زبدة التفاسير الجزء ٤
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609
على إبراهيمعليهالسلام ، حتّى إنّ للنار ضجيجا من بردها».
وروي مرفوعا عن يعلى بن منبّه عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي».
روي عنهعليهالسلام أيضا أنّه سئل عن معنى الآية فقال: «إنّ الله يجعل النار كالسمن الجامد، ويجمع عليها الخلق، ثمّ ينادي المنادي: أن خذي أصحابك وذري أصحابي. قالصلىاللهعليهوآلهوسلم : فو الّذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها».
وروي عن الحسن أنّه رأى رجلا يضحك، فقال: هل علمت أنّك وارد النار؟ قال: نعم. قال: وهل علمت أنّك خارج منها؟ قال: لا. قال: فبم هذا الضحك؟ فكان الحسن لم ير ضاحكا حتّى مات.
وأمّا قوله تعالى:( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) (١) فالمراد عن عذابها، لا عن ورودها.
وعن ابن مسعود والحسن وقتادة: معنى الورود الجواز على الصراط، فإنّه ممدود عليها.
وعن ابن عبّاس: قد يرد الشيء الشّيء ولم يدخله، كقوله:( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) (٢) ، ووردت القافلة البلد وإن لم تدخله ولكن قربت منه.
وعن مجاهد: ورود المؤمن النار هو مسّ الحمّى جسده في الدنيا، لقولهعليهالسلام «الحمّى من فيح جهنّم».
وفي الحديث: «الحمّى حظّ كلّ مؤمن من النار».
( كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) كان ورودهم واجبا أوجبه الله على نفسه وقضى به. وقيل: أقسم عليه. والحتم مصدر: حتم الأمر إذا أوجبه، فسمّي به الموجب، كقولهم: خلق الله، وضرب الأمير.
__________________
(١) الأنبياء: ١٠١.
(٢) القصص: ٢٣.
( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) الشرك، فيساقون إلى الجنّة. وقرأ الكسائي ويعقوب: ننجي بالتخفيف.( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) باركين على ركبهم، منها؟؟؟ رابهم كما كانوا.
ودلّ هذا على أنّ الورود بمعنى الجثوّ حواليها، وأنّ المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنّة بعد تجاثيهم، وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين.
( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) )
ثمّ بيّن مقال أهل الكفر والطغيان عند العجز عن معارضة القرآن، فقال:( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ) مرتلات الألفاظ، مبيّنات المعاني، ملخّصات المقاصد، إمّا محكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو بتبيين الرسول. أو المراد: واضحات الإعجاز، قد تحدّى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حجبا وبراهين. وعلى هذا فالوجه أن تكون حالا مؤكّدة، كقوله:( وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً ) (١) لأنّ آيات الله لا تكون إلّا واضحة وحججا.
( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) جحدوا بآياتنا( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) لأجلهم وفي معناهم، كقوله تعالى:( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا ) (٢) أو معهم، أي: يواجهونهم به ويناطقونهم.( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ ) من المؤمنين بالآيات والكافرين الجاحدين لها( خَيْرٌ مَقاماً ) موضع قيام. وقرأ ابن كثير بالضمّ، أي: موضع إقامة ومنزل.( وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) مجلسا ومجتمعا للانتداء والتحديث.
والمعنى: أنّهم لـمّا سمعوا الآيات الواضحات، وعجزوا عن معارضتها والدخل
__________________
(١) البقرة: ٩١.
(٢) الأحقاف: ١١.
عليها، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا، والاستدلال على أنّ زيادة حظّهم فيها يدلّ على فضلهم وحسن حالهم عند الله تعالى، لقصور نظرهم على الحال، وعلمهم بظاهر من الحياة الدنيا.
( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) )
وقد روي أنّهم كانوا يرجّلون شعورهم ويدهنون ويتطيّبون ويتزيّنون بالزين الفاخرة، ثمّ يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنّهم أكرم على الله تعالى منهم. فردّ الله عليهم ذلك مع التهديد نقضا، فقال:( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ) «كم» مفعول «أهلكنا»، و «من قرن» تبيين لإبهامها، أي: كثيرا من القرون أهلكنا. وإنّما سمّي أهل كلّ عصر قرنا، لأنّهم يتقدّمون من بعدهم.
( هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً ) في محلّ النصب صفة لـ «كم». ألا ترى أنّك لو تركت «هم» لم يكن لك بدّ من نصب «أحسن» على الوصفيّة. و «أثاثا» تمييز عن النسبة. وهو متاع البيت. وقيل: هو ما جدّ(١) من الفرش، غير مبتذل ولا ممتهن. والخرثي(٢) ما ليس منها ورثّ.
( وَرِءْياً ) وهو المنظر والهيئة. فعل بمعنى مفعول، من الرؤية لـما يرى، كالطحن والخبز. وقرأ قالون وابن ذكوان: ريّا على قلب الهمزة ياء وإدغامها، أو على أنّه من الريّ الّذي هو النعمة والترفّه، من قولهم: ريّان من النعيم. وأبو بكر: ريئا على القلب.
والمعنى: أنّا قد أهلكنا قبلهم أمما وجماعات كانوا أكثر أموالا وأحسن منظرا منهم، ولم تغن عنهم أموالهم ولا جمالهم، كذلك لا يغني عن هؤلاء.
__________________
(١) في هامش النسخة الخطية: «من الجدة ضدّ الخلق. منه».
(٢) الخرثي: أردأ المتاع وسقطه، والعتيق من لوازم البيت وما رثّ ـ أي: بلي ـ منها.
( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) )
ثمّ بيّن أنّ تمتيعهم استدراج وليس بإكرام، وإنّما العيار على الفضل والنقص ما يكون في الآخرة، فقال:( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) فيمدّه ويمهله بطول العمر والتمتّع به.
وإنّما أخرجه على لفظ الأمر إيذانا بوجوب إمهاله، وأنّه مفعول لا محالة، كالمأمور به الممتثل، لأنّه تنقطع معاذير الضالّ، ويقال له يوم القيامة:( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) (١) .
أو المعنى: من كان في الضلالة فيمدّ له الرحمن، على معنى الدعاء عليه، بأن يمهله اللهعزوجل ، ويؤخّره في مدّة حياته خذلانا واستدراجا.
أو المعنى على التهديد، أي: فليعش ما شاء، فإنّه لا ينفعه طول عمره، بل يوجب مزيد عذابه ونكاله.
( حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ ) غاية المدّ. وقيل: غاية قول الّذين كفروا للّذين آمنوا. والآيتان اعتراض بينهما، أي: لا يزالون يقولون هذا القول حتّى إذا رأوا ما يوعدون.
ثمّ فصّل الموعود بقوله:( إِمَّا الْعَذابَ ) في الدنيا. وهو غلبة المسلمين عليهم، وتعذيبهم إيّاهم قتلا وأسرا.( وَإِمَّا السَّاعَةَ ) وإمّا يوم القيامة، وما ينالهم فيه
__________________
(١) فاطر: ٣٧.
من الخزي والنكال.
( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً ) من الفريقين، بأن عاينوا الأمر على عكس ما قدّروه، وعاد ما متّعوا به خذلانا ووبالا عليهم. وهو جواب الشرط.( وَأَضْعَفُ جُنْداً ) أي: فئة وأنصارا وأعوانا. قابل به( خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) من حيث إنّ حسن النادي باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وأعوانهم، وظهور شوكتهم واستظهارهم.
( وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) )
ثمّ بيّن سبحانه حال المؤمنين، فقال:( وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) عطف على الشرطيّة المحكيّة بعد القول، كأنّه لـمّا بيّن أنّ إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله، أراد أن يبيّن أنّ قصور حظّ المؤمن منها ليس لنقصه، بل لأنّ اللهعزوجل أراد به ما هو خير له، وعوّضه منه.
وقيل: عطف على «فليمدد». والآية في معنى الخبر. كأنّه قيل: من كان في الضلالة يزيد الله في ضلاله بالخذلان والتخلية، ويزيد المقابل له هداية.
( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ ) الطاعات الّتي تبقى عائدتها أبد الآباد في الآخرة.
ويدخل فيها ما قيل من الصلوات الخمس، والتسبيحات الأربع، أعني: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، وغير ذلك، كما مرّ في سورة الكهف(١) .
( خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً ) عائدة ممّا متّع به الكفرة، من النعم الناقصة الفانية الّتي يفتخرون بها، ومع ذلك مآل ذلك النعيم الأبدي، ومآل هذه الحسرة والعذاب الدائم، كما أشار إليه بقوله:( وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) مرجعا وعاقبة. أو منفعة. من قولهم: ليس لهذا الأمر مردّ ،
__________________
(١) راجع ص ١١٦ ـ ١١٧ ذيل الآية ٤٦ من سورة الكهف.
أي: منفعة، وهو أردّ عليك، أي: أنفع. والخير هنا إمّا لمجرّد الزيادة، أو على طريقة قولهم: الصيف أحرّ من الشتاء، أي: أبلغ في حرّه منه في برده.
( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) )
روي أنّ الخباب بن الأرتّ كان له على العاص بن وائل مال، فتقاضاه.
فقال له: لا أقضيك حتّى تكفر بمحمّد.
فقال: لا والله لا أكفر بمحمّد حيّا ولا ميّتا، ولا حين تبعث.
قال: فإنّي إذا متّ بعثت؟
قال: نعم.
قال: فإذا بعثت جئني، وسيكون لي ثمّ مال وولد، فأعطيك. فنزلت:( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ) لـمّا كانت رؤية الأشياء أشدّ طريقا إلى الإحاطة بها علما، وأقوى سندا للإخبار، استعملوا «أرأيت» بمعنى: أخبر، والفاء جاءت لإفادة معناها الّذي هو التعقيب، كأنّه قال: أخبر أيضا بقصّة هذا الكافر عقيب حديث أولئك.
وقرأ حمزة والكسائي: وولدا. وهو جمع ولد، كأسد وأسد، أو لغة فيه ،
كالعرب والعرب.
( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ) يقال: اطّلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه. فالمعنى: قد بلغ من عظمة شأنه إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الّذي توحّد به الواحد القهّار، حتّى ادّعى أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا، وأقسم عليه.
( أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) أو اتّخذ من عالم الغيوب عهدا بذلك، فإنّه لا يتوصّل إلى العلم به إلّا بأحد هذين الطريقين. وقيل: العهد كلمة الشهادة.
وعن قتادة: هل له عمل صالح قدّمه، فهو يرجو بذلك ما يقول؟! فإنّ وعد الله بالثواب على الشهادة أو العمل الصالح كالعهد عليه.
( كَلَّا ) ردع وتنبيه على أنّه مخطئ فيما يصوّره لنفسه ويتمنّاه، فليرتدع عنه( سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ) ذكر سين التسويف، لأنّه بمعنى: سنظهر له أنّا كتبنا قوله. أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة العدوّ وحفظها عليه، فإنّ نفس الكتبة لا تتأخّر عن القول أبدا، لقوله تعالى:( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (١) .
( وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) ونطوّل له من العذاب ما يستأهله. أو نزيد عذابه، ونضاعف له بعضا فوق بعض، لكفره وافترائه واستهزائه على الله. ولذلك أكّده بالمصدر دلالة على فرط غضبه عليه. يقال: مدّه وأمدّه بمعنى.
( وَنَرِثُهُ ) بموته( ما يَقُولُ ) يعني: المال والولد( وَيَأْتِينا ) يوم القيامة( فَرْداً ) لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا، فضلا أن يؤتى ثمّة زائدا، كقوله:( وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ) (٢) .
وقيل: معناه: إنّما يقوله ما دام حيّا، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله، ويأتينا رافضا لهذا القول، منفردا عنه، غير قائل له.
__________________
(١) ق: ١٨.
(٢) الأنعام: ٩٤.
( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) ليتعزّزوا بهم، حيث يكونون لهم وصلة إلى الله، وشفعاء عنده، وأنصارا ينقذونهم من العذاب.
