زبدة التفاسير الجزء ٤

زبدة التفاسير9%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609

  • البداية
  • السابق
  • 609 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15932 / تحميل: 4594
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٦-X
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ثمّ يضيف :( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) ،( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) .(١)

في الحقيقة أنّ هذه الأقسام الثلاثة مرتبطة بعضها بالآخر ومكملة للآخر ، وكذلك لأنّنا كما نعلم أنّ القمر يتجلى في الليل ، ويختفي نوره في النهار لتأثير الشمس عليه ، والليل وإن كان باعثا على الهدوء والظلام وعنده سرّ عشاق الليل ، ولكن الليل المظلم يكون جميلا عند ما يدبر ويتجه العالم نحو الصبح المضيء وآخر السحر ، وطلوع الصبح المنهي الليل المظلم أصفى وأجمل من كل شيء حيث يثير في الإنسان إلى النشاط ويجعله غارقا في النور الصفاء.

هذه الأقسام الثلاثة تتناسب ضمنيا مع نور الهداية (القرآن) واستدبار الظلمات (الشرك) وعبادة (الأصنام) وطلوع بياض الصباح (التوحيد) ، ثمّ ينتهي إلى تبيان ما أقسم من أجله فيقول تعالى :( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) .(٢)

إنّ الضمير في (إنّها) إمّا يرجع إلى «سقر» ، وإمّا يرجع إلى الجنود ، أو إلى مجموعة الحوادث في يوم القيامة ، وأيّا كانت فإنّ عظمتها واضحة.

ثمّ يضيف تعالى :( نَذِيراً لِلْبَشَرِ ) .(٣)

لينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي ينتظر الكفّار والمذنبين وأعداء الحق.

وفي النهاية يؤكّد مضيفا أنّ هذا العذاب لا يخص جماعة دون جماعة ، بل :( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) فهنيئا لمن يتقدم ، وتعسا وترحا لمن يتأخر.

واحتمل البعض كون التقدم إلى الجحيم والتأخر عنه ، وقيل هو تقدم النفس

__________________

(١) «أسفر» من مادة (سفر) على وزن (قفر) ويعني انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب ، ولذا يقال للنساء المتبرجات (سافرات) وهذا التعبير يشمل تشبيها جميلا لطلوع الشمس.

(٢) «كبر» : جمع كبرى وهي كبيرة ، وقيل المراد بكون سقر إحدى الطبقات الكبيرة لجهنّم ، هذا المعنى لا يتفق مع ما أشرنا إليه من قبل وكذا مع الآيات.

(٣) «نذيرا» : حال للضمير في «أنّها» الذي يرجع إلى سقر ، وقيل هو تمييز ، ولكنه يصح فيما لو كان النذير مصدرا يأتي بمعنى (الإنذار) ، والمعنى الأوّل أوجه.

١٨١

الإنسانية وتكاملها أو تأخرها وانحطاطها ، والمعنى الأوّل والثّالث هما المناسبان ، دون الثّاني.

* * *

١٨٢

الآيات

( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) )

التّفسير

لم صرتم من أصحاب الجحيم؟

إكمالا للبحث الذي ورد حول النّار وأهلها في الآيات السابقة ، يضيف تعالى في هذه الآيات :( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) .

«رهينة» : من مادة (رهن) وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض ، وكأن نفس الإنسان محبوسة حتى تؤدي وظائفها وتكاليفها ، فإن أدت ما عليها فكت وأطلقت ، وإلّا فهي باقية رهينة ومحبوسة دائما ، ونقل عن أهل اللغة أنّ أحد

١٨٣

معانيها الملازمة والمصاحبة(١) ، فيكون المعنى : الكلّ مقترنون بمعية أعمالهم سواء الصالحون أم المسيئون.

لذا يضيف مباشرة :( إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) .

إنّهم حطموا أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح ويدخلون الجنّة بدون حساب.(٢)

وهناك أقوال كثيرة حول المقصود من أصحاب اليمين :

فقيل هم الذين يحملون كتبهم بيمينهم ، وقيل هم المؤمنون الذين لم يرتكبوا ذنبا أبدا ، وقيل هم الملائكة ، وقيل غير ذلك والمعنى الأوّل يطابق ظاهر الآيات القرآنية المختلفة ، وما له شواهد قرآنية ، فهم ذو وإيمان وعمل صالح ، وإذا كانت لهم ذنوب صغيرة فإنّها تمحى بالحسنات وذلك بحكم( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (٣) .

فحينئذ تغطّي حسناتهم سيئاتهم أو يدخلون الجنّة بلا حساب ، وإذا وقفوا للحساب فسيخفف عليهم ذلك ويسهل ، كما جاء في سورة الإنشقاق آية (٧) :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) .

ونقل المفسّر المشهور «القرطبي» وهو من أهل السنة تفسير هذه الآية عن الإمام الباقرعليه‌السلام فقال : «نحن وشيعتنا أصحاب اليمين وكل من أبغضنا أهل البيت فهم مرتهنون».(٤)

وأورد هذا الحديث مفسّرون آخرون منهم صاحب مجمع البيان ونور

__________________

(١) لسان العرب مادة : رهن.

(٢) قال الشّيخ الطوسي في التبيان أن الاستثناء هنا هو منقطع وقال آخرون كصاحب (روح البيان) أنّه متصل ، وهذا الاختلاف يرتبط كما ذكرنا بالتفسيرات المختلفة لمعنى الرهينة ، وما يطابق ما اخترناه من التّفسير هو أن الاستثناء هنا منقطع وعلى التفسير الثّاني يكون متصلا.

(٣) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٤) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٨٧٨.

١٨٤

الثقلين والبعض الآخر أورده تذييلا لهذه الآيات.

ثمّ يضيف مبيّنا جانبا من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم :

( فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ ) (١) ( عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) .

يستفاد من هذه الآيات أن الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النّار ، فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النّار والتحدث معهم ، ولكن ماذا سيجيب المجرمون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنّهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد ارتكبوها :

الاولى :( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) .

لو كنّا مصلّين لذكّرتنا الصلاة بالله تعالى ، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط الله المستقيم.

والأخرى :( وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) .

وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين ، ولكن الظاهر أنه يراد بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموما بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.

وصرّح المفسّرون أنّ المراد بها الزكاة المفروضة ، لأنّ ترك الإنفاق المستحب لا يكون سببا في دخول النّار ، وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى على أنّ الزّكاة كانت قد فرضت بمكّة بصورة إجمالية ، وإن كان التشريع بجزئياتها وتعيين خصوصياتها وتمركزها في بيت المال كان في المدينة.

والثّالثة :( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) .

كنّا نؤيد ما يصدر ضدّ الحقّ في مجالس الباطل. نقوم بالترويج لها ، وكنّا معهم

__________________

(١) «يتساءلون» : وهو وإن كان من باب (تفاعل) الذي يأتي عادة في الأعمال المشتركة بين اثنين أو أكثر ، ولكنه فقد هذا المعنى هنا كما في بعض الموارد الأخرى ، ولمعنى يسألون ، وتنكير الجنات هو لتبيان عظمتها و (في جنات) خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو في جنات.

