زبدة التفاسير الجزء ٤

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609
المشاهدات: 15150
تحميل: 3643


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 609 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15150 / تحميل: 3643
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 4

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-06-X
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثمّ أكّد سبحانه ما قدّمه من أدلّة التوحيد، فقال:( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ) لتقدّسه عن مماثلة أحد( وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ ) يساهمه في الألوهيّة( إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ) جزاء شرط محذوف، لدلالة ما قبله عليه، أي: لو كان معه آلهة كما تقولون لذهب كلّ واحد منهم بما خلقه، أي: لانفرد كلّ واحد من الآلهة بخلقه الّذي خلقه واستبدّ به، ولرأيتم ملك كلّ واحد منهم متميّزا عن ملك الآخرين.

( وَلَعَلا ) ولغلب( بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) ووقع بينهم التجاذب والتحارب، وظهر التغالب، كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون، فلم يكن بيده وحده ملكوت كلّ شيء. واللازم باطل بالإجماع والاستقراء، وقيام البرهان على استناد جميع الممكنات إلى واجب واحد، فما كان معه من إله.( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) من الولد والشريك، لـما سبق من الدليل على فساده.

( عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ) خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عالم ما غاب وما حضر، فلا يخفى عليه شيء. وقد جرّ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص على الصفة. وهو دليل آخر على نفي الشريك، بناء على توافقهم في أنّه المنفرد بذلك. ولهذا رتّب عليه قوله:( فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) بالفاء.

روي: أنّه سبحانه أخبر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن له في أمّته نقمة، ولم يخبره أفي حياته أم بعد وفاته، فأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ) «ما» والنون مؤكّدتان، أي: إن كان لا بدّ من أن ترينّي( ما يُوعَدُونَ ) من العذاب في الدنيا والآخرة.

٤٦١

( رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) قرينا لهم في العذاب، فأخرجني من بينهم إذا أردت إحلال العذاب بهم. وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان معصوما من نزول العذاب عاجلا وآجلا، لكن صدور هذا القول منه لأنّه يجوز أن يسأل العبد ربّه ما علم أن يفعله، وأن يستعيذ به ممّا علم أنّه لا يفعله، هضما لنفسه، وإظهارا للعبوديّة، وتواضعا لربّه، وإخباتا له. ومنه استغفاره إذا قام من مجلسه سبعين مرّة أو مائة مرّة. وقول إبراهيمعليه‌السلام :( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) (١) .

وتكرير النداء، وتصدير كلّ واحد من الشرط والجزاء، حثّ على فضل تضرّع وجؤار(٢) .

( وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ ) لكنّا نؤخّره، علما بأنّ بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون. أو لأنّا لا نعذّبهم وأنت فيهم. قيل: ردّ لإنكار هم الموعود، واستعجالهم له استهزاء به. وقيل: قد أراه، وهو قتل بدر أو فتح مكّة.

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن أبي صالح، عن ابن عبّاس وجابر بن عبد الله أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في حجّة الوداع وهو بمعنى: «ولا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض، وأيم الله لئن فعلتموها لتعرفنّي في كتيبة يضاربونكم. قال: فغمز من خلفه منكبه الأيسر، فالتفت فقال: أو عليّ. فنزلت الآيات المذكورة»(٣) .

( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) )

__________________

(١) الشعراء: ٨٧.

(٢) جأر يجأر جؤارا إلى الله: رفع صوته بالدعاء وتضرّع.

(٣) شواهد التنزيل ١: ٥٢٦ ح ٥٥٩.

٤٦٢

ثمّ أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر إلى أن ينقضي الأجل المضروب للعذاب، فقال:( ادْفَعْ بِالَّتِي ) بالخصلة أو الفعلة الّتي( هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) وهي الصفح عن إساءة المسيء، والإحسان في مقابلتها.

قيل: هي منسوخة بآية السيف(١) . وقيل: محكمة، لأنّ المداراة محثوث عليها، لكن بحيث لم يؤدّ إلى وهن في الدين.

وقيل: ادفع باطلهم ببيان الحجج على ألطف الوجوه وأوضحها، وأقربها إلى الإجابة والقبول.

وعن ابن عبّاس: هي كلمة التوحيد، والسيّئة الشرك. وقيل: هو الأمر بالمعروف، والسيّئة المنكر. وهو أبلغ من: ادفع بالحسنة السيّئة، لـما فيه من التنصيص على التفصيل.

( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ ) أي: بما يصفونك به. أو بوصفهم إيّاك على خلاف حالك، وأقدر على جزائهم، فكل إلينا أمرهم.

( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ) ونزعاتهم ووساوسهم. وأصل الهمز: النخس. ومنه: مهماز(٢) الرائض. شبّه حثّهم الناس على المعاصي بهمز الراضة للدوابّ

__________________

(١) التوبة: ٥ و ٢٩.

(٢) المهماز: عصا في رأسها حديدة تنخس بها الدابّة. والرائض: معلّم الدوابّ وسائسها.

٤٦٣

حثّا لها على المشي. ونحو الهمز الأزّ في قوله:( تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ) (١) . والجمع للمرّات، أو لتنوّع الوساوس، أو لتعدّد المضاف إليه.

( وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) يحوموا حولي في شيء من الأحوال. وقيل: حال الصلاة. وعن ابن عبّاس: عند قراءة القرآن. وعن عكرمة: عند حلول الأجل. ووجه التخصيص أنّها أقوى الأحوال بأن يخاف عليه.

( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) متعلّق بـ «يصفون» أي: لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت. وما بينهما اعتراض، لتأكيد الإغضاء عنهم بالاستعاذة بالله من الشيطان أن يزلّه عن الحلم، ويغريه على الانتقام منهم. أو بقوله:( وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) (٢) .

( قالَ ) تحسّرا عند الموت على ما فرّط فيه من الإيمان والطاعة لـمّا اطّلع على حقيقة الأمر( رَبِّ ارْجِعُونِ ) ردّوني إلى الدنيا. والواو لتعظيم المخاطب، كقوله: فإن شئت حرّمت النساء سواكم(٣) وقوله: ألا فارحموني يا إله محمّد(٤) وكما قال:( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ ) (٥) .

( لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) في الإيمان الّذي تركته، أي: لعلّي آتي بالإيمان وأعمل فيه، كما تقول: لعلّي أبني على أسّ. وقيل: فيما تركت من المال، أو في الدنيا. وقال الصادقعليه‌السلام : «إنّه في مانع الزكاة، يسأل الرجعة عند الموت».

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: أنرجعك إلى الدنيا؟ فيقول :

__________________

(١) مريم: ٨٣.

(٢) المؤمنون: ٩٠.

(٣) للعرجي. وعجزه: وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا. والنقاخ: الماء العذب البارد. والبرد :النوم.

(٤) وعجزه: فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل.

(٥) القصص: ٩.

٤٦٤

إلى دار الهموم والأحزان! بل قدوما إلى الله. وأمّا الكافر فيقول: ربّ ارجعون».

( كَلَّا ) ردع عن طلب الرجعة، وإنكار واستبعاد لها( إِنَّها كَلِمَةٌ ) يعني قوله:( رَبِّ ارْجِعُونِ ) إلى آخره. والكلمة: الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض.( هُوَ قائِلُها ) لا محالة، لا يسكت عنها، لتسلّط الحسرة عليه، واستيلاء الندم، ولا فائدة له في ذلك.

( وَمِنْ وَرائِهِمْ ) أمامهم. والضمير للجماعة.( بَرْزَخٌ ) حائل بينهم وبين الرجعة. وهو الزمان الّذي يكون بين الموت والبعث، فمن مات فقد وقع في البرزخ.( إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يوم القيامة. وهو إقناط كلّي عن الرجوع إلى الدنيا، لـما علم أنّه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا، وإنّما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة.

وفي الآية دلالة على أنّ أحدا لا يموت حتّى يعرف منزلته عند الله تعالى، وأنّه من أهل الثواب أو العذاب.

( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) )

٤٦٥

ثمّ بيّن سبحانه حال الفريقين يوم البعث، فقال:( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ ) لقيام الساعة بالصوت الهائل العظيم. وهو شبه قرن لنفخة إسرافيلعليه‌السلام . وفي الحديث: «كيف أنعم وصاحب الصور التقم الصور، أو التقمه».

وقيل: هي جمع الصورة. والمعنى: إذا أعيدت الأرواح إلى الأبدان.( فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ) ينفعهم، لزوال التعاطف والتراحم من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة، بحيث يفرّ المرء من أخيه، وأمّه وأبيه، وصاحبته وبنيه. أو يفتخرون بها.( يَوْمَئِذٍ ) كما ينتفعون اليوم بها. ويحتمل أن تقاطع الأنساب يقع بينهم حيث يتفرّقون معاقبين ومثابين، فتلغوا الأنساب وتبطل.

