنين على غير حدّه.( أَنْ يَظْهَرُوهُ ) أن يعلوه بالصعود، لارتفاعه وانملاسه( وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً ) لثخنه وصلابته.

( قالَ هذا ) هذا السدّ، أو الإقدار والتمكين على تسويته( رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) على عباده( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي ) فإذا دنا وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج، أو بقيام الساعة، بأن شارف يوم القيامة( جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) مدكوكا مبسوطا مسوّى بالأرض. مصدر بمعنى المفعول. ومنه: جمل أدكّ لمنبسط السنام. وقرأ الكوفيّون: دكّاء بالمدّ، أي: أرضا مستوية.( وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) كائنا لا محالة. وإنّما يكون ذلك بعد قتل عيسى بن مريم الدجّال.

وجاء في الحديث: «أنّهم يدأبون في حفره نهارهم، حتّى إذا أمسوا وكادوا

١٤٩

يبصرون شعاع الشمس قالوا: نرجع غدا ونفتحه ونخرج، ولا يستثنون. فيعودون من الغد قد استوى كما كان، حتّى إذا جاء وعد الله قالوا: غدا نفتح ونخرج إن شاء الله، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه بالأمس، فيخرقونه ويخرجون على الناس، فينشفون المياه، ويتحصّن الناس في حصونهم منهم، فيرمون سهامهم إلى السماء فترجع وفيها كهيئة الدماء، ويقولون: قد قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء. فبعث الله عليهم نغفا(١) في أقفائهم، فيدخل آذانهم فيهلكون بها. فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والّذي نفس محمد بيده إنّ دوابّ الأرض لتسمن وتسكر من لحومهم سكرا».

وفي تفسير الكلبي: إنّ الخضر واليسع يجتمعان كلّ ليلة على ذلك السدّ، يحجبان يأجوج ومأجوج عن الخروج».

( وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) )

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية: «النغف: دود يكون في أنف الغنم. منه».

١٥٠

ثمّ أخبر سبحانه عن تلك الأمم، فقال:( وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ ) وجعلنا بعض يأجوج ومأجوج حين يخرجون ممّا وراء السدّ( يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) يموجون في بعض مزدحمين في البلاد. أو يموج بعض الخلق في بعض، فيضطربون ويختلطون إنسهم وجهنّم حيارى. ويؤيّده( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) لقيام الساعة.

واختلفوا في الصور، فعن ابن عبّاس: هو قرن ينفخ فيه. وعن الحسن: هو جمع صورة، وأنّ الله سبحانه يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في الأرحام، ثمّ ينفخ فيهم الأرواح كما ينفخ في أرحام أمّهاتهم.

وقيل: إنّه ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات. فالنفخة الأولى: نفخة الفزع.

والثانية: نفخة الصعق الّتي يصعق من في السماء والأرض بها فيموتون. والثالثة: نفخة القيام، فيحشرهم بها في قبورهم لربّ العالمين.

( فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً ) للحساب والجزاء في صعيد واحد.

( وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ) وأبرزناها وأظهرناها لهم، فرأوها وشاهدوها مع ألوان عذابها قبل دخولها.

( الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي ) أي: غفلوا عن آياتي الّتي ينظر إليها، فأذكر بالتوحيد والتعظيم، فأعرضوا عن التفكّر فيها( وَكانُوا ) فصاروا بمنزلة من يكون في عينه غطاء يمنعه من الإدراك( لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) أي: يثقل عليهم استماع ذكري وكلامي، لإفراط صممهم عن الحقّ، فإنّ الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به، وهؤلاء كأنّهم أصمت مسامعهم بالكلّيّة، فلا استطاعة بهم للسمع.

( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أفظنّوا، والاستفهام للإنكار( أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي ) وهم

١٥١

الملائكة والمسيح( مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ ) معبودين نافعهم؟ أو لا أعذّبهم به؟ فحذف المفعول الثاني كما يحذف الخبر للقرينة، أو سدّ «أن يتّخذوا» مسدّ مفعوليه.( إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً ) ما يقام للنزيل، وهو الضيف. وفيه تهكّم. ونحوه:( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) (١) . وتنبيه على أنّ لهم وراءها من العذاب ما تستحقرونه.

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) نصب على التمييز. وجمع لأنّه من أسماء الفاعلين، أو لتنوّع أعمالهم، أي: بأخسر الناس أعمالا.

( الَّذِينَ ضَلَ ) ضاع وبطل( سَعْيُهُمْ ) واجتهادهم( فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) لكفرهم وعجبهم، كالرهابنة، فإنّهم خسروا دنياهم وأخراهم. ومحلّه الرفع على الخبر المحذوف، فإنّه جواب السؤال. أو الجرّ على البدل. أو النصب على الذمّ.( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) بعجبهم واعتقادهم أنّهم على الحقّ.

روى العيّاشي بإسناده قال: «قام ابن الكوّاء إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فسأله عن أهل هذه الآية. فقال: أولئك أهل الكتاب كفروا بربّهم، وابتدعوا في دينهم، فحبطت أعمالهم.

وأهل النهر منهم ليسوا ببعيد. يعني: الخوارج»(٢) .

وفي رواية أخرى قالعليه‌السلام : «منهم أهل الحروراء»(٣) .

( أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ) بالقرآن، أو بدلائله المنصوبة على التوحيد والنبوّة( وَلِقائِهِ ) بالبعث على ما هو عليه، أو لقاء عذابه( فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) ضاعت وبطلت بكفرهم، فلا يثابون عليها، لأنّهم أوقعوها على خلاف الوجه الّذي أمرهم الله به( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ) فنزدري بهم، ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا. وقيل: لا نضع لهم ميزانا يوزن به أعمالهم، لانحباطها، لأن الميزان إنّما يوضع لأهل الحسنات والسيّئات من الموحّدين.

__________________

(١) الانشقاق: ٢٤. (٢، ٣) تفسير العيّاشي ٢: ٣٥٢ ح ٨٩، ٩٠.

١٥٢

وعن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمال يوم القيامة في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا.

وروي في الصحيح أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة».

( ذلِكَ ) أي: الأمر ذلك الّذي ذكرت، من حبوط أعمالهم وخسّة قدرهم. وقوله:( جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ ) جملة مبيّنة له. ويجوز أن يكون «ذلك» مبتدأ، والجملة خبره، والعائد محذوف، أي: جزاؤهم به. أو «جزاؤهم» بدله، و «جهنّم» خبره. أو «جزاؤهم» خبره، و «جهنّم» عطف بيان للخبر.( بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) أي: بسبب ذلك.

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) )

ولـمّا تقدّم ذكر حال الكافرين، عقّبه سبحانه بذكر حال المؤمنين، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) فيما سبق من حكم الله ووعده. والفردوس أعلى درجات الجنّة وأفضلها. وأصله البستان الّذي يجمع الكرم والنخيل.

