زبدة التفاسير الجزء ٥
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
ولأنّ المعنى: كيف كان آخر أمرهم؟ وهو أنّ الله أهلكهم، وخرّب ديارهم.
( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) على تكذيبهم وإعراضهم( وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ ) في حرج صدر. وقرأ ابن كثير بكسر الضاد. وهما لغتان. يقال: ضاق الشيء ضيقا وضيقا.( مِمَّا يَمْكُرُونَ ) من مكرهم وكيدهم لك، ولا تبال بذلك، فإنّ الله يعصمك من الناس.
( وَيَقُولُونَ ) استبعادا واستنكارا( مَتى هذَا الْوَعْدُ ) العذاب الموعود( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) بأنّه يكون.
( قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ ) تبعكم ولحقكم. واللام مزيدة للتأكيد، كالباء في( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ ) (١) . أو الفعل مضمّن معنى فعل يتعدّى باللام، مثل: دنا لكم وأزف(٢) لكم( بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ) حلوله، وهو عذاب يوم بدر.
و «عسى» و «لعلّ» و «سوف» في مواعيد الملوك كالجزم بها، وإنّما يطلقونه إظهارا لوقارهم، وأنّهم لا يعجّلون بالانتقام، وإشعارا بأنّ الرمز منهم كالتصريح من غيرهم، وتنبيها على وثوقهم بأن عدوّهم لا يفوتهم، وعليه جرى وعد الله ووعيده، فإنّه مالك الملوك.
( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) بتأخير عقوبتهم على المعاصي، وعدم المعاجلة بها. والفضل والفاضلة: الإفضال، وجمعها فضول وفواضل.( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ) لا يعرفون حقّ النعمة فيه، فلا يشكرونه، بل بجهلهم يستعجلون وقوع العذاب. وهم قريش.
( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ ) ما تخفيه( صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ ) من عداوتك، فيجازيهم عليه.
__________________
(١) البقرة: ١٩٥.
(٢) أي: اقترب.
( وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) أي: خافية فيهما. وهما من الصفات الغالبة، والتاء فيهما للمبالغة، كما في الراوية، كأنّه قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء. أو اسمان لـما يغيب ويخفى، كالتاء في عاقبة وعافية ونظائرهما، كالنطيحة والذبيحة، في أنّها أسماء غير صفات.( إِلَّا ) ثبت( فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) بيّن، أو مبيّن ما فيه لمن يطالعه من الملائكة. والمراد اللوح، أو القضاء على الاستعارة.
( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) )
ثمّ ذكر سبحانه من الحجج ما يقوّي قلب نبيّهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال:( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ
يَقُصُ ) يخبر( عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) كالتشبيه والتنزيه، وأحوال الجنّة والنار، وعزير والمسيح ومريم، والنبيّ المبشّر به في التوراة، حيث قال بعضهم: هو يوشع، وقال بعضهم: لا بل هو منتظر لم يأت بعد، وغير ذلك من الأحكام. وكان ذلك معجزة لنبيّناصلىاللهعليهوآلهوسلم ، إذ كان لا يدرس كتبهم ولا يقرؤها، ثمّ أخبرهم بما فيها.
وقال:( وَإِنَّهُ ) وإنّ القرآن( لَهُدىً ) لدلالة على الحقّ( وَرَحْمَةٌ ) ونعمة( لِلْمُؤْمِنِينَ ) من بني إسرائيل ومن غيرهم، فإنّهم هم المنتفعون به.
( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ) بين المختلفين من بني إسرائيل وغيرهم يوم القيامة( بِحُكْمِهِ ) بما يحكم به، وهو العدل، فإنّه لا يقضي إلّا به. فسمّى المحكوم به حكما. أو أراد بحكمته. وأشار بذلك إلى شيئين ؛ أحدهما: أنّ الحكم له، فلا ينفذ حكم غيره، فيوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه. والآخر: أنّه وعد المظلوم بالانتصاف من الظالم.
