زبدة التفاسير الجزء ٥

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
المشاهدات: 15839
تحميل: 3447


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 597 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15839 / تحميل: 3447
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 5

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-07-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

ملاحظة

هذا الكتاب

نشر الكترونياً وأخرج فنِيّاً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلميّة في الشبكة

٢

٣
٤

(٢٦)

سورة الشعراء

مكيّة. وهي مائتان وسبع وعشرون آية.

أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح وكذّب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، وبعدد من كذّب بعيسى، وصدّق بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وعن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعطيت السورة الّتي يذكر فيها البقرة من الذكر الأوّل، وأعطيت طه وطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة الّتي يذكر فيها البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصّلة نافلة».

وروى أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء الله، وفي جواره وكنفه، ولم يصيبه في الدنيا بؤس أبدا، وأعطي في الآخرة من الأجر الجنّة حتّى يرضى، وفوق رضاه، وزوّجه الله مائة حوراء من الحور العين».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ

٥

أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩) )

واعلم أنّ الله سبحانه لـمّا ذكر في مختتم سورة الفرقان تكذيبهم بالكتاب، ذكر في مفتتح هذه السورة وصف الكتاب، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم ) قد مرّ غير مرّة أنّه روي عن ابن عبّاس: أنّ الحروف المقطّعة في أوائل السور إشارة إلى مفاتيح أسماء الله تعالى. فهاهنا: الطاء إشارة إلى الطاهر، والسين إلى السّلام، والميم إلى نحو المالك. وقال القرطي: أقسم الله بطوْله، وسنائه، وملكه.

وروي عن محمّد بن الحنفيّة، عن عليٍّعليه‌السلام ، عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا نزلت طسم قال: «الطاء طور سيناء، والسين الاسكندريّة، والميم مكّة».

وقيل: الطاء شجرة طوبى، والسين سِدرة المنتهى، والميم محمّد المصطفى.

وباقي الوجوه في الحروف المقطّعة مذكورة في صدر سورة البقرة.

وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالإمالة المحضة، ونافع بين بين، كراهة العود إلى الياء المهروب منها. وأظهر نونه حمزة، لأنّه في الأصل منفصل عمّا بعده.

( تِلْكَ ) إشارة إلى السورة، أو القرآن. وتأنيثه باعتبار الخبر.( آياتُ الْكِتابِ

٦

الْمُبِينِ ) الظاهر إعجازه، وصحّة أنّه من عند الله، على ما سبق في أوّل البقرة.

( لَعَلَّكَ باخِعٌ ) أي: قاتل( نَفْسَكَ ) وأصل البخع أن يبلغ بالذبح الباخع، وهو عرق مستبطن الفقار، وذلك أقصى حدّ الذبح. و «لعلّ» للإشفاق، أي: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة.( أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) لئلّا يؤمنوا، أو خيفة أن لا يؤمنوا. وإنّما قال ذلك سبحانه تسلية لنبيّه، وتخفيفا عنه بعض ما كان يصيبه من الاغتمام.

ثمّ قال:( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ) دلالة وعلامة يلجئهم إلى الإيمان، ويقسرهم عليه( فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ) منقادين. وأصله: فظلّوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع، وترك الخبر على أصله، حيث لم يقل: خاضعة أو خاضعات.

وقيل: لـمّا وصفت الأعناق بالخضوع الّذي هو من صفات العقلاء أجريت مجراهم، كقوله:( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) (١) .

وقيل: المراد بها الرؤساء ومقدّموهم. وشبّهوا بالأعناق، كما قيل لهم: هم الرؤوس والنواصي والصدور.

وقيل: الجماعات. من قولهم: جاءنا عنق من الناس، لفوج منهم.

والجملة معطوفة على «ننزّل». ونظيره عطف «وأكن» على( فَأَصَّدَّقَ ) (٢) .

لأنّه لو قيل: أنزلنا بدله، لكان صحيحا.

عن ابن عبّاس: نزلت هذه الآية فينا وفي بني اميّة. قال: ستكون لنا عليهم الدولة، فتذلّ لنا أعناقهم بعد صعوبة، ويلحقهم هوان بعد عزّة.

__________________

(١) يوسف: ٤.

(٢) المنافقون: ١٠.

٧

( وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ ) موعظة، أو طائفة من القرآن( مِنَ الرَّحْمنِ ) بوحيه إلى نبيّه( مُحْدَثٍ ) مجدّد إنزاله، لتكرير التذكير، وتنويع التقرير. يعني: وما يجدّد لهم الله بوحيه من أنواع الموعظة والتذكير الّتي في القرآن( إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) إلّا جدّدوا إعراضا عنه، وإصرارا على ما كانوا عليه من الكفر.

