زبدة التفاسير الجزء ٤
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609
ثابت لمن قام مقامه من الأئمّة الهادين صلّى الله عليهم أجمعين.
( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤) )
ثمّ عظّم ووقّر رسوله بين عباده، ولينتهوا عن رجوعهم عن الأمر الجامع بغير إذنه، فقال:( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) أي: إذا احتاج رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم، فلا تفرّقوا عنه إلّا بإذنه. ولا تقيسوا دعاءه إيّاكم على دعاء بعضكم بعضا، وفي جواز الإعراض، والمساهلة في الإجابة، والرجوع عن المجمع بغير إذنه، فإنّ المبادرة إلى إجابته واجبة، والمراجعة بغير إذنه محرّمة.
وقيل: معناه: لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه، ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات، ولكن بلقبه المعظّم له، مثل: يا نبيّ الله ويا رسول الله، مع قصد التوقير والتواضع، وخفض الصوت. أو لا تجعلوا دعاءه ربّه كدعاء صغير كم كبير كم، يجيبه مرّة ويردّه اخرى، فإنّ دعاءه مستجاب. أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فلا تبالوا بسخطه، فإنّ دعاءه عليكم موجب السخط والغضب.
( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ ) أي: ينسلون ويخرجون قليلا قليلا من الجماعة. ونظيره: تدرّج وتدخّل.( لِواذاً ) ملاوذة. وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا.
يعني: ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض حتّى يخرج. أو يلوذ بمن يؤذن له فينطلق معه، كأنّه تابعه. وانتصابه على الحال، أي: ملاوذين.
قيل: نزلت في حفر الخندق، وكان قوم يتسلّلون بغير إذن. وقيل: كانوا يتسلّلون عن الجهاد ويرجعون عنه. وقيل: عن خطبة النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الجمعة.
ثمّ حذّرهم عن مخالفة أمر رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال:( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) أي: يخالفون أمره بترك مقتضاه، ويذهبون سمتا خلاف سمته. وهم المنافقون.
و «عن» لتضمّنه معنى الإعراض. أو يصدّون المؤمنين عن أمره. من: خالفه عن الأمر إذا صدّ عنه. والأصل: يخالفون المؤمنين صادّين عن أمره. وحذف المفعول، لأنّ المقصود بيان المخالف والمخالف عنه. والضمير لله، فإنّ الأمر له في الحقيقة، أو للرسول، فإنّه المقصود بالذكر.
( أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ) محنة وبليّة في الدنيا( أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) في الآخرة. عن ابن عبّاس: الفتنة القتل. وعن عطاء: هي زلازل وأهوال. وعن الصادقعليهالسلام : «يسلّط عليهم سلطان جائر».
واستدلّ به على أنّ الأمر للوجوب، فإنّه يدلّ على أنّ ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين، فإنّ الأمر بالحذر عنه يدلّ على خشية المشروط بقيام المقتضي له، وذلك يستلزم الوجوب.
( أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) أيّها المكلّفون من المخالفة والموافقة، والنفاق والإخلاص، وذكر «قد» ليؤكّد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق. ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد. وذلك أنّ «قد» إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «ربما» فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير.
والمعنى: أنّ جميع ما في السماوات والأرض مختصّ به خلقا وملكا وعلما ،
فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين، وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها؟!( وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ ) يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء. ويجوز أن يكون الخطاب أيضا مخصوصا بهم على طريق الالتفات. وقرأ يعقوب بفتح الياء وكسر الجيم.
( فَيُنَبِّئُهُمْ ) يوم القيامة( بِما عَمِلُوا ) بما أبطنوا من سوء أعمالهم، بالتوبيخ والمجازاة عليه( وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) لا تخفى عليه خافية.
(٢٥)
سورة الفرقان
مكّيّة. وهي سبع وسبعون آية بلا خلاف.
في حديث أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : من قرأ سورة الفرقان بعث يوم القيامة وهو مؤمن بأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، ودخل الجنّة بغير حساب».
وروى إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن الرضاعليهالسلام قال: «يا ابن عمّار لا تدع قراءة( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ) فإنّ من قرأها كلّ ليلة لم يعذّبه الله أبدا ولم يحاسبه، وكان منزلته في الفردوس الأعلى».