١٨٥

أين ما كانوا ، وكيف ما كانوا ، وكنّا نصدق أقوالهم ، ونضفي الصحة على ما ينكرون ويكذبون ونلتذ باستهزائهم الحقّ.

«نخوض» : من مادة (خوض) على وزن (حوض) ، وتعني في الأصل الغور والحركة في الماء ، ويطلق على الدخول والتلوث بالأمور ، والقرآن غالبا ما يستعمل هذه اللفظة في الإشتغال بالباطل والغور فيه.

(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات الله للاستهزاء أو ما تروج فيها البدع ، أو المزاح الواقح ، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الافتخار والتلذذ بذكرها ، وكذلك المشاركة في مجالس الغيبة والاتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك ، ولكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الاستهزاء بالدين والمقدسات وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.

وأخيرا يضيف :( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) .

من الواضح أنّ إنكار المعاد ويوم الحساب والجزاء يزلزل جميع القيم الإلهية والأخلاقية ، ويشجع الإنسان على ارتكاب المحارم ، ويرفع كلّ مانع هذا الطريق ، خصوصا إذا استمر إلى آخر العمر ، على كل حال فإنّ ما يستفاد من هذه الآيات أنّ الكفار هم مكلّفون بفروع الدين ، كما هم مكلّفون بالأصول ، وكذلك تشير إلى أن الأركان الاربعة ، أي الصلاة والزّكاة وترك مجالس أهل الباطل ، والإيمان بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان ، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم مكانا للمصلين الواقعيين ، والمؤتين الزّكاة ، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.

بالطبع فإنّ الصلاة هي عبادة الله ، ولكنّها لا تنفع إذا لم يمتلك الإنسان الإيمان به تعالى ، ولهذا فإنّ أداءها رمز للإيمان والإعتقاد بالله والتسليم لأوامره ، ويمكن القول إنّ هذه الأمور الأربعة تبدأ بالتوحيد ينتهي بالمعاد ، وتحقق العلاقة والرابطة بين الإنسان والخالق ، وكذا بين المخلوقين أنفسهم.

١٨٦

والمشهور بين المفسّرين أنّ المراد من (اليقين) هنا هو الموت ، لأنّه يعتبر أمر يقيني للمؤمن والكافر ، وإذا شك الإنسان في شيء ما فلا يستطيع أن يشك بالموت ونقرأ أيضا في الآية (٩٩) من سورة الحجر :( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .

ولكن ذهب البعض إلى أنّ اليقين هنا يعني المعرفة الحاصلة بعد موت الإنسان وهي التي تختص بمسائل البرزخ والقيامة ، وهذا ما يتفق نوعا ما مع التّفسير الأوّل.

وفي الآية الأخيرة محل البحث إشارة إلى العاقبة السيئة لهذه الجماعة فيقول تعالى :( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) .

فلا تنفعهم شفاعة الأنبياء ورسل الله والائمّة ، ولا الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين ، ولأنّها تحتاج إلى عوامل مساعدة وهؤلاء أبادوا كل هذه العوامل ، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية ، وبديهي إذا ماتت النبتة الفتية ، لا يكن للماء الزلال أن يحييها ، وبعبارة أخرى كما قلنا في بحث الشفاعة ، فإنّ الشفاعة من (الشفع) وتعني ضم الشيء إلى آخر ، ومعنى هذا الحديث هو أنّ المشفّع له يكون قد قطع قسطا من الطريق وهو متأخر عن الركب في مآزق المسير ، فتضم إليه شفاعة الشافع لتعينه على قطع بقية الطريق(١) .

وهذه الآية تؤكّد مرّة أخرى مسألة الشفاعة وتنوع وتعدد الشفعاء عند الله ، وهي جواب قاطع لمن ينكر الشفاعة ، وكذلك توكّد على أنّ للشفاعة شروطا وأنّها لا تعني إعطاء الضوء الأخضر لارتكاب الذنوب ، بل هي عامل مساعد لتربية الإنسان وإيصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع ، بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين الله تعالى والأولياء.

* * *

__________________

(١) التّفسير الأمثل ، المجلد الأوّل ، ذيل الآية (٤٨) من سورة البقرة.

١٨٧

ملاحظة :

شفعاء يوم القيامة :

نستفيد من هذه الآيات والآيات القرآنية الأخرى أنّ الشفعاء كثيرون في يوم القيامة (مع اختلاف دائرة شفاعتهم) ويستفاد من مجموع الرّوايات الكثيرة والمنقولة من الخاصّة والعامّة أنّ الشفعاء يشفعون للمذنبين لمن فيه مؤهلات الشفاعة :

١ ـ الشفيع الأوّل هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كما نقرأ في حديث حيث قال : «أنا أوّل شافع في الجنّة»(١) .

٢ ـ الأنبياء من شفعاء يوم القيامة ، كما ورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع الأنبياء في كلّ من يشهد أن لا إله إلّا الله مخلصا فيخرجونهم منها»(٢) .

٣ ـ الملائكة من شفعاء يوم المحشر ، كما نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يؤذن للملائكة والنّبيين والشّهداء أن يشفعوا»(٣) .

٤ ، ٥ ـ الأئمّة المعصومين وشيعتهم كما قال في ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال : «لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة»(٤)

٦ ، ٧ ـ العلماء والشّهداء كما ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «يشفع يوم القيامة الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشّهداء»(٥) .

وورد في حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يشفع الشّهيد في سبعين إنسانا

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٣٠.

(٢) مسند أحمد ، ج ٣ ، ص ١٢.

(٣) مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٤٣.

(٤) الخصال للصدوقرحمه‌الله ، ص ٦٢٤.

(٥) سنن ابن ماجة ، ج ٢ ، ص ١٤٤٣.

١٨٨

من أهل بيته»(١) .

وفي حديث آخر نقله المجلسي في بحار الأنوار : «إنّ شفاعتهم تقبل في سبعين ألف نفر»(٢) .

ولا منافاة بين الرّوايتين إذ أنّ عدد السبعين والسبعين ألف هي من أعداد الكثرة.

٨ ـ القرآن كذلك من الشفعاء في يوم القيامة كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «واعلموا أنّه (القرآن) شافع مشفع»(٣) .

٩ ـ من مات على الإسلام فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بلغ الرجل التسعين غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفّع في أهله»(٤) .

١٠ ـ العبادة : كما جاء في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة»(٥) .

١١ ـ ورد في بعض الرّوايات أنّ العمل الصالح كأداء الأمانة يكون شافعا في يوم القيامة.(٦)

١٢ ـ والطريف هو ما يستفاد من بعض الرّوايات من أنّ الله تعالى أيضا يكون شافعا للمذنبين في يوم القيامة ، كما ورد في الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع النّبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتي»(٧) .

والرّوايات كثيرة في هذه الباب وما ذكرناه هو جانب منها.(٨)

__________________

(١) سنن أبي داود ، ج ٢ ، ص ١٥.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٠٠ ، ص ١٤.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ، ١٧٦.

(٤) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ٨٩.

(٥) مسند أحمد ، ج ٢ ، ص ١٧٤.

(٦) مناقب ابن شهر آشوب ، ج ٢ ، ص ١٤.