( فَقَدْ كَذَّبُوا ) أي: بالذكر بعد إعراضهم، وأمعنوا في تكذيبه، بحيث أدّى إلى الاستهزاء به( فَسَيَأْتِيهِمْ ) إذا مسّهم عذاب الله يوم بدر أو يوم القيامة( أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) من أنّه كان حقّا أم باطلا، وكان حقيقا بأن يصدّق ويعظم قدره، أو يكذّب فيستخفّ أمره.

واعلم أنّه خولف بين الألفاظ، أعني: الإعراض والتكذيب والاستهزاء، لاختلاف الأغراض. كأنّه قيل: حين أعرضوا عن الذكر فقد كذّبوا به، وحين كذّبوا به فقد خفّ عندهم قدره، وصار عرضة للاستهزاء والسخريّة، لأنّ من كان قابلا للحقّ مقبلا عليه كان مصدّقا به لا محالة، ولم يظنّ به التكذيب، ومن كان مصدّقا به كان موقّرا له.

( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ ) أو لم ينظروا إلى عجائبها( كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ ) صنف( كَرِيمٍ ) محمود كثير المنفعة. وهو صفة لكلّ ما يحمد ويرضى. ومنه يقال: وجه كريم إذا رضي في حسنه وجماله، وكتاب كريم مرضيّ في معانيه وفوائده.

وها هنا وصف الزوج بالكريم يحتمل معنيين :

أحدهما: أنّ النبات على نوعين: نافع، وضارّ. فذكر كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع، وخلّى ذكر الضارّ.

والثاني: أن يعمّ جميع النبات، نافعه وضارّه، ويصفهما جميعا بالكرم، وينبّه على أنّه ما أنبت شيئا إلّا وفيه فائدة، لأنّ الحكيم لا يفعل فعلا إلّا لغرض صحيح ،

٨

وحكمة بالغة، وإن غفل عنها الغافلون، ولم يتوصّل إلى معرفتها العاقلون.

وفائدة الجمع بين «كم» و «كلّ»: أنّ «كلّ» للدلالة على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و «كم» على أنّ هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة. فهذا معنى الجمع بينهما، وبه نبّه على كمال قدرته.

وعن الشعبي: الناس نبات الأرض، كما قال سبحانه:( وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ) (١) . فمن دخل الجنّة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم.

( إِنَّ فِي ذلِكَ ) أي: في إنبات تلك الأصناف، أو في كلّ واحد من تلك الأزواج( لَآيَةً ) على أنّ منبتها تامّ القدرة والحكمة، سابغ النعمة والرحمة، مقتدر على إحياء الأموات( وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ ) في علم الله( مُؤْمِنِينَ ) بأمثال هذه الآيات العظام.

( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ) الغالب القادر على الانتقام من الكفرة( الرَّحِيمُ ) حيث أمهلهم. أو العزيز في انتقامه ممّن كفر، الرحيم لمن تاب وآمن.

( وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) )

ثمّ ذكر سبحانه أقاصيص رسله تسلية للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحريضا له على

__________________

(١) نوح: ١٧.

٩

الصبر، ثقة بنزول النصر. وابتدأ بقصّة موسى وفرعون، لطولها وشهرتها بين معاصري نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اليهود، فقال:( وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى ) مقدّر بـ: اذكر. أو ظرف لـما بعده.( أَنِ ائْتِ ) أي: ائت، أو بأن ائت( الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) بالكفر، واستعباد بني إسرائيل، وذبح أولادهم.

( قَوْمَ فِرْعَوْنَ ) بدل من الأوّل. أو عطف بيان له. ويجوز أن يكون الاقتصار على القوم للعلم بأنّ فرعون كان أولى بذلك.( أَلا يَتَّقُونَ ) ويصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته. والتقوى مجانبة القبائح بفعل المحاسن. وهذا استئناف أتبعهعزوجل إرساله إليهم، للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم، تعجيبا لموسىعليه‌السلام من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه.

( قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ) بالرسالة، ولا يقبلوها منّي. والخوف انزعاج النفس بتوقّع الضرّ. ونقيضه الأمن. وهو سكون النفس إلى خلوص النفع.

