زبدة التفاسير الجزء ٥
0%
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
مؤلف: فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني
الناشر: مؤسسة المعارف الاسلامية
تصنيف: تفسير القرآن
ISBN: 964-7777-07-8
الصفحات: 597
يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢) )
ثمّ أخبر سبحانه عن حال المؤمنين بقوله:( إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا ) أي: يصدّق بالقرآن وسائر حججنا( الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها ) وعظوا بها( خَرُّوا سُجَّداً ) خوفا من عذاب الله، وتواضعا وخشوعا وامتثالا له( وَسَبَّحُوا ) ونزّهوه عمّا لا يليق به، كالعجز عن البعث( بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) حامدين له، شكرا على ما وفّقهم للإسلام، وآتاهم الهدى( وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) عن الإيمان، ولا يستنكفون عن طاعته، كما يفعل من يصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها. ومثله قوله:( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا ) (١) .
ثمّ وصف سبحانه المؤمنين المذكورين، فقال:( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ ) ترتفع وتتنحّى( عَنِ الْمَضاجِعِ ) الفرش ومواضع النوم( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ) داعين إيّاه، أو عابدين( خَوْفاً ) لأجل خوفهم من سخطه( وَطَمَعاً ) ولأجل طمعهم في رحمته. وعن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم في تفسيرها: قيام العبد من الليل.
وروى الواحدي بالإسناد عن معاذ بن جبل قال: بينا نحن مع رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم في غزوة تبوك، وقد أصابنا الحرّ، فتفرّق القوم، فإذا رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم أقربهم منّي، فدنوت منه فقلت: يا رسول الله أنبئني بعمل يدخلني الجنّة ،
__________________
(١) الإسراء: ١٠٧ ـ ١٠٨.
ويباعدني من النار.
فقال: سألت عن عظيم، وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه ؛ تعبد الله، ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدّي الزكاة المفروضة، وتصوم شهر رمضان.
قال: وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير.
قال: قلت: أجل يا رسول الله.
قال: الصوم جنّة. والصدقة تكفّر الخطيئة. وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله. ثمّ قرأ هذه الآية:( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) (١) .
وبالإسناد عن بلال قال: «قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : عليكم بقيام الليل، فإنّه دأب الصالحين قبلكم، وإنّ قيام الليل قربة إلى الله، ومنهاة عن الإثم، ويكفّر عن السيّئات، ويطرد الداء عن الجسد».
وعنهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة، جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلّهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم. ثمّ يرجع فينادي: ليقم الّذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع. فيقومون وهم قليل. ثمّ يرجع فينادي: ليقم الّذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضرّاء. فيقومون وهم قليل. فيسرحون جميعا إلى الجنّة، ثمّ يحاسب سائر الناس.
وقيل: كان ناس من الصحابة يصلّون من المغرب إلى العشاء، فنزلت فيهم.
وقيل: هم الّذين يصلّون صلاة العتمة، ولا ينامون عنها.
وعن قتادة: هم الّذين يصلّون ما بين المغرب والعشاء الآخرة. وهي صلاة الأوّابين.
( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) في وجوه الخير.
__________________
(١) تفسير الوسيط ٣: ٤٥٢ ـ ٤٥٣.
ولـمّا كان هؤلاء المؤمنين يقطعهم اشتغالهم بالصلاة والدعاء عن طيب المضجع، لانقطاعهم إلى الله تعالى، فآمالهم مصروفة إليه، واتّكالهم في كلّ الأمور عليه، بيّن سبحانه مثوبتهم العظمى، ومرتبتهم العليا عنده الّتي لا يعلم أحد كنهها إلّا هو، فقال :
( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ ) لا ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل( مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) ممّا تقرّ به عيونهم، ومن الثواب العظيم الّذي ادّخره الله لأولئك، وأخفاه الله من جميع خلائقه، لا يعلمه إلّا هو. وقرأ حمزة ويعقوب: أخفي، على أنّه مضارع: أخفيت.
وعنهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله(١) ما أطلعتهم عليه، اقرؤا إن شئتم:( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) .
والعلم بمعنى المعرفة. و «ما» موصولة، أو استفهاميّة معلّق عنها الفعل.
( جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) أي: جزوا جزاء. أو أخفى للجزاء، فإنّ إخفاءه لعلوّ شأنه. وقيل: هذا لقوم أخفوا أعمالهم، فأخفى الله ثوابهم.
( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ) خارجا عن الإيمان( لا يَسْتَوُونَ ) في الشرف والمثوبة. تأكيد وتصريح. والجمع للحمل على المعنى، كما أنّ ضمير الإفراد في «كان» محمول على اللفظ. ونحوه قوله تعالى:( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ) (٢) .
ثمّ فسّر عدم الاستواء بقوله:( أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى ) يأوون إليها، فإنّها المأوى الحقيقي، والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة.
__________________
(١) بله اسم فعل مبنيّ على الفتح، مثل: كيف. ومعناه: دع واترك. ويقال: معناه: سوى.
(٢) محمّد: ١٦.
وقيل: المأوى نوع من الجنان. قال الله تعالى:( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ) (١) . سمّيت بذلك، لـما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: تأوي إليها أرواح الشهداء. وقيل: هي عن يمين العرش.
( نُزُلاً ) عطاء( بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) بسبب أعمالهم، أو على أعمالهم.
والنزل في الأصل عطاء النازل، ثمّ صار عامّا. وقد سبق مزيّة تفسيره في سورة آل عمران(٢) .
( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ ) أي: ملجؤهم ومنزلهم. ويجوز أن يراد: فجنّة مأواهم النار، أي: النار لهم، مكان جنّة المأوى للمؤمنين، كقوله:( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) (٣) .
( كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها ) عبارة عن خلودهم فيها. وقد مرّ بيانه في سورة الحجّ(٤) .( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا ) مع ذلك( عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) إهانة لهم، وزيادة في غيظهم.
وفي هذا دلالة على أنّ المراد بالفاسق هنا الكافر. قال ابن أبي ليلى: نزل قوله:( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً ) الآيات، في عليّ بن أبي طالب ورجل من قريش.
وقال غيره(٥) : نزلت في عليّ بن أبي طالب، والوليد بن عقبة. فالمؤمن: عليّ، والفاسق: الوليد. وذلك أنّه شجر بين عليّ بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط يوم بدر كلام، فقال له الوليد: اسكت! فإنّك صبيّ، وأنا أشبّ منك شبابا ،
__________________
(١) النجم: ١٣ ـ ١٥.
(٢) راجع ج ١ ص ٦٢٥، ذيل الآية ١٩٨ من سورة آل عمران.
(٣) الانشقاق: ٢٤.
(٤) راجع ج ٤ ص ٣٨٠، ذيل الآية ٢٢ من سورة الحجّ.
(٥) راجع الكشّاف ٣: ٥١٤.
وأجلد منك جلدا، وأذرب منك لسانا، وأحدّ منك سنانا، وأشجع منك جنانا، وأملأ منك حشوا في الكتيبة، أي: أبدن. فقال له عليّعليهالسلام : اسكت! فإنّك فاسق. فنزلت عامّة للمؤمنين والفاسقين، فتناولتهما وكلّ من كان في مثل حالهما.
وعن الحسن بن عليّعليهالسلام : قال للوليد: كيف تشتم عليّا، وقد سمّاه الله مؤمنا في عشر آيات، وسمّاك فاسقا؟
قال قتادة: لا والله ما استووا، لا في الدنيا، ولا عند الموت، ولا في الآخرة.
( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى ) عذاب الدنيا، من أنواع المصائب والمحن في الأنفس والأموال. وعن ابن مسعود: هو القتل يوم بدر بالسيف. وعن مقاتل: هو ما ابتلوا به من الجوع سبع سنين بمكّة، حتّى أكلوا الجيف والكلاب: وعن عكرمة: هو الحدود. وعن مجاهد: عذاب القبر. وهو مرويّ عن أبي عبد اللهعليهالسلام .
( دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ ) عذاب الآخرة. والمعنى: نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى عذاب الآخرة.( لَعَلَّهُمْ ) لعلّ من بقي منهم( يَرْجِعُونَ ) يتوبون عن الكفر.
( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ) أي: لا أحد أظلم لنفسه ممّن نبّه على حجج الله الموصلة إلى معرفته( ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها ) فلم يتفكّر فيها. و «ثمّ» لاستبعاد الإعراض عنها. والمعنى: أنّ الإعراض عن مثل آيات الله، في فرط وضوحها وإنارتها، وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها، مستبعد جدّا في العقل والعدل، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة ثمّ لم تنتهزها، استبعادا لتركه الانتهاز.
( إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ) فكيف ممّن كان أظلم من كلّ ظالم؟! وتحرير المعنى: أنّه لـمّا جعل المعرض عن الآيات الواضحة مع علمه بها أظلم الناس، ثمّ توعّد المجرمين عامّة بالانتقام منهم، فقد دلّ على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام. فلإفادة هذا المعنى لم يقل: إنّا منه منتقمون، لأنّه لم يفد هذا المعنى.
( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) )
ولـمّا أعرضوا عن آيات القرآن مع ظهور إعجازه، ووضوح صدقه، سلّى نبيّهصلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله :
( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) كما آتيناك الكتاب، ولقّيناه مثل ما لقّيناك من الوحي، فأعرضوا عن أحكام كتابه، كما أعرضوا عن أحكام كتابك( فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ ) في شكّ( مِنْ لِقائِهِ ) من لقائك الكتاب، أي: من أنّك لقيت مثله، ولا تلتفت إلى إعراض المعاندين. ونظيره قوله:( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ) (١) . وقوله:( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) (٢) . فإرجاع الضمير إلى الكتاب باعتبار الجنسيّة.
وملخّص المعنى: إنّا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه، فليس ذلك ببدع حتّى ترتاب فيه، أو من لقائك موسى.
وعنهصلىاللهعليهوآلهوسلم : «رأيت ليلة أسري بي موسىعليهالسلام ، رجلا آدم طوالا جعدا(٣) ، كأنّه
__________________
(١) يونس: ٩٤.
(٢) النمل: ٦.
(٣) الجعد من الشعر: خلاف المسترسل. والسبط ضدّ الجعد، وهو المسترسل منه. وشنوءة قبيلة من اليمن. والمربوع: المتوسّط القامة.
من رجال شنوءة. ورأيت عيسى بن مريم، رجلا مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس».
فعلى هذا فقد وعدصلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه سيلقى موسىعليهالسلام قبل أن يموت.
( وَجَعَلْناهُ ) أي: الكتاب المنزل على موسى( هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ ) الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام( بِأَمْرِنا ) إيّاهم به، أو بتوفيقنا له( لَمَّا صَبَرُوا ) على نصرة الدين وثبتوا عليه. وقرأ حمزة والكسائي ورويس: لـما صبروا، أي: لصبرهم على الطاعة، أو عن الدنيا.( وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) لإمعانهم فيها النظر. وكذلك لنجعلنّ الكتاب المنزل إليك هدى ونورا، ولنجعلنّ من أمّتك أئمّة يهدون مثل تلك الهداية.
( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ) يقضي بينهم، فيميّز الحقّ من الباطل، بتمييز المحقّ من المبطل( يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) من أمر الدين.
( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) )
( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ) الواو للعطف على معطوف عليه منويّ من جنس المعطوف.
والضمير لأهل مكّة. والفاعل ضمير ما دلّ عليه( كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ ) لأنّ «كم» لا تقع فاعلة، فلا يقال: جاءني كم رجل. تقديره: أو لم يهد لهم كثرة من أهلكناهم من القرون الماضية. أو ضمير الله، بدليل القراءة بالنون.
( يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ) يعني: أهل مكّة يمرّون في متاجرهم على ديار
القرون السالفة، كعاد وثمود وقوم لوط، ويرون آثارهم( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ) لدلالات واضحات على الحقّ( أَفَلا يَسْمَعُونَ ) سماع تدبّر واتّعاظ.
( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ ) بالمطر والثلج. وقيل: بالأنهار والعيون.( إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ ) الّتي جرز نباتها، أي: قطع وأزيل، إمّا لعدم الماء، وإمّا لأنّه رعي وأزيل. ولا يقال للّتي لا تنبت أصلا كالسباخ: جرز. ويدلّ عليه قوله:( فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً ) وعن ابن عبّاس: نسوق الماء بالسيول إليها، لأنّها مواضع عالية. وهي قرى بين اليمن والشام.( تَأْكُلُ مِنْهُ ) من الزرع( أَنْعامُهُمْ ) كالتبن والورق( وَأَنْفُسُهُمْ ) كالحبّ والثمر( أَفَلا يُبْصِرُونَ ) فيستدلّون به على كمال قدرته وفضله.
( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠) )
روي: أنّ المسلمين كانوا يقولون: إنّ الله سيفتح لنا على المشركين. فقالوا على وجه الإنكار والاستبعاد: متى هذا الفتح؟ فنزلت :
( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ ) أي: في أيّ وقت يكون النصر؟ أو الفصل بالحكومة، من قوله:( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا ) (١) .( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) في أنّه كائن.
( قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) لا يؤخّر العذاب عنهم يومئذ. وهو يوم القيامة، فإنّه يوم نصر المسلمين، والفصل بينهم وبين أعدائهم. ولـمّا كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح، استعجالا منهم على وجه
__________________
(١) الأعراف: ٨٩.
التكذيب والاستهزاء، فأجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم، فقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا، فكأنّي بكم قد حضرتم في ذلك اليوم، وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا.
وقيل: المراد يوم بدر. وعن مجاهد والحسن: يوم فتح مكّة. فالمراد بالّذين كفروا المقتولون منهم، فإنّه لا ينفعهم إيمانهم، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق. فعلى هذا المعنى ينطبق هذا الكلام جوابا على سؤالهم عن وقت الفتح. فلا يقال: من فسّره بيوم بدر أو فتح مكّة، كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان، وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكّة، وناسا يوم بدر.
( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) يا محمد، فإنّه لا ينجع فيهم الدعاء والوعظ، ولا تبال بتكذيبهم. وقيل: هو منسوخ بآية السيف(١) .( وَانْتَظِرْ ) النصرة عليهم( إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ) الغلبة عليك وهلاككم، كقوله:( فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ) (٢) .
__________________
(١) التوبة: ٥ و ٢٩.
(٢) التوبة: ٥٢.
(٣٣)
سورة الأحزاب
مدنيّة وهي ثلاث وسبعون آية. أبيّ بن كعب عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: «من قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله، وما ملكت يمينه، أعطي الأمان من عذاب القبر».
وروى عبد الله بن سنان عن أبي عبد اللهعليهالسلام قال: «من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب، كان يوم القيامة في جوار محمّد وآله وأزواجه».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) )
واعلم أنّ الله سبحانه لـمّا أمر رسوله في مختتم سورة حم السجدة بانتظار أمره، بيّن في مفتتح هذه السورة أن يكون في انتظاره متّقيا، ونهاه عن طاعة الكفّار، فقال :
( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ) ناداه بالنبيّ، وترك نداءه باسمه، كما قال: يا آدم يا موسى يا عيسى يا داود، وأمره بالتقوى، تعظيما له ،
وتنويها بفضله، وتشريفا بمحلّه، وتفخيما لشأن التقوى.