(٧) صحيح البخاري ، ج ٩ ، ص ١٤٩.

(٨) للاستيضاح يمكن مراجعة كتاب مفاهيم القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٨٨ ـ ٣١١.

١٨٩

ونكرر أنّ للشفاعة شروطا لا يمكن بدونها التشفع وهذا ما جاء في الآيات التي بحثناها والتي تشير بصراحة الى عدم تأثير شفاعة الشفعاء في المجرمين ، فالمهم أن تكون هناك قابلية للتشفع ، لأنّ فاعلية الفاعل لوحدها ليست كافية (أوردنا شرحا مفصلا في هذا الباب في المجلد الأوّل في بحث الشفاعة)

* * *

١٩٠

الآيات

( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣)كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦) )

التّفسير

يفرّون من الحق كما تفرّ الحمر من الأسد :

تتابع هذه الآيات ما ورد في الآيات السابقة من البحث حول مصير المجرمين وأهل النّار ، وتعكس أوضح تصوير في خوف هذه الجماعة المعاندة ورعبها من سماع حديث الحقّ والحقيقة.

فيقول الله تعالى أوّلا :( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (١) لم يفرّون من دواء

__________________

(١) «ما» مبتدأ و (لهم) خبر و (معرضين) حال الضمير لهم (وعن التذكرة) جار ومجرور ومتعلق بالمعرضين ، وقيل تقديم (عن التذكرة) على (معرضين) دلالة على الحصر أي أنّهم أعرضوا عن التذكرة المفيدة فقط ، على كل حال فإنّ المراد من التذكرة هنا كلّ ما هو نافع ومفيد وعلى رأسها القرآن المجيد.

١٩١

القرآن الشافي؟ لم يطعنون في صدر الطبيب الحريص عليهم؟ حقّا إنّه مثير( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) .

«حمر» : جمع (حمار) والمراد هنا الحمار الوحشي ، بقرينة فرارهم من قبضة الأسد والصياد ، وبعبارة أخرى أنّ هذه الكلمة ذات مفهوم عام يشمل الحمار الوحشي والأهلي.

«قسورة» : من مادة (قسر) أي القهر والغلبة ، وهي أحد أسماء الأسد ، وقيل هو السهم ، وقيل الصيد ، ولكن المعنى الأوّل أنسب.

والمشهور أنّ الحمار الوحشي يخاف جدّا من الأسد ، حتى أنّه عند ما يسمع صوته يستولي عليه الرعب فيركض إلى كلّ الجهات كالمجنون ، خصوصا إذا ما حمل الأسد على فصيل منها ، فإنّها تتفرق في كل الجهات بحيث يعجب الناظر من رؤيتها.

وهذا الحيوان وحشي ويخاف من كل شيء ، فكيف به إذا رأى الأسد المفترس؟!

على كل حال فإنّ هذه الآية تعبير بالغ عن خوف المشركين وفرارهم من الآيات القرآنية المربية للروح ، فشبههم بالحمار الوحشي لأنّهم عديمو العقل والشعور ، وكذلك لتوحشّهم من كل شيء ، في حين أنّه ليس مقابلهم سوى التذكرة.

( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) (١) ، وذلك لتكبّرهم وغرورهم الفارغ بحيث يتوقعون من الله تعالى أن ينزل على كلّ واحد منهم كتابا.

وهذا نظير ما جاء في الآية (٩٣) من سورة الإسراء :( وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى

__________________

(١) «صحف» : جمع صحيفة ، وهي الورقة التي لها وجهان ، وتطلق كذلك على الرسالة والكتاب.

١٩٢

تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) .

وكذا في الآية (١٢٤) من سورة الأنعام حيث يقول :( قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) .

وعلى هذا فإنّ كلّا منهم يتنظر أن يكون نبيّا من اولي العزم! وينزل عليه كتابا خاصّا من الله بأسمائهم ، ومع كل هذا فليس هناك من ضمان في أن يؤمنوا بعد كل ذلك.

وجاء في بعض الرّوايات أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا نؤمن بك حتى تأتينا بصحف من السماء عليها فلان ابن فلان من ربّ العالمين ، ويأتي الأمر علنا باتباعك والإيمان بك.(١)

ولذا يضيف في الآية الأخرى :( كَلَّا ) ليس كما يقولون ويزعمون ، فإنّ طلب نزول مثل لهذا الكتاب وغيره هي من الحجج الواهية ، والحقيقة( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) .

إذا كانوا يخافون الآخرة فما كانوا يتذرعون بكل هذه الذرائع ، ما كانوا ليكذبوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما كانوا ليستهزئوا بآيات الله تعالى ، ولا بعدد ملائكته ، ومن هنا يتّضح أثر الإيمان بالمعاد في التقوى والطهارة من المعاصي والذنوب الكبيرة ، والحقّ يقال إن الإيمان بعالم البعث والجزاء وعذاب القيامة يهب للإنسان شخصية جديدة يمكنه أن يغير إنسانا متكبرا ومغرورا وظالما إلى إنسان مؤمن متواضع ومتق عادل.

ثمّ يؤكّد القرآن على أنّ ما يفكرون به فيما يخصّ القرآن هو تفكّر خاطئ :( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) .

إنّ القرآن الكريم قد أوضح الطريق ، ودعانا إلى التبصر فيه ، وأنار لنا السبيل

__________________

(١) تفسير القرطبي ، والمراغي ، وتفاسير اخرى.

١٩٣

ليرى الإنسان موضع أقدامه ، وفي الوقت نفسه لا يمكن ذلك إلّا بتوفيق من الله وبمشيئته تعالى ، وما يذكرون إلّا ما يشاء الله.

ولهذا الآية عدّة تفاسير :

إحداها : كما ذكرناه سابقا ، وهو أن الإنسان لا يمكنه الحصول على طريق الهداية إلّا بالتوسل بالله تعالى وطلب الموفقية منه.

وطبيعي أن هذا الإمداد والتوفيق الإلهي لا يتمّ إلّا بوجود أرضية مساعدة لنزوله.

والتّفسير الآخر : ما جاء في الآية السابقة :( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) يمكن أن يوجد وهما وأنّ كل شيء مرتبط بإرادة الإنسان نفسه ، وأنّ إرادته مستقلة في كل الأحوال ، وتقول هذه الآية رافعة بذلك هذا الاشتباه ، إنّ الإنسان مرتبط بالمشيئة الإلهية ، وإن هذه الآية مختارا حرّا وهذه المشيئة هي الحاكمة على كل هذا العالم الموجود ، وبعبارة اخرى : إنّ هذا الاختبار والحرية والمعطاة للإنسان في بمشيئته تعالى وإرادته ، ويمكن سلبها أنّى شاء.

وأمّا التّفسير الثّالث فإنّه يقول : إنّهم لا يمكنهم الإيمان إلّا أن يشاء الله ذلك ويجبرهم ، ونعلم أنّ الله لا يجبر أحدا على الإيمان أو الكفر ، والتّفسير الأوّل والثّاني أنسب وأفضل.

وفي النهاية يقول :( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) .

