زبدة التفاسير الجزء ٤
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-06-X
الصفحات: 609
صلاتك حتّى تسمع المشركين، فإنّ ذلك يحملهم على السبّ واللغو فيها( وَلا تُخافِتْ بِها ) حتّى لا تسمع من خلفك من المؤمنين( وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ ) بين الجهر والمخافتة( سَبِيلاً ) وسطا، فإنّ الاقتصاد في جميع الأمور محبوب. ولم يقل: بين ذينك، لأنّه أراد به الفعل، فهو مثل قوله:( عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ ) (١) .
وقيل: معناه: ولا تجهر بصلاتك كلّها، ولا تخافت بها بأسرها، وابتغ بين ذلك سبيلا، بالإخفات نهارا والجهر ليلا.
( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ) فيكون مربوبا لا ربّا، لأنّ ربّ الأرباب لا يجوز أن يكون له ولد( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) في الألوهيّة، فيكون عاجزا محتاجا إلى غيره ليعينه، وهذا مناف للألوهيّة( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ ) أي: ناصر يواليه من أجل مذلّة به ليدفعها بموالاته.
نفى عنه أن يكون له ما يشاركه من جنسه ومن غير جنسه، اختيارا واضطرارا، وما يعاونه ويقوّيه، تعالى الله عن صفة العجز والاحتياج. ورتّب الحمد عليه للدلالة على أن من هذا وصفه هو الّذي يقدر على إيلاء كلّ نعمة، فهو الّذي يستحقّ جنس الحمد، لأنّه الكامل الذات، المنفرد بالإيجاد، المنعم على الإطلاق، وما عداه ناقص مملوك نعمة أو منعم عليه. ولذلك عطف عليه قوله:( وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) وعظّمه تعظيما لا يساويه تعظيم ولا يقاربه.
وفيه تنبيه على أنّ العبد وإن بالغ في التنزيه والتمجيد، واجتهد في العبادة والتحميد، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقّه في ذلك.
وفي هذه الآية ردّ على اليهود والنصارى حيث قالوا: اتّخذ الله الولد، وعلى مشركي العرب حيث قالوا: لبّيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك، وعلى الصابئين والمجوس حيث قالوا: لولا أولياء الله لذلّ الله.
__________________
(١) البقرة: ٦٨.
روي أنّهصلىاللهعليهوآلهوسلم كان إذا أفصح(١) الغلام من بني عبد المطلّب علّمه هذه الآية.
وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه قال: بلغني أنّ رجلا أتى النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم فقال: يا رسول الله إنّي كثير الدّين كثير الهمّ. فقال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «اقرأ آخر سورة بني إسرائيل:( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ) حتّى تختم، ثمّ قل: توكّلت على الحيّ الّذي لا يموت، ثلاث مرّات».
__________________
(١) في هامش النسخة الخطّية: «يقال: أفصح الغلام في منطقه، فهم ما يقول في أوّل ما يتكلّم. منه».
(١٨)
سورة الكهف
مكّيّة. وهي مائة وعشرة آيات. أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأها فهو معصوم ثمانية أيّام من كلّ فتنة، فإن خرج الدجّال في تلك الثمانية أيّام عصمه الله من فتنة الدّجال. ومن قرأ الآية الّتي في آخرها:( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) الآية، حين يأخذ مضجعه، كان له نور يتلألأ إلى الكعبة، حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتّى يستيقظ».
سمرة بن جندب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضرّه فتنة الدجّال، ومن قرأ السورة كلّها دخل الجنّة».
وعن النّبيصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «ألا أدلّكم على سورة شيّعها سبعون ألف ملك حين نزلت، ملأت عظمتها ما بين السماء والأرض؟ قالوا: بلى. قال: سورة أصحاب الكهف، من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الاخرى وزيادة ثلاثة أيّام، وأعطي نورا ليبلغ السماء، ووقي فتنة الدجّال».
وروى الواقدي بإسناده عن أبي الدرداء عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف ثم أدرك الدجّال لم يضرّه، ومن حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة».
وروى أيضا بالإسناد عن سعيد بن محمّد الجزمي، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ستّة أيّام من كلّ فتنة تكون، فإن رأى الدجّال عصم منه».
وروى العيّاشي بإسناده عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: «من قرأ سورة الكهف في كلّ ليلة جمعة لم يمت إلّا شهيدا، وبعثه الله مع الشهداء، وأوقف يوم القيامة مع الشهداء»(١) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) )
ولـمّا ختم الله سبحانه سورة بني إسرائيل بالتحميد والتوحيد وذكر القرآن، افتتح سورة الكهف أيضا بالتحميد وذكر القرآن والنبيّ، ليتّصل أوّل هذه بآخر تلك، اتّصال الجنس بالجنس، فقال:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ ) يعني: محمّداصلىاللهعليهوآلهوسلم ( الْكِتابَ ) أي: القرآن، فبعثه نبيّا ورسولا. ورتّب استحقاق الحمد على إنزاله، تنبيها على أنّه أعظم نعمائه وأجزل آلائه، وذلك لأنّه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، والداعي إلى ما به ينتظم المعاش والمعاد.
( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ) شيئا من العوج قطّ، باختلال في اللفظ وتناقض في
__________________
(١) تفسير العيّاشي ٢: ٣٢١ ح ١.
المعنى، أو انحراف من الدعوة إلى جانب الحقّ. وهو في المعاني كالعوج في الأعيان.
( قَيِّماً ) مستقيما معتدلا، لا إفراط فيه ولا تفريط. أو قيّما بمصالح العباد وما لا بدّ لهم منه من الشرائع، فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال. أو قيّما على الكتب السالفة، يشهد بصحّتها. أو دائما يدوم ويثبت إلى يوم القيامة.
وانتصابه بمضمر، تقديره: جعله قيّما. أو على الحال من الضمير في «له»، أو من «الكتاب» على أنّ الواو في «ولم» يجعل للحال دون العطف، إذ لو كان للعطف لكان المعطوف فاصلا بين أبعاض المعطوف عليه، فإنّ الحال من تتمّة ذي الحال، ولذلك قيل: فيه تقديم وتأخير.
ثمّ بيّن سبحانه الغرض في إنزاله، فقال:( لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً ) أي: لينذر العبد الّذي أنزل عليه الكتاب، الّذين كفروا، عذابا شديدا من عند الله، إن لم يؤمنوا به. فحذف المفعول الأوّل اكتفاء بدلالة القرينة، واقتصارا على الغرض المسوق إليه.( مِنْ لَدُنْهُ ) صادرا من عنده.
وقرأ أبو بكر بإسكان الدال مع إشمام الضمّة، ليدلّ على أصله، وكسر النون لالتقاء الساكنين، وكسر الهاء للإتباع.
( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ) هو الجنّة( ماكِثِينَ فِيهِ ) في الأجر( أَبَداً ) بلا انقطاع.
( وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ) خصّهم بالذكر، وكرّر الإنذار متعلّقا بهم، استعظاما لكفرهم. وإنّما لم يذكر المنذر به استغناء بتقدّم ذكره.
( ما لَهُمْ بِهِ ) أي: بالولد، أو باتّخاذه، أو بالقول به( مِنْ عِلْمٍ ) يعني: أنّهم يقولونه عن جهل مفرط وتوهّم كاذب، أو تقليد لـما سمعوه من أوائلهم، من غير علم بالمعنى الّذي أرادوا به، فإنّهم كانوا يطلقون الأب والابن بمعنى المؤثّر والأثر، أو بالله، إذ لو علموه لما جوّزوا نسبة الاتّخاذ إليه( وَلا لِآبائِهِمْ ) الّذين تقوّلوه، بمعنى التبنّي.
( كَبُرَتْ كَلِمَةً ) عظمت مقالتهم هذه في الكفر، لما فيها من التشبيه والتشريك،
وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يعينه ويخلفه، إلى غير ذلك من الزيغ. و «كلمة» نصب على التمييز. وفيه معنى التعجّب، كأنّه قيل: ما أكبرها كلمة! وضمير «كبرت» راجع إلى قولهم:( اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ) . وسمّيت كلمة كما يسمّون القصيدة بها.
( تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ) صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم، فإنّ كثيرا ممّا يوسوسه الشيطان في قلوب الناس، ويحدّثون به أنفسهم من المنكرات، لا يتمالكون أن يتفوّهوا به ويطلقوا به ألسنتهم، بل يكظمون عليه تشوّرا(١) من إظهاره، فكيف بمثل هذا المنكر؟! ووصف الكلمة بالخروج من الأفواه توسّعا ومجازا، فإنّ الخارج بالذات هو الهواء الحامل لها.( إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ) وافتراء على الله.
( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ ) أي: قاتل( نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ ) إذا ولّوا عن الايمان. شبّهه حين تولّوا عنه ولم يؤمنوا به، لـما تداخله من الوجد والأسف على تولّيهم، برجل فارقه أحبّته وأعزّته، فهو يتساقط حسرات على آثارهم، ويبخع نفسه وجدا عليهم، وتلهّفا على فراقهم.( إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ ) بهذا القرآن( أَسَفاً ) للتأسّف عليهم.
والأسف فرط الحزن والغضب. يقال: رجل أسف وأسيف.
( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) )
( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ ) من الحيوان والنبات والمعادن( زِينَةً لَها ) يعني :
__________________
(١) أي: تباعدا من إظهاره، كأنّه عورة. وفي الصحاح (٢: ٧٠٤): «الشوار: فرج المرأة والرجل».
ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها، من زخارف الدنيا وما يستحسن منها( لِنَبْلُوَهُمْ ) أي: لنعامل عبادنا معاملة المبتلي( أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) أي: أعمل بطاعة الله، وأطوع له في تعاطيه. وهو: من زهد فيه، ولم يغترّ به، وقنع منه بما يزجّي(١) به أيّامه، وصرفه على ما ينبغي، وفيه تسكين لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم .
