زبدة التفاسير الجزء ٤

زبدة التفاسير9%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609

  • البداية
  • السابق
  • 609 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15935 / تحميل: 4595
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٦-X
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

تخصيص الفعل بالإيجاد في وقت دون آخر أو بإيقاعه على وجه دونَ وجه.

ويدلّ على ثبوت الإرادة له - تعالى - بالمعنى المطلق أنّ العالم حادث، فتخصيصُ إيجاده بوقتٍ دونَ ما قبله وما بعده، مع جوازهما، يفتقرُ إلى المخصّص، وليس القدرة، لتساوي نسبتها، ولا العلم لتبعيته، فهو الإرادةُ، ولأنّ تخصيص ما وجد بالإيجاد دونَ غيره من المقدورات يستدعي مخصّصاً هو الإرادةُ.

ويدلّ على إثبات إرادة الفعل منّا أمرُه بالطّاعة، ونهيه عن المعصية، وهما يستلزمان الإرادة والكراهة، خلافاً للأشعريّة الّذين أثبتوا الطلبَ مغايراً للإرادة، لعدم تعقّله، وإلزامُهم بتمهيد عذر السيّد الضّارب عبده للمخالفة إذا أمره مشتركٌ.

المطلب السّادس: في أنّه - تعالى - مُدرِكٌ

اتّفق المسلمون على أنّه - تعالى - سميع بصيرٌ، واختلفوا، فقال أبو الحسين والكعبيّ والأوائل: إنّ معناه علمه بالمسموعات والمبصرات، لاستحالة أن يكونَ هو الإحساسَ بالحواس ولا ما عداه غير العلم، لأنّه غيرُ معقول، وسيأتي أنّه - تعالى - عالم بكلّ معلوم، وللسّمع.

وأثبت الجُبائيّان والأشعريّ والسّيّد المرتضى والخوارزميّ أمراً زائداً على العلم، لأنّ إدراكنا زائدٌ على علمنا؛ للفرق بينَ العلم عندَ المشاهدة وبينه

١٤١

عندَ عدمها. والمقتضي لذلك كونُ المدرك حيّاً، والله - تعالى - حيٌّ، فإدراكه زائد، والمقدّماتُ ضعيفةٌ.

ثمّ استدلّوا على ثبوته بأنّه - تعالى - حيّ، فيصحُّ أن يتّصف بالسّمع والبصر، وكلّ من صحّ اتّصافه بصفة وجب أن يتّصف بها أو بضدّها، وضدّها نقصٌ، وهو على الله - تعالى - مُحال.

والحقّ استنادُ ذلك إلى النّقل، ولا يجبُ صحّةُ اتّصاف الحيّ بالسّمع والبصر، فإنّ أكثرَ الهوامّ والسّمك لا سمعَ لها، والعقربُ والخُلَدُ (1) لا بصرَ لهما. والدّيدان (2) وكثيرٌ من الهوامّ لا سمَ لها ولا بصرَ. فلو لم يمتنع اتّصاف تلك الأنواع بالسّمع والبصر لما خلا جميعُ أشخاصها منهما. (3)

وإذا جاز أن يكونَ بعضُ فصول الأنواع مزيلاً لتلك الصّحة بطلت الكليّة. ولا يجبُ اتّصاف الشّيء بأحد الضّدّين كالشّفاف. نعم يجبُ أن يتصف القابل للصّفة بها أو بعدمها، ونمنع كونَ ضدّهما نقصاً في حقّه تعالى.

والقياسُ باطلٌ، على أنّ حياته - تعالى - مخالفةٌ لحياتنا. ولا يجبُ العموميّةُ، لانتفاء القابليّة، كما أنّ حياتنا مصحّحةٌ للشهوة والنّفرة دونَ حياته تعالى.

____________________

(1) ج: الجراد.

(2) ج: الدّيران.

(3) ج: منها.

١٤٢

المطلب السّابع: في أنّه - تعالى - متكلّمٌ

اتّفق المسلمون على ذلك، لقوله تعالى، ( وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى‏ تَكْلِيماً ) (1) ، ولا دورَ؛ لأنه إثباتٌ لكلامه - تعالى - بإخبار الرّسول المعلوم صدقه بالمعجزة، ولأنّه قادرٌ على كلّ مقدور.

واختلفوا، فعندَ المعتزلة، أنّه خلق في أجسام جماديّة أصواتاً دالّةً على معان مخصوصة، فهو متكلّمٌ بهذا المعنى.

والأشاعرة جوّزوا ذلك، لكن اثبتوا معنىً نفسانيّاً قائماً بذات المتكلّم مغايراً للعلم والإرادة. يدلُّ عليه هذه الحروف والأصواتُ وأنّه قديمٌ في حقّه - تعالى - واحدٌ ليس بأمر ولا نهي ولا خبر؛ لأنّه حيّ يصحّ اتّصافه بالكلام. فلو لم يكن موصوفاً به كان متّصفاً بضدّه، وهو نقصٌ.

ولأنّ أفعاله - تعالى - لمّا جاز عليها التّقدّم والتّأخّرُ أثبتنا الإرادةَ المخصّصةَ، (2) وأفعالُ العباد متردّدةٌ بينَ الحظر والإباحة وغيرهما من الأحكام فلابدّ من مخصّص غير الإرادة، لأنّه قد يأمر بما لا يريدُ وبالعكس، فهو الكلام الّذي هو الطلبُ النّفسانيّ، ولأنّه مَلِك مُطاعٌ، فله الأمرُ والنّهيُ.

اعترضت (3) المعتزلة: بأنّ الاستدلال على الإثبات (4) فرع تصوّر المستدل عليه. وما ذكرتموه غيرُ متصور ويمنع صحة اتّصافه تعالى به،

____________________

(1) النساء: 4/162.

(2) ج: اثبت إرادة مخصوصة.

(3) ألف: اعترض.

(4) ج: إتيان/ ب: إثبات ممنوع وما التزموه.

١٤٣

ويمنع وجوب الاتّصاف بأحدهما وكون الضّدّ نقصاً، بل ثبوته نقصٌ، إذ أمرُ المعدوم ونهيُه وإخباره سفهٌ. والأحكام عقليّةٌ لا سمعيّةٌ فالمُخصّص إمّا الصّفات أو الوجوه والاعتبارات الّتي تقع عليها الأفعال، ويقبح الأمر بما لا يريدُ.

وتمهيدُ العذر في قتل العبد بإيجاد صورةٍ، الأمر، وهو مشترك بين الطلب والإرادة. والمُطاعُ إن عنوا به نفوذَ قدرته في جميع الممكنات فهو حقٌّ، وإن عنوا ما طلبوه منعناه.

المطلب الثّامنُ: في أحكام هذه الصّفات وهي إحدى عشر بحثاً

ألف - ذهب جماعة من المعتزلة والأشاعرة إلى أنّ هذه الصّفات وجوديّةٌ وإلاّ لصحّ حملُها على المعدوم. والملازمةُ ممنوعةٌ، فإنّ كثيراً من العدميّات يمتنعُ حملهُ على المعدوم، وعندَ الأوائل وأبي الحسين أنّها ليست وجوديّةً. وإلاّ لزم تعدّدُ القدماء.

ب - هي نفسُ الذّات في الخارج وإن كانت زائدةً في التّعقّل، وهو اختيارُ الأوائل وأبي الحسين، لما تقدّم، ولأنّ الوجود لو كان زائداً كان ممكناً، لأنّه وصفٌ للماهيّة، فلا يكونُ واجباً، هذا خُلفٌ. ولأنّ مؤثّره إمّا الماهيّةُ لا بشرط الوجود، فالمعدومُ مؤثّر في الموجود أو بشرطه، (1) فيتسلسل (2) أو يدور أو غيرها، فيفتقر إلى الغير.

____________________

(1) ج: لشرطه.

(2) ألف: فتسلسل.

١٤٤

وعندَ جماعة من المعتزلة والأشاعرة أنّها زائدةٌ، للمغايرة بينَ قولنا: واجب الوجود موجودٌ، وبين قولنا: إنّه قادرٌ. وللاستفادة بكلّ منهما، بخلاف قولنا: واجبُ الوجود واجبُ الوجود؛ ولأنّا قد نعلمُ الذّات ونشكّ (1) في الصّفات، وكلّ ذلك يدلٌّ على المغايرة الذّهنيّة.

ج - هذه الصّفات أزليّةٌ وإلاّ لافتقرت إلى مؤثّر، فإن كان ذاته دار، وإن كان غيره افتقر إلى غيره، ولأنّ تأثيره في غيره يستلزم ثبوتها، فهي ثابتة قبل علّتها.

د - هذه الصّفات ذاتيّةٌ عندَ المعتزلة والأوائل، لامتناع استنادها إلى غير ذاته، لما تقدّم، وعندَ الأشعريّة أنّها معلّلةٌ بالمعاني، فهو قادرٌ بقدرة، عالمٌ بعلم، حيّ بحياة، إلى غير ذلك من الصّفات.