روى عبادة بن الصامت عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «الجنّة مائة درجة، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنّة الأربعة، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس».

( خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً ) تحوّلا، إذ لا يجدون أطيب منها حتّى تنازعهم إليه أنفسهم. ويجوز أن يراد به تأكيد الخلود. وهذه غاية الوصف، لأنّ الإنسان في الدنيا في أيّ نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه.

١٥٣

( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠) )

واعلم أنّه قد مرّ(١) في سورة بني إسرائيل أنّ اليهود قالوا: في كتابكم:( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) (٢) ثمّ تقرؤون:( وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) (٣) ، فنزلت:( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ ) جنس البحر( مِداداً ) ما يكتب به. وهو اسم ما يمدّ به الشيء، كالحبر للدواة، والسليط(٤) للسراج.( لِكَلِماتِ رَبِّي ) لكلمات علمه وحكمته، ومقدوراته وعجائبه( لَنَفِدَ الْبَحْرُ ) لنفد جنس البحر بأسره، لأنّ كلّ جسم متناه( قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ) فإنّها غير متناهية فلا تنفد( وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ ) بمثل البحر الموجود( مَدَداً ) زيادة ومعونة، لأنّ مجموع المتناهيين متناه، بل مجموع ما يدخل في الوجود من الأجسام لا يكون إلّا متناهيا، للدلائل القاطعة على تناهي الأبعاد، والمتناهي ينفد قبل أن ينفد غير المتناهي لا محالة.

ونصبه للتمييز، كقولك: لي مثله رجلا. وهو مثل المدد معنى. والمعنى: أنّ الحكمة وإن كانت خيرا كثيرا في نفسه، لكنّه قطرة من بحر كلمات الله.

__________________

(١) راجع ص ٦٧ ـ ٦٨ ذيل الآية ٨٥ من سورة الإسراء.

(٢) البقرة: ٢٦٩.

(٣) الإسراء: ٨٥.

(٤) في هامش النسخة الخطّية: «دهن الزيت. منه».

١٥٤

( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) لا أدّعي الإحاطة على كلماته.

عن ابن عبّاس: علّم الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التواضع لئلّا يزهى على خلقه، فأمره أن يقرّ على نفسه بأنّه آدميّ كغيره، إلّا أنّه أكرم بالوحي. وهو قوله:( يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) وإنّما ميّزت عنكم بذلك. يعني: لا فضل لي عليكم إلّا بالدين والنبوّة، ولا علم لي إلّا ما علّمنيه الله تعالى.

( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ) يأمل حسن جزائه عند ربّه( فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ) خالصا لله، يتقرّب به إليه، بحيث يرتضيه( وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) من ملك أو بشر، أو حجر أو شجر. والأكثر أنّ معناه لا يرائيه.

وعن عطاء، عن ابن عبّاس: أنّ الله تعالى قال:( وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) ولم يقل: ولا يشرك به، لأنّه أراد العمل الّذي يعمل لله، ويحبّ أن يحمد عليه.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتّقوا الشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء».

وروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «قال اللهعزوجل : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري فأنا منه بريء، فهو للّذي أشرك». رواه مسلم في الصحيح(١) .

وروي عن عبادة بن الصامت وشدّاد بن أوس قالا: سمعنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «من صلّى صلاة يرائي بها فقد أشرك، ومن صام صوما يرائي به فقد أشرك، ثمّ قرأ هذه الآية».

وروي أنّ جندب بن زهير قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي لأعمل العمل لله، فإذا اطّلع عليه سرّني. فقال: إنّ الله لا يقبل ما شورك فيه. فنزلت تصديقا له».

وروي: «أنّ أبا الحسن الرضاعليه‌السلام دخل يوما على المأمون فرآه يتوضّأ للصلاة والغلام يصبّ على يده الماء، فقال: لا تشرك بعبادة ربّك أحدا. فصرف المأمون الغلام، وتولّى إتمام وضوئه بنفسه».

__________________

(١) صحيح مسلم ٤: ٢٢٨٩ ح ٤٦.

١٥٥

وقيل: معناه: ولا يطلب منه أجرا. ويؤيّده ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: «ما عبدتك طمعا لثوابك، وخوفا من نارك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك».

وقيل: هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها ـ أي: هذه الآية ـ عند مضجعه كان له نورا في مضجعه يتلألأ إلى مكّة، حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتّى يقوم. فإن كان مضجعه بمكّة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور، حشو ذلك ملائكة يصلّون عليه حتّى يستيقظ».

ومثله ما روى الشيخ أبو جعفر بن بابويهرحمه‌الله بإسناده عن عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّعليه‌السلام قال: «ما من عبد يقرأ «قل إنّما أنا بشر مثلكم» إلى آخر الآية، إلّا كان له نورا في مضجعه إلى بيت الله الحرام، فإن كان من أهل البيت الحرام كان له نورا إلى بيت المقدس».

وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «ما من أحد يقرأ آخر الكهف عند النوم إلّا يتيقّظ في الساعة الّتي يريدها».

قيل في وجه اتّصال( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ) بما قبلها: إنّه لـمّا تقدّم الأمر والنهي والوعد والوعيد، عقّب ذلك سبحانه ببيان أنّ مقدوراته لا تتناهى، وأنّه قادر على ما يشاء في أفعاله وأوامره على حسب المصالح، فمن الواجب على المكلّف أن يمتثل أمره ونهيه، ويثق بوعده، ويتّقي وعيده.

تمّت هذه المجلّدة بحمد الله وحسن توفيقه ،

والصّلاة على محمد وآله الطيّبين الطاهرين

١٥٦

(١٩)

سورة مريم

مكّيّة بالإجماع. وهي ثمان وتسعون آية. وفي حديث أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر بعدد من صدّق بزكريّا وكذّب به، وبيحيى ومريم وعيسى وموسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل عشر حسنات، وبعدد من دعا الله في الدنيا، وبعدد من لم يدع الله».

وقال الصادقعليه‌السلام : «من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتّى يصيب ما يغنيه في ماله وولده، وكان في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم، وأعطي من الأجر في الآخرة ملك سليمان بن داود في الدنيا».

واعلم أنّه سبحانه لـمّا ختم سورة الكهف بذكر التوحيد والدعاء إليه، افتتح هذه السورة بذكر الأنبياء الّذين كانوا على تلك الطريقة، بعثا على الاقتداء بهم، وحثّا على الاهتداء بهديهم، فقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) )

١٥٧

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص ) أمال أبو عمرو الهاء، لأنّ ألفات أسماء التهجّي عنده ياءات. وابن عامر وحمزة الياء. والكسائي وأبو بكر كليهما. ونافع بين بين.