فهو أهل لأن يخافوا من عقابه وأن يتقوا في اتّخاذهم شريكا له تعالى شأنه ، وأن يأملوا مغفرته ، وفي الحقيقة ، أنّ هذه الآية إشارة إلى الخوف والرجاء والعذاب والمغفرة الإلهية ، وهي تعليل لما جاء في الآية السابقة ، لذا نقرأ

في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «قال الله : أنا أهل

١٩٤

أن اتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا وأنا أهل إن لم يشرك بي شيئا أن ادخله الجنّة»(١) .

وبالرغم من أنّ المفسّرين ـ كما رأينا ـ قد أخذوا التقوى هنا بمعناها المفعولي ، وقالوا إنّ الله تعالى أهل لأن يتّقى من الشرك والمعصية ، ولكن هناك احتمالا آخر ، وهو أنّ تؤخذ بمعناها الفاعلي ، أي أن الله أهل للتقوى من كلّ أنواع الظلم والقبح ومن كل ما يخاف الحكمة ، وما عند العباد من التقوى هو قبس ضعيف من ما عند الله ، وإنّ كان التعبير بالتقوى بمعناه الفاعلي والذي يقصد به الله تعالى قليل الاستعمال ، على كل حال فإنّ الآية قد بدأت بالإنذار والتكليف ، وانتهت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة.

ونتعرض هنا بالدعاء إليه خاضعين متضرعين تعالى :

ربّنا! اجعلنا من أهل التقوى والمغفرة.

اللهم! إن لم تشملنا ألطافك فإنّنا لا نصل إلى مرادنا ، فامنن علينا بعنايتك.

اللهم! أعنّا على طريق مليء بالمنعطفات والهموم والمصائد الشيطانية الصعبة ، وأعنا على الشيطان المتهيئ لإغوائنا ، فبغير عونك لا يمكننا المسير في هذا الطريق.

آمين يا ربّ العالمين.

نهاية سورة المدّثّر

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٥.

١٩٥
١٩٦

سورة

القيامة

مكيّة

وعدد آياتها أربعون آية

١٩٧
١٩٨

«سورة القيامة»

محتوى السورة :

كما هو واضح من اسم السورة فإنّ مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد ويوم القيامة إلّا بعض الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين ، وأمّا الآيات المرتبطة بيوم القيامة فإنّها تجتمع في أربعة محاور :

١ ـ المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.

٢ ـ المسائل المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.

٣ ـ المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والانتقال إلى العالم الآخر.

٤ ـ الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان ورابطة ذلك بمسألة المعاد.

فضيلة السورة :

في حديث روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنّه كا مؤمنا بيوم القيامة ، وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة»(١) .

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام قال : «من أدمن قراءة( لا أُقْسِمُ ) وكان يعمل بها ، بعثها الله يوم القيامة معه في قبره ، في أحسن صورة

__________________

(١) مجمع البيان ، ١٠ ـ ، ص ٣٩٣.

١٩٩

تبشّره وتضحك في وجهه ، حتى يجوز الصراط والميزان»(١) .

والجدير بالملاحظة أنّ ما كنّا نستفيد منه في القرائن التي في فضائل تلاوة السور القرآنية قد صرّح بها الإمام هنا في هذه الرّواية حيث يقول : «من أدمن قراءة لا اقسم وكان يعمل بها» ولذا فإنّ كل ذلك هو مقدمة لتطبيق المضمون.

* * *

__________________

(١) المصدر السّابق.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زويت(١) لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها».

وقال أبو جعفرعليه‌السلام : «هم أصحاب المهديّعليه‌السلام في آخر الزمان».

ويدلّ على ذلك ما رواه الخاصّ والعامّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد، لطوّل الله تعالى ذلك اليوم، حتّى يبعث رجلا صالحا من أهل بيتي، يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا».

وقد أورد أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب البعث والنشور أخبارا كثيرة في هذا المعنى. وكذا ورد من طرقنا أحاديث كثيرة في ذلك، ومن أراد الاطّلاع عليها فليرجع إلى كتب أصحابنا، مثل كتاب الغيبة، وكشف الغمّة، وغيرهما من الكتب المطوّلة في هذا الباب.

( إِنَّ فِي هذا ) فيما ذكر من الأخبار، والمواعيد الزاجرة، والمواعظ البالغة( لَبَلاغاً ) لكفاية موصلة إلى البغية( لِقَوْمٍ عابِدِينَ ) لله مخلصين له. قال كعب: هم أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين يصلّون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان.

( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢) )

__________________

(١) زوى الشيء: جمعه وقبضه.

٣٦١

( وَما أَرْسَلْناكَ ) يا محمّد( إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) لأنّ ما بعثت به سبب لإسعادهم، وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم. فمن تبعك فإنّه فائز سعيد في الدارين، ومن لم يتّبع فإنّه شقيّ محروم حيث ضيّع نصيبه. ومثاله: أن يفجّر الله عينا غزيرة وسيعة، فيسقى ناس زروعهم ومواشيهم بمائها فيفلحوا، ويبقى ناس مفرّطون عن السقي فيضيعوا. فالعين المفجّرة في نفسها نعمة من الله ورحمة للفريقين، ولكنّ الكسلان أوقع المحنة العظيمة على نفسه، حيث حرّمها من الرحمة الجليلة.

عن ابن عبّاس: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة للبرّ والفاجر، والمؤمن والكافر. فهو رحمة للمؤمن في الدنيا والآخرة، ورحمة للكافر بأن عوفي ممّا أصاب الأمم من الخسف والمسخ.

وروي: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لجبرئيل لـمّا نزلت هذه الآية: «هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم، إنّي كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لـمّا أثنى الله عليّ بقوله:( ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) (١) . وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما أنا رحمة مهداة».

( قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) أي: ما يوحى إليّ إلّا أنّه لا إله لكم إلّا إله واحد.

واعلم أنّ «إنّما» لقصر الحكم على شيء، أو لقصر الشيء على حكم، كقولك: إنّما زيد قائم، أي: لا يفعل سوى القيام، وإنّما يقوم زيد، أي: يقوم زيد لا غير. وقد اجتمع المثالان في هذه الآية، لأنّ( إِنَّما يُوحى إِلَيَّ ) مع فاعله بمنزلة: إنّما يقوم زيد، و( أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) بمنزلة: إنّما زيد قائم. وفائدة اجتماعهما: الدلالة على أنّ المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد، وأنّ الوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانيّة.

ويجوز أن يكون المعنى: أن الّذي يوحى إليّ. فتكون «ما» موصولة. وفي الآية

__________________

(١) التكوير: ٢٠.

٣٦٢

دلالة على أنّ صفة الوحدانيّة يصحّ أن تكون طريقها السمع.

( فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) مخلصون العبادة لله على مقتضى الوحي المصدّق بالحجّة.

( فَإِنْ تَوَلَّوْا ) عن التوحيد( فَقُلْ آذَنْتُكُمْ ) أعلمتكم ما أمرت به، أو حربي لكم.

منقول من: أذن إذا علم، ولكنّه كثر استعماله فيما يجري مجرى الإنذار. ومنه قوله تعالى:( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) (١) .