( وَيَضِيقُ صَدْرِي ) بتكذيبهم إيّاي. عطف على خبر «إنّ». وكذا قوله:( وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي ) بأن لا ينبعث بالكلام، للعقدة الّتي كانت في لسانه. وقد مرّ(١) بيانها.( فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ ) ليعاونني، كما يقال: إذا نزلت بنا نازلة أرسلنا إليك، أي: لتعيننا.

ومعنى الكلام: فأرسل إلى هارون جبرئيل، واجعله نبيّا، وآزرني(٢) به، واشدد به عضدي.

وهذا كلام مختصر، وقد بسطه في غير هذا الموضع. وقد أحسن في الاختصار حيث قال:( فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ ) فجاء بما يتضمّن معنى الاستنباء.

__________________

(١) راجع ج ٤ ص ٢٣٤ ذيل الآية (٢٧) من سورة طه.

(٢) آزره مؤازرة: عاونه.

١٠

وإنّما طلب المعاونة حرصا على القيام بالطاعة. ورتّب استدعاء ضمّ أخيه إليه وإشراكه له في الأمر على الأمور الثلاثة: خوف التكذيب، وضيق القلب انفعالا عنه، وازدياد الحبسة في اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق، لأنّها إذا اجتمعت مسّت الحاجة إلى معين يقوّي قلبه وينوب منابه متى تعتريه حبسة، حتى لا تختلّ دعوته، ولا تنقطع حجّته، وليس ذلك تعلّلا منه وتوقّفا في تلقّي الأمر، بل طلبا لـما يكون معونة على امتثاله وتمهيد عذره فيه.

وقرأ يعقوب: ويضيق ولا ينطلق، بالنصب عطفا على «يكذّبون». والفرق بين القراءتين معنى: أن الرفع يفيد أن فيه ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان. والنصب على أن خوفه متعلّق بهذه الثلاثة. وفيه: أنّ الخوف إنّما يلحق الإنسان لأمر سيقع، وعدم انطلاق اللسان كان واقعا، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ وأجيب: بأنّه قد علّق الخوف بتكذيبهم وبما يحصل له بسببه، من ضيق الصدر والحبسة في اللسان زائدة على ما كان به.

( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ) أي: تبعة ذنب. فحذف المضاف، أو سمّي باسمه. والمراد قتل القبطي. وهو خبّاز فرعون، واسمه فاتون، أي: لهم عليّ دعوى ذنب.( فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) به قبل أداء رسالتك. وهو أيضا ليس تعلّلا، وإنّما هو استدفاع للبليّة المتوقّعة، كما أنّ ذلك استمداد واستظهار في أمر الدعوة.

( قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠)

١١

فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) )

فأجاب الله تعالى هاتين الطلبتين بقوله:( قالَ كَلَّا ) ردعا عن الخوف.

والمعنى: فارتدع يا موسى عمّا تظنّ، لأنّهم لن يقتلوك به، فإنّي لا أسلّطهم عليك.

( فَاذْهَبا بِآياتِنا ) الخطاب على تغليب الحاضر. وهو معطوف على الفعل الّذي يدلّ عليه «كلّا». كأنّه قيل: ارتدع يا موسى عمّا تظنّ. فاذهب أنت والّذي طلبته، وهو هارون. يعني: ضممناه إليك في الإرسال.( إِنَّا مَعَكُمْ ) يعني: موسى وهارون وفرعون( مُسْتَمِعُونَ ) سامعون لـما يجري بينكما وبينه، فأظهر كما عليه. وهو خبر ثان. أو الخبر وحده، و «معكم» ظرف لغو.

قيل: مثّل الله سبحانه نفسه بمن حضر مجادلة قوم استماعا لـما يجري بينهم، وترقّبا لإمداد أوليائه منهم، مبالغة في الوعد بإعانته. ولذلك تجوّز بالاستماع الّذي هو بمعنى الإصغاء للسمع الّذي هو مطلق إدراك الحروف والأصوات، فإنّ الله سبحانه يوصف على الحقيقة بأنّه سمع وسامع لا مستمع، لانتفاء آلة السمع اللازم للإصغاء.

( فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أرسلنا الله إليك لندعوك إلى عبادته، وترك الإشراك به. وأفرد الرسول، لأنّه مصدر وصف به، فإنّه مشترك بين المرسل والرسالة. ولذلك ثنّى تارة، كما في قوله:( إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ) (١) ، وأفرد أخرى، كما هاهنا. أو لاتّحادهما، للأخوّة. أو لوحدة المرسل والمرسل به. أو لأنّه

__________________

(١) طه: ٤٧.

١٢

أراد كلّ واحد منّا.

( أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ ) أي: أرسل، لتضمّن الرسول معنى الإرسال المتضمّن معنى القول، كما في المناداة ونحوها. ومعنى هذا الإرسال التخلية والإطلاق، كما يقال: أرسل البازي. والمراد: أمرك الله بأن خلّهم وأرسلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين. وكانت مسكنهما.

روي: أنّهما انطلقا إلى باب فرعون، فلم يؤذن لهما سنة، حتّى قال البوّاب: إنّ هاهنا إنسانا يزعم أنّه رسول ربّ العالمين. فقال: ائذن له لعلّنا نضحك منه.

فأذنا، فدخلا فأدّيا إليه الرسالة. فعرف موسى.

( قالَ ) أي: فرعون لموسى بعد ما أتياه وقالا له ذلك( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا ) في منازلنا( وَلِيداً ) طفلا. سمّي به لقربه من الولادة. والتربية تنشئة الشيء حالا بعد حال.( وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ) إنّما قال ذلك امتنانا عليه بإحسانه إليه.

عن ابن عبّاس: لبث فيهم ثماني عشرة سنة. وقيل: أربعين. وقيل: ثلاثين سنة. ثمّ خرج إلى مدين عشر سنين، ثمّ عاد إليهم يدعوهم إلى الله ثلاثين، ثمّ بقي بعد الغرق خمسين.

( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ) المراد بالفعلة قتل القبطي بوكزة واحدة. وبّخه به معظّما إيّاه، بعد ما عدّد عليه نعمته، من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال.( وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ ) بنعمتي وحقّ تربيتي حتّى عمدت إلى قتل خواصّي. قيل: وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وفرّ منهم على أثرها. والله أعلم بصحيح ذلك.

وعن السدّي والحسن: معناه: وأنت من الكافرين بإلهك، إذ كنت معنا على ديننا الّذي تعيب وتقول الآن: إنّه كفر. وقد افترى عليه، أو جهل أمره، لأنّه كان يعايشهم بالتقيّة، فإنّ اللهعزوجل عاصم من يريد أن يستنبئه من كلّ كبيرة وصغيرة، فما بال الكفر؟!

١٣

وهو حال من إحدى التاءين. ويجوز أن يكون حكما مبتدأ عليه، بأنّه من الكافرين بإلهيّته، أو بنعمته، لـمّا عاد عليه بالمخالفة. أو من الّذين كانوا يكفرون في دينهم.

( قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) أي: الذاهبين عن أنّ الوكزة تفضي إلى قتله، لأنّه قصد به التأديب، وقد يسمّى الذاهب عن الشيء أنّه ضالّ عليه. ويجوز أن يريد: أنّي ضللت عن فعل المندوب إليه من الكفّ عن القتل في تلك الحالة، فأفوز بمنزلة الثواب.

وقيل: معناه: الذاهبين عن طريق الصواب، لأنّي ما تعمّدته، وإنّما وقع منّي خطأ، كمن رمى طائرا فيصيب إنسانا.

وقيل: من الضالّين عن النبوّة، أي: لم يوح إليّ تحريم قتله.

وقيل: الناسين، من قوله:( أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى ) (١) .

وبهذا القول كذّب موسى فرعون، ودفع الوصف بالكفر عن نفسه، بأن وضع الضالّين موضع الكافرين.

( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ ) منك ومن ملئك المؤتمرين بقتلي( لَمَّا خِفْتُكُمْ ) أي: ذهبت من بينكم إلى مدين، حذرا على نفسي أن يقتلوني قودا عن القبطي( فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً ) علما بما تدعو إليه الحكمة. وهو الّذي وهبه الله تعالى لموسى من التوراة، والعلم بالحلال والحرام وسائر الأحكام. وقيل: نبوّة. وصرّح به بقوله:( وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

ردّ بذلك ما وبّخه به قدحا في نبوّته. ثمّ أنكر امتنانه عليه بالتربية، وأبى أن يسمّي نعمته نعمة، بأن بيّن أنّ حقيقة إنعامه عليه تعبيد بني إسرائيل، فقال:( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ ) أي: وتلك التربية نعمة تمنّها عليّ بها

__________________

(١) البقرة: ٢٨٢.

١٤

ظاهرا، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل، وقصدك بذبح أبنائهم، فإنّه السبب في وقوعي إليك، وحصولي في تربيتك. ولو كنت لم تستعبد بني إسرائيل، ولم تقتل أبناءهم، لكانت امّي مستغنية عن قذفي في اليمّ. فكأنّك تمنّ عليّ بما كان بلاؤك سببا له. فعلى التحقيق امتنانك عليّ تعبيدك قومي، أي: اتّخاذك إيّاهم عبيدا، وتذليلك إيّاهم، فلا يكون حقيقة إنعامك وامتنانك عليّ.

