زبدة التفاسير الجزء ٥

زبدة التفاسير0%

زبدة التفاسير مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597

زبدة التفاسير

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
المشاهدات: 15847
تحميل: 3447


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 597 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15847 / تحميل: 3447
الحجم الحجم الحجم
زبدة التفاسير

زبدة التفاسير الجزء 5

مؤلف:
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
ISBN: 964-7777-07-8
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بأن جعله أسبابا محصّلة لمنافعكم( وَما فِي الْأَرْضِ ) من البحار والأنهار والمعادن والدوابّ وغيرها، بأن مكّنكم من الانتفاع بها، بوسط أو بغير وسط.

( وَأَسْبَغَ ) وأوسع وأتمّ( عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ) هي: كلّ نفع قصد به الإحسان( ظاهِرَةً وَباطِنَةً ) محسوسة ومعقولة، ما تعرفونه وما لا تعرفونه. وقد مرّ شرح النعمة وتفصيلها في الفاتحة.

وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص: نعمه بالجمع والإضافة.

وقال صاحب المجمع: «الظاهرة ما لا يمكنكم جحده، من خلقكم وإحيائكم وإقداركم، وخلق الشهوة فيكم، وغيرها من ضروب النعم. والباطنة: ما لا يعرفها إلّا من أمعن النظر فيها»(١) .

وعن ابن عبّاس: الباطنة مصالح الدين والدنيا، ممّا يعلمه الله وغاب عن العباد علمه.

وفي رواية الضحّاك عنه قال: «سألت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهما، فقال: يا ابن عبّاس! أمّا ما ظهر فالإسلام، وما سوّى الله من خلقك، وما أفاض عليك من الرزق. وأمّا ما بطن فستر مساوئ عملك، ولم يفضحك به. يا ابن عبّاس! إنّ الله تعالى يقول: ثلاثة جعلتهنّ للمؤمن، ولم تكن له: صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله. وجعلت له ثلث ماله، أكفّر به عنه خطاياه. والثالثة: سترت مساوئ عمله، فلم أفضحه بشيء منه، ولو أبديتها عليه لنبذه أهله فمن سواهم».

وعن الربيع: الظاهرة: نعم الجوارح، والباطنة: نعم القلب. وعن عطاء: الظاهرة: تخفيف الشرائع، والباطنة: الشفاعة.

وقيل: الظاهرة: نعم الدنيا، والباطنة: نعم الآخرة. وعن مجاهد: الظاهرة: ظهور الإسلام، والنصر على الأعداء، والباطنة: الإمداد بالملائكة.

__________________

(١) مجمع البيان ٨: ٣٢٠.

٣٠١

وعن الضحّاك: الظاهرة حسن الصورة، وامتداد القامة، وتسوية الأعضاء، والباطنة: المعرفة. وقيل: الظاهرة: القرآن، والباطنة: تأويله ومعانيه.

وقال الباقرعليه‌السلام : «النعمة الظاهرة: النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما جاء به من معرفة اللهعزوجل وتوحيده. وأمّا النعمة الباطنة: ولا يتنا أهل البيت، وعقد مودّتنا».

ولا منافاة بين هذه الأقوال، بل كلّها نعم الله ؛ الباطنة والظاهرة. والأولى حمل الآية على الجميع.

ويروى في دعاء موسىعليه‌السلام : إلهي دلّني على أخفى نعمتك على عبادك. فقال: أخفى نعمتي عليهم النفس. ويروى: أن أيسر ما يعذّب به أهل النار الأخذ بالأنفاس.

ثمّ بيّن من كفر نعمه بقوله:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ ) يخاصم في توحيده وصفاته( بِغَيْرِ عِلْمٍ ) مستفاد من دليل( وَلا هُدىً ) راجع إلى رسول( وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ) أنزله الله، بل بالتقليد، كما قال:( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ) على محمّد، من القرآن وسائر شرائع الأحكام.( قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ) وهو منع صريح من التقليد في الأصول.

( أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ ) يحتمل أن يكون الضمير لهم ولآبائهم( إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ) إلى ما يؤول إليه، من التقليد أو الإشراك. وجواب «لو» محذوف، مثل: لاتّبعوه. والاستفهام للإنكار والتعجّب.

والمعنى: أنّ الشيطان يدعوهم إلى تقليد آبائهم، وترك اتّباع ما جاءت به الرسل، وذلك موجب لهم عذاب النار، فهو في الحقيقة يدعوهم إلى النار.

ثمّ قال( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ ) بأن فوّض أمره إلى الله، وأقبل بشراشره عليه. من: أسلمت المتاع إلى الرجل، إذا دفعت إليه. وحيث عدّي باللام فلتضمّن معنى الإخلاص.( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) في عمله على موجب العلم ومقتضى الشرع

٣٠٢

( فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ) فقد تعلّق بأوثق ما يتعلّق به. والوثقى تأنيث الأوثق. وهو تمثيل للمتوكّل المشتغل بالطاعة، بمن أراد أن يترقّى إلى شاهق جبل، فتمسّك بأوثق عروة من حبل متين.

( وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ ) إذ الكلّ صائر إليه، على وجه لا يكون لأحد التصرّف فيها بالأمر والنهي.

( وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ ) فلا يهمّك( كُفْرُهُ ) وكيده للإسلام، فإنّه لا يضرّك في الدنيا والآخرة( إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ) في الدارين( فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ) بالإهلاك والتعذيب( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) بما تضمره الصدور، ولا يخفى عليه شيء منه، فمجاز عليه على حسبه، فضلا عمّا في الظاهر.

( نُمَتِّعُهُمْ ) تمتيعا، أو زمانا( قَلِيلاً ) وهو زمان الدنيا، فإنّ ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل( ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ ) ثمّ نصيّرهم مكرهين( إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ ) يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ. فشبّه إلزامهم التعذيب باضطرار المضطرّ إلى الشيء الّذي لا يقدر على الانفكاك منه. والغلظ: مستعار من الأجرام الغليظة.

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) خلقهما، لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره، بحيث اضطرّوا إلى إذعانه.

( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان اعتقادهم( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أنّ ذلك يلزمهم.

ثمّ أكّد سبحانه ما تقدّم من خلقه السماوات والأرض بقوله :

( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) له جميع ذلك خلقا وملكا، يتصرّف فيه كما يريده، وليس لأحد الاعتراض عليه في ذلك، فلا يستحقّ العبادة فيهما غيره.

( إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ ) عن حمد الحامدين، وعن كلّ شيء( الْحَمِيدُ ) المستحقّ للحمد، وإن لم يحمدوه.

٣٠٣

( وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) )

عن ابن عبّاس: أنّ اليهود سألوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى:( وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) (١) . وقد أنزلت التوراة وفيها علم كلّ شيء، فنزلت:( وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ) ولو ثبت كون الأشجار أقلاما.

وتوحيد «شجرة» لأنّ المراد تفصيل الآحاد.( وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ) مقتضى الكلام أن يقال: ولو أنّ الشجر أقلام، والبحر مداد. ويكون المعنى: البحر المحيط بسعته مدادا ممدودا بسبعة أبحر. لكن أغنى عن ذكر المداد قوله: «يمدّه» لأنّه من: مدّ الدواة وأمدّها، بجعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مدادا، فهي تصبّ فيه مدادها أبدا صبّا لا ينقطع.

ورفع «البحر» للعطف على محلّ «أنّ» ومعمولها، و «يمدّه» حال. والمعنى: ولو ثبت كون الأشجار أقلاما في حال كون البحر ممدودا بسبعة أبحر. أو على الابتداء على أنّه مستأنف، والواو للحال. ونصبه البصريّان بالعطف على اسم «أنّ»، أو إضمار فعل يفسّره «يمدّه». وفي الكلام حذف، تقديره: ولو أنّ أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد مقدورات الله ومعلوماته.

( ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ ) بكتابتها بتلك الأقلام، وبذلك المداد، لأنّ ذلك مع كثرته متناه، ومعلومات الله ومقدوراته غير متناهية. وإيثار جمع القلّة ـ أعني :

__________________

(١) الإسراء: ٨٥.