( وَهُوَ الْعَزِيزُ ) القادر الغالب على ما يشاء، لا يمتنع عليه شيء، فلا يردّ قضاؤه( الْعَلِيمُ ) بالمحقّ والمبطل، فيجازي كلّا بحسب عمله.
وفي هذه الآية تسلية للمحقّين الّذين خولفوا في أمور الدين، وأنّ أمرهم يئول إلى أن يحكم بينهم ربّ العالمين.
ثمّ أمر نبيّهصلىاللهعليهوآلهوسلم بالتوكّل عليه، وقلّة المبالاة بأعداء الدين، فقال:( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) ولا تبال بمعاداتهم. ثمّ علّل التوكّل بأنّه على الحقّ الأبلج الّذي لا يتعلّق به الشكّ والظنّ( إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ) وصاحب الحقّ حقيق بالوثوق بحفظ الله ونصرته.
ثمّ بيّن علّة اخرى للأمر بالتوكّل، فقال:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) فاقطع طمعك عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأسا. وإنّما شبّهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع
ما يتلى عليهم، كما شبّهوا بالصمّ في قوله تعالى:( وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) فإنّ إسماعهم في هذه الحالة أبعد، فإنّ الأصمّ إذا تباعد عن الداعي ـ بأن يولّي عنه مدبرا ـ كان أبعد عن إدراك صوته. وقرأ ابن كثير: ولا يسمع الصّمّ.
( وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ ) حيث الهداية لا تحصل إلّا بالبصر.
فجعل سبحانه المصمّم على الجهل كالميّت تارة في أنّه لا يقبل الهدى، واخرى.
كالأصمّ في أنّه لا يسمع الدعاء، واخرى كالعمي في أنّه لا يبصر الحقّ.
( إِنْ تُسْمِعُ ) أي: ما يجدي إسماعك( إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا ) إلّا الّذين علم الله أنّهم يؤمنون بآياته، أي: يصدّقون بها( فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) من قوله:( بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) (١) يعني: جعله سالما لله خالصا له.
ثمّ هدّدهم بقوله:( وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) يعني: إذا دنا وقوع الساعة وظهور أشراطه، وهو ما وعدوا به من البعث والعذاب، وعند ذلك يرتفع التكليف، ولا تقبل التوبة( أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ ) وهي الجسّاسة.
وعن ابن عبّاس: أنّ طولها ستّون ذراعا، ولها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان، لا يفوتها هارب، ولا يدركها طالب.
وعن ابن جريج في وصفها: لها رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وقرن أيّل، وعنق نعامة، وصدر أسد، ولون نمر، وخاصرة هرّة، وذنب كبش، وخفّ بعير، وما بين مفصليها اثنا عشر ذراعا بذراع آدمعليهالسلام .
وروي: لا تخرج إلّا رأسها، ورأسها يبلغ أعنان السماء، أو يبلغ السحاب.
وعن أبي هريرة: فيها من كلّ لون، وما بين قرنيها فرسخ للراكب.
وعن الحسن: لا يتمّ خروجها إلّا بعد ثلاثة أيّام.
وعن عليّعليهالسلام : أنّها تخرج ثلاثة أيّام، والناس ينظرون، فلا يخرج إلّا ثلثها.
__________________
(١) البقرة: ١١٢.
وروى محمّد بن كعب القرظي قال: سئل عليّعليهالسلام عن الدابّة، فقال: أما والله ما لها ذنب، وإنّ لها للحية. وفي هذا إشارة إلى أنّها من الإنس.
وعن وهب أنّه قال: وجهها وجه رجل، وسائر خلقها خلق الطير.
وروي أنّ النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم سئل: من أين تخرج الدابّة؟ فقال: من أعظم المساجد حرمة على الله، يعني: مسجد الحرام.
وروي: أنّها تخرج ثلاث خرجات: تخرج بأقصى اليمن ثمّ تتكمّن، ثمّ تخرج بالبادية ثمّ تتكمّن دهرا طويلا، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله تعالى، فما يهولهم إلّا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم، عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون، وقوم يقفون نظّارة.