ثمّ زهّد العباد فيه بقوله:( وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) هي الأرض الّتي قطع نباتها، من الجرز بمعنى القطع. والمعنى: إنّا لنعيد ما عليها من الزينة ترابا مستويا بالأرض، ونجعله كصعيد أملس لا نبات فيه، بعد أن كانت خضراء معشبة، في إزالة بهجته، وإماطة حسنه، وإبطال ما به كان زينة.
( أَمْ حَسِبْتَ ) أم منقطعة، والخطاب للرسول، والمقصود أمّته. يعني: بل حسبت( أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) في إبقاء حياتهم مدّة مديدة( كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ) أي: كانوا آية عجبا من آياتنا. وصفا بالمصدر، أو على: ذات عجب على تقدير المضاف.
وقصّتهم بالإضافة إلى خلق ما على الأرض من الأجناس والأنواع الّتي لا حصر لها، على طبائع متباعدة وهيئات متخالفة تعجب الناظرين، مع أنّها من مادّة واحدة، ثمّ ردّها إلى الأرض، ليس(٢) بعجيب، مع أنّه من آيات الله كالنزر الحقير.
والكهف: الغار الواسع في الجبل. والرقيم قيل: اسم الجبل. وعن ابن عبّاس: إنّه اسم الوادي الّذي فيه كهفهم. أو اسم قريتهم، أو كلبهم، كما قال أميّة بن أبي الصلت :
وليس بها إلّا الرقيم مجاورا |
وصيدهم والقوم في الكهف هجّد |
وعن ابن سعيد: لوح رصاصيّ أو حجريّ رقمت فيه أسماؤهم، وجعل على باب الكهف.
وعن النعمان بن بشير مرفوعا: أنّ أصحاب الرقيم قوم آخرون كانوا ثلاثة خرجوا يرتادون لأهلهم، فأخذتهم السماء فأووا إلى الكهف، فانحطّت صخرة وسدّت بابه. فقال أحدهم: اذكروا أيّكم عمل حسنة، لعلّ الله يرحمنا ببركته.
__________________
(١) زجّى يزجّي تزجية: دفع. يقال: كيف تزجّي أيّامك؟ أي: كيف تدفعها؟
(٢) خبر «وقصّتهم» قبل سطرين.
فقال أحدهم: استعملت أجراء ذات يوم، فجاء رجل وسط النهار وعمل في بقيّته مثل عملهم، فأعطيته مثل أجرهم، فغضب أحدهم وترك أجره، فوضعته في جانب البيت. ثمّ مرّ بي بقر فاشتريت به فصيلة، فبلغت ما شاء الله، فرجع إليّ بعد حين شيخا ضعيفا لا أعرفه، وقال لي: إنّ لي عندك حقّا، وذكره لي حتّى عرفته، فدفعتها إليه جميعا.
اللهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا. فانصدع الجبل حتّى رأوا الضوء.
وقال آخر: كان فيّ فضل، وأصابت الناس شدّة، فجاءتني امرأة فطلبت منّي معروفا، فقلت: والله ما هو دون نفسك، فأبت وعادت ثمّ رجعت ثلاثا. ثمّ ذكرت لزوجها، فقال: أجيبي له وأغيثي عيالك. فأتت وسلّمت إليّ نفسها، فلمّا تكشّفتها وهممت بها ارتعدت. فقلت: مالك؟ فقالت: أخاف الله. فقلت لها: خفته في الشدّة ولم أخفه في الرخاء. فتركتها وأعطيتها ملتمسها. أللّهمّ إن كنت فعلته لوجهك فافرج عنّا. فانصدع حتّى تعارفوا.
وقال الثالث: كان لي أبوان همّان، وكانت لي غنم، وكنت أطعمهما واسقيهما ثمّ أرجع إلى غنمي. فحبسني ذات يوم غيث، فلم أبرح حتى أمسيت فأتيت أهلي، وأخذت محلبي فحلبت فيه ومضيت إليهما، فوجدتهما نائمين، فشقّ عليّ أن أوقظهما، فتوقّعت جالسا ومحلبي على يدي، حتّى أيقظهما الصبح، فسقيتهما. أللّهمّ إن فعلته لوجهك فافرج عنّا، ففرّج الله عنهم فخرجوا.
( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦))
ثمّ بيّن سبحانه قصّة أصحاب الكهف بقوله:( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ) أي: اذكر حين إذ أوى فتية من أشراف الروم، وهم آمنوا بالله، وكانوا يخفون الإسلام خوفا من ملكهم. واسم ملكهم دقيانوس، واسم مدينتهم أفسوس أو أطروس. وكان ملكهم يعبد الأصنام، ويدعو إليها، ويقتل من خالفه، فهربوا من دقيانوس لحفظ دينهم، والتجأوا إلى الكهف.( فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من الأعداء( وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا ) الذي نحن عليه من مفارقة الكفّار( رَشَداً ) نصير بسببه راشدين مهتدين. أو اجعل أمرنا كلّه رشدا، كقولك: رأيت منك أسدا. وأصل التهيئة إحداث هيئة الشيء.
( فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ ) أي: فضربنا عليها حجابا يمنع السماع. يعني: أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبّههم فيها الأصوات. فحذف المفعول، كما حذف في قولهم: بنى على امرأته، يريدون: بني عليها القبّة.( فِي الْكَهْفِ سِنِينَ ) ظرفان لـ «ضربنا»( عَدَداً ) أي: ذوات عدد. ووصف السنين به يحتمل أن يريد التكثير والتقليل، فإنّ مدّة لبثهم كبعض يوم عنده.
( ثُمَّ بَعَثْناهُمْ ) أيقظناهم( لِنَعْلَمَ ) ليتعلّق علمنا تعلّقا استقباليّا مطابقا لمتعلّقه.
يعني: ليظهر معلومنا على ما علّمناه.( أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ) المختلفين منهم في مدّة لبثهم.
وذلك قوله:( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) (١) . أو المختلفين من غيرهم في مدّة لبثهم.( أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً ) ضبط أمدا لزمان لبثهم. وما في «أيّ» من معنى الاستفهام علّق عنه «لنعلم» يعني: لم يعمل فيه. فهو مبتدأ و «أحصى» خبره. وهو فعل ماض، و «أمدا» مفعوله، و «لما لبثوا» حال منه أو مفعول له.
وقيل: إنّه المفعول، واللام مزيدة، و «ما» موصولة، و «أمدا» تمييز.
وقيل: «أحصى» اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد، كقولهم: هو أحصى للمال، وأفلس من ابن المذلّق.
وقال صاحب الكشّاف: «وهذا القول ليس بالوجه السديد، وذلك أنّ بناءه من غير الثلاثيّ المجرّد ليس بقياس. ونحو: أعدى من الجرب وأفلس من ابن المذلّق شاذّ، والقياس على الشاذّ في غير القرآن ممتنع فكيف به؟ ولأنّ «أمدا» لا يخلوا: إمّا أن ينتصب بأفعل، وهو غير جائز، لأن أفعل لا يعمل. وإمّا أن ينتصب بـ «لبثوا» فلا يسدّ عليه المعنى.
وإن زعمت أنّي أنصبه بإضمار فعل يدلّ عليه «أحصى» كما أضمر في قوله: وأضرب منّا بالسيوف القوانسا(٢) ، على: نضرب القوانس، فقد أبعدت المتناول وهو قريب، حيث أبيت أن يكون «أحصى» فعلا، ثمّ رجعت مضطرّا إلى تقديره وإضماره»(٣) .
( نَحْنُ نَقُصُ ) أي: نتلو( عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ ) خبرهم بالصدق والصحّة( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ) شبّان. جمع فتيّ، كصبيّ وصبية.( آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً ) بالتثبيت.
__________________
(١) الكهف: ١٩.
(٢) في هامش النسخة الخطّية: «القوانس: أعلى البيضة من الحديد والقونس. منه». يعني: أعلى بيضة الفارس وأعلى رأس الفرس.
(٣) الكشّاف ٢: ٧٠٥.
( وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ ) أي: قوّيناها بالصبر على هجر الأوطان والأهل والمال، والفرار بالدين إلى بعض الغيران(١) ، وجسّرناهم على القيام بكلمة الحقّ والتظاهر بالإسلام( إِذْ قامُوا ) بين يديه من غير مبالاة حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام( فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً ) والله لقد قلنا قولا ذا شطط، أي: ذا بعد عن الحقّ مفرط في الظلم، من: شطّ إذا بعد.
( هؤُلاءِ ) مبتدأ( قَوْمُنَا ) عطف بيان( اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ) خبره. وهو إخبار في معنى الإنكار. ثمّ بكّتوهم بقولهم:( لَوْ لا يَأْتُونَ ) هلّا يأتون( عَلَيْهِمْ ) على عبادتهم، بحذف المضاف( بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ) ببرهان ظاهر، فإنّ الدين لا يؤخذ إلّا به.
وفيه دليل على أنّ ما لا دليل عليه من الديانات مردود، وأن التقليد فيه غير جائز.( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ) بنسبة الشريك إليه.
( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ) خطاب من بعضهم لبعض حين صمّمت عزيمتهم على الفرار بدينهم( وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ) عطف على الضمير المنصوب، أي: وإذ اعتزلتم القوم ومعبوديهم إلّا الله. ويجوز أن تكون «ما» مصدريّة على تقدير: وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلّا عبادة الله. وأن تكون نافية، على أنّه إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد، معترض بين «إذ» وجوابه، لتحقيق اعتزالهم. والاستثناء يجوز أن يكون متّصلا، فإنّهم كانوا يعبدون الله ويعبدون الأصنام، كسائر المشركين. ويجوز أن يكون منقطعا.
( فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ ) يبسط الرزق لكم ويوسّع عليكم( مِنْ رَحْمَتِهِ ) في الدارين( وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ) ما ترتفقون به، أي: تنتفعون.
وجزمهم بذلك لخلوص يقينهم، وقوّة وثوقهم بفضل الله.
وقرأ نافع وابن عامر: مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء. وهو مصدر جاء شاذّا، كالمرجع والمحيض، فإنّ قياسه الفتح.
__________________
(١) جمع الغار.
( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) )
ثمّ بيّن سبحانه حالهم في الكهف، فقال:( وَتَرَى الشَّمْسَ ) أي: لو رأيتهم.
والخطاب لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو لكلّ أحد.( إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ) تميل عنه، ولا
يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم، لأنّ الكهف كان جنوبيّا، أو لأنّ الله زوّرها عنهم. وأصله: تتزاور، فأدغمت التاء في الزاي. وقرأ الكوفيّون بحذفها، وابن عامر ويعقوب: تزوّر، كـ: تحمّر. وكلّها من الزور، وهو الميل، ومنه: زاره إذا مال إليه:( ذاتَ الْيَمِينِ ) جهة اليمين. وحقيقتها الجهة المسمّاة باليمين.
( وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ) تقطعهم وتصرم عنهم ولا تقربهم( ذاتَ الشِّمالِ ) يعني: يمين الكهف وشماله، لقوله:( وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) أي: وهم في متّسع من الكهف.
والمعنى: أنّهم في ظلّ نهارهم كلّه لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها، مع أنّهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس، ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم، ولا يحسّون كرب الغار، وذلك لأنّ باب الكهف شماليّ مستقبل لبنات نعش، فتميل عنهم الشمس طالعة وغاربة، فهم في مقنأة(١) أبدا.
( ذلِكَ ) أي: شأنهم وإبواؤهم إلى كهف شأنه كذلك، أو ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة، أو إخبارك هذا( مِنْ آياتِ اللهِ ) من أدلّته وبراهينه( مَنْ يَهْدِ اللهُ ) بالتوفيق( فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) الّذي أصاب الفلاح. والمراد به إمّا الثناء عليهم، أو التنبيه على أنّ أمثال هذه الآيات كثيرة، ولكنّ المنتفع بها من استرشد، فيوفّقه الله للتأمّل فيها والاستبصار بها.( وَمَنْ يُضْلِلْ ) ومن يخذله ويخلّه لفرط عناده وتصميمه على الكفر( فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً ) من يليه ويرشده.
( وَتَحْسَبُهُمْ ) أي: لو رأيتهم لحسبتهم( أَيْقاظاً ) لانفتاح عيونهم، أو لكثرة تقلّبهم. جمع يقظ، كأنكاد في نكد( وَهُمْ رُقُودٌ ) نيام في الحقيقة( وَنُقَلِّبُهُمْ ) في رقدتهم( ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ ) أي: تارة عن اليمين إلى الشمال، وتارة عن الشمال إلى اليمين، كما ينقلب النائم، لئلّا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم على طول الزمان. قيل لهم تقلبتان في السنة. وقيل: تقلبة واحدة في يوم عاشوراء.
__________________
(١) المقنأة: الموضع الذي لا تطلع عليه الشمس.
( وَكَلْبُهُمْ ) هو كلب مرّوا به فتبعهم فطردوه، فأنطقه الله تعالى فقال: أنا أحبّ أحبّاء الله فناموا وأنا أحرسكم. أو كلب راع مرّوا به فتبعهم وتبعه الكلب. وقيل: كان كلب صيدهم، وهو أصفر اللون. وعن ابن عبّاس: أنمر(١) ، واسمه قطمير. وعن الحسن: أنّ ذلك الكلب مكث هناك ثلاثمائة وتسع سنين بغير شراب وطعام، ولا نوم ولا قيام.
( باسِطٌ ذِراعَيْهِ ) حكاية حال ماضية، ولذلك أعمل اسم الفاعل. والمعنى: ويلقيهما على الأرض مبسوطتين كافتراش السبع.( بِالْوَصِيدِ ) بفناء الكهف. وقيل: الوصيد الباب. وقيل: العتبة.( لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ) فنظرت إليهم( لَوَلَّيْتَ ) أي: لهربت( مِنْهُمْ فِراراً ) نصبه بالمصدريّة، لأنّه نوع من التولية، أو بالعلّية، أو الحاليّة( وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) خوفا يملأ صدرك، بما ألبسهم الله من الهيبة، أو لعظم أجرامهم وانفتاح عيونهم، وقيل: لطول أظفارهم وشعورهم. وقيل: لوحشة مكانهم.
