زبدة التفاسير الجزء ٥
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
وروي: أنّه لـمّا بلغ جحفة في مهاجره اشتاق إلى مولده ومولد آبائه وحرمهم.
فنزل جبرئيل فقال له: أتشتاق إلى مكّة؟ قال: نعم. فأوحي هذه الآية إليه.
ولـمّا وعد الله رسوله الردّ إلى معاد، قال تقريرا لهذا الوعد:( قُلْ ) للمشركين:( رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى ) وما يستحقّه من الثواب والنصر في معاده. يعني: به نفسه. و «من» منتصب بفعل يفسّره «أعلم».( وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) وما يستحقّه من العذاب والإضلال. يعني به المشركين.
وقرّر الوعد إلى معاد بقوله:( وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ ) أي: سيردّك إلى معادك، كما ألقى إليك الكتاب وما كنت ترجوه( إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) ولكن ألقاه رحمة منه. ويجوز أن يكون استثناء متّصلا محمولا على المعنى. كأنّه قال: وما ألقي إليك الكتاب إلّا رحمة.
( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ ) بمداراتهم، والتحمّل عنهم، والإجابة إلى طلبتهم.
( وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ ) عن قراءتها والعمل بها( بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ) بعد وقت إنزاله إليك( وَادْعُ ) أمّتك( إِلى رَبِّكَ ) إلى عبادته وتوحيده( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) بمساعدتهم.
وهذا للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم. وكذا قوله:( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) إلّا ذاته، فإنّ ما عداه ممكن هالك في حدّ ذاته، زائل معدوم( لَهُ الْحُكْمُ ) القضاء النافذ في الخلق( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) للجزاء بالحقّ.
(٢٩)
سورة العنكبوت
وهي تسع وستّون آية بالإجماع. عن أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ المؤمنين والمنافقين».
وروى أبو بصير عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: «من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين، فهو والله يا أبا محمّد من أهل الجنّة، لا أستثني فيه أبدا، ولا أخاف أن يكتب الله عليّ في يميني إثما، وإنّ لهاتين السورتين من الله مكانا».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) )
واعلم أنّ الله سبحانه لـمّا ختم سورة القصص بذكر الوعد والوعيد، افتتح هذه السورة بذكر تكليف العبيد، فقال:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم أَحَسِبَ النَّاسُ ) الهمزة للإنكار والتوبيخ. ولا يتعلّق بمعاني المفردات، بل بمضامين الجمل، للدلالة على جهة ثبوتها، ولذلك اقتضى مفعولين متلازمين، أو ما يسدّ مسدّهما، كقوله تعالى:( أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) فإنّ معناه: أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم: آمنّا. فالترك أوّل مفعولي «حسب». و «لقولهم آمنا» المفعول الثاني. وأمّا «غير مفتونين» فمن تتمّة الترك الّذي بمعنى التصيير، كقوله(١) : فتركته جزر السباع ينشنه.
ألا ترى أنّك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول: تركهم غير مفتونين، لقولهم: آمنّا، على تقدير: حاصل ومستقرّ قبل اللام. كما تقول: خروجه لمخافة الشرّ، وضربه للتأديب. وقد كان التأديب والمخافة في قولك: خرجت مخافة الشرّ وضربته تأديبا، تعليلين. وتقول أيضا: حسبت خروجه لمخافة الشرّ، وظننت ضربه للتأديب. فتجعلهما مفعولين، كما جعلتهما مبتدأ وخبرا.
والفتنة: الامتحان بمشاقّ التكاليف، كالمهاجرة، ومجاهدة الأعداء، ورفض الشهوات، وو وظائف الطاعات، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال، ليتميّز المخلص من المنافق، والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر عليها إلى الدرجات، فإنّ مجرّد الإيمان وإن كان عن خلوص، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.
ومعنى الآية: أحسب الّذين أجروا كلمتي الشهادتين على ألسنتهم، وأظهروا القول بالإيمان، أنّهم يتركون بذلك غير ممتحنين، بل يمتحنهم الله بضروب المحن
__________________
(١) لعنترة بن شدّاد، وعجزه: يقضمن حسن بنانه والمعصم، انظر ديوانه (طبعة دار بيروت): ٢٦.