٣٠٤

الكلمات ـ والموضع موضع التكثير ـ أعني: الكلم ـ لا التقليل، للإشعار بأنّ ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير؟! فعلمكم في جنب هذا العلم في نهاية القلّة.

( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ) لا يعجزه شيء( حَكِيمٌ ) لا يخرج عن علمه وحكمته أمر.

( ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) )

قال مقاتل: إنّ كفّار قريش قالوا: إنّ الله خلقنا أطوارا: نطفة، علقة، مضغة، لحما. فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة؟ فنزلت :

( ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ) إلّا كخلقها وبعثها، أي: سواء في قدرته الواحد والجمع، والقليل والكثير. وذلك أنه إنّما كانت تتفاوت النفس الواحدة والنفوس الكثيرة العدد، أن لو شغله شأن عن شأن وفعل عن فعل، وقد تعالى عن

٣٠٥

ذلك علوّا كبيرا. فيكفي لوجود الكلّ تعلّق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتيّة، كما قال:( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ ) يسمع كلّ مسموع( بَصِيرٌ ) يبصر كلّ مبصر في حالة واحدة، لا يشغله إدراك بعضها عن بعض، فكذلك الخلق والبعث. أو يسمع ما يقوله القائلون في ذلك، بصير بما يضمرونه.

ثمّ نبّه على قدرته على ذلك بقوله:( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي ) كلّ من النيّرين يجري في فلكه( إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) معلوم، الشمس إلى آخر السنة، والقمر إلى آخر الشهر. وقيل: إلى يوم القيامة، لأنّه لا ينقطع جريهما إلّا حينئذ. والفرق بينه وبين قوله: «لأجل مسمّى»: أنّ الأجل هاهنا منتهى الجري، وثمّ غرضه الحاصل في الغايات.

( وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) عالم بكنهه. فدلّ سبحانه بالليل والنهار، وتعاقبهما، وزيادتهما، ونقصانهما، وجري النيّرين في فلكيهما، أنّ كلّ ذلك على تقدير وحساب، وبإحاطته بجميع أعمال الخلق على عظم قدرته وحكمته.

( ذلِكَ ) إشارة إلى الّذي ذكر من سعة العلم، وشمول القدرة، وعجائب الصنع، وغرائب الحكمة الّتي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الّذي تدعونه من دونه( بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ ) بسبب أنّه الثابت في ذاته، الواجب من جميع جهاته. أو الثابت إلهيّته.

( وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ ) المعدوم في حدّ ذاته، لا يوجد ولا يتّصف إلّا بجعله. أو الباطل إلهيّته. وقرأ البصريّون والكوفيّون غير أبي بكر بالياء.

__________________

(١) النحل: ٤٠.

٣٠٦

( وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) مترفّع على كلّ شيء، ومتسلّط عليه. أو مترفّع عن أن يشرك به.

ثمّ استشهد بأمر آخر على باهر قدرته، وكمال حكمته، وشمول أنعامه، فقال :

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ ) بإحسانه في تهيئة أسبابه.

والباء للصلة، أو الحال.( لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ ) من دلائله الدالّة على وحدانيّته، وكمال قدرته وعلمه. ووجه الدلالة: أنّ الله تعالى يجري السفن بالرياح الّتي يرسلها في الوجوه الّتي تريدون المسير فيها، ولو اجتمع جميع الخلائق ليجروا الفلك في بعض الجهات المخالفة لجهة الرياح لـما قدروا عليه، وفي ذلك أعظم دلالة على أنّ المجري لها بالرياح هو القادر الّذي لا يعجزه شيء، وذلك بعض الأدلّة الدالّة عليه، فلذلك قال: «من آياته».

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ ) على المشاقّ، فيتعب نفسه بالتفكّر في الآفاق والأنفس( شَكُورٍ ) يعرف النعم، ويتعرّف مانحها. أو للمؤمنين، فإنّ الإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر.