( كَلَّا ) ردع وإنكار لتعزّزهم بها( سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ) ستجحد الآلهة عبادتهم، ويقولون: ما عبدتمونا وأنتم كاذبون، لقوله:( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ) (١) .
أو سينكر الكفّار لسوء عاقبتهم أنّهم عبدوها، كقوله:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (٢) .
وقوله:( وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) يؤيّد الأوّل، إذا فسّر الضدّ بضدّ العزّ، أي: ويكونون عليهم ضدّا لـما قصدوه وأرادوه، كأنّه قيل: ويكونون عليهم ذلّا وهوانا، لا لهم عزّا.
أو بضدّهم بمعنى. عونهم، كما يقال: من أضدادكم، أي: أعوانكم. وسمّي العون ضدّا، لأنّه يضادّ عدوّك وينافيه بإعانته لك عليه، أي: أنّها تكون معونة عليهم في عذابهم، بأن توقد بها نيرانهم، فإنّهم وقود النار وحصب جهنّم، ولأنّهم عذّبوا بسبب عبادتها.
أو جعل الواو للكفرة، أي: يكونون كافرين بهم بعد أن كانوا يعبدونها. وتوحيده لوحدة المعنى الّذي به مضادّتهم، وهو اتّفاق كلمتهم، وفرط تضامّهم وتوافقهم، فهم كشيء واحد. ونظيره قولهعليهالسلام : «وهم يد على من سواهم».
( أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) )
__________________
(١) البقرة: ١٦٦.
(٢) الأنعام: ٢٣.
ثمّ عجّب الله سبحانه رسوله من أقاويل العتاة المردة من الكفرة، وتماديهم في الغيّ، وتصميمهم على الكفر، واجتماعهم على دفع الحقّ بعد وضوحه وانتفاء الشكّ عنه، وانهماكهم في اتّباع الشياطين وما تسوّل لهم، فقال:( أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ ) بأن خلينا بينهم وبينهم ولم نمنعهم، ولم نحل بينهم وبينهم، ولو شاء لمنعهم قسرا وإجبارا، لكنّه مناف للتكليف الّذي هو مناط الثواب والعقاب.
( تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) تهزّهم وتغريهم وتهيّجهم على المعاصي بالتسويلات وتحبيب الشهوات. والأزّ والهزّ والاستفزاز أخوات. ومعناها: التهييج وشدّة الإزعاج.
( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ) بأن يهلكوا حتّى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم، وتطهر الأرض من فسادهم بقطع دابرهم( إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ ) أيّام آجالهم( عَدًّا ) أي: فلتطب نفسك يا محمّد ولا تستعجل بهلاكهم، فإنّه لم يبق لهم إلّا أيّام محصورة، وأنفاس معدودة، وما دخل تحت العدّ فكان قد نفد. وهذا استقصار لمددهم.
وعن ابن عبّاس: أنّه كان إذا قرأها بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك، أي: روحك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك.
وعن ابن سماك: أنّه كان عند المأمون فقرأها، فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد.
( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) )
ثمّ بيّن حال المطيعين المتّقين، ومآل المتمرّدين العاصين في الآخرة، بقوله :
( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ ) إلى ربّهم الّذي غمرهم برحمته، وخصّهم برضوانه وكرامته. وذكر هذا الاسم الشريف في هذه السورة مكرّرا، لأن مساق الكلام فيها، لتعداد نعمه الجسام، وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها.( وَفْداً ) وافدين عليه، كما يفد الوفّاد على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم.
وعن عليّعليهالسلام : «ما يحشرون والله على أرجلهم، ولكنّهم على نوق رحالها ذهب، وعلى نجائب سروجها ياقوت».
( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ ) بإهانة واستخفاف كما تساق البهائم( إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً ) عطاشا، فإنّ من يرد الماء لا يرد إلّا لعطش. وحقيقة الورد المسير إلى الماء. يعني: كأنّهم نعم عطاش تساق إلى الماء.
( لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ ) الضمير فيه للعباد المدلول عليها بذكر القسمين. وهو الناصب لليوم. وقيل: نصب بمضمر، أي: يوم نجمعهم ونسوقهم نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. أو اذكر يوم نحشر.
( إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) إلّا من تحلّى بما يستعدّ به ويستأهل أن يشفع للعصاة، من الإيمان والعمل الصالح على ما وعد الله. أو إلّا من اتّخذ من الله إذنا فيها، كالأنبياء والأئمّة وخيار المؤمنين. فهو كقوله:( لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ) (١) . من قولهم: عهد الأمير إلى فلان بكذا، إذا أمره به.
ومحلّه الرفع على البدل من الضمير. أو النصب على تقدير مضاف، أي: إلّا شفاعة من اتّخذ، أو على الاستثناء.
وقيل: الضمير للمجرمين. والمعنى: لا يملكون الشفاعة فيهم إلّا من اتّخذ عند الرحمن عهدا يستعدّ به أن يشفع له بالإسلام.
عن ابن مسعود: أنّ النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتّخذ
__________________
(١) طه: ١٠٩.
كلّ صباح ومساء عند الله عهدا؟
قالوا: وكيف ذلك؟
قال: يقول كلّ صباح ومساء: أللّهمّ فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إنّي أعهد إليك بأنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، وأنّ محمّدا عبدك ورسولك، وأنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ وتباعدني من الخير، وأنّي لا أثق إلّا برحمتك، فصلّ على محمّد وآل محمّد، واجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة، إنّك لا تخلف الميعاد.
فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الّذين لهم عند الرحمن عهد؟ فيدخلون الجنّة».
وقال عليّ بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره: «حدّثني أبي، عن ابن محبوب، عن سليمان بن جعفر، عن أبيه، عن أبي عبد اللهعليهالسلام ، عن أبيه، عن آبائهعليهمالسلام قال: قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : من لم يحسن وصيّته عند الموت كان نقصا في مروءته.
قيل: يا رسول الله وكيف يوصي الميّت؟
قال: إذا حضرته وفاته واجتمع الناس إليه قال: أللّهمّ فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، إنّي أعهد إليك في دار الدنيا أنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، وأنّ محمدا عبدك ورسولك، وأنّ الجنّة حقّ وأن النار حقّ، وأن البعث حقّ، والحساب حقّ، والقدر والميزان حقّ، وأنّ الدين كما وصفت، وأنّ الإسلام كما شرعت، وأنّ القول كما حدّثت، وأنّ القرآن كما أنزلت، وأنّك أنت الله الحقّ المبين.
جزى الله عنّا محمّدا خير الجزاء، وحيّا الله محمّدا وآله بالسلام.
اللهمّ يا عدّتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدّتي، ويا وليّي في نعمتي، يا إلهي وإله آبائي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، فإنّك إن تكلني إلى نفسي كنت أقرب من الشرّ وأبعد من الخير. وآنس في القبر وحشتي، واجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا.
ثمّ يوصي بحاجته.
وتصديق هذه الوصيّة في سورة مريم في قوله:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) . فهذا عهد الميّت. والوصيّة حقّ على كلّ مسلم، وحقّ عليه أن يحفظ هذه الوصيّة ويتعلّمها. وقال أمير المؤمنينعليهالسلام : «علّمنيها رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقال: علّمنيها جبرئيل»(١) .
( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) )
( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) )
( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ) الضمير يحتمل لمطلق الإنسان، لأنّ هذا لـمّا كان مقولا فيما بين الناس جاز أن ينسب إليهم. أو المراد الإخبار عن اليهود والنصارى ومشركي العرب، فإنّ اليهود قالوا: عزيز ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال مشركو العرب: الملائكة بنات الله.
ثمّ التفت إليهم للمبالغة في الذمّ، والتسجيل عليهم بالجرأة على الله، وقال خطابا لهم:( لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ) شيئا منكرا عظيم النكارة شنيعا فظيعا، فإنّ الإدّ بالفتح
__________________
(١) تفسير عليّ بن إبراهيم ٢: ٥٥ ـ ٥٦.