وقيل: تخرج من الصفا فـ( تُكَلِّمُهُمْ ) بالعربيّة بلسان ذلق(١) ، فتقول:( أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا ) وهي خروجها وسائر أحوالها، فإنّها من آيات الله تعالى.
وقيل: القرآن.( لا يُوقِنُونَ ) لا يتيقّنون. وهو حكاية معنى قولها. أو حكاية لقول الله. أو علّة خروجها، أو تكلّمها، على حذف الجارّ. وقرأ غير الكوفيّين: إنّ النّاس بالكسر، على الاستئناف.
عن السدّي: تكلّمهم ببطلان الأديان كلّها سوى دين الإسلام. وقيل: تقول: ألا لعنة الله على الظالمين.
وعن ابن عمر: تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه، ثمّ تستقبل المشرق، ثمّ الشام، ثمّ اليمن، فتفعل مثل ذلك.
وروي: بينا عيسىعليهالسلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرّك القنديل، وينشقّ الصفا ممّا يلي المسعى، فتخرج الدابّة من الصفا، ومعها عصا موسى وخاتم سلمان، فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه
__________________
(١) أي: طلق بليغ فصيح.
بعصا موسى، فتنكت نكتة بيضاء، فتفشو تلك النكتة في وجهه حتّى يضيء لها وجهه، أو فتترك وجهه كأنّه كوكب درّيّ، وتكتب بين عينيه: مؤمن. وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه، فتفشو النكتة حتّى يسودّ لها وجهه، وتكتب بين عينيه: كافر. حتّى يقال: يا مؤمن، يا كافر.
وروي: فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتحطم أنف الكافر بالخاتم، ثمّ تقول لهم: يا فلان أنت من أهل الجنّة، ويا فلان أنت من أهل النار.
( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ) يعني: يوم القيامة( مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا ) بيان للفوج، أي: فوجا مكذّبين. و «من» الأولى للتبعيض، لأنّ أمّة كلّ نبيّ وأهل كلّ قرن شامل للمصدّقين والمكذّبين.( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) يحبس أوّلهم على آخرهم، ليتلاحقوا ويجتمعوا فيكبكبوا في النار. وهو عبارة عن كثرة عددهم وتباعد أطرافهم، كما وصفت جنود سليمانعليهالسلام بذلك. وكذلك قوله: «فوجا» فإنّ الفوج الجماعة الكثيرة.
وعن ابن عبّاس: أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة، يساقون بين يدي أهل مكّة. وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار.
( حَتَّى إِذا جاؤُ ) إلى المحشر( قالَ ) أي: قال الله تعالى( أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي ) أي: المعجزات الدالّة على صحّة ديني( وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً ) الواو للحال، أي: أكذّبتم بها بادئ الرأي، غير ناظرين فيها نظرا يؤدّي إلى إحاطة العلم بكنهها، وأنّها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب؟ أو للعطف، أي: أجحدتموها، ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتحقّقها، فإنّ المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه، ولا يدع مع ذلك أن يقرأه ويتفهّم مضامينه، ويحيط بمعانيه.
( أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي: أم أيّ شيء كنتم تعملونه بعد ذلك؟ وهو للتبكيت، إذ لم يفعلوا غير التكذيب، فلا يقدرون أن يقولوا: فعلنا غير ذلك، لشهرة
أنّهم ما يفعلون غير التكذيب، ولا يشتغلون بغيره. ومثاله: أن تقول لراعيك ـ وقد عرفت أنّه يأكل نعمك ويفسدها ـ: أتأكل نعمي وتفسدها؟ مع علمك أنّه لا يعمل بها إلّا الأكل والإفساد، لتبهته وتعلمه علمك بأنّه لا يجيء منه إلّا أكلها وإفسادها، وأنّه لا يقدر أن يدّعي حفظها وإصلاحها، لـما شهر من خلاف ذلك.