( وَإِذا غَشِيَهُمْ ) علاهم وغطّاهم( مَوْجٌ ) متراكم بعضه على بعض( كَالظُّلَلِ ) كما يظلّ من جبل أو سحاب أو غيرهما، ويغطّي ما تحته( دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد، لعروض الخوف الشديد والدهشة العظيمة( فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ) مقيم على طريق القصد الّذي هو التوحيد. أو متوسّط في الكفر، خافض عن غلوائه، فانزجر بعض الانزجار.

( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ ) غدّار أسوأ الغدر وأقبحه، فإنّه نقض العهد الفطري( كَفُورٍ ) لنعم الله.

٣٠٧

( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) )

ولـمّا بيّن الأدلّة الدالّة على كمال قدرته وعلمه وتوحيده، خاطب جميع المكلّفين، فقال :

( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ) لا يقضي عنه( وَلا مَوْلُودٌ ) مبتدأ خبره( هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ) وتغيير النظم إلى الجملة الاسميّة الّتي هي آكد من الفعليّة، للدلالة على أنّ المولود أولى بأن لا يجزي، ولقطع طمع من توقّع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة. وفي ذكر لفظ المولود دون الولد، دلالة على أنّ الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الّذي ولد منه لم يقبل شفاعته، فضلا أن يشفع لمن فوقه من أجداده، لأنّ الولد يقع على الولد وولد الولد، بخلاف المولود، فإنّه لمن ولد منك.

( إِنَّ وَعْدَ اللهِ ) بالثواب والعقاب( حَقٌ ) لا يمكن خلفه( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) الإمهال عن الانتقام، والآمال والأموال عن الإسلام. والمعنى: لا تغترّوا بطول السلامة وكثرة النعمة، فإنّهما عن قريب إلى زوال وانتقال.( وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ) الشيطان، بأن يرجيكم التوبة والمغفرة، فيجسركم على المعاصي.

عن سعيد بن جبير: الغرّة بالله أن يتمادى الرجل في المعصية، ويتمنّى على الله المغفرة. وقيل: ذكرك لحسناتك، ونسيانك لسيّئاتك غرّة.

عن أبي عبيدة: كلّ شيء غرّك حتّى تعصي الله، وتترك ما أمرك الله به، فهو

٣٠٨

غرور، شيطانا كان أو غيره.

وفي الحديث: «الكيّس من دان نفسه، وعمل لها بعد الموت. والعاجز من اتّبع نفسه هواها، وتمنّى على الله».

( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤) )

روي: أنّ الحرث بن عمرو بن حارثة أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله ؛ أخبرني عن الساعة متى قيامها؟ وإنّي قد ألقيت حبّاتي في الأرض، وقد أبطأت عنّا السماء، فمتى تمطر؟ وأخبرني عن امرأتي فقد اشتملت ما في بطنها، أذكر أم أنثى؟ وإنّي علمت ما عملت أمس، فما أعمل غدا؟ وهذا مولدي قد عرفته، فأين أموت؟ فنزلت :

( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) وقت قيامها. واستأثر سبحانه به، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا يعلم وقت قيامها سواه.( وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ) في إبّانه المقدّر له، والمحلّ المعيّن له في علمه. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد.( وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ) أذكر أم أنثى؟ أتامّ أو ناقص؟

( وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ) ماذا تعمل في المستقبل، من خير أو شرّ. وربما تعزم على شيء وتفعل خلافه. ولا شيء أخصّ بالإنسان من كسبه وعاقبته، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتها، كان من معرفة ما عداهما أبعد.

( وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) كما لا تدري في أيّ وقت تموت. وربما

٣٠٩

أقامت بأرض وضربت أوتادها، وقالت: لا أبرحها أو أقبر فيها، فترمي به مرامي القدر حتّى تموت في مكان لم يخطر ببالها، ولا حدّثتها به ظنونها.

وروي: أنّ ملك الموتعليه‌السلام مرّ على سليمانعليه‌السلام ، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه. فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت. فقال: كأنّه يريدني. وسأل سليمان أن يحمله على الريح، ويلقيه ببلاد الهند، ففعل. ثمّ قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري تعجّبا منه، لأنّي أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.

وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مفاتح الغيب خمس. وتلا هذه الآية.

وعن ابن عبّاس: من ادّعى علم هذه الخمسة فقد كذب. وإيّاكم والكهانة، فإنّ الكهانة تدعو إلى الشرك، والشرك وأهله في النار.

وأيضا عن أئمّة الهدىعليهم‌السلام : أنّ هذه الأشياء الخمسة لا يعلمها على التفصيل والتحقيق غيره تعالى.

( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ ) يعلم الأشياء كلّها( خَبِيرٌ ) يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها.

٣١٠

(٣٢)

سورة السجدة

سمّيت أيضا سجدة لقمان، لئلّا تلتبس بحم السجدة، تسمية للشيء باسم مجاوره.

وهي مكّيّة ما خلا ثلاث آيات منها، فإنّها نزلت بالمدينة ؛( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (١) إلى تمام الآيات. وهي ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأ ألم تنزيل، وتبارك الّذي بيده الملك، فكأنّما أحيا ليلة القدر».

وأيضا: «من قرأ ألم تنزيل في بيته، لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيّام».

وروى ليث بن أبي الزبير عن جابر، قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينام حتّى يقرأ ألم تنزيل، وتبارك الّذي بيده الملك. قال ليث: فذكرت ذلك لطاوس، فقال: فضّلتا على كلّ سورة في القرآن. ومن قرأهما كتب له ستّون حسنة، ومحي عنه ستّون سيّئة، ورفع له ستّون درجة.

وروى الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ سورة السجدة في كلّ ليلة جمعة، أعطاه الله كتابه بيمينه، ولم يحاسبه بما كان منه، وكان من رفقاء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام ».

__________________

(١) السجدة: ١٨.

٣١١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) )

واعلم أنّه سبحانه لـمّا ختم سورة لقمان بدلائل الربوبيّة، افتتح هذه السورة أيضا بها، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم ) مبتدأ إن جعل اسما للسورة أو القرآن، خبره( تَنْزِيلُ الْكِتابِ ) على أنّ التنزيل بمعنى المنزل. وإن جعل تعديدا للحروف، كان «تنزيل» خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره( لا رَيْبَ فِيهِ ) أي: لا مدخل للريب في أنّه تنزيل الله، لإعجازه. وحينئذ( مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) يكون حالا من الضمير في «فيه» لأنّ المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر.

ويجوز أن يكون خبرا ثانيا، و( لا رَيْبَ فِيهِ ) حال من الكتاب أو اعتراض، والضمير في «فيه» لمضمون الجملة. كأنّه قيل: لا ريب في كونه منزلا من ربّ العالمين.

ويؤيّده قوله:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ) فإنّه إنكار لكونه من ربّ العالمين. وهذا إمّا قول متعنّت، مع علمه أنّه من الله، لظهور الإعجاز له. أو جاهل يقوله قبل التأمّل والنظر. وقوله:( بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) فإنّه تقرير أنّه منزل من الله.

وهذا أسلوب صحيح، ونظر جميل غاية الحسن، فإنّه أشار إلى إعجازه، ثمّ أثبت أنّ تنزيله من ربّ العالمين، ثمّ قرّر ذلك بنفي الريب عنه، ثمّ أضرب عن ذلك

٣١٢

إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك، إنكارا له وتعجيبا منه، فإنّ «أم» هي المنقطعة.

ثمّ أضرب عنه إلى إثبات أنّه الحقّ المنزل من الله، وبيّن المقصود من تنزيله، فقال:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ) إذ كانوا أهل الفترة( لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) بإنذارك إيّاهم. وفيه وجهان: أن يكون على الترجّي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما كان:( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ) (١) على الترجّي من موسى وهارون. وأن يستعار لفظ الترجّي للإرادة.

واعلم أنّه لا يلزم من عدم إتيان نذير قبل زمان البعثة عدم الحجّة عليهم، لأنّ أدلّة العقل الموصلة إلى معرفة الله وتوحيده معهم في كلّ زمان. نعم، لم يقم عليهم قيام الحجّة بالشرائع الّتي لا يدرك علمها إلّا بالرسل.

( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) )

ثمّ دلّ سبحانه على وحدانيّته بقوله:( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) مرّ بيانه في الأعراف(٢) ( ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ) ما لكم إذا جاوزتم رضا الله أحد ينصركم ويشفع لكم. أو ما لكم سواه وليّ يتولّى مصالحكم ويشفعكم، أي: ينصركم، على سبيل المجاز، لأنّ

__________________

(١) طه: ٤٤.

(٢) راجع ج ٢ ص ٥٣٢، ذيل الآية ٥٤ من سورة الأعراف.

٣١٣

الشفيع ينصر المشفوع له، فإذا خذلكم لم يبق لكم وليّ ولا ناصر. فهو كقوله:( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (١) .

( أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) تتفكّرون فيما قلناه، وتعتبرون به، فتعلموا صحّة ما بيّنّاه لكم.

( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ) يدبّر أمر الدنيا بأسباب سماويّة، كالملائكة وغيرها، نازلة آثارها إلى الأرض( ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) ثمّ يصعد إليه ويثبت في علمه موجودا( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) لو ساره غير الملك( مِمَّا تَعُدُّونَ ) ممّا يعدّه البشر، أي: في برهة من الزمان متطاولة. يعني بذلك استطالة ما بين التدبير والوقوع.

وقيل: يدبّر الأمر بإظهاره في اللوح، فينزل به الملك، ثمّ يعرج إليه في زمان هو كألف سنة، لأنّ مسافة نزوله وعروجه مسيرة ألف سنة، فإنّ ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة لابن آدم.

وقيل: يقضي أمر الدنيا كلّها من السماء إلى الأرض، لكلّ يوم من أيّام الله، وهو ألف سنة، فينزل به الملك، ثمّ يعرج بعد الألف لألف آخر.

وقيل: يدبّر المأمور به من الطاعات منزلا من السماء إلى الأرض بالوحي، ثمّ لا يعمل به ولا يعرج إليه ذلك المأمور به خالصا كما يرتضيه إلّا في مدّة متطاولة، لقلّة المخلصين، وقلّة الأعمال الخلّص الصاعدة، لأنّه لا يوصف بالصعود إلّا الخالص. ودلّ عليه قوله على أثره:( قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) (٢) .

وقيل: يدبّر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، ثمّ يعرج إليه ذلك الأمر كلّه ـ أي: يصير إليه ـ ليحكم في يوم كان مقداره ألف سنة ،

__________________

(١) البقرة: ١٠٧.

(٢) السجدة: ٩.

٣١٤

وهو يوم القيامة.

وأمّا قوله:( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (١) فإنّه أراد سبحانه على الكافر، فجعل الله ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة، فإنّ المقامات في يوم القيامة مختلفة.

( ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) )

ثمّ أكّد سبحانه ما تقدّم من دلائل وحدانيّته وأعلام ربوبيّته، فقال:( ذلِكَ ) أي: الّذي يفعل ذلك ويقدر عليه( عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ) هو العالم بما يشاهد وما لا يشاهد، فيدبّر أمرهما على وفق الحكمة( الْعَزِيزُ ) على أمره، المنيع في ملكه( الرَّحِيمُ ) على العباد في تدبيره.

( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) أي: حسّن خلقه، لأنّه ما من شيء خلقه إلّا وهو مرتّب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة. فجميع المخلوقات حسنة ،

__________________

(١) المعارج: ٤.

٣١٥

وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن، كما قال:( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (١) .

وقيل: علم كيف يخلقه قبل أن خلقه، من غير أن يعلمه أحد. من قولهم: قيمة المرء ما يحسنه. وحقيقته: يحسن معرفته، أي: يعرف معرفة حسنة بتحقيق وإيقان. و «خلقه» مفعول ثان.

وقرأ نافع والكوفيّون بفتح اللام على الوصف. فالشيء على الأوّل مخصوص بمنفصل، أي: حسّن كلّ شيء خلقه خلقه. وعلى الثاني بمتّصل.

( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ ) يعني: آدم( مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ) ذرّيّته. سمّيت به لأنّها تنسل منه، أي: تنفصل منه وتخرج من صلبه.( مِنْ سُلالَةٍ ) أي: الصفوة الّتي تنسل من غيرها. ويسمّى ماء الإنسان سلالة، لانسلاله من صلبه.( مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) ممتهن ضعيف. «من» الأولى ابتدائيّة، والثانية بيانيّة. أشار سبحانه إلى أنّه من شيء حقير لا قيمة له، وإنّما يصير ذا قيمة بالعمل.

( ثُمَّ سَوَّاهُ ) قوّمه بتسوية أعضائه على ما ينبغي، كقوله:( فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (٢) .

( وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) أضافه إلى ذاته، تشريفا له، وإشعارا بأنّه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلّا هو، كقوله:( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) (٣) الآية. كأنّه قال: ونفخ فيه من الشيء الّذي اختصّ هو به وبمعرفته، إيذانا بأنّ له شأنا له مناسبة مّا إلى الحضرة الربوبيّة، ولأجله قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه».

ثمّ قال سبحانه مخاطبا لذرّيّته:( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ ) لتسمعوا المسموعات

__________________

(١) التين: ٤.

(٢) التين: ٤.

(٣) الإسراء: ٨٥.

٣١٦

( وَالْأَبْصارَ ) لتبصروا المبصرات( وَالْأَفْئِدَةَ ) لتعقلوا بها( قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) «ما» مزيدة للمبالغة في القلّة، أي: تشكرون شكرا قليلا غاية القلّة.

( وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ) أي: صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض لا نتميّز منه، كما يضلّ الماء في اللبن. أو غبنا في الأرض بالدفن فيها.

وقرأ ابن عامر: إذا، على الخبر، والعامل فيه ما دلّ عليه قوله:( أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) وهو نبعث، أو يجدّد خلقنا.

وقرأ نافع والكسائي ويعقوب: إنّا، على الخبر. والقائل أبيّ بن خلف.

وإسناده إلى جميعهم لرضاهم به. والمعنى: كيف نخلق جديدا، ونعاد بعد أن هلكنا، وتفرّقت أجسامنا؟

( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ ) بالبعث، أو بتلقّي ملك الموت، وما بعده من الثواب والعقاب( كافِرُونَ ) أي: جاحدون، فلذلك قالوا هذا القول.

( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ ) يستوفي نفوسكم، لا يترك منها شيئا. أو يقبضكم واحدا واحدا حتّى لا يبقى أحد منكم. من قولك: توفّيت حقّي من فلان واستوفيته، إذا أخذته وافيا كملا من غير نقصان. والتفعّل والاستفعال يلتقيان كثيرا، كتقصّيته واستقصيته، وتعجّلته واستعجلته. فالتوفّي: استيفاء النفس، وهي الروح. قال الله تعالى:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (١) . وهو أن يقبض كلّها.

( مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) بقبض أرواحكم، وإحصاء آجالكم.

وعن مجاهد: حويت لملك الموت الأرض، وجعلت له مثل الطست، يتناول منها حيث شاء.

وعن ابن عبّاس: جعلت الدنيا بين يدي ملك الموت مثل جام يأخذ منها ما شاء، إذا قضي عليه الموت، من غير عناء. وخطوته ما بين المشرق والمغرب.

__________________

(١) الزمر: ٤٢.

٣١٧

وعن قتادة: يتوفّاهم ومعه أعوان من الملائكة.

وقيل: ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه، ثمّ يأمر أعوانه بقبضها.

( ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ ) أي: جزاء ربّكم، من الثواب والعقاب( تُرْجَعُونَ ) تردّون.

وجعل ذلك رجوعا إليه تفخيما للأمر، وتعظيما للحال.