قال نفاةُ (الأحوال) منهم إنّ العلمَ نفس العالميّة، والقدرة نفس القادريّة، وهما صفتان زائدتان على الذات وقال مثبتوها: إنّ عالميّته - تعالى - صفةٌ معلّلةٌ بمعنى قائم به، وهو العلم.

هـ - إرادته إمّا نفسُ الدّاعي، كما تقدّم، أو أمرٌ زائدٌ عليه مستندٌ إلى ذاته، كاختيار النّجّار، (2) خلافاً للجمهور. وعند الجبّائيين أنّه مريدٌ بإرادةٍ حادثةٍ لا في محلّ؛ إذ لو كان مريداً لذاته لعمّت إرادته، كالعلم، فيريدُ الضّدّين، أو لإرادةٍ قديمةٍ لزم ثبوتُ القدماء، أو لإرادة حادثة في ذاته كان محلاًّ

____________________

(1) ألف: نشكّل.

(2) ب: كاختيار المختار.

١٤٥

للحوادث، أو في غيره. فإن كان حيّاً رجع حكمها إليه، وإلاّ استحال حلولها فيه، ووجودُ إرادة لا في محلّ غيرُ معقول.

و - خبره - تعالى - صدقٌ، لقبح الكذب عقلاً، فلا يصدر عنه، ولأنّ الكذبَ إن كان قديماً استحال منه الصّدق، والتّالي باطل، للعلم بإمكان صدور الصّدق من العالم بالشّيء. والأخيرُ دليل الأشاعرة ولا يتمّ، لبنائه على أنّ الكلامَ القديمَ هو عين الخبر، وأنّه خبرٌ واحدٌ، ولعدم دلالته على صدق الألفاظ.

ز - قدرته - تعالى - تتعلّقُ بكلّ مقدور، للتّساوي في العلّة الّتي هي الإمكانُ. ومنع الأوائل من صدور اثنين عنه، لأنّه بسيط، ولا يتأتّى في القادر لو صح. ومنع الثّنويّةُ والمجوس من صدور الشّرّ عنه، وإلاّ كان (1) شرّيراً. فعند المجوس فاعلُ الخير يزدانُ وفاعل الشّرّ أهرمن. وعنوا بهما ملكاً وشيطاناً، واللهُ - منزّهٌ عن فعل الخير والشرّ. والمانويّةُ تسند ذلك (2) إلى النّور والظّلمة وكذا الدّيصانيّة.

وعند جميعهم أنّ الخيّر هو الّذي يكون جميع أفعاله خيراً، والشّرّيرَ هو الّذي يكون جميع أفعاله شرّاً. والخيرُ والشّرّ لا يكونان لذاتهما خيراً وشرّاً، بل بالإضافة إلى غيرهما. وإذا أمكن أن يكون شيء واحد بالقياس إلى واحد خيراً وبالقياس إلى غيره شرّاً أمكن أن يكونَ فاعل ذلك الشّيء واحداً.

____________________

(1) ج: لكان.

(2) ج: يستندونهما/ ب: يستند وكذا.

١٤٦

ومنع النّظامُ من قدرته على القبيح، لأنّه محالٌ، لدلالته على الجهل أو الحاجة. والاستحالة من جهة الدّاعي، لا من حيث القدرة.

ومنع عَبّاد من قدرته على ما علم وقوعه أو عدمه لوجوبه أو امتناعه وهو ينفي القدرة، والعلمُ تابعٌ.

ومنع البلخيُّ من قدرته على مثل مقدور العبد؛ لأنه إمّا طاعةٌ أو سفهٌ، وهما وصفان لا يقتضيان المخالفة الذّاتيّة.

ومنع الجُبائيّان من قدرته على عين مقدور العبد، لامتناع اجتماع قدرتين على مقدور واحد؛ لأنّه إن وقع بهما استغنى بكلّ منهما عن الآخر، وإن لم يقع بهما كان المانعُ هو وقوعه بالآخر، فيقع بهما حال ما لا يقعُ بهما وإن وقع بأحدهما لم يكن الآخر قادراً، والأخيرة ممنوعةٌ.

ح - علمُه - تعالى - متعلّقٌ بكلّ معلوم، لأنّه حيّ، فيصحّ أن يعلم كلّ معلوم. فلو اختصّ تعلقه بالبعض افتقر إلى مخصّص، وهو محال ولأنّه يصحُّ أن يعلم كلّ معلوم، فيجب، لأنّها صفةٌ نفسيّةٌ متى صحّت وجبت.

وبيانُ المقدّم، أنّه حيٌّ، وهو يصحّ أن يعلم كلّ معلوم، لأنّ الحيّ هو الّذي لا يستحيل أن يعلم. ونسبةُ الصّحّة إلى الكلّ واحدةٌ.

وبعض الأوائل منع من علمه بذاته، لأنّه إضافةٌ فيستدعي المغايرة. وينتقضُ بعلمنا بأنفسنا.

ومنهم من منع علمه بغيره، لاستحالة حلول صور في ذاته. ويُنتقضُ

١٤٧

بعلم الواحد بنفسه، ولأنّه إضافةٌ، لا صورةٌ، ولأنّ الصّدور (1) عنه أبلغ في الحصول من الصّورة المنتزعة الصّادرة عن العاقل لمشاركة المعقول، ثم تلك الصّورة تعلمُ بذاتها، فهنا أولى.

ومنهم من منع من علمه بالجزئيّات من حيث هي متغيّرةٌ إلاّ على وجه كلّيّ، فلا يعلم أنّ المتغيّر وقع أو سيقع؛ لأنّه عند عدمه إن بقى العلمُ لزم الجهل، وإلاّ كان متغيّراً.

وأجاب بعضهم بأنّ العلم بأنّ الشّيء سيوجد هو غير العلم بالوجود حينَ الوجود.

وهو غلطٌ، لاستدعاء العلم المطابقةَ، بل الحقُّ أنّ التّغيّرَ في الإضافات كتغيّر المقدور المستلزم تغيّر إضافة القدرة، لا القدرة.

ط - وجوبُ وجوده لذاته يقتضي امتناعَ عدمه في وقتٍ مّا. فهو قديمٌ أزليّ باقٍ سرمديٌّ. وبقاؤه لذاته لا لبقاء يقوم به، خلافاً للأشعريّ، وإلاّ افتقر في وجوده إلى غيره، هذا خُلفٌ. ولأنّ بقاءه باق فيتسلسل أو يدور إن بقى بالغير أو بالذّات، وإن بقى لذاته كان أولى بالذّاتيّة.

والتّحقيق أنّ البقاء يراد به امتناع خروج الذّات الثّابتة عن ثبوتها (2) ومفارقة الوجود لأكثر من زمان واحد بعدَ الزّمان الأوّل، والأوّل ثابتٌ في حقّه تعالى، لا زائدَ عليها. والثّاني منتفٍ، (3) لأنّه لا يعقلُ فيما لا يكونُ فانياً. (4)

____________________

(1) ج: المصدور.

(2) ج: ثباتها.

(3) ب: مفتقرٌ.

(4) ب، ج: زمانياً.

١٤٨

كما أنّ الحكم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء لا يمكن وقوعه في زمان أو في جميع الأزمنة، كما لا يقال إنّه واقعٌ في مكان أو في جميع الأمكنة. وهو بناءً على أنّ التّغيّر يستدعي الزّمان.

ي - قدرتُه، علمه؛ وإرادته كافيةٌ في الإيجاد، لوجوبه عند اجتماعهما، خلافاً لبعض الحنفيّة، حيث أثبتوا التّكوين صفة أزليّة لله تعالى. والمكوّن محدث، لقوله تعالى: ( إِنّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1) فـ (كن) متقدّمٌ على (الكون)، وهو المسمّى بالأمر، والكلمة والتّكوين والاختراع والإيجاد والخلق، ولأنّ القدرة مؤثّرةٌ في صحّة وجود المقدور، والتّكوين مؤثّر في نفس وجوده.

وهو غلطٌ، لأنّ التّكوين إن كان قديماً لزم قدم الأثر، لأنّه نسبةٌ، وإن كان محدثاً تسلسل. وقوله (كن) لا يدلّ على إثبات صفة زائدة على القدرة، والقدرةُ لا تأثيرَ لها في صحّة الوجود، لأنّها ذاتيّةٌ للممكن.

يا - أثبت الأشعري (اليد) صفةً وراء القدرة، و(الوجه) صفةً وراء الوجود، و(الاستواء) صفةً أُخرى. وأثبت القاضي (2) إدراكَ الشّمّ والذّوق واللّمس ثلاثَ صفاتٍ. وأثبت عبد الله بن سعيد (القدم) صفةً مغايرةً للبقاء، و

____________________

(1) يس: 36/82.