وقرأ الحجازيّان: لملّئت بالتشديد، للمبالغة. وابن عامر والكسائي ويعقوب: رعبا بالتثقيل. وكلاهما بمعنى الخوف الّذي يرعب الصدر، أي: يملؤه.
وعن معاوية: أنّه غزا الروم فمرّ بالكهف، فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فننظر إليهم! فقال له ابن عبّاس: ليس ذلك لك، قد منع الله ذلك من هو خير منك، فقال:( لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً ) . فلم يسمع، وبعث أناسا فلمّا دخلوا جاءت ريح فأحرقتهم.
( وَكَذلِكَ ) وكما أنمناهم آية( بَعَثْناهُمْ ) آية وادّكارا بكمال قدرتنا( لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ ) ليسأل بعضهم بعضا فيتعرّفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيزدادوا يقينا على كمال قدرة الله، ويستبصروا به أمر البعث، ويشكروا ما أنعم الله تعالى به عليهم.
( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) بناء على غالب ظنّهم، لأنّ النائم لا يحصي مدّة نومه، ولذلك أحالوا العلم إلى الله( قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) ويجوز أن يكون القول الأوّل قول بعضهم، والثاني إنكار الآخرين عليهم. وعن ابن
__________________
(١) الأنمر: ما فيه نقط سود. يقال: أسد أنمر، أي: فيه غبرة وسواد.
عبّاس: أنّ قائل هذا القول هو تمليخا رئيسهم.
وقيل: إنّهم دخلوا الكهف غدوة وانتبهوا ظهيرة، فظنّوا أنّهم في يومهم أو اليوم الّذي بعده قالوا ذلك، فلمّا نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا هذا.
ثمّ لـمّا علموا أنّ الأمر ملتبس لا طريق لهم إلى علمه أخذوا في شيء آخر ممّا يهمّهم وقالوا:( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ) والورق الفضّة مضروبة كانت أو غيرها. وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر وروح عن يعقوب بالتخفيف. وتزوّدهم عند فرارهم دليل على أنّ حمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأي المتوكّلين على الله، دون المتّكلين على الاتّفاقات، وعلى ما في أوعية القوم من النفقات. عن ابن عبّاس: كان معهم دراهم عليها صورة الملك الّذي كان في زمانهم.
( فَلْيَنْظُرْ أَيُّها ) أيّ أهلها( أَزْكى طَعاماً ) أحلّ وأطيب. وعن ابن عبّاس: أطهر وأحلّ ذبيحة، لأنّ عامّتهم كانت مجوسا، وفيهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم. وقيل: أكثر وأرخص.( فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ ) وليتكلّف اللطف في المعاملة حتّى لا يغبن.
أو في التخفّي حتى لا يعرف.( وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ) ولا يفعلنّ ما يؤدّي إلى الشعور.
( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ) إن يطّلعوا عليكم ويعلموا مكانكم، أو يظفروا بكم.
والضمير للأهل المقدّر في «أيّها».( يَرْجُمُوكُمْ ) يقتلوكم بالرجم، وهو من أخبث القتل( أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ) أو يصيّروكم إليها كرها، من العود بمعنى الصيرورة. والتقيّة في ذلك الوقت لم تكن جائزة في إظهار الكفر. وقيل: كانوا أوّلا على دينهم فآمنوا. والمعنى: يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الإكراه إلى دينهم الّذي كنّا نتديّن به قبل ذلك الوقت.( وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ) إن دخلتم في ملّتهم.
( وَكَذلِكَ ) وكما أنمناهم وبعثناهم لتزداد بصيرتهم( أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ) أطلعنا عليهم( لِيَعْلَمُوا ) ليعلم الّذين أطلعنا عليهم( أَنَّ وَعْدَ اللهِ ) بالبعث أو الموعود الّذي هو البعث( حَقٌ ) لأنّ نومهم وانتباههم كحال من يموت ثمّ يبعث( وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها ) وأنّ القيامة لا ريب في إمكانها، فإنّ من توفّى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنين ،
حافظا أبدانها عن التحلّل والتفتّت، ثمّ أرسلها إليها، قدر أن يتوفّى نفوس جميع الناس، ممسكا إيّاها إلى أن يحشر أبدانهم فيردّها عليها.
( إِذْ يَتَنازَعُونَ ) ظرف لـ «أعثرنا» أي: أعثرنا عليهم حين يتنازعون( بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) أمر دينهم، وكان بعضهم يقول: تبعث الأرواح مجرّدة، وبعضهم يقول: يبعثان معا، ليرتفع الخلاف، ويتبيّن أنّهما يبعثان معا كما كانت قبل الموت. أو أمر الفتية حين أماتهم الله ثانيا بالموت، فقال بعضهم: ماتوا، وقال آخرون: ناموا نومهم أوّل مرّة. أو قالت طائفة: نبني عليهم بنيانا يسكنه الناس ويتّخذونه قرية، وقال آخرون: لنتّخذنّ عليهم مسجدا يصلّى فيه، كما قال عزّ اسمه:( فَقالُوا ) أي: بعضهم( ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً ) أي: على باب الكهف، لئلّا يتطرّق إليهم الناس ضنّا بتربتهم، ومحافظة عليها، كما حفظت تربة رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بالحظيرة.