روى عكرمة، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأمراض والأوجاع كلّها بريد الموت، ورسل الموت، فإذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال: يا أيّها العبد! كم خبر بعد خبر، وكم رسول بعد رسول، وكم بريد بعد بريد. أنا الخبر الّذي ليس بعدي خبر، وأنا الرسول الّذي ليس بعدي رسول، وأنا البريد الّذي ليس بعدي بريد، أجب ربّك طائعا أو مكرها.

فإذا قبض روحه، وتصارخوا عليه، قال: على من تصرخون؟ وعلى من تبكون؟ فوالله ما ظلمت له أجلا، ولا أكلت له رزقا، بل دعاه ربّه. فليبك الباكي على نفسه، فإنّ لي فيكم عودات وعودات، حتّى لا أبقي منكم أحدا».

( وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) )

ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم في القيامة وعند الحساب، فقال خطابا للرسول ،

٣١٨

أو لكلّ واحد من العقلاء :

( وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ ) من الحياء والخزي والذلّ والندم( عِنْدَ رَبِّهِمْ ) أي: عند ما يتولّى الله حساب خلقه، وهو يوم القيامة، قائلين:( رَبَّنا أَبْصَرْنا ) ما وعدتنا( وَسَمِعْنا ) منك تصديق رسلك( فَارْجِعْنا ) إلى الدنيا( نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) إذ لم يبق لنا شكّ بما شاهدنا، فلا يغاثون.

وجواب «لو» محذوف، تقديره: لرأيت أمرا فظيعا. ويجوز أن تكون «لو» للتمنّي. كأنّه قال: وليتك ترى. هذا على تقدير كونه خطابا للرسول، لأنّه تجرّع منهم الغصص، ومن عداوتهم وضرارهم، فجعل الله له تمنّي أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الخزي ليشمت بهم.

والمضيّ في «لو» و «إذ» لأنّ الثابت في علم الله بمنزلة الواقع الموجود المقطوع به في تحقّقه. ولا يقدّر لـ «ترى» مفعول، لأنّ المعنى: لو يكون منك رؤية في هذا الوقت. أو يقدّر ما دلّ عليه صلة «إذ»، و «إذ» ظرف له.

ثمّ قال سبحانه:( وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ) ما تهتدي به إلى الحقّ، على طريق الإلجاء والقسر، بأن نفعل بهم أمرا من الأمور يلجئهم إلى الإقرار بالتوحيد.

( وَلكِنْ ) بنينا الأمر على الاختيار، دون الإجبار الّذي ينافي غرض التكليف، لأنّ استحقاق الثواب لا يكون إلّا بالاختيار. فاختاروا العمى على الهدى، فلأجل ذلك( حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ) ثبت قضائي، وسبق وعيدي.

والقول من الله سبحانه بمنزلة القسم، فلذلك أتى بجواب القسم، فقال:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) أي: من كلا الصنفين الّذين اختاروا الكفر والجحود على الايمان والطاعة. ألا ترى إلى ما عقّبه به من قوله:( فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم، من نسيان العاقبة، وقلّة

٣١٩

الفكر فيها، وترك الاستعداد لها. والمراد بالنسيان: خلاف التذكّر. يعني: أنّ الانهماك في الشهوات أذهلكم وألهاكم عن تذكّر العاقبة، وسلّط عليكم نسيانها.

ثمّ قال على سبيل المقابلة والمزاوجة:( إِنَّا نَسِيناكُمْ ) أي: جازيناكم جزاء نسيانكم، وتركناكم من الرحمة. أو تركناكم في العذاب ترك المنسيّ. وفي استئنافه وبناء الفعل على «إنّ» واسمها تشديد في الانتقام منهم.

( وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) كرّر الأمر للتأكيد، ولما نيط به من التصريح بمفعوله، وتعليله بأفعالهم السيّئة، من التكذيب والمعاصي، كما علّله بتركهم تدبّر أمر العاقبة والتفكّر فيها، دلالة على أنّ كلّا منهما يقتضي ذلك.

والمعنى: فذوقوا هذا ـ أي: ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي ـ بسبب نسيان اللقاء، وذوقوا العذاب المخلّد في جهنّم، بسبب ما عملتم من المعاصي والكبائر الموبقة.

( إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ

٣٢٠