والمراد به الأمر بالثبات عليه، ليكون مانعا له عمّا نهى عنه بقوله:( وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ ) كأنّه قال: واظب على ما أنت عليه من التقوى، واثبت عليه.
ولا تطع الّذين يظهرون الكفر ويبطنونه، والّذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، فيما يعود بوهن في الدين. ولا تساعدهم على شيء، ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة، وجانبهم، فإنّهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، فلا يريدون إلّا المضارّة والمضادّة.
وروي: أنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وآله لـمّا هاجر إلى المدينة، وكان يحبّ إسلام اليهود ؛ قريظة والنضير وبني قينقاع، وقد بايعه ناس منهم على النفاق، فكان يلين لهم جانبه، ويكرم صغيرهم وكبيرهم، وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه، وكان يسمع منهم، فنهاه الله سبحانه عن ذلك بإنزال هذه السورة.
وقيل: إنّ أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي، قدموا عليه في الموادعة الّتي كانت بينه وبينهم، وقام معهم عبد الله بن أبيّ ومعتب بن قشير والجدّ بن قيس. فقالوا لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : ارفض ذكر آلهتنا، وقل: إنّها تشفع وتنفع، ندعك وربّك. فشقّ ذلك على رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وعلى المؤمنين، وهمّوا بقتلهم، فنزلت. أي: اتّق الله في نقض العهد ونبذ الموادعة، ولا تطع الكافرين من أهل مكّة، والمنافقين من أهل المدينة، فيما طلبوا إليك.
وروي أيضا: أنّ أهل مكّة دعوا رسول الله إلى أن يرجع عن دينه، ويعطوه شطر أموالهم، وأن يزوّجه شيبة بن ربيعة بنته، وخوّفه منافقوا المدينة أنّهم يقتلونه إن لم يرجع، فنزلت.
( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً ) بالصواب من الخطأ، والمصلحة من المفسدة( حَكِيماً ) لا يفعل شيئا ولا يحكم به إلّا بما تقتضيه الحكمة.
ولـمّا نهاه عن متابعة الكفّار وأهل النفاق، أمره باتّباع أوامره ونواهيه على
الإطلاق، فقال :
( وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك( إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) فموح إليك ما تصلح به أعمالك، فلا حاجة إلى الاستماع إلى الكفرة.
وقرأ أبو عمرو بالياء، على أنّ الواو ضمير الكفرة والمنافقين، أي: إنّ الله خبير بمكايدهم، فيدفعها عنك.
( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) وكل أمرك إلى تدبيره( وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ) موكولا إليه الأمور كلّها.
( ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) )
روي: أنّ العرب كانوا يزعمون أنّ اللبيب الأريب له قلبان. ولذلك قيل لأبي معمر: ذو القلبين، لأنّه رجل من أحفظ العرب وأرواهم. وقيل لجميل بن أسد الفهري: ذو القلبين. وكان يقول: إنّ لي قلبين، أفهم بأحدهما أكثر ما يفهم محمّد.
وأنّ(١) الزوجة المظاهر عنها كالامّ، ودعيّ الرجل ابنه. ولذلك كانوا يقولون لزيد بن
__________________
(١) عطف على قوله: «أنّ اللبيب ...» في صدر العبارة.
حارثة بن شراحيل الكلبي، من بني عبدودّ، عتيق رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : ابن محمّد. فردّ الله عليهم بقوله :
( ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) أي: ما جمع قلبين في جوف، لأنّ القلب معدن الروح الحيواني المتعلّق بالنفس الإنساني أوّلا، ومنبع القوى بأسرها ثانيا، وهو يمنع التعدّد. ولأنّ صاحب القلبين لا يخلو: إمّا أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها. وإمّا أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، فذلك يؤدّي إلى اتّصاف الجملة بكونه مريدا كارها، عالما ظانّا، موقنا شاكّا، في حالة واحدة، وهو محال.