ومحلّ «أن عبّدت» الرفع على أنّه خبر محذوف، أو بدل من «نعمة». أو الجرّ بإضمار الباء. أو النصب بحذفها.

وقيل: «تلك» إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، و «أن عبّدت» عطف بيانها.

والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنّها عليّ.

وإنّما وحّد الخطاب في «تمنّها» وجمع فيما قبله، لأنّ المنّة كانت منه وحده، والخوف والفرار منه ومن ملئه، كما فسّرنا به.

( قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) )

ولـمّا سمع فرعون جواب ما طعن به فيه شرع في الاعتراض على دعواه، فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل، كما حكاه الله تعالى عن ذلك بقوله:( قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ) أيّ شيء هو من الأشياء التي شوهدت وعرفت

١٥

أجناسها.

( قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) منشئهما ومبدعهما( وَما بَيْنَهُمَا ) وما بين الجنسين من سائر الممكنات الجسمانيّة والعرضيّة. عرّفه ببيان أظهر خواصّه وآثاره، وأنّه ليس بشيء ممّا شوهد وعرف من الأجرام والأعراض، وإنّما هو شيء مخالف لجميع الأشياء، ليس كمثله شيء.

( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) الأشياء محقّقين لها، علمتم أنّ هذه الأجرام المحسوسة ممكنة، لتغيّر أحوالها، فلا بدّ لها من مبدئ واجب لذاته، وذلك المبدئ لا بدّ وأن يكون مبدئا لسائر الممكنات. ولا يمكن تعريفه إلّا بلوازمه الخارجيّة، لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه، لاستحالة التركيب في ذاته.

فلمّا أجاب موسى بما أجاب، تعجّب فرعون وقومه من جوابه، حيث نسب الربوبيّة إلى غيره( قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ ) من أشراف قومه. قيل: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور.( أَلا تَسْتَمِعُونَ ) جوابه؟ سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله. أو يزعم أنّه ربّ السماوات، وهي واجب التحرّك بذواتها، كما هو مذهب الدهريّة، أو غير معلوم افتقارها إلى مؤثّر.

( قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) عدولا إلى ما لا يمكن أن يتوهّم فيه مثله، ويشكّ في افتقاره إلى مصوّر حكيم، ويكون أقرب إلى الناظر، وأوضح عند التأمّل.

( قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) أسأله عن شيء، ويجيبني عن آخر. وسمّاه رسولا على السخريّة.

( قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما ) تشاهدون كلّ يوم أنّه يأتي بالشمس من المشرق، ويحرّكها على مدار غير مدار اليوم الّذي قبله، حتّى يبلغها إلى المغرب، على وجه نافع ينتظم به أمور الكائنات( إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) إن كان لكم عقل علمتم أن لا جواب لكم فوق ذلك.

فعمّم موسى أوّلا في أفعاله تعالى. ثمّ خصّص من العامّ للبيان أنفسهم

١٦

وآباءهم، لأنّ أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه، وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع، والناقل من هيئة إلى هيئة وحال إلى حال، من وقت ميلاده إلى وقت وفاته. ثمّ خصّص المشرق والمغرب، لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر، على تقدير مستقيم في فصول السنة، وحساب مستو، من أظهر ما استدلّ به. ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الله عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة على نمرود بن كنعان، فبهت الّذي كفر.

( قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣)قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) )

١٧

ولـمّا كان عادة المعاند المحجوج العدول عن المحاجّة إلى التهديد بعد الانقطاع والإلزام( قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) قيل: كان دهريّا اعتقد أنّ من ملك قطرا، أو تولّى أمره بقوّة طالعه، استحقّ العبادة من أهله.

واللام في «المسجونين» للعهد، أي: ممّن عرفت حالهم في سجوني، فإنّه كان يطرحهم في هوّة بعيدة العمق، لا يبصرون فيها ولا يسمعون، فكان ذلك أشدّ من القتل، ولذلك آثر هذا القول على: لأسجنّنك.

