زبدة التفاسير الجزء ٤

زبدة التفاسير12%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609

  • البداية
  • السابق
  • 609 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15926 / تحميل: 4588
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: ٩٦٤-٧٧٧٧-٠٦-X
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

النقص الحادث في المبيع ، فكذلك عدم المشروط. ولأنّ الإعسار يثبت به فسخ البيع بغير شرطٍ ، ولا يثبت مثل ذلك في الحوالة ، فاختلفا(١) .

ونمنع كون الإعسار لا يردّ الحوالة إذا لم يشترط ، وقد سبق. ونمنع الملازمة بين ثبوته بالشرط وبعدمه ، ونحن لا ندّعي مساواة الحوالة للبيع في جميع أحكامه.

تذنيب : لو كان المحال عليه معسراً ولم يعلم المحتال ثمّ تجدّد اليسار وعلم سبق الفقر ، احتُمل ثبوت الخيار ؛ للاستصحاب‌. وعدمُه ؛ لزوال المقتضي.

مسألة ٦٠٢ : إذا حصلت الحوالة مستجمعة الشرائط ، انتقل المال إلى ذمّة المحال عليه ، وبرئ المحيل‌ ، سواء أبرأه المحتال أو لا - وهو قول عامّة الفقهاء(٢) - لأنّ الحوالة مأخوذة من التحويل للحقّ ، وإنّما يتحقّق هذا المعنى لو انتقل المال من ذمّةٍ إلى أُخرى ، وليس هنا إلّا ذمّة المحيل والمحال عليه ، فإذا تحوّل الحقّ من ذمّة أحدهما إلى الآخَر مع اليسار أو علم الإعسار ، لم يعد الحقّ إليه ؛ لعدم المقتضي.

وقال شيخنارحمه‌الله في النهاية : ومَنْ كان له على غيره مالٌ فأحال به على غيره ، وكان الـمُحال عليه مليّاً به في الحال وقَبِل الحوالة وأبرأه منه ، لم يكن له الرجوعُ عليه ، ضمن ذلك المـُحال به عليه أو لم يضمن بعد أن يكون قد قَبِل الحوالة ، فإن لم يقبل الحوالة إلاّ بعد ضمان المـُحال عليه ولم يضمن مَنْ أُحيل عليه ذلك ، كان له مطالبة الـمُحيل ، ولم تبرأ ذمّته بالحوالة ، فإن انكشف لصاحب المال أنّ الذي أُحيل به عليه غير ملي بالمال ، بطلت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٣ ، المغني ٥ : ٦٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٦٢.

(٢) المغني ٥ : ٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

٤٤١

الحوالة ، وكان له الرجوعُ على المديون بحقّه عليه ، ومتى لم يُبرئ الـمُحال له بالمال الـمُحيل في حال ما يُحيله ، كان له أيضاً الرجوعُ عليه في أيّ وقت شاء(١) .

وكان الحسن البصري أيضاً لا يرى الحوالة مبرئةً إلّا أن يُبرئه(٢) .

واحتجّ الشيخرحمه‌الله بما رواه زرارة - في الحسن - عن الصادق أو الباقرعليهما‌السلام : في الرجل يحيل الرجل بمالٍ كان له على رجلٍ [ آخَر ] ، فيقول له الذي احتال : برئت ممّا لي عليك ، قال : « إذا أبرأه فليس له أن يرجع عليه ، وإن لم يُبرئه فله أن يرجع على الذي أحاله »(٣) .

وهذه الرواية لا بأس بها ؛ لصحّة السند ، لكنّ المشهور عند الأصحاب والعامّة البراءة بمجرّد الحوالة ، فلابدَّ من حمل الرواية على شي‌ء ، وليس ببعيدٍ من الصواب حملها على ما إذا شرط المحيل البراءة ، فإنّه يستفيد بذلك عدم الرجوع لو ظهر إفلاس المحال عليه ، أو نقول : إذا لم يُبرئه ، فله أن يرجع على الذي أحاله إذا تبيّن له إعساره وقت الحوالة.

النظر الثاني : في الرضا بالحوالة.

مسألة ٦٠٣ : يشترط في الحوالة رضا المحيل - وهو الذي عليه الحقّ - إجماعاً‌ ، فلو أُكره على أن يحيل فأحال بالإكراه ، لم تصحّ الحوالة ، ولا نعرف فيه خلافاً ؛ لأنّ مَنْ عليه الحقّ مخيَّر في جهات القضاء ، فله أن يقضي من أيّ جهة شاء ، فلا يُعيَّن عليه بعض الجهات قهراً ، فلا يلزمه‌

____________________

(١) النهاية : ٣١٦.

(٢) المغني ٥ : ٥٨ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٥.

(٣) الكافي ٥ : ١٠٤ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٢١١ - ٢١٢ / ٤٩٦ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٤٤٢

أداؤه من جهة الدَّيْن الذي له على المحال عليه ، إلّا في صورةٍ واحدة لا يُعتبر فيها رضا المحيل ، وهي ما إذا جوّزنا الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه لو قال للمستحقّ : أحلت بالدَّيْن الذي لك على فلان على نفسي ، فقَبِل ، صحّت الحوالة ، فإذَنْ لا يشترط هنا رضا المحيل ، بل رضا المحتال والمحال عليه خاصّةً.

مسألة ٦٠٤ : يشترط رضا المحتال عند علمائنا أجمع‌ - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة(١) - لأنّ حقّه ثابت في ذمّة المحيل ، فلا يلزمه نقله إلى ذمّةٍ أُخرى ، إلّا برضاه ، كما أنّه لا يجوز أن يُجبر على أن يأخذ بالدَّيْن عوضاً ، وكما إذا ثبت حقّه في عينٍ ، لا يملك نقله إلى غيرها بغير رضاه. وقال داوُد وأحمد : لا يعتبر رضاه إذا كان المحال عليه مليّاً ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « مَنْ أُحيل على ملي‌ء فليحتل »(٢) والأمر للوجوب(٣) .

ونحن نمنع الوجوب ، بل المراد به الإرشاد.

مسألة ٦٠٥ : يشترط عندنا رضا المحال عليه‌ ، فلو لم يرض المحال عليه أو لم يُعلم هل رضي أم لا؟ لم تصحّ الحوالة ، وبه قال أبو حنيفة والزهري والمزني(٤) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٦١.

(٢) مسند أحمد ٣ : ٢٢٥ ، ضمن ح ٩٦٥٥.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٩ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المعونة ٢ : ١٢٢٨ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٦١.

(٤) الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٩٩ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، الوسيط ٣ : ٢٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، المغني ٥ : ٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٦١ - ٦٢.

٤٤٣

وقال أبو العبّاس ابن القاص : نصّ الشافعي في الإملاء على أنّها تفتقر إلى رضا المحال عليه - وإليه ذهب أبو سعيد الاصطخري من الشافعيّة - لأنّه أحد مَنْ تتمّ به الحوالة ، فأشبه المحتال والمحيل. ولأنّ الناس يختلفون في الاقتضاء والاستيفاء سهولةً وصعوبةً. ولأنّ الأصل بقاء الحقّ في ذمّة المحال عليه للمحيل ، فيستصحب إلى أن يظهر المعارض.

وأصحّ القولين عند الشافعي : أنّه لا يعتبر رضا المحال عليه إذا كانت الحوالة على مَنْ عليه دَيْنٌ للمحيل - وبه قال مالك وأحمد - لأنّ المحيل أقام المحتال مقام نفسه في القبض بالحوالة ، فلم يفتقر إلى رضا مَنْ عليه الحقّ ، كما لو كان وكيلاً في قبضه ، بخلاف المحتال ، فإنّه ينتقل حقّه ، وتبرأ ذمّته منه. ولأنّ المحال عليه محلّ الحقّ والتصرّف ، فلا يعتبر رضاه ، كما لو باع عبداً ، لا يعتبر رضاه(١) .

وبنوا الوجهين على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ إن قلنا بالأوّل ، فلا يشترط ؛ لأنّه حقٌّ للمحيل ، فلا يحتاج فيه إلى رضا الغير. وإن قلنا بالثاني ، يشترط ؛ لتعذّر إقراضه من غير رضاه(٢) .

وإن كانت الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه ، لم تصحّ عند الشافعي إلّا برضا المحال عليه ؛ لأنّا لو صحّحناه ، لألزمناه قضاء دَيْن الغير قهراً. وإن رضي ، ففي صحّة الحوالة وجهان بناهما الجمهور على الأصل المذكور(٣)

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٥ ، الوسيط ٣ : ٢٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٩٩ ، التلقين ٢ : ٤٤٣ ، الذخيرة ٩ : ٢٤٣ ، المعونة ٢ : ١٢٢٩ ، المغني ٥ : ٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٦١ - ٦٢.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

٤٤٤

وسيأتي(١) .

فقد ظهر من هذا الإجماعُ على اعتبار رضا المحيل إلّا في الصورة التي ذكرناها في أوّل النظر ، وأنّ أصحابنا اشترطوا رضا الثلاثة : المحيل والمحتال والمحال عليه.

النظر الثالث : في الدَّيْن.