( عَلى سَواءٍ ) مستوين في الإعلام به، لم أطوه عن أحد منكم، بل أكشفه لكم كلّكم. أو مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به، أو في المعاداة. أو إيذانا على سواء، لم ابيّن الحقّ لقوم دون قوم. وقيل: أعلمتكم أنّي على سواء، أي: عدل واستقامة رأي بالبرهان النيّر.

( وَإِنْ أَدْرِي ) ما أدري( أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ ) من غلبة المسلمين، أو الحشر، ولكنّه كائن لا محالة.

( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ) ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام( وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ ) من الإحن والأحقاد للمسلمين، فيجازيكم عليه.

( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ ) وما أدري لعلّ تأخير هذا الموعد استدراج لكم، وزيادة في افتتانكم، لينظر كيف تعملون( وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ) وتمتيع إلى أجل مقدّر تقتضيه مشيئته، ليكون ذلك حجّة عليكم، وليقع الموعد في وقت هو فيه حكمة.

قل قرأ حفص: قال، على حكاية قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ ) اقض بيننا وبين أهل مكّة بالعدل، المقتضي لاستعجال العذاب، والتشديد عليهم. وهذا كدعائه عليهم بقوله: «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر، واجعل سنيّهم كسنيّ يوسف». فماتوا بجدب حتّى أكلوا العلهز(٢) .

__________________

(١) البقرة: ٢٧٩.

(٢) العلهز: طعام من الدم والوبر كان يتّخذ في المجاعة. القاموس ٢: ١٨٤.

٣٦٣

( وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ ) كثير الرّحمة على خلقه( الْمُسْتَعانُ ) المطلوب منه المعونة( عَلى ما تَصِفُونَ ) من أنّ الشوكة لكم، وأنّ راية الإسلام تخفق أيّاما ثمّ تسكن، وأنّ الموعد به لو كان حقّا لنزل بالمسلمين. فأجاب الله دعوة رسوله، وخيّب أمانيّهم، ونصر رسوله عليهم وخذلهم، فعذّبوا ببدر.

٣٦٤

(٢٢)

سورة الحجّ

مدنيّة، وهي ثمان وسبعون آية.

في حديث أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ سورة الحجّ أعطي من الأجر كحجّة حجّها، وعمرة اعتمرها، بعدد من حجّ واعتمر فيما مضى وفيما بقي».

وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «من قرأها في كلّ ثلاثة أيّام، لم يخرج من سنته حتّى يخرج إلى بيت الله الحرام، وإن مات في سفره أدخل الجنّة».

ولـمّا ختم سبحانه سورة الأنبياء بالتوحيد، والإعلام بأنّ نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة للعالمين، افتتح هذه السورة بخطاب المكلّفين، ليتّقوا الشرك ومخالفة دين الإسلام، فقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) )

٣٦٥

( يا أَيُّهَا النَّاسُ ) المراد المكلّفون، لأنّ غيرهم خارجون عن دائرة الخطاب.

فكأنّه قال: يا أيّها العقلاء البالغون.( اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) عذاب ربّكم باجتنابكم المعصية، كما يقال: احذر الأسد، والمراد: احذر افتراسه لا عينه.

ثمّ علّل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة، ليتصوّروها بعقولهم، ويعلموا أنّه لا يؤمنهم سوى التدرّع بلباس التقوى، فقال:( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ ) أي: شدّة تحريكها للأشياء، بحيث انزعج جميع الأشياء عن مقارّها ومراكزها. والإسناد مجازيّ. أو تحريك الأشياء فيها. فأضيفت إليها إضافة معنويّة، بتقدير «في». أو إضافة المصدر إلى الظرف على طريقة الاتّساع في الظرف، وإجرائه مجرى المفعول به، كقوله تعالى:( بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) (١) أي: مكرهم فيهما. وقيل: هي زلزلة تكون قبيل طلوع الشمس من مغربها. وأضافها إلى الساعة لأنّها من أشراطها وآيات مجيئها.( شَيْءٌ عَظِيمٌ ) هائل لا يطاق.

( يَوْمَ تَرَوْنَها ) ترون الزلزلة أو الساعة. والظرف متعلّق بقوله:( تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) . والذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة. وفيه دلالة على أنّ الزلزلة تكون في الدنيا، فإنّ الإرضاع إنّما يتصوّر في الدنيا. وعن الأكثر أنّ ذلك يوم القيامة. فيكون تصويرا لهولها، وتفخيما لـما يكون من الشدائد، أي: لو كانت ثمّ مرضعة لذهلت.

و «ما» موصولة، أي: عن الّذي أرضعته. وهو الطفل. أو مصدريّة، أي: إرضاعها الولد.

وذكر مرضعة دون مرضع، لأنّ المرضعة هي الّتي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبيّ، والمرضع الّتي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به.

فقيل: مرضعة، ليدلّ على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه، لـما يلحقها من الدهشة.

__________________

(١) سبأ: ٣٣.

٣٦٦

( وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ) جنينها لشدّة هولها.( وَتَرَى النَّاسَ سُكارى ) على التشبيه، أي: كأنّهم سكارى من شدّة الخوف وفرط الفزع( وَما هُمْ بِسُكارى ) على الحقيقة، بل يضطربون اضطراب السكران( وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ ) فأرهقهم هوله بحيث طيّر عقولهم، وأذهب تمييزهم.

وقرأ حمزة والكسائي: سكرى، كعطشى وجوعى في عطشان وجوعان، إجراء للسكرى مجرى العلل.

وذكر الرؤية أوّلا على صيغة الجمع وثانيا على الإفراد، لأنّها أوّلا علّقت بالزلزلة، فجعل الناس جميعا رائين لها، وهي معلّقة أخيرا بكون الناس على حال السكر، فلا بدّ أن يرى أثره كلّ أحد غيره.

روي عن عمران بن الحصين وأبي سعيد الخدري: نزلت هاتان الآيتان ليلا في غزوة بني المصطلق، وهم حيّ من خزاعة، والناس يسيرون، فنادى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحثّوا المطيّ حتّى كانوا حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرأهما عليهم، فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة.

فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السرج عن الدوابّ، ولم يضربوا الخيام، والناس من بين باك وجالس حزين متفكّر. فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتدرون أيّ يوم ذاك؟

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم: ابعث إلى النار من ولدك. فيقول آدم: من كم وكم؟ فيقولعزوجل : من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحد إلى الجنّة.

فكبر ذلك على المسلمين وبكوا، وقالوا: فمن ينجو يا رسول الله؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبشروا فإنّ معكم خليقتين يأجوج ومأجوج، ما كانتا في شيء إلّا كثّرتاه. ما أنتم في الناس إلّا كشعرة بيضاء في الثور الأسود، أو كرقم في ذراع البكر(١) ، أو كشامة(٢) في جنب البعير.

__________________

(١) البكر: الفتيّ من الإبل.

(٢) الشامة: الخال، وهو أثر السواد في البدن.

٣٦٧

ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا أربع أهل الجنّة. فكبّروا. ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة. فكبّروا. ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة، وإنّ أهل الجنّة مائة وعشرون صفّا، ثمانون منها أمّتي. ثمّ قال: ويدخل من أمّتي سبعون ألفا الجنّة بغير حساب.