والكفّار يخاطبون بهذا القول قبل كبّهم في النار، ثمّ يكبّون فيها. وذلك قوله:( وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) ووجب عليهم، وحلّ بهم العذاب الموعود، وهو كبّهم في النار( بِما ظَلَمُوا ) بسبب ظلمهم، وهو التكذيب بآيات الله( فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ) باعتذار، لشغلهم بالعذاب، وعظم هول ما يشاهدونه. ومثل ذلك قوله:( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) (١) .
( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) )
__________________
(١) المرسلات: ٣٥.
ثمّ بيّن سبحانه قدرته على الإعادة والبعث بما احتجّ به على الكفّار، فقال:( أَلَمْ يَرَوْا ) ليتحقّق لهم التوحيد، ويرشدهم إلى تجويز الحشر وبعثة الرسل( أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ ) عن التعب والحركات( وَالنَّهارَ مُبْصِراً ) لتقلّبهم فيه في المكاسب، فإنّ تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص غير متعيّن بذاته، لا يكون إلّا بقدرة قاهرة. وأنّ من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادّة واحدة، قدر على إبدال الموت بالحياة في موادّ الأبدان. وأنّ من جعل النهار ليبصروا فيه سببا من أسباب معاشهم، لعلّه لا يخلّ بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم.
واعلم أنّ أصل الكلام في قوله:( وَالنَّهارَ مُبْصِراً ) : ليبصروا فيه، بقرينة التقابل، فبولغ فيه بجعل الإبصار حالا من أحواله المجعول عليها، بحيث لا ينفكّ عنها.
( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) لدلالتها على أنّ من قدر على خلق الليل والنهار لانتفاع العباد، لقدر على إعادة الموتى وبعثهم يوم المعاد، لإثابتهم وتعذيبهم على وفق الأعمال.
( وَيَوْمَ يُنْفَخُ ) واذكر يوم ينفخ إسرافيل بأمر الله( فِي الصُّورِ ) وهو قرن ينفخ فيه شبه البوق. وعن الحسن وقتادة: المراد صور الخلق، جمع صورة، كصوفة وصوف، أي: يوم تنفخ الأرواح في الصور. والأوّل قد ورد في الحديث. وقيل: إنّه تمثيل لانبعاث الموتى بانبعاث الجيش إذا نفخ في البوق.
( فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) من الهول. وعبّر عنه بالماضي لتحقّق وقوعه، فإنّ الفعل الماضي يدلّ على وجود الفعل، وكونه مقطوعا به، وأنّه كائن لا محالة.( إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ) أن لا يفزع، بأن يثبت الله قلبه، من الملائكة.
قيل: هم: جبرئيل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، صلوات الله عليهم.
وقيل: الحور، والخزنة، وحملة العرش. وقيل: الشهداء. وعن جابر: منهم موسى، لأنّه صعق مرّة.
ومثله قوله تعالى:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) (١) .
وقيل: هي ثلاث نفخات: الأولى: نفخة الفزع. والثانية: نفخة الصعق. والثالثة: نفخة القيام لربّ العالمين.
( وَكُلٌ ) من الأحياء الّذين ماتوا ثمّ أحيوا( أَتَوْهُ ) حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية. أو راجعون إلى أمره، منقادون له. وقرأ حمزة وحفص: أتوه على الفعل.( داخِرِينَ ) صاغرين أذلّاء.
( وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ) ثابتة في مكانها. من: جمد في مكانه إذا لم يبرح. يعني: إذا نظر الناظر إليها حسبها واقفة في مكان واحد.( وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ) أي: يمرّ مرّا حثيثا كما يمرّ السحاب في السرعة. وذلك لأنّ الأجرام الكبار إذا تحرّكت في سمت واحد، فلا تكاد تتبيّن حركتها.
( صُنْعَ اللهِ ) من المصادر المؤكّدة لنفسها. وهو لمضمون الجملة المتقدّمة، كقوله:( وَعْدَ اللهِ ) (٢) . تقديره: صنع الله صنعا.( الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) خلق كلّ شيء على وجه الإتقان والإحكام والاتّساق والتسوية. ومن ذلك المجازاة على وفق الأعمال يوم المعاد على ما ينبغي.
( إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ ) عالم بظواهر الأفعال وبواطنها، فيجازيكم عليها إثابة وعقابا. كما قال:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) إذ ثبت له الباقي بالفاني، وسبعمائة بواحدة.
__________________
(١) الزمر: ٦٨.
(٢) النساء: ١٢٢، وغيرها.
وعن ابن عبّاس: أي: فمنها يصل الخير إليه. والمعنى: فله من تلك الحسنة من جهتها خير يوم القيامة. وهو الثواب والأمان من العقاب. فـ «خير» هاهنا اسم، وليس بالّذي هو بمعنى الأفضل.
والمراد بالحسنة: كلّ فعل حسن في نظر الشرع، فلا يكون ذلك إلّا بعد تحقّق الإيمان.
وعن ابن عبّاس وقتادة: أنّها كلمة الشهادة، فإنّها أمّ الحسنات ورأسها.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام: يفعلون بالياء. والباقون بالتاء.
( وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) يعني به خوف عذاب يوم القيامة. وقرأ الكوفيّون بالتنوين، لأنّ المراد فزع واحد من أفزاع ذلك اليوم. ونافع: يومئذ بفتح الميم مع الإضافة، لأنّه أضيف إلى غير متمكّن. والباقون بكسرها. و «آمن» يتعدّى بالجارّ وبنفسه، كقوله تعالى:( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ ) (١) .
عن الكلبي: إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها، وأهل الجنّة آمنون من ذلك الفزع.
وقال في الكشّاف: «الفرق بين الفزعين: أن الأوّل ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع وهول يفجأ، من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به، كما يدخل الرجل على الملك بصدر هيّاب(٢) وقلب وجّاب، وإن كانت ساعة إعزاز وتكرمة وإحسان وتولية. وأمّا الثاني: فالخوف من العذاب»(٣) .
( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ ) قيل: بالشرك، فإنّه أمّ السيّئات ورأسها. كذا روي عن ابن عبّاس وأكثر المفسّرين. وعند غيرهم: المراد كلّ معصية كبيرة.( فَكُبَّتْ
__________________
(١) الأعراف: ٩٩.
(٢) هياب أي: خائف. وقلب وجاب: كثير الخفوق والاضطراب.
(٣) الكشاف ٣: ٣٨٨.
وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) أي: فكبّوا فيها على وجوههم منكوسين.
ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم، كما أريدت بالأيدي في قوله:( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ ) (١) . فعبّر عن الجملة بالوجه، كما عبّر عنها بالرأس والرقبة والأيدي.
( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) على الالتفات، أي: هذا جزاء فعلكم، وليس بظلم. أو بإضمار القول، أي: قيل لهم ذلك.
روى السيّد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن أحمد، قال: أخبرنا محمّد بن أحمد بن محمّد، قال: حدّثنا عبد العزيز بن يحيى بن أحمد، قال: حدّثني محمّد بن عبد الرحمن بن الفضل، قال: حدّثني جعفر بن الحسين، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني محمّد بن زيد عن أبيه، قال: سمعت أبا جعفرعليهالسلام يقول: «دخل أبو عبد الله الجدلي على أمير المؤمنينعليهالسلام ، فقالعليهالسلام له: يا أبا عبد الله ألا أخبرك بقول الله تعالى:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ) ـ إلى قوله ـ( تَعْمَلُونَ ) ؟ قال: بلى جعلت فداك. قال: الحسنة حبّنا أهل البيت، والسيّئة بغضنا»(٢) .
وحدّثنا السيّد أبو الحمد، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم، قال: أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمّد الحميري، قال: حدّثنا جدّي أحمد بن إسحاق الحميري، قال: حدّثنا جعفر بن سهل، قال: حدّثنا أبو زرعة وعثمان بن عبد الله القرشي، قالا: حدّثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: «قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : يا عليّ، لو أنّ أمّتي صاموا حتّى صاروا كالأوتاد، وصلّوا حتّى صاروا كالحنايا(٣) ، ثمّ أبغضوك، لأكبّهم الله على مناخرهم في النار»(٤) .