مسألة ٦٠٦ : إذا أحال زيد عمراً على بكر بألف ، فلا يخلو إمّا أن تكون ذمّة زيدٍ(٢) مشغولةً بالألف لعمرو ، أو لا‌ ، وعلى كلا التقديرين فإمّا أن يكون بكر بري‌ء الذمّة منها أو مشغولها ، فالأقسام أربعة :

أ - أن تكون ذمّة زيدٍ وبكرٍ مشغولتين ، ولا خلاف هنا في صحّة الحوالة.

ب - قسيم هذا ، وهو أن تكون ذمّتهما بريئةً ، فإذا أحال زيد - وهو بري‌ء الذمّة - عمراً - ولا دَيْن له عليه - على بكر ، وهو بري الذمّة ، لم يكن ذلك إحالةً صحيحة ؛ لأنّ الحوالة إنّما تكون بدَيْنٍ ، وهنا لم يوجد ، بل يكون ذلك وكالةً في اقتراضٍ ، وإنّما جازت الوكالة هنا بلفظ الحوالة ؛ لاشتراكهما في المعنى ، وهو استحقاق الوكيل أن يفعل ما أمره الموكّل من الاقتراض ، وأن يطالبه من المحال عليه ، كما يستحقّ المحتال مطالبة المحال عليه.

ج - أن يكون المحيلُ بري‌ءَ الذمّة والمحالُ عليه مشغولَها ، ( فيحيل‌

____________________

(١) في ص ٤٤٥ ، القسم « د » من الأقسام المذكورة في المسألة ٦٠٦.

(٢) في « ج » : « ذمّته » بدل « ذمّة زيد ».

٤٤٥

مَنْ لا دَيْن عليه مَنْ لا دَيْن له على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ )(١) بقبضه ، فلا يكون ذلك أيضاً حوالةً ؛ لأنّ الحوالة مأخوذة من تحوّل الحقّ وانتقاله ، ولا حقّ [ هاهنا ](٢) ينتقل ويتحوّل ، بل يكون ذلك في الحقيقة وكالةً في الاستيفاء ؛ لاشتراكهما في استحقاق الوكيل مطالبة مَنْ عليه الدَّيْن ، كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه ، وتحوّل ذلك إلى الوكيل كتحوّله إلى المحيل.

د - أن يكون المحيل مشغولَ الذمّة والمحالُ عليه برئَ الذمّة.

وفي صحّة هذه الحوالة إشكال أقربه : الصحّة - وبه قال أبو حنيفة وأصحابه(٣) - لأنّ المحال عليه إذا قَبِلها ، صار كأنّه قضى دَيْن غيره بذمّته ؛ لأنّ الحوالة بمنزلة الحقّ المقبوض ، وإذا قبض حقّاً من غيره ، صحّ وسقط عن غيره ، كذا هنا ، لكن يكون ذلك بالضمان أشبه.

وللشافعيّة وجهان مبنيّان على أنّ الحوالة اعتياض أو استيفاء؟ فإن قلنا : إنّها اعتياض ، لم تصحّ ؛ لأنّه ليس له على المحال عليه شي‌ء نجعله عوضاً عن حقّ المحتال. وإن قلنا : إنّها استيفاء حقٍّ ، صحّت(٤) ، كأنّه أخذ المحتال حقّه وأقرضه من المحال عليه(٥) .

قال الجويني : الصحيح عندي تخريج الخلاف على الخلاف في أنّه‌

____________________

(١) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجريّة : « فيحيل مَنْ لا دَيْن له عليه على مَنْ للمحيل عليه دَيْنٌ ». وكذا في « ر » بإسقاط « له » من « لا دَيْن له عليه ».

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فيها ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) راجع : فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهنديّة ٣ : ٧٣ و ٧٤ ، وبدائع الصنائع ٦ : ١٦.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « صحّ ». والظاهر ما أثبتناه.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

٤٤٦

هل يصحّ الضمان بشرط براءة الأصيل؟ بل هذه(١) الصورة غير(٢) تلك الصورة ؛ فإنّ الحوالة تقتضي براءة المحيل ، فإذا قَبِل الحوالة ، فقد التزم على أن يُبرئ المحيل(٣) .

وهذا ذهابٌ منه إلى براءة المحيل وجَعْلها أصلاً مفروغاً عنه.

لكن للشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه يبرأ على قياس الحوالات.

والثاني - وبه قال أكثرهم - : أنّه لا يبرأ ، وقبول الحوالة ممّن لا دَيْن عليه ضمانٌ مجرّد(٤) .

ثمّ فرّعوا فقالوا : إن قلنا : لا تصحّ هذه الحوالة ، فلا شي‌ء على المحال عليه ، فإن تطوّع وأدّاه ، كان كما لو قضى دَيْنَ الغير. وإن قلنا : تصحّ ، فهو كما لو ضمنه ، فيرجع على المحيل إن أدّى بإذنه(٥) .

وكذا إن أدّى بغير إذنه عندنا وعلى أظهر الوجهين عند الشافعيّة(٦) ؛ لجريان الحوالة بإذنه.

وللمحال عليه الرجوع على المحيل هنا قبل الأداء - وهو أحد وجهي الشافعيّة(٧) - لأنّ المحيل يبرأ ، فينتقل الحقّ إلى ذمّة المحال عليه بمجرّد الحوالة.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « هنا » بدل « هذه ». والمثبت كما في المصدر.

(٢) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي المصدر « عين » بدل « غير ». وفي « ر » : « على غير ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٧ - ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٢.

(٦ و ٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٣.

٤٤٧

والثاني : ليس له ذلك بناءً على أنّ المحيل لا يبرأ ، كما أنّ الضامن لا يرجع على المضمون عنه قبل الأداء(١) .

وإذا طالبه المحتال بالأداء ، فله مطالبة المحيل بتخليصه.

وهل له ذلك قبل مطالبة المحتال؟ الأقوى عندي : ذلك.

وللشافعيّة وجهان كالوجهين في مطالبة الضامن(٢) .

ولو أبرأه المحتال ، لم يرجع على المحيل بشي‌ء.

ولو قبضه المحتال ثمّ وهبه منه ، فالأقوى : الرجوع ؛ لأنّه قد غرم عنه ، وإنّما عاد المال إليه بعقدٍ مستأنف.

وللشافعيّة وجهان يُنظر في أحدهما إلى أنّ الغُرْم لم يستقر عليه ، فلم يغرم عنه في الحقيقة شيئاً. وفي الثاني إلى أنّه عاد إليه بتصرّفٍ مبتدأ(٣) .

وهُما مأخوذان من القولين فيما إذا وهبت منه الصداق بعد القبض ثمّ طلّقها قبل الدخول.

ولو ضمن عنه ضامنٌ ، لم يرجع على المحيل حتى يأخذ المحتال المالَ منه أو من ضامنه.

ولو أحال المحتال على غيره ، نُظر إن أحاله على مَنْ عليه دَينٌ ، رجع على محيله بنفس الحوالة ؛ لحصول الأداء بها. وإن أحال على مَنْ لا دَيْن عليه ، لم يرجع عليه الذي أحاله عليه.

مسألة ٦٠٧ : الأقوى عندي أنّه لا يشترط في الدَّيْن المحال به اللزومُ‌

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٣.

٤٤٨

- وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - كما لو أحال بالثمن في مدّة الخيار بأن يحيل المشتري البائعَ على رجلٍ أو يحيل البائع رجلاً على المشتري. ولأنّه صائرٌ إلى اللزوم ، والخيار عارضٌ فيه ، فيعطى حكم اللازم.

والثاني لهم : المنع ؛ لأنّه ليس بلازم(٢) .

وهو مصادرة على المطلوب.

قال بعض الشافعيّة : هذا الخلاف مبنيّ على أنّ الحوالة معاوضة أو استيفاء؟ إن قلنا معاوضة ، فهي كالتصرّف في المبيع في زمان الخيار. وإن قلنا : استيفاء ، فتجوز(٣) .

قالوا : فإن قلنا بالمنع ، ففي انقطاع الخيار وجهان :

أحدهما : أنّه لا ينقطع ؛ لحكمنا ببطلانه ، وتنزيلنا إيّاه منزلة العدم.

والثاني : نعم ؛ لأنّ التصرّف في عوض العقد يتضمّن الرضا بإبطال الخيار(٤) .

وإن قلنا بالجواز ، لم يبطل الخيار عند بعضهم(٥) .

وقال آخَرون : يبطل ؛ لأنّ قضيّة الحوالة اللزوم ، ولو بقي الخيار لما صادفت الحوالة مقتضاها ، وكانت هذه الحوالة كالحوالة على النجوم(٦) .

والأقوى : بقاء الخيار.

مسألة ٦٠٨ : إذا وقعت الحوالة بالثمن المتزلزل بالخيار ثمّ انفسخ البيع‌

____________________

(١ و ٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، الوسيط ٣ : ٢٢٢ - ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩.

(٤ - ٦) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

٤٤٩

بفسخ صاحب الخيار ، بطل الثمن ، وبطلت الحوالة المترتّبة عليه ، فلو أحال البائع على المشتري بالثمن رجلاً له عليه دَيْنٌ ثمّ فسخ المشتري بالخيار ، بطلت الحوالة ؛ لأنّها فرع البيع ، والبيع قد بطل.