وروي: أنّ جميل بن أسد انهزم يوم بدر، فمرّ بأبي سفيان وهو معلّق إحدى نعليه بيده والاخرى في رجله، فقال له: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول وهارب. فقال له: ما بال إحدى نعليك في رجلك والاخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلّا أنّهما في رجليّ. فأكذب الله قوله وقولهم.
وعن ابن عبّاس: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان. ينسبونه إلى الدهاء، فأكذبهم الله.
وعن الحسن: نزلت في رجل كان يقول: لي نفس تأمرني، ونفس تنهاني.
وقيل: هو ردّ على المنافقين. والمعنى: ليس لأحد قلبان، يؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر، وإنّما هو قلب واحد، فإمّا أن يؤمن، وإمّا أن يكفر.
وقيل: هذه الآية متّصلة بما قبلها. والمعنى: أنّه لا يمكن الجمع بين اتّباعين متضادّين: اتّباع الوحي والقرآن، واتّباع أهل الكفر والطغيان. فكنّى عن ذلك بذكر القلبين، لأنّ الاتّباع يصدر عن الاعتقاد، والاعتقاد من أفعال القلوب، فكما لا يجتمع قلبان في جوف واحد، لا يجتمع اعتقادان متضادّان في قلب واحد.
وقال أبو عبد اللهعليهالسلام : «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، يحبّ بهذا
قوما، ويحبّ بهذا أعداءهم».
والتنكير في رجل، وإدخال «من» الاستغراقيّة على «قلبين» تأكيدان لـما قصد من المعنى. كأنّه قال: ما جعل الله لأمّة الرجال، ولا لواحد منهم، قلبين البتّة في جوفه.
وفائدة ذكر الجوف كالفائدة في قوله:( الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (١) . وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر والتجلّي للمدلول عليه، لأنّه إذا سمع به صوّر لنفسه جوفا يشتمل على قلبين، فكان أسرع إلى الإنكار.
( وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ ) وما جعل الزوجيّة والامومة في امرأة.
وقرأ أبو عمرو: اللّاي بالياء وحدها ساكنة، على أنّ أصله: اللّاء بهمزة فخفّفت. وعن الحجازيّين مثله. وعنهما ويعقوب بالهمزة وحدها.
وأصل «تظّهّرون»: تتظهّرون، فأدغمت التاء الثانية في الظاء. وقرأ ابن عامر: تظّاهرون بالإدغام. وحمزة والكسائي بالحذف. وعاصم: تظاهرون، من: ظاهر.
ومعنى الظهار: أن يقول الرجل للزوجة: أنت عليّ كظهر أمّي. مأخوذ من الظهر باعتبار اللفظ، كالتلبية من: لبّيك. وتعديته بـ «من» لتضمّنه معنى التجنّب، لأنّه كان طلاقا في الجاهليّة. وهو في أوّل الإسلام يقتضي الطلاق، أو الحرمة إلى أداء الكفّارة.
وإنّما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر، لأنّه عمود البطن، فذكره يقارب ذكر الفرج. أو للتغليظ في التحريم، فإنّهم كانوا يحرّمون إتيان المرأة وظهرها إلى السماء. وسنذكر إن شاء الله تحقيق الظهار في سورة المجادلة.
__________________
(١) الحجّ: ٤٦.
( وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ) وما جعل الدعوة والبنوّة في رجل. والأدعياء جمع دعيّ، فعيل بمعنى مفعول. وهو الّذي تبنّاه الإنسان. وجمع على أفعلاء شذوذا، لأنّ قياس باب أفعلاء لا يكون إلّا ما كان منه بمعنى فاعل، كتقيّ وأتقياء، وشقيّ وأشقياء، فشبّه بفعيل بمعنى فاعل.
وتحرير المعنى: أنّ الله سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين، لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجا له، لأنّ الامّ مخدومة مخفوض لها جناح الذلّ، والزوجة مستخدمة متصرّف فيها بالاستفراش وغيره، كالمملوكة، وهما حالتان متنافيتان. وأن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل وابنا له، لأنّ البنوّة أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل.
وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة، سبي صغيرا، وكانت العرب في جاهليّتها يتغاورون ويتسابون، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة، فلمّا تزوّجها رسول الله وهبته له. ولـمّا نبّئ صلوات الله عليه وآله دعاه إلى الإسلام فأسلم. فقدم أبوه حارثة مكّة، وأتى أبا طالب، وقال: سل ابن أخيك، فإمّا أن يبيعه، وإمّا أن يعتقه. فلمّا قال ذلك أبو طالب لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم قال: هو حرّ فليذهب حيث شاء.
فأبى زيد أن يفارق رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم .
فقال حارثة: يا معشر قريش! اشهدوا أنّه ليس ابني. فقال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : اشهدوا أنّه ابني. يعني: زيدا. فكان يدعى زيد بن محمّد. فلمّا تزوّج النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة، قال اليهود والمنافقون: تزوّج محمّد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها. فقال الله تعالى:( ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ) .
( ذلِكُمْ ) إشارة إلى كلّ ما ذكر، أو إلى الأخير.( قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ) لا حقيقة له في الأعيان( وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ ) ما له حقيقة عينيّة مطابقة له( وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) سبيل الحقّ. وهو قوله:( ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ) انسبوهم إليهم. فهذا إفراد للمقصود من أقواله الحقّة. وقوله:( هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ ) تعليل له. والضمير لمصدر «ادعوا». وأقسط أفعل التفضيل، قصد به الزيادة مطلقا. من القسط بمعنى العدل. ومعناه: البالغ في الصدق.
روى سالم عن ابن عمر، قال: ما كنّا ندعو زيد بن حارثة إلّا زيد بن محمّد، حتّى نزل القرآن:( ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ ) .
( فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ ) فتنسبوهم إليهم( فَإِخْوانُكُمْ ) فهم إخوانكم( فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ ) وأولياؤكم فيه. فقولوا: هذا أخي ومولاي، ويا أخي، ويا مولاي. يعني: الاخوّة في الدين، والولاية فيه.
( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) أي: ولا إثم عليكم( فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ) فيما فعلتموه من ذلك مخطئين، قبل النهي أو بعده، على النسيان، أو سبق اللسان. أو ظننتم أنّه أبوه، ولم تعلموا أنّه ليس بابن له، فلا يؤاخذكم الله به.
( وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ) في محلّ الجرّ عطفا على( فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ) أي: ولكنّ الجناح فيما تعمّدت قلوبكم وقصدتموه، من دعائهم إلى غير آبائهم. أو مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف، تقديره: ولكن ما تعمّدت قلوبكم فيه الجناح والمؤاخذة.
( وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) لعفوه عن الخاطئ، وعن العمد إذا تاب العامد.
وفي هذه الآية دلالة على أنّه لا يجوز الانتساب إلى غير الأب. وقد وردت السنّة بتغليظ الأمر فيه.
قالصلىاللهعليهوآلهوسلم : «من انتسب إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله».
( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) )
روي: أنّهصلىاللهعليهوآلهوسلم أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج، فقال ناس: نستأذن آباءنا وأمّهاتنا، فنزلت :
( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) في كلّ شيء من امور الدين والدنيا.
ولهذا أطلق ولم يقيّد، فإنّه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلّا بما فيه صلاحهم ونجاحهم، بخلاف النفس. فيجب عليهم أن يكون أحبّ إليهم من أنفسهم، وأمره أنفذ عليهم من أمرها، وشفقتهم عليه أتمّ من شفقتهم عليها.
وعن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤا إن شئتم: النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم».
وعن مجاهد: كلّ نبيّ أب لأمّته، ولذلك صار المؤمنون إخوة، لأنّ النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم أبوهم في الدين.
( وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ) منزّلات منزلتهنّ، في وجوب تعظيمهنّ واحترامهنّ، وتحريم نكاحهنّ. قال الله تعالى:( وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ) (١) . وفيما عدا ذلك فكالأجنبيّات.