ولـمّا توعّده بالسجن( قالَ ) موسىعليه‌السلام :( أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ) الواو للحال، دخلت عليها همزة الاستفهام بعد حذف الفعل. والمعنى: أتفعل ذلك بي ولو جئت بشيء مبين؟ أي جائيا بشيء ظاهر أو مظهر يبين صدق دعواي. يعني: المعجزة، فإنّها الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته، والدلالة على صدق مدّعي نبوّته.

( قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) في أنّ لك بيّنة. أو في دعواك أتيت به، فإنّ مدّعي النّبوة لا بدّ له من حجّة. فحذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان به يدلّ عليه.

( فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ) ظاهر ثعبانيّته. واشتقاق الثعبان من: ثعبت الماء فانثعب، إذا فجّرته فانفجر.

روي: أنّها انقلبت حيّة ارتفعت في السماء قدر ميل، ثمّ انحطّت مقبلة إلى فرعون، وجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، ويقول فرعون: أسألك بالّذي أرسلك إلّا أخذتها، فأخذها فعادت عصا.

وقيل: إنّ فرعون لـمّا رأى هذه الآية قال: فهل غيرها؟ قال موسى: نعم( وَنَزَعَ يَدَهُ ) وأخرج يده من كمّه أو جيبه( فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ ) بياضا مفرط اللمعان والشعاع كالشمس( لِلنَّاظِرِينَ ) إليها بحيث يكاد يغشي الأبصار، ويسدّ الأفق، لفرط أشعّته.

( قالَ لِلْمَلَإِ ) للأشراف من قومه مستقرّين( حَوْلَهُ ) فهو ظرف وقع موقع

١٨

الحال. فهو منصوب بنصبين: نصب في اللفظ، وهو ما يقدّر في الظرف. ونصب في المحلّ، وهو النصب على الحال.( إِنَّ هذا ) يعني: موسى( لَساحِرٌ عَلِيمٌ ) فائق في علم السحر والحيل.

ولـمّا بهره سلطان المعجزة زلّ عنه ذكر دعوى الإلهيّة، وحطّ عن منكبيه كبرياء الربوبيّة، وارتعدت فرائضه، وانتفخ سحره(١) ، لفرط خوفه من استيلاء موسى على ملكه، وبلغت به الاستكانة لقومه الّذين هم بزعمه عبيده وهو إلههم، أن طفق يؤامرهم ويعترف لهم بما حذر منه من غلبة موسى على ملكه وأرضه، فقال :

( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ) يتغلّب عليها( فَما ذا تَأْمُرُونَ ) في شأنه. من المؤامرة، وهي المشاورة. أو من الأمر الّذي هو ضدّ النهي. جعل العبيد آمرين وربّهم مأمورا، لـما استولى عليه من فرط الدهش والحيرة.

( قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ ) أخّر أمرهما. وقيل: احبسهما.( وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ) شرطا(٢) يحشرون السحرة من جميع البلدان.

( يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ) يفضّلون عليه في فنّ السحر. أمالها ابن عامر والكسائي.

( فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) لـما وقّت به من ساعات يوم معين.

وهو وقت الضحى من يوم الزينة. والميقات: ما حدّد من زمان أو مكان. ومنه: مواقيت الإحرام.

( وَقِيلَ لِلنَّاسِ ) أي: لأهل مصر( هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ) فيه استبطاء لهم في الاجتماع حثّا على مبادرتهم إليه، كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحثّه على الانطلاق.

( لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ ) أي: نتّبعهم في دينهم( إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ) إن

__________________

(١) السحر: الرئة. يقال للجبان: قد انتفخ سحره، كأنّ الخوف ملأ جوفه فانتفخ سحره

(٢) الشرط: الحرس وأعوان الولاة وواحدها: شرطي.

١٩

غلبوا موسى، ولا نتّبع موسى في دينه. وليس غرضهم اتّباع السحرة، بل إنّما الغرض الكلّي أن لا يتّبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق الكناية، لأنّهم إذا اتّبعوهم لم يكونوا متّبعين لموسى.

( فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ ) حضروا بين يدي فرعون( قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ ) لموسى وأخيه.

( قالَ نَعَمْ ) لكم على ذلك الأجر الجزيل( وَإِنَّكُمْ إِذاً ) مع ما لكم من الأجر( لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) التزم لهم الأجر والقربة عنده زيادة عليه إن غلبوا.

ولـمّا كان قوله:( أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً ) في معنى جزاء الشرط، لدلالته عليه، وكان قوله:( وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) معطوفا عليه، ومدخلا في حكمه، دخلت «إذا» قارّة في مكانها الّذي تقتضيه من الجواب والجزاء.

( قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) )

٢٠