ونافع وابن كثير وعاصم يظهرون دال الهجاء عند الذال، والباقون يدغمونها.

وقد ذكرنا في أوّل سورة البقرة اختلاف العلماء في حروف المعجم الّتي في أوائل السور، وشرحنا أقوالهم هناك. وقيل هاهنا: إنّها اسم هذه السورة، أو اسم القرآن.

وحدّث عطاء بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ «كاف» من كريم، و «ها» من هاد، و «يا» من حكيم، و «عين» من عليم، و «صاد» من صادق.

وفي رواية عطاء والكلبي عنه: أنّ معناه: كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريّته، صادق بوعده، فإنّ كلّ واحدة من هذه الحروف تدلّ على صفة من صفات اللهعزوجل .

وعند بعضهم أنّ الياء إشارة إلى: يا من يجير ولا يجار عليه. وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في دعائه: «أسألك يا كهيعص يا حمسق».

( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ ) خبر ما قبله إن أوّل بالسورة أو القرآن، فإنّه مشتمل عليه. أو خبر محذوف، أي: هذا المتلوّ ذكر رحمة ربّك. أو مبتدأ حذف خبره، أي: فيما يتلى عليك ذكر رحمة ربّك.( عَبْدَهُ ) مفعول الرحمة أو الذكر، على أنّ الرحمة فاعل الذكر على الاتّساع، كقولك: ذكرني جود زيد( زَكَرِيَّا ) بدل من «عبده»، أو عطف بيان له.

والمراد بالرحمة إجابته إيّاه حين دعاه وسأله الولد. وزكريّا اسم نبيّ من أنبياء بني

١٥٨

إسرائيل، كان من أولاد هارون بن عمران.

( إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ) دعا ربّه دعاء خفيّا. والإخفاء والجهر وإن كانا سيّان عند الله، لكن الإخفاء أشدّ إخباتا وأكثر إخلاصا. وفي الحديث: «خير الدعاء الخفيّ، وخير الرزق ما يكفي».

وقيل: قيّد النداء به لئلّا يهزؤا به على طلب الولد وقت الشيخوخة، فيقولوا: انظروا إلى الشيخ الهمّ يسأل الولد على الكبر. أو لئلّا يطّلع عليه مواليه الّذين خافهم. أو لأنّ ضعف الهرم أخفى صوته.

واختلف في سنّة حينئذ، فقيل: ستّون. وقيل: سبعون. وقيل: خمس وسبعون.

وقيل: خمس وثمانون. وقيل: تسع وتسعون.

ثمّ فسّر النداء بقوله:( قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ) أي: ضعف. وتخصيص العظم لأنّه دعامة البدن وقوامه وأصل بنيانه، فإذا وهن تساقطت قوّته. ولأنّه أصلب ما فيه، فإذا ضعف كان ما وراءه أضعف. وتوحيده لأنّ الواحد هو الدالّ على معنى الجنس، وقصده إلى أنّ هذا الجنس الّذي هو العمود والقوام وأشدّ ما تركّب منه الجسد قد أصابه الوهن. ولو جمع لكان يفيد معنى آخر، وهو أنّه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلّها.

( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) أدغم أبو عمرو السين في الشين. شبّه الشيب في بياضه وإنارته بشواظ(١) النار، وانتشاره وفشوّه في الشعر وأخذه منه كلّ مأخذ باشتعالها.

ثمّ أخرجه مخرج الاستعارة، وأسند الاشتعال إلى الرأس الّذي هو مكان الشيب ومنبته مبالغة. وجعله مميّزا إيضاحا للمقصود. واكتفى باللام عن الإضافة، للدلالة على أنّ علم المخاطب بتعيّن المراد يغني عن التقييد. ولهذا فصحت هذه الجملة، وشهد لها بالبلاغة.

( وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِ ) بدعائي إيّاك فيما مضى( شَقِيًّا ) محروما، بل كلّما دعوتك استجبت لي. وهو توسّل بما سلف معه من الاستجابة، وتنبيه على أنّ المدعوّ له

__________________

(١) الشواظ: لهب لا دخان فيه.

١٥٩

وإن لم يكن معتادا فإجابته معتادة، وأنّه تعالى عوّده بالإجابة وأطمعه فيها، ومن حقّ الكريم أن لا يخيب من أطمعه. والمعنى: أنّك ما خيّبتني فيما سألتك، ولا حرّمتني الاستجابة.

وعن بعضهم: أنّ محتاجا سأله وقال: أنا الّذي أحسنت إليّ وقت كذا. فقال: مرحبا بمن توسّل بنا إلينا، فقضى حاجته.

( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ ) يعني: بني عمّه. وعن ابن عبّاس: هم الكلالة. وكانوا أشرار بني إسرائيل، فخاف على الدين أن يغيّروه، ويبدّلوا على أمّته أحكام ملّته.( مِنْ وَرائِي ) من بعد موتي. وعن ابن كثير: بالمدّ والقصر(١) وفتح الياء. وهذا الظرف لا يتعلّق بـ «خفت»، لفساد المعنى، لأنّ بعد الموت لا يكون الخوف، ولكن بمحذوف، أو بمعنى الولاية في الموالي، أي: خفت فعل الموالي، وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي، أو خفت الّذين يلون الأمر من ورائي.

( وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ) لا تلد( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ) من صلبي، يليني ويكون أولى بميراثي، فإنّ مثل هذه الهيئة لا يرجى إلّا من فضلك وكمال قدرتك، فإنّي وامرأتي لا نصلح للولادة.

( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) صفتان له. وجزمهما أبو عمرو والكسائي على أنّهما جواب الدعاء. والمراد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمعليهم‌السلام ، فإنّ زكريّا كان من ولد هارون، وهو من ولد لاوي بن يعقوب. وقيل: يعقوب أخو زكريّا، أو أخو عمران بن ماثان من نسل سليمان.

واختلف في معنى هذا الإرث، فقيل: معناه: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوّة. وقيل: يرثني نبوّتي ونبوّة آل يعقوب. وقيل: يرثني الحبورة، فإنّه كان حبرا، ويرث من آل يعقوب الملك.

__________________

(١) أي: وراي.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

لأنّه قد أوجد الأحكام المسبقة الخاطئة عنده ، وسمح للأهواء النفسية والتعصبات العمياء المتطرفة أن تتغلب على توجهه ، ووقع في أسر الذات والغرور ، ولوث صفاء قلبه وطهارة روحه بأمور قد جعلها موانع أمام فهم وإدراك الحقائق.

وجاء في الحديث الشريف : «لو لا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات».

فأوّل شرط ينبغي تحقيقه لمن رام السير على طريق الحق هو تهذيب النفس وامتلاك التقوى ، وبدون ذلك يقع الإنسان في ظلمات الوهم فيضل الطريق.