وعندي فيه نظر ؛ لأنّ البيع لم يبطل من أصله ، وإنّما تجدّد له البطلان ، فلا يؤثّر في الحوالة التي جرت منهما.

ولو أحال المشتري البائعَ على غيره ثمّ فسخ البيع بالخيار ، بطلت الحوالة ؛ لترتّبها على البيع ، والبيع قد بطل.

ويُحتمل قويّاً عدم بطلان الحوالة.

وعلى قول الشافعيّة ببطلان الخيار لو أحال المشتري البائعَ على ثالثٍ ، يبطل خيارهما جميعاً ؛ لتراضيهما. ولو أحال البائع رجلاً على المشتري ، لم يبطل خيار المشتري ، إلاّ أن يقبل ويرضى بالحوالة(١) .

مسألة ٦٠٩ : لو أحال زيد على عمرو بكراً بمالٍ فأدّاه عمرو - بعد قبول الثلاثة الحوالة - إلى بكر‌ ، ثمّ جاء عمرو يطالب زيداً بما أدّاه بحوالته إلى بكر ، فادّعى زيد أنّه إنّما أحال بما لَه عليه ، وأنكر عمرو ذلك وأنّه احتال ولا شي‌ء لزيد عليه ، كان القولُ قولَ عمرو ؛ لأصالة براءة ذمّته.

ويُحتمل أن يقال : إن قلنا بصحّة الحوالة على مَنْ لا مال عليه ، كان القولُ قولَ المحال عليه قطعاً. وإن قلنا : إنّها لا تصحّ ، كان القولُ قولَ المحيل ؛ لاعترافهما بالحوالة ، وادّعاء المحال عليه بطلانها ، والأصل الصحّة.

مسألة ٦١٠ : لو أحال السيّد على مكاتَبه بمال النجوم‌ ، فإن كان بعد‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

٤٥٠

حلوله ، صحّ ؛ لثبوته في ذمّة المكاتَب. وإن كان قبل الحلول ، فكذلك على الأقوى.

ويجي‌ء على قول الشيخرحمه‌الله المنع(١) ؛ لأنّ مال الكتابة غير واجبٍ - عنده(٢) - على المكاتَب ؛ إذ له أن يُعجّز نفسه ، فله أن يمتنع من أدائه.

وللشافعيّة وجهان فيما إذا أحال السيّد غيره على مكاتَبه بالنجوم.

أحدهما : الجواز - كما قلناه - لأنّ النجوم دَيْنٌ ثابت على المكاتَب ، فأشبه سائر الديون.

وأصحّهما عندهم : المنع ؛ لأنّ النجوم غير لازمة على المكاتَب ، وله إسقاطها متى شاء ، فلا يمكن إلزامه الدفع إلى المحتال(٣) .

وعلى ما اخترناه - من صحّة الحوالة - لو أعتق السيّد عبده المكاتَب ، بطلت الكتابة ، ولم يسقط عن المكاتَب مال الحوالة ؛ لأنّ المال بقبوله الحوالة صار لازماً له للمحتال ، ولا يضمن السيّد ما يغرمه من مال الحوالة.

ولو كان للسيّد عليه دَيْنُ معاملةٍ غير مال الكتابة ، صحّت الحوالة به قطعاً ؛ لأنّ حكمه حكم الأحرار في المداينات.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه مبنيّ على أنّ المكاتَب لو عجّز نفسه ، هل يسقط ذلك الدَّيْن؟ إن قلنا : نعم ، لم تصح الحوالة ، وإلّا صحّت(٤) .

والمعتمد ما قلناه ، وهو قول أكثر الشافعيّة وقول أكثر العامّة(٥) .

ولو أحال المكاتَبُ السيّدَ على إنسانٍ بمال الكتابة ، صحّت الحوالة‌

____________________

(١) المبسوط - للطوسي - ٢ : ٣٢١.

(٢) الخلاف ٦ : ٣٩٣ ، المسألة ١٧ ، المبسوط - للطوسي - ٦ : ٧٣ و ٨٢.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٩ - ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٥) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤ ، المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٧.

٤٥١

عندنا وعند أكثر الشافعيّة وأكثر المانعين من حوالة السيّد عليه بالنجوم(١) ، وتبرأ ذمّة المكاتَب من مال الكتابة ، ويتحرّر ، ويكون ذلك بمنزلة الأداء ، سواء أدّى المحال عليه أو مات مفلساً ؛ لأنّ ما أحاله عليه مستقرّ ، والكتابة لازمة من جهة السيّد ، فمتى أدّى المحال عليه وجب على السيّد القبول أو الإبراء.

وقال بعض الشافعيّة : لا تصحّ هذه الحوالة أيضاً(٢) .

فللشافعيّة إذَنْ ثلاثة أقوال في الجمع بين الصورتين :

أحدها : جواز إحالة المكاتَب بالنجوم ، وإحالة السيّد على النجوم ، وهو قول ابن سريج.

والثاني : منعهما جميعاً.

والثالث : أظهرها عندهم ، وهو : جواز إحالة المكاتَب بها ، ومنع إحالة السيّد عليها(٣) .

ولو أحال السيّد بأكثر مال الكتابة ثمّ أعتقه ، سقط عن المكاتَب الباقي ، ولم تبطل الحوالة.

مسألة ٦١١ : مال الجُعْل في الجُعالة إن استحقّ بالعمل ، صحّت الحوالة به إجماعاً.

وإن لم يشرع في العمل ، فالأقرب : الجواز ؛ لأنّا نجوّز الحوالة على بري‌ء الذمّة.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤ ، المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) الوسيط ٣ : ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠.

٤٥٢

وقياس الشافعيّة أنّه يجي‌ء في الحوالة به وعليه الخلافُ المذكور في الرهن به وفي ضمانه(١) .

وقال بعض الشافعيّة : تجوز الحوالة به وعليه بعد العمل ، لا قبله(٢) .

ولو أحال مَنْ عليه الزكاة الساعيَ على إنسانٍ بالزكاة ، جاز ، سواء قلنا : إنّ الحوالة استيفاء أو اعتياض ؛ لأنّه دَيْنٌ ثابت في الذمّة ، فجازت الحوالة.

وعندنا يجوز دفع قيمة الزكاة عن عينها ، فجاز الاعتياض فيها.

أمّا الشافعيّة فإنّهم منعوا من دفع القيمة في الزكاة ومن الاعتياض عنها(٣) ، فهنا قالوا : إن قلنا : إنّ الحوالة استيفاء ، صحّت الحوالة هنا. وإن قلنا : إنّها اعتياض ، لم تجز ؛ لامتناع أخذ العوض عن الزكاة(٤) .

ولو أحال الفقير المديون صاحبَ دَيْنه بالزكاة على مَنْ وجبت عليه ، لم تصح ؛ لأنّها لم تتعيّن له إلّا بالدفع إليه.

ولو قَبِل مَنْ وجبت عليه ، صحّ ، ولزمه الدفع إلى المحتال.

مسألة ٦١٢ : تجوز الحوالة بكلّ مالٍ لازمٍ ثابتٍ في الذمّة معلومٍ‌ ؛ لأنّها إمّا اعتياض ، فلا تصحّ على المجهول ، كما لا يصحّ بيعه ، وإمّا استيفاء ، وإنّما يمكن استيفاء المعلوم ، أمّا المجهول فلا. ولاشتماله على الغرر.

فلو قال : أحلتك بكلّ ما لك عَلَيَّ ، فقَبِل ، لم تصح.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٢) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٤.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ١٥٧ ، المجموع ٥ : ٤٢٨ - ٤٢٩ ، و ٦ : ١٣٢ ، حلية العلماء ٣ : ١٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٦٥ ، المغني ٢ : ٦٧١ ، الشرح الكبير ٢ : ٥٢١.

(٤) روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

٤٥٣

ويحتمل الصحّة ، ويكون على المحال عليه للمحتال كلّ ما تقوم به البيّنة ، كما قلناه في الضمان.

ولا يشترط اتّفاق الدَّيْنين في سبب الوجوب ، فلو كان أحدهما ثمناً والآخَر أُجرةً أو قرضاً أو بدلَ متلفٍ أو أرشَ جنايةٍ وما أشبهه ، جازت الحوالة ، ولا نعلم فيه خلافاً.

مسألة ٦١٣ : تصحّ الحوالة بكلّ دَيْنٍ ثابتٍ في الذمّة‌ ، سواء كان مثليّاً ، كالذهب والفضّة والحبوب والأدهان ، أو من ذوات القِيَم ، كالثياب والحيوان وغيرهما - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) - لأنّه حقٌّ لازمٌ ثابتٌ في الذمّة ، فأشبه ما لَه مِثْلٌ.

والثاني : المنع ؛ لأنّ الغرض من الحوالة إيصال الحقّ إلى مستحقّه من غير تفاوتٍ ، وهذا الغرض لا يتحقّق فيما لا مِثْل له ؛ لأنّ المثل لا يتحرّز(٢) ، ولهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف(٣) .

والأوّل أصحّ. والوصول إلى الحقّ قد يكون بالمثل ، وقد يكون بالقيمة ، وكما يجوز إبراء المديون منه بالأداء ، كذا المحال عليه.