وفي بعض الروايات أنّ عمر بن الخطّاب قال: يا رسول الله سبعون ألفا؟

قال: نعم، ومع كلّ واحد سبعون ألفا.

فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم.

فقال: أللّهمّ اجعله منهم.

فقام رجل من الأنصار فقال: ادع الله أن يجعلني منهم.

فقال: سبقك بها عكاشة.

قال ابن عبّاس: كان الأنصاري منافقا، فلذلك لم يدع له.

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) )

روي أنّ النضر بن الحرث كان جدلا يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأوّلين، والله غير قادر على إحياء من بلي وصار ترابا. فنزلت فيه وأضرابه:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ ) فيما يجوز عليه وما لا يجوز من الصفات والأفعال( بِغَيْرِ عِلْمٍ ) بلا دليل يرجع إليه، بل محض جهل وتقليد. فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحقّ والباطل.

( وَيَتَّبِعُ ) في المجادلة، أو في عامّة أحواله( كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ) خطوات كلّ شيطان عات(١) متجرّد عن جميع الخير، متمحّض للشرّ والفساد. وأصله: العري.

__________________

(١) أي: مستكبر قاسي القلب غير ليّن.

٣٦٨

( كُتِبَ عَلَيْهِ ) على الشيطان في اللوح المحفوظ. وقيل: الضمير للمجادل.

فالمعنى: كتب على هذا المجادل الجاهل.( أَنَّهُ ) الضمير للشأن( مَنْ تَوَلَّاهُ ) جعله وليّا وتبعه( فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ) خبر لـ «من» إن كانت موصولة، أو جواب لها إن كانت شرطيّة، على تقدير: فشأنه إضلاله.

وقيل: الكتبة عليه تمثيل، أي: كأنّما كتب إضلال من يتولّاه عليه ورقم به، لظهور ذلك في حاله، فإنّ ثمرة ولايته إنّما هي أن يضلّ من تبعه عن طريق الجنّة.( وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ) بالحمل على ما يؤدّي إليه.

( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) )

ثمّ بيّن صحّة البعث بالبرهان الباهر، فقال:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ

٣٦٩

الْبَعْثِ ) من إمكانه، وكونه مقدورا لله تعالى. والريب أقبح الشكّ.( فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ ) أي: فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم، فإنّا خلقناكم( مِنْ تُرابٍ ) بخلق آدم منه، أو الأغذية الّتي يتكوّن منها المنّي( ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) من منيّ. من النطف، وهو الصبّ.( ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ) قطعة من الدم جامدة( ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ ) قطعة صغيرة من اللحم. وهي في الأصل قدر ما يمضغ.( مُخَلَّقَةٍ ) مسوّاة ملساء لا نقص فيها ولا عيب، أو تامّة، أو مصوّرة( وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) وغير مسوّاة، أو ساقطة، أو غير مصوّرة. يقال: خلق العود إذا سوّاه وملّسه. وصخرة خلقاء: إذا كانت ملساء.

وقيل: إنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة: منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم، وطولهم وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم.

وإنّما نقلناكم من خلقة إلى خلقة ومن حال إلى حال( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ) بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا، وأنّ ما قبل التغيّر والفساد والتكوّن مرّة قبلها اخرى. وأنّ من قدر على خلق البشر من تراب أوّلا، ثمّ من نطفة ثانيا، ولا تناسب بين الماء والتراب، وقدر على أن يجعل النطفة علقة، وبينهما تباين ظاهر، ثمّ يجعل العلقة مضغة، والمضغة عظاما، مع عدم التناسب بين كلّ منهما، قدر على إعادة ما أبدأه، بل هذا ادخل في القدرة من تلك، وأهون في القياس.

وحذف المفعول إيماء إلى أنّ أفعاله هذه يتبيّن بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر والبيان، ولا يكتنهه الوصف.

( وَنُقِرُّ ) ونبقي( فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ ) أن نقرّه ونبقيه( إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) هو وقت الوضع( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) نصبه على الحال. ووحّده لأنّه في الأصل مصدر، كقولهم: رجل عدل ورجال عدل. أو لدلالته على الجنس. أو على تأويل كلّ واحد.

( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) أي: حال اجتماع كمال العقل والقوّة والتمييز، وتمام

٣٧٠

الخلق. جمع شدّة، كالأنعم جمع نعمة، كأنّها شدّة في الأمور. وقيل: هو من ألفاظ الجموع الّتي لم يستعمل لها واحد، كالأسدّة بمعنى العيوب، والقتود بمعنى خشب الرجل، وغير ذلك.

( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ) أي: يتوفّاه الله عند بلوغ الأشدّ أو قبله( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) أسوأ العمر وأحقره وأهونه. وهي حال الهرم والخرف.( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ) ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفوليّة، من ضعف البنية وسخافة العقل وقلّة الفهم، أي: يصير نسّاء بحيث إذا كسب علما في شيء زلّ عنه من ساعته، ونسي ما علمه، وأنكر ما عرفه، فلا يستفيد علما. قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة.

بيّن سبحانه أنّه كما قدر على أن يرقّيه في درجات الزيادة حتّى يبلغه حدّ التمام، فهو قادر على أن يجعله حتّى ينتهي به إلى الحالة السفلى. وفيه استدلال ثان على إمكان البعث، بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادّة، فإنّ من قدر على ذلك قدر على نظائره.

ثمّ ذكر سبحانه دلالة ثالثة على صحّة البعث، فقال:( وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ) ميّتة يابسة. من: همدت النار إذا صارت رمادا.( فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ ) هو المطر( اهْتَزَّتْ ) تحرّكت بالنبات. والاهتزاز شدّة الحركة في الجهات.( وَرَبَتْ ) وانتفخت( وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ ) صنف( بَهِيجٍ ) حسن رائق سارّ للناظر إليه. ولظهور هذه الدلالة على البعث، وكونها مشاهدة معاينة، كرّرها الله تعالى في كتابه.

( ذلِكَ ) إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة، وتحويله على أحوال متضادّة، وإحياء الأرض بعد موتها، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم البديعة، وأنواع اللطائف العجيبة. وهو مبتدأ خبره( بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ ) أي: بسبب أنّه الثابت الوجود في نفسه، الّذي به تتحقّق الأشياء( وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) وإلّا لـما أحيا النطفة والأرض الميّتة( وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) إيجادا وإفناء، لأنّ قدرته لذاته الّذي

٣٧١

نسبته إلى الكلّ على سواء، فلمّا دلّت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات، لزم اقتداره على إحياء كلّها.

( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ) فإن التغيّر من مقدّمات الانصرام وطلائعه( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) بمقتضى وعده الّذي لا يقبل الخلف، فلا بدّ من أن يفي به.

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) )

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) كرّره للتأكيد، كسائر الأقاصيص، ولما نيط به من الدلالة بقوله:( وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ) على أنّه لا سند له من استدلال أو وحي، فإنّ المراد بالعلم هو العلم الضروري، وبالهدى الاستدلال والنظر الّذي يهدي إلى المعرفة، وبالكتاب المنير الوحي، أي: يجادل بظنّ وتخمين، لا بأحد هذه الثلاثة.

وقيل: الآية الأولى(١) في المقلّدين، والثانية في المقلّدين. وعن ابن عبّاس: أنّه أبو جهل بن هشام.