ويشير القرآن الكريم لهذه الحقيقة ب( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .

وكم من أناس طلبوا آيات القرآن بتعصب وعناد وأحكام مسبقة (فردية أو اجتماعية) وحملوا القرآن بما يريدون لا بما يريده القرآن ، فازدادوا ضلالا بدلا من أن يكون القرآن هاديا لهم (وطبيعي أنّ القرآن بآياته وحقائقه الناصعة لا يكون وسيلة للإضلال ، ولكنّ أهواءهم وعنادهم هو الذي جرّهم لذلك) والآيتان (124 و 125) من سورة التوبة تبيّن لنا هذه الحالة بكل وضوح :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ ) .

فالمقصود بالآية عدم الاكتفاء بذكر (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) بل ينبغي أن نجعل من هذا الذكر فكرا ، ومن الفكر حالة داخلية ، وعند ما نقرأ آيّة نستعيذ بالله من أن تستحوذ وساوس الشيطان علينا ، أو أن تحول بيننا وبين كلام الله جل وعلا.

2 ـ لما ذا يكون التعوذ «من الشيطان الرجيم»؟

«الرجيم» : من (رجم) ، بمعنى الطرد ، وهو في الأصل بمعنى الرمي بالحجر ثمّ استعمل في الطرد.

٣٢١

ونلاحظ ذكر صفة طرد الشيطان من دون جميع صفاته ، للتذكير بتكبّره على أمر الله حين أمره بالسجود والخضوع لآدم ، وإنّ ذلك التكبّر الذي دخل الشيطان بات بمثابة حجاب بينه وبين إدراك الحقائق ، حتى سولت له نفسه أن يعتقد بأفضليته على آدم وقال :( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) .

فكان ذلك العناد والغرور سببا لتمرده على أمر اللهعزوجل ممّا أدى لكفره ومن ثمّ طرده من الجنّة.

وكأنّ القرآن الكريم يريد أن يفهمنا باستخدامه كلمة «الرجيم» بضرورة الاحتياط والحذر من الوقوع في حالة التكبّر والغرور والتعصب عند تلاوة آيات الله الحكيم ، لكي لا نقع بما وقع به الشيطان من قبل ، فنهوى في وحل الكفر بدلا من إدراك وفهم الحقائق القرآنية.

3 ـ بين لوائي الحقّ والباطل

قسمت الآيات أعلاه الناس إلى قسمين : قسم يرزح تحت سلطة الشيطان وقسم خارج عن هذه السلطة ، وبيّنت صفتين لكلّ من هذين القسمين :

فالذين هم خارج سلطة الشيطان : مؤمنون ومتوكلون على اللهعزوجل ، أي أنّهم من الناحية الاعتقادية عباد لله ، ومن الناحية العملية يعيشون مستقلين عن كل شيء سوى الله، ويتوكلون عليه لا على البشر أو على الأهواء والتعصبات.

أمّا الذين يرزحون تحت سلطة الشيطان ، فقائدهم الشيطان( يَتَوَلَّوْنَهُ ) وهو مشركون ، لأنّ أعمالهم تشير إلى تبعيتهم للشيطان وأوامره كشريك لله جل وعلا.

وثمة من يسعى لأن يكون من القسم الأوّل ، ولكنّ ابتعاده عن المربّين الإلهيين ، أو الضياع في محيط فاسد ، أو أيّ أسباب أخرى ، تؤدي الى سقوطه في وحل القسم الثّاني.

وعلى أيّة حال ، فالآية تؤكّد حقيقة أنّ سلطة الشيطان ليست إجبارية على

٣٢٢

الإنسان ، ولا يتمكن من التأثير على الإنسان من دون أن يمهد الإنسان السبيل لدخول الشيطان في نفسه ، ويعطيه إجازة المرور من بوابة قلبه.

4 ـ آداب تلاوة القرآن :

كل شيء يحتاج الى برنامج معين ولا يستثنى كتاب عظيم ـ كالقرآن الكريم ـ من هذه القاعدة ، لذلك فقد ذكر في القرآن بعض الآداب والشروط لتلاوة كلام الله والاستفادة من آياته :

1 ـ يقول تعالى أوّلا :( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ، ويمكن أن يشير هذا التعبير إلى الطهارة الظاهرية ، كأن يكون مس كتابة القرآن مشروط بالطهارة والوضوء ، وكذا الإشارة إلى إمكان تيسر الوصول لفهم محتوى آيات القرآن من خلال تطهير النفس من الرذائل الأخلاقية ، لأنّ الصفات القبيحة تمنع من مشاهدة جمال الحق باعتبارها حجابا مظلما بين الإنسان والحقائق.

2 ـ يجب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قبل الشروع بتلاوة آيات الله( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) .

وعند ما سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن طريقة العمل بهذا القول ، يروى أنّه قال : «قل أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم».

وفي رواية أخرى ، عند تلاوتهعليه‌السلام لسورة الحمد قال : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بالله أن يحضرون».

وكما قلنا ، فإنّ التلفظ ـ فقط ـ في الاستعاذة لا يغني من الحق شيئا ، ما لم تنفذ الاستعاذة إلى أعماق الروح بشكل ينفصل فيه الإنسان عند التلاوة عن إرادة الشيطان ، ويقترب من الصفات الإلهية ، لترتفع عن فكره موانع فهم كلام الحق ، وليرى جمال الحقيقة بوضوح تام.

فالاستعاذة بالله من الشيطان ـ إذن ـ لازمة قبل الشروع بالتلاوة ، ومستمرّة

٣٢٣

مع التلاوة إلى آخرها وإن لم يكن ذلك باللسان.

3 ـ تجب القراءة ترتيلا ، أي مع التفكّر والتأمّل( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) (1) .

وفي تفسير هذه الآية روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ القرآن لا يقرأ هزرمة ولكن يرتل ترتيلا ، إذا مررت بآية فيها ذكر النّار وقفت عندها وتعوّذت بالله من النّار»(2) .

4 ـ وقد ورد الأمر بالتدبّر والتفكّر في القرآن إضافة إلى الترتيل. حيث جاء في الآية (82) من سورة النساء :( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) .

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا من كان يقرئنا من الصحابة أنّهم كانوا يأخذون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر آيات ، فلا يأخذون في العشر الأخر حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل.

وفي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»(3) .

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون»(4) . (ولكنّ ذوي الضمائر الحيّة والعلماء المؤمنين ، يستطيعون رؤية جماله المتجلّي في كلامه جل وعلا).

5 ـ على الذين يستمعون إلى تلاوة القرآن أن ينصتوا إليه بتفكّر وتأمّل( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (5) .

وثمة أحاديث شريفة تحث على قراءة القرآن بصوت حسن ، لما له من فعل مؤثر في تحسّس مفاهيمه ، ولكنّ المجال لا يسمح لنا بتفصيل ذلك(6) .