ولو كان المال ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه ، ففي جواز الحوالة به إشكال أقربه : الجواز ؛ لأنّ الواجب في الذمّة حينئذٍ القيمة ، وتلك العين لا تثبت في الذمّة ، فلا تقع الحوالة بها ولا بمثلها ؛ لعدمه ، بل بالقيمة.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

(٢) في النسخ الخطّيّة : « لا يتحرّر » بالراءين المهملتين.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

٤٥٤

ولو كان عليه خمس من الإبل أرش الموضحة مثلاً ، وله على آخَر مثلها ، فأحاله بها ، فالأقرب : الصحّة ؛ لأنّها تنحصر بأقلّ ما يقع عليه الاسم في السنّ والقيمة وسائر الصفات ، وهو أحد قولَي الشافعي(١) .

والثاني : لا تجوز ؛ لأنّ صفاتها مجهولة(٢) .

وهو ممنوع.

وقال بعض الشافعيّة : إذا أحال بإبل الدية وعليها وفرّعنا على جواز الحوالة في المتقوّمات ، فوجهان أو قولان مبنيّان على جواز المصالحة والاعتياض عنها.

والأصحّ عندهم : المنع ؛ للجهل بصفاتها(٣) .

ولو كان الحيوان صداقاً ودخل بها ، جازت الحوالة عند بعض الشافعيّة ؛ لأنّه لا يكون مجهولاً(٤) .

ومَنَعه بعضهم ؛ لأنّه لا تجوز المعاوضة معها(٥) .

النظر الرابع : في تساوي الجنسين.

مسألة ٦١٤ : من مشاهير الفقهاء(٦) وجوب تساوي الدَّيْنين‌ - أعني الدَّيْن الذي للمحتال على المحيل ، والذي للمحيل على المحال عليه - جنساً ووصفاً ، فلو كان له دنانير على شخصٍ فأحال عليه بدراهم ، لم تصحّ ؛ لأنّ الحوالة إن جعلناها استيفاءً ، فلأنّ مستحقّ الدراهم إذا‌

____________________

(١ و ٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢ ، ولاحظ : حلية العلماء ٥ : ٣٣.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٥.

(٤ و ٥) راجع : التهذيب - للبغوي - ٤ : ١٦٢.

(٦) بداية المجتهد ٢ : ٣٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦ ، المغني ٥ : ٥٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٩.

٤٥٥

استوفاها وأقرضها فمحال أن ينتقل حقّه إلى الدنانير.

وإن جعلناها معاوضةً ، فلأنّها وإن كانت معاوضةً فليست هي على حقيقة المعاوضات التي يقصد بها تحصيل ما ليس بحاصل من جنس مالٍ أو زيادة قدرٍ أو صفة ، وإنّما هي معاوضة إرفاقٍ ومسامحة للحاجة ، فاشترط فيها التجانس والتساوي في القدر والصفة ؛ لئلّا يتسلّط على المحال عليه ، كما في القرض.

ولأنّا نجبر المحال عليه عند مَنْ لا يشترط رضاه ، ولا يمكن إجباره مع الاختلاف.

ولأنّ الحوالة لا يُطلب بها الفضل ، ولهذا جازت دَيْناً بدَيْن ، ألا ترى أنّه لا يجوز بيع الدَّيْن بالدَّيْن ، فلو جوّزنا الإحالة مع الاختلاف في الجنس أو الوصف ، لكان بيعَ الدَّيْن بالدَّيْن.

ومع هذا فقد قال المشترطون للتساوي : إنّه تصحّ الحوالة على مَنْ لا دَيْن عليه ، والأحرى جواز الإحالة على مَنْ عليه دَيْن مخالف. لكنّ الغرض بقولهم : « إذا تغاير الدَّيْنان جنساً أو وصفاً أو قدراً ، لم تصحّ الحوالة » أنّ الحقّ لا يتحوّل بها من الدنانير إلى الدراهم وبالعكس ، لكنّها إذا جرت فهي حوالة على مَنْ لا دَيْن له عليه ، وحكمه ما تقدّم(١) .

مسألة ٦١٥ : لو كان عليه إبل من الدية وله على آخَر مثلها قرضاً ، فأحاله صاحب القرض على المقترض بإبل الدية‌ ، فإن قلنا : يردّ في القرض مثلها ، صحّت الحوالة ؛ لأنّه يمكن استيفاء الحقّ على صفته من المحال عليه. ولأنّ الخيرة في التسليم إلى مَنْ عليه الدَّيْن ، وقد رضي بتسليم ما لَه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٦

في ذمّة المقترض ، وهو مثل الحقّ ، فكانت الحوالة صحيحةً.

وإن قلنا : إنّه يردّ في القرض القيمة ، لم تصحّ الحوالة ؛ لاختلاف الجنس.

وكذا ما يثبت في الذمّة قيمته في القرض - كالجواهر واللآلئ وغيرهما ممّا لا يصحّ السَّلَم فيه - لا تصحّ الحوالة به.

ولو احتال المقرض بإبل الدية ، لم تصح ؛ لأنّا إن قلنا : تجب القيمة في القرض ، فقد اختلف الجنس. وإن قلنا : يجب المثل ، فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته ، والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك.

مسألة ٦١٦ : يجب تساوي الدَّيْنين في القدر‌ ، فلا يحال بخمسة على عشرة ، ولا بعشرة على خمسة ؛ لما قلنا من أنّ هذا العقد للإرفاق ، ولإيصال كلّ حقٍّ إلى مستحقّه ، ولم يوضع لتحصيل زيادة أو حطّ شي‌ء.

والمراد بذلك وقوع المعاوضة بالقليل عن الكثير وبالعكس ، وإلّا فلو كان له عشرة فأحال بخمسة منها ، أو كان له خمسة فأحال بها وبخمسةٍ أُخرى ، فإنّه تصحّ.

وللشافعيّة وجهٌ في الإحالة بالقليل على الكثير : أنّها جائزة ، وكأنّ المحيل تبرّع بالزيادة(١) .

وقال أبو العباس ابن سريج : الحوالة بيع إلّا أنّه غير مبنيّ على المكايسة والمغابنة وطلب الربح والفضل ، بل جُعل رفقاً ، كالقرض ، وإن كان نوعَ معاوضةٍ ، فلا تجوز إلّا مع اتّفاق الجنس جنساً وقدراً وصفةً ، وقد قال الشافعي في كتاب البيوع في باب الطعام قبل أن يستوفى : وإن حلّ عليه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٧

طعام فأحال به على رجل له عليه طعام أسلفه إيّاه ، لم تجز من قِبَل أنّ هذا الطعام لـمّا لم يجز بيعه لم تجز الحوالة به ؛ لأنّه بيع ، وهذا نصٌّ منه(١) .

وقيل : ليست بيعاً(٢) - وهو ما اخترناه نحن أوّلاً - لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ندب إليها ، فقال : « مَنْ أُحيل على ملي‌ء فليحتل »(٣) . ولأنّها لا تصحّ بلفظ البيع ، ولا تجوز الزيادة فيها ولا النقصان ، ولما جازت في النقود إلّا مع التقابض في المجلس ، إلّا أنّ هذا القائل لا يجوّز الحوالة بالـمُسْلَم فيه ، وهذا تشمير(٤) لقول مَنْ قال : إنّه بيع.

لا يقال : لو كان بيعاً ، لكان على المحيل تسليمه إلى المحال عليه ؛ لأنّه عوض من جهته ، كما إذا باع شيئاً في يد غيره ، فإنّه يطالبهما به المشتري.

لأنّا نقول : أجاب مَنْ قال : « إنّه بيع » : بأنّه لـمّا استحقّ مطالبة المحال عليه به لم يستحقّ مطالبة المحيل ؛ لأنّه لو استحقّ مطالبتهما ، لكان قد حصل له بالحوالة زيادة في حقّ المطالبة ، وقد ثبت أنّ الحوالة مبنيّة على أنّه لا يستحقّ بها إلّا مثل ما كان يستحقّه ، بخلاف البيع ؛ لأنّه تجوز فيه الزيادة.

وفائدة الاختلاف : ثبوت خيار المجلس إن قلنا : إنّها بيع.

والحقّ ما تقدّم ، والاعتذار باطل ؛ لأنّ تخلّف لازم البيع يقضي بانتفائه.

____________________

(١) انظر : الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦ ، وراجع : الأُم ٣ : ٧٣.

(٢) انظر : الحاوي الكبير ٦ : ٤١٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٥ : ١٢٦.

(٣) المصنّف - لابن أبي شيبة - ٧ : ٧٩ / ٢٤٤٥.

(٤) التشمير : التقليص والإرسال. لسان العرب ٤ : ٤٢٨ « شمر ».

٤٥٨

مسألة ٦١٧ : الأقرب : أنّه لا يشترط تساوي المالَيْن في الحلول والتأجيل‌ ، فيجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ ؛ لأنّ للمحيل أن يُعجّل ما عليه ، فإذا أحال به على الحالّ فقد عجّل.

وكذا يجوز أن يحيل بالحالّ على المؤجَّل.