والكسر العظيم المنكر. والإدّة: الشدّة. وأدّني الأمر: أثقلني وعظم عليّ. وقيل: الإدّ: العجب.
ثمّ بيّن عظم نكارته، وقرّر شدّة فظاعته وفرط شناعته بقوله:( تَكادُ السَّماواتُ ) وقرأ نافع والكسائي بالياء( يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ) يتشقّقن مرّة بعد أخرى.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وأبو بكر ويعقوب: ينفطرن. والأوّل أبلغ، لأنّ التفعّل مطاوع: فعل، والانفعال مطاوع: فعل. يقال: فطره فانفطر إذا شقّه، وفطّره فتفطّر إذا شقّقه. ولأنّ أصل التفعّل التكلّف.
( وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ) تهدّ هدّا، أو مهدودة، أو لأنّها تهدّ، أي: تكسر.
ومعنى انفطار السماوات وانشقاق الأرض وخرور الجبال عند قولهم:( اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ) من وجهين :
الأوّل: أن يكون استعظاما للكلمة، وتهويلا من فظاعتها، وتصويرا لأثرها في الدين، وهدمها لأركانه وقواعده. فالمعنى: أنّ هول هذه الكلمة وعظمها بحيث لو تصوّرت بصورة محسوسة، لم تتحمّلها هذه الأجرام العظام، وتفتّتت من شدّتها.
والثاني: أنّ فظاعتها مجلبة لغضب الله، بحيث لولا حلمه لخرّب الدنيا وبدّد قوائمه، غضبا على من تفوّه بها، فإنّها تؤثّر في هدم أركان الدين وقواعد التوحيد، الّتي هي سبب بناء العالم وعلّة إيجاده وقوامه. فكأنّه قال سبحانه: كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة، غضبا منّي على من تقوّل بها لولا حلمي ووقاري، وأنّي لا أعجل بالعقوبة، كما قال:( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ) (١) .
( أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ) يحتمل النصب على العلّة لـ «تكاد»، أو لـ «هدّا» على
__________________
(١) فاطر: ٤١.
حذف اللام وإفضاء الفعل إليه. والجرّ بإضمار اللام، أو بالإبدال من الهاء في «منه».
والرفع على أنّه خبر محذوف، تقديره: الموجب لذلك أن دعوا، أو فاعل «هدّا» أي: هدّها دعاء الولد للرحمن.
وهو من: دعا، بمعنى: سمّى، المتعدّي إلى مفعولين. وإنّما اقتصر على المفعول الثاني ليحيط بكلّ ما دعي له ولدا. أو من: دعا، بمعنى: نسب، الّذي مطاوعه: ادّعى إلى فلان إذا انتسب إليه.
( وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ) «انبغى» مطاوع: بغى إذا طلب، أي: ما يتأتّى له اتّخاذ الولد، وما ينطلب له لو طلب مثلا، لأنّه محال غير داخل تحت الإمكان.
أمّا الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها. وأمّا التبنّي فلا يكون إلّا فيما هو من جنس المتبنّي، وليس للقديم سبحانه جنس، تعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا.
ولعلّ ترتيب الحكم بصفة الرحمانيّة للإشعار بأنّ كلّ ما عداه نعمة ومنعم عليه، فلا يجانس من هو مبدأ النعم كلّها ومولي أصولها وفروعها، فكيف يمكن أن يتّخذه ولدا؟! ثمّ صرّح به في قوله:( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) أي: ما منهم( إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ) إلّا وهو مملوك له يأوي إليه بالعبوديّة والانقياد، فكيف يكون له ولد؟!( لَقَدْ أَحْصاهُمْ ) حصرهم وأحاط بهم بعلمه، بحيث لا يخرجون عن حوزة علمه وقبضة قدرته( وَعَدَّهُمْ عَدًّا ) عدّ أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم، فإنّ كلّ شيء عنده بمقدار.