__________________
(١) البقرة: ١٩٥.
(٢) شواهد التنزيل ١: ٥٤٨ ح ٥٨١.
(٣) الحنايا جمع الحنيّة. وهي: القوس، أو ما كان منحنيا مثله.
(٤) شواهد التنزيل ١: ٥٤٩ ح ٥٨٣.
( إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣) )
ولـمّا بيّن المبدأ والمعاد، وشرح أحوال القيامة، أمر رسولهصلىاللهعليهوآلهوسلم أن يقول لهم:( إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ ) يعني: مكّة( الَّذِي حَرَّمَها ) إشعارا بأنّه قد أتمّ الدعوة، وقد كملت، وما عليه بعد إلّا الاشتغال بشأنه، والاستغراق في عبادة ربّه. وتخصيص مكّة بهذه الإضافة تشريف لها، وتعظيم لشأنها. ومعنى «حرّمها».
جعلها ممنوعا أن يقصد الظلمة إلى تخريبها. أو جعلها حرما آمنا، يحرم فيها ما يحلّ في غيرها، لا ينفر صيدها، ولا يختلى(١) خلاها، ولا يقتصّ فيها.
( وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ) خلقا وملكا( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) المنقادين، أو الثابتين على ملّة الإسلام.
( وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ ) وأن أواظب على تلاوته، لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئا فشيئا. أو أتّبعه.
( فَمَنِ اهْتَدى ) باتّباعه إيّاي فيما فيه( فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) فإنّ المنافع العاجلة والفوائد الآجلة عائدة إليه.
( وَمَنْ ضَلَ ) عنه بمخالفتي( فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) فلا عليّ من وبال ضلاله شيء، إذ ما على الرسول إلّا البلاغ، وقد بلّغت.
__________________
(١) اختلى العشب: جزّه وقطعه. والخلى: العشب والحشيش.
ثمّ أمره أن يحمد الله على ما خوّله من نعمة النبوّة الّتي لا توازيها نعمة، وأن يهدّد أعداءه بما سيريهم الله من آياته الّتي تلجئهم إلى المعرفة، فقال:( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) على نعمة النبوّة. أو على ما علّمني ووفّقني للعمل به.
( سَيُرِيكُمْ آياتِهِ ) القاهرة في الدنيا، كوقعة بدر، وخروج دابّة الأرض. وعن الكلبي: هو الدخان وانشقاق القمر. أو في الآخرة. وقيل: هو كقوله:( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) (١) الآية.( فَتَعْرِفُونَها ) أنّها آيات الله، ولكن حين لا تنفعكم المعرفة.
( وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) فلا تحسبوا أنّ تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم، لتنزّه ذاته المتعالي عنها، بل لمصلحة تقتضيه.
__________________
(١) فصّلت: ٥٣.
(٢٨)
سورة القصص
مكّيّة. وهي ثمان وثمانون آية.
أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ طسم القصص كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدّق بموسى وكذّب به، ولم يبق ملك في السّماوات والأرض إلّا شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقا أنّ( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (١) ».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) )
__________________
(١) القصص: ٨٨.
واعلم أنّ الله سبحانه لـمّا أمر في خاتمة سورة النمل بتلاوة القرآن، بيّن في هذه السورة أنّ القرآن من طسم، وأنّه يتلو فيها عليهم من نبأ موسى وفرعون، فقال:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) البيّن الظاهر. أو الّذي بيّن الرشد من الغيّ.
( نَتْلُوا عَلَيْكَ ) نقرأ بواسطة جبرئيل. ويجوز أن يكون بمعنى: ننزّله مجازا.
( مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ ) مفعول «نتلو». و «من» للتبعيض، أي: نتلو بعض نبئهما.
( بِالْحَقِ ) محقّين. أو ملتبسا بالصدق والحقيقة.( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) لمن سبق في علمنا أنّه يؤمن، لأنّ التلاوة إنّما تنفع هؤلاء دون غيرهم.