(2) هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد المعروف بقاضي القضاة، من أئمة المعتزلة، له مصنّفات منها: شرح الأُصول الخمسة، تنزيه القرآن من المطاعن، المغني، مات سنة 415هـ. الأعلام: 3/273.

١٤٩

(الرّحمة) و(الكرم) و(الرّضا) صفاتٍ غيرَ الإرادة. ولا دليل على شيء من ذلك.

وجزم آخرون بنفي ما زاد على السّبعة، لأنّا كلّفنا بالمعرفة، وإنّما تحصل بمعرفة الصّفات، فلابُدّ من طريق، وليس إلاّ الاستدلال بالآثار والتّنزيه عن النّقصان، وإنّما يدلاّن على السّبعة، ونمنع من التّكليف بكمال المعرفة.

١٥٠

الفصل الثّاني

في الصّفات السّلبيّة

وفيه مطالبُ [اثنا عشر]:

[المطلب] الأوّل: في أنّه - تعالى - ليس بمتحيّز

اتّفق العقلاء عليه، خلافاً للمجسّمة، لأنّ كلّ متحيّز لا ينفكّ عن الحركة أو السّكون، فيكون مُحدَثاً، ولأنّه حينئذ إمّا جسمٌ فيكون مركّباً فيكون حادثاً أو جزءاً لا يتجزّأ، وهو غير معقول، لامتناع اتّصاف مثل ذلك بالقدرة والعلم غير المتناهيين، ولأنّه لو كان جسماً لكان مركّباً. فالعلمُ الحاصل لأحد الجزأين ليس هو الحاصل للآخر، فيتعدد الآلهةُ. والظواهر متأوّلةٌ، وعجزُ الوهم لا يعارضُ القطع العقليّ.

المطلب الثّاني: في أنّه - تعالى - لا يحلّ في غيره

المعقول من الحلول قيامُ موجود بموجود آخر على سبيل التّبعيّة بشرط امتناع قيامه بذاته. وهو محالٌ في حقّ واجب الوجود، ولقضاء العقل بأنّ الغنيّ عن المحلّ يستحيلُ حلوله فيه. فإن كان حالاًّ في الأزل لزم قدم المحلّ، وإن لم يكن تجدّدت الحاجة، ولأنّ حلول الشّيء في غيره إنّما

١٥١

يتصوّر لو كان الحالُّ إنّما يتعيّنُ بواسطة المحلّ، وواجب الوجود لا يتعيّنُ بغيره.

وعندَ بعض النّصارى، أنّه - تعالى - حالٌّ في المسيح. وعند الصّوفيّة أنّه - تعالى - حالٌّ في (1) العارفين. والكلّ محالٌّ، فهو إذن ليس بعرض ولا صورة، لافتقارهما إلى المحلّ.

المطلب الثّالث: في أنّه - تعالى - مخالفٌ لغيره لذاته

ذهب أبو هاشم إلى أنّ ذاته - تعالى - مساويةٌ لسائر الذّوات في الذّاتيّة، ويخالفها بحالة توجبُ الأحوال الأربعة، أعني الحييّة والعالميّة والقادريّة والموجوديّة. وهي الحالة الإلهيّة لأنّ مفهومَ الذّات هو ما يصحّ أن يعلم ويُخبر عنه. وهو غلطٌ؛ لأنّ هذا المفهوم (2) أمرٌ اعتباريٌّ ليس نفسَ الحقائق الثّابتة في الأعيان، بل من المعقولات الثّانية.

ولا يمكن تساوي كلّ الذّوات، لأنّ اختصاصَ بعضها بما يوجب المخالفة إن لم يكن لمرجّح كان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن، لا لمرجّح، وإلاّ تسلسل.

____________________

(1) ج: حالٌّ في الأبدان العارفين.

(2) ج: هذا المفهوم ليس أمر اعتباري.

١٥٢

المطلب الرّابع: في أنّه - تعالى - غيرُ مركّب

كلُّ مركّب ممكنٌ، لأنّه يفتقرُ (1) إلى جزئه، وجزؤه غيره، وكلّ مفتقرٍ ممكنٌ، وواجبُ الوجود ليس بممكن، فليس له أجزاءُ ماهيّة، أعني المادّة والصّورة، ولا عقليّة، أعني الجنس والفصل، ولا مقداريّة؛ ولا يتركّب عنه غيره، فليس جنساً ولا فصلاً ولا نوعاً يندرج تحته أفرادٌ، ولا يتركّب عنه غيره، إذ يستحيل أن ينفعل عن غيره.

المطلب الخامس: في أنّه - تعالى - لا يتحدُ بغيره

اتفق العقلاء من المتكلّمين والحكماء إلى (2) امتناع الاتّحاد، إلاّ فرفوريوس والرّئيس في بعض كتبه، لأنّ الشّيئين بعدَ الاتّحاد إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحدٌ، وإن عُدما فلا اتّحادَ، بل حدث ثالثٌ، وإن عُدم أحدهما لم يتّحد المعدوم بالموجود. وهذا حكمٌ عامٌّ في كلّ الماهيّات. نعم قد يقال: الاتّحادُ بالمجاز على صيرورة شيء شيئاً آخر بأن يخلعُ صورته ويلبس الأخرى، كما يقال: صار الماء هواءً؛ أو بأن يحدث للأجزاء مزاج (3) وهيئة زائدة على الآخر كما يقال: صار العفصُ والزّاجُ حِبراً، وهو منفيٌّ (4) عن واجب الوجود - تعالى -؛ لاستحالة خروجه عن

____________________

(1) ج: مفتقر.

(2) ج: على.

(3) ب، ج: امتزاجاً.

(4) ج: منتفٍ.

١٥٣

حقيقته وعدم أمر زائد عليها وامتناع تركّبه من غيره أو معه.

وقالت النّصارى باتّحاد الأقانيم الثّلاثة: الأب والابن وروح القدس، واتّحد ناسوتُ المسيح باللاّهوت.

والصّوفيّةُ قالوا: أنّه - تعالى - يتّحدُ بالعارفين. والكلُّ غيرُ معقول.

المطلب السادس: في أنّه - تعالى - ليس في جهة

اتفق العقلاء عليه إلاّ المجسّمة والكرّاميّة، لأنّه ليس بمتحيّز ولا حالّ في المتحيّز، فلا يكون في جهة بالضّرورة، ولأنّ الكائن في الجهة لا ينفكّ عن الأكوان بالضّرورة، فيكون مُحدَثاً، وواجبُ الوجود ليس بمُحدَث؛ ولأنّ مكانه مساو لسائر الأمكنة، فاختصاصه به ترجيحٌ عن غير مرجّح، ويلزمُ قِدَم المكان أو حلول المجرّد في مكان بعدَ إن لم يكن. وهو غير معقول.

وأصحابُ أبي عبد الله ابن الكرّام ذهب بعضهم إلى أنّه في جهةٍ فوق العرش لا نهاية لها، والبُعد بينه وبينَ العرش غيرُ متناه أيضاً. وقال بعضهم متناهٍ. والكلّ خطأٌ، لما تقدّم، ولأنّ العالم كرةٌ.

المطلب السابع: في استحالة الألم واللذّة عليه تعالى

اتفق العقلاء على استحالة الألم عليه، لأنّه إدراك منافٍ، ولا منافي له تعالى. أمّا اللذّةُ فقد اتفق المسلمون على استحالتها عليه، لأنّ اللذة والألمَ

١٥٤

من توابع اعتدال المزاج وتنافره، ولا مزاجَ له - تعالى -، ولأنّ اللّذّة إن كانت قديمةً وهي داعيةٌ إلى فعل الملتذّ به وجب وجوده قبل وجوده لوجود الدّاعي وانتفاء المانع، وإن كانت حادثةً كان محلاًّ للحوادث. وفيه نظرٌ، لجواز اتّحاد داعي اللذّة والإيجاد.

والأوائل أثبتوا له لذّةً عقليّةً لا بفعله، بل باعتبار علمه بكماله، فإنّ كلّ من تصوّر في نفسه كمالاً ابتهج، كما أنّ من تصوّر نقصاناً في نفسه تألّمَ. ولمّا كان كماله - تعالى - أعظمَ الكمالات، وعلمه بكماله أتمّ العلوم استلزم ذلك أعظمَ اللّذات.

والصّغرى ممنوعةٌ والقياسُ على الشّاهد ضعيفٌ، والإجماع ينفيه.

تذنيبٌ

يستحيل اتّصافه بكلّ كيفيّة مشروطة بالوضع، كالألوان والطّعوم والرّوائح وغيرها في (1) الأعراض، لامتناع انفعاله تعالى.

المطلب الثّامن: في أنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث

اتّفق الأكثرُ عليه، خلافاً للكرّاميّة، لامتناع انفعاله في ذاته، فيمتنع التّغيّرُ عليه، ولأنّ الحادث إن كان صفةَ كمال استحال خلوّه عنها أزلاً، (2) وإلاّ

____________________

(1) ج، ب: من.