ثمّ إن رضي المحال عليه بالدفع معجَّلاً ، جاز ، وإلاّ لم يجز ، ووجب على المحتال الصبر ، كما لو احتال مؤجّلاً.

وللشافعيّة قولان :

أصحّهما عندهم : أنّه يشترط التساوي في الحلول والتأجيل ؛ إلحاقاً للوصف بالقدر.

والثاني : أنّه يجوز أن يحيل بالمؤجَّل على الحالّ ؛ لأنّه تعجيل ، ولا يجوز العكس ؛ لأنّ حقّ المحتال حالٌّ ، وتأجيل الحالّ لا يلزم(١) .

ونحن نمنع عدم اللزوم مطلقاً ، بل إذا تبرّع به ، لم يلزم ، أمّا إذا شرطه في عقدٍ لازم ، فإنّه يلزم ، والحوالة عقد لازم ، والمحيل إنّما أحال بالمؤجَّل ، والمحال عليه إنّما قَبِل على ذلك ، فلم يكن للمحتال الطلبُ معجَّلاً.

فروع :

أ - لو كان الدَّيْنان مؤجَّلين ، فإن تساويا في الأجل ، صحّت الحوالة قطعاً.

وإن اختلفا ، صحّت عندنا أيضاً.

وللشافعيّة وجهان بناءً على الوجهين في الحالّ والمؤجَّل ، فإن منعناه هناك ، منعناه هنا. وإن جوّزناه هناك ، جاز هنا على حدّ ما جاز هناك على معنى أنّه يجوز أن يحال بالأبعد على الأقرب ؛ لأنّه تعجيل ، ولا يجوز‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

٤٥٩

العكس ؛ لأنّه تأجيل الحالّ(١) .

ب - لو كان أحدهما صحيحاً والآخَر مكسَّراً‌ ، قالت الشافعيّة : لم تجز الحوالة بينهما على الوجه الأوّل ، وعلى الثاني يحال بالمكسَّر على الصحيح ، ويكون المحيل متبرّعاً بصفة الصحّة ، ولا يحال بالصحيح على المكسَّر ، إلَّا إذا كان المحتال تاركاً لصفة الصحّة ، ويرضى بالمكسَّرة رشوةً ليحيله المحيل.

ج - يُخرّج على هذا الخلاف عندهم حوالة الأردأ على الأجود في كلّ جنسٍ ، وبالعكس‌(٢) .

والأقرب عندي : جواز ذلك كلّه.

د - لو أدّى المحال عليه الأجود إلى المحتال ، وجب القبول‌. وكذا الصحيح عوض المكسَّر.

أمّا تعجيل المؤجَّل فلا يُجبر عليه ، خلافاً للشافعيّة ، فإنّهم أوجبوه(٣) ، حيث يجبر المستحقّ على القبول(٤) .

وهذا يتفرّع على الصحيح في أنّ المديون إذا جاء بأجود ممّا عليه من ذلك النوع ، يُجبر المستحقّ على قبوله ، ولا يكون ذلك معاوضةً؟(٥) .

ه- لو كان الدَّيْنان حالَّيْن فشرط في الحوالة أنّ المحتال يقبض حقّه أو بعضه بعد شهرٍ ، صحّ عندنا‌ - خلافاً لأحمد(٦) - لعموم قولهعليه‌السلام :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٦٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣١ - ١٣٢.

(٣) في النسخ الخطّيّة : « جوّزوه » بدل « أوجبوه ».

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٣٢.

(٦) المغني ٥ : ٥٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٩.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

ثابت لمن قام مقامه من الأئمّة الهادين صلّى الله عليهم أجمعين.

( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤) )

ثمّ عظّم ووقّر رسوله بين عباده، ولينتهوا عن رجوعهم عن الأمر الجامع بغير إذنه، فقال:( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) أي: إذا احتاج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم، فلا تفرّقوا عنه إلّا بإذنه. ولا تقيسوا دعاءه إيّاكم على دعاء بعضكم بعضا، وفي جواز الإعراض، والمساهلة في الإجابة، والرجوع عن المجمع بغير إذنه، فإنّ المبادرة إلى إجابته واجبة، والمراجعة بغير إذنه محرّمة.

وقيل: معناه: لا تجعلوا نداءه وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه، ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات، ولكن بلقبه المعظّم له، مثل: يا نبيّ الله ويا رسول الله، مع قصد التوقير والتواضع، وخفض الصوت. أو لا تجعلوا دعاءه ربّه كدعاء صغير كم كبير كم، يجيبه مرّة ويردّه اخرى، فإنّ دعاءه مستجاب. أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فلا تبالوا بسخطه، فإنّ دعاءه عليكم موجب السخط والغضب.

( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ ) أي: ينسلون ويخرجون قليلا قليلا من الجماعة. ونظيره: تدرّج وتدخّل.( لِواذاً ) ملاوذة. وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا.

٥٤١

يعني: ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض حتّى يخرج. أو يلوذ بمن يؤذن له فينطلق معه، كأنّه تابعه. وانتصابه على الحال، أي: ملاوذين.

قيل: نزلت في حفر الخندق، وكان قوم يتسلّلون بغير إذن. وقيل: كانوا يتسلّلون عن الجهاد ويرجعون عنه. وقيل: عن خطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الجمعة.

ثمّ حذّرهم عن مخالفة أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال:( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) أي: يخالفون أمره بترك مقتضاه، ويذهبون سمتا خلاف سمته. وهم المنافقون.

و «عن» لتضمّنه معنى الإعراض. أو يصدّون المؤمنين عن أمره. من: خالفه عن الأمر إذا صدّ عنه. والأصل: يخالفون المؤمنين صادّين عن أمره. وحذف المفعول، لأنّ المقصود بيان المخالف والمخالف عنه. والضمير لله، فإنّ الأمر له في الحقيقة، أو للرسول، فإنّه المقصود بالذكر.

( أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ) محنة وبليّة في الدنيا( أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) في الآخرة. عن ابن عبّاس: الفتنة القتل. وعن عطاء: هي زلازل وأهوال. وعن الصادقعليه‌السلام : «يسلّط عليهم سلطان جائر».

واستدلّ به على أنّ الأمر للوجوب، فإنّه يدلّ على أنّ ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين، فإنّ الأمر بالحذر عنه يدلّ على خشية المشروط بقيام المقتضي له، وذلك يستلزم الوجوب.

( أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) أيّها المكلّفون من المخالفة والموافقة، والنفاق والإخلاص، وذكر «قد» ليؤكّد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق. ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد. وذلك أنّ «قد» إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «ربما» فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير.

والمعنى: أنّ جميع ما في السماوات والأرض مختصّ به خلقا وملكا وعلما ،

٥٤٢

فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين، وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها؟!( وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ ) يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء. ويجوز أن يكون الخطاب أيضا مخصوصا بهم على طريق الالتفات. وقرأ يعقوب بفتح الياء وكسر الجيم.

( فَيُنَبِّئُهُمْ ) يوم القيامة( بِما عَمِلُوا ) بما أبطنوا من سوء أعمالهم، بالتوبيخ والمجازاة عليه( وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) لا تخفى عليه خافية.

٥٤٣
٥٤٤

(٢٥)

سورة الفرقان

مكّيّة. وهي سبع وسبعون آية بلا خلاف.

في حديث أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ سورة الفرقان بعث يوم القيامة وهو مؤمن بأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، ودخل الجنّة بغير حساب».

وروى إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: «يا ابن عمّار لا تدع قراءة( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ) فإنّ من قرأها كلّ ليلة لم يعذّبه الله أبدا ولم يحاسبه، وكان منزلته في الفردوس الأعلى».

واعلم أنّ هذه السورة متّصلة بسورة النور اتّصال النظير بالنظير، فإن مختتم تلك السورة تضمّن أنّ لله ما في السماوات والأرض، وأنّه بكلّ شيء عليم، ومفتتح هذه السورة أنّ له ملك السماوات والأرض.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) )

٥٤٥

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ) تكاثر خيره.

من البركة، وهي كثرة الخير. ومنها: تبارك الله، أي: عظمت خيراته وكثرت. أو تزايد على كلّ شيء، وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، فإنّ البركة تتضمّن معنى الزيادة. وترتيبه على إنزاله الفرقان، لـما فيه من كثرة الخير وتزايده، أو لدلالته على تعاليه. وقيل: دام وثبت.

من بروك الطير على الماء. ومنه: البركة، لدوام الماء فيها. وهو لا يتصرّف فيه، ولا يستعمل إلّا لله.

والفرقان مصدر: فرق بين الشيئين، إذا فصل بينهما. سمّي به القرآن، لفصله بين الحقّ والباطل بتقريره، أو المحقّ والمبطل بإعجازه. أو لكونه مفروقا، مفصولا بعضه عن بعض في الإنزال، كقوله:( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) (١) .

( لِيَكُونَ ) العبد، أو الفرقان( لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) للجنّ والإنس منذرا. أو إنذارا، كالنكير بمعنى الإنكار.

قال النيشابوري: «قالت المعتزلة: لو لم يرد الإيمان من الكلّ لم يكن الرسول نذيرا للكلّ. وعورض بنحو قوله:( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ ) »(٢) .(٣) انتهى كلامه.