( وَلا يَتَساءَلُونَ ) ولا يسأل بعضهم بعضا عن حاله وخبره، لاشتغاله بنفسه. وهو لا يناقض قوله:( يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ ) (١) .( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) (٢) . لأنّه عند النفخة، وذلك بعد المحاسبة، فإنّ يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، ففيه أزمنة وأحوال مختلفة، يتساءلون ويتعارفون في بعضها، وفي بعضها لا يفطنون لذلك، لشدّة الهول والفزع. أو التناكر يكون عند النفخة الأولى، فإذا كانت الثانية قاموا من القبور فتعارفوا وتساءلوا. أو عدم التساؤل يكون في القيامة، والتساؤل بعد دخول أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار.

( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ) جمع موزون. وهي الموزونات من عقائده وأعماله.

يعني: من كانت له عقائد صحيحة وأعمال صالحة، يكون لها وزن وقدر عند الله. أو جمع ميزان، كمواعيد جمع ميعاد. وهو القرسطون(٣) الّذي توزن به الأعمال.( فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الفائزون بالنجاة والدرجات.

__________________

(١) يونس: ٤٥.

(٢) الصافّات: ٢٧.

(٣) القرسطون معرّب: كرستون. فارسيّة بمعنى الميزان الكبير، فرهنگ فارسى للدكتور معين ٣: ٢٩٤١.

٤٦٦

( وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) أي: ومن لم يكن له ما يكون له وزن. وهم الكفّار، لقوله تعالى:( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ) (١) .( فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) غبنوها، حيث ضيّعوا زمان استكمالها، وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها( فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ ) بدل من «خسروا أنفسهم». أو خبر ثان لـ «أولئك». أو خبر مبتدأ محذوف.

( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) تحرقها. واللفح كالنفح، إلّا أنّ اللفح أشدّ تأثيرا.( وَهُمْ فِيها كالِحُونَ ) من شدّة الاحتراق. والكلوح تقلّص الشفتين عن الأسنان، كما ترى الرؤوس المشويّة.

عن مالك بن دينار: كان سبب توبة عتبة الغلام أنّه مرّ في السوق برأس أخرج من التنّور، فغشي عليه ثلاثة أيّام ولياليهنّ.

وروي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «تشويه النار فتقلّص شفته العليا حتّى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتّى تبلغ سرّته».

( أَلَمْ تَكُنْ ) أي: يقال لهم: ألم تكن( آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ) تأنيب وتذكير لهم بما استحقّوا هذا العذاب لأجله.

( قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا ) استعلت علينا سيّئاتنا الّتي أوجبت لنا الشقاوة. وهي: سوء العاقبة والمضرّة اللاحقة. وقرأ حمزة والكسائي: شقاوتنا بالفتح، كالسعادة( وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ) عن الحقّ. ولـمّا كانت سيّئاتهم الّتي شقوا بها سبب شقاوتهم سمّيت شقاوة توسّعا. ومن أكبر الشقاء أن يترك عبادة الله إلى عبادة غيره، ويترك الأدلّة ويتّبع الهوى.

( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها ) من النار( فَإِنْ عُدْنا ) إلى التكذيب( فَإِنَّا ظالِمُونَ ) لأنفسنا.

( قالَ اخْسَؤُا ) اسكتوا سكوت هوان( فِيها ) في النار، فإنّها ليست مقام سؤال.

__________________

(١) الكهف: ١٠٥.

٤٦٧

يعني: ذلّوا فيها وانزجروا، كما تنزجر الكلاب إذا زجرت. من: خسأت الكلب إذا زجرته، فخسأ بنفسه. لازم ومتعدّ، فإن أصل هذه اللفظة زجر الكلاب، وإذا قيل ذلك للإنسان يكون للإهانة المستحقّة للعقوبة.( وَلا تُكَلِّمُونِ ) في رفع العذاب، فإنّه لا يرفع ولا يخفّف أبدا. أو لا تكلّمون رأسا.

وعن ابن عبّاس: إنّ لهم ستّ دعوات: إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة:( رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا ) (١) .

فيجابون:( حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ) (٢) .

فينادون ألفا:( رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ) (٣) .

فيجابون:( ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ) (٤) .

فينادون ألفا:( يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ) (٥) .

فيجابون:( إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ) (٦) .

فينادون ألفا:( رَبَّنا أَخِّرْنا ) (٧) فيجابون:( أَوَلَمْ تَكُونُوا ) (٨) .