(2) ب: أوّلاً.

١٥٥

استحال اتّصافُه بها، ولأنّه لو صحّ اتّصافُه به كانت تلك الصّحّةُ لازمةً لذاته، لاستحالة عروضها، (1) وإلاّ تسلسل، فتكونُ أزليّةً. وصحّةُ الاتّصاف بالحادث تستدعي صحّة وجود الحادث أزلاً، (2) وهو محالٌ.

المطلب التاسع: في أنّه - تعالى - غنيُّ

هذا من أظهر المطالب، لأنّه واجب من جميع الجهات، وكلّ ما عداه ممكنٌ محتاجٌ إليه، فلا يُعقل احتياجُه - تعالى - إلى غيره، ولأنّ ذاتَه واجبةٌ، وصفاته نفسُ حقيقته، فيستغني في ذاته وصفاته، ولأنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث، وغيره حادثٌ، والإضافات ليست وجوديّةً.

المطلب العاشر: في أنّه غيرُ معلوم للبشر

هذا مذهبُ ضرار والغزاليّ (3) وجميع الأوائل، لأنّ المعلوم منه - تعالى - ليس إلاّ السّلوبَ، مثلُ أنّه ليس بجسم ولا عرض، أو الإضافات مثل أنّه قادرٌ عالمٌ خالقٌ رازقٌ. والحقيقةُ مغايرةٌ لذلك بالضّرورة. وعندَ جماهير المعتزلة والأشاعرة، أنّه - تعالى - معلومٌ، لأنّ وجوده معلوم، وهو نفس حقيقته، ونمنع الصّغرى.

____________________

(1) ج: عدمها.

(2) ب: أوّلاً.

(3) هو أبو حامد محمد بن محمد المعروف بالغزالي، المتوفّى 505هـ.

١٥٦

المطلب الحادي عشر: في استحالة الرّؤية عليه تعالى

الأشاعرة خالفوا جميعَ الفرق في ذلك.

أمّا المعتزلةُ والفلاسفة فظاهرٌ.

وأمّا المجسّمة، فلأنّه لو كان مجرّداً لاستحال رؤيته عندهم.

واتفق العقلاء إلاّ المجسّمة على انتفاء الرّؤية، بسبب الانطباع أو الشّعاع، عنه - تعالى -.

والأشاعرةُ قالوا، إنّا نفرقُ بينَ علمنا حالةَ فتح العين وتغميضها، وليس بالانطباع ولا الشّعاع، فهو راجعٌ إلى حالةٍ أُخرى ثابتةٍ في حقّه تعالى.

والضّرورةُ قاضيةٌ ببطلانه، لانتفاء الجهة، وكلّ مرئيّ (1) مقابلٌ أو في حكمه، ولأنّه لو كان مرئيّاً لرأيناه الآن، لانتفاء الموانع ووجود الشّرائط، إذ ليست هنا إلاّ صحّة كونه مرئيّاً وسلامة الحاسّة، ولقوله تعالى: ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (2) تمدّح به، لتخلّله بين مدحين، فإثباته نقصٌ، وهو مُحالٌ عليه تعالى، ولقوله: ( لَنْ تَرَانِي ) (3) و(لن) لنفي الأبد، وإذا انتفت في حقّ موسى (عليه السلام) فكذا غيره.

____________________

(1) ألف: كل مراى.

(2) الأنعام: 6/103.

(3) الأعراف: 7/143.

١٥٧

احتجّوا بأنّ الجوهرَ والعرضَ مرئيّان، والحكمَ المشترك لابُدّ له من علّة مشتركة، وليس إلاّ الوجود والحدوث، والأخير لا يصلحُ للعلّيّة، لأنّ جزءه عدميّ، ولقوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَى‏ رَبّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ولأنّه - تعالى - علّقها على استقرار الجبل الممكن، لأنّه جسمٌ ولأنّ موسى (عليه السلام) سألها.

والجوابُ: وجودُه - تعالى - حقيقته، وهو مخالفٌ لوجودنا، فلا يجب تساويهما في الأحكام. ونمنعُ احتياج صحّة الرّؤية إلى علّة، إذ لو وجب تعليل كلّ حكمٍ تسلسل، ولأنّها عدميّةٌ، ونمنعُ تساوي صحّة رؤية الجوهر وصحّة رؤية العرض، ويجوز تعليل المشترك بعلّتين مختلفتين، ونمنع الحصرَ بوجود الإمكان، فيجوزُ أن يكونَ علّةً لإمكان الرؤية وإن كان عدميّاً.

والحدوث هو الوجودُ المسبوق، ولا يلزمُ من وجود العلّة وجود المعلول، لجواز التّوقّف على شرط أو حصول مانع. و(إلى) واحدُ (الآلاء)، أو أنّ فيها إضماراً، تقديره: (إلى نِعَم ربّها) والتّعليق على الاستقرار حالةَ الحركة، وهو محال، والسّؤالُ وقع لقوم موسى، لقوله تعالى: ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى‏ أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) (2) .

____________________

(1) القيامة: 75/22 - 23.

(2) النساء: 4/53.

١٥٨

المطلب الثاني عشر: في أنّه - تعالى - واحدٌ

لو كان في الوجود واجبا الوجودِ لكانا مشتركين في هذا المعنى، فإمّا أن يكونَ ذاتياً لهما، أو لأحدهما، أو عارضاً لهما. والأوّلُ يستلزم تركّبَ كلّ منهما، فيكون ممكناً. والثّاني والثالث يستلزم كلّ منهما أن لا يكونَ معروضه في ذاته واجباً.

ولا يجوز أن يكونَ الواجبُ لذاته هو المعنى المشترك خاصّةً، إذ لا وجودَ له في الخارج إلاّ مخصّصاً.

ولا يجوز أن يكونَ المخصّص سلبيّاً، فإنّ سلبَ الغير لا يتحصّلُ إلاّ بعدَ حصول الغير؛ ولأنّ المخالفةَ ممكنةٌ، لأنّ كلّ واحد منهما قادرٌ على جميع المقدورات، فيصحّ أن يقصد أحدهما إلى ضدّ ما قصد (1) الآخرُ، فإن حصل المُرادان، اجتمع الضّدّان، وهو محال، وان عدما كان المانع من مُراد كلّ منهما وجودَ مراد الآخر، فيلزمُ وجودهما وإن وُجِدَ أحدهما فهو الإله؛ وللسّمع.

وقالت الثّنويّةُ بقدم النّور والظلمة وكلّ خير في العالم فمن النّور، وكلّ شر فمن الظلمة، وكلٌّ منهما لا نهايةَ له في الجهات الخمس. والنّورُ حيٌّ عالمٌ والظلمةُ حيّةٌ جاهلةٌ. وسببُ حدوث العالم اختلاط أجزاء من النّور

____________________

(1) ب، ج: قصده.

١٥٩

بأجزاء من الظلمة. وأراد النّورُ الأعظم استخلاصَ تلك الأجزاء من الظلمة. فلم يمكنه إلاّ بخلق هذا العالم وخلق الأجسام النّيّرة فيه، بحيث تستخلصُ بنورها تلك الأجزاء النّورانيّة من الظلمة. فإذا خلصت فنى (1) العالم.

وهذا الكلامُ كلّه خطأ، فإنّ النّورَ عرضٌ لا يقومُ بذاته، والظلمةَ عدميّةٌ، وعدمُ التّناهي مُحالٌ، لما تقدّم.

وقال المجوسُ: إنّ للعالم صانعاً قادراً عالماً حيّاً حكيماً، سمّوه يزدان، وكلّ خير في العالم منه، وأنّه أفكر (2) لو كان لي ضدٌّ في الملك كيف تكونُ حالي معه، فحدث الشّيطانُ من تلك الفكرة، وكلّ شرّ في العالم منه، واسمه اهرمن. وبعضهم قال بقدم الشّيطان وهو ظاهر الفساد أيضاً.

وقالت النّصارى: الباري - تعالى - جوهرٌ واحدٌ ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب وهو وجوده، وأُقنومُ الابن وهو علمه، واقنومُ روح القدس، وهو حياته.

فإن أرادوا الصّفات فلا منازعةَ إلاّ في اللّفظ، وإلاّ فهو خطأ، لما تقدّم.

____________________

(1) ج: نفى.

(2) ج: فكر.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

أمر بني آدم على ذلك، وعرقهم راسخ فيه.

( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) عقدا لازما، وتصميم رأي، وثباتا على الأمر، إذ لو كان ذا عزيمة وتصلّب لم يزلّه الشيطان، ولم يستطع تغريره. ويحتمل أن يكون ذلك في بدء أمره، قبل أن يجرّب الأمور، ويذوق شريها وأريها(١) .

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه، وقد قال الله تعالى: «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ».