وفي الآية دلالة على أنّ الجدال بالعلم صواب، وبغير العلم خطأ، لأنّ الجدال بالعلم يدعو إلى اعتقاد الحقّ، وبغير العلم يدعو إلى اعتقاد الباطل.

__________________

(١) أي: قوله تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ) . الحجّ: ٣.

٣٧٢

( ثانِيَ عِطْفِهِ ) أي: متكبّرا، فإنّ ثني العطف(١) كناية عن الكبر والخيلاء، كليّ الجيد وتصعير الخدّ. يقال: ثنى فلان عطفه، إذا أمال جانبيه إلى اليمين والشمال. أو كناية عن الإعراض عن الحقّ. فالمعنى: معرضا عن الحقّ استخفافا به.( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) علّة للجدال.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء، على أنّ إعراضه عن الهدى المتمكّن منه ـ بالإقبال على الجدال الباطل ـ خروج من الهدى إلى الضلال، ولـمّا كان جداله مؤدّيا إلى الضلال، جعل كأنّه غرضه. ولـمّا كان الهدى معرضا له، فتركه وأعرض عنه، وأقبل على الجدال بالباطل، جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال.

فعلى هذا التأويل ؛ لا يرد: ما كان غرضه من جداله الضلال عن سبيل الله، فكيف علّل به؟ وما كان أيضا مهتديا حتّى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال.

( لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ) وهو ما أصابه يوم بدر من الصغار والقتل( وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ) المحرق. وهو النار.

( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ) على الالتفات. أو إرادة القول، أي: يقال له يوم القيامة ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي.( وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) في تعذيبهم، لأنّ الله لا يعاقب ابتداء، ولا يزيد على الجزاء، بل على طريق العدالة. أو لأنّ عدله في معاقبته الفجّار، وإثابته الأبرار. والمبالغة لكثرة العبيد.

روي عن ابن عبّاس: أنّ من الأعاريب قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة، فكان أحدهم إذا صحّ جسمه، ونتجت فرسه مهرا(٢) سريّا، وولدت امرأته غلاما سويّا، وكثر ماله وماشيته، قال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلّا خيرا، واطمأنّ به. وإن كان

__________________

(١) العطف: جانب كلّ شيء. والجيد: العنق. وصعّر خدّه: أماله عن النظر إلى الناس. يقال: مرّ ثاني عطفه، أي: لاويا عنقه، ومائلا بخدّه عن النظر إلى الناس، متكبّرا معرضا.

(٢) المهر: ولد الفرس. والسريّ: الجيّد من كلّ شيء.

٣٧٣

الأمر بخلافه قال: ما أصبت في هذا الدين إلّا شرّا. فنزلت :

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) )

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ) على طرف من الدين، لا في وسطه وقلبه. وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم، لا على سكون وطمأنينة وثبات فيه، كالّذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحسّ بظفر اطمأنّ وقرّ، وإلّا انهزم وفرّ.

( فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ ) عافية وخصب وكثرة مال( اطْمَأَنَ ) على عبادته( بِهِ ) بذلك الخير( وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ ) اختبار بسقم وقلّة مال وجدب( انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ) انصرف إلى وجهه الّذي توجّه منه. يعني: رجع عن دينه إلى الكفر.

وعن أبي سعيد الخدري: أنّ يهوديّا أسلم فأصابته مصائب، فتشاءم بالإسلام، فأتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أقلني. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الإسلام لا يقال». فنزلت هذه الآية.

( خَسِرَ الدُّنْيا ) بذهاب عصمته، وإباحة قتله وأخذ أمواله بارتداده( وَالْآخِرَةَ ) بحبوط عمله ودخوله في النار أبدا. وقيل: خسر في الدنيا العزّ والغنيمة، وفي الآخرة الثواب والجنّة.( ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) إذ لا خسران مثله.

( يَدْعُوا ) هذا المرتدّ( مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ) أي: يعبد جمادا

٣٧٤

لا يضرّ بنفسه ولا ينفع( ذلِكَ ) الّذي فعل( هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) عن المقصد. مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالّا.

( يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ ) بكونه معبودا يوجب القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة( أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ) الّذي يتوقّع من عبادته. وهو الشفاعة والتوسّل بها إلى الله. واللام معلّقة لـ «يدعو» من حيث إنّه بمعنى يزعم، والزعم قول مع اعتقاد. أو اللام داخلة على الجملة الواقعة مقولا، إجراء له مجرى: يقول، أي: يقول الكافر ذلك بدعاء وصراخ حين يرى استضراره به، وذلك بعد دخوله النار بعبادة الأصنام، واليأس من شفاعتهنّ. أو مستأنفة على أن «يدعو» تكرير للأول. كأنّه قال: يدعو من دون الله ويدعو. ثم قال: لمن ضرّه إلخ. وحينئذ «من» مبتدأ خبره( لَبِئْسَ الْمَوْلى ) الناصر( وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) الصاحب المعاشر المخالط. يعني: الصنم، كقوله:( فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) (١) .

( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) )

ولـمّا ذكر الشاكّ في الدّين بالخسران، ذكر ثواب المؤمنين على الإيمان، فقال:( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) من إثابة الموحّد الصّالح، وعقاب المشرك الطالح، لا يدفعه دافع، ولا

__________________

(١) الزخرف: ٣٨.

٣٧٥

يمنعه مانع.

ثم قال:( مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ ) أي: لن ينصر رسوله( فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) وهذا كلام فيه اختصار. والمعنى: إن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة، فمن كان يظنّ من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك، ويتوقّع ذلك، ويغيظه أنّه يظفر بمطلوبه( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ) أي: فليستقص وسعه، وليستفرغ مجهوده في إزالة غيظه أو جزعه، بأن يفعل كلّ ما يفعله الممتلئ غيضا أو المبالغ جزعا، حتّى يمدّ حبلا إلى سماء بيته، أي: سقفه( ثُمَّ لْيَقْطَعْ ) ليختنق. من: قطع إذا اختنق، فإن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه. ومنه قيل للبهر: القطع. وهو العلّة الّتي تمنع التنفّس. أو فليمدد حبلا إلى السماء الدنيا، ثمّ ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانها، فيجتهد في دفع نصره. أو ليصعد إلى السماء، فليقطع الوحي أن ينزل على الرسول. وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر: ليقطع بكسر اللام على أصله.

( فَلْيَنْظُرْ ) فليتصوّر في نفسه أنّه إن فعل ذلك( هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ) فعله ذلك.

وسمّاه كيدا لأنّه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره، فهو منتهى ما يقدر عليه.

أو على سبيل الاستهزاء، لأنّه لم يكد به محسوده، بل إنّما كاد به نفسه. والمراد: ليس في يده إلّا ما ليس بمذهب.( ما يَغِيظُ ) غيظه، أو الّذي يغيظه. والمعنى: لا يتهيّأ له إزالة ما يغيظ من أمر الرسول ونصره على أعدائه، وإن سعى به غاية سعيه ونهاية جهده.

قيل: نزلت في قوم من المسلمين استبطئوا نصر الله، لاستعجالهم وشدّة غيظهم على المشركين.