واعلم أنّ هذه السورة متّصلة بسورة النور اتّصال النظير بالنظير، فإن مختتم تلك السورة تضمّن أنّ لله ما في السماوات والأرض، وأنّه بكلّ شيء عليم، ومفتتح هذه السورة أنّ له ملك السماوات والأرض.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) )
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ) تكاثر خيره.
من البركة، وهي كثرة الخير. ومنها: تبارك الله، أي: عظمت خيراته وكثرت. أو تزايد على كلّ شيء، وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، فإنّ البركة تتضمّن معنى الزيادة. وترتيبه على إنزاله الفرقان، لـما فيه من كثرة الخير وتزايده، أو لدلالته على تعاليه. وقيل: دام وثبت.
من بروك الطير على الماء. ومنه: البركة، لدوام الماء فيها. وهو لا يتصرّف فيه، ولا يستعمل إلّا لله.
والفرقان مصدر: فرق بين الشيئين، إذا فصل بينهما. سمّي به القرآن، لفصله بين الحقّ والباطل بتقريره، أو المحقّ والمبطل بإعجازه. أو لكونه مفروقا، مفصولا بعضه عن بعض في الإنزال، كقوله:( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) (١) .
( لِيَكُونَ ) العبد، أو الفرقان( لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) للجنّ والإنس منذرا. أو إنذارا، كالنكير بمعنى الإنكار.
قال النيشابوري: «قالت المعتزلة: لو لم يرد الإيمان من الكلّ لم يكن الرسول نذيرا للكلّ. وعورض بنحو قوله:( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ ) »(٢) .(٣) انتهى كلامه.
أقول: إنّما تتمّ المعارضة إذا كانت اللام للتعليل، ولم لا يجوز أن تكون للمال؟ كقوله:( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (٤) . وهذا البحث ممّا سنح للطبيعة، وسمحت به القريحة أو ان الكتابة، وأرجو أن يكون صوابا إن شاء الله العزيز.
__________________
(١) الإسراء: ١٠٦.
(٢) الأعراف: ١٧٩.
(٣) تفسير غرائب القرآن ٥: ٢٢١.
(٤) القصص: ٨.
( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) بدل من الأوّل. وإبدال التعليل للمبدل منه لا يستلزم الفصل بينه وبين بدله، لأنّه من تمام المبدل منه، فلا يكون كلاما أجنبيّا قادحا، لإيراد البدل بعده من معلّله. أو مدح مرفوع أو منصوب.
( وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ) كزعم النصارى( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) كقول الثنويّة.
ولـمّا أثبت لذاته الملك مطلقا، ونفى ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه، نبّه على ما يدلّ عليه، فقال:( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) أحداثه إحداثا مراعى فيه التقدير حسب إرادته، كخلقة الإنسان من موادّ مخصوصة، وصور وأشكال معيّنة( فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) فهيّأه لـما يصلح له ويراد منه من الخصائص والأفعال، كتهيئة الإنسان للإدراك والفهم، والنظر والتدبير، واستنباط الصنائع المتنوّعة، ومزاولة الأعمال المختلفة، إلى غير ذلك. وكذلك كلّ حيوان وجماد جاء به على الجبلّة المستوية المقدّرة بأمثله الحكمة والتدبير، فقدّره لأمر مّا ومصلحة، مطابقا لـما قدّر له، غير متجاف عنه.
أو فقدّره للبقاء إلى أجل مسمّى. وقد يطلق الخلق لمجرّد الإيجاد والإحداث، من غير نظر إلى معنى التقدير. فيكون المعنى: وأوجد كلّ شيء فقدّره في إيجاده حتّى لا يكون متفاوتا.
وتفسير الخلق والتقدير بهذه الوجوه جواب من قال: إنّ الخلق في معنى التقدير، فيصير المعنى: قدّر كلّ شيء فقدّره.
( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) )
ولـمّا تضمّن الكلام إثبات التوحيد والنبوّة، أخذ في الرّد على المخالفين فيهما، فقال:( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ) من الأوثان( لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) لأنّ عبدتهم ينحتونهم ويصوّرونهم( وَلا يَمْلِكُونَ ) ولا يستطيعون( لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا ) دفع ضرّ عنها( وَلا نَفْعاً ) ولا جلب نفع( وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً ) أي: لا يقدرون على إماتة أحد وإحيائه أوّلا، ولا بعثه ثانيا.
والحاصل: أنّهم آثروا على عبادة الله عبادة آلهة، لا عجز أبين من عجزهم، فإنّهم لا يقدرون على شيء من أفعال العباد، فضلا عن أفعال الله سبحانه. ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهيّة، لعرائه عن لوازمها، واتّصافه بما ينافيها. فكيف يعبدون من لا يقدر على شيء من ذلك، ويتركون عبادة ربّهم الّذي يملك ذلك كلّه؟! ثمّ أخبر عن تكذيبهم بالقرآن، فقال:( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا ) هذا القرآن( إِلَّا إِفْكٌ ) كذب مصروف عن وجهه( افْتَراهُ ) اختلقه( وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) أي: اليهود، فإنّهم يلقون إليه أخبار الأمم، وهو يعبّر عنها بعبارته. وقيل: جبر مولى عامر، ويسار غلام العلاء بن الحضرمي، وعداس مولى حويطب بن عبد العزّى، قاله النضر بن الحارث بن عبد الدار. وقيل: أبو فكيهة الرومي. وقد سبق ذلك في قوله تعالى:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) (١) .
__________________
(١) النحل: ١٠٣.
( فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً ) قولا متجاوزا عن الحقّ، بجعل الكلام الّذي أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب، إفكا مختلقا متلقّفا من اليهود أو الروميّ العجمي.( وَزُوراً ) بنسبة ما هو بريء منه إليه. و «أتى» و «جاء» يستعملان في معنى: فعل، فيعدّيان تعديته.
ولـمّا تقدّم التحدّي وعجزهم عن الإتيان بمثله، اكتفى الله سبحانه ها هنا بهذا القدر تنبيها على ذلك.
( وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) ما سطره المتقدّمون، من نحو أحاديث رستم وإسفنديار. جمع أسطار، أو أسطورة كأحدوثة.( اكْتَتَبَها ) كتبها لنفسه وأخذها، فإنّ «افتعل» قد يكون للاتّخاذ، نحو: اشترى. ومثله: استكبّ الماء واصطبّه، إذا سكبه وصبّه لنفسه وأخذه. أو استكتبها.( فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ ) ليحفظها، فإنّه أمّي لا يقدر أن يكتب( بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) طرفي النهار، أي: دائما. أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس، وحين يأوون إلى مساكنهم.
( قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) لأنّه أعجزكم عن آخر كم بفصاحته، وتضمّنه إخبارا عن مغيّبات مستقبلة، وأشياء مكنونة لا يعلمها إلّا من هو يعلم ما تسرّونه أنتم من الكيد لرسوله، مع علمكم أنّ ما تقولونه باطل وزور. وكذلك يعلم باطن أمر الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبراءته ممّا تبهتونه به. وهو يجازيكم ويجازيه على ما علم منكم وعلم منه.
( إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون، مع كمال قدرته عليها، واستحقاقكم أن يصبّ عليكم العذاب صبّا، لإسنادكم كلامه الفائق على كلّ كلام لفظا ومعنى إلى أساطير الأوّلين.
( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها
وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) )
( وَقالُوا ) وقال النضر بن الحارث وعبد الله بن أبيّ ونوفل بن خويلد ومن تابعهم استهانة وتهكّما واستهزاء:( ما لِهذَا الرَّسُولِ ) الّذي يزعم الرسالة( يَأْكُلُ الطَّعامَ ) كما نأكل( وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) لطلب المعاش كما نمشي، أي: إن صحّ دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا؟ يعنون أنّه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيّش.
وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات، فإنّ تميّز الرسول عمّا عداه ليس بأمور جسمانيّة، وإنّما هو بأحوال نفسانيّة، كما أشار إليه بقوله:( إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) (١) .
ثمّ تحوّلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك، فقالوا:( لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) حتّى يتساندا في الإنذار والتخويف، ولنعلم صدقه بتصديق الملك.