وقوله:( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) معترض بينه وبين قوله:( قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا ) أي: أطّلعوا( عَلى أَمْرِهِمْ ) يعني: الملك وأصحابه المؤمنين بالله( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) متعبّدا للعبادة. والاعتراض إمّا من الله ردّا على الخائضين في أمرهم من أولئك المتنازعين. أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول. أو من المتنازعين للردّ إلى الله بعد ما تذاكروا أمرهم، وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم، فلم يتحقّق لهم ذلك.
وتفصيل هذه القصّة على ما قاله المفسّرون: أنّ أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا، وطغت ملوكهم حتّى عبدوا الأصنام وأكرهوا على عبادتها. وممّن شدّد في ذلك دقيانوس، فأراد أن يحمل فئة من أشراف قومه على الشرك، وتوعّدهم بالقتل، فأبوا إلّا الثبات على الإيمان والتصلّب فيه، ثمّ هربوا من ملكهم ودخلوا الكهف، فاطّلع الملك على مكانهم، فأمر أن يسدّ عليهم باب الكهف، ويدعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشا وجوعا، وليكن كهفهم الّذي اختاروا قبرا لهم، وهو يظنّ أنّهم أيقاظا.
ثمّ إنّ رجلين مؤمنين كتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس، وجعلا التابوت في البنيان الّذي بنوا على باب
الكهف، وقالا: لعلّ الله يظهر على هؤلاء الفئة قوما مؤمنين قبل يوم القيامة، ليعلموا خبرهم حين يقرءون هذا الكتاب.
ثمّ انقرض أهل ذلك الزمان، وخلّفت بعدهم قرون وملوك كثيرون، وملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له: ندليس. وقيل: بندوسيس. وتحزّب الناس في ملكه أحزابا، منهم من يؤمن بالله ويعلم أنّ الساعة حقّ، ومنهم من
يكذّب. فكبر ذلك على الملك الصالح، وبكى إلى الله وتضرّع وقال: أي ربّ قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم آية تبيّن لهم بها أنّ البعث حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها.
فألقى الله في قلب رجل من أهل تلك البقعة الّتي بها الكهف أن يهدم البنيان الّذي على فم الكهف، فيبني به حظيرة لغنمه، ففعل ذلك. وبعث الله الفتية من نومهم، فأرسلوا أحدهم ليطلب لهم طعاما. فلمّا دخل السوق أخرج الدرهم وكان عليه اسم دقيانوس، اتّهموه بأنّه وجد كنزا، فذهبوا به إلى الملك، وكان نصرانيّا موحّدا. فقصّ عليهم القصص.
قال بعضهم: إنّ آباءنا أخبرونا أنّ فتية فرّوا بدينهم من دقيانوس، فلعلّهم هؤلاء.
فانطلق الملك وأهل المدينة من مؤمن وكافر، وأبصروهم وكلّموهم. ثمّ قال الفتية للملك: نستودعك الله، ونعيذك به من شرّ الجنّ والإنس. ثمّ رجعوا إلى مضاجعهم. فبنى الملك عليهم مسجدا.
وقيل: لـمّا انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى: مكانكم حتّى أدخل أوّلا لئلّا يفزعوا.
فدخل فعمي عليهم المدخل، فبنوا ثمّ مسجدا.
( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) )
ثمّ بيّن سبحانه تنازعهم في عددهم، فقال:( سَيَقُولُونَ ) سيقول قوم من المختلفين في عددهم في عهد رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، من أهل الكتاب والمؤمنين:( ثَلاثَةٌ ) ثلاثة رجال( رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ) يربّعهم كلبهم بانضمامه إليهم. قيل: هو قول اليهود. وقيل: قول السيّد من نصارى نجران، وكان يعقوبيّا.( وَيَقُولُونَ ) ويقول آخرون: هم( خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ) قاله النصارى، أو العاقب، وكان نسطوريّا.
( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) يرمون رميا بالخبر الخفيّ الّذي لا مطلع لهم عليه، كقوله: ويقذفون بالغيب، أي: يأتون به. أو وضع الرجم موضع الظنّ، فكأنّه قيل: ظنّا بالغيب، لأنّهم أكثروا أن يقولوا: رجم بالظنّ، مكان قولهم: ظنّ، حتّى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين. وإنّما لم يذكر بالسين اكتفاء بعطفه على ما يكون السين فيه.
( وَيَقُولُونَ ) ويقول آخرون: هم( سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) إنّما قاله المسلمون بإخبار الرسول لهم عن جبرئيل، وإيماء الله إليه، بأن أتبعه قوله:( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ) وأتبع الأوّلين قوله:( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) .