وقيل: المراد بالنصر الرزق، والضمير لـ «من». والمعنى: أنّ الأرزاق بيد الله، لا تنال إلّا بمشيئته، ولا بدّ للعبد من الرضا بقسمته. فمن ظنّ أنّ اللهعزوجل غير رازقه، وليس به صبر واستسلام، فليبلغ غاية الجزع، وهو الاختناق، فإنّ ذلك لا يقلب القسمة، ولا يردّه مرزوقا.

٣٧٦

( وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) )

ثمّ بيّن سبحانه أنّه نزّل الآيات حجّة على الخلق، فقال:( وَكَذلِكَ ) ومثل ذلك الإنزال( أَنْزَلْناهُ ) أنزلنا القرآن كلّه( آياتٍ بَيِّناتٍ ) واضحات الدلالة على التوحيد وسائر أحكام الشرائع( وَأَنَّ اللهَ ) ولأنّ الله( يَهْدِي ) بالقرآن( مَنْ يُرِيدُ ) من الّذين يعلم أنّهم يؤمنون. أو يثبت الّذين آمنوا ويزيدهم هدى.

وقيل: عطف على مفعول «أنزلنا». ومعناه: أنزلنا إليك أنّ الله يهدي إلى الدين من يريد. أو إلى النبوّة. أو إلى الثواب.

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ) يقضي بين المؤمنين والكافرين بأنواعهم( يَوْمَ الْقِيامَةِ ) بإظهار المحقّ منهم على المبطل. أو بالجزاء، فيجازي كلّا ما يليق به، ويدخله المحلّ المعدّ له. فعلى هذا، الفصل بينهم في الأحوال والأماكن. وإنّما أدخلت «إنّ» على كلّ واحد من جزئي الجملة لمزيد التأكيد.( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) عليم به، مراقب لأحواله.

٣٧٧

( أَلَمْ تَرَ ) ألم تعلم؟ الخطاب للرسول، والمراد أمّته. أو الخطاب إلى كلّ واحد من المكلّفين.( أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ ) يتسخّر لقدرته، لا يتأنّى عن تدبيره( مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) أو يدلّ بذلّته على عظمة مدبّره. و «من» يجوز أن يعمّ أولي العقل وغيرهم على التغليب. فيكون قوله:( وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ ) إفرادا لها بالذكر، لشهرتها، واستبعاد ذلك منها. سمّيت مطاوعتها وذلّتها له فيما يحدث فيها من أفعاله، ويجريها عليه من تدبيره، وتسخيره لها: سجودا له، تشبيها لمطاوعتها بإدخال أفعال المكلّف في باب الطاعة والانقياد، وهو السجود الّذي كلّ خضوع دونه.

( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) عطف على «يسجد» بتقدير فعل مضمر يدلّ عليه المعطوف عليه، أي: ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة. ولا يجوز أن يكون «يسجد» الأوّل عامله، لأنّه قد أسند على سبيل العموم إلى من في الأرض من الإنس والجنّ أوّلا، فإسناده إلى كثير منهم آخرا مناقضة. وأيضا تخصيص الكثير يدلّ على خصوص المعنى المسند إليهم، وما هو إلّا سجود الطاعة والعبادة. ولا يفسّر بمعنى الطاعة والعبادة في حقّ هؤلاء، وفي حقّ غيرهم بمعنى الانقياد والمطاوعة، لأنّ اللفظ الواحد لا يصحّ استعماله في حالة واحدة على معنيين مختلفين.

ويجوز أن يكون رفعه على الابتداء، وخبره محذوف دلّ عليه خبر قسيمه، نحو: حقّ له الثواب.

( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ) بكفره وإبائه عن الطاعة. ويجوز أن يجعل «وكثير» تكريرا للأوّل، مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب، فيعطف «كثير» على «كثير» ثمّ يخبر عنهم بقوله:( حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ) . كأنّه قيل: وكثير وكثير من الناس حقّ عليهم العذاب.

( وَمَنْ يُهِنِ اللهُ ) بأن يحكم بشقاوته، ويدخله النار لأجل عناده وعتوّه( فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ) يكرمه بالسعادة وبإدخال الجنّة، لأنّه لا يملك العقوبة والمثوبة سواه( إِنَّ اللهَ

٣٧٨

يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) من الإكرام والإنعام، والإهانة والانتقام، بالفريقين من المؤمنين والكافرين.

( هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) )

روي: أنّ اليهود والمؤمنين تخاصموا، فقال اليهود: نحن أحقّ بالله، وأقدم منكم كتابا ونبيّا. وقال المؤمنون: نحن أحقّ بالله، آمنّا بمحمد ونبيّكم، وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبيّنا، ثمّ كفرتم به حسدا. فنزلت بعد الآيات السابقة بيانا لـما أعدّه لكلّ من الفريقين:( هذانِ ) إشارة إلى فرقة المؤمنين وفرقة الكافرين( خَصْمانِ ) أي: فوجان، أو فريقان مختصمان. والخصم مصدر وصف به.( اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) في دينه، أو في ذاته وصفاته. والتثنية باعتبار اللفظ، والجمع باعتبار المعنى، كقوله تعالى:( وَمِنْهُمْ

٣٧٩

مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ) (١) . ولو عكس وقيل: هؤلاء خصمان، لكان جائزا أيضا.

قيل: نزلت في ستّة نفر من المؤمنين والكافرين، تبارزوا يوم بدر، وهم: حمزة بن عبد المطلّب قتل عتبة بن ربيعة، وعليّعليه‌السلام قتل الوليد بن عتبة، وعبيدة بن الحرث بن عبد المطّلب قتل شيبة بن ربيعة. رواه أبو ذرّ الغفاري وعطاء. وكان أبو ذرّ يقسم بالله تعالى إنّها نزلت فيهم. ورواه أيضا البخاري في الصحيح(٢) .

( فَالَّذِينَ كَفَرُوا ) فصل لخصومتهم. وهو المعنيّ بقوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) (٣) .( قُطِّعَتْ لَهُمْ ) قدّرت لهم على مقادير جثثهم( ثِيابٌ مِنْ نارٍ ) نيران تحيط بهم وتشتمل عليهم، كما تقطع الثياب الملبوسة. ويجوز أن تظاهر على كلّ واحد منهم تلك النيران، كالثياب المظاهرة على اللابس بعضها فوق بعض.

ونحوه:( سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ ) (٤) . ويؤيّده ما روي عن ابن عبّاس: أنّهم حين صاروا إلى جهنّم البسوا مقطّعات النيران. وهي: الثياب القصار. وعن سعيد بن جبير: يجعل لهم ثياب نحاس من نار. وهي أشدّ ما يكون حرّا.

( يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ) حال من الضمير في «لهم». أو خبر ثان. والحميم: الماء الحارّ.

( يُصْهَرُ بِهِ ) يذاب به. من الصهر، وهو إذابة الشيء.( ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ) أي: يؤثّر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم، فتذاب به أحشاؤهم كما تذاب به جلودهم. عن ابن عبّاس: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا

__________________

(١) محمّد: ١٦.

(٢) صحيح البخاري ٦: ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٣) الحجّ: ١٧.

(٤) إبراهيم: ٥٠.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609