فينادون ألفا:( رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً ) (٩) .

فيجابون:( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ) (١٠) .

فينادون ألفا:( رَبِّ ارْجِعُونِ ) (١١) .

__________________

(١) السجدة: ١٢ ـ ١٣.

(٢) السجدة: ١٢ ـ ١٣.

(٣، ٤) غافر: ١١ ـ ١٢.

(٥، ٦) الزخرف: ٧٧.

(٧، ٨) إبراهيم: ٤٤.

(٩، ١٠) فاطر: ٣٧.

(١١) المؤمنون: ٩٩.

٤٦٨

فيجابون:( اخْسَؤُا فِيها ) .

وهو آخر كلام يتكلّمون به، ثمّ لا كلام بعد ذلك إلّا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب، لا يفهمون ولا يفهمون.

( إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨) )

ثمّ بيّن علّة استحقاقهم الهوان الشديد والعذاب الأليم بقوله:( إِنَّهُ ) إنّ الشأن( كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي ) يعني: المؤمنين. وقيل: هم أهل الصفّة خاصّة.( يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) يعني: يدعون بهذه الدعوات في الدنيا

٤٦٩

طلبا لـما عندي من الثواب.

( فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ) هزؤا. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالضمّ. وهما مصدر سخر كالسخر، إلّا أن في ياء النسبة زيادة قوّة في الفعل ومبالغة، كما قيل: الخصوصيّة في الخصوص. وعند الكوفيّين المكسور بمعنى الهزء، والمضموم من السخرة بمعنى الانقياد والعبوديّة، أي: تسخّروهم واستعبدوهم.( حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي ) من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم على تلك الصفة، أي: تركتم أن تذكروني لاشتغالكم بالسخريّة منهم.

فنسب الإنساء إلى عبادة المؤمنين وإن لم يفعلوا، لـمّا كانوا السبب في ذلك.( وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ) استهزاء بهم.

( إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ ) يعني: يوم الجزاء( بِما صَبَرُوا ) على أذاكم( أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ ) أي: فوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به. وهو ثاني مفعولي «جزيتهم».

وقرأ حمزة والكسائي بالكسر استئنافا، أي: قد فازوا حيث صبروا، فجزوا بصبرهم أحسن الجزاء( قالَ ) أي: الله، أو الملك المأمور بسؤالهم، توبيخا وتبكيتا لمنكري البعث. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: قل، على الأمر للملك، أو لبعض رؤساء أهل النار.( كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) أحياء أو أمواتا في القبور( عَدَدَ سِنِينَ ) تمييز لـ «كم».

( قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) استقصارا لمدّة لبثهم في الدنيا أو القبور بالنسبة إلى خلودهم في النار. أو لأنّها كانت أيّام سرورهم، وأيّام السرور قصار، كما أنّ أيّام المحنة مستطيلة. أو لأنّها منقضية، والمنقضي في حكم المعدوم.

( فَسْئَلِ الْعادِّينَ ) الحسّاب الّذين يتمكّنون من عدّ أيّامها إن أردت تحقيقها، فإنّا لـما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكّرها وإحصائها، إلّا أنّا نستقلّها ونحسبها يوما أو بعض يوم. أو الملائكة الّذين يعدّون أعمار الناس، ويحصون أعمالهم.

ويدلّ على أنّ المراد مدّة لبثهم في القبور، ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: أنساهم

٤٧٠

ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين.

فصدّقهم الله في تقالهم(١) لسني لبثهم في الدنيا، ووبّخهم على غفلتهم الّتي كانوا عليها، فقال:( قالَ ) أي: الله أو الملك. وقرأ الكوفيّون: قل( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً ) لأنّ مكثكم في الدنيا أو في القبور وإن طال، فإنّه متناه قليل بالإضافة إلى طول مكثكم في عذاب جهنّم( لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) صحّة ما أخبرناكم به. أو قصر أعماركم في الدنيا، وطول مكثكم في الآخرة في العذاب، لـمّا اشتغلتم بالكفر والمعاصي، وآثرتم الفاني على الباقي.

ثمّ وبّخهم على تغافلهم بقوله:( أَفَحَسِبْتُمْ ) معاشر الجاحدين للبعث والنشور، الظانّين دوام الدنيا( أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) حال أو مفعول له، أي: عابثين أو للعبث، أي: لم يدعنا إلى خلقكم إلّا حكمة اقتضت ذلك، وهي أن نتعبّدكم ونكلّفكم المشاقّ، من الطاعات وترك المعاصي، ثمّ نرجعكم من دار التكليف إلى دار الجزاء، فنثيب المحسن ونعاقب المسيء. وهو كالدليل على البعث. ومثل ذلك قوله:( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٢) .

( وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) معطوف على( أَنَّما خَلَقْناكُمْ ) أو «عبثا». وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم.

( فَتَعالَى اللهُ ) عمّا يصفه به الجهّال من الشريك والولد والصاحبة. أو من أن يعمل عبثا.( الْمَلِكُ الْحَقُ ) الّذي يحقّ له الملك مطلقا، لأنّ ما عداه مملوك بالذات مالك بالعرض، ومن وجه دون وجه، وفي حال دون حال، ولأنّ كلّ شيء منه وإليه. أو الثابت الّذي لا يزول هو بنفسه، ولا يزول ملكه.

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) فإنّ ما عداه عبيد له( رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) الّذي يحيط بجميع

__________________

(١) تقالّ الشيء: عدّه قليلا.

(٢) الذاريات: ٥٦.

٤٧١

الأجرام، وينزل منه محكمات الأقضية والأحكام. ولذلك وصفه بالكرم، وهو كثرة الخير. أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.

( وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) أي: يعبده( لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ) صفة اخرى لـ «إلها» لازمة له، نحو قوله:( يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) (١) . وبناء الحكم عليه، تنبيها على أنّ التديّن بما لا دليل عليه ممنوع، فضلا عمّا دلّ الدليل على خلافه. ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء لذلك، كقولك: من أحسن إلى زيد لا أحقّ بالإحسان منه، فالله مثيبه.

( فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) فهو مجاز له مقدار ما يستحقّه( إِنَّهُ ) إن الشأن( لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ) وضع «الكافرون» موضع الضمير، لأنّ «من يدع» في معنى الجمع. وكذلك «حسابه».

واعلم أنّه سبحانه بدأ السورة بتقرير فلاح المؤمنين، وختمها بنفي الفلاح عن الكافرين، فشتّان ما بين الفاتحة والخاتمة.

ولـمّا حكى الله سبحانه أحوال الكفّار أمر رسوله بأن يتبرّأ منهم، وأن ينقطع إليه عمّا سواه ويسترحمه، فقال:( وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ ) ذنوب عبادك( وَارْحَمْ ) وأنعم على خلقك( وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) أفضل المنعمين، وأكثرهم نعمة، وأوسعهم فضلا.

__________________

(١) الأنعام: ٣٨.

٤٧٢

(٢٤)

سورة النور

وهي أربع وستّون آية.

عن أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ مؤمن ومؤمنة، فيما مضى وفيما بقي».

وروى الحاكم أبو عبد الله في الصحيح بالإسناد عن عائشة قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تنزلوهنّ الغرف، ولا تعلّموهنّ الكتابة، وعلّموهنّ المغزل وسورة النور»(١) . يعني: النساء.

وروى عبد الله بن مسكان، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «حصّنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة سورة النور، وحصّنوا بها نساءكم، فإنّ من أدمن قراءتها في كلّ يوم أو في كلّ ليلة، لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتّى يموت، فإذا مات شيعه إلى قبره سبعون ألف ملك، يدعون ويستغفرون الله له حتّى يدخل إلى قبره».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) )

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٢: ٣٩٦.

٤٧٣

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة المؤمنين بأنّه لم يخلق الخلق للعبث، بل للأمر والنهي، ابتدأ هذه السورة بذكر الأوامر والنواهي وبيان الشرائع، فقال:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ ) أي: هذه سورة. أو فيما أوحينا إليك سورة.( أَنْزَلْناها ) صفتها، أي: أنزلها جبرئيل بأمرنا( وَفَرَضْناها ) وفرضنا ما فيها من الأحكام. وأصل الفرض القطع، أي :جعلناها واجبة مقطوعا بها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد الراء، لكثرة فرائضها، أو المفروض عليهم، أو للمبالغة في إيجابها.

( وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ ) واضحات الدلالة على وحدانيّتنا وكمال قدرتنا، أو حدودنا وأحكامنا الّتي شرعنا فيها( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) لكي تتّعظوا وتتّقوا بما فيها.

( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) )

ثمّ شرع في بيان الأحكام، وابتدأ بحكم الزنا الّذي هو أفحش الفواحش، فقال:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ) مرفوعان بالابتداء، وخبرهما محذوف عند الخليل وسيبويه، أي: ممّا فرضنا أو أنزلنا حكمه حكم الزانية والزاني، وهو الجلد. ويجوز أن يرفعا بالابتداء، والخبر قوله:( فَاجْلِدُوا ) أيّها الحكّام( كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) . وعلى الأوّل جملة اخرى معطوفة على الأولى. والثاني قول المبرّد.

وعلى هذا لـمّا كان المبتدأ متضمّنا معنى الشرط، لأنّ اللام بمعنى اسم الموصول، كما تقول: من زنى فاجلدوه، أتى بالفاء، أي: الّتي زنت والّذي زنى فاجلدوهما.

٤٧٤

وإنّما قدّم الزانية، لأنّ الزنا في الأغلب يكون بتعرّضها للرجل وعرض نفسها عليه، ولأنّ مفسدته تتحقّق بالإضافة إليها. والجلد ضرب الجلد بحيث لا يتجاوز ألمه إلى اللحم، فلا يجوز التبريح(١) .

وهذا الحكم مخصّص بالسنّة والكتاب. أمّا السنّة فبالزيادة تارة، كما في حقّ البكر الذكر، فإنّه يزاد التغريب سنة، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام».

ومنعه أبو حنيفة. والخبر يبطل قوله. وكذا عمل الصحابة. وقوله: إنّ الآية ناسخة، ضعيف، لأنّ عدم ذكر التغريب ليس ذكرا لعدمه، لتكون ناسخة له. وفعل الصحابة متأخّر عن الآية، فكيف يكون التغريب منسوخا؟! وبالرجم تارة، كما في حقّ المحصن والمحصنة، فإنّ حدّهما الرجم. هذا إن قلنا بعدم ضمّ الجلد إلى الرجم، وإلّا فهو أيضا زيادة، وقيل: الضمّ في حقّ الشيخين خاصّة.

وقيل: عامّ. وهو الحقّ، لأنّ عليّاعليه‌السلام جلد سراقة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال: «جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وكانت سراقة شابّة، وفعلهعليه‌السلام حجّة.

والمراد بالمحصن من له فرج مملوك، بالعقد الدائم أو بملك اليمين، يغدو عليه ويروح. وبالمحصنة من لها فرج بالعقد الدائم، تغدو عليه وتروح. والبكر قيل: هو ما عدا المحصن. وقيل: من أملك ولم يدخل. والطلاق رجعيّا لا ينافي الإحصان مع بقاء العدّة، بخلاف البائن.

وعندنا لا جزّ على المرأة ولا تغريب. وأمّا الكتاب فينصّف الجلد في حقّ الأمة، لقوله تعالى:( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) (٢) . واختلف في العبد، فقيل: كالحرّ. وقيل: كالأمة. وهو الأقوى، للرواية المأثورة عن الأئمةعليهم‌السلام .

__________________

(١) التبريح: الشدّة والأذى. وبرّح به: أتعبه وجهده وآذاه أذى شديدا.

(٢) النساء: ٢٥.

٤٧٥

( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ ) رحمة وشفقة( فِي دِينِ اللهِ ) في طاعته وإقامة حدّه وحفظه، فتعطّلوه أو تسامحوا فيه. وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة(١) .( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) فإنّ الإيمان بالمبدأ والمعاد يقتضي الجدّ في طاعة الله، والاجتهاد في إقامة أحكامه وحدوده. وهو من باب التّهييج في إجراء الحكم، والتشديد في أمر الزنا وحسم مادّته، لينحفظ النسب، وتجري الأحكام الشرعيّة المترتّبة على أصولها. ولذلك قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا معشر الناس اتّقوا الزنا، فإنّ فيه ستّ خصال: ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة. فأمّا اللّاتي في الدنيا: فإنّه يذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر. وأمّا اللّاتي في الآخرة: فإنّه يوجب السخطة، وسوء الحساب، والخلود في النار».

وفي الآية دلالة على أنّه يضرب أتمّ الضرب، فلا ينقص من الحدّ شيء. ولا تجوز الشفاعة في إسقاطه. وفي الحديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: «يؤتى بوال نقص من الحدّ سوطا، فيقول: رحمة لعبادك. فيقول الله له: أأنت أرحم بهم منّي، فيؤمر به إلى النار.

ويؤتى بمن زاد سوطا، فيقول: لينتهوا عن معاصيك، فيؤمر به إلى النار».