وقيل: عزما على الذنب، لأنّه أخطأ ولم يتعمّد. و «لم نجد» إن كان من الوجود الّذي بمعنى العلم فـ «له عزما» مفعولاه. وإن كان من الوجود المناقض للعدم ـ بمعنى: وعدمنا له عزما ـ فـ «له» حال من «عزما» أو متعلّق بـ «نجد».

( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) مقدّر بـ: «اذكر، أي: واذكر وقت ما جرى عليه من معاداة إبليس، ووسوسته إليه، وتزيينه له الأكل من الشجرة، وطاعته له بعد ما تقدّمت معه النصيحة والموعظة البليغة، والتحذير من كيده، حتّى يتبيّن لك أنّه نسي ولم يكن من أولي العزيمة والثبات.

( فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ) وفي الكشّاف: «إن قلت: إبليس كان جنّيّا، بدليل قوله تعالى:( كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) (٢) . فمن أين تناوله الأمر وهو للملائكة خاصّة؟

قلت: كان في صحبتهم، وكان يعبد الله تعالى عبادتهم، فلمّا أمروا بالسجود لآدمعليه‌السلام والتواضع له كرامة له، كان الجنّي الّذي معهم أجدر بأن يتواضع، كما لو قام لمقبل على المجلس علية(٣) أهله وسراتهم، كان القيام على واحد بينهم هو دونهم في المنزلة

__________________

(١) الشري: الحنظل. والأري: العسل. والمعنى: أن ذلك قبل أن يجرّب الأمور، ويذوق مرّها وحلوها.

(٢) الكهف: ٥٠.

(٣) علية القوم: جلّتهم وأشرافهم. والسراة: السيّد الشريف.

٢٨١

أوجب، حتى إن لم يقم عنّف وقيل له: قد قام فلان وفلان فمن أنت حتّى تترفّع عن القيام؟

فإن قلت: فكيف صحّ استثناؤه وهو جنّي من الملائكة؟

قلت: عمل على حكم التغليب في إطلاق اسم الملائكة عليهم وعليه، فأخرج الاستثناء على ذلك، كقولك: خرجوا إلّا فلانة، لامرأة بين الرجال»(١) .

ومزيد تحقيق البحث في هذا المبحث قد سبق(٢) في سورة البقرة.

وقوله:( أَبى ) جملة مستأنفة لبيان ما منعه من السجود، وهو الاستكبار، كأنّه جواب قائل قال: لم لم يسجد؟ والوجه أن لا يقدّر له مفعول، وهو السجود المدلول عليه بقوله: «فسجدوا»، وأن يكون معناه: أظهر الإباء عن المطاوعة.

( فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما ) فلا يكوننّ سببا.

لإخراجكما. والمراد نهيهما عن أن يكونا بحيث يسبّب الشيطان إلى إخراجهما.( مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ) فتحرم من نعيمها. أفرده بإسناد الشقاء إليه بعد إشراكهما في الخروج، اكتفاء باستلزام شقائه شقاءها، من حيث إنّه قيّم عليها، فإنّ الرجل قيّم أهله، لقوله تعالى:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) (٣) . فشقاوتها وسعادتها في ضمن شقاوته وسعادته. مع المحافظة على الفواصل. أو لأنّ المراد بالشقاء التعب في طلب المعاش والاكتساب، وذلك وظيفة الرجال.

وعن سعيد بن جبير: أنّه أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه، فذلك هو الشقاوة.

ويؤيّده قوله مستأنفا لتذكير ما له في الجنّة بلا تعب:( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها ) في الجنّة( وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا ) لا تعطش( فِيها وَلا تَضْحى ) ولا يصيبك حرّ

__________________

(١) الكشّاف ٣: ٩١.

(٢) راجع ج ١ ص ١٣٢.

(٣) النساء: ٣٤.

٢٨٢

الشمس، فإنّه ليس فيها شمس، وإنّما فيها ضياء ونور وظلّ ممدود. يعني: أنّ لك أسباب الكفاية في الجنّة، والأقطاب الّتي يدور عليها كفاف الإنسان، من الشبع والريّ والكسوة والكنّ(١) . فذكر سبحانه استجماعها له في الجنّة، وأنّه مكفيّ لا يحتاج إلى كفاية كاف، ولا إلى كسب كاسب، كما أنّ أهل الدنيا يحتاجون إلى ذلك. وذكرها بلفظ النفي لنقائضها الّتي هي الجوع والعرى والظمأ والضحو، ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة الّتي حذّره منها، حتّى يتحذّر عن السبب الموقع فيها كراهة لها.

والواو العاطفة وإن نابت عن «إنّ» لكنّها نابت من حيث إنّها نابت عن كلّ عامل، ولم يكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصّة. فدخولها على «أن» لا من حيث إنّها حرف تحقيق، فلا يمتنع اجتماعها مع «أن» كما امتنع اجتماع «إنّ» و «أن». فلا يرد أنّ «إنّ» لا تدخل على «أن»، فلا يقال: إنّ أن زيدا منطلق، والواو نائبة عن «إنّ» وقائمة مقامها، فلم أدخلت عليها؟

وقرأ نافع وأبو بكر: وإنّك لا تظمأ، بكسر الهمزة. والباقون بفتحها.

( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) )

__________________

(١) الكنّ: البيت.

٢٨٣

( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ ) فأنهى إليه الوسوسة، فإنّ وسوسة الشيطان كولولة الثكلى ووعوعة الذئب ووقوقة الدجاجة، في أنّها حكايات للأصوات، وحكمها حكم: صوّت وأجرس. فإذا قلت: وسوس له، فمعناه: لأجله. وإذا قلت: وسوس إليه، معناه: أنهى إليه الوسوسة، كقولك: حدّث إليه، وأسرّ إليه. وكذلك الولولة والوقوقة والوعوعة.

( قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ) الشجرة الّتي من أكل منها خلد ولم يمت أصلا. فأضافها إلى الخلد ـ وهو الخلود ـ لأنّها سببه بزعم الشيطان.( وَمُلْكٍ لا يَبْلى ) لا يزول ولا يضعف.

( فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ) فظهرت لهما عوراتهما( وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) أخذا يلزقان الورق على سوآتهما للتستّر. وهو ورق التين.

وحكم «طفق» حكم «كاد» في وقوع الخبر فعلا مضارعا. وبينهما مسافة قصيرة، فإنّ «طفق» للشروع في أوّل الأمر، و «كاد» لمشارفته والدنوّ منه.

قيل: كان الورق مدوّرا، فصار على هذا الشكل من تحت أصابعهما. وقيل: كان لباسهما الظفر، فلمّا أصابا الخطيئة نزع عنهما، وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع.

( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ ) بأكل الشجرة، أي: خالف ما أمره به ربّه. والمعصية مخالفة الأمر، سواء كان الأمر واجبا أو ندبا.( فَغَوى ) أي: خاب من الثواب الّذي كان يستحقّه على الفعل المأمور به. أو خاب ممّا كان يطمع فيه بأكل الشجرة من الخلود. أو عن المأمور به. أو عن الرشد، حيث اغترّ بقول العدوّ. وفي إسناد العصيان والغواية إليه، مع صغر زلّته الّتي هي ترك الأولى، تعظيم للزلّة، وزجر لأولاده عنها.

وعن ابن عبّاس: لا شبهة في أنّ آدمعليه‌السلام لم يمتثل ما رسم الله له، وتخطّى فيه ساحة الطاعة ـ يعني: الطاعة المندوبة ـ وذلك هو العصيان.

ولـمّا عصى خرج فعله من أن يكون رشدا وخيرا، وكان غيّا لا محالة، لأنّ الغيّ خلاف الرشد، ولكن في قوله:( وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ) بهذا الإطلاق وبهذا التصريح ـ

٢٨٤

حيث لم يقل: وزلّ آدم وأخطأ، وما أشبه ذلك ممّا يعبّر به عن الزلّات الّتي هي ارتكاب ما هو تركه أولى وأصوب ـ لطف بالمكلّفين، وزجر بليغ، وموعظة كافّة. وكأنّه قيل لهم: انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبيّ المعصوم حبيب اللهعزوجل وصفيّه، الّذي لا يجوز عليه اقتراف الكبيرة والصغيرة، وزجرته عن ترك الأولى بهذه الغلطة وبهذا اللفظ الشنيع؟! فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيّئات والصغائر، فضلا عن التجسّر على التورّط في الكبائر.

( ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ ) اصطفاه وقرّبه إليه بالتوبة عمّا صدر منه من ترك الندب. من: جبى إليّ كذا فاجتبيته، مثل: جليت عليّ العروس فاجتليتها. وأصل الكلمة الجمع.

يقال: اجتبت الفرس نفسها، إذا اجتمعت نفسها راجعة بعد النفار.( فَتابَ عَلَيْهِ ) رجع إليه، وقبل توبته لـمّا تاب( وَهَدى ) إلى الثبات على التوبة، ووفّقه لحفظها، والتشبّث بأسباب التقوى. وقيل: هداه إلى الكلمات الّتي تلقّاها منه.

( قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً ) الخطاب لآدم وحوّاء، أو له ولإبليس. ولـمّا كان آدم وحوّاء أصلي البشر، والسّببين اللّذين منهما نشؤا وتفرّعوا، جعلا كأنّهما البشر في أنفسهما، فخوطبا مخاطبتهم، فقيل:( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) لأمر المعاش، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب. أو لاختلال حال كلّ من النوعين بواسطة الآخر. أو الخطاب لآدم وحوّاء وإبليس. ويؤيّد الأوّل قوله:( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ) كتاب ورسول( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُ ) في الدنيا عن طريق الدين( وَلا يَشْقى ) في الآخرة عن الثواب الدائم.

عن ابن عبّاس: ضمن الله لمن اتّبع القرآن أن لا يضلّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ثمّ تلا قوله:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى ) .

والمعنى: أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضلّ في الدنيا عن طريق الدين، فمن اتّبع كتاب اللهعزوجل ، وامتثل أوامره، وانتهى عن نواهيه، نجا من الضلال ومن عقابه.

٢٨٥

( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) )

( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ) عن الهدى الذاكر لي، والداعي إلى عبادتي( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) ضيّقا. مصدر وصف به، ولذلك يستوي فيه المذكّر والمؤنّث. وذلك لأنّ المعرض عن الدين مجامع همّته ومطامح نظره تكون إلى أعراض الدنيا، متهالكا مفرط الحرص على ازديادها، خائفا على انتقاصها، شحيحا على إنفاقها، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة، فإن مع الدين التسليم والقناعة والتوكّل على الله وعلى قسمته، فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة، فيعيش عيشا رافها، كما قالعزوجل :( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) (١) . مع أنّه تعالى قد يضيّق بشؤم الكفر، ويوسّع ببركة الإيمان، كما قال:( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ) (٢) . وقال:( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) (٣) .( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) (٤) . وقال :

__________________

(١) النحل: ٩٧.

(٢) البقرة: ٦١.

(٣) المائدة: ٦٦.

(٤) الأعراف: ٩٦.

٢٨٦

( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ) (١) . وقال:( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) (٢) .

وعن بعض العلماء: لا يعرض أحد عن ذكر ربّه إلّا أظلم عليه وقته، وتشوّش عليه رزقه. وعن الحسن: المعيشة الضنك هي طعام الضريع والزقّوم في النار. وعن أبي سعيد الخدري: هو عذاب القبر.

( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ) أعمى البصر. وهذا مثل قوله:( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا ) (٣) .

روى معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن رجل لم يحجّ وله مال؟قال: هو ممّن قال الله تعالى: ونحشره يوم القيمة أعمى فقلت: سبحان الله أعمى؟ قال: أعماه الله عن طريق الحقّ».

وعن مجاهد: أعمى عن الحجّة. يعني: أنّه لا حجّة له يهتدي إليها. والأوّل هو الوجه، لأنّه الظاهر، ولا مانع منه. ويدلّ عليه الآية المذكورة وقوله:( قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ) وقد أمالهما حمزة والكسائي، لأنّ الألف منقلبة من الياء. وفرّق أبو عمرو بأنّ الأوّل رأس الآية ومحلّ الوقف، فهو جدير بالتغيير.

( قالَ كَذلِكَ ) أي: مثل ذلك فعلت أنت. ثمّ فسّره فقال:( أَتَتْكَ آياتُنا ) واضحة نيّرة( فَنَسِيتَها ) فلم تنظر إليها بعين المعتبر، ولم تتبصّر، وتركتها وعميت عنها، فكأنّك نسيتها( وَكَذلِكَ ) ومثل تركك إيّاها( الْيَوْمَ تُنْسى ) أي: جعلناك في العمى والعذاب كالشيء المنسيّ. يعني: نتركك في العمى والعذاب، ولا نزيل الغطاء عن عينيك.

( وَكَذلِكَ ) ومثل ذلك الجزاء( نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ ) بالانهماك في الشهوات

__________________

(١) نوح: ١٠ ـ ١١.

(٢) الجنّ: ١٦.

(٣) الإسراء: ٩٧.

٢٨٧

المنهيّة، من الشرك وفرط الإعراض عن الآيات الناهية( وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ ) ولم يصدّقها، بل كذّب بها وخالفها.

ولـمّا توعّد المعرض عن ذكره بعقوبتين: المعيشة الضنك في الدنيا، وحشره أعمى في الآخرة، ختم آيات الوعيد بقوله:( وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ ) وهو الحشر على العمى الّذي لا يزول ابدا، أو عذاب النار الدائمي، أو كلاهما( أَشَدُّ وَأَبْقى ) من ضنك العيش المنقضي.

أو: ولتركنا إيّاه في العمى أشدّ وأبقى من تركه لآياتنا.

( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) )

( أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ) مسند إلى ما دلّ عليه قوله:( كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ) أي: إهلاكنا إيّاهم. أو إلى الجملة، أي ألم يهد لهم هذا الكلام؟ ونظيره قوله تعالى:( وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ) (١) أي: تركنا عليه هذا الكلام. ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول. ويدلّ عليه قراءته بالنون.( يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ) يمرّون بمساكن عاد وثمود، ويشاهدون علامات هلاكهم حين يتّجرون إلى الشام.

( إِنَّ فِي ذلِكَ ) في إهلاكنا إيّاهم( لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى ) لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي. وفيه تنبيه لهم وتخويف، أي: أفلا يخافون أن يقع بهم مثل ما وقع بهؤلاء؟!( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) وهي العدة بتأخير عذاب هذه الأمّة إلى الآخرة

__________________

(١) الصافّات: ٧٨ ـ ٧٩.

٢٨٨

( لَكانَ لِزاماً ) لكان مثل ما نزل بعاد وثمود لازما لهؤلاء الكفرة. وهو مصدر وصف به. أو فعال بمعنى مفعل، أي: ملزم. وهو اسم آلة سمّي به اللازم، لفرط لزومه.( وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) عطف على «كلمة» أي: ولولا العدة بتأخير العذاب، وأجل مسمّى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة أو يوم بدر، لكان العذاب لزاما. والفصل للدلالة على استقلال كلّ منهما بنفي لزوم العذاب. ويجوز عطفه على المستكن في «كان» أي: لكان الأخذ العاجل وأجل مسمّى لازمين لهم، كما كانا لازمين لعاد وثمود.

( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) )

ثمّ أمر سبحانه نبيّه بالصبر على أذاهم، فقال:( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ) من تكذيبك، وأذاهم إيّاك( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) وصلّ وأنت حامد لربّك على هدايته لك، وتوفيقك لأداء الصلاة، وإعانتك عليه. أو المراد التسبيح على ظاهره، أي: نزّهه عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائص، حامدا له على ما ميّزك بالهدى، معترفا بأنّه مولي النعم كلّها.

ويؤيّد الأوّل ظاهر قوله:( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) يعني: الفجر( وَقَبْلَ غُرُوبِها ) يعني: الظهر والعصر، لأنّهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس

٢٨٩

وغروبها. أو العصر وحده.

( وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ ) ومن ساعاته. جمع إنى بالكسر والقصر، أو أناء بالفتح والمدّ.

( فَسَبِّحْ ) فصلّ. يعني: المغرب والعشاء، فإنّ «من» للابتداء. والمعنى: إنّ أوّل الليل ابتداء وقت العشاءين. وعن ابن عبّاس رضى عنه الله: صلاة الليل. و «من» للتبعيض.

وإنّما قدّم زمان الليل لاختصاصه بمزيد الفضل، لأنّ القلب فيه أجمع، والنفس فيه أميل إلى الاستراحة، فالعبادة فيه على النفس أشقّ وأحمز، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أدخل في معنى التكليف وأفضل، كما قالعليه‌السلام : «أفضل الأعمال أحمزها».

ولذلك قال الله تعالى:( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ) (١) .

( وَأَطْرافَ النَّهارِ ) تكرير لصلاتي الصبح والمغرب، إرادة الاختصاص، كما اختصّت في قوله:( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (٢) . ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس، كقوله تعالى:( فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) (٣) . وقول الشاعر: ظهراهما مثل ظهور الترسين(٤) .

وفيه نظر، لأنّ طرفي الشيء منه لا خارج عنه. وصلاة المغرب يقع في الليل، فكيف يكون في النهار؟ أللّهمّ إلّا أن يكون إسناد الطرف إلى وقت المغرب على سبيل التجوّز، تسمية باسم مجاوره وملاصقه. أو يراد بالنهار من الصبح إلى ذهاب الحمرة

__________________

(١) المزّمّل: ٦.

(٢) البقرة: ٢٣٨.

(٣) التحريم: ٤.