وبأن أثبت العلم بهم لطائفة بعد ما حصر أقوال الطوائف في الثلاثة المذكورة، فإنّ عدم إيراد رابع في نحو هذا المحلّ دليل العدم، مع أنّ الأصل ينفيه. ثمّ ردّ الأوّلين بأن أتبعهما قوله: «رجما بالغيب» ليتعيّن الثالث.
وبأن أدخل فيه الواو على الجملة الواقعة صفة للنكرة، تشبيها لها بالواقعة حالا من المعرفة، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أنّ اتّصافه بها أمر ثابت. ونظيره قوله تعالى:( وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ) (١) . ونحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف.
وقال ابن عبّاس: حين وقعت الواو انقطعت العدّة، أي: لم يبق بعدها عدّة عادّ يلتفت إليها، وثبت أنّهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات. ثمّ قال: وأنا من ذلك القليل.
__________________
(١) الحجر: ٤.
وقيل: معناه: إلّا قليل من أهل الكتاب. والضمير في «سيقولون» على هذا لأهل الكتاب خاصّة، أي: سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا، ولا علم بذلك إلّا في قليل منهم، وأكثرهم على الظنّ والتخمين.
وروي عن عليعليهالسلام : «هم سبعة وثامنهم كلبهم. وأسماؤهم: يمليخا، ومكشلينيا، ومشلينيا. هؤلاء أصحاب يمين الملك. ومرنوش، ودبرنوش، وشاذنوش، أصحاب يساره. وكان يستشيرهم. والسابع: الراعي الّذي وافقهم. واسم كلبهم قطمير».
( فَلا تُمارِ فِيهِمْ ) ولا تجادل في شأن أصحاب الكهف مع الخائضين فيهم( إِلَّا مِراءً ظاهِراً ) إلّا جدالا ظاهرا غير متعمّق فيه، وهو أن تقصّ عليهم ما أوحي إليك فحسب، من غير تجهيل لهم، ولا تعنيف بهم في الردّ عليهم، فإنّه يخلّ بمكارم الأخلاق، كما قال:( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) .
( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ) ولا تسأل أحدا منهم عن قصّتهم سؤال مسترشد، فإنّ فيما أوحي إليك لمندوحة عن غيره، مع أنّه لا علم لهم بها. ولا سؤال متعنّت، حتّى يقول شيئا فتردّه عليه وتزيّف ما عنده، لأنّ ذلك ما وصيت به من المداراة والمجاملة.
( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) )
وروي عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير: أنّ النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط أنفذهما قريش إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمّد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله، فإنّهم أهل الكتاب الأوّل، وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا. فخرجا حتّى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقالا لهم ما قالت قريش.
__________________
(١) النحل: ١٢٥.
فقال لهما أحبار اليهود: اسألوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل. اسألوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان أمرهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب. واسألوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ واسألوه عن الروح. وفي رواية أخرى: فإن أخبركم عن الثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبيّ.
فانصرفا إلى مكّة فقالا: يا معاشر قريش قد جئنا بفصل ما بينكم وبين محمّد. وقصّا عليهم القصّة.
فجاءوا إلى النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم فسألوه. فقال: أخبركم بما سألتم غدا، ولم يستثن. فانصرفوا عنه. فمكثصلىاللهعليهوآلهوسلم خمس عشرة ليلة ـ وقيل: عشرا، وقيل: أربعين ـ لا يحدث الله له في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبرئيل، حتّى أرجف أهل مكّة وتكلّموا في ذلك، فكذّبوا نبوّته. فشقّ على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ما يتكلّم به أهل مكّة. ثمّ جاءه جبرئيلعليهالسلام عن الله، فقرأ على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم هذه الآية:( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ )
هذا نهي تأديب من الله لنبيّهصلىاللهعليهوآلهوسلم لا نهي تحريم، لأنّه لو لم يقل ذلك لم يأثم بلا خلاف. والاستثناء متعلّق بالنهي خاصّة، أي: ولا تقولنّ لأجل شيء تعزم عليه إنّي فاعل غدا ـ أي: فيما يستقبل ـ إلّا بأن يشاء الله، أي: إلّا ملتبسا بمشيئته قائلا: إن شاء الله، أو إلّا وقت أن يشاء الله أن تقوله، بأن أذن لك فيه. ولا يجوز تعليقه بـ «إنّي فاعل»، لأنّه لو قال: إنّي فاعل كذا إلّا أن يشاء الله، كان معناه: إلّا أن تعترض مشيئة الله دون فعله، وذلك ما لا مدخل فيه للنهي.
وروي أنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم قال لجبرئيل حين جاءه: «لقد احتبست عنّي يا جبرئيل. فقال له جبرئيل: وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك. فقصّ عليه هذه السورة المشتملة على قصّة أصحاب الكهف والرجل الطوّاف، وقرأ عليه ما في سورة بني إسرائيل من قوله:( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) .