* * *

__________________

(1) سورة المزمل ، 4.

(2) بحار الأنوار ، ج 89 ، ص 106.

(3) المصدر السابق.

(4) بحار الأنوار ، ج 92 ، ص 107.

(5) الأعراف ، 204.

(6) مزيد من الاطلاع راجع بحار الأنوار ، ج 9 ، ص 190 وما بعدها.

٣٢٤

الآيات

( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) )

سبب النّزول

يقول ابن عباس : (كانوا يقولون : يسخر محمّد بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر وغدا يأمرهم بأمر ، وإنّه لكاذب ، يأتيهم بما يقول من عند نفسه).

التّفسير

الافتراء

تحدثت الآيات السابقة أسلوب الاستفادة من القرآن الكريم ، وتتناول

٣٢٥

الآيات مورد البحث جوانب أخرى من المسائل المرتبطة بالقرآن ، وتبتدئ ببعض الشبهات التي كانت عالقة في أذهان المشركين حول الآيات القرآنية المباركة ، فتقول :( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ ) فهذا التغيير والتبديل يخضع لحكمة الله ، فهو أعلم بما ينزل، وكيف ينزل ، ولكن المشركين لجهلهم( قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

وحقيقة الأمر أنّ المشركين لم يتوصلوا بعد لإدراك وظيفة القرآن وما يحمل من رسالة ، ولم يدخل في تصوراتهم وأذهانهم أنّ القرآن في صدد بناء مجتمع إنساني جديد يسوده التطور والتقدم والحرية والمعنوية العالية نعم ، فأكثرهم لا يعلمون.

فبديهي والحال هذه أن يطرأ على وصفة الدواء الإلهي لنجاة هؤلاء المرضى التغيير والتبديل تدرجا مع ما يعيشونه ، فما يعطون اليوم يكمله الغد وهكذا حتى تتمّ الوصفة الشاملة.

فغفلة المشركين عن هذه الحقائق وابتعادهم عن ظروف نزول القرآن ، دفعهم للاعتقاد بأنّ أقوال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمل بين ثناياها التناقض أو الافتراء على اللهعزوجل ! وإلّا لعلموا أنّ النسخ في الأحكام جزء من أوامر وآيات القرآن المنظمة على شكل برنامج تربوي دقيق لا يمكن الوصول للهدف النهائي لنيل التكامل إلّا به.

فالنسخ في أحكام مجتمع يعيش حالة انتقالية بين مرحلتين يعتبر من الضروريات العملية والواقعية ، فالتحول والانتقال بالناس من مرحلة إلى أخرى لا يتم دفعة واحدة ، بل ينبغي أنّ يمر بمراحل انتقالية دقيقة.

أيمكن معالجة مريض مزمن في يوم واحد؟

أو شفاء رجل مدمن على المخدرات لسنوات عديدة في يوم واحد؟ أو ليس التدرج في المعالجة من أسلم الأساليب؟

٣٢٦

وبعد الإجابة على هذه الأسئلة لا يبقى لنا إلّا أن نقول : ليس النسخ سوى برنامج مؤقت في مراحل انتقالية.

(لقد بحثنا موضوع النسخ في تفسير الآية (36) من سورة البقرة ـ فراجع).

وتستمر الآية التالية بنفس الموضوع ، وللتأكيد عليه تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن :( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ ) .

«روح القدس» أو (الرّوح المقدسة) هو أمين الوحي الإلهي «جبرائيل الأمين» ، وبواسطته كانت الآيات القرآنية تتنزّل بأمر الله تعالى على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سواء الناسخ منها أو المنسوخ.

فكل الآيات حق ، وهدفها واحد يتركز في توجيه الإنسان ضمن التربية الرّبانية له،وظروف وتركيبة الإنسان استلزمت وجود الأحكام الناسخة والمنسوخة في العملية التربوية.

ولهذا ، جاء في تكملة الآية المباركة :( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) .

يقول صاحب تفسير الميزان : إنّ تعريف الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين إنّما هو لما بين الإيمان والإسلام من الفرق ، فالإيمان للقلب ونصيبه التثبيت في العلم والإذعان ، والإسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الاهتداء إلى واجب العمل والبشرى بأنّ الغاية هي الجنّة والسعادة.

وعلى أيّة حال ، فلأجل تقوية الروح الإيمانية والسير في طريق الهدى والبشرى لا بدّ من برامج قصيرة الأمد ومؤقتة ، وبالتدريج يحل البرنامج النهائي الثابت محلها ، وهو سبب وجود الناسخ والمنسوخ في الآيات الإلهية.

وبعد أن فنّد القرآن شبهات المشركين يتطرق لذكر شبهة أخرى ، أو على الأصح لذكر افتراء آخر لمخالفي نبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ

٣٢٧

يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) .

اختلف المفسّرون في ذكر اسم الشخص الذي ادّعى المشركون أنّه كان يعلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

فعن ابن عباس : أنّه رجل يدعى (بلعام) كان يصنع السيوف في مكّة : وهو من أصل رومي وكان نصرانيا.

واعتبره بعضهم : غلاما روميا لدى بني حضرم واسمه (يعيش) أو (عائش) وقد أسلم وأصبح من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقال آخرون : إنّ معلّمه غلامين نصرانيين أحدهما اسمه (يسار) والآخر (جبر) وكان لهما كتاب بلغتهما يقرءانه بين مدّة وأخرى بصوت عال.

واحتمل بعضهم : أنّه (سلمان الفارسي) ، في حين أن سلمان الفارسي التحق بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة وأسلم على يديه هناك ، وأنّ هذه التهم التي أطلقها المشركون كانت في مكّة ، أضف إلى ذلك كون القسم الأعظم من سورة النحل مكي وليس مدنيا.

وعلى أيّة حال ، فالقرآن أجابهم بقوة وأبطل كل ما كانوا يفترون ، بقوله :( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ (1) إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ (2) وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) .

فإن كان مقصودهم في تهمتهم وافترائهم أنّ معلّم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لألفاظ القرآن هو شخص أجنبي لا يفقه من العربية وبلاغتها شيئا فهذا في منتهى السفه ، إذ كيف يمكن لفاقد ملكة البيان العربي أن يعلّم هذه البلاغة والفصاحة التي عجز أمامها أصحاب اللغة أنفسهم ، حتى أنّ القرآن تحداهم بإتيان سورة من مثله فما

__________________

(1) يلحدون : من الإلحاد بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل ، وقد يطلق على أيّ انحراف ، والمراد هنا : إنّ الكاذبين يريدون نسبة القرآن إلى إنسان ويدعون بأنّه معلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

(2) الإعجام والعجمة لغة : بمعنى الإبهام ، ويطلق الأعجمي على الذي في بيانه لحن (نقص) سواء كان من العرب أو من غيرهم ، وباعتبر أنّ العرب ما كانوا يفهمون لغة غيرهم فقد استعملوا اسم (العجم) على غير العرب.