ثمّ استأنف ما يبيّن ذلك البعض، فقال:( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا ) بغى وطغى ظلما( فِي الْأَرْضِ ) أرض مصر( وَجَعَلَ أَهْلَها ) من السبط والقبط( شِيَعاً ) فرقا يشيعونه ويطيعونه فيما يريد، لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه عن حكمه. أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته. أو أصنافا في استخدامه، يتسخّر صنفا في الحرث، وصنفا في الحفر، وصنفا في البناء، وغير ذلك. أو فرقا مختلفة، قد أغرى بينهم العداوة كي لا يتّفقوا عليه.
( يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ ) وهم بنو إسرائيل. والجملة حال من فاعل «جعل». أو صفة لـ «شيعا». أو استئناف. وقوله:( يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ ) أي: يقتلهم
( وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ ) أي: يستبقيهنّ بدل(١) ، منها. وسبب ذبح الأبناء: أنّ كاهنا قال له: يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده. وذلك من غاية حمقه، فإنّه إن صدق الكاهن لم يندفع بالقتل، وإن كذب فما وجه القتل؟
وقال السدّي: رأى فرعون في منامه أنّ نارا أقبلت من بيت المقدس حتّى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القبط، وتركت بني إسرائيل. فسأل علماء قومه، فقالوا له: يخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك ملكك على يده.
( إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء والأولياء لتخيّل فاسد.
( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ ) أن نتفضّل( عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ) بإنقاذهم من شدّة عذابه ونقمته. وهذا حكاية حال ماضية، معطوفة على( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا ) من حيث إنّهما واقعان تفسيرا للنبأ. أو حال من «يستضعف» أي: يستضعفهم فرعون، ونحن نريد أن نمنّ عليهم. ولا يلزم من مقارنة الإرادة للاستضعاف مقارنة المراد له، لجواز أن يكون تعلّق الإرادة به تعلّقا استقباليّا. مع أنّ منّة الله بخلاصهم لـمّا كانت قريبة الوقوع منه، جاز أن تجري مجرى المقارن. فلا يرد منه أنّه كيف يجتمع استضعافهم، وإرادة الله المنّة عليهم؟ وإذا أراد الله شيئا كان، ولم يتوقّف إلى وقت آخر.
( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) مقدّمين في أمر الدين والدنيا، يطأ الناس أعقابهم، ويقتفون آثارهم. وهذا التفسير جامع ما نقل عن ابن عبّاس: أنّ معناه: قادة يقتدى بهم في الخير. وعن مجاهد: دعاة إلى الخير. وعن قتادة: ولاة، كقوله:( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) (٢) .
__________________
(١) خبر لقوله: وقوله، قبل سطر، أي: قوله تعالى: «يذبّح ...» بدل من جملة: «يستضعف ...».
(٢) المائدة: ٢٠.
( وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) يرثون فرعون وقومه، ملكهم وكلّ ما كان لهم.
( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) أرض مصر والشام. وأصل التمكين أن تجعل للشيء مكانا يتمكّن فيه ويقعد عليه أو يرقد، ثمّ استعير للتسليط وتنفيذ الأمر على الإطلاق.
( وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ ) وزيره الأعظم( وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ) من بني إسرائيل( ما كانُوا يَحْذَرُونَ ) من ذهاب ملكهم، وهلاكهم على يد مولود منهم.
وقرأ حمزة والكسائي: ويرى بالياء، و( فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما ) بالرفع.
قال الضحّاك: عاش فرعون أربعمائة سنة. وكان قصيرا دميما(١) . وهو أوّل من خضب بالسواد. وعاش موسىعليهالسلام مائة وعشرين سنة.
وقد صحّت الرواية عن أمير المؤمنينعليهالسلام أنّه قال: «والّذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها(٢) ، عطف الضروس على ولدها. وتلا عقيب ذلك:( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ) الآية».