في الأنفس والأموال، حتّى يبلو صبرهم، وثبات أقدامهم، وصحّة عقائدهم، ونصوح نيّاتهم، ليتميّز المخلص من غير المخلص، والراسخ في الدين من المضطرب، والمتمكّن من العابد على حرف، كما قال تعالى:( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) (١) .
وروي: أنّها نزلت في ناس من أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم قد جزعوا من أذى المشركين.
وقيل: في عمّار بن ياسر. وكان يعذّب في الله.
وقيل: في ناس أسلموا بمكّة، فكتب إليهم المهاجرون: لا يقبل منكم إسلامكم حتّى تهاجروا. فخرجوا، فتبعهم المشركون فردّوهم. فلمّا نزلت كتبوا بها إليهم، فخرجوا فأتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا.
ثمّ سلّى المؤمنين ليتحمّلوا صنوف المصائب وفنون النوائب، بقوله:( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) متّصل بـ «أحسب» كقولك: ألا يمتحن فلان وقد امتحن من هو خير منه. أو بـ «لا يفتنون». والمعنى: أنّ أتباع الأنبياء قبلي قد أصابهم من الفتن والمحن نحو ما أصابهم، أو ما هو أشدّ منه، فصبروا، كما قال:( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا ) (٢) الآية. ولـمّا كان ذلك سنّة قديمة جارية في الأمم كلّها، فلا يتوقّع خلافه.
وعن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرّق فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه».
__________________
(١) آل عمران: ١٨٦.
(٢) آل عمران: ١٤٦.
( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ) فليتعلّقنّ علمه تعالى بالامتحان تعلّقا حاليّا، يتميّز به الّذين صدقوا في الإيمان والّذين كذبوا فيه، وينوط به ثوابهم وعقابهم. ولذلك قيل: المعنى: وليميّزنّ أو ليجازينّ.
( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) الكفر والمعاصي، فإنّ العمل يعمّ أفعال القلوب والجوارح( أَنْ يَسْبِقُونا ) أن يفوتونا فوت السابق لغيره، ويعجزونا، فلا نقدر أن نجازيهم على مساويهم. يعني: أنّ الجزاء يلحقهم لا محالة، وهم لم يطمعوا في الفوت، ولم يحدّثوا به نفوسهم، ولكنّهم لغفلتهم، وقلّة فكرهم في العاقبة، وإصرارهم على المعاصي، في صورة من يقدر ذلك، ويطمع فيه. ونظيره:( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ) (١) .( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) (٢) .
واعلم أنّ «أن يسبقونا» سادّ مسدّ مفعولي «حسب»، لاشتمال صلة «أن» على مسند ومسند إليه، كقوله:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ) (٣) .
ويجوز أن يضمنّ «حسب» معنى قدّر، و «أم» منقطعة. ومعنى الإضراب فيها: أنّ هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأوّل، لأنّ ذلك يقدّر أنّه لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظنّ أنّه لا يجازى بمساويه. ولهذا عقّبه بقوله:( ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) أي: بئس الّذي يحكمونه حكمهم هذا. أو بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا. فحذف المخصوص بالذمّ.
( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ) الوصول إلى العاقبة، من الموت والبعث والحساب والجزاء. على تمثيل حاله بحال عبد قدم على سيّده بعد زمان مديد، وقد اطّلع السيّد على ما يأتي ويذر، فإمّا أن يلقاه ببشر وترحيب لـما رضي من أفعاله، أو
__________________
(١) العنكبوت: ٢٢.
(٢) الأنفال: ٥٩.
(٣) البقرة: ٢١٤.
بسخط لـما سخط منها.
وتحرير المعنى: من كان يأمل أن يلقى الكرامة من الله والبشرى( فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ ) فإنّ الموت الّذي هو الوقت المضروب للقائه( لَآتٍ ) لجاء لا محالة. وهذا كقوله: من كان يرجو لقاء الملك، فإنّ يوم الجمعة قريب، إذا علم أنّه يقعد للناس يوم الجمعة. وإذا كان وقت اللقاء آتيا كان اللقاء كائنا لا محالة، فليبادر ما يحقّق أمله، ويصدّق رجاءه، وما يستوجب القربة والرضا.
( وَهُوَ السَّمِيعُ ) لأقوال العباد( الْعَلِيمُ ) بأفعالهم. فهو حقيق بالتقوى والخشية.
( وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) )
ولـمّا رغّب سبحانه في تحقيق الرجاء بفعل الطاعة، عقّبه بالترغيب في المجاهدة الّتي هي أشقّ الطاعات وأحمز العبادات، فقال:( وَمَنْ جاهَدَ ) نفسه الّتي هي أعدى أعدائه بالصبر على مضض الطاعة، والكفّ عن الشهوات المنهيّة، والشيطان وأعوانه، بدفع وساوسهم، وجاهد أعداء الدين لإحيائه( فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ) لأنّ منفعته لها( إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) فلا حاجة به إلى طاعتهم، وإنّما كلّف عباده رحمة عليهم، ومراعاة لصلاحهم.
( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) الّتي اقترفوها قبل ذلك، بأن يسقط عذاب ما تقدّم لهم من الكفر والمعاصي، ببركة الإيمان وما يتبعه
من الطاعات( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) أي: أحسن جزاء أعمالهم الّتي عملوها في الإسلام.
( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) )
ولـمّا أمر سبحانه بمجاهدة النفس والشياطين، وكفرة الإنس الّذين هم أعداء الدين، بيّن حال الأبوين في ذلك، فقال :
( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ) بإيتاء والديه فعلا ذا حسن. أو فعلا كأنّ في ذاته عين الحسن، لفرط حسنه، كقوله:( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) (١) .
وقيل: «حسنا» منتصب بفعل مضمر، على تقدير قول مفسّر للتوصية، أي: قلنا: أولهما، أو افعل بهما معروفا، لأنّ التوصية بهما دالّة عليه.
ووصّى يجري مجرى: أمر، معنى وتصرّفا. يقال: وصيّت زيدا بأن يفعل خيرا، كما تقول: أمرته بأن يفعل. ومنه قوله تعالى:( وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ ) (٢) ، أي: أمرهم بكلمة التوحيد.
( وَإِنْ جاهَداكَ ) وإن نازعاك أبواك أيّها الإنسان( لِتُشْرِكَ بِي ) في العبادة( ما لَيْسَ لَكَ بِهِ ) بإلهيّته( عِلْمٌ ) عبّر عن نفيها بنفي العلم بها، إشعارا بأنّ ما لا يعلم صحّته لا يجوز اتّباعه، وإن لم يعلم بطلانه، فضلا عمّا علم بطلانه( فَلا تُطِعْهُما ) في ذلك، فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولا بدّ من إضمار القول إن لم يضمر قبل.
( إِلَيَ ) إلى جزائي( مَرْجِعُكُمْ ) مرجع من آمن منكم ومن أشرك، ومن برّ
__________________
(١) البقرة: ٨٣ و ١٣٢.
(٢) البقرة: ٨٣ و ١٣٢.
بوالديه ومن عقّ، فأجازيكم حقّ جزائكم( فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) بالجزاء عليه.
روي: أنّ سعد بن أبي وقّاص الزهري حين أسلم قالت أمّه ـ وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أميّة بن عبد الشمس ـ: يا سعد بلغني أنّك قد صبأت، فوالله لا يظلّني سقف بيت من الضحّ(١) والريح، وإنّ الطعام والشراب عليّ حرام حتّى تكفر بمحمّد، وكان أحبّ ولدها إليها. فأبى سعد، وبقيت ثلاثة أيّام كذلك. فجاء سعد إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وشكا إليه. فنزلت هذه الآية، والّتي في لقمان(٢) ، والّتي في الأحقاف(٣) . فأمره رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم أن يداريها ويرضيها بالإحسان.
روي عن بهر بن أبي حكيم، عن أبيه، عن جدّه قال: قلت للنبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «يا رسول الله من أبرّ؟ قال: أمّك. ثمّ قلت: ثمّ من؟ قال: ثمّ أمّك. قلت: ثمّ من؟ قال: ثمّ أمّك. قلت: ثمّ من؟ قال: أباك، ثمّ الأقرب فالأقرب».
وعن أنس عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «الجنّة تحت أقدام الأمّهات».
قال الكلبي: نزلت الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي. وذلك أنّه أسلم، فخاف أهل بيته، فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم . فحلفت أمّه أسماء بنت مخزومة بن أبي جندل التميمي: أن لا تأكل، ولا تشرب، ولا تغسل رأسها، ولا تدخل كنّا(٤) ، حتّى يرجع إليها.