(٤) لخطام المجاشعي، صدره:

ومهمهين قذفين مرتين

ظهراهما مثل ظهور الترسين

والمهمه: المفازة والصحراء. يقال: فلاة قذف أو قذف، أي: تتقاذف بمن سلكها.

والمرت: القفر والصحراء لا ماء فيه ولا نبات. والترس: حيوان ناتئ الظهر. ثنّى الشاعر «ظهراهما» على الأصل، وجمع فيما بعد لأمن اللبس.

٢٩٠

المغربيّة، كما قال بعضهم.

وقيل: المراد منه الأمر بصلاة الظهر، فإنّه نهاية النصف الأوّل من النهار وبداية النصف الأخير. وجمعه باعتبار النصفين، أو لأنّ النهار جنس. أو المراد العصر، وإعادتها لأنّها الوسطى عند الأكثر. وعلى هذا جمعه باعتبار أنّها أوقات العصر في النصف الأخير من النهار، فيصدق على كلّ ساعة أنّها طرف. أو المراد التطوّع في أجزاء النهار. ومن حمل التسبيح على الظاهر، أراد المداومة على التسبيح والتحميد على عموم الأوقات.

( لَعَلَّكَ تَرْضى ) متعلّق بـ «سبّح» أي: سبّح في هذه الأوقات طمعا أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك، من الشفاعة والدرجة الرفيعة والمرتبة العليّة. وقيل: بجميع ما وعدك الله به، من النصر وإعزاز الدين في الدنيا، والشفاعة وسموّ المرتبة في العقبى.

وقرأ أبو بكر والكسائي بالبناء للمفعول، أي: يرضيك ربّك.

روي عن أبي رافع: نزل برسول الله ضيف، فبعثني إلى يهوديّ، فقال: قل: إنّ رسول الله يقول: أقرضني كذا من الدقيق إلى هلال رجب. فأتيته فقلت له. فقال: والله لا أقرضه إلّا برهن. فأتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته. فقال: والله لو أسلفني لقضيته، وإنّي لأمين في السماء وأمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد إليه. فأنزل الله تعالى على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسلية له عن حطام الدنيا:( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) أي: نظر عينيك( إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ ) استحسانا له، وتمنّيا أن يكون لك مثله، فإنّ مدّ النظر هاهنا عبارة عن تطويله بحيث لا يكاد يردّه، استحسانا للمنظور إليه وإعجابا به، وتمنّيا أن يكون له، كما فعل نظّارة قارون حين قالوا:( يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (١) حتّى واجههم أولوا العلم والإيمان بـ( وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) (٢) .

__________________

(١، ٢) القصص: ٧٩ ـ ٨٠.

٢٩١

وفيه: أنّ النظر غير الممدود معفوّ عنه، وذلك مثل نظر من باده(١) الشيء بالنظر ثمّ غضّ الطرف، ومنه: النظرة الأولى لك لا الثانية. ولـمّا كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وأن من أبصر منها شيئا أحبّ أن يمدّ إليه نظره ويملأ منه عينيه، قيل:( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) أي: لا تفعل ما كان من عادة الطبيعة ومقتضاها.

( أَزْواجاً مِنْهُمْ ) أصنافا من الكفرة. ويجوز أن يكون حالا من الضمير في «به»، والمفعول «منهم». كأنّه قيل: إلى الّذي متّعنا به. وهو أصناف بعضهم، أو ناسا منهم.

( زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) منصوب بالذمّ، وهو من أنواع النصب على الاختصاص.

أو بالبدل من محلّ به، أو من أزواجا، بتقدير مضاف، أي: ذوي زهرة. أو مفعول ثان لـ «متّعنا» على تضمين معنى: أعطينا وخوّلنا. وهي الزينة والبهجة.

وقرأ يعقوب بفتح الهاء. وهي لغة، كالجهرة والجهرة. أو جمع زاهر، وصفا لهم بأنّهم زاهر وهذه الدنيا، لتنعّمهم، وبهاء زيّهم، وصفاء ألوانهم، وتهلّل(٢) وجوههم، وطراوة نظرهم ممّا يلهون ويتنعّمون، بخلاف ما عليه المؤمنون الزهّاد.

ولقد شدّد العلماء من أهل التقوى والزهّاد في وجوب غضّ البصر عن أبنية الظلمة، وعدد الفسقة في اللباس والمراكب وغير ذلك، لأنّهم إنّما اتّخذوا هذه الأشياء لعيون النظّارة، فالناظر إليها محصّل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتّخاذها.

( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) لنبلوهم ونختبرهم فيه، أي: لنعاملهم معاملة المختبر، بشدّة التعبّد في أداء الحقوق، وصرفه في مصرفه المأمور به.

وقيل: معناه: لنشدّد عليهم التعبّد، بأن نكلّفهم متابعتك والطاعة لك، مع كثرة أموالهم وقلّة مالك، فيستوجبوا العذاب الأليم عند تمرّدهم واستكبارهم.

وقيل: معنى الفتنة: العذاب، أي: لنعذّبهم في الآخرة بسببه، لأنّ الله قد يوسّع

__________________

(١) باده الشيء: بغته وفاجأه.

(٢) تهلّل وجه فلان: تلألأ من السرور.

٢٩٢

الرزق على بعض أهل الدنيا تعذيبا له، كما قال:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) (١) .

( وَرِزْقُ رَبِّكَ ) وما ادّخر لك في الآخرة( خَيْرٌ ) ممّا منحهم في الدنيا( وَأَبْقى ) فإنّه لا ينقطع. أو ما رزقك من نعمة الإسلام والنبوّة خير منه وأدوم. أو ما رزقك من الحلال الطيّب خير من أموالهم المحرّمة الخبيثة، فإنّ الغالب عليها الغصب والسرقة والربا، وأبقى بركة.

ثمّ أمر سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يأمر أهل بيته بالصلاة، بعد ما أمره بها، ليتعاونوا على الاستعانة بها على فقرهم، ولا يهتمّوا بأمر المعيشة، ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة، فقال:( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ) أي: أهل بيتك. وقيل: التابعين من أمّتك.( وَاصْطَبِرْ عَلَيْها ) واصبر على فعلها، وداوم عليها.

( لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً ) أي: أن ترزق نفسك ولا أهلك( نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) وإيّاهم، فلا تهتمّ بأمر الرزق والمعيشة، وفرّغ بالك لأمر الآخرة( وَالْعاقِبَةُ ) المحمودة( لِلتَّقْوى ) لذوي التقوى.

ويؤيّد أنّ الآية نزلت في أهل بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما روي عن أبي سعيد الخدري: «لمّا نزلت هذه الآية كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتي باب فاطمة وعليّعليهما‌السلام تسعة أشهر وقت كلّ صلاة، فيقول: الصلاة رحمكم الله( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (٢) الآية».

وما روي عن أبي جعفرعليه‌السلام : «أمر الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخصّ أهله دون الناس، ليعلم الناس أنّ لأهله عند الله منزلة ليست للناس، فأمرهم مع الناس عامّة، ثمّ أمرهم خاصّة».

وروي أيضا أنّه إذا أصاب أهله فقرا أمرهم بالصلاة، وتلا هذه الآية.

__________________

(١) الأعراف: ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٢) الأحزاب: ٣٣.

٢٩٣

وعن بكر بن عبد الله المزني قال: كان إذا أصابت أهله خصاصة قال: قوموا فصلّوا، بهذا أمر الله رسوله، ثمّ يتلو هذه الآية.

وعن بعضهم: من دان(١) في عمل الله، كان الله في عمله.

وعن عروة بن الزبير: أنّه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) الآية، ثمّ ينادي الصلاة الصلاة.

( وَقالُوا لَوْلَا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥) )

ولـمّا اقترح الكفّار المعاندون على عادتهم في التعنّت آية على النبوّة، مع وضوحها عندهم بالمعجزات الباهرة، قال الله تعالى في عنادهم ولجاجهم:( وَقالُوا ) أي: كفّار قريش( لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) مقترحة، إنكارا لـما جاء به من الآيات، أو للاعتداد به تعنّتا وعنادا. فألزمهم الله بإتيانه بالقرآن الّذي هو أمّ المعجزات وأعظمها وأبقاها، فقال:( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى ) من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماويّة، فإنّ اشتمال القرآن على زبدة ما فيها من العقائد والأحكام الكلّيّة، مع أنّ الآتي بها أمّي لم يرها ولم يتعلّم ممّن علمها، إعجاز بيّن.

__________________

(١) أي: أطاع وذلّ.

٢٩٤

وفيه إشعار بأنّه كما يدلّ على نبوّته، برهان لـما في سائر الكتب المنزلة، ودليل صحّته، لأنّه معجزة، وتلك ليست كذلك، بل هي مفتقرة إلى حجّة تشهد على صحّتها.

وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص: أو لم تأتهم بالتاء. والباقون بالياء.