٣٢٨

استطاعوا ناهيك عن عدد الآيات؟! وإن كانوا يقصدون أنّ المحتوى القرآني هو من معلّم أجنبي فردّ ذلك أهون من الأوّل وأيسر ، إذ أن المحتوى القرآني قد صبّ في قالب كل عباراته وألفاظه من القوة بحيث خضع لبلاغته وإعجازه جميع فطاحل فصحاء العرب ، وهذا ما يرشدنا لكون الواضع يملك من القدرة على البيان ما تعلو وقدرة وملكة أيّ إنسان ، وليس لذلك أهلا سوى اللهعزوجل وسبحانه عمّا يشركون.

وبنظرة تأمّلية فاحصة نجد في محتوى القرآن أنّه يمتلك المنطق الفلسفي العميق في إثبات عقائده ، وكذا الحال بالنسبة لتعاليمه الأخلاقية في تربية روح الإنسان وقوانينه الاجتماعية المتكاملة ، وأنّ كلّ ما في القرآن هو فرق طاقة المستوى الفكري البشري حقّا ويبدو لنا أن مطلقي الافتراءات المذكورة هم أنفسهم لا يعتقدون بما يقولون ، ولكنّها شيطنة ووسوسة يدخلونها في نفوس البسطاء من الناس ليس إلّا.

والحقيقة أنّ المشركين لم يجدوا من بينهم من ينسبون إليه القرآن ، ولهذا حاولوا اختلاق شخص مجهول لا يعرف الناس عنه شيئا ونسبوا إليه القرآن ، عسى بفعلهم هذا أن يتمكنوا من استغفال أكبر قدر ممكن من البسطاء.

أضف إلى ذلك كله أن تاريخ حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسجل له اتصالات دائمة مع هذه النوعيات من البشر ، وإن كان (على سبيل الفرض) صاحب القرآن موجودا ألا يستلزم ذلك اتصال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به وباستمرار؟ إنّهم حاولوا التشبث لا أكثر ، وكما قيل : (الغريق يتشبّث بكل حشيش).

إنّ نزول القرآن في البيئة الجاهلية وتفوقه الإعجازي أمر واضح ، ولم يتوقف تفوقه حتى في عصرنا الحاضر حيث التقدم الذي حصل في مختلف مجالات التمدّن الإنساني ، والتأليفات المتعمقة التي عكست مدى قوّة الفكر البشري المعاصر.

٣٢٩

نعم ، فمع كل ما وصلت إليه البشرية من قوانين وأنظمة ما زال القرآن هو المتفوق وسيبقى.

وذكر سيد قطب في تفسيره : أنّ جمعا من الماديين في روسيا عند ما أرادوا الانتقاض من القرآن في مؤتمر المستشرقين المنعقد في سنة (1954 م) قالوا : إنّ هذا الكتاب لا يمكن أن ينتج من ذهن إنسان واحد «محمّد» بل يجب أن يكون حاصل سعي جمع كثير من الناس بما لا يصدق كونهم جميعا من جزيرة العرب ، وإنّما يقطع باشتراك جمع منهم من خارج الجزيرة(1) .

ولقد كانوا يبحثون ـ وفقا لمنطقهم الإلحادي ـ عن تفسير مادي لهذا الأمر من جهة، وما كانوا يعقلون أن القرآن نتاج إشراقة عقلية لإنسان يعيش في شبه الجزيرة العربية من جهة أخرى ، ممّا اضطرّهم لأن يطرحوا تفسيرا مضحكا وهو : اشتراك جمع كثير من الناس ـ في تأليف القرآن ـ من داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها!! على أنّ التاريخ ينفي ما ذهبوا إليه جملة وتفصيلا.

وعلى أيّة حال ، فالآية المباركة دليل الإعجاز القرآني من حيث اللفظ والمضمون ، فحلاوة القرآن وبلاغته وجاذبيته والتناسق الخاص في ألفاظه وعباراته ما يفوق قدرة أيّ إنسان. (قد كان لنا بحث مفصل في الإعجاز القرآني تناولناه في تفسير الآية (23) من سورة البقرة ـ فراجع).

وبلهجة المهدد المتوعّد يبيّن القرآن الكريم أنّ حقيقة هذه الاتهامات والانحرافات ناشئة من عدم انطباع الإيمان في نفوس هؤلاء ، فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

لأنّهم غير لائقين للهداية ولا يناسبهم إلّا العذاب الإلهي ، لما باتوا عليه من التعصب والعناد والعداء للحق.

__________________

(1) في ضلال القرآن ، ج 5 ، ص 282.

٣٣٠

وفي آخر الآية يقول : إنّ الأشخاص الذين يتّهمون أولياء الله هم الكفار :( إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ ) ، فهم الكاذبون وليس أنت يا محمّد ، لأنهم مع ما جاءهم من آيات بينات وأدلة قاطعة واضحة ولكنّهم يستمرون في إطلاق الافتراءات والأكاذيب.

فأيّة أكاذيب أكبر من تلك التي تطلق على رجال الحق لتحول بينهم وبين المتعطشين للحقائق!

* * *

بحوث

1 ـ قبح الكذب في المنظور الإسلامي

الآية الأخيرة بحثت مسألة قبح الكذب بشكل عنيف ، وقد جعلت الكاذبين بدرجة الكافرين والمنكرين للآيات الإلهية.

ومع أنّ موضوع الآية هو الكذب والافتراء على الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الآية تناولت قبح الكذب بصورة إجمالية.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أعطت التعاليم الإسلامية إفاضات خاصّة لمسألة الصدق والنهي عن الكذب ، وإليكم نماذج مختصرة ومفهرسة لجوانب الموضوع :

الصدق والأمانة من علائم الإيمان وكمال الإنسان ، حتى أنّ دلالتهما على الإيمان أرقى من دلالة الصلاة.

وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإنّ ذلك شيء قد اعتاده ولو تركه استوحش لذلك ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(1) .

__________________

(1) سفينة البحار ، مادة (صدق) ، نقلا عن الكافي.

٣٣١

فذكر الصدق مع الأمانة لاشتراكهما في جذر واحد ، وما الصدق إلّا الأمانة في الحديث ، وما الأمانة إلّا الصدق في العمل.

2 ـ الكذب منشأ جميع الذنوب :

وقد اعتبرت الأحاديث الشريفة الكذب مفتاح الذنوب

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنّة»(1) .

وعن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ اللهعزوجل جعل للبشر أقفالا ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شر من الشراب»(2) .

وعن الإمام العسكريعليه‌السلام أنّه قال : «جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل مفتاحها الكذب»(3) .