( وَلْيَشْهَدْ ) وليحضر( عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) زيادة في التنكيل، فإنّ التفضيح قد ينكل أكثر ما ينكل التعذيب. وفي تسمية الحدّ العذاب دليل على أنّه عقوبة.

ويجوز أن يسمّى عذابا، لأنّه يمنع المعاودة، كما سمّي نكالا. وقيّد الطائفة بالمؤمنين، لئلّا يكون إقامة الحدّ مانعة للكفّار من الإسلام. ولذلك كره إقامته في أرض العدوّ.

والطائفة: الفرقة الحافّة حول الشيء. واختلف في كمّيتها.

فعن الباقرعليه‌السلام وابن عبّاس والحسن وغيرهم: أقلّها واحد.

وبه قال مجاهد. وقال عكرمة: اثنان. والزهري: ثلاثة. وفي رواية اخرى عن ابن عبّاس: أربعة. لأنّ بهذا العدد يثبت هذا الحدّ. وهو قريب، لكن قول الباقرعليه‌السلام أقوى. ويؤيّده أنّ الفرقة جمع أقلّه ثلاثة، والطائفة بعضها، فيكون واحدا. فمعنى الطائفة: النفس الّتي من شأنها أن تكون حافّة حول الشيء. ويدلّ

__________________

(١) أي: همزة: رأفة.

٤٧٦

عليه أيضا قوله تعالى:( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) (١) فإنّ هذا الحكم يثبت للواحد كما يثبت للجمع.

( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) إذ الغالب أنّ المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح، والمسافحة لا يرغب فيها الصلحاء، فإنّ المشاكلة علّة للألفة والتضامّ، والمخالفة سبب للنفرة والافتراق.

وكان حقّ المقابلة أن يقال: والزانية لا تنكح إلّا من هو زان أو مشرك، لكنّ المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة فيهنّ، لأنّ الآية نزلت في ضعفة المهاجرين، لـمّا همّوا أن يتزوّجوا بغايا يكرين أنفسهنّ، لينفقن عليهم من أكسابهنّ على عادة الجاهليّة، ولذلك قدّم الزاني.

ومعنى الجملة الاولى: وصف الزاني بكونه غير راغب في العفائف، بل في الزواني. ومعنى الثانية: وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفّاء، بل للزناة. وبينهما فرق.

وقال في الجامع: «وإنّما قدّمت الزانية على الزاني في الأولى، لأنّ الآية مسوقة لعقوبتهما على جنايتهما، والمرأة منها منشأ الجناية، وهي الأصل والمادّة في ذلك. ثمّ قدّم الزاني عليها في الثاني، لأنّ الآية مسوقة لذكر النكاح، والرجل هو الأصل فيه والمخاطب، ومنه مبدأ الطلب»(٢) .

وعن ابن عبّاس وابن عمر ومجاهد وقتادة والزهري: أنّ رجلا من المسلمين استأذن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يتزوّج أمّ مهزول، وهي امرأة كانت تسافح ولها راية على بابها تعرف بها، فنزلت هذه الآية.

والمراد بها النهي وإن كان ظاهرها الخبر، ويؤيّده ما روي عن أبي جعفر وأبي

__________________

(١) الحجرات: ٩.

(٢) جوامع الجامع ٢: ١٣٦.

٤٧٧

عبد اللهعليهما‌السلام أنّهما قالا: «هم رجال ونساء كانوا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشهورين بالزنا، فنهى الله عن أولئك الرجال والنساء، والناس اليوم على تلك المنزلة، فمن شهر بشيء من ذلك، وأقيم عليه الحدّ، فلا تزوّجوه حتّى تعرف توبته».

ولا يجوز أن تحمل الآية على ظاهر الخبر، لأنّا نجد الزاني يتزوّج غير الزانية.

( وَحُرِّمَ ذلِكَ ) نكاح المشهورات بالزنا( عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) لأنّه تشبّه بالفسّاق، وتعرّض للتهمة، وتسبّب لسوء المقالة والطعن في النسب، وغير ذلك من المفاسد، ولذلك عبّر عن التنزيه بالتحريم مبالغة.

وقيل: الحرمة على ظاهرها. وقيل: الحكم مخصوص بالسبب الّذي ورد فيه.

وقيل: منسوخ بقوله:( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ) (١) فإنّه يتناول المسافحات. ويؤيّده

أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن ذلك، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوّله سفاح، وآخره نكاح، والحرام لا يحرّم الحلال».

وقيل: المراد بالنكاح الوطء. وقوله: «ذلك» إشارة إلى الزنا.

( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) )

ولـمّا تقدّم ذكر حدّ الزنا عقّبه سبحانه بذكر حدّ القاذف بالزنا، فقال:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) يقذفون العفائف من النساء بالزنا والفجور( ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا ) على صحّة ما رموهنّ به من الزنا( بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ) عدول يشهدون في مجلس واحد غير متفرّقين ومتّفقين على أنّهم شاهدوهنّ يفعلن ذلك كالميل في المكحلة

__________________

(١) النور: ٣٢.

٤٧٨

( فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) سواء كانوا أحرارا أو عبيدا، رجالا أو نساء، لعموم اللفظ. والتنصيف في العبد إنّما جاز في الزنا للنصوص.

( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ) ما لم يتب، لدلالة الاستثناء عليه بعد( وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) نهى سبحانه عن قبول شهادة القاذف على التأبيد، وحكم عليهم بالفسق.

واعلم أنّ نظم هذه الآية يقتضي أن تكون هذه الجمل الثلاث بأجمعها جزاء للشرط. فيكون التقدير: من قذف المحصنات فاجلدوهم وردّوا شهادتهم وفسّقوهم، أي: فاجمعوا لهم الجلد وردّ الشهادة والتفسيق. ثمّ استثنى من ذلك بقوله:( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ) عن القذف( مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا ) أعمالهم، بأن استمرّوا على التوبة. وفي هذا دلالة على أنّ بمجرّد التوبة لا تقبل الشهادة، بل لا بدّ وأن يحصل للتائب ملكة راسخة في النفس.

( فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) علّة للاستثناء، أي: يغفر لهم فلا يجلدون، ولا تردّ شهادتهم ولا يفسّقون. والأبد اسم لزمان طويل انتهى أو لم ينته. فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، سواء حدّ أو لم يحدّ، عند أئمّة الهدىعليهم‌السلام وابن عبّاس. وهو مذهب الشافعي.

واعلم أنّ حدّ القذف حقّ لازم يتوقّف إقامته على المطالبة، ولا يسقط بالتوبة، إلّا مع العفو من المقذوف قبل الثبوت لا بعده، ورضاه جزء من التوبة. وحدّها إكذاب نفسه إن كان كاذبا، والتخطئة إن كان صادقا، فلا تقبل شهادته بدون ذلك.

( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ

٤٧٩

كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠) )

روي: أنّه لـمّا نزلت آية القذف قام عاصم بن عديّ الأنصاري وقال: يا رسول الله إن رأى رجل منّا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى، جلد ثمانين جلدة وردّت شهادته وفسّق، وإن ضربه بالسيف قتل به، وإن سكت سكت على غيظ، وإلى أن يجيء بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته ومضى. قال: كذلك أنزلت يا عاصم. فخرج فلم يصل إلى منزله حتّى استقبله هلال بن أميّة يسترجع. فقال: ما وراءك؟ فقال: شرّ وجدت على بطن امرأتي خولة شريك بن سحماء. فقال: هذا والله سؤالي، فرجعا. فأخبر عاصم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعث إليها. فقال: ما يقول زوجك؟ فقالت: لا أدري ألغيرة أدركته، أم بخلا على الطعام؟ وكان شريك نزيلهم. فنزلت:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ) بالزنا( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ ) يشهدون لهم على صحّة ما قالوا( إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ) هذا بدل من «شهداء» أو صفة لهم على أن «إلّا» بمعنى: غير( فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ ) أي: فالواجب شهادة أحدهم، أو فعليهم شهادة أحدهم( أَرْبَعُ شَهاداتٍ ) نصب على المصدر بتقدير: يشهد. ولا يجوز انتصابه بـ «شهادة أحدهم» لأنّ المصدر لا ينصب مصدرا. وقد رفعه حمزة والكسائي وحفص على أنّه خبر «شهادة».

( بِاللهِ ) متعلّق بـ «شهادات» لأنّها أقرب. وقيل: بـ «شهادة» لتقدّمها.( إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) أي: فيما رماها به من الزنا. وأصله: على أنّه، فحذف الجارّ وكسرت «إنّ»، وعلّق العامل عنه باللام تأكيدا.

( وَالْخامِسَةُ ) أي: الشهادة الخامسة( أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ ) في الرمي. وقرأ يعقوب ونافع بالتخفيف في «أن» ورفع اللعنة.

وتوضيح المعنى: أنّ الرجل يقول أربع مرّات مرّة بعد اخرى: أشهد بالله أنّي لمن

٤٨٠