ولـمّا كان حقيقة المعجزة اختصاص مدّعي النبوّة بنوع من العلم أو العمل على وجه خارق للعادة، ولاخفاء على من له أدنى مسكة أنّ العلم أصل العمل، وأعلى منه قدرا، وأبقى أثرا، فالقرآن الّذي أعجزهم عن إتيان مثل آية منه، مع أنّهم أفصح فصحاء العرب وأبلغ بلغائهم، المشتمل على خلاصة العقائد الحقّة وقواعد الأحكام السنيّة التي في الكتب السالفة، مع أميّة الآتي به، أبين المعجزات وأمتن البيّنات.

وقيل: معناه: أو لم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب الأولى من أنباء الأمم الّتي أهلكناهم، لـمّا اقترحوا الآيات ثمّ كفروا بها، فما ذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية كحال أولئك؟

( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ ) من قبل بعث محمد، أو البيّنة والتذكير، لأنّها في معنى البرهان. أو المراد بها نزول القرآن.( لَقالُوا ) يوم القيامة( رَبَّنا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ) يدعونا إلى طاعتك، ويرشدنا إلى دينك( فَنَتَّبِعَ آياتِكَ ) فنعمل بما فيها( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ ) بالقتل والسبي في الدنيا( وَنَخْزى ) بدخول النار يوم القيامة. فقطعنا عذرهم بإرسال الرسل، فلم يبق لهم معذرة.

وفيه دلالة على وجوب اللطف، فإنّه إنّما بعث الرسول لكونه لطفا، ولو لم يبعثه لكان للخلق حجّة عليه سبحانه، فكان في البعثة قطع العذر وإزاحة العلّة.

ثمّ قال لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ كُلٌ ) أي: كلّ واحد منّا ومنكم( مُتَرَبِّصٌ ) منتظر لـما يؤول إليه أمرنا وأمركم. فنحن ننتظر وعد الله لنا فيكم، وأنتم تتربّصون بنا الدوائر.

( فَتَرَبَّصُوا ) أمر على وجه التهديد( فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ )

٢٩٥

الدين المستقيم. والسويّ بمعنى الوسط، أي: الخيار والجيّد، أو المستوي.( وَمَنِ اهْتَدى ) من الضلالة. أو من اهتدى إلى طريق الجنّة، نحن أم أنتم.

و «من» في الموضعين للاستفهام. ومحلّها الرفع بالابتداء. ويجوز أن تكون الثانية موصولة، بخلاف الأولى، لعدم العائد. فتكون معطوفة على محلّ الجملة الاستفهاميّة المعلّق عنها الفعل، على أنّ العلم بمعنى المعرفة. أو على «أصحاب» أو على «الصراط» على أنّ المراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٩٦

(٢١)

سورة الأنبياء

مكّيّة كلّها. وهي مائة واثنتا عشرة آية. أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ سورة الأنبياء حاسبه الله حسابا يسيرا، وصافحه وسلّم عليه كلّ نبيّ ذكر اسمه في القرآن».

وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «من قرأ سورة الأنبياء حبّا لها كان ممّن رافق النبيّين أجمعين في جنّات النعيم، وكان مهيبا في أعين الناس حياة الدنيا».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) )

٢٩٧

واعلم أنّه سبحانه لـمّا ختم سورة طه بذكر الوعيد، افتتح هذه السورة بذكر القيامة، فقال:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ) اقتربه بالإضافة إلى ما مضى، لأنّ ما بقي من الدنيا أقصر وأقلّ ممّا سلف منها، بدليل انبعاث خاتم النبيّينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموعود مبعثه في آخر الزمان. وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت في نسم الساعة» أي: أوّلها. وقال أيضا: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار إلى إصبعيه. ومن خطبة أمير المؤمنينعليه‌السلام : «ولّت الدنيا حذّاء، ولم تبق إلّا صبابة كصبابة الإناء»(١) .

وإذا كانت بقيّة الشيء ـ وإن كثرت في نفسها ـ قليلة بالإضافة إلى معظمه، كانت خليفة بأن توصف بالقلّة.

أو المراد اقترابه عند الله، لقوله تعالى:( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً ) (٢) .

وقوله:( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) (٣) . أو لأنّ كلّ ما هو آت قريب، وإنّما البعيد ما انقرض ومضى.

والمراد اقتراب الساعة، وإذا اقتربت فقد اقترب ما فيها من الحساب والثواب والعقاب، وغير ذلك. ونحوه:( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ ) (٤) .

واللام صلة لـ «اقترب». أو تأكيد لإضافة الحساب إليهم. وأصله: اقترب حساب الناس، ثم اقترب للناس الحساب، ثمّ اقترب للناس حسابهم، كقولك: أزف(٥) للحيّ رحيلهم. الأصل: أزف رحيل الحيّ، ثمّ أزف للحيّ الرحيل، ثمّ أزف للحيّ رحيلهم.

ومنه قولهم: لا أبالك، لأنّ اللام مؤكّدة لمعنى الإضافة. وهذا الوجه أغرب من أن يكون للصلة.

__________________

(١) نهج البلاغة (محمد عبده) ٩٣. والحذّاء: الماضية السريعة.

(٢) المعارج: ٦ ـ ٧.

(٣) الحجّ: ٤٧.

(٤) الأنبياء: ٩٧.

(٥) أي: اقترب.

٢٩٨

وعن ابن عبّاس: أنّ المراد بالناس المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه.

ووجه اختصاصهم بالكفّار تقييدهم بقوله:( وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ ) عن الحساب( مُعْرِضُونَ ) عن التفكّر في عاقبته، ولا يتفطّنون لـما ترجع إليه خاتمة أمرهم، مع اقتضاء عقولهم أنّه لا بدّ من جزاء المحسن والمسيء. وهما خبران للضمير. ويجوز أن يكون الظرف حالا من المستكن في «معرضون». وقد تضمّنت الآية الحثّ على الاستعداد ليوم القيامة.

( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ ) ينبّههم عن سنة الغفلة والجهالة. وهو طائفة نازلة من القرآن.( مِنْ رَبِّهِمْ ) صفة لـ «ذكر» أو صلة لـ «يأتيهم»( مُحْدَثٍ ) يحدث الله لهم آية بعد آية، ويجدّد لهم سورة بعد سورة( إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) يستهزؤن به ويستسخرون منه، لتناهي غفلتهم، وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور، والتفكّر في العواقب.

وعجز الآية حال من الواو. وكذلك( لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) أي: استمعوه جامعين بين الاستهزاء والتلهّي والذهول عن التفكّر فيه. ويجوز أن يكون حالا من واو «يلعبون».

وتنقيح المعنى: أنّهم إذا نبّهوا عن سنة الغفلة، وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر، أعرضوا عن التفكّر، وسدّوا أسماعهم ونفروا. وقرّر إعراضهم عن تنبيه المنبّه وإيقاظ الموقظ، بأنّ الله يجدّد لهم الذكر وقتا فوقتا، ويحدث لهم آية بعد آية، وسورة بعد سورة، ليكرّر على أسماعهم التنبيه والموعظة، لعلّهم يتّعظون. فما يزيدهم استماع الآي والسور، وما فيها من فنون المواعظ والبصائر الّتي هي أحقّ الحقّ وأجدّ الجدّ، إلّا لعبا وتلهّيا واستهزاء واستسخارا.

( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ) ذكر التناجي بعد الإسرار ـ وإن لم يكن إلّا إسرارا ـ للمبالغة. والمعنى: بالغوا في إخفائها، أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم، ولا

٢٩٩

يعلم أنّهم متناجون.

( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) بدل من واو «وأسرّوا» للإيماء بأنّهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسرّوا به. أو فاعل له، والواو لعلامة الجمع على لغة من قال: أكلوني البراغيث. أو مبتدأ والجملة المتقدّمة خبره. وأصله: وهؤلاء أسرّوا النجوى. فوضع المظهر موضع المضمر، تسجيلا على فعلهم بأنّه ظلم. أو منصوب على الذمّ.

وقوله:( هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) في موضع النصب بدلا من النجوى، أو مفعولا لقول مقدّر. كأنّهم استدلّوا بكونه بشرا على كذبه في ادّعاء الرسالة، لاعتقادهم أنّ الرسول لا يكون إلّا ملكا، واستلزموا منه أنّ ما جاء به من الخوارق ـ كالقرآن ـ سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار:( أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) أي: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنّه سحر؟! وإنّما أسرّوا بهذا الحديث وبالغوا في إخفائه، تشاورا في استنباط ما يهدم أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويظهر فساده للناس عامّة، فينفّروهم عنه بشيئين: أحدهما: أنّه بشر. والآخر: أنّ ما أتى به سحر.

( قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) )

ثم أمر سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( قالَ ) يا محمّد. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: قال، بالإخبار عن رسوله. يعني: قال محمّد لهؤلاء الكفرة المتشاورين سرّا:( رَبِّي يَعْلَمُ

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609