فالعلاقة بين الكذب وبقية الذنوب تتلخص في كون الكاذب لا يتمكن من الصدق، لأنّه سيكون موجبا لفضحه ، فتراه يتوسّل بالكذب عادة لتغطية آثار ذنوبه.

وبعبارة أخرى : إنّ الكذب يطلق العنان للإنسان للوقوع في الذنوب ، والصدق يحدّه.

وقد جسد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الحقيقة بكل وضوح عند ما جاءه رجل وقال له : يا رسول الله ، إنّي لا أصلي وأرتكب القبائح وأكذب ، فأيّها أترك أوّلا؟.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الكذب» ، فتعهد الرجل للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يكذب أبدا.

فلمّا خرج عرضت له نيّة منكر فقال في نفسه : إن سألني رسول الله غدا عن أمري، ما ذا أقول له! فإن أنكرت كان كاذبا ، وإن صدقت جرى عليّ الحد. وهكذا

__________________

(1) مشكاة الأنوار للطبرسي ، ص 157.

(2) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 254.

(3) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 233.

٣٣٢

ترك الكذب في جميع أفعاله القبيحة حتى تورّع عنها جميعا.

ولذا فترك الكذب طريق لترك الذنوب.

3 ـ الكذب منشأ للنفاق :

لأنّ الصدق يعني تطابق اللسان مع القلب ، في حين أنّ الكذب يعني عدم تطابق اللسان مع القلب ، وما النفاق إلّا الاختلاف بين الظاهر والباطن.

والآية (77) من سورة التوبة تبيّن لنا ذلك بوضوح :( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) .

4 ـ لا انسجام بين الكذب والإيمان :

وإضافة إلى الآية المباركة فثمة أحاديث كثيرة تعكس لنا هذه الحقيقة الجليّة

فقد روي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل : يكون المؤمن جبانا؟ قال : «نعم» ، قيل:ويكون بخيلا؟ قال : «نعم» ، قيل : يكون كذّابا؟ قال : «لا»(1) .

ذلك لأنّ الكذب من علائم النفاق ، وهو لا يتفق مع الإيمان.

وبهذا المعنى نقل عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه أشار لهذا المعنى واستدل عليه بالآية مورد البحث.

5 ـ الكذب يرفع الاطمئنان :

إنّ وجود الثقة والاطمئنان المتبادل من أهم ما يربط الناس فيما بينهم ، والكذب من الأمور المؤثرة في تفكيك هذه الرابطة لما يشبعه من خيانة وتقلب ،

__________________

(1) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 322.

٣٣٣

ولذلك كان تأكيد الإسلام على أهمية الالتزام بالصدق وترك الكذب.

ومن خلال الأحاديث الشريفة نلمس بكل جلاء نهي الأئمّةعليهم‌السلام عن مصاحبة مجموعة معينة من الناس ، منهم الكذّابون لعدم الثقة بهم.

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «إيّاك ومصادقة الكذّاب ، فإنّه كالسراب يقرّب عليك البعيد ويبعد عليك القريب»(1) .

والحديث عن قبح الكذب وفلسفته ، والأسباب الداعية إليه من الناحية النفسية ، وطرق مكافحته ، كل ذلك يحتاج إلى تفصيل طويل لا يمكن لبحثنا استيعابه ، ولمزيد من الاطلاع راجع كتب الأخلاق(2) .

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، قم 37.

(2) راجع كتابنا (الحياة على ضوء الأخلاق).

٣٣٤

الآيات

( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) )

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرون في شأن نزول الآية الأولى من هذه الآيات أنّها : نزلت في جماعة أكرهوا ـ وهو : عمار وأبوه ياسر وأمّة سمية وصهيب وبلال وخبّاب ـ عذّبوا وقتل أبو عمار وأمّه وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ، ثمّ أخبر سبحانه

٣٣٥

بذلك رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال قوم : كفر عمّار. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلا : «إنّ عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه دمه» وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما وراءك»؟ فقال : شرّ يا رسول الله ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ، فنزلت الآية.

التّفسير

المرتدون عن الإسلام :

تكمل هذه الآيات ما شرعت به الآيات السابقة من الحديث عن المشركين والكفار وما كانوا يقومون به ، فتتناول الآيات فئة أخرى من الكفرة وهم المرتدون.

حيث تقول الآية الأولى :( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .

وتشير الآية إلى نوعين من الذين كفروا بعد إيمانهم :

النوع الأوّل : هم الذين يقعون في قبضة العدو الغاشم ويتحملون أذاه وتعذيبه ، ولكنّهم لا يصبرون تحت ضغط ما يلاقوه من أعداء الإسلام ، فيعلنون براءتهم من الإسلام وولاءهم للكفر ، على أنّ ما يعلنوه لا يتعدى حركة اللسان ، وأمّا قلوبهم فتبقى ممتلئة بالإيمان.

فهذا النوع يكون مشمولا بالعفو الإلهي بلا ريب ، بل لم يصدر منهم ذنب ، لأنّهم قد ما رسوا التقية التي أحلها الإسلام لحفظ النفس وحفظ الطاقات للاستفادة منها في طريق خدمة دين اللهعزوجل .

النوع الثّاني : هم الذين يفتحون للكفر أبواب قلوبهم حقيقة ، ويغيّرون

٣٣٦

مسيرتهم ويتخلّون عن إيمانهم ، فهؤلاء يشملهم غضب اللهعزوجل وعذابه العظيم.

ويمكن أن يكون «غضب الله» إشارة إلى حرمانهم من الرحمة الإلهية والهداية في الحياة الدنيا ، و «العذاب العظيم» إشارة إلى عقابهم في الحياة الأخرى وعلى أيّة حال ، فما جاء في الآية من وعيد للمرتدين هو في غاية الشدة.

وتتطرق الآية التالية إلى أسباب ارتداد هؤلاء ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) الذين يصرّون على كفرهم وعنادهم.

وخلاصة المقال : حين أسلم هؤلاء تضررت مصالحهم المادية وتعرضت للخطر المؤقت، فندموا على إسلامهم لشدّة حبّهم لدنياهم ، وعادوا خاسئين إلى كفرهم.

وبديهي أن من لا يرغب في الإيمان ولا يسمح له بالدخول إلى أعماق نفسه ، لا تشمله الهداية الإلهية ، لأنّ الهداية تحتاج إلى مقدمات كالسعي للحصول على رضوانه سبحانه والجهاد في سبيله ، وهذا مصداق لقولهعزوجل في آخر سورة العنكبوت :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) .

وتأتي الآية الأخرى لتبيّن سبب عدم هدايتهم ، فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ) بحيث أنّهم حرموا من نعمة الرؤية والسمع وادراك الحقائق :( وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) .