فلمّا رأى ابناها أبو جهل والحرث ابنا هشام ـ وهما أخوا عياش لأمّه ـ جزعها ركبا في طلبه حتّى أتيا المدينة، فلقياه وذكرا له القصّة، فلم يزالا به حتّى
__________________
(١) الضحّ: الشمس.
(٢) لقمان: ١٥.
(٣) الأحقاف: ١٥.
(٤) الكنّ: البيت.
أخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه، وتبعهما. وقد كانت أمّه صبرت ثلاثة أيّام، ثمّ أكلت وشربت. فلمّا خرجوا من المدينة أخذاه وأوثقاه، وجلده كلّ واحد منهما مائة جلدة حتّى برىء من دين محمد جزعا من الضرب، وقال ما لا ينبغي. فنزلت الآية.
وكان الحرث أشدّهما عليه، فحلف عياش لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربنّ عنقه. فلمّا رجعوا إلى مكّة مكثوا حينا، ثمّ هاجر النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم والمؤمنون إلى المدينة. وهاجر عياش، وحسن إسلامه. وأسلم الحرث بن هشام، وهاجر إلى المدينة، وبايع النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولم يحضر عياش. فلقيه عياش يوما بظهر قبا، ولم يشعر بإسلامه، فضرب عنقه. فقيل له: إنّ الرجل قد أسلم. فاسترجع عياش وبكى. ثمّ أتى النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبره بذلك، فنزل:( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) (١) .
( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) )
ثمّ حكى الله عن حال المؤمنين، فقال:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) في جملتهم. والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين، والكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين، ومتمنّى أنبياء الله المرسلين. وقد قال في إبراهيمعليهالسلام :( وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) (٢) . أو في مدخلهم. وهو الجنّة.
وهذا نحو قوله:( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) الآية.
__________________
(١) النساء: ٩٢.
(٢) البقرة: ١٣٠.
( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) )
ثمّ حكى عن حال المنافقين، فقال:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ ) بمجرّد اللسان( فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ ) بأن عذّبهم الكفرة على الإيمان( جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ ) ما يصيبهم من أذيّتهم في الصرف عن الإيمان( كَعَذابِ اللهِ ) في الصرف عن الكفر، أي: إذا أوذي بسبب دين الله رجع عن الدين مخافة عذاب الناس، كما ينبغي أن يترك الكافر دينه مخافة عذاب الله، فيسوّي بين عذاب فان منقطع، وبين عذاب باق دائم، لقلّة تمييزه. وسمّي أذيّة الناس فتنة، لـما في احتمالها من المشقّة.
( وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ) فتح وغنيمة( لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) في الدين، فأشركونا في المغنم. والمراد: المنافقون. وقيل: هم قوم ضعف إيمانهم، فارتدّوا من أذى المشركين. ويؤيّد الأوّل قوله:( أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ ) من الإخلاص والنفاق.
ثمّ وعد المؤمنين وأوعد المنافقين، فقال:( وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) بقلوبهم( وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) فيجازي الفريقين.
( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) )
وبعد ذكر أحوال المؤمنين والمنافقين، بيّن أحوال الكافرين، فقال:( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ) طريقتنا الّتي كنّا عليها( وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) آثامكم عنكم، إن قلتم: إنّ لكم في اتّباع ديننا إثما. يعنون بذلك أنّه لا إثم عليكم في اتّباع ديننا، ولا يكون بعث ولا نشور، فلا يلزمنا شيء ممّا ضمنّا. ومثل هذا ما يصدر من ضعفة العامّة فيقول لصاحبه: افعل هذا وإثمه في عنقي.
فردّ الله عليهم وكذّبهم بقوله:( وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ ) «من» الأولى للتبيين، والثانية مزيدة. والتقدير: وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم.( إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) فيما ضمنوا من حمل خطاياهم.
إن قيل: كيف سمّاهم كاذبين، وإنّما ضمنوا شيئا علم الله أنّهم لا يقدرون على الوفاء به، وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به لا يسمّى كاذبا، لا حين ضمن ولا حين عجز، لأنّه في الحالين لا يدخل تحت حدّ الكاذب، وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه؟
أجيب: إنّ الله سبحانه شبّه حالهم ـ حيث علم أنّ ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به، فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون ـ بالكاذبين الّذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنه. ويجوز أن يريد أنّهم كاذبون، لأنّهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه، كالكاذبين الّذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نيّة الخلف.