قال في الكشّاف: «الّذين اعتقدوا في الملائكة وعيسى وعزيرعليهمالسلام ، أنّهم أولاد الله، كانوا بين كفرين، أحدهما: القول بأنّ الرحمن يصحّ أن يكون والدا. والثاني: إشراك الّذين زعموهم لله أولادا في عبادته، كما يخدم الناس أبناء الملوك خدمتهم لآبائهم. فهدم الله الكفر الأوّل فيما تقدّم من الآيات، ثمّ عقّبه بهدم الكفر الآخر.
والمعنى: ما من معبود لهم في السماوات والأرض ـ من الملائكة ومن الناس ـ إلّا
وهو يأتي الرحمن، أي: يأوي إليه ويلتجئ إلى ربوبيّته، عبدا منقادا مطيعا خاشعا خاشيا راجيا، كما يفعل العبيد، وكما يجب عليهم، لا يدّعي لنفسه ما يدّعيه له هؤلاء الضلّال. ونحوه قوله تعالى:( أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ ) (١) وكلّهم متقلّبون في ملكوته، مقهورون بقهره، وهو مهيمن عليهم، محيط بهم، وبجمل أمورهم وتفاصيلها وكيفيّتهم وكمّيّتهم، لا يفوته شيء من أحوالهم»(٢) .
( وَكُلُّهُمْ ) وكلّ واحد منهم( آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً ) منفردا عن الأتباع والأنصار، فلا يجانسه شيء من ذلك ليتّخذه ولدا، ولا يناسبه ليشرك به.
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨) )
ثمّ ذكر سبحانه أحوال المؤمنين، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) سيحدث لهم في القلوب مودّة، من غير تعرّض منهم لأسبابها، من صداقة أو قرابة أو اصطناع بمبرّة، أو غير ذلك، وإنّما هو اختراع منه ابتداء، كرامة لأوليائه، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة، إعظاما لهم وإجلالا لمكانهم.
وذكر سين التسويف، لأنّ السورة مكّيّة، وكان المؤمنون ممقوتين حينئذ بين
__________________
(١) الإسراء: ٥٧.
(٢) الكشّاف ٣: ٤٦ ـ ٤٧.
الكفرة، فوعدهم ذلك إذا دجا(١) الإسلام. أو لأنّ الموعود في القيامة حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد، فينزع ما في صدورهم من الغلّ.
ويؤيّد الأوّل ما روي عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا أحبّ الله عبدا يقول لجبرائيل: أحببت فلانا فأحبّه، فيحبّه. ثمّ ينادي في أهل السماء: ألا إنّ الله قد أحبّ فلانا فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء. ثمّ يضع له المحبّة في الأرض».
وعن قتادة: ما أقبل العبد إلى اللهعزوجل ، إلّا أقبل الله بقلوب العباد إليه.
وفي تفسير أبي حمزة الثمالي: «حدّثني أبو جعفرعليهالسلام أنّ النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال لعليّعليهالسلام : يا عليّ قل أللّهمّ اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في قلوب المؤمنين ودّا.
فقال ذلك عليّعليهالسلام ، فأنزل الله تعالى هذه الآية». ثمّ قال: «ما من مؤمن إلّا وفي قلبه محبّة لعليّ بن أبي طالبعليهالسلام ».
وهذه الرواية مرويّة أيضا عن جابر بن عبد الله. ويؤيّده ما صحّ عن أمير المؤمنينعليهالسلام أنّه قال: «لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني، وذلك أنّه قضي فانقضى على لسان النبيّ الأمّيّصلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال: «لا يبغضك مؤمن، ولا يحبّك منافق».
( فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ ) متعلّق بمحذوف تقديره: بلّغ هذا المنزل، أو بشّر به وأنذر، فإنّما يسّرناه بلسانك، بأن أنزلناه بلغتك. والباء بمعنى «على». أو على أصله، لتضمّن «يسّرناه» معنى: أنزلناه بلغتك، وهو اللسان العربيّ المبين، وسهّلناه وفصّلناه( لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ) الصائرين إلى التقوى( وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا ) أشدّاء في الخصومة بالباطل، آخذين في كلّ لديد، أي: في كلّ شقّ من المراء والجدال، لفرط لجاجهم. وهو جمع الألدّ، بمعنى: شديد الخصومة. يريد أهل مكّة.