ثمّ تنزّلوا عنه فقالوا:( أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ) أي: إن لم يكن مرفودا بملك، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء فيستظهر به، ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش.
ثمّ تنزّلوا عنه أيضا فقالوا:( أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ) أي: إن لم يلق إليه كنز فلا أقلّ من أن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق من ريعه، فيستغني عن طلب المعيشة، كما للدهاقين. وقرأ حمزة والكسائي بالنون، والضمير للكفّار، أي: نأكل معه من ذلك البستان، فننتفع به في دنيانا ومعاشنا.
( وَقالَ الظَّالِمُونَ ) وضع «الظّالمون» موضع ضمير هم تسجيلا عليهم بالظلم فيما
__________________
(١) الكهف: ١١٠.
قالوه( إِنْ تَتَّبِعُونَ ) ما تتّبعون( إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً ) سحر فغلب على عقله. وقيل: ذا سحر، وهو الرّئة، أي: بشرا لا ملكا، لأنّ الرئة مختصّة بجنس البشر، أي: الحيوان.
( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ) أي: قالوا فيك تلك الأقوال الشاذّة، واخترعوا لك الأحوال النادرة، من نبوّة مشتركة بين إنسان وملك، وإلقاء كنز عليك من السّماء، وغير ذلك( فَضَلُّوا ) عن الطريق الموصل إلى معرفة خواصّ النبيّ، والمائز بينه وبين المتنبّئ، فبقوا متحيّرين لا يجدون قولا يستقرّون عليه( فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) إلى القدح في نبوّتك أو إلى الرشد والهدى.
( تَبارَكَ الَّذِي ) تكاثر خير الّذي( إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ ) وهب لك في الدنيا( خَيْراً مِنْ ذلِكَ ) ممّا قالوا، وإنّما أخّره إلى الآخرة لأنّه خير وأبقى( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) بدل من «خيرا»( وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً ) عطف على محلّ الجزاء.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بالرفع، لأنّ الشرط إذا كان ماضيا جاز في جزائه الجزم والرفع. ويجوز أن يكون استئنافا بوعد ما يكون له في الآخرة.
( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) )
( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ) عطف على ما حكى عنهم، أي: بل أتوا بأعجب من ذلك كلّه، وهو تكذيبهم بالساعة، فلا تعجب من تكذيبهم إيّاك. ويجوز أن يتّصل بما يليه، كأنّه قال: بل كذّبوا بالساعة فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب؟ وكيف يصدّقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة؟ أو لأجل تكذيبهم الساعة قصرت أنظارهم على الحطام الدنيويّة، وظنّوا أنّ الكرامة إنّما هي بالمال، فطعنوا فيك لفقرك. أو فلذلك كذّبوك، لا لـما تمحّلوا من المطاعن الفاسدة.
( وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ) نارا شديدة الاستعار. وقيل: هو اسم لجهنّم. فيكون صرفه باعتبار المكان.
ثمّ وصف ذلك السعير فقال:( إِذا رَأَتْهُمْ ) إذ كانت السعير بمرأى منهم، كقولهم: دورهم تترى، أي: تتناظر. وقولهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تراءى نارهما» أي: لا تتقارب نار المسلمين والكافرين بحيث تكون إحداهما بمرأى من الاخرى، على المجاز. والتأنيث لأنّه بمعنى النار أو جهنّم.
( مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) هو أقصى ما يمكن أن يرى منه.
قال أبو عبد اللهعليهالسلام : «من مسيرة سنة».
وقال السدّي والكلبي: من مسيرة مائة سنة. وحقيقة المعنى: أنّهم يرونها من أقصى مكان. والمعنى المجازي أبلغ، فإنّ معناه أنّها كأنّها تراهم رؤية الغضبان، كما قال:( سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً ) صوت تغيّظ وغليان. شبّه صوت غليانها بصوت المغتاظ.
( وَزَفِيراً ) وصوت زفير. وهو صوت يسمع من جوفه. روي: أنّ جهنّم لتزفر زفرة لا يبقى نبيّ ولا ملك إلّا خرّ لوجهه. ولا يبعد من قدرة الله تعالى أن يخلق في النار حياة فترى وتتغيّظ وتزفر.