أقول: إنّما تتمّ المعارضة إذا كانت اللام للتعليل، ولم لا يجوز أن تكون للمال؟ كقوله:( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (٤) . وهذا البحث ممّا سنح للطبيعة، وسمحت به القريحة أو ان الكتابة، وأرجو أن يكون صوابا إن شاء الله العزيز.

__________________

(١) الإسراء: ١٠٦.

(٢) الأعراف: ١٧٩.

(٣) تفسير غرائب القرآن ٥: ٢٢١.

(٤) القصص: ٨.

٥٤٦

( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) بدل من الأوّل. وإبدال التعليل للمبدل منه لا يستلزم الفصل بينه وبين بدله، لأنّه من تمام المبدل منه، فلا يكون كلاما أجنبيّا قادحا، لإيراد البدل بعده من معلّله. أو مدح مرفوع أو منصوب.

( وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ) كزعم النصارى( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) كقول الثنويّة.

ولـمّا أثبت لذاته الملك مطلقا، ونفى ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه، نبّه على ما يدلّ عليه، فقال:( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) أحداثه إحداثا مراعى فيه التقدير حسب إرادته، كخلقة الإنسان من موادّ مخصوصة، وصور وأشكال معيّنة( فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) فهيّأه لـما يصلح له ويراد منه من الخصائص والأفعال، كتهيئة الإنسان للإدراك والفهم، والنظر والتدبير، واستنباط الصنائع المتنوّعة، ومزاولة الأعمال المختلفة، إلى غير ذلك. وكذلك كلّ حيوان وجماد جاء به على الجبلّة المستوية المقدّرة بأمثله الحكمة والتدبير، فقدّره لأمر مّا ومصلحة، مطابقا لـما قدّر له، غير متجاف عنه.

أو فقدّره للبقاء إلى أجل مسمّى. وقد يطلق الخلق لمجرّد الإيجاد والإحداث، من غير نظر إلى معنى التقدير. فيكون المعنى: وأوجد كلّ شيء فقدّره في إيجاده حتّى لا يكون متفاوتا.

وتفسير الخلق والتقدير بهذه الوجوه جواب من قال: إنّ الخلق في معنى التقدير، فيصير المعنى: قدّر كلّ شيء فقدّره.

( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ

٥٤٧

الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) )

ولـمّا تضمّن الكلام إثبات التوحيد والنبوّة، أخذ في الرّد على المخالفين فيهما، فقال:( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ) من الأوثان( لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) لأنّ عبدتهم ينحتونهم ويصوّرونهم( وَلا يَمْلِكُونَ ) ولا يستطيعون( لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا ) دفع ضرّ عنها( وَلا نَفْعاً ) ولا جلب نفع( وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً ) أي: لا يقدرون على إماتة أحد وإحيائه أوّلا، ولا بعثه ثانيا.

والحاصل: أنّهم آثروا على عبادة الله عبادة آلهة، لا عجز أبين من عجزهم، فإنّهم لا يقدرون على شيء من أفعال العباد، فضلا عن أفعال الله سبحانه. ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهيّة، لعرائه عن لوازمها، واتّصافه بما ينافيها. فكيف يعبدون من لا يقدر على شيء من ذلك، ويتركون عبادة ربّهم الّذي يملك ذلك كلّه؟! ثمّ أخبر عن تكذيبهم بالقرآن، فقال:( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا ) هذا القرآن( إِلَّا إِفْكٌ ) كذب مصروف عن وجهه( افْتَراهُ ) اختلقه( وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) أي: اليهود، فإنّهم يلقون إليه أخبار الأمم، وهو يعبّر عنها بعبارته. وقيل: جبر مولى عامر، ويسار غلام العلاء بن الحضرمي، وعداس مولى حويطب بن عبد العزّى، قاله النضر بن الحارث بن عبد الدار. وقيل: أبو فكيهة الرومي. وقد سبق ذلك في قوله تعالى:( إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) (١) .

__________________

(١) النحل: ١٠٣.

٥٤٨

( فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً ) قولا متجاوزا عن الحقّ، بجعل الكلام الّذي أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب، إفكا مختلقا متلقّفا من اليهود أو الروميّ العجمي.( وَزُوراً ) بنسبة ما هو بريء منه إليه. و «أتى» و «جاء» يستعملان في معنى: فعل، فيعدّيان تعديته.

ولـمّا تقدّم التحدّي وعجزهم عن الإتيان بمثله، اكتفى الله سبحانه ها هنا بهذا القدر تنبيها على ذلك.

( وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) ما سطره المتقدّمون، من نحو أحاديث رستم وإسفنديار. جمع أسطار، أو أسطورة كأحدوثة.( اكْتَتَبَها ) كتبها لنفسه وأخذها، فإنّ «افتعل» قد يكون للاتّخاذ، نحو: اشترى. ومثله: استكبّ الماء واصطبّه، إذا سكبه وصبّه لنفسه وأخذه. أو استكتبها.( فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ ) ليحفظها، فإنّه أمّي لا يقدر أن يكتب( بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) طرفي النهار، أي: دائما. أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس، وحين يأوون إلى مساكنهم.

( قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) لأنّه أعجزكم عن آخر كم بفصاحته، وتضمّنه إخبارا عن مغيّبات مستقبلة، وأشياء مكنونة لا يعلمها إلّا من هو يعلم ما تسرّونه أنتم من الكيد لرسوله، مع علمكم أنّ ما تقولونه باطل وزور. وكذلك يعلم باطن أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبراءته ممّا تبهتونه به. وهو يجازيكم ويجازيه على ما علم منكم وعلم منه.

( إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون، مع كمال قدرته عليها، واستحقاقكم أن يصبّ عليكم العذاب صبّا، لإسنادكم كلامه الفائق على كلّ كلام لفظا ومعنى إلى أساطير الأوّلين.

( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها

٥٤٩

وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) )

( وَقالُوا ) وقال النضر بن الحارث وعبد الله بن أبيّ ونوفل بن خويلد ومن تابعهم استهانة وتهكّما واستهزاء:( ما لِهذَا الرَّسُولِ ) الّذي يزعم الرسالة( يَأْكُلُ الطَّعامَ ) كما نأكل( وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) لطلب المعاش كما نمشي، أي: إن صحّ دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا؟ يعنون أنّه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيّش.

وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات، فإنّ تميّز الرسول عمّا عداه ليس بأمور جسمانيّة، وإنّما هو بأحوال نفسانيّة، كما أشار إليه بقوله:( إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) (١) .

ثمّ تحوّلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك، فقالوا:( لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) حتّى يتساندا في الإنذار والتخويف، ولنعلم صدقه بتصديق الملك.

ثمّ تنزّلوا عنه فقالوا:( أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ) أي: إن لم يكن مرفودا بملك، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء فيستظهر به، ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش.

ثمّ تنزّلوا عنه أيضا فقالوا:( أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ) أي: إن لم يلق إليه كنز فلا أقلّ من أن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق من ريعه، فيستغني عن طلب المعيشة، كما للدهاقين. وقرأ حمزة والكسائي بالنون، والضمير للكفّار، أي: نأكل معه من ذلك البستان، فننتفع به في دنيانا ومعاشنا.

( وَقالَ الظَّالِمُونَ ) وضع «الظّالمون» موضع ضمير هم تسجيلا عليهم بالظلم فيما

__________________

(١) الكهف: ١١٠.

٥٥٠

قالوه( إِنْ تَتَّبِعُونَ ) ما تتّبعون( إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً ) سحر فغلب على عقله. وقيل: ذا سحر، وهو الرّئة، أي: بشرا لا ملكا، لأنّ الرئة مختصّة بجنس البشر، أي: الحيوان.

( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ) أي: قالوا فيك تلك الأقوال الشاذّة، واخترعوا لك الأحوال النادرة، من نبوّة مشتركة بين إنسان وملك، وإلقاء كنز عليك من السّماء، وغير ذلك( فَضَلُّوا ) عن الطريق الموصل إلى معرفة خواصّ النبيّ، والمائز بينه وبين المتنبّئ، فبقوا متحيّرين لا يجدون قولا يستقرّون عليه( فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) إلى القدح في نبوّتك أو إلى الرشد والهدى.

( تَبارَكَ الَّذِي ) تكاثر خير الّذي( إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ ) وهب لك في الدنيا( خَيْراً مِنْ ذلِكَ ) ممّا قالوا، وإنّما أخّره إلى الآخرة لأنّه خير وأبقى( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) بدل من «خيرا»( وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً ) عطف على محلّ الجزاء.

وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بالرفع، لأنّ الشرط إذا كان ماضيا جاز في جزائه الجزم والرفع. ويجوز أن يكون استئنافا بوعد ما يكون له في الآخرة.

( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) )

٥٥١

( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ) عطف على ما حكى عنهم، أي: بل أتوا بأعجب من ذلك كلّه، وهو تكذيبهم بالساعة، فلا تعجب من تكذيبهم إيّاك. ويجوز أن يتّصل بما يليه، كأنّه قال: بل كذّبوا بالساعة فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب؟ وكيف يصدّقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بالآخرة؟ أو لأجل تكذيبهم الساعة قصرت أنظارهم على الحطام الدنيويّة، وظنّوا أنّ الكرامة إنّما هي بالمال، فطعنوا فيك لفقرك. أو فلذلك كذّبوك، لا لـما تمحّلوا من المطاعن الفاسدة.

( وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ) نارا شديدة الاستعار. وقيل: هو اسم لجهنّم. فيكون صرفه باعتبار المكان.

ثمّ وصف ذلك السعير فقال:( إِذا رَأَتْهُمْ ) إذ كانت السعير بمرأى منهم، كقولهم: دورهم تترى، أي: تتناظر. وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تراءى نارهما» أي: لا تتقارب نار المسلمين والكافرين بحيث تكون إحداهما بمرأى من الاخرى، على المجاز. والتأنيث لأنّه بمعنى النار أو جهنّم.

( مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) هو أقصى ما يمكن أن يرى منه.

قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «من مسيرة سنة».

وقال السدّي والكلبي: من مسيرة مائة سنة. وحقيقة المعنى: أنّهم يرونها من أقصى مكان. والمعنى المجازي أبلغ، فإنّ معناه أنّها كأنّها تراهم رؤية الغضبان، كما قال:( سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً ) صوت تغيّظ وغليان. شبّه صوت غليانها بصوت المغتاظ.

( وَزَفِيراً ) وصوت زفير. وهو صوت يسمع من جوفه. روي: أنّ جهنّم لتزفر زفرة لا يبقى نبيّ ولا ملك إلّا خرّ لوجهه. ولا يبعد من قدرة الله تعالى أن يخلق في النار حياة فترى وتتغيّظ وتزفر.

وقيل: إنّ ذلك لزبانيتها، فنسب إليها على حذف المضاف. والمعنى: إذا رأتهم زبانيتها تغيّظوا وزفروا على الكفّار للانتقام منهم.

( وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ) أي: في مكان. و «منها» بيان له تقدّم عليه فصار حالا.

٥٥٢

( ضَيِّقاً ) لزيادة العذاب، فإنّ الكرب مع الضيق، كما أن الروح مع السعة. ولذلك وصف الله الجنّة بأنّ عرضها كعرض السماوات والأرض. وقرأ ابن كثير والكسائي بسكون الياء.

وفي الحديث: «إن لكلّ مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا».

ولقد جمع الله على أهل النار أنواع التضييق والإرهاق، حيث ألقاهم في مكان ضيّق يتراصّون(١) فيه تراصّا. كما روي عن ابن عبّاس في تفسيره: أنّه يضيّق عليهم كما يضيّق الزجّ(٢) في الرمح.

( مُقَرَّنِينَ ) قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل. وعن الجبائي: ويقرن مع كلّ كافر شيطانه في سلسلة، وفي أرجلهم الأصفاد(٣) .

( دَعَوْا هُنالِكَ ) في ذلك المكان( ثُبُوراً ) هلاكا. أي: يتمنّون هلاكا وينادونه، فيقولون: يا ثبوراه تعال فهذا أوانك.

فيقال لهم:( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً ) إنّهم أحقّاء بأن يقال لهم ذلك، وإن لم يكن ثمّ قول( وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً ) لأنّ عذابكم أنواع كثيرة، كلّ نوع منها ثبور، لشدّته وفضاعته، كلّما نضجت جلودهم بدّلوا جلودا غيرها، فلا غاية لهلاكهم، فهم في كلّ وقت في ثبور.

( قُلْ أَذلِكَ ) أي: ذلك العذاب، أو الّذي اقترحتموه من الكنز والجنّة( خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) الاستفهام والتفضيل والترديد للتقريع والتهكّم. والراجع إلى الموصول محذوف، أي: وعدها المتّقون. وإضافة الجنّة إلى الخلد للمدح، أو للدلالة على خلودها، أو التمييز عن جنّات الدنيا.

( كانَتْ لَهُمْ ) في علم الله، أو اللوح قبل أن يريهم. أو لأنّ ما وعده الله في تحقّقه كالواقع.( جَزاءً ) على أعمالهم بالوعد( وَمَصِيراً ) مرجعا ومستقرّا ينقلبون إليه. وهذا

__________________

(١) أي: يتلاصقون. من: تراصّ القوم إذا تضامّوا وتلاصقوا.

(٢) الزجّ: الحديدة التي في أسفل الرمح.

(٣) الأصفاد جمع الصفد. وهو الوثاق، وما يوثق به الأسير من قيد أو غلّ.

٥٥٣

كقوله:( نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ) (١) فإنّه مدح الثواب ومكانه، كما قال:( بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً ) (٢) . فذمّ العقاب ومكانه، لأنّ النعيم لا يتمّ للمتنعّم إلّا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد، وكذلك العقاب يتضاعف يضيق الموضع وظلمته، وجمعه لأسباب الكراهة. ولذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء.

( لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ) ما يشاؤنه من النعيم. وفي تقديم الظرف تنبيه على أن كلّ المرادات لا تحصل إلّا في الجنّة.( خالِدِينَ ) حال من أحد الضمائر( كانَ ) الضمير لـ «ما يشاءون»، أي: كان ذلك( عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً ) موعودا حقيقا بأن يسأل ويطلب. أو مسئولا سأله الناس في دعائهم:( رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ) (٣) . أو الملائكة يقولون:( رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ) (٤) . و «على» يتضمّن معنى الوجوب، أي: واجبا على ربّك إنجازه، لامتناع الخلف في وعده.

( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) )

__________________

(١) الكهف: ٣١ و ٢٩.

(٢) الكهف: ٣١ و ٢٩.

(٣) آل عمران: ١٩٤.

(٤) غافر: ٨.

٥٥٤

( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ) نجمعهم للجزاء. وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص بالياء( وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) يعمّ كلّ معبود سواه. واستعمال «ما» إمّا لأنّ وضعه أعمّ، ولذلك يطلق لكلّ شبح يرى ولا يعرف. أو لأنّه أريد به الوصف، كأنّه قيل: ومعبودهم.

كما تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد: ما زيد؟ تعني: أطويل أم قصير؟ أفقيه أم طبيب؟ أو لتغليب الأصنام تحقيرا، أو اعتبارا لغلبة عبّادها. أو يخصّ الملائكة وعزيزا والمسيح بقرينة السؤال والجواب. وذكر «ما» لإرادة وصف المعبوديّة كما عرفت. أو الأصنام ينطقها الله تعالى، أو تتكلّم بلسان الحال، كما قيل في كلام الأيدي والأرجل.

( فَيَقُولُ ) أي: للمعبودين. وهو على تلوين الخطاب. وقرأ ابن عامر بالنون.

( أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ) ضلّوا عن سبيل الحقّ، لإخلالهم بالنظر الصحيح، وإعراضهم عن المرشد النصيح. وهو استفهام تقريع وتبكيت للعبدة.

والفائدة في ذكر «أنتم» و «هم» وإيلائهما حرف الاستفهام، أن يعلم أنّ السؤال ليس عن الفعل، وإنّما هو عن متولّيه، فلا بدّ من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام، حتّى يعلم أنّه المقصود بالسؤال عنه. وتركت صلة الضلالة للمبالغة.

( قالُوا سُبْحانَكَ ) تعجّبا ممّا قيل لهم، لأنّهم إمّا ملائكة، أو أنبياء معصومون، أو جمادات لا تقدر على شيء. أو إشعارا بأنّهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده، فكيف يليق بهم إضلال عبيده؟ أو تنزيها لله عن الأنداد.

ثمّ قالوا:( ما كانَ يَنْبَغِي لَنا ) ما يصحّ لنا( أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ ) للعصمة. فكيف يصحّ لنا أن ندعو غيرنا أن يتولّى أحدا دونك؟ والأخذ هنا متعدّ إلى مفعول واحد، وهو «من أولياء». والأصل: أن نتّخذ أولياء، فزيدت «من» لتأكيد معنى النفي.

( وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ ) بأنواع النعم، فاستغرقوا في الشهوات( حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ) حتّى غفلوا عن ذكرك. أو التذكّر لآلائك، والتدبّر في آيات كتابك.( وَكانُوا

٥٥٥

قَوْماً بُوراً ) هالكين فاسدين. مصدر وصف به، ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع. أو جمع بائر، كعائذ وعوذ.

واعلم أنّ في هذه الآية دلالة على بطلان قول من يزعم أنّ الله سبحانه يضلّ عباده على الحقيقة، حيث يقول للمعبودين من دونه: أأنتم أضللتم أم هم ضلّوا بأنفسهم؟ فيتبرّءون من إضلالهم، ويستعيذون به أن يكونوا مضلّين. ويقولون: بل أنت تفضّلت على هؤلاء وآبائهم، فجعلوا النعمة الّتي هي سبب الشكر سببا للكفر ونسيان الذكر، فكان ذلك سبب هلاكهم. فبرّءوا أنفسهم من الإضلال، ونزّهوه سبحانه أيضا منه، حيث أضافوا إليه التمتيع بالنعمة، وأضافوا نسيان الذكر الّذي هو سبب البوار إليهم. فشرحوا الإضلال المجازيّ الّذي نسبة الله إلى ذاته في قوله:( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ) (١) . ولو كان هو المضلّ على الحقيقة لكان الجواب أن يقولوا: بل أنت أضللتهم بما يقولون.