ولـمّا ذكر كذبهم بحمل خطايا المؤمنين، بيّن ما حملوا بحسب الواقع يوم القيامة، فقال :
( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ ) أثقال ما اقترفته أنفسهم( وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ) وأثقالا أخر معها غير الخطايا الّتي ضمنوا للمؤمنين حملها. وهي أثقال الإضلال، من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شيء. وهذا كقولهعليهالسلام : «من سنّ سنّة سيّئة» الخبر.
وبهذا المعنى قوله تعالى:( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (١) .
( وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) سؤال تقريع وتبكيت( عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ ) من الأباطيل الّتي أضلّوا بها.
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) )
ولـمّا ذكر سبحانه حال المجاهد الصابر على أذيّة الكفرة، وحال من كان بخلافه، ذكر قصّة نوحعليهالسلام وصبره على أذى قومه، وتكذيبهم إيّاه في المدّة الطويلة المتمادية، ثمّ عقّب ذلك بذكر غيره من الأنبياء، فقال :
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ) بعد البعث، إذ روي أنّه بعث على رأس أربعين، ودعا قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستّين. وعن وهب: أنّه عاش ألفا وأربعمائة عام.
ولعلّ اختيار هذه العبارة على تسعمائة وخمسين، لأنّ هذا قد يطلق على ما يقرب منه. فكأنّه قيل: تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد.
__________________
(١) النحل: ٢٥.
وفيه نكتة اخرى: وهي أنّ القصّة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح من أمّته، وما كابده من طول المصابرة، تسلية لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وتثبيتا له، فكان ذكر رأس العدد الّذي لا رأس أكثر منه، أوقع وأوصل إلى الغرض الّذي هو استطالة السامع مدّة صبره.
وذكر المميّز أوّلا بالسنة، وثانيا بالعام، لبشاعة تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد في البلاغة، إلّا إذا وقع ذلك لأجل غرض، من تفخيم أو تهويل أو نحو ذلك.
( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ ) طوفان الماء. وهو ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة، من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما.( وَهُمْ ظالِمُونَ ) بالكفر.
( فَأَنْجَيْناهُ ) أي: نوحاعليهالسلام ( وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ) ومن أركب معه من أولاده وأتباعه. وكانوا ثمانين. وقيل: ثمانية وسبعين، منهم أولاد نوحعليهالسلام : سام، وحام، ويافث، ونساؤهم. وقيل: عشرة، نصفهم ذكور، ونصفهم إناث.( وَجَعَلْناها ) أي: السفينة، أو الحادثة والقصّة( آيَةً لِلْعالَمِينَ ) يتّعظون، ويستدلّون بها على صدق نوح وكفر قومه.
( وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) )
( وَإِبْراهِيمَ ) عطف على «نوحا». أو منصوب بإضمار: اذكر.( إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ
اعْبُدُوا اللهَ ) ظرف لـ «أرسلنا» أي: أرسلناه حين كمل عقله وتمّ نظره، بحيث عرف الحقّ وأمر الناس به. أو بدل الاشتمال إن قدّر بـ: اذكر، فإنّ الأحيان تشتمل على ما فيها.( وَاتَّقُوهُ ) عن معاصيه( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ) ممّا أنتم عليه( إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) الخير والشرّ، وتميّزون ما هو خير ممّا هو شرّ. أو إن كنتم تنظرون في الأمور بنظر العلم دون نظر الجهل، علمتم أنّه خير لكم.
( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً ) «ما» كافّة. والمعنى: إنّكم تعبدون أصناما من حجارة لا تضرّ ولا تنفع.( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) كذبا في تسميتها آلهة، وادّعاء شفاعتها عند الله. أو تعلمونها وتنحتونها للإفك. وهو استدلال على شرارة ما هم عليه، من حيث إنّه زور وباطل، للإفك.
( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) هذا دليل ثان على شرارة ذلك، من حيث إنّه لا يجدي بطائل. و «رزقا» يحتمل المصدر، بمعنى: لا يستطيعون أن يرزقوكم رزقا. وأن يراد المرزوق. وتنكيره للتعميم، أي: لا يملكون لكم شيئا من الرزق.
( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ ) كلّه، فإنّه هو الرزّاق وحده لا يرزق غيره، لأنّه المالك له دون غيره( وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ) متوسّلين إلى مطالبكم بعبادته، مقيّدين لـما حفّكم من النعم بشكره. أو مستعدّين للقائه بعبادته، والشكر له على نعمه، فإنّه( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) إلى حكمه تصيرون يوم القيامة، فيجازيكم على قدر أعمالكم.
( وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) وَإِنْ تُكَذِّبُوا ) وإن تكذّبوني( فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) من قبلي رسلهم، كقوم شعيب وإدريس ونوح وغيرهم، فلم يضرّهم تكذيبهم، وإنّما ضرّوا أنفسهم، حيث حلّ بهم ما حلّ من العذاب بسبب تكذيب الرسل. فكذا تكذيبكم.( وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) الّذي يزال معه الشكّ. وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته.
أو وإن كنت مكذّبا فيما بينكم، فلي في سائر الأنبياء أسوة وسلوة حيث كذّبوا، وعلى الرسول أن يبلّغ، وما عليه أن يصدّق ولا يكذّب.
وهذه الآية وما بعدها إلى قوله تعالى:( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ ) (١) من جملة قصّة إبراهيمعليهالسلام . ويحتمل أن تكون اعتراضا بذكر شأن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم وقريش، وهدم مذهبهم، والوعيد على سوء صنيعهم، توسّط بين طرفي قصّة إبراهيم، من حيث إنّ مساقها لتسلية رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، والتنفيس عنه، بأنّ أباه خليل اللهعليهماالسلام كان ممتحنا بنحو ما امتحن به، من أذيّة قومه الّذين كانوا عبدة الأصنام كقومه، فلأجل تشبيه
__________________
(١) الآية ٢٤ من هذه السورة.
حاله فيهم بحال أبيه إبراهيم، وقعت هذه الجملة معترضة بين قصّته.
( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ) من مادّة وغيرها. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالتاء، على تقدير القول.( ثُمَّ يُعِيدُهُ ) إخبار بالإعادة بعد الموت.
معطوف على «او لم يروا» لا على «يبدئ»، فإنّ الرؤية غير واقعة عليه. ويجوز أن تؤوّل الإعادة، بأن ينشئ في كلّ سنة مثل ما كان في السنة السابقة، من النبات والثمار ونحوهما. فحينئذ تعطف على «يبدئ».
( إِنَّ ذلِكَ ) الإشارة إلى الإعادة، أو إلى ما ذكر من الأمرين( عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) إذ لا يفتقر في فعله إلى شيء.
( قُلْ ) يا إبراهيم، أو يا محمّد( سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ) على اختلاف الأجناس والصفات( ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ) بعد النشأة الّتي هي الإبداء، فإنّ الإبداء والإعادة نشأتان، من حيث إنّ كلّ واحد منهما اختراع وإخراج من العدم.
والإفصاح باسم الله، مع إيقاعه مبتدأ بعد إضماره في «بدأ»، والقياس عكسه، للدلالة على أنّ المقصود بيان الإعادة، لأنّ الكفّار ينكرونها.
والمعنى: أنّهم لـمّا أقرّوا بالإبداء لزمهم أن يقرّوا بالإعادة، فإنّها مثل الإبداء، فإنّ من عرف بالقدرة على الإبداء، ينبغي أن يحكم له بالقدرة على الإعادة، لأنّها أهون، فيقدر على النشأة الآخرة، كما قدر على النشأة الأولى. فللدلالة على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ. والكلام في هذا العطف ما مرّ(١) . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: النّشاءة، كالرآفة.
( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) لأنّ قدرته لذاته، ونسبة ذاته إلى كلّ الممكنات على السواء، فيقدر على النشأة الاخرى، كما قدر على النشأة الأولى.
__________________
(١) في ذيل قوله تعالى:( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) .
ثمّ رتّب على منكر الإعادة ومصدّقها الوعيد والوعد، بقوله:( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ) تعذيبه ممّن هو مستحقّه، من الكفّار ومنكري الإعادة( وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ ) رحمته ممّن هو أهل لها، من المؤمن المصدّق( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) وإلى حكمه وجزائه تردّون وترجعون.
( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) ربّكم، أي: لا تفوتونه إن هربتم من حكمه، ولستم بفائتين عنه إن فررتم من قضائه بالتواري( فِي الْأَرْضِ ) أو الهبوط في مهاويها وأعماقها( وَلا فِي السَّماءِ ) ولا بالتحصّن في السماء الّتي هي أفسح منها وأبسط، كقوله:( إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا ) (١) . أو ولا بالاعتلاء في البروج والقلاع الذاهبة في السماء، كقوله:( وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) (٢) . أو لا تعجزون أمره الجاري في السماء والأرض أن يجري عليكم البلاء.
وقيل: معناه: ولا من في السماء بمعجزين. فحذف «من» لدلالة الكلام عليه، كما قال حسّان(٣) :
أمن يهجو رسول الله منكم |
ويمدحه وينصره سواء |
فكأنّه قال: ومن يمدحه وينصره سواء.
( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) يحرسكم عن بلاء يظهر من الأرض، أو ينزل من السماء، ويدفعه عنكم.
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ ) بدلائل وحدانيّته، أو بكتبه( وَلِقائِهِ ) بالبعث( أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ) أي: ييأسون منها يوم القيامة، كقوله:( وَيَوْمَ تَقُومُ
__________________
(١) الرحمن: ٣٣.
(٢) النساء: ٧٨.
(٣) ديوان حسان (طبعة دار صادر): ٩. وفيه: فمن يهجو
السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ) (١) . فعبّر عنه بالماضي للتحقيق والمبالغة. أو يئسوا في الدنيا لإنكار البعث والجزاء.( وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) بكفرهم.
( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) )
ثمّ عاد سبحانه إلى قصّة إبراهيم، فقال:( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ ) قوم إبراهيمعليهالسلام ، حين دعاهم إلى الله تعالى، ونهاهم عن عبادة الأصنام( إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ) لنتخلّص منه. وكان ذلك قول بعضهم لبعض. وقيل: قاله واحد منهم، وكان الباقون راضين، فكانوا جميعا في حكم القائلين.
( فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ) أي: فقذفوه في النار، فأنجاه منها، بأن أذهب حرّها وجعلها عليه بردا وسلاما( إِنَّ فِي ذلِكَ ) في إنجائه منها( لَآياتٍ ) علامات واضحة. وهي حفظه من أذى النار، وإخمادها ـ مع عظمها ـ في زمان يسير ،
__________________
(١) الروم: ١٢.
وإنشاء روض مكانها.( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) لأنّهم المنتفعون بالتفحّص عنها، والتأمّل فيها.
( وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً ) معبودات منحوتات من حجر أو خشب( مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) أي: لتتوادّوا بينكم وتتواصلوا، لاجتماعكم واتّفاقكم على عبادتها، فيكون ذلك سبب تحابّهم وتصادقهم. وثاني مفعولي «اتّخذتم» محذوف. ويجوز أن تكون «مودّة» المفعول الثاني بتقدير مضاف، أو بتأويلها بالمودودة، أي: اتّخذتم أوثانا سبب المودّة، أو مودودة بينكم.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر: منوّنة ناصبة «بينكم». وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس: مرفوعة مضافة، على أنّها خبر مبتدأ محذوف، أي: هي مودّة، أو سبب مودّة بينكم. والجملة صفة «أوثانا». أو خبران على أنّ «ما» مصدريّة أو موصولة، والعائد محذوف، وهو المفعول الأوّل. والمعنى: إنّما تتوادّون عليها، أو تودّونها في الحياة الدنيا.
( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) أي: يقوم التناكر والتباغض والتعادي بينكم، بأن يتبرّأ القادة من الأتباع، ويلعن الأتباع القادة، لأنّهم زيّنوا لهم الكفر. ويقع التلاعن بينكم وبين الأوثان، على تغليب المخاطبين، كقوله تعالى:( وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) (١) .
وعن قتادة: كلّ خلّة تنقلب يوم القيامة عداوة إلّا خلّة المتّقين، قال سبحانه:( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) (٢) .
( وَمَأْواكُمُ ) ومستقرّكم( النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) يخلّصونكم منها.
( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) هو ابن أخته، وأوّل من آمن به. وقيل: آمن به حين رأى النار لم تحرقه.( وَقالَ ) يعني: إبراهيم( إِنِّي مُهاجِرٌ ) من قومي( إِلى رَبِّي ) إلى
__________________
(١) مريم: ٨٢.
(٢) الزخرف: ٦٧.