وقيل: إنّ ذلك لزبانيتها، فنسب إليها على حذف المضاف. والمعنى: إذا رأتهم زبانيتها تغيّظوا وزفروا على الكفّار للانتقام منهم.
( وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ) أي: في مكان. و «منها» بيان له تقدّم عليه فصار حالا.
( ضَيِّقاً ) لزيادة العذاب، فإنّ الكرب مع الضيق، كما أن الروح مع السعة. ولذلك وصف الله الجنّة بأنّ عرضها كعرض السماوات والأرض. وقرأ ابن كثير والكسائي بسكون الياء.
وفي الحديث: «إن لكلّ مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا».
ولقد جمع الله على أهل النار أنواع التضييق والإرهاق، حيث ألقاهم في مكان ضيّق يتراصّون(١) فيه تراصّا. كما روي عن ابن عبّاس في تفسيره: أنّه يضيّق عليهم كما يضيّق الزجّ(٢) في الرمح.
( مُقَرَّنِينَ ) قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل. وعن الجبائي: ويقرن مع كلّ كافر شيطانه في سلسلة، وفي أرجلهم الأصفاد(٣) .
( دَعَوْا هُنالِكَ ) في ذلك المكان( ثُبُوراً ) هلاكا. أي: يتمنّون هلاكا وينادونه، فيقولون: يا ثبوراه تعال فهذا أوانك.
فيقال لهم:( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً ) إنّهم أحقّاء بأن يقال لهم ذلك، وإن لم يكن ثمّ قول( وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً ) لأنّ عذابكم أنواع كثيرة، كلّ نوع منها ثبور، لشدّته وفضاعته، كلّما نضجت جلودهم بدّلوا جلودا غيرها، فلا غاية لهلاكهم، فهم في كلّ وقت في ثبور.
( قُلْ أَذلِكَ ) أي: ذلك العذاب، أو الّذي اقترحتموه من الكنز والجنّة( خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) الاستفهام والتفضيل والترديد للتقريع والتهكّم. والراجع إلى الموصول محذوف، أي: وعدها المتّقون. وإضافة الجنّة إلى الخلد للمدح، أو للدلالة على خلودها، أو التمييز عن جنّات الدنيا.
( كانَتْ لَهُمْ ) في علم الله، أو اللوح قبل أن يريهم. أو لأنّ ما وعده الله في تحقّقه كالواقع.( جَزاءً ) على أعمالهم بالوعد( وَمَصِيراً ) مرجعا ومستقرّا ينقلبون إليه. وهذا
__________________
(١) أي: يتلاصقون. من: تراصّ القوم إذا تضامّوا وتلاصقوا.
(٢) الزجّ: الحديدة التي في أسفل الرمح.
(٣) الأصفاد جمع الصفد. وهو الوثاق، وما يوثق به الأسير من قيد أو غلّ.
كقوله:( نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ) (١) فإنّه مدح الثواب ومكانه، كما قال:( بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً ) (٢) . فذمّ العقاب ومكانه، لأنّ النعيم لا يتمّ للمتنعّم إلّا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد، وكذلك العقاب يتضاعف يضيق الموضع وظلمته، وجمعه لأسباب الكراهة. ولذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء.
( لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ) ما يشاؤنه من النعيم. وفي تقديم الظرف تنبيه على أن كلّ المرادات لا تحصل إلّا في الجنّة.( خالِدِينَ ) حال من أحد الضمائر( كانَ ) الضمير لـ «ما يشاءون»، أي: كان ذلك( عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً ) موعودا حقيقا بأن يسأل ويطلب. أو مسئولا سأله الناس في دعائهم:( رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ) (٣) . أو الملائكة يقولون:( رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ) (٤) . و «على» يتضمّن معنى الوجوب، أي: واجبا على ربّك إنجازه، لامتناع الخلف في وعده.
( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) )
__________________
(١) الكهف: ٣١ و ٢٩.
(٢) الكهف: ٣١ و ٢٩.
(٣) آل عمران: ١٩٤.
(٤) غافر: ٨.
( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ) نجمعهم للجزاء. وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص بالياء( وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) يعمّ كلّ معبود سواه. واستعمال «ما» إمّا لأنّ وضعه أعمّ، ولذلك يطلق لكلّ شبح يرى ولا يعرف. أو لأنّه أريد به الوصف، كأنّه قيل: ومعبودهم.
كما تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد: ما زيد؟ تعني: أطويل أم قصير؟ أفقيه أم طبيب؟ أو لتغليب الأصنام تحقيرا، أو اعتبارا لغلبة عبّادها. أو يخصّ الملائكة وعزيزا والمسيح بقرينة السؤال والجواب. وذكر «ما» لإرادة وصف المعبوديّة كما عرفت. أو الأصنام ينطقها الله تعالى، أو تتكلّم بلسان الحال، كما قيل في كلام الأيدي والأرجل.
( فَيَقُولُ ) أي: للمعبودين. وهو على تلوين الخطاب. وقرأ ابن عامر بالنون.
( أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ) ضلّوا عن سبيل الحقّ، لإخلالهم بالنظر الصحيح، وإعراضهم عن المرشد النصيح. وهو استفهام تقريع وتبكيت للعبدة.
والفائدة في ذكر «أنتم» و «هم» وإيلائهما حرف الاستفهام، أن يعلم أنّ السؤال ليس عن الفعل، وإنّما هو عن متولّيه، فلا بدّ من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام، حتّى يعلم أنّه المقصود بالسؤال عنه. وتركت صلة الضلالة للمبالغة.
( قالُوا سُبْحانَكَ ) تعجّبا ممّا قيل لهم، لأنّهم إمّا ملائكة، أو أنبياء معصومون، أو جمادات لا تقدر على شيء. أو إشعارا بأنّهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده، فكيف يليق بهم إضلال عبيده؟ أو تنزيها لله عن الأنداد.
ثمّ قالوا:( ما كانَ يَنْبَغِي لَنا ) ما يصحّ لنا( أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ ) للعصمة. فكيف يصحّ لنا أن ندعو غيرنا أن يتولّى أحدا دونك؟ والأخذ هنا متعدّ إلى مفعول واحد، وهو «من أولياء». والأصل: أن نتّخذ أولياء، فزيدت «من» لتأكيد معنى النفي.
( وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ ) بأنواع النعم، فاستغرقوا في الشهوات( حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ) حتّى غفلوا عن ذكرك. أو التذكّر لآلائك، والتدبّر في آيات كتابك.( وَكانُوا
قَوْماً بُوراً ) هالكين فاسدين. مصدر وصف به، ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع. أو جمع بائر، كعائذ وعوذ.
واعلم أنّ في هذه الآية دلالة على بطلان قول من يزعم أنّ الله سبحانه يضلّ عباده على الحقيقة، حيث يقول للمعبودين من دونه: أأنتم أضللتم أم هم ضلّوا بأنفسهم؟ فيتبرّءون من إضلالهم، ويستعيذون به أن يكونوا مضلّين. ويقولون: بل أنت تفضّلت على هؤلاء وآبائهم، فجعلوا النعمة الّتي هي سبب الشكر سببا للكفر ونسيان الذكر، فكان ذلك سبب هلاكهم. فبرّءوا أنفسهم من الإضلال، ونزّهوه سبحانه أيضا منه، حيث أضافوا إليه التمتيع بالنعمة، وأضافوا نسيان الذكر الّذي هو سبب البوار إليهم. فشرحوا الإضلال المجازيّ الّذي نسبة الله إلى ذاته في قوله:( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ) (١) . ولو كان هو المضلّ على الحقيقة لكان الجواب أن يقولوا: بل أنت أضللتهم بما يقولون.
ثمّ التفت إلى العبدة احتجاجا وإلزاما، فقال:( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ) أي: فقد كذّبكم المعبودون أيّها المشركون( بِما تَقُولُونَ ) في قولكم: إنّهم آلهة، أو هؤلاء أضلّونا. والباء بمعنى «في». أو مع المجرور بدل من الضمير، كأنّه قيل: فقد كذّبوا بما يقولون. وعن ابن كثير بالياء، أي: كذّبوكم بقولهم:( سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ ) .