__________________
(١) في هامش النسخة الخطّية: «دجا الإسلام، أي: قوي ووفر وكثر وألبس كلّ شيء. منه».
( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ) تخويف للكفرة، وتجسير للرسول على إنذارهم( هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ ) هل تشعر بأحد منهم وتراه؟ من: أحسّه إذا شعر به. ومنه: الحاسّة.( أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ) صوتا خفيّا. وأصله: الخفاء. ومنه: ركز الرمح إذا غيّب طرفه في الأرض. والركاز: المال المدفون.
والمعنى: أنّهم ذهبوا فلا يرى لهم عين ولا أثر، ولا يسمع لهم صوت، وكانوا أكثر أموالا، وأعظم أجساما، وأشدّ خصاما من هؤلاء، فحكم هؤلاء حكم أولئك بالأولى.
(٢٠)
سورة طه
مكّيّة، وهي مائة وخمس وثلاثون آية. في خبر أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأها أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار».
وروى أبو هريرة عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال: «إنّ الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلمّا سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمّة نزل هذا عليها، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تتكلّم بهذا».
وعن الحسن قال: قال النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يقرأ أهل الجنّة من القرآن إلّا طه ويس».
وروى إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: «لا تدعوا قراءة طه، فإنّ الله تعالى يحبّها، ويحبّ من قرأها، وإن من قرأها أعطاه يوم القيامة كتابة بيمينه، ولم يحاسبه بما عمل في الإسلام، وأعطي من الأجر حتّى يرضى».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) )
ولـمّا ختم الله سورة مريم بذكر إنزال القرآن، وأنّه بشارة للمتّقين، وإنذار
للكافرين، افتتح هذه السورة بالقرآن، وأنّه أنزله لسعادته لا لشقاوته، فقال جلّ اسمه:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه ) فخّمها ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وقالون عن نافع ويعقوب على الأصل. وفخّم الطاء وحده أبو عمرو، لاستعلائه. وكذا ورش عن نافع. وأمالهما الباقون. وهما من أسماء الحروف.
وما قيل: إنّ طاها في لغة عكّ بن عدنان ـ أخي معدّ، أبي قبيلة من اليمن ـ بمعنى: يا رجل، فإن صحّ فلعلّ أصله: يا هذا، فتصرّف عكّ فيه بأن قلبوا الياء طاء، فقالوا: في «يا» «طا» واختصروا «هذا» على: ها. واستشهد بقوله :
إنّ السفاهة طاها في خلائقكم |
لا قدّس الله أخلاق الملاعين |
وضعّف بجواز أن يكون قسما، كقوله: حم لا ينصرون.
ويحتمل أن يكون أصل «طه»: طأها، أمر بالوطي، والألف مبدلة من الهمزة، والهاء كناية عن الأرض، لـما روي عن الصادقعليهالسلام : «أنّ النّبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم كان يقوم في تهجّده على إحدى رجليه حتّى تورّمت، فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معا».
لكن يردّ ذلك كتابتهما على صورة الحرف. وكذا التفسير بـ: «يا رجل. ويجوز أنّه اكتفي بشطري الكلمتين، وعبّر عنهما باسمهما. والله أعلم بصحّة هذين القولين. والأقوال الّتي قدّمتها في أوّل سورة البقرة هي التي يعوّل عليها الألبّاء المتقنون.
( ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ) خبر «طه» إن جعلته مبتدأ، على أنّه مأوّل بالسورة أو القرآن، والقرآن فيه واقع موقع العائد. وجواب إن جعلته مقسما به. ومنادى له إن جعلته نداء. واستئناف إن كانت جملة فعليّة أو اسميّة بتقدير مبتدأ، أو طائفة من الحروف محكيّة.
والمعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسّفك على كفر قريش، إذ ما عليك إلّا أن تبلّغ وتذكّر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة، بعد أن لم تفرّط في أداء الرسالة