وكما قلنا سابقا فإنّ ارتكاب الذنوب وفعل القبائح يترك أثره السلبي على إدراك الإنسان للحقائق وعلى عقله ورؤيته السليمة ، وتدريجيا يسلب منه سلامة الفكر ، وكلما ازداد في غيه كلّما اشتدت حجب الغفلة على قلبه وسمعه وبصره ، حتى يؤول به المآل إلى أن يصبح ذا عين ولكن لا يرى بها ، وذا أذن وكأنّه لا يسمع

٣٣٧

بها ، وتغلق أبواب روحه من تقبّل أيّة حقيقة ، فيخسر الحس التشخيصي والقدرة على التمييز ، والتي تعتبر من النعم الإلهي العالية.

«الطبع» هنا : بمعنى «الختم» ، وهو إشارة إلى حالة الإحكام المطلق ، فلو أراد شخص مثلا أن يغلق صندوقا معينا بشكل محكم كي لا تصل إليه الأيدي فإنّه يقوم بربطه بالحبال وغيرها ، ومن ثمّ يقوم بوضع ختم من الشمع على باب الصندوق للاطمئنان من عبث العابثين.

ثمّ تعرض الآية التالية عاقبة أمرهم ، فتقول :( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

وهل هناك من هو أتعس حالا من هذا الإنسان الذي خسر جميع طاقاته وامكاناته لنيل السعادة الدائمة بإتباعه هوى النفس.

وبعد ذكر الفئتين السابقتين ، أي الذين يتلفظون بكلمات الكفر وقلوبهم ملأى بالإيمان ، والذين ينقلبون إلى الكفر مرّة أخرى بكامل اختيارهم ورغبتهم ، فبعد ذلك تتطرق الآية التالية إلى فئة ثالثة وهم البسطاء المخدعون في دينهم ، فتقول :( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) .

فالآية دليل واضح على قبول توبة المرتد ، ولكنّ الآية تشير إلى من كان مشركا في البداية ثم أسلم ، فعليه يكون المقصود به هو (المرتد الملّي) وليس (المرتد الفطري).(2)

وتأتي الآية الأخيرة لتقدم تذكيرا عاما بقولها :( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ

__________________

(1) ضمير «بعدها» ـ وكما يقول كثير من المفسرين ـ يعود إلى «الفتنة» ، في حين ذهب البعض من المفسرين إلى أنه يعود إلى الهجرة والجهاد والصبر المذكورة سابقا.

(2) المرتد الفطري : هو الذي يولد من أبوين مسلمين ثم يرتد عن الإسلام بعد قبوله إياه ، والمرتد الملي : يطلق على من انعقدت نطفته من أبوين غير مسلمين ثم قبل الإسلام ، وارتد عنه بعد ذلك.

٣٣٨

نَفْسِها ) (1) لتنقذها من العقاب والعذاب.

فالمذنبون أحيانا ينكرون ما ارتكبوه من ذنوب إنكارا تاما فرارا من الجزاء والعقاب ، والآية (23) من سورة الأنعام تنقل لنا قولهم :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ، وعند ما لا يلمسون أيّة فائدة لإنكارهم يتجهون بإلقاء اللوم على أئمتهم وقادتهم ، ويقولون :( رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) (2) .

ولكن لا فائدة من كل ذلك( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

* * *

بحثان

1 ـ التقية وفلسفتها :

امتاز المسلمون الأوائل الذين تربّوا على يد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بروح مقاومة عظيمة أمام أعدائهم ، وسجل لنا التأريخ صورا فريدة للصمود والتحدي ، وها هو «ياسر» لم يلن ولم يدخل حتى الغبطة الكاذبة على شفاه الأعداء ، وما تلفظ حتى بعبارة خالية من أيّ أثر على قلبه ممّا يطمخ الأعداء أن يسمعوها منه ، مع أنّ قلبه مملوءا ولاء وإيمانا بالله تعالى وحبّا وإخلاصا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصبر على حاله رغم مرارتها فنال شرف الشهادة ، ورحلت روحه الطاهرة إلى بارئها صابرة محتسبة تشكو إليه ظلم وجور أعداء دين الله.

وها هو ولدة «عمّار» الذي خرجت منه كلمة بين صفير الأسواط وشدّة الآلام تنم عن حالة الضعف ظاهرا ، وبالرغم من اطمئنانه بإيمانه وتصديقه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا

__________________

(1) اختلاف القول بخصوص متعلق «يوم» جار بين المفسّرين فبعضهم يذهب إلى أنّه متعلق بفاعل مستتر والتقدير هو «ذكرهم يوم القيامة» ، واعتبره آخرون متعلقا بفعل الغفران والرحمة المأخوذان من «الغفور الرحيم» في الآية السابقة ، (ولكنّنا نرجح التّفسير الاحتمال الأوّل لشموله).

(2) الأعراف ، 38.

٣٣٩

أنّه اغتمّ كثيرا وارتعدت فرائصه حتى طمأنه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحلّيّة ما فعل به حفظا للنفس ، فهذا.

ويطالعنا تأريخ (بلال) عند ما اعتنق الإسلام راح يدعو له ويدافع عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشدّ عليه المشركون حتى أنّهم طرحوه أرضا تحت لهيب الشمس الحارقة ، وما اكتفوا بذلك حتى وضعوا صخرة كبيرة على صدره وهو بتلك الحال ، وطلبوا منه أن يكفر بالله ولكنّه أبى أن يستجيب لطلبهم وبقي يردد : أحد أحد ، ثمّ قال : أقسم بالله لو علمت قولا أشد عليكم من هذا لقلته.

ونقرأ في تاريخ (حبيب بن زيد) أنّه لما أسره مسيلمة الكذاب فقد سأله : هل تشهد أنّ محمّدا رسول الله؟

قال : نعم.

ثمّ سأله : أتشهد أنّي رسول الله؟

فأجابه ساخرا : إنّي لا أسمع ما تقول! فقطعوه إربا إربا(1) .

والتأريخ الإسلامي حافل بصور كهذه ، خصوصا تأريخ المسلمين الأوائل وتأريخ أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام .

ولهذا قال المحققون : إنّ ترك التقية وعدم التسليم للأعداء في حالات كهذه ، عمل جائز حتى لو أدى الأمر إلى الشهادة ، فالهدف سام وهو رفع لواء التوحيد وإعلاء كملة الإسلام ، وخاصة في بداية دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كان لهذا الأمر أهمية خاصّة.

ومع هذا ، فالتقية جائزة في موارد ، وواجبة في موارد أخرى ، وخلافا لما يعتقده البعض فإنّ التقية (في مكانها المناسب) ليست علامة للضعف ، ولا هي مؤشر للخوف من تسلط الأعداء ، ولا هي تسليم لهم بقدر ما هي نوع من

__________________

(1) في ظلال القرآن ، ج 5 ، ص 284.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609