( فَما تَسْتَطِيعُونَ ) أي: المعبودون. وقرأ حفص بالتاء على الخطاب للعابدين.
( صَرْفاً ) دفعا للعذاب عنكم. وقيل: لصرف التوبة. وقيل: حيلة. من قولهم: إنّه ليتصرّف، أي: يحتال.( وَلا نَصْراً ) فيعينكم عليه.
( وَمَنْ يَظْلِمْ ) على نفسه بالشرك والمعاصي( مِنْكُمْ ) أيّها المكلّفون( نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً ) شديدا عظيما، وهو النار. والشرط وإن عمّ كلّ من كفر وفسق، لقوله :
__________________
(١) الرعد: ٢٧، وغيرها.
( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (١) ، ولقوله:( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) . لكنّه في اقتضاء الجزاء مقيّد بعدم المزاحم وفاقا، وهو التوبة إجماعا، وعفو المؤمن الفاسق عندنا.
( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) )
ثمّ رجع سبحانه إلى مخاطبة النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال جوابا لقولهم:( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) :( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ ) أي: إلّا رسلا إنّهم فحذف الموصوف لدلالة «المرسلين» عليه، وأقيمت الصفة مقامه، كقوله تعالى:( وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ) (٣) .
على معنى: وما منّا أحد. ويجوز أن تكون حالا اكتفي فيها بالضمير.
( وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ ) أيّها الناس( لِبَعْضٍ فِتْنَةً ) ابتلاء. ومن ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء، والمرسلين بالمرسل إليهم، ومناصبتهم لهم العداوة، وإيذاؤهم لهم أنواع الأذى. وهو تسلية لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم على ما استبدعوه من أكله الطعام، ومشيه في الأسواق، بعد ما احتجّ عليهم بسائر الرسل، أو ما عيّروه من الفقر حين قالوا:( أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ ) (٤) .
( أَتَصْبِرُونَ ) علّة للجعل. والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة لنعلم أيّكم يصبر. ونظيره قوله:( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (٥) . أو حثّ على الصبر على ما
__________________
(١) لقمان: ١٣.
(٢) الحجرات: ١١.
(٣) الصافّات: ١٦٤.
(٤) الفرقان: ٨.
(٥) الملك: ٢.
افتتنوا به.( وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً ) بمن يصبر، أو بالصواب فيما يبتلي به وغيره، فلا يضيقنّ صدرك، ولا يستخفّنّك أقاويلهم، فإنّ في صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين.
وقيل: معناه: جعلناك فتنة لهم، لأنّك لو كنت غنيّا صاحب كنوز وجنان، لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا، أو ممزوجة بها، فبعثناك فقيرا لتكون طاعة من يطيعك خالصة لنا، من غير طمع وغرض دنيويّ.
وقيل: كان أبو جهل وأضرابه يقولون: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمّار وصهيب وبلال وفلان وفلان، وسائر موالينا ورذالنا، ترفّعوا علينا إذلالا بالسابقة، فهو افتتان بعضهم ببعض. فقال الله لهؤلاء: أتصبرون على الأذى والاستهزاء لتفوزوا بسعادة الدارين، فإنّ ربّكم عالم بأحوالكم، ومجاز لأعمالكم؟
( وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) )
( وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ ) لا يأملون( لِقاءَنا ) لقاء جزائنا بالخير، لكفرهم بالبعث. أو لا يخافون لقاء جزائنا بالشرّ على لغة تهامة، فإنّ الرجاء في لغتهم بمعنى الخوف، وبه فسّر قوله تعالى:( لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ) (١) . وأصل اللقاء الوصول إلى
__________________
(١) نوح: ١٣.
الشيء. وفيه دلالة على أنّهم كانوا مجسّمة، فلذلك جوّزوا الرؤية على الله.
( لَوْ لا ) هلّا( أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ) فيخبرنا بصدق محمد. وقيل: فيكونوا رسلا إلينا.( أَوْ نَرى رَبَّنا ) جهرة فيأمرنا بتصديقه واتّباعه.
ثمّ أقسم اللهعزوجل فقال:( لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا ) بهذا القول( فِي أَنْفُسِهِمْ ) أي: أضمروا الاستكبار عن الحقّ ـ وهو الكفر والعناد ـ في قلوبهم واعتقدوه( وَعَتَوْا ) وتجاوزوا الحدّ في الظلم( عُتُوًّا كَبِيراً ) بالغا أقصى مراتبه. يعني: أنّهم لم يجسروا على هذا القول العظيم، إلّا لأنّهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتوّ، حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها، واقترحوا لأنفسهم الخبيثة غيرها، كما فعل قوم موسى حين قالوا:( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ) (١) .
واللام جواب قسم محذوف. وفي الاستئناف بالجملة إشعار بالتعجّب من استكبار هم وعتوّهم من غير لفظ التعجّب. ألا ترى أنّ المعنى: ما أشدّ استكبارهم! وما أكبر عتوّهم! ثمّ أعلم سبحانه أنّ الوقت الّذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة، وأنّ الله تعالى قد حرّمهم البشرى في ذلك اليوم، فقال:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ) يعني: يوم القيامة. والمراد ملائكة الموت، أو ملائكة العذاب. و «يوم» نصب بـ: اذكر، أو بما دلّ عليه قوله:( لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ) فإنّه بمعنى: يمنعون البشرى، أو يعدمونها. و «يومئذ» تكرير، أو خبر. و «للمجرمين» تبيين.
أو خبر ثان. أو ظرف لـما يتعلّق به اللام، أو لـ «بشرى» إن قدّرت منوّنة غير مبنيّة مع «لا» فإنّها لا تعمل.
و «للمجرمين» إمّا عامّ شامل لكلّ مجرم، كافرا كان أو مؤمنا. ولا يلزم من نفي البشرى لعامّة المجرمين حينئذ، نفي البشرى بالعفو والشفاعة في وقت آخر. وإمّا خاصّ
__________________
(١) البقرة: ٥٥.
وضع موضع ضميرهم، تسجيلا على جرمهم، وإشعارا بما هو المانع للبشرى، والموجب لـما يقابلها.
( وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) عطف على المدلول، أي: ويقول الكفرة حينئذ هذه الكلمة، استعاذة وطلبا من الله أن يمنع لقاء هم العذاب. وهي ممّا كانوا يقولون عند لقاء عدوّ أو هجوم نازلة. يعني: كما كانوا يقولون في الدنيا إذا لقوا من يخافون منه القتل ويفزعون: حجرا محجورا دماؤنا، قالوا تلك الكلمة عند مشاهدة العذاب.
وقال الخليل: كان الرجل يرى الرجل الّذي يخاف منه القتل في الجاهليّة في الأشهر الحرام فيقول: حجرا محجورا، أي: حرام عليك حرمتي في هذا الشهر أن تبدأ بشرّ، فإذا كان يوم القيامة رأوا الملائكة، فقالوا ذلك ظنّا منهم أنّه ينفعهم.
وقيل: هي من قول الملائكة. ومعناه حينئد: حراما عليكم الجنّة والبشرى، أي: جعل الله ذلك حراما عليكم.
قال سيبويه في باب المصادر غير المتصرّفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها، نحو: معاذ الله، وعمرك، وحجرا محجورا. يقول الرجل للرجل: أتفعل كذا وكذا؟ فيقول: حجرا. وهي من: حجره إذا منعه، لأنّ المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه، فلا يلحقه. فكان المعنى: أسأل الله أن يحجر ذلك حجرا، أي: يمنعه منعا. ووصفه محجورا للتأكيد، كقولهم: موت مائت.
( وَقَدِمْنا ) وعمدنا وقصدنا( إِلى ما عَمِلُوا ) في كفرهم( مِنْ عَمَلٍ ) من المكارم والمحاسن، كقرى الضيف، وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، وفداء الأسير، وغير ذلك( فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) فأحبطناه، لفقد ما هو شرط اعتباره، وهو الإيمان.
وليس هنا قدوم ولا ما يشبه القدوم، ولكن مثّلت حال هؤلاء وأعمالهم الّتي عملوا في كفرهم من محاسنهم، بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقدم إلى أشيائهم، وقصد إلى ما تحت أيديهم، فمزّقها كلّ ممزّق، وأبطلها ولم يبق لها أثرا.