ثمّ التفت إلى العبدة احتجاجا وإلزاما، فقال:( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ) أي: فقد كذّبكم المعبودون أيّها المشركون( بِما تَقُولُونَ ) في قولكم: إنّهم آلهة، أو هؤلاء أضلّونا. والباء بمعنى «في». أو مع المجرور بدل من الضمير، كأنّه قيل: فقد كذّبوا بما يقولون. وعن ابن كثير بالياء، أي: كذّبوكم بقولهم:( سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ ) .

( فَما تَسْتَطِيعُونَ ) أي: المعبودون. وقرأ حفص بالتاء على الخطاب للعابدين.

( صَرْفاً ) دفعا للعذاب عنكم. وقيل: لصرف التوبة. وقيل: حيلة. من قولهم: إنّه ليتصرّف، أي: يحتال.( وَلا نَصْراً ) فيعينكم عليه.

( وَمَنْ يَظْلِمْ ) على نفسه بالشرك والمعاصي( مِنْكُمْ ) أيّها المكلّفون( نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً ) شديدا عظيما، وهو النار. والشرط وإن عمّ كلّ من كفر وفسق، لقوله :

__________________

(١) الرعد: ٢٧، وغيرها.

٥٥٦

( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (١) ، ولقوله:( وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) . لكنّه في اقتضاء الجزاء مقيّد بعدم المزاحم وفاقا، وهو التوبة إجماعا، وعفو المؤمن الفاسق عندنا.

( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) )

ثمّ رجع سبحانه إلى مخاطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال جوابا لقولهم:( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ ) :( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ ) أي: إلّا رسلا إنّهم فحذف الموصوف لدلالة «المرسلين» عليه، وأقيمت الصفة مقامه، كقوله تعالى:( وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ) (٣) .

على معنى: وما منّا أحد. ويجوز أن تكون حالا اكتفي فيها بالضمير.

( وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ ) أيّها الناس( لِبَعْضٍ فِتْنَةً ) ابتلاء. ومن ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء، والمرسلين بالمرسل إليهم، ومناصبتهم لهم العداوة، وإيذاؤهم لهم أنواع الأذى. وهو تسلية لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما استبدعوه من أكله الطعام، ومشيه في الأسواق، بعد ما احتجّ عليهم بسائر الرسل، أو ما عيّروه من الفقر حين قالوا:( أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ ) (٤) .

( أَتَصْبِرُونَ ) علّة للجعل. والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة لنعلم أيّكم يصبر. ونظيره قوله:( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (٥) . أو حثّ على الصبر على ما

__________________

(١) لقمان: ١٣.

(٢) الحجرات: ١١.

(٣) الصافّات: ١٦٤.

(٤) الفرقان: ٨.

(٥) الملك: ٢.

٥٥٧

افتتنوا به.( وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً ) بمن يصبر، أو بالصواب فيما يبتلي به وغيره، فلا يضيقنّ صدرك، ولا يستخفّنّك أقاويلهم، فإنّ في صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين.

وقيل: معناه: جعلناك فتنة لهم، لأنّك لو كنت غنيّا صاحب كنوز وجنان، لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا، أو ممزوجة بها، فبعثناك فقيرا لتكون طاعة من يطيعك خالصة لنا، من غير طمع وغرض دنيويّ.

وقيل: كان أبو جهل وأضرابه يقولون: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمّار وصهيب وبلال وفلان وفلان، وسائر موالينا ورذالنا، ترفّعوا علينا إذلالا بالسابقة، فهو افتتان بعضهم ببعض. فقال الله لهؤلاء: أتصبرون على الأذى والاستهزاء لتفوزوا بسعادة الدارين، فإنّ ربّكم عالم بأحوالكم، ومجاز لأعمالكم؟

( وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) )

( وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ ) لا يأملون( لِقاءَنا ) لقاء جزائنا بالخير، لكفرهم بالبعث. أو لا يخافون لقاء جزائنا بالشرّ على لغة تهامة، فإنّ الرجاء في لغتهم بمعنى الخوف، وبه فسّر قوله تعالى:( لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ) (١) . وأصل اللقاء الوصول إلى

__________________

(١) نوح: ١٣.

٥٥٨

الشيء. وفيه دلالة على أنّهم كانوا مجسّمة، فلذلك جوّزوا الرؤية على الله.

( لَوْ لا ) هلّا( أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ) فيخبرنا بصدق محمد. وقيل: فيكونوا رسلا إلينا.( أَوْ نَرى رَبَّنا ) جهرة فيأمرنا بتصديقه واتّباعه.

ثمّ أقسم اللهعزوجل فقال:( لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا ) بهذا القول( فِي أَنْفُسِهِمْ ) أي: أضمروا الاستكبار عن الحقّ ـ وهو الكفر والعناد ـ في قلوبهم واعتقدوه( وَعَتَوْا ) وتجاوزوا الحدّ في الظلم( عُتُوًّا كَبِيراً ) بالغا أقصى مراتبه. يعني: أنّهم لم يجسروا على هذا القول العظيم، إلّا لأنّهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتوّ، حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها، واقترحوا لأنفسهم الخبيثة غيرها، كما فعل قوم موسى حين قالوا:( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ) (١) .

واللام جواب قسم محذوف. وفي الاستئناف بالجملة إشعار بالتعجّب من استكبار هم وعتوّهم من غير لفظ التعجّب. ألا ترى أنّ المعنى: ما أشدّ استكبارهم! وما أكبر عتوّهم! ثمّ أعلم سبحانه أنّ الوقت الّذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة، وأنّ الله تعالى قد حرّمهم البشرى في ذلك اليوم، فقال:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ) يعني: يوم القيامة. والمراد ملائكة الموت، أو ملائكة العذاب. و «يوم» نصب بـ: اذكر، أو بما دلّ عليه قوله:( لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ) فإنّه بمعنى: يمنعون البشرى، أو يعدمونها. و «يومئذ» تكرير، أو خبر. و «للمجرمين» تبيين.

أو خبر ثان. أو ظرف لـما يتعلّق به اللام، أو لـ «بشرى» إن قدّرت منوّنة غير مبنيّة مع «لا» فإنّها لا تعمل.

و «للمجرمين» إمّا عامّ شامل لكلّ مجرم، كافرا كان أو مؤمنا. ولا يلزم من نفي البشرى لعامّة المجرمين حينئذ، نفي البشرى بالعفو والشفاعة في وقت آخر. وإمّا خاصّ

__________________

(١) البقرة: ٥٥.

٥٥٩

وضع موضع ضميرهم، تسجيلا على جرمهم، وإشعارا بما هو المانع للبشرى، والموجب لـما يقابلها.

( وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) عطف على المدلول، أي: ويقول الكفرة حينئذ هذه الكلمة، استعاذة وطلبا من الله أن يمنع لقاء هم العذاب. وهي ممّا كانوا يقولون عند لقاء عدوّ أو هجوم نازلة. يعني: كما كانوا يقولون في الدنيا إذا لقوا من يخافون منه القتل ويفزعون: حجرا محجورا دماؤنا، قالوا تلك الكلمة عند مشاهدة العذاب.

وقال الخليل: كان الرجل يرى الرجل الّذي يخاف منه القتل في الجاهليّة في الأشهر الحرام فيقول: حجرا محجورا، أي: حرام عليك حرمتي في هذا الشهر أن تبدأ بشرّ، فإذا كان يوم القيامة رأوا الملائكة، فقالوا ذلك ظنّا منهم أنّه ينفعهم.

وقيل: هي من قول الملائكة. ومعناه حينئد: حراما عليكم الجنّة والبشرى، أي: جعل الله ذلك حراما عليكم.

قال سيبويه في باب المصادر غير المتصرّفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها، نحو: معاذ الله، وعمرك، وحجرا محجورا. يقول الرجل للرجل: أتفعل كذا وكذا؟ فيقول: حجرا. وهي من: حجره إذا منعه، لأنّ المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه، فلا يلحقه. فكان المعنى: أسأل الله أن يحجر ذلك حجرا، أي: يمنعه منعا. ووصفه محجورا للتأكيد، كقولهم: موت مائت.

( وَقَدِمْنا ) وعمدنا وقصدنا( إِلى ما عَمِلُوا ) في كفرهم( مِنْ عَمَلٍ ) من المكارم والمحاسن، كقرى الضيف، وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، وفداء الأسير، وغير ذلك( فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) فأحبطناه، لفقد ما هو شرط اعتباره، وهو الإيمان.

وليس هنا قدوم ولا ما يشبه القدوم، ولكن مثّلت حال هؤلاء وأعمالهم الّتي عملوا في كفرهم من محاسنهم، بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقدم إلى أشيائهم، وقصد إلى ما تحت أيديهم، فمزّقها كلّ ممزّق، وأبطلها ولم يبق لها أثرا.

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609