وروى العيّاشي بالإسناد عن أبي الصبّاح الكناني، قال: «نظر أبو جعفرعليهالسلام إلى أبي عبد اللهعليهالسلام ، فقال: هذا والله من الّذين قال الله:( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ) الآية».
وقال سيّد العابدين عليّ بن الحسينعليهماالسلام : «والّذي بعث محمّدا بالحقّ بشيرا ونذيرا، إنّ الأبرار منّا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وإنّ عدوّنا وأشياعه بمنزلة فرعون وأشياعه».
ثمّ بيّن سبحانه كيف دبّر في إهلاك فرعون وقومه، منبّها بذلك على كمال
__________________
(١) الدميم: الحقير القبيح المنظر.
(٢) شمس يشمس شماسا: امتنع وأبى، وأبدى عداوته. والناقة الضروس: السيّئة الخلق، تعضّ حالبها.
قدرته وحكمته، فقال :
( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) )
( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ) وألهمناها وقذفنا في قلبها. وعن الجبائي: كان هذا الوحي رؤيا منام.( أَنْ أَرْضِعِيهِ ) ما أمكنك إخفاؤه( فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ ) من أن يأخذه بعض العيون المبثوثة من قبل فرعون في تطلّب الولدان ويقتلوه( فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ ) في البحر. يريد نيل مصر.
( وَلا تَخافِي ) عليه من ضياعه ووقوعه في يد بعض العيون( وَلا تَحْزَنِي ) أي: لفراقه، فإنّ الخوف غمّ يلحق الإنسان لمتوقّع، والحزن غمّ يلحقه لواقع، وهو الفراق هاهنا. فنهيت عنهما جميعا، وأومنت بالوحي إليها، ووعدت ما يسلّيها، ويطمئن قلبها، ويملؤها غبطة وسرورا بهذا القول.
( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ) سالما عن قريب بحيث تأمنين عليه( وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .
وفي هذه الآية أمران ونهيان، وخبران وبشارتان. وحكي أنّ بعضهم سمع بدويّة تنشد أبياتا فقال لها: ما أفصحك! فقالت: الفصاحة لله تعالى، وذكرت هذه الآية وما فيها.
قيل: إنّه ذبح في طلب موسى تسعون ألف وليد.
وروي: أنّها لـمّا ضربها الطلق دعت قابلة من الموكّلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها، فقالت لها: لينفعني حبّك اليوم، فعالجتها. فلمّا وقع موسى على الأرض هالها نور بين عينيه، وارتعش كلّ مفصل منها، ودخل حبّه في قلبها. ثمّ قالت: ما جئتك إلّا لأقبل مولودك، وأخبر فرعون، ولكنّي وجدت لابنك حبّا ما وجدت مثله، فاحفظيه.
فلمّا خرجت جاء عيون فرعون، فلفّته في خرقة ووضعته في تنّور مسجور، لأنّها لم تعلم ما تصنع، لـما طاش من عقلها. فطلبوا فلم يلقوا شيئا، ورأو أمّ موسى لم يتغيّر لها لون، ولم يظهر لها لبن، فخرجوا من عندها. وهي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنّور، فانطلقت إليه، وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما. فأرضعته ثلاثة أشهر، خيفة من الناس عليه.
ثمّ ألحّ فرعون في طلب المواليد، واجتهد العيون في تفحّصها. فخافت على ابنها، فانطلقت إلى نجّار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتا: فقال النجّار: ما تصنعين بهذا التابوت؟ قالت: إنّ لي ابنا أخبؤه(١) في التابوت. وكرهت الكذب.
فلمّا اشترت التابوت وحملته، انطلق النجّار إلى الذبّاحين ليخبرهم بأمر امّ موسى، فلم يطق الكلام. فرجع وأخذ في النجر، فانطلق لسانه. فرجع ثانيا، فلمّا انتهى إليهم اعتقل لسانه. هكذا ثلاث مرّات، فعلم أنّ ذلك أمر إلهيّ.
__________________
(١) خبأ الشيء: ستره وأخفاه.