قال الكلبي: آخى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بين الناس، فكان يؤاخي بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الثاني منهما دون أهله، فمكثوا بذلك ما شاء الله حتّى نسخ
__________________
(١) الأحزاب: ٥٣.
ذلك بقوله:( وَأُولُوا الْأَرْحامِ ) وذوو القرابات( بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) في التوارث( فِي كِتابِ اللهِ ) في اللوح. أو فيما أوحى الله إلى نبيّه. وهو هذه الآية، أو آية(١) المواريث. أو فيما فرض الله.
( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ) بيان لأولي الأرحام، أي: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب. أو لابتداء الغاية، أي: وأولوا الأرحام بحقّ القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحقّ الدين، ومن المهاجرين بحقّ الهجرة.
فهذا نسخ لـما كان في صدر الإسلام من التواريث بالهجرة، والموالاة في الدين، لا بالقرابات.
( إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ) استثناء من أعمّ ما يقدّر الأولويّة فيه من أنواع النفع، أي: القريب أولى من الأجنبيّ في كلّ نفع، من ميراث وهبة وهديّة وصدقة وغير ذلك، إلّا في الوصيّة. أو منقطع، أي: لكن إن فعلتم إلى أوليائكم المؤمنين وخلفائكم، ما يعرف حسنه وصوابه، فهو حسن. قال السدّي: عنى بذلك وصيّة الرجل لإخوانه في الدين.
( كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ) مكتوبا. والمراد بالكتاب اللوح، أو القرآن.
وقيل: في التوراة. والجملة مستأنفة كالخاتمة لـما ذكر من الأحكام.
واعلم أنّ الآية متّصلة بقوله:( وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ») فإنّه سبحانه لـمّا بيّن أنّ التبنّي على النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم لا يجوز، عقّبه أنّه مع ذلك أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من حيث إنّه ولّاه الله أمرهم، فيلزمهم طاعته والانقياد له. وأصل الولاية لله تعالى، فلا حظّ فيها لأحد إلّا لمن ولّاه سبحانه. وإلى هذا المعنى أشار النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الغدير، في قوله: «ألست أولى بكم من أنفسكم؟» فلمّا قالوا: بلى، قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه».
__________________
(١) النساء: ١١ ـ ١٢ و ١٧٦.
( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) )
ثمّ عاد سبحانه في تأكيد نبوّة نبيّنا، بذكر أخذ الميثاق منه كما أخذ من النبيّين، فقال :
( وَإِذْ أَخَذْنا ) مقدّر بـ: اذكر، أي: اذكر حين أخذنا( مِنَ النَّبِيِّينَ ) جميعا( مِيثاقَهُمْ ) عهودهم، بتبليغ الرسالة، والدعاء إلى الدين القويم( وَمِنْكَ ) خصوصا( وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) خصّهم بالذكر، لأنّهم مشاهير أرباب الشرائع. وقدّم نبيّناصلىاللهعليهوآلهوسلم تعظيما له. وقدّم عليه نوح في قوله تعالى:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) (١) لأنّ مورد هذه الآية على طريقة خلاف تلك، وذلك أنّ الله تعالى إنّما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة. فكأنّه قال: شرع لكم الدين الأصيل الّذي بعث عليه نوح في العهد القديم، وبعث عليه محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم خاتم النبيّين في العهد الحديث، وبعث عليه من توسّط بينهما من الأنبياء المشاهير.
( وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) عظيم الشأن، فإنّ الغلظ استعارة من وصف الأجرام. والمراد عظم الميثاق، وجلالة شأنه في بابه. وقيل: الميثاق الغليظ اليمين بالله على الوفاء بما حملوا. وتكرير الميثاق لبيان هذا الوصف.
وإنّما فعلنا ذلك( لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ) عمّا قالوه لقومهم.
__________________
(